دارة السادة الأشراف

مرحبا بك عزيزي الزائر
ندعوك أن تدخل المنتدى معنا
وإن لم يكن لديك حساب بعد
نتشرف بدعوتك لإنشائه
ونتشرف بدعوتك لزيارة الموقع الرسمي لدارة السادة الأشراف على الرابط :
www.dartalashraf.com


انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

دارة السادة الأشراف

مرحبا بك عزيزي الزائر
ندعوك أن تدخل المنتدى معنا
وإن لم يكن لديك حساب بعد
نتشرف بدعوتك لإنشائه
ونتشرف بدعوتك لزيارة الموقع الرسمي لدارة السادة الأشراف على الرابط :
www.dartalashraf.com

دارة السادة الأشراف

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

أنساب , مشجرات , مخطوطات , وثائق , صور , تاريخ , تراجم , تعارف , دراسات وأبحاث , مواضيع متنوعة

Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 79880579.th
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 78778160
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 16476868
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 23846992
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 83744915
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 58918085
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 99905655
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 16590839.th
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Resizedk
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 20438121565191555713566

2 مشترك

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الثلاثاء 16 يونيو - 16:35

    تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :

    بسم الله الرحمن الرحيم



    انا النهردة جايبلكم موضوع روعة
    اجمل موضوع تقروه فى حياتكم علشان طبعا مافيش احسن من القرأن الكريم


    انا جايبة تفسير القرأن الكريم لابن كثير بس تفسير السور عامة مش تفسير الايات وموضوع هيفدنا كلنا وكمان هو موضوع مختصر اوىى بالنسبة لكتاب التفسير نفسه يارب يعجبكم وربنا يعلم انا تعبت فى التوبيك ده اد ايه انا كنت متوقعة انه ينزل على 100 مرة بس لقت الموضوع بقى اكتر من كدة بكتير بس الحمد لله اهو الموضوع خلص ويارب يفدكم جميعا ان شاء الله



    اى حد عايز تفسير اى سورة يدخل على التوبيك وهيلاقى ترتبها زى القرأن بالظبط



    سورة الفاتحة
    ** بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
    يقال لها الفاتحة أي فاتحة الكتاب خطاً وبها تفتتح القراءة في الصلوات, ويقال لها أيضاً أم الكتاب عند الجمهور, ذكره أنس, والحسن وابن سيرين كرها تسميتها بذلك, قال الحسن وابن سيرين إنما ذلك اللوح المحفوظ, وقال الحسن الاَيات المحكمات هن أم الكتاب ولذا كرها أيضاً أن يقال لها أم القرآن وقد ثبت في الصحيح عند الترمذي وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحمد لله رب العالمين أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني والقرآن العظيم» ويقال لها (الحمد) ويقال لها (الصلاة) لقوله صلى الله عليه وسلم عن ربه «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله: حمدني عبدي» الحديث. فسميت الفاتحة صلاة لأنها شرط فيها ويقال لها (الشفاء) لما رواه الدارمي عن أبي سعيد مرفوعاً «فاتحة الكتاب شفاء من كل سم» ويقال لها (الرقية) لحديث أبي سعيد في الصحيح حين رقى بها الرجل السليم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «وما يدريك أنها رقية» ؟ وروى الشعبي عن ابن عباس أن سماها (أساس القرآن) قال: وأساسها بسم الله الرحمن الرحيم وسماها سفيان بن عيينه (بالواقية) وسماها يحيى بن أبي كثير (الكافية) لأنها تكفي عما عداها ولا يكفي ما سواها عنها كما جاء في بعض الأحاديث المرسلة «أم القرآن عوض من غيرها وليس من غيرها عوض منها» ويقال لها سورة الصلاة والكنز, ذكرهما الزمخشري في كشافه.
    وهي مكية قاله ابن عباس وقتادة وأبو العالية, وقيل مدنية قاله أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري ويقال نزلت مرتين: مرة بمكة ومرة بالمدينة, والأول أشبه لقوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني} والله تعالى أعلم. وحكى أبو الليث السمرقندي أن نصفها نزل بمكة ونصفها الاَخر نزل بالمدينة وهو غريب جداً, نقله القرطبي عنه وهي سبع آيات بلا خلاف, وقال عمرو بن عبيد ثمان, وقال حسين الجعفي ستة, وهذان القولان ***ان وإنما اختلفوا في البسملة هل هي آية مستقلة من أولها كما هو عند جمهور قراء الكوفة وقول جماعة من الصحابة والتابعين وخلق من الخلف أو بعض آية أو لا تعد من أولها بالكلية كما هو قول أهل المدينة من القراء والفقهاء على ثلاثة أقوال كما سيأتي تقريرها في موضعه إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
    قالوا وكلماتها خمس وعشرون كلمة وحروفها مائة وثلاثة عشر حرفاً. قال البخاري في أول كتاب التفسير وسميت أم الكتاب لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف ويبدأ بقراءتها في الصلاة, وقيل: إنما سميت بذلك لرجوع معاني القرآن كله إلى ما تضمنته. قال ابن جرير: والعرب تسمي كل جامع أمرأو مقدم لأمر إذا كانت له توابع تتبعه هو لها إمام جامع: أمّاً, فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ أم الرأس ويسمون لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها أمّاً, واستشهد بقول ذي الرمة.
    على رأسه أم لنا نقتدي بهاجماع أمور ليس نعصي لها أمراً
    ـ يعني الرمح ـ قال وسميت مكة أم القرى لتقدمها أمام جميعها وجمعها ما سواها وقيل لأن الأرض دحيت منها. ويقال لها أيضاً: الفاتحة لأنها تفتتح بها القراءة وافتتحت الصحابة بها كتابة المصحف الإمام وصح تسميتها بالسبع المثاني قالوا لأنها تثنى في الصلاة فتقرأ في كل ركعة وإن كان للمثاني معنى آخر كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
    قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا ابن أبي ذئب وهاشم بن هاشم عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أم القرآن: «هي أم القرآن وهي السبع المثاني وهي القرآن العظيم» ثم رواه عن إسماعيل بن عمر عن ابن أبي ذئب به وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: حدثني يونس بن عبد الأعلى أنبأنا ابن وهب أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب وهي السبع المثاني» وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في تفسيره حدثنا أحمد بن محمد بن زياد حدثنا محمد بن غالب بن حارث, حدثنا إسحاق بن عبد الواحد الموصلي, حدثنا المعافى بن عمران عن عبد الحميد بن جعفر عن نوح بن أبي بلال عن المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحمد لله رب العالمين سبع آيات: بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن, وهي السبع المثاني والقرآن العظيم, وهي أم الكتاب, وفاتحة الكتاب» وقد رواه الدارقطني أيضاً عن أبي هريرة أنهم فسروا قوله تعالى {سبعاً من المثاني} بالفاتحة وأن البسملة هي الاَية السابعة منها وسيأتي تمام هذا عند البسملة. وقد روى الأعمش عن إبراهيم قال: قيل لابن مسعود: لمَ لم تكتب الفاتحة في مصحفك ؟ فقال: لو كتبتها لكتبتها في أول كل سورة, قال أبو بكر بن أبي داود يعني حيث يقرأ في الصلاة, قال: واكتفيت بحفظ المسلمين لها عن كتابتها وقد قيل: إن الفاتحة أول شيء أنزل من القرآن كما ورد في حديث رواه البيهقي في دلائل النبوة ونقله الباقلاني أحد أقوال ثلاثة وقيل: {ياأيها المدثر} كما في حديث جابر في الصحيح وقيل: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} وهذ هو الصحيح كما سيأتي تقريره في موضعه والله المستعان.
    ذكر ما ورد في فضل الفاتحة
    قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة حدثني خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال: كنت أصلي فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه حتى صليت, قال: فأتيته فقال: «مامنعك أن تأتيني» ؟ قال قلت: يا رسول الله إني كنت أصلي قال: ألم يقل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} ثم قال: «لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قيل أن تخرج من المسجد» قال: فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول الله إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قال: «نعم {الحمد لله رب العالمين} هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» وهكذا رواه البخاري عن مسدد وعلي بن المديني, كلاهما عن يحيى بن سعيد القطان به, ورواه في موضع آخر من التفسير, وأبو داوود والنسائي وابن ماجه من طرق عن شعبة به, ورواه الواقدي عن محمد بن معاذ الأنصاري عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى عن أبي بن كعب فذكر نحوه. وقد وقع في الموطأ للإمام مالك بن أنس رحمه الله ما ينبغي التنبيه عليه فإنه رواه مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي أن أبا سعيد مولى ابن عامر بن كريز أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب وهو يصلي في المسجد فلما فرغ من صلاته لحقه قال فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على يدي وهو يريد أن يخرج من باب المسجد ثم قال صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن لا تخرج من باب المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها» قال أبي رضي الله عنه, فجعلت أبطى في المشي رجاء ذلك ثم قلت: يا رسول الله ما السورة التي وعدتني ؟ قال: «كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة ؟ قال فقرأت عليه {الحمد لله رب العالمين} حتى أتيت على آخرها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هي هذه السورة وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيت» فأبو سعيد هذا ليس بأبي سعيد بن المعلى كما اعتقده ابن الأثير في جامع الأصول ومن تبعه فإن ابن المعلى صحابي أنصاري وهذا تابعي من موالي خزاعة وذاك الحديث متصل صحيح, وهذا ظاهره منقطع إن لم يكن سمعه أبو سعيد هذا من أبي بن كعب فإن كان قد سمعه منه فهو على شرط مسلم والله أعلم. على أنه قد روي عن أبي بن كعب من غير وجه


    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الثلاثاء 16 يونيو - 21:32

    ** وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرّيّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىَ وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيّا وَيَحْيَىَ وَعِيسَىَ وَإِلْيَاسَ كُلّ مّنَ الصّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاّ فَضّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرّيّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنّبُوّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـَؤُلآءِ فَقَدْ وَكّلْنَا بِهَا قَوْماً لّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرَىَ لِلْعَالَمِينَ
    يذكر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحاق بعد أن طعن في السن, وأيس هو وامرأته سارة من الولد, فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط, فبشروهما بإسحاق فتعجبت المرأة من ذلك, وقالت {يا ويلتىَ أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب * قالوا أتعجبين من أمر الله ؟ رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد} فبشروهما مع وجوده بنبوته, وبأن له نسلاً وعقباً, كما قال تعالى: {وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين} وهذا أكمل في البشارة وأعظم في النعمة, وقال {فبشرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} أي ويولد لهذا المولود ولد في حياتكما, فتقر أعينكما به, كما قرت بوالده, فإن الفرح بولد الولد شديد لبقاء النسل والعقب, ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا يعقب لضعفه, وقعت البشارة به وبولده باسم يعقوب الذي فيه اشتقاق العقب والذرية, وكان هذا مجازاة لإبراهيم عليه السلام, حين اعتزل قومه وتركهم ونزح عنهم, وهاجر من بلادهم ذاهباً إلى عبادة الله في الأرض, فعوضه الله عز وجل عن قومه وعشيرته, بأولاد صالحين من صلبه على دينه, لتقر بهم عينه, كما قال تعالى: {فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبياً} وقال ههنا {ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا} وقوله {ونوحاً هدينا من قبل} أي من قبله هديناه كما هديناه, ووهبنا له ذرية صالحة, وكل منهما له خصوصية عظيمة, أما نوح عليه السلام, فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض إلا من آمن به, وهم الذين صحبوه في السفينة, جعل الله ذريته هم الباقين, فالناس كلهم من ذريته, وأما الخليل إبراهيم عليه السلام, فلم يبعث الله عز وجل بعده نبياً, إلا من ذريته, كما قال تعالى: {وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب} الاَية, وقال تعالى, {ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب} وقال تعالى: {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً} وقوله في هذه الاَية الكريمة {ومن ذريته} أي وهدينا من ذريته {داود وسليمان} الاَية, وعود الضمير إلى نوح, لأنه أقرب المذكورين ظاهر لا إشكال فيه, وهو اختيار ابن جرير. وعوده إلى إبراهيم, لأنه الذي سيق الكلام من أجله حسن, لكن يشكل عليه لوط, فإنه ليس من ذرية إبراهيم, بل هو ابن أخيه ماران بن آزر, اللهم إلا أن يقال إنه دخل في الذرية تغليباً, وكما قال في قوله {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي ؟ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون} فإسماعيل عمه دخل في آبائه تغليباً, وكما قال في قوله {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس} فدخل إبليس في أمر الملائكة بالسجود, وذم على المخالفة لأنه كان في تشبه بهم, فعومل معاملتهم ودخل معهم تغليباً, وإلا فهو كان من الجن وطبيعته من النار, والملائكة من النور, وفي ذكر عيسى عليه السلام في ذرية إبراهيم أو نوح, على القول الاَخر, دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل, لأن عيسى عليه السلام إنما ينسب إلى إبراهيم عليه السلام, بأمه عليها السلام, فإنه لا أب له. قال ابن أبي حاتم: حدثنا سهل بن يحيى العسكري, حدثنا عبد الرحمن بن صالح, حدثنا علي بن عابس, عن عبد الله بن عطاء المكي, عن أبي حرب بن أبي الأسود, قال: أرسل الحجاج إلى يحيى بن يعمر, فقال: بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم, تجده في كتاب الله ـ وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده ؟ قال أليس تقرأ سورة الأنعام {ومن ذريته داود وسليمان} حتى بلغ {ويحيى وعيسى} قال بلى. قال أليس عيسى من ذرية إبراهيم وليس له أب ؟ قال صدقت. فلهذا إذا أوصى الرجل لذريته, أو وقف على ذريته, أو وهبهم, دخل أولاد البنات فيهم, فأما إذا أعطى الرجل بنيه, دخل أولاد البنات فيهم, فأما إذا أعطى الرجل بنيه, أو وقف عليهم, فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه وبنو بنيه, واحتجوا بقول الشاعر العربي:
    بنونا بنو أبنائنا وبناتنابنوهن أبناء الرجال الأجانب
    ** وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللّهُ عَلَىَ بَشَرٍ مّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىَ نُوراً وَهُدًى لّلنّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلّمْتُمْ مّا لَمْ تَعْلَمُوَاْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ * وَهَـَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مّصَدّقُ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمّ الْقُرَىَ وَمَنْ حَوْلَهَا وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَىَ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ
    يقول الله تعالى وما عظموا الله حق تعظيمه, إذ كذبوا رسله إليهم, قال ابن عباس ومجاهد وعبد الله بن كثير: نزلت في قريش, واختاره ابن جرير, وقيل نزلت في طائفة من اليهود, وقيل في فنحاص رجل منهم, وقيل في مالك بن الصيف {قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} والأول أصح, لأن الاَية مكية, واليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء, وقريش والعرب قاطبة كانوا ينكرون إرسال محمد صلى الله عليه وسلم لأنه من البشر, كما قال {أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس} وكقوله تعالى: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً} وقال ههنا {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} قال الله تعالى: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس} أي قل يا محمد لهؤلاء المنكرين لإنزال شيء من الكتب من عند الله, في جواب سلبهم العام, بإثبات قضية جزئية موجبة, {من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى} وهو التوراة التي قد علمتم, وكل أحد أن الله قد أنزلها على موسى بن عمران, نوراً وهدى للناس, أي ليستضاء بها في كشف المشكلات, ويهتدى بها من ظلم الشبهات, وقوله {تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً} أي تجعلون جملتها قراطيس, أي قطعاً تكتبونها من الكتاب الأصلي, الذي بأيديكم, وتحرفون منها ما تحرفون, وتبدلون وتتأولون, وتقولون هذا من عند الله, أي في كتابه المنزل, وما هو من عند الله, ولهذا قال {تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً} وقوله تعالى: {وعلمتم مالم تعلموا أنتم ولا آباؤكم} أي ومن أنزل القرآن الذي علمكم الله فيه, من خبر ما سبق, ونبأ ما يأتي مالم تكونوا تعلمون ذلك, لا أنتم ولا آباؤكم, وقد قال قتادة: هؤلاء مشركو العرب وقال مجاهد هذه للمسلمين, وقوله تعالى: {قل الله} قال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس, أي قل الله أنزله, وهذا الذي قاله ابن عباس, هو المتعين في تفسير هذه الكلمة, لا ما قاله بعض المتأخرين, من أن معنى {قل الله} أي لا يكون خطابك لهم, إلا هذه الكلمة, كلمة «الله» وهذا الذي قاله هذا القائل, يكون أمراً بكلمة مفردة, من غير تركيب, والإتيان بكلمة مفردة لا يفيد في لغة العرب فائدة يحسن السكوت عليها, وقوله {ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} أي ثم دعهم في جهلهم وضلالهم يلعبون, حتى يأتيهم من الله اليقين, فسوف يعلمون ألهم العاقبة أم لعباد الله المتقين ؟ وقوله {وهذا كتاب} يعني القرآن {أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى} يعني مكة {ومن حولها} من أحياء العرب, ومن سائر طوائف بني آدم, ومن عرب وعجم, كما قال في الاَية الأخرى {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} وقال {لأنذركم به ومن بلغ} وقال {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} وقال {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً} وقال {وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم, فإن أسلموا فقد اهتدوا, وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد} وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي» وذكر منهن «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة, وبعثت إلى الناس عامة» ولهذا قال {والذين يؤمنون بالاَخرة يؤمنون به} أي كل من آمن بالله واليوم الاَخر, يؤمن بهذا الكتاب المبارك, الذي أنزلناه إليك يا محمد, وهو القرآن {وهم على صلاتهم يحافظون} أي يقيمون بما فرض عليهم من أداء الصلوات في أوقاتها.
    ** وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَىَ إِذِ الظّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُوَاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوَاْ أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىَ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ وَتَرَكْتُمْ مّا خَوّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىَ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تّقَطّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلّ عَنكُم مّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ
    يقول تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً} أي لا أحد أظلم, ممن كذب على الله, فجعل له شركاء أو ولداً, أو ادعى أن الله أرسله إلى الناس ولم يرسله, ولهذا قال تعالى: {أو قال أوحي إليّ ولم يوحَ إليه شيء} قال عكرمة وقتادة: نزلت في مسيلمة الكذاب {ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله} أي ومن ادعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي, مما يفتريه من القول, كقوله تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا} الاَية, قال الله تعالى: {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت} أي في سكراته, وغمراته, وكرباته, {والملائكة باسطو أيديهم} أي بالضرب, كقوله {لئن بسطت إلي يدك لتقتلني} الاَية, وقوله {يبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء} الاَية, وقال الضحاك وأبو صالح باسطو أيديهم أي بالعذاب, كقوله {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم} ولهذا قال {والملائكة باسطو أيديهم} أي بالضرب لهم, حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم, ولهذا يقولون لهم {أخرجوا أنفسكم} وذلك أن الكافر إذا احتضر, بشرته الملائكة بالعذاب, والنكال, والأغلال, والسلاسل, والجحيم, والحميم, وغضب الرحمن الرحيم, فتتفرق روحه في جسده, وتعصي وتأبى الخروج, فتضربهم الملائكة, حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم, قائلين لهم {أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق} الاَية, أي اليوم تهانون غاية الإهانة, كما كنتم تكذبون على الله, وتستكبرون عن اتباع آياته والانقياد لرسله
    .

    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الثلاثاء 16 يونيو - 21:37

    ** إِنّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبّ وَالنّوَىَ يُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيّتِ مِنَ الْحَيّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنّىَ تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الْلّيْلَ سَكَناً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ النّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصّلْنَا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
    يخبر تعالى أنه فالق الحب والنوى, أي يشقه في الثرى, فتنبت منه الزروع على اختلاف أصنافها, من الحبوب والثمار على اختلاف ألوانها وأشكالها وطعومها من النوى, ولهذا فسر قوله {فالق الحب والنوى} بقوله {يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي} أي يخرج النبات الحي من الحب والنوى, الذي هو كالجماد الميت, كقوله {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون} إلى قوله {ومن أنفسهم ومما لا يعلمون} وقوله {ويخرج الميت من الحي} معطوف على {فالق الحب والنوى} ثم فسره ثم عطف عليه قوله {ومخرج الميت من الحي} وقد عبروا عن هذا وهذا بعبارات كلها متقاربة مؤدية للمعنى, فمن قائل: يخرج الدجاجة من البيضة وعكسه, ومن قائل: يخرج الولد الصالح من الفاجر وعكسه وغير ذلك من العبارات التي تنتظمها الاَية وتشملها
    ثم قال تعالى: {ذلكم الله} أي فاعل هذا, هو الله وحده لا شريك له {فأنى تؤفكون} أي كيف تصرفون عن الحق وتعدلون عنه إلى الباطل, فتعبدون معه غيره. وقوله {فالق الإصباح وجعل الليل سكناً} أي خالق الضياء والظلام, كما قال في أول السورة {وجعل الظلمات والنور} أي فهو سبحانه يفلق ظلام الليل عن غرة الصباح, فيضيء الوجود, ويستنير الأفق, ويضمحل الظلام, ويذهب الليل بسواده وظلام رواقه, ويجيء النهار بضيائه وإشراقه, كقوله {يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً} فبين تعالى قدرته على خلق الأشياء المتضادة المختلفة, الدالة على كمال عظمته وعظيم سلطانه, فذكر أنه فالق الإصباح, وقابل ذلك بقوله {وجعل الليل سكناً} أي ساجياً مظلماً, لتسكن فيه الأشياء, كما قال {والضحى والليل إذا سجى} وقال {والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى} وقال {والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها} وقال صهيب الرومي رضي الله عنه لامرأته وقد عاتبته في كثرة سهره: إن الله جعل الليل سكناً إلا لصهيب, إن صهيباً إذا ذكر الجنة طال شوقه, وإذا ذكر النار طار نومه, رواه ابن أبي حاتم. وقوله {والشمس والقمر حسباناً} أي يجريان بحساب مقنن مقدر, لا يتغير ولا يضطرب, بل لكل منهما منازل يسلكها في الصيف والشتاء, فيترتب على ذلك اختلاف الليل والنهار طولاً وقصراً, كما قال {هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدره منازل} الاَية, وكما قال {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون} وقال {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} وقوله {ذلك تقدير العزيز العليم} أي الجميع جار بتقدير العزيز الذي لا يمانع ولا يخالف, العليم بكل شيء, فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء, وكثيراً ما إذا ذكر الله تعالى خلق الليل والنهار والشمس والقمر, يختم الكلام بالعزة والعلم, كما ذكر في هذه الاَية, وكما في قوله {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون * والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيزالعليم} ولما ذكر خلق السموات والأرض وما فيهن, في أول سورة حم السجدة, قال {وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً, ذلك تقدير العزيز العليم} وقوله تعالى: {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر} قال بعض السلف: من اعتقد في هذه النجوم غير ثلاث فقد أخطأ وكذب على الله سبحانه, أن الله جعلها زينة للسماء , ورجوماً للشياطين, ويهتدى بها في الظلمات البر والبحر. وقوله {قد فصلنا الاَيات} أي قد بيناها ووضحناها {لقوم يعلمون} أي يعقلون ويعرفون الحق, ويتجنبون الباطل.
    ** وَهُوَ الّذِيَ أَنشَأَكُم مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصّلْنَا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ * وَهُوَ الّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مّتَرَاكِباً وَمِنَ النّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنّاتٍ مّنْ أَعْنَابٍ وَالزّيْتُونَ وَالرّمّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوَاْ إِلِىَ ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنّ فِي ذَلِكُمْ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
    يقول تعالى: {وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة} يعني آدم عليه السلام, كما قال {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً} وقوله {فمستقر ومستودع} اختلفوا في معنى ذلك, فعن ابن مسعود, وابن عباس, وأبي عبد الرحمن السلمي, وقيس بن أبي حازم, ومجاهد, وعطاء, وإبراهيم النخعي, والضحاك, وقتادة, والسدي, وعطاء الخراساني, وغيرهم {فمستقر} أي في الأرحام, قالوا أو أكثرهم {ومستودع} أي في الأصلاب, وعن ابن مسعود وطائفة عكسه, وعن ابن مسعود أيضاً وطائفة, فمستقر في الدنيا, ومستودع حيث يموت, وقال سعيد بن جبير: فمستقر في الأرحام, وعلى ظهر الأرض, وحيث يموت, وقال الحسن البصري: المستقر الذي قد مات, فاستقر به عمله, وعن ابن مسعود: ومستودع في الدار الاَخرة, والقول الأول أظهر, والله أعلم.
    ** قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رّبّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ * وَكَذَلِكَ نُصَرّفُ الاَيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
    البصائر هي البينات والحجج التي اشتمل عليها القرآن, وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم {فمن أبصر فلنفسه} كقوله {فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها} ولهذا قال {ومن عمي فعليها} لما ذكر البصائر, قال {ومن عمي فعليها} أي إنما يعود وباله عليه, كقوله {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} {وما أنا عليكم بحفيظ} أي بحافظ ولا رقيب, بل أنا مبلغ, والله يهدي من يشاء ويضل من يشاء, وقوله {وكذلك نصرف الاَيات} أي وكما فصلنا الاَيات في هذه السورة, من بيان التوحيد, وأنه لا إله إلا هو, هكذا نوضح الاَيات ونفسرها ونبينها في كل موطن لجهالة الجاهلين, وليقول المشركون والكافرون المكذبون, دارست يا محمد من قبلك, من أهل الكتاب وقارأتهم, وتعلمت منهم, هكذا قاله ابن عباس, ومجاهد, وسعيد بن جبير, والضحاك, وغيرهم, وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد, حدثنا أبي, حدثنا سفيان بن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عمرو بن كيسان, قال سمعت ابن عباس يقول: دارست: تلوت, خاصمت, جادلت, وهذا كقوله تعالى إخباراً عن كذبهم وعنادهم, {وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلماً وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها} الاَية, وقال تعالى إخباراً عن زعيمهم وكاذبهم {إنه فكر وقدّر, فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر, ثم نظر ثم عبس وبسر, ثم أدبر واستكبر, فقال إن هذا إلا سحر يؤثر, إن هذا إلا قول البشر}, وقوله {ولنبينه لقوم يعلمون} أي ولنوضحه لقوم يعلمون الحق فيتبعونه والباطل فيجتنبونه فلله تعالى الحكمة البالغة في إضلال أولئك وبيان الحق لهؤلاء كقوله تعالى: {يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً} الاَية, وكقوله {ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم} {وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم} وقال تعالى: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيماناً ولا يرتاب الذين أتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلاً * كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو } وقال {ونزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً} وقال تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد} إلى غير ذلك من الاَيات الدالة, على أنه تعالى أنزل القرآن هدى للمتقين, وأنه يضل به من يشاء, ويهدي من يشاء

    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الثلاثاء 16 يونيو - 21:41

    ** وَلَوْ أَنّنَا نَزّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلّمَهُمُ الْمَوْتَىَ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً مّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوَاْ إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ
    يقول تعالى: ولو أننا أجبنا سؤال هؤلاء, الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم, لئن جاءتم آية ليؤمنن بها, فنزلنا عليهم الملائكة تخبرهم بالرسالة من الله بتصديق الرسل, كما سألوا فقالوا {أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً} و {قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله} {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا نزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً} {وكلمهم الموتى} أي فأخبروهم بصدق ما جاءتهم به الرسل {وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً} قرأ بعضهم, قَبلاً بكسر القاف وفتح الباء, من المقابلة والمعاينة, وقرأ آخرون بضمهما, قيل معناه من المقابلة والمعاينة أيضاً, كما رواه علي بن أبي طلحة, والعوفي عن ابن عباس, وبه قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وقال مجاهد قبلاً أي أفواجاً, قبيلاً قبيلاً, أي تعرض عليهم كل أمة بعد أمة, فيخبرونهم بصدق الرسل فيما جاءوهم به {ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله} أي أن الهداية إليه لا إليهم, بل يهدي من يشاء, ويضل من يشاء, وهو الفعال لما يريد, {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} لعلمه وحكمته وسلطانه وقهره وغلبته, وهذه الاَية كقوله تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم}.


    ** وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِيّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَىَ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مّقْتَرِفُونَ
    يقول تعالى: وكما جعلنا لك يا محمد أعداء يخالفونك ويعادونك ويعاندونك, جعلنا لكل نبي من قبلك أيضاً أعداء فلا يحزنك ذلك, كما قال تعالى: {ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا} الاَية, وقال تعالى: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم} وقال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين} الاَية, وقال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي, وقوله {شياطين الأنس والجن} بدل من {عدواً} أي لهم أعداء من شياطين الإنس والجن, والشيطان كل من خرج عن نظيره بالشر, ولا يعادي الرسل إلا الشياطين من هؤلاء وهؤلاء, قبحهم الله ولعنهم, قال عبد الرزاق: حدثنا معمر, عن قتادة, في قوله {شياطين الإنس والجن} قال من الجن شياطين, ومن الإنس شياطين, يوحي بعضهم إلى بعض, قال قتادة: وبلغني أن أبا ذر, كان يوماً يصلي, فقال النبي صلى الله عليه وسلم «تعوذ يا أبا ذر من شياطين الإنس والجن» فقال: أو إن من الإنس شياطين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعم» وهذا منقطع بين قتادة وأبي ذر. وقد روي من وجه آخر, عن أبي ذر رضي الله عنه, قال ابن جرير: حدثنا المثنى, حدثنا أبو صالح, حدثني معاوية بن صالح, عن أبي عبد الله محمد بن أيوب, وغيره من المشيخة, عن ابن عائذ, عن أبي ذر, قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس, قد أطال فيه الجلوس, قال, فقال «يا أبا ذر هل صليت» قلت: لا يا رسول الله, قال «قم فاركع ركعتين» قال: ثم جئت فجلست إليه, فقال «يا أبا ذر هل تعوذت بالله من شياطين الإنس والجن» قال: قلت: لا يا رسول الله, وهل للإنس من شياطين ؟ قال «نعم هم شر من شياطين الجن» وهذا أيضاً فيه انقطاع,وروي متصلاً.
    كما قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا المسعودي, أنبأنا أبو عمر الدمشقي, عن عبيد بن الخشخاش, عن أبي ذر, قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد, فجلست فقال «يا أبا ذر هل صليت ؟» قلت: لا, قال «قم فصلّ» قال: فقمت فصليت ثم جلست, فقال «يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن» قال: قلت: يا رسول الله وللإنس شياطين ؟ قال «نعم» وذلك تمام الحديث بطوله. وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره, من حديث جعفر بن عون, ويعلى بن عبيد, وعبيد الله بن موسى, ثلاثتهم عن المسعودي به.
    (طريق أخرى عن أبي ذر) قال ابن جرير: حدثنا المثنى, حدثنا الحجاج, حدثنا حماد, عن حميد بن هلال, حدثني رجل من أهل دمشق, عن عوف بن مالك, عن أبي ذر, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «يا أبا ذر هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن» قال: قلت: يا رسول الله هل للإنس من شياطين ؟ قال «نعم».
    (طريق أخرى للحديث) قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف الحمصي, حدثنا أبو المغيرة, حدثنا معان بن رفاعة, عن علي بن يزيد, عن القاسم, عن أبي أمامة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أبا ذر تعوذت من شياطين الإنس والجن» قال: قلت يا رسول وهل للإنس شياطين ؟ قال «نعم» {شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً} فهذه طرق لهذا الحديث, ومجموعها يفيد قوته وصحته, والله أعلم, قال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا أبو نعيم, عن شريك, عن سعيد بن مسروق, عن عكرمة {شياطين الإنس والجن} قال: ليس من الإنس شياطين, ولكن شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس, وشياطين الإنس يوحون إلى شياطين الجن, قال: وحدثنا الحارث, حدثنا عبد العزيز, حدثنا إسرائيل, عن السدي, عن عكرمة, في قوله {يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً} قال: للأنسي شيطان, وللجني شيطان, فيلقى شيطان الإنس شيطان الجن, فيوحي بعضهم إلى بعض, زخرف القول غروراً, وقال أسباط عن السدي عن عكرمة في قوله {يوحي بعضهم إلى بعض}: أما شياطين الإنس, فالشياطين التي تضل الإنس, وشياطين الجن التي تضل الجن, يلتقيان, فيقول كل واحد منهما لصاحبه: إني أضللت صاحبي بكذا وكذا, فأضل أنت صاحبك بكذا وكذا, فيعلم بعضهم بعضاً, ففهم ابن جرير من هذا, أن المراد بشياطين الإنس, عند عكرمة والسدي, الشياطين من الجن الذين يضلون الناس, لا أن المراد منه شياطين الإنس منهم, ولا شك أن هذا ظاهر من كلام عكرمة, وأما كلام السدي فليس مثله في هذا المعنى, وهو محتمل, وقد روى ابن أبي حاتم نحو هذا عن ابن عباس, من رواية الضحاك عنه, قال: إن للجن شياطين يضلونهم, مثل شياطين الإنس يضلونهم, قال: فيلتقي شياطين الإنس وشياطين الجن, فيقول هذا لهذا أضلله بكذا, فهو قوله {يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً} وعلى كل حال, فالصحيح ما تقدم من حديث أبي ذر, إن للإنس شياطين منهم, وشيطان كل شيء مارده, ولهذا جاء في صحيح مسلم عن أبي ذر, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الكلب الأسود شيطان» ومعناه والله أعلم ـ شيطان في الكلاب, وقال ابن جريج: قال مجاهد: في تفسير هذه الاَية, كفار الجن شياطين, يوحون إلى شياطين الإنس, كفار الإنس, زخرف القول غروراً.
    وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: قدمت على المختار فأكرمني وأنزلني, حتى كاد يتعاهد مبيتي بالليل, قال: فقال لي: اخرج إلى الناس فحدثهم, قال: فخرجت, فجاء رجل فقال: ما تقول في الوحي, فقلت: الوحي وحيان, قال الله تعالى: {بما أوحينا إليك هذا القرآن} وقال تعالى: {شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً} قال فهمّوا بي أن يأخذوني, فقلت لهم: ما لكم ذاك, إني مفتيكم وضيفكم فتركوني, وإنما عرض عكرمة بالمختار, وهو ابن أبي عبيد قبحه الله, وكان يزعم أنه يأتيه الوحي, وقد كانت أخته صفية تحت عبد الله بن عمر, وكانت من الصالحات, ولما أخبر عبد الله بن عمر أن المختار يزعم أنه يوحى إليه, فقال: صدق, قال الله تعالى: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم} وقوله تعالى: {يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً} أي يلقي بعضهم إلى بعض القول المزين المزخرف, وهو المزوق الذي يغتر سامعه من الجهلة بأمره, {ولو شاء ربك ما فعلوه} أي وذلك كله بقدر الله وقضائه, وإرادته ومشيئته, أن يكون لكل نبي عدو من هؤلاء {فذرهم} أي فدعهم, {وما يفترون} أي يكذبون. أي دع أذاهم, وتوكل على الله في عداوتهم, فإن الله كافيك وناصرك عليهم, وقوله تعالى: {ولتصغى إليه} أي ولتميل إليه. قاله ابن عباس {أفئدة الذين لا يؤمنون بالاَخرة} أي قلوبهم وعقولهم وأسماعهم, وقال السدي: قلوب الكافرين {وليرضوه} أي يحبوه ويريدوه, وإنما يستجيب ذلك من لا يؤمن بالاَخرة, كما قال تعالى: {فإنكم وما تعبدون * ما أنتم عليه بفاتنين * إلا من هو صال الجحيم} وقال تعالى: {إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك} وقوله {وليقترفوا ما هم مقترفون} قال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس, وليكتسبوا ما هم مكتسبون, وقال السدي وابن زيد: وليعملوا ما هم عاملون.

    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الثلاثاء 16 يونيو - 21:45

    ** وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنّ الّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ
    قال مجاهد {وذروا ظاهر الإثم وباطنه} المعصية في السر والعلانية, وفي رواية عنه, هو ما ينوي مما هو عامل, وقال قتادة {وذروا ظاهر الإثم وباطنه} أي سره وعلانيته قليلة وكثيرة, وقال السدي: ظاهره الزنا مع البغايا ذوات الرايات, وباطنه الزنا مع الخليلة والصدائق والأخدان, وقال عكرمة: ظاهره نكاح ذوات المحارم, والصحيح أن الاَية عامة في ذلك كله, وهي كقوله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن} الاَية, ولهذا قال تعالى: {إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون} أي سواء كان ظاهراً أو خفياً, فإن الله سيجزيهم عليه, قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة, حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, عن معاوية بن صالح, عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه, عن النواس بن سمعان قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإثم, فقال «الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع الناس عليه».


    ** وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنّهُ لَفِسْقٌ وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىَ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنّكُمْ لَمُشْرِكُونَ
    استدل بهذه الاَية الكريمة من ذهب إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها, وإن كان الذابح مسلماً, وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في هذه المسألة, على ثلاثة أقوال: فمنهم من قال لا تحل هذه الذبيحة بهذه الصفة, وسواء متروك التسمية عمداً أو سهواً, وهو مروي عن ابن عمر, ونافع مولاه, وعامر الشعبي, ومحمد بن سيرين, وهو رواية عن الإمام مالك, ورواية عن أحمد بن حنبل نصرها طائفة من أصحابه المتقدمين والمتأخرين, وهو اختيار أبي ثور, وداود الظاهري, واختار ذلك أبو الفتوح محمد بن محمد بن علي الطائي, من متأخري الشافعية, في كتابه «الأربعين», واحتجوا لمذهبهم هذا بهذه الاَية, وبقوله في آية الصيد {فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه} ثم قد أكد في هذه الاَية بقوله {وإنه لفسق} والضمير قيل عائد على الأكل, وقيل عائد على الذبح, لغير الله, وبالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد, كحديثي عدي بن حاتم وأبي ثعلبة: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك» وهما في الصحيحين, وحديث رافع بن خديج «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه» وهو في الصحيحين أيضاً, وحديث ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجن «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه» رواه مسلم, وحديث جندب بن سفيان البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى, ومن لم يكن ذبح, حتى صلينا فليذبح باسم الله» أخرجاه, وعن عائشة رضي الله عنها: أن ناساً قالوا: يا رسول الله إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ قال «سموا عليه أنتم وكلوا» قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر رواه البخاري, ووجه الدلالة أنهم فهموا أن التسمية لا بد منها, وخشوا أن لا تكون وجدت من أولئك لحداثة إسلامهم, فأمرهم بالاحتياط بالتسمية عند الأكل, لتكون كالعوض عن المتروكة عند الذبح إن لم تكن وجدت, وأمرهم بإجراء أحكام المسلمين على السداد, والله أعلم.
    والمذهب الثاني في المسألة: أنه لا يشترط التسمية, بل هي مستحبة, فإن تركت عمداً أو نسياناً لا يضر, وهذا مذهب الإمام الشافعي رحمه الله, وجميع أصحابه, ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل نقلت عنه. وهو رواية عن الإمام مالك, ونص على ذلك أشهب بن عبد العزيز من أصحابه, وحكي عن ابن عباس, وأبي هريرة, وعطاء بن أبي رباح, والله أعلم. وحمل الشافعي الاَية الكريمة {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق} على ما ذبح لغير الله, كقوله تعالى: {أو فسقاً أهلّ لغير الله به} وقال ابن جريج عن عطاء {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} قال: ينهى عن ذبائح كانت تذبحها قريش للأوثان, وينهى عن ذبائح المجوس, وهذا المسلك الذي طرقه الإمام الشافعي قوي, وقد حاول بعض المتأخرين أن يقويه بأن جعل الواو في قوله {وإنه لفسق} حالية, أي: لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه في حال كونه فسقاً, ولا يكون فسقاً حتى يكون قد أهل به لغير الله. ثم ادعى أن هذا متعين ولا يجوز أن تكون الواو عاطفة, لأنه يلزم منه عطف جملة اسمية خبرية على جملة فعلية طلبية وهذا ينتقض عليه بقوله {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم} فإنها عاطفة لا محالة, فإن كانت الواو التي ادعى أنها حالية صحيحة على ما قال, امتنع عطف هذه عليها فإن عطفت على الطلبية ورد عليه ما أورد على غيره, وإن لم تكن الواو حالية بطل ما قال من أصله, والله أعلم, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا يحيى بن المغيرة, أنبأنا جرير, عن عطاء, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, في الاَية {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} قال: هي الميتة.
    ثم رواه عن أبي زرعة, عن يحيى بن أبي كثير, عن ابن لهيعة, عن عطاء وهو ابن السائب به, وقد استدل لهذا المذهب, بما رواه أبو داود في المراسيل: من حديث ثور بن يزيد, عن الصلت السدوسي مولى سويد بن منجوف, أحد التابعين الذين ذكرهم أبو حاتم ابن حبان في كتاب الثقات, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر, إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله» وهذ مرسل, يعضد بما رواه الدارقطني عن ابن عباس أنه قال: «إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله فليأكل, فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله» واحتج البيهقي أيضاً بحديث عائشة رضي الله عنها المتقدم, أن ناساً قالوا: يا رسول الله, إن قوماً حديثي عهد بجاهلية, يأتوننا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا ؟ فقال «سموا أنتم وكلوا» قال: فلو كان وجود التسمية شرطاً, لم يرخص لهم إلا مع تحققها, والله أعلم.
    ** فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنّمَا يَصّعّدُ فِي السّمَآءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرّجْسَ عَلَى الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
    يقول تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} أي ييسره له وينشطه ويسهله, لذلك فهذه علامات على الخير, كقوله تعالى: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} الاَية, وقال تعالى: {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون} وقال ابن عباس رضي الله عنهما: في قوله {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} يقول تعالى: يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به, وكذا قال أبو مالك وغير واحد وهو ظاهر.
    وقال عبد الرزاق, أخبرنا الثوري عن عمرو بن قيس, عن عمرو بن مرة, عن أبي جعفر, قال, سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المؤمنين أكيس ؟ قال «أكثرهم ذكراً للموت وأكثرهم لما بعده استعداداً» قال: وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الاَية {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} قالوا: كيف يشرح صدره يا رسول الله ؟ قال «نور يقذف فيه فينشرح له وينفسح» قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها ؟ قال «الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور, والاستعداد للموت قبل لقاء الموت» وقال ابن جرير: حدثنا هناد, حدثنا قبيصة عن سفيان يعني الثوري, عن عمرو بن مرة, عن رجل يكنى أبا جعفر كان يسكن المدائن, قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم, عن قول الله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} فذكر نحو ما تقدم.
    وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا ابن إدريس, عن الحسن بن الفرات القزاز, عن عمرو بن مرة, عن أبي جعفر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا دخل الإيمان القلب انفسح له القلب وانشرح» قالوا: يا رسول الله هل لذلك من أمارة ؟ قال «نعم الإنابة إلى دارالخلود والتجافي عن دار الغرور, والاستعداد للموت قبل الموت» وقد رواه ابن جرير: عن سوار بن عبد الله العنبري, حدثنا المعتمر بن سليمان, سمعت أبي يحدث عن عبد الله بن مرة, عن أبي جعفر فذكره.
    وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو خالد الأحمر, عن عمرو بن قيس, عن عمرو بن مرة, عن عبد الله بن المسوّر, قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاَية {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} قالوا: يا رسول الله ما هذا الشرح ؟ قال «نور يقذف به في القلب» قالوا: يا رسول الله فهل لذلك من أمارة تعرف ؟ قال «نعم» قالوا: وما هي ؟ قال «الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور, والاستعداد للموت قبل الموت».
    وقال ابن جرير أيضاً: حدثني هلال بن العلاء, حدثنا سعيد بن عبد الملك بن واقد, حدثنا محمد بن سلمة, عن أبي عبد الرحيم عن زيد بن أبي أنيسة, عن عمرو بن مرة, عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود, قال: قال رسول الله «إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح» قالوا: فهل لذلك من علامة يعرف بها ؟ قال «الإنابة إلى دار الخلود والتنحي عن دار الغرور, والاستعداد للموت قبل لقاء الموت» وقد رواه من وجه آخر عن ابن مسعود متصلاً مرفوعاً فقال: حدثني ابن سنان القزاز, حدثنا محبوب بن الحسن الهاشمي, عن يونس, عن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عتبة, عن عبد الله بن مسعود, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} قالوا: يا رسول الله وكيف يشرح صدره ؟ قال «يدخل فيه النور فينفسح» قالوا: وهل لذلك علامة يا رسول الله ؟ قال «التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود, والاستعداد للموت قبل أن ينزل الموت» فهذه طرق لهذا الحديث مرسلة ومتصلة, يشد بعضها بعضاً, والله أعلم

    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الثلاثاء 16 يونيو - 22:04

    ** وَهَـَذَا صِرَاطُ رَبّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصّلْنَا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذّكّرُونَ * لَهُمْ دَارُ السّلاَمِ عِندَ رَبّهِمْ وَهُوَ وَلِيّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
    لما ذكر تعالى طريق الضالين عن سبيله الصادين عنها, نبه على شرف ما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق, فقال تعالى: {وهذا صراط ربك مستقيماً} منصوب على الحال, أي هذا الدين الذي شرعناه لك يا محمد بما أوحينا إليك هذا القرآن هو صراط الله المستقيم, كما تقدم في حديث الحارث عن علي في نعت القرآن: هو صراط الله المستقيم وحبل الله المتين وهو الذكر الحكيم, رواه أحمد والترمذي بطوله, {قد فصلنا الاَيات} أي وضحناها وبيناها وفسرناها {لقوم يذكرون} أي لمن له فهم ووعي يعقل عن الله ورسوله {لهم دار السلام} وهي الجنة {عند ربهم} أي يوم القيامة, وإنما وصف الله الجنة ههنا بدار السلام, لسلامتهم فيما سلكوه من الصراط المستقيم المقتفي أثر الأنبياء وطرائقهم, فكما سلموا من آفات الاعوجاج أفضوا إلى دار السلام {وهو وليهم} أي حافظهم وناصرهم ومؤيدهم {بما كانوا يعملون} أي جزاء على أعمالهم الصالحة, تولاهم وأثابهم الجنة بمنه وكرمه.


    ** وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَامَعْشَرَ الْجِنّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مّنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مّنَ الإِنْسِ رَبّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الّذِيَ أَجّلْتَ لَنَا قَالَ النّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاّ مَا شَآءَ اللّهُ إِنّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ
    يقول تعالى واذكر يا محمد فيما تقصه عليهم وتنذرهم به {ويوم يحشرهم جميعاً} يعني الجن وأولياءهم من الإنس الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا, ويعوذون بهم ويطيعونهم, ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً, {يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس} أي ثم يقول: يا معشر الجن, وسياق الكلام يدل على المحذوف, ومعنى قوله {قد استكثرتم من الإنس} أي من إغوائهم, وإضلالهم, كقوله تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم * ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون} وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس} يعني أضللتم منهم كثيراً, وكذا قال مجاهد والحسن وقتادة, {وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض} يعني أن أولياء الجن من الإنس قالوا: مجيبين لله تعالى عن ذلك بهذا.
    قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو الأشهب هوذة بن خليفة, حدثنا عوف عن الحسن في هذه الاَية, قال استكثرتم من أهل النار يوم القيامة, فقال أولياؤهم من الإنس: ربنا استمتع بعضناببعض, قال الحسن وما كان استمتاع بعضهم ببعض, إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس, وقال محمد بن كعب في قوله {ربنا استمتع بعضنا ببعض} قال الصحابة: في الدنيا.
    ** يَامَعْشَرَ الْجِنّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىَ أَنْفُسِنَا وَغَرّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَىَ أَنْفُسِهِمْ أَنّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ
    وهذا أيضاً مما يقرع الله به كافري الجن والإنس يوم القيامة, حيث يسألهم وهو أعلم هل بلغتهم الرسل رسالاته ؟ وهذا استفهام تقرير {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم} أي من جملتكم, والرسل من الإنس فقط وليس من الجن رسل, كما قد نص على ذلك مجاهد وابن جريج وغير واحد من الأئمة من السلف والخلف, وقال ابن عباس: الرسل من بني آدم ومن الجن نذر. وحكى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم: أنه زعم أن في الجن رسلاً واحتج بهذه الاَية الكريمة, وفيه نظر, لأنها محتملة وليست بصريحة, وهي ـ والله أعلم ـ كقوله {مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان * فبأي آلاء ربكما تكذبان} إلى أن قال {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} ومعلوم أن اللؤلؤ والمرجان إنما يستخرجان من الملح لا من الحلو, وهذا واضح ولله الحمد, وقد ذكر هذا الجواب بعينه ابن جرير, والدليل على أن الرسل إنما هم من الإنس, قوله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ـ إلى قوله ـ رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}.
    وقوله تعالى: عن إبراهيم {وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب} فحصر النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته, ولم يقل أحد من الناس: إن النبوة كانت في الجن قبل إبراهيم الخليل, ثم انقطعت عنهم ببعثته, وقال تعالى: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق} وقال {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى} ومعلوم أن الجن تبع للإنس في هذا الباب, ولهذا قال تعالى إخباراً عنهم {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين * قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم * يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم * ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء, أولئك في ضلال مبين} وقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا عليهم سورة الرحمن وفيها قوله تعالى: {سنفرغ لكم أيها الثقلان * فبأي آلاء ربكما تكذبان}.
    ** ذَلِكَ أَن لّمْ يَكُنْ رّبّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىَ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ * وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمّا عَمِلُواْ وَمَا رَبّكَ بِغَافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ
    يقول تعالى: {ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون} أي إنما أعذرنا إلى الثقلين بإرسال الرسل وإنزال الكتب, لئلا يؤاخذ أحد بظلمه وهو لم تبلغه دعوة, ولكن أعذرنا إلى الأمم, وما عذنبا أحداً إلا بعد إرسال الرسل إليهم, كما قال تعالى: {وإن من قرية إلا خلا فيها نذير} وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} كقوله {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} وقال تعالى: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير ؟ قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا} والاَيات في هذا كثيرة.
    قال الإمام أبو جعفر بن جرير: ويحتمل قوله تعالى: {بظلم} وجهين (أحدهما) {ذلك} من أجل {أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم} أهلها بالشرك ونحوه وهم غافلون, ويقول: إن لم يكن يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم رسولاً ينبههم على حجج الله عليهم, ينذرهم عذاب الله يوم معادهم, ولم يكن بالذي يؤاخذهم غفلة, فيقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير (والوجه الثاني) {ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم} يقول: لم يكن ربك. ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرسل والاَيات والعبر فيظلمهم بذلك, والله غير ظلام لعبيده, ثم شرع يرجح الوجه الأول, ولا شك أنه أقوى, والله أعلم

    يتبع
    avatar
    الامير اشرف ماضى
    عضو فعال
    عضو فعال


    عدد الرسائل : 1216
    البلد : كوكب الارض
    العمل : مؤلف ومحلل اقتصادى محاضرعن الاقتصاد الاسلامى
    الهوايات : الصيد بجميع انواعة وخاصة الصقور
    تقييم القراء : 6
    النشاط : 7805
    تاريخ التسجيل : 13/04/2009

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الامير اشرف ماضى الأربعاء 17 يونيو - 0:44

    جزاك الجنة اخى اميرابوهاشم وَعن أَبي بكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّه عَنْه ، أَنَّه قَالَ لِرَسولِ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : عَلِّمني دُعَاءً أَدعُو بِهِ في صَلاتي ، قَالَ : قُلْ : اللَّهمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْماً كثِيراً ، وَلا يَغْفِر الذُّنوبَ إِلاَّ أَنْتَ ، فَاغْفِر لي مغْفِرَةً مِن عِنْدِكَ ، وَارحَمْني ، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفور الرَّحِيم » متَّفَقٌ عليهِ وَعَنْ زَيْدِ بنِ أَرْقَم رضَي اللَّه عَنْهُ ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يقَولُ : «اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ العَجْزِ وَالكَسَلِ ، والبُخْلِ وَالهَرم ، وعَذَاب الْقَبْر ، اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا ، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيرُ مَنْ زَكَّاهَا ، أَنْتَ ولِيُّهَا وَموْلاَهَا ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلمٍ لا يَنْفَعُ ، ومِنْ قَلْبٍ لاَ يخْشَعُ ، وَمِنْ نَفْسٍ لا تَشبَعُ ، ومِنْ دَعْوةٍ لا يُسْتجابُ لهَا » رواهُ مُسْلِمٌ .

    وَعنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم كَانَ يَقُولُ : « اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ ، وَبِكَ آمَنْتُ ، وعلَيْكَ تَوَكَّلْتُ ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ ، وإِلَيْكَ حَاكَمْتُ . فاغْفِرْ لي ما قَدَّمْتُ ، وما أَخَّرْتُ ، وَمَا أَسْررْتُ ومَا أَعلَنْتُ ، أَنْتَ المُقَدِّمُ ، وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ ، لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ولا حَولَ ولا قوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ » متفَقُ عليهِ .

    فى ميزان حسناتك ويستحق التثبيت
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 8:42

    ** وَجَعَلُواْ للّهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـَذَا للّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَىَ اللّهِ وَمَا كَانَ للّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىَ شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ
    هذا ذم وتوبيخ من الله للمشركين الذين ابتدعوا بدعاً وكفراً وشركاً, وجعلوا لله شركاء وجزءاً من خلقه وهو خالق كل شيء سبحانه وتعالى, ولهذا قال تعالى: {وجعلوا لله مما ذرأ} أي مما خلق وبرأ {من الحرث} أي من الزرع والثمار {والأنعام نصيباً} أي جزءاً وقسماً {فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا} وقوله {فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم}.) قال علي بن أبي طلحة والعوفي, عن ابن عباس أنه قال: في تفسير هذه الاَية إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثاً أو كانت لهم ثمرة, جعلوا لله منه جزءاً وللوثن جزءاً, فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان, حفظوه وأحصوه وإن سقط منه شيء فيما سمي للصمد, ردوه إلى ما جعلوه للوثن, وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن فسقى شيئاً جعلوه لله جعلوا ذلك للوثن, وإن سقط شيء من الحرث والثمر الذي جعلوه لله فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا هذا فقير, ولم يردوه إلى ما جعلوه لله, وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله فسقى ما سمي للوثن تركوه للوثن, وكانوا يحرمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام فيجعلونه للأوثان, ويزعمون أنهم يحرمونه قربة لله, فقال الله تعالى: {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً} الاَية, وهكذا قال مجاهد وقتادة والسدي وغير واحد, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في الاَية: كل شيء يجعلونه لله من ذبح يذبحونه لا يأكلونه أبداً حتى يذكروا معه أسماء الاَلهة وما كان للاَلهة لم يذكروا اسم الله معه, وقرأ الاَية حتى بلغ {ساء ما يحكمون} أي ساء ما يقسمون, فإنهم أخطأوا أولاً في القسم, لأن الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه وخالقه, وله الملك وكل شيء له وفي تصرفه وتحت قدرته ومشيئته, لا إله غيره ولا رب سواه, ثم لما قسموا فيما زعموا القسمة الفاسدة لم يحفظوها بل جاروا فيها, كقوله جل وعلا: {ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون} وقال تعالى: {وجعلوا له من عباده جزءاً إن الإنسان لكفور مبين} وقال تعالى: {ألكم الذكر وله الأنثى} وقوله {تلك إذاً قسمة ضيزى}.


    ** وَكَذَلِكَ زَيّنَ لِكَثِيرٍ مّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ
    يقول تعالى: وكما زينت الشياطين لهؤلاء أن يجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً, كذلك زينوا لهم قتل أولادهم خشية الإملاق ووأد البنات خشية العار, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم, شركاؤهم, زينوا لهم قتل أولادهم, وقال مجاهد: شركاؤهم شياطينهم يأمرونهم أن يئدوا أولادهم خشية العيلة, وقال السدي: أمرتهم الشياطين أن يقتلوا البنات إما ليردوهم فيهلكوهم, وإما ليلبسوا عليهم دينهم, أي فيخلطوا عليهم دينهم ونحو ذلك.
    قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقتادة: وهذا كقوله تعالى: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم. يتوارى من القوم من سوء ما بشر به} الاَية, وكقوله {وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت} وقد كانوا أيضاً يقتلون الأولاد من الإملاق وهو الفقر أو خشية الإملاق أن يحصل لهم في تلف المال وقد نهاهم عن قتل أولادهم لذلك وإنما كان هذا كله من تزيين الشياطين وشرعهم ذلك, قوله تعالى: {ولو شاء الله ما فعلوه} أي كل هذا واقع بمشيئته تعالى وإرادته واختياره لذلك كوناً وله الحكمة التامة في ذلك فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون {فذرهم وما يفترون} أي فدعهم واجتنبهم وما هم فيه فسيحكم الله بينك وبينهم.


    ** وَقَالُواْ هَـَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاّ يَطْعَمُهَآ إِلاّ مَن نّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَآءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
    قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الحجر الحرام مما حرموا من الوصيلة وتحريم ما حرموا, وكذلك قال مجاهد والضحاك والسدي وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهما وقال قتادة {وقالوا هذه أنعام وحرث حجر} تحريم كان عليهم من الشياطين في أموالهم وتغليظ وتشديد ولم يكن من الله تعالى, وقال ابن زيد بن أسلم {حجر} إنما احتجروها لاَلهتهم, وقال السدي {لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم} يقولون حرام أن يطعم إلا من شئنا وهذه الاَية الكريمة كقوله تعالى: {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون} وكقوله تعالى: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون} وقال السدي أما الأنعام التي حرمت ظهورها فهي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام, وأما الأنعام التي لا يذكرون اسم الله عليها لا إذا ولدوها ولا إن نحروها.
    ** وَهُوَ الّذِيَ أَنشَأَ جَنّاتٍ مّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنّخْلَ وَالزّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزّيْتُونَ وَالرّمّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوَاْ إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْمُسْرِفِينَ * وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مّبِينٌ
    يقول تعالى مبيناً أنه الخالق لكل شيء من الزروع والثمار والأنعام التي تصرف فيها هؤلاء المشركون بآرائهم الفاسدة, وقسموها وجزؤوها فجعلوا منها حراماً وحلالاً, فقال {وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: معروشات مسموكات, وفي رواية فالمعروشات ما عرش الناس, وغير معروشات ما خرج في البر والجبال من الثمرات, وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس: معروشات ما عرش من الكرم وغير معروشات ما لم يعرش من الكرم, وكذا قال السدي, وقال ابن جريج متشابهاً وغير متشابه, قال: متشابهاً في المنظر وغير متشابه في المطعم, وقال محمد بن كعب {كلوا من ثمره إذا أثمر} قال: من رطبه وعنبه, وقوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} قال ابن جرير: قال بعضهم هي الزكاة المفروضة, حدثنا عمرو, حدثنا عبد الصمد, حدثنا يزيد بن درهم, قال: سمعت أنس بن مالك يقول {وآتوا حقه يوم حصاده} قال: الزكاة المفروضة.
    وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وآتوا حقه يوم حصاده} يعني الزكاة المفروضة يوم يكال ويعلم كيله, وكذا قال سعيد بن المسيب, وقال العوفي عن ابن عباس {وآتوا حقه يوم حصاده} وذلك أن الرجل كان إذا زرع, فكان يوم حصاده لم يخرج مما حصد شيئاً فقال الله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} وذلك أن يعلم ما كيله وحقه من كل عشرة واحد, وما يلقط الناس من سنبله, وقد روى الإمام أحمد وأبو داود في سننه من حديث محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن يحيى بن حبان, عن عمه واسع بن حبان, عن جابر بن عبد الله, أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من كل جاذّ عشرة أوسق من التمر بقنو يعلق في المسجد للمساكين, وهذا إسناد جيد قوي, وقال طاوس وأبو الشعثاء وقتادة والحسن والضحاك وابن جريج: هي الزكاة, وقال الحسن البصري: هي الصدقة من الحب والثمار, وكذا قال زيد بن أسلم, وقال آخرون: وهو حق آخر سوى الزكاة, وقال أشعث: عن محمد بن سيرين ونافع عن ابن عمر في قوله {وآتوا حقه يوم حصاده} قال: كانوا يعطون شيئاً سوى الزكاة رواه ابن مردويه وروى عبد الله بن المبارك وغيره عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح في قوله {وآتوا حقه يوم حصاده} قال: يعطي من حضره يومئذ ما تيسر, وليس بالزكاة, وقال مجاهد: إذا حضرك المساكين طرحت لهم منه, وقال عبد الرزاق عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد {وآتوا حقه يوم حصاده} قال: عند الزرع يعطي القبضة وعند الصرام يعطي القبضة, ويتركهم فيتبعون آثار الصرام, وقال الثوري: عن حماد عن إبراهيم النخعي قال: يعطي مثل الضغث, وقال ابن المبارك عن شريك عن سالم عن سعيد بن جبير {وآتوا حقه يوم حصاده} قال: كان هذا قبل الزكاة, للمساكين القبضة والضغث لعلف دابته, وفي حديث ابن لهيعة: عن دراج عن أبي الهيثم عن سعيد مرفوعاً, {وآتوا حقه يوم حصاده} قال {ما سقط من السنبل} رواه ابن مردويه, وقال آخرون: هذا شيء كان واجباً ثم نسخه الله بالعشر أو نصف العشر, حكاه ابن جرير عن ابن عباس ومحمد بن الحنفية وإبراهيم النخعي والحسن والسدي وعطية العوفي وغيرهم, واختاره ابن جرير رحمه الله, قلت: وفي تسمية هذا نسخاً نظر, لأنه قد كان شيئاً واجباً في الأصل ثم إنه فصل بيانه وبين مقدار المخرج وكميته, قالوا: وكان هذا في السنة الثانية من الهجرة, فا لله أعلم.


    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 8:45

    ** ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مّنَ الضّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذّكَرَيْنِ حَرّمَ أَمِ الاُنثَيَيْنِ أَمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الاُنثَيَيْنِ نَبّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذّكَرَيْنِ حَرّمَ أَمِ الاُنْثَيَيْنِ أَمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الاُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصّاكُمُ اللّهُ بِهَـَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلّ النّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ
    هذا بيان لجهل العرب قبل الإسلام, فيما كانوا حرموا من الأنعام وجعلوها أجزاء وأنواعاً بحيرة وسائبة ووصيلة وحاماً, وغير ذلك من الأنواع التي ابتدعوها في الأنعام والزروع والثمار, فبين تعالى أنه أنشأ جنات معروشات وغير معروشات, وأنه أنشأ من الأنعام حمولة وفرشاً, ثم بين أصناف الأنعام إلى غنم وهو بياض وهو الضأن, وسواد وهو المعز ذكره وأنثاه, وإلى إبل ذكورها وإناثها وبقر كذلك وأنه تعالى لم يحرم شيئاً من ذلك ولا شيئاً من أولادها, بل كلها مخلوقة لبني آدم أكلاً وركوباً وحمولة وحلباً وغير ذلك من وجوه المنافع, كما قال {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} الاَية. وقوله تعالى: {أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين} رد عليهم في قولهم {ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا} الاَية. وقوله تعالى: {نبئوني بعلم إن كنتم صادقين} أي أخبروني عن يقين, كيف حرم الله عليكم ما زعمتم تحريمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك.
    وقال العوفي عن ابن عباس: قوله {ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين} فهذه أربعة أزواج {قل آلذكرين حرم أم الأنثيين} يقول لم أحرم شيئاً من ذلك {أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين} يعني هل يشتمل الرحم إلا على ذكر أو أنثى, فلم تحرمون بعضاً وتحلون بعضاً ؟ {نبئوني بعلم إن كنتم صادقين} يقول تعالى كله حلال وقوله تعالى: {أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا} تهكم بهم فيما ابتدعوه وافتروه على الله من تحريم ما حرموه من ذلك {فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم} أي لا أحد أظلم منهم {إن الله لا يهدي القوم الظالمين} وأول من دخل في هذه الاَية عمرو بن لحي بن قمعة, لأنه أول من غير دين الأنبياء وأول من سيب السوائب ووصل الوصيلة وحمى الحامي, كما ثبت ذلك في الصحيح.


    ** قُل لاّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيّ مُحَرّماً عَلَىَ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنّ رَبّكَ غَفُورٌ رّحِيمٌ
    يقول تعالى آمراً عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم {قل} يا محمد لهؤلاء الذين حرموا ما رزقهم الله افتراء على الله, {لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه} أي آكل يأكله قيل معناه لا أجد شيئاً مما حرمتم حراماً سوى هذه, وقيل معناه لا أجد من الحيوانات شيئاً حراماً سوى هذه, فعلى هذا يكون ما ورد من التحريمات بعد هذا في سورة المائدة وفي الأحاديث الواردة رافعاً لمفهوم هذه الاَية, ومن الناس من يسمي هذا نسخاً والأكثرون من المتأخرين لا يسمونه نسخاً لأنه من باب رفع مباح الأصل والله أعلم, وقال العوفي عن ابن عباس {أو دماً مسفوحاً} يعني المهراق. وقال عكرمة في قوله {أو دماً مسفوحاً} لولا هذه الاَية لتتبع الناس ما في العروق كما تتبعه اليهود, وقال حماد عن عمران بن حدير قال: سألت أبا مجلز عن الدم, وما يتلطخ من الذبيح من الرأس وعن القدر يرى فيها الحمرة ؟ فقال: إنما نهى الله عن الدم المسفوح, وقال قتادة: حرم من الدماء ما كان مسفوحاً, فأما اللحم خالطه الدم فلا بأس به, وقال ابن جرير: حدثنا المثنى, حدثنا حجاج بن منهال, حدثنا حماد عن يحيى بن سعيد, عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها, أنها كانت لا ترى بلحوم السباع بأساً, والحمرة والدم يكونان على القدر بأساً , وقرأت هذه الاَية, صحيح غريب.
    وقال الحميدي: حدثنا سفيان, حدثنا عمرو بن دينار, قال: قلت لجابر بن عبد الله: إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر, فقال قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولكن أبى ذلك الحبر, يعني ابن عباس وقرأ {قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه} الاَية, وكذا رواه البخاري عن علي بن المديني عن سفيان به, وأخرجه أبو داود من حديث ابن جريج عن عمرو بن دينار, ورواه الحاكم في مستدركه مع أنه في صحيح البخاري كما رأيت.
    ** وَعَلَى الّذِينَ هَادُواْ حَرّمْنَا كُلّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنّا لَصَادِقُونَ
    قال ابن جرير, يقول تعالى وحرمنا على اليهود كل ذي ظفر وهو البهائم والطير ما لم يكن مشقوق الأصابع, كالإبل والنعام والإوز والبط, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} وهو البعير والنعامة, وكذا قال مجاهد والسدي في رواية, وقال سعيد بن جبير: هو الذي ليس منفرج الأصابع, وفي رواية عنه كل شيء متفرق الأصابع ومنه الديك, وقال قتادة في قوله {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} وكان يقال للبعير والنعامة وأشياء من الطير والحيتان وفي رواية البعير والنعامة, وحرم عليهم من الطير البط وشبهه وكل شيء ليس بمشقوق الأصابع, وقال ابن جريج عن مجاهد: كل ذي ظفر, قال: النعامة والبعير شقاشقاً, قلت للقاسم بن أبي بزة وحدثته ما شقاشقاً ؟ قال: كل ما لا ينفرج من قوائم البهائم, قال وما انفرج أكلته ؟ قال انفرجت قوائم البهائم والعصافير قال: فيهود تأكله, قال: ولم تنفرج قائمة البعير ـ خفه ـ ولا خف النعامة ولا قائمة الوز, فلا تأكل اليهود الإبل ولا النعامة ولا الوز ولا كل شيء لم تنفرج قائمته ولا تأكل حمار الوحش, وقوله تعالى: {ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما} قال السدي: يعني الثرب وشحم الكليتين وكانت اليهود تقول إنه حرمه إسرائيل فنحن نحرمه, وكذا قال ابن زيد, وقال قتادة: الثرب وكل شحم كان كذلك ليس في عظم.
    وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {إلا ما حملت ظهورهما} يعني ما علق بالظهر من الشحوم, وقال السدي وأبو صالح: الألية مما حملت ظهورهما وقوله تعالى: {أو الحوايا} قال الإمام أبو جعفر بن جرير الحوايا جمع واحدها حاوياء وحاوية وحوية وهو ما تحوّى من البطن فاجتمع واستدار, وهي بنات اللبن وهي المباعر وتسمى المرابض, وفيها الأمعاء, قال: ومعنى الكلام ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو ما حملت الحوايا, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أو الحوايا وهي المبعر, وقال مجاهد: الحوايا المبعر والمربض, وكذا قال سعيد بن جبير والضحاك وقتادة وأبو مالك والسدي, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد: الحوايا المرابض التي تكون فيها الأمعاء تكون وسطها وهي بنات اللبن, وهي في كلام العرب تدعى المرابض, وقوله تعالى: {أو ما اختلط بعظم} يعني إلا ما اختلط من الشحوم بعظم فقد أحللناه لهم, وقال ابن جريج: شحم الألية ما اختلط بالعصعص فهو حلال وكل شيء في القوائم والجنب والرأس والعين وما اختلط بعظم فهو حلال ونحوه, قاله السدي. وقوله تعالى: {ذلك جزيناهم ببغيهم} أي هذا التضييق إنما فعلناه بهم وألزمناهم به مجازاة على بغيهم ومخالفتهم أوامرنا, كما قال تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيراً} وقوله {وإنا لصادقون} أي وإنا لعادلون فيما جازيناهم به, وقال ابن جرير, وإنا لصادقون فيما أخبرناك به يا محمد من تحريمنا ذلك عليهم, لا كما زعموا من أن إسرائيل هو الذي حرمه على نفسه, والله أعلم.
    ** فَإِن كَذّبُوكَ فَقُلْ رّبّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ
    يقول تعالى: فإن كذبك يا محمد مخالفوك من المشركين واليهود ومن شابههم, {فقل ربكم ذو رحمة واسعة} وهذا ترغيب لهم في ابتغاء رحمة الله الواسعة واتباع رسوله, {ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين} ترهيب لهم من مخالفتهم الرسول خاتم النبيين, وكثيراً ما يقرن الله تعالى بين الترغيب والترهيب في القرآن, كما قال تعالى في آخر هذه السورة {إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم} وقال {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب} وقال تعالى: {نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم} وقال تعالى: {غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب} وقال {إن بطش ربك لشديد * إنه هو يبدىء ويعيد * وهو الغفور الودود} والاَيات في هذا كثيرة جداً.)

    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 8:54

    ** قُلْ إِنّنِي هَدَانِي رَبّيَ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مّلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوّلُ الْمُسْلِمِينَ
    يقول تعالى آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين أن يخبر بما أنعم به عليه من الهداية إلى صراطه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف {ديناً قيماً} أي قائماً ثابتاً {ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين} كقوله {ومن يرغب من ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} وقوله {وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم} وقوله {إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين * شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم, وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الاَخرة لمن الصالحين * ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين} وليس يلزم من كونه صلى الله عليه وسلم أمر باتباع ملة إبراهيم الحنيفية, أن يكون إبراهيم أكمل منه فيها لأنه عليه السلام قام بها قياماً عظيماً وأكملت له إكمالاً تاماً لم يسبقه أحد إلى هذا الكمال, ولهذا كان خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم على الإطلاق, وصاحب المقام المحمود الذي يرغب إليه الخلق حتى الخليل عليه السلام.
    ** قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبّ كُلّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلّ نَفْسٍ إِلاّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىَ ثُمّ إِلَىَ رَبّكُمْ مّرْجِعُكُمْ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
    يقول تعالى {قل} يا محمد لهؤلاء المشركين بالله في إخلاص العبادة له والتوكل عليه {أغير الله أبغي رباً} أي أطلب رباً سواه, {وهو رب كل شيء} يربيني ويحفظني ويكلؤني ويدبر أمري, أي لا أتوكل إلا عليه ولا أنيب إلا إليه لأنه رب كل شيء ومليكه وله الخلق والأمر. ففي هذه الاَية الأمر بإخلاص التوكل كما تضمنت التي قبلها إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له, وهذا المعنى يقرن بالاَخر كثيراً في القرآن كقوله تعالى مرشداً لعباده أن يقولوا له {إياك نعبد وإياك نستعين}, وقوله {فاعبده وتوكل عليه} وقوله {قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا} وقوله {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً}, وأشباه ذلك من الاَيات.
    وقوله تعالى {ولا تكسب كل نفس إلا عليها, ولا تزر وازرة وزر أخرى}, إخبار عن الواقع يوم القيامة في جزاء الله تعالى وحكمه وعدله, أن النفوس إنما تجازى بأعمالها إن خيراً فخير, وإن شراً فشر, وأنه لا يحمل من خطيئة أحد على أحد وهذا من عدله تعالى كما قال {وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى} وقوله تعالى {فلا يخاف ظلماً ولا هضماً} قال علماء التفسير: أي فلا يظلم بأن يحمل عليه سيئات غيره, ولا يهضم بأن ينقص من حسناته وقال تعالى {كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين} معناه كل نفس مرتهنة بعملها السيء, إلا أصحاب اليمين فإنه قد يعود بركة أعمالهم الصالحة على ذرياتهم وقراباتهم كما قال في سورة الطور {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء}, أي ألحقنا بهم ذريتهم في المنزلة الرفيعة في الجنة وإن لم يكونوا قد شاركوهم في الأعمال, بل في أصل الإيمان, وما ألتناهم أي أنقصنا أولئك السادة الرفعاء من أعمالهم شيئاً حتى ساويناهم وهؤلاء الذين هم أنقص منهم منزلة, بل رفعهم تعالى إلى منزلة الاَباء ببركة أعمالهم بفضله ومنته, ثم قال {كل امرى بما كسب رهين} أي من شر, وقوله {ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} أي اعملوا على مكانتكم إنا عاملون على ما نحن عليه فستعرضون ونعرض عليه, وينبئنا وإياكم بأعمالنا وأعمالكم وما كنا نختلف فيه في الدار الدنيا, كقوله {قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون * قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم}.


    ** وَهُوَ الّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ إِنّ رَبّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنّهُ لَغَفُورٌ رّحِيمٌ
    يقول تعالى {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} أي جعلكم تعمرونها جيلاً بعد جيل, وقرناً بعد قرن وخلفاً بعد سلف. قاله ابن زيد وغيره, كقوله تعالى {ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون} وكقوله تعالى {ويجعلكم خلفاء الأرض} وقوله {إني جاعل في الأرض خليفة} وقوله {عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون} وقوله {ورفع بعضكم فوق بعض درجات} أي فاوت بينكم في الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوىء والمناظر والأشكال والألوان, وله الحكمة في ذلك, كقوله تعالى {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً} وقوله {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللاَخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً}.
    وقوله تعالى {ليبلوكم فيما آتاكم} أي ليختبركم في الذي أنعم به عليكم وامتحنكم به, ليختبر الغني في غناه ويسأله عن شكره, والفقير في فقره ويسأله عن صبره. وفي صحيح مسلم من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون, فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء». وقوله تعالى {إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم} ترهيب وترغيب أن حسابه وعقابه سريع, فيمن عصاه وخالف رسله {وإنه لغفور رحيم} لمن والاه واتبع رسله فيما جاؤوا به من خبر وطلب. وقال محمد بن إسحاق: ليرحم العباد على ما فيهم, رواه ابن أبي حاتم, وكثيراً ما يقرن الله تعالى في القرآن بين هاتين الصفتين, كقوله {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم * وإن ربك لشديد العقاب} وقوله {نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم} إلى غير ذلك من الاَيات المشتملة على الترغيب والترهيب, فتارة يدعو عباده إليه بالرغبة وصفة الجنة والترغيب فيما لديه, وتارة يدعوهم إليه بالرهبة وذكر النار وأنكالها وعذابها والقيامة وأهوالها, وتارة بهما لينجع في كل بحسبه, جعلنا الله ممن أطاعوا فيما أمر, وترك ما عنه نهى وزجر, وصدقه فيما أخبر, إنه قريب مجيب سميع الدعاء جواد كريم وهاب.
    وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن, حدثنا زهير عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد, ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط أحد من الجنة, خلق الله مائة رحمة فوضع واحدة بين خلقه يتراحمون بها وعند الله تسعة وتسعون» ورواه الترمذي عن قتيبة عن عبد العزيز الدراوردي عن العلاء به, وقال: حسن, ورواه مسلم, عن يحيى بن يحيى وقتيبة وعلي بن حجر, ثلاثتهم عن إسماعيل بن جعفر, عن العلاء وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي» وعنه أيضاً قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً وأنزل في الأرض جزءاً واحداً, فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه» رواه مسلم ـ آخر تفسير سورة الأنعام, ولله الحمد والمنة.



    تمت الانعام

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 9:01

    سورة الأعراف

    .
    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
    ** الَمَصَ * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىَ لِلْمُؤْمِنِينَ * اتّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مّن رّبّكُمْ وَلاَ تَتّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مّا تَذَكّرُونَ
    قد تقدم الكلام في أول سورة البقرة على ما يتعلق بالحروف وبسطه واختلاف الناس فيه, قال ابن جرير: حدثنا سفيان بن وكيع, حدثنا أبي عن شريك عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس {آلمص} أنا الله أفصل, وكذا قال سعيد بن جبير {كتاب أنزل إليك} أي هذا كتاب أنزل إليك أي من ربك {فلا يكن في صدرك حرج منه} قال مجاهد وقتادة والسدي: شك منه, وقيل: لا تتحرج به في إبلاغه والإنذار به {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} ولهذا قال {لتنذر به} أي أنزلناه إليك لتنذر به الكافرين {وذكرى للمؤمنين} ثم قال تعالى مخاطباً للعالم {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} أي اقتفوا آثار النبي الأمي الذي جاءكم بكتاب أنزل إليكم من رب كل شيء)ومليكه {ولا تتبعوا من دونه أولياء} أي لا تخرجوا عما جاءكم به الرسول إلى غيره, فتكونوا قد عدلتم عن حكم الله إلى حكم غيره {قليلاً ما تذكرون} كقوله {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} وقوله {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} الاَية وقوله {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}.


    ** وَكَم مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاّ أَن قَالُوَاْ إِنّا كُنّا ظَالِمِينَ * فَلَنَسْأَلَنّ الّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصّنّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنّا غَآئِبِينَ
    يقول تعالى: {وكم من قرية أهلكناها} أي بمخالفة رسلنا وتكذيبهم, فأعقبهم ذلك خزي الدنيا موصولاً بذل الاَخرة, كما قال تعالى: {ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون} وكقوله {فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد} وقال تعالى: {وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً وكنا نحن الوارثين} وقوله {فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون} أي فكان منهم من جاءه أمر الله وبأسه ونقمته بياتاً أي ليلاً, أو هم قائلون من القيلولة وهي الاستراحة وسط النهار, وكلا الوقتين وقت غفلة ولهو, كما قال {أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون * أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحىً وهم يلعبون} وقال {أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين * أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم}.
    وقوله {فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين} أي فما كان قولهم عند مجيء العذاب, إلا أن اعترفوا بذنوبهم وأنهم حقيقون بهذا, كقوله تعالى: {وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة ـ إلى قوله ـ خامدين} قال ابن جرير: في هذه الاَية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله «ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم», حدثنا بذلك ابن حميد, حدثنا جرير عن أبي سنان عن عبدالملك بن ميسرة الزراد, قال: قال عبد الله بن مسعود, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم», قال: قلت لعبد الملك: كيف يكون ذاك ؟ قال: فقرأ هذه الاَية {فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين}. وقوله {فلنسألن الذين أرسل إليهم} الاَية. كقوله {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين} وقوله {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب} فيسأل الله الأمم يوم القيامة عما أجابوا رسله فيما أرسلهم به, ويسأل الرسل أيضاً عن إبلاغ رسالاته, ولهذا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الاَية {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين} قال عما بلغوا.
    وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم بن محمد بن الحسن, حدثنا أبو سعيد الكندي, حدثنا المحاربي عن ليث عن نافع عن ابن عمر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته, فالإمام يسأل عن رعيته والرجل يسأل عن أهله والمرأة تسأل عن بيت زوجها والعبد يسأل عن مال سيده» قال الليث: وحدثني ابن طاوس مثله, ثم قرأ {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين} وهذا الحديث مخرج في الصحيحين بدون هذه الزيادة, وقال ابن عباس في قوله {فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين} يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون {وما كنا غائبين} يعني أنه تعالى يخبر عباده يوم القيامة بما قالوا وبما عملوا من قليل وكثير وجليل وحقير, لأنه تعالى الشهيد على كل شيء لا يغيب عنه شيء ولا يغفل عن شيء بل هو العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين}.


    ** وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـَئِكَ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ
    يقول تعالى: {والوزن} أي للأعمال يوم القيامة {الحق} أي لا يظلم تعالى أحداً كقوله {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} وقال تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً} وقال تعالى: {فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية * وما أدراك ماهيه * نار حامية} وقال تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون}.
    (فصل) والذي يوضع في الميزان يوم القيامة قيل الأعمال وإن كانت أعراضاً إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساماً, قال البغوي: يروى نحو هذا عن ابن عباس, كما جاء في الصحيح من أن البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان أو فرقان من طير صواف. ومن ذلك في الصحيح قصة القرآن وأنه يأتي صاحبه في صورة شاب شاحب اللون فيقول: من أنت ؟ فيقول أنا القرآن الذي أسهرت ليلك وأظمأت نهارك. وفي حديث البراء في قصة سؤال القبر «فيأتي المؤمن شاب حسن اللون طيب الريح فيقول: من أنت ؟ فيقول: أنا عملك الصالح», وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق, وقيل يوزن كتاب الأعمال كما جاء في حديث البطاقة في الرجل الذي يؤتى به ويوضع له في كفة تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر, ثم يؤتى بتلك البطاقة فيها لا إله إلا الله فيقول يا رب وما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقول الله تعالى إنك لا تظلم. فتوضع تلك البطاقة في كفة الميزان, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فطاشت السجلات وثقلت البطاقة» رواه الترمذي بنحو من هذا وصححه, وقيل يوزن صاحب العمل كما في الحديث «يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين فلا يزن عند الله جناح بعوضة» ثم قرأ {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً}, وفي مناقب عبد الله بن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أتعجبون من دقة ساقيه والذي نفسي بيده لهم في الميزان أثقل من أحد» وقد يمكن الجمع بين هذه الاَثار بأن يكون ذلك كله صحيحاً, فتارة توزن الأعمال وتارة توزن محالها وتارة يوزن فاعلها, والله أعلم.

    يتبع


    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 9:05

    ** وَلَقَدْ مَكّنّاكُمْ فِي الأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مّا تَشْكُرُونَ
    يقول تعالى: ممتناً على عبيده فيما مكن لهم, من أنه جعل الأرض قراراً وجعل فيها رواسي وأنهاراً, وجعل لهم فيها منازل وبيوتاً وأباح لهم منافعها, وسخر لهم السحاب لإخراج أرزاقهم منها, وجعل لهم فيها معايش أي مكاسب وأسباباً يكسبون بها ويتجرون فيها ويتسببون أنواع الأسباب وأكثرهم مع هذا قليل الشكر على ذلك كقوله {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} وقد قرأ الجميع معايش بلا همز إلا عبد الرحمن بن هرمز الأعرج فإنه همزها والصواب الذي عليه الأكثرون بلا همز, لأن معايش جمع معيشة من عاش يعيش عيشاً ومعيشة أصلها معيشة, فاستثقلت الكسرة على الياء فنقلت إلى العين فصارت معيشة, فلما جمعت رجعت الحركة إلى الياء لزوال الاستثقال فقيل معايش ووزنه مفاعل, لأن الياء أصلية في الكلمة بخلاف مدائن وصحائف وبصائر, جمع مدينة وصحيفة وبصيرة من مدن وصحف وأبصر, فإن الياء فيها زائدة, ولهذا تجمع على فعائل وتهمز لذلك, والله أعلم.


    ** وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمّ صَوّرْنَاكُمْ ثُمّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ فَسَجَدُوَاْ إِلاّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مّنَ السّاجِدِينَ
    ينبه تعالى بني آدم في هذا المقام على شرف أبيهم آدم, ويبين لهم عداوة عدوهم إبليس, وما هو منطو عليه من الحسد لهم ولأبيهم آدم ليحذروه ولا يتبعوا طرائقه, فقال تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لاَدم فسجدوا} وهذ كقوله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} وذلك أنه تعالى لما خلق آدم عليه السلام بيده من طين لازب وصوره بشراً سوياً ونفخ فيه من روحه, أمر الملائكة بالسجود له تعظيماً لشأن الله تعالى وجلاله, فسمعوا كلهم وأطاعوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين, وقد تقدم الكلام على إبليس في أول تفسير سورة البقرة, وهذا الذي قررناه هو اختيار ابن جرير, أن المراد بذلك كله آدم عليه السلام.
    وقال سفيان الثوري عن الأعمش عن منهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {ولقد خلقناكم ثم صورناكم} قال خلقوا في أصلاب الرجال وصوروا في أرحام النساء, رواه الحاكم وقال: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه, ونقل ابن جرير: عن بعض السلف أيضاً أن المراد بخلقناكم ثم صورناكم الذرية.
    وقال الربيع بن أنس والسدي وقتادة والضحاك في هذه الاَية {ولقد خلقناكم ثم صورناكم} أي خلقنا آدم ثم صورنا الذرية, وهذا فيه نظر, لأنه قال بعد ذلك {ثم قلنا للملائكة اسجدوا لاَدم} فدل على أن المراد بذلك آدم وإنما قيل ذلك بالجمع, لأنه أبو البشر, كما يقول الله تعالى لبني إسرائيل الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم {وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المنّ والسلوى} والمراد آباؤهم الذين كانوا في زمن موسى, ولكن لما كان ذلك منة على الاَباء الذين هم أصل, صار كأنه واقع على الأبناء, وهذا بخلاف قوله {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} الاَية, فإن المراد من آدم المخلوق من السلالة, وذريته مخلوقون من نطفة, وصح هذا لأن المراد من خلقنا الإنسان الجنس لا معيناً, والله أعلم.


    ** قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ
    قال بعض النحاة في توجيه قوله تعالى: {ما منعك أن لا تسجد} لا هنا زائدة, وقال بعضهم زيدت لتأكيد الجحد, كقول الشاعر:
    ما إن رأيت ولا سمعت بمثله
    فأدخل «إن» وهي للنفي على ماالنافية لتأكيد النفي, قالوا: وكذا ههنا {ما منعك أن لا تسجد} مع تقدم قوله {لم يكن من الساجدين} حكاهما ابن جرير وردهما, واختار أن منعك مضمن معنى فعل آخر, تقديره ما أحرجك وألزمك واضطرك أن لا تسجد إذ أمرتك ونحو هذا, وهذا القول قوي حسن, والله أعلم. وقول إبليس لعنه الله {أنا خير منه} من العذر الذي هو أكبر من الذنب, كأنه امتنع من الطاعة لأنه لا يؤمر الفاضل بالسجود للمفضول, يعني لعنه الله وأنا خير منه فكيف تأمرني بالسجود له ؟ ثم بين أنه خير منه بأنه خلق من نار, والنار أشرف مما خلقته منه وهو الطين, فنظر اللعين إلى أصل العنصر ولم ينظر إلى التشريف العظيم, وهو أن الله تعالى خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه, وقاس قياساً فاسداً في مقابلة نص قوله تعالى: {فقعوا له ساجدين} فشذ من بين الملائكة لترك السجود فهذا أبلس من الرحمة أي وأيس من الرحمة فأخطأ, قبحه الله في قياسه, ودعواه أن النار أشرف من الطين أيضاً, فإن الطين من شأنه الرزانة والحلم والأناة والتثبت, والطين محل النبات والنمو والزيادة والإصلاح, والنار من شأنها الإحراق والطيش والسرعة, ولهذا خان إبليس عنصره ونفع آدم عنصره بالرجوع والإنابة والاستكانة والانقياد والاستسلام لأمر الله والاعتراف وطلب التوبة والمغفرة.
    وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم» هكذا رواه مسلم, وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن جعفر, حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن مسعود, حدثنا نعيم بن حماد, حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة, قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خلق الله الملائكة من نور العرش وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم» قلت لنعيم بن حماد: أين سمعت هذا من عبد الرزاق ؟ قال: باليمن, وفي بعض ألفاظ هذا الحديث في غير الصحيح «وخلقت الحور العين من الزعفران», وقال ابن جرير: حدثنا القاسم حدثنا الحسين, حدثنا محمد بن كثير عن ابن شوذب عن مطر الوراق عن الحسن في قوله {خلقتني من نار, وخلقته من طين} قال: قاس إبليس وهو أول من قاس, إسناده صحيح, وقال: حدثني عمرو بن مالك, حدثني يحيى بن سليم الطائفي عن هشام عن ابن سيرين, قال: أول من قاس إبليس, وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس إسناد صحيح أيضاً.


    ** قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ * قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنّكَ مِنَ المُنظَرِينَ
    يقول تعالى مخاطباً لإبليس بأمر قدري كوني {فاهبط منها} أي بسبب عصيانك لأمري وخروجك عن طاعتي فما يكون لك أن تتكبر فيها, قال كثير من المفسرين: الضمير عائد إلى الجنة ويحتمل أن يكون عائداً إلى المنزلة التي هو فيها في الملكوت الأعلى {فاخرج إنك من الصاغرين} أي الذليلين الحقيرين, معاملة له بنقيض قصده ومكافأة لمراده بضده, فعند ذلك استدرك اللعين وسأل النظرة إلى يوم الدين, قال {أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين} أجابه تعالى إلى ما سأل, لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع, ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب.


    ** قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمّ لاَتِيَنّهُمْ مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ
    يخبر تعالى أنه لما أنذر إبليس {إلى يوم يبعثون} واستوثق إبليس بذلك, أخذ في المعاندة والتمرد, فقال {فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم} أي كما أغويتني, قال ابن عباس: كما أضللتني, وقال غيره: كما أهلكتني لأقعدن لعبادك الذين تخلقهم من ذرية هذا الذي أبعدتني بسببه على {صراطك المستقيم} أي طريق الحق وسبيل النجاة, لأضلنهم عنها لئلا يعبدوك ولا يوحدوك بسبب إضلالك إياي, وقال بعض النحاة: الباء هنا قسمية كأنه يقول فبإغوائك إياي لأقعدن لهم صراطك المستقيم, قال مجاهد: صراطك المستقيم يعني الحق, وقال محمد بن سوقة عن عون بن عبد الله: يعني طريق مكة, قال ابن جرير: الصحيح أن الصراط المستقيم أعم من ذلك, (قلت) لما روى الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم, حدثنا أبو عقيل يعني الثقفي عبد الله بن عقيل, حدثنا موسى بن المسيب, أخبرني سالم بن أبي الجعد, عن سبرة بن أبي الفاكه, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الشيطان قعد لابن آدم بطرقه فقعد له بطريق الإسلام, فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك قال فعصاه وأسلم» قال «قعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر وتدع أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول, فعصاه وهاجر, ثم قعد له بطريق الجهاد وهو جهاد النفس والمال, فقال تقاتل فتقتل فتُنكَح المرأة ويقسم المال قال فعصاه وجاهد».
    وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك منهم فمات, كان حقاً على الله أن يدخله الجنة, وإن قتل كان حقاً على الله أن يدخله الجنة, وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة أو وقصته دابة كان حقاً على الله أن يدخله الجنة» وقوله {ثم لاَتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم} الاَية, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {ثم لاَتينهم من بين أيديهم} أشككهم في آخرتهم {ومن خلفهم} أرغبهم في دنياهم {وعن أيمانهم} أشبه عليهم أمر دينهم {وعن شمائلهم} أشهي لهم المعاصي, وقال ابن أبي طلحة في رواية العوفي كلاهما عن ابن عباس: أما من بين أيديهم فمن قبل دنياهم, وأما من خلفهم فأمر آخرتهم, وأما عن أيمانهم فمن قبل حسناتهم, وأما عن شمائلهم فمن قبل سيئاتهم, وقال سعيد بن أبي عروبة: عن قتادة, أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار, ومن خلفهم من أمر الدنيا فزينها لهم ودعاهم إليها, وعن أيمانهم من قبل حسناتهم بطأهم عنها, وعن شمائلهم زين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها وأمرهم بها, أتاك يا بن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك, لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله, وكذا روي عن إبراهيم النخعي والحكم بن عتيبة والسدي وابن جريج, إلا أنهم قالوا: من بين أيديهم الدنيا, ومن خلفهم الاَخرة.
    وقال مجاهد: من بين أيديهم وعن أيمانهم من حيث يبصرون, ومن خلفهم وعن شمائلهم حيث لا يبصرون, واختار ابن جرير: أن المراد جميع طرق الخير والشر, فالخير يصدهم عنه والشر يحسنه لهم, وقال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس في قوله {ثم لاَتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم} ولم يقل من فوقهم, لأن الرحمة تنزل من فوقهم, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {ولا تجد أكثرهم شاكرين} قال: موحدين, وقول إبليس هذا إنما هو ظن منه وتوهم, وقد وافق في هذا الواقع, كما قال تعالى: {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين * وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالاَخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ} ولهذا ورد في الحديث الاستعاذة من تسلط الشيطان على الإنسان من جهاته كلها, كما قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا نصر بن علي, حدثنا عمرو بن مجمع, عن يونس بن خباب عن ابن جبير بن مطعم يعني نافع بن جبير, عن ابن عباس, وحدثنا عمر بن الخطاب يعني السجستاني, حدثنا عبيد الله بن جعفر, حدثنا عبد الله بن عمروعن زيد بن أبي أنيسة, عن يونس بن خباب عن ابن جبير بن مطعم, عن ابن عباس, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو «اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي, اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي, وأعوذ بك اللهم أن أغتال من تحتي» تفرد به البزار وحسنه..
    وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا عبادة بن مسلم الفزاري, حدثني جرير بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم, سمعت عبد الله بن عمر يقول: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي «اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والاَخرة, اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي, اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي, اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي, قال وكيع: من تحتي يعني الخسف, ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث عبادة بن مسلم به, وقال الحاكم: صحيح الإسناد.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 9:08

    ** قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ
    قال بعض النحاة في توجيه قوله تعالى: {ما منعك أن لا تسجد} لا هنا زائدة, وقال بعضهم زيدت لتأكيد الجحد, كقول الشاعر:
    ما إن رأيت ولا سمعت بمثله
    فأدخل «إن» وهي للنفي على ماالنافية لتأكيد النفي, قالوا: وكذا ههنا {ما منعك أن لا تسجد} مع تقدم قوله {لم يكن من الساجدين} حكاهما ابن جرير وردهما, واختار أن منعك مضمن معنى فعل آخر, تقديره ما أحرجك وألزمك واضطرك أن لا تسجد إذ أمرتك ونحو هذا, وهذا القول قوي حسن, والله أعلم. وقول إبليس لعنه الله {أنا خير منه} من العذر الذي هو أكبر من الذنب, كأنه امتنع من الطاعة لأنه لا يؤمر الفاضل بالسجود للمفضول, يعني لعنه الله وأنا خير منه فكيف تأمرني بالسجود له ؟ ثم بين أنه خير منه بأنه خلق من نار, والنار أشرف مما خلقته منه وهو الطين, فنظر اللعين إلى أصل العنصر ولم ينظر إلى التشريف العظيم, وهو أن الله تعالى خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه, وقاس قياساً فاسداً في مقابلة نص قوله تعالى: {فقعوا له ساجدين} فشذ من بين الملائكة لترك السجود فهذا أبلس من الرحمة أي وأيس من الرحمة فأخطأ, قبحه الله في قياسه, ودعواه أن النار أشرف من الطين أيضاً, فإن الطين من شأنه الرزانة والحلم والأناة والتثبت, والطين محل النبات والنمو والزيادة والإصلاح, والنار من شأنها الإحراق والطيش والسرعة, ولهذا خان إبليس عنصره ونفع آدم عنصره بالرجوع والإنابة والاستكانة والانقياد والاستسلام لأمر الله والاعتراف وطلب التوبة والمغفرة.
    وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم» هكذا رواه مسلم, وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن جعفر, حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن مسعود, حدثنا نعيم بن حماد, حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة, قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خلق الله الملائكة من نور العرش وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم» قلت لنعيم بن حماد: أين سمعت هذا من عبد الرزاق ؟ قال: باليمن, وفي بعض ألفاظ هذا الحديث في غير الصحيح «وخلقت الحور العين من الزعفران», وقال ابن جرير: حدثنا القاسم حدثنا الحسين, حدثنا محمد بن كثير عن ابن شوذب عن مطر الوراق عن الحسن في قوله {خلقتني من نار, وخلقته من طين} قال: قاس إبليس وهو أول من قاس, إسناده صحيح, وقال: حدثني عمرو بن مالك, حدثني يحيى بن سليم الطائفي عن هشام عن ابن سيرين, قال: أول من قاس إبليس, وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس إسناد صحيح أيضاً.


    ** قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ * قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنّكَ مِنَ المُنظَرِينَ
    يقول تعالى مخاطباً لإبليس بأمر قدري كوني {فاهبط منها} أي بسبب عصيانك لأمري وخروجك عن طاعتي فما يكون لك أن تتكبر فيها, قال كثير من المفسرين: الضمير عائد إلى الجنة ويحتمل أن يكون عائداً إلى المنزلة التي هو فيها في الملكوت الأعلى {فاخرج إنك من الصاغرين} أي الذليلين الحقيرين, معاملة له بنقيض قصده ومكافأة لمراده بضده, فعند ذلك استدرك اللعين وسأل النظرة إلى يوم الدين, قال {أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين} أجابه تعالى إلى ما سأل, لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع, ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب.


    ** قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمّ لاَتِيَنّهُمْ مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ
    يخبر تعالى أنه لما أنذر إبليس {إلى يوم يبعثون} واستوثق إبليس بذلك, أخذ في المعاندة والتمرد, فقال {فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم} أي كما أغويتني, قال ابن عباس: كما أضللتني, وقال غيره: كما أهلكتني لأقعدن لعبادك الذين تخلقهم من ذرية هذا الذي أبعدتني بسببه على {صراطك المستقيم} أي طريق الحق وسبيل النجاة, لأضلنهم عنها لئلا يعبدوك ولا يوحدوك بسبب إضلالك إياي, وقال بعض النحاة: الباء هنا قسمية كأنه يقول فبإغوائك إياي لأقعدن لهم صراطك المستقيم, قال مجاهد: صراطك المستقيم يعني الحق, وقال محمد بن سوقة عن عون بن عبد الله: يعني طريق مكة, قال ابن جرير: الصحيح أن الصراط المستقيم أعم من ذلك, (قلت) لما روى الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم, حدثنا أبو عقيل يعني الثقفي عبد الله بن عقيل, حدثنا موسى بن المسيب, أخبرني سالم بن أبي الجعد, عن سبرة بن أبي الفاكه, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الشيطان قعد لابن آدم بطرقه فقعد له بطريق الإسلام, فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك قال فعصاه وأسلم» قال «قعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر وتدع أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول, فعصاه وهاجر, ثم قعد له بطريق الجهاد وهو جهاد النفس والمال, فقال تقاتل فتقتل فتُنكَح المرأة ويقسم المال قال فعصاه وجاهد».
    وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك منهم فمات, كان حقاً على الله أن يدخله الجنة, وإن قتل كان حقاً على الله أن يدخله الجنة, وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة أو وقصته دابة كان حقاً على الله أن يدخله الجنة» وقوله {ثم لاَتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم} الاَية, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {ثم لاَتينهم من بين أيديهم} أشككهم في آخرتهم {ومن خلفهم} أرغبهم في دنياهم {وعن أيمانهم} أشبه عليهم أمر دينهم {وعن شمائلهم} أشهي لهم المعاصي, وقال ابن أبي طلحة في رواية العوفي كلاهما عن ابن عباس: أما من بين أيديهم فمن قبل دنياهم, وأما من خلفهم فأمر آخرتهم, وأما عن أيمانهم فمن قبل حسناتهم, وأما عن شمائلهم فمن قبل سيئاتهم, وقال سعيد بن أبي عروبة: عن قتادة, أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار, ومن خلفهم من أمر الدنيا فزينها لهم ودعاهم إليها, وعن أيمانهم من قبل حسناتهم بطأهم عنها, وعن شمائلهم زين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها وأمرهم بها, أتاك يا بن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك, لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله, وكذا روي عن إبراهيم النخعي والحكم بن عتيبة والسدي وابن جريج, إلا أنهم قالوا: من بين أيديهم الدنيا, ومن خلفهم الاَخرة.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 9:12

    ** قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ
    قال بعض النحاة في توجيه قوله تعالى: {ما منعك أن لا تسجد} لا هنا زائدة, وقال بعضهم زيدت لتأكيد الجحد, كقول الشاعر:
    ما إن رأيت ولا سمعت بمثله
    فأدخل «إن» وهي للنفي على ماالنافية لتأكيد النفي, قالوا: وكذا ههنا {ما منعك أن لا تسجد} مع تقدم قوله {لم يكن من الساجدين} حكاهما ابن جرير وردهما, واختار أن منعك مضمن معنى فعل آخر, تقديره ما أحرجك وألزمك واضطرك أن لا تسجد إذ أمرتك ونحو هذا, وهذا القول قوي حسن, والله أعلم. وقول إبليس لعنه الله {أنا خير منه} من العذر الذي هو أكبر من الذنب, كأنه امتنع من الطاعة لأنه لا يؤمر الفاضل بالسجود للمفضول, يعني لعنه الله وأنا خير منه فكيف تأمرني بالسجود له ؟ ثم بين أنه خير منه بأنه خلق من نار, والنار أشرف مما خلقته منه وهو الطين, فنظر اللعين إلى أصل العنصر ولم ينظر إلى التشريف العظيم, وهو أن الله تعالى خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه, وقاس قياساً فاسداً في مقابلة نص قوله تعالى: {فقعوا له ساجدين} فشذ من بين الملائكة لترك السجود فهذا أبلس من الرحمة أي وأيس من الرحمة فأخطأ, قبحه الله في قياسه, ودعواه أن النار أشرف من الطين أيضاً, فإن الطين من شأنه الرزانة والحلم والأناة والتثبت, والطين محل النبات والنمو والزيادة والإصلاح, والنار من شأنها الإحراق والطيش والسرعة, ولهذا خان إبليس عنصره ونفع آدم عنصره بالرجوع والإنابة والاستكانة والانقياد والاستسلام لأمر الله والاعتراف وطلب التوبة والمغفرة.
    وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم» هكذا رواه مسلم, وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن جعفر, حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن مسعود, حدثنا نعيم بن حماد, حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة, قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خلق الله الملائكة من نور العرش وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم» قلت لنعيم بن حماد: أين سمعت هذا من عبد الرزاق ؟ قال: باليمن, وفي بعض ألفاظ هذا الحديث في غير الصحيح «وخلقت الحور العين من الزعفران», وقال ابن جرير: حدثنا القاسم حدثنا الحسين, حدثنا محمد بن كثير عن ابن شوذب عن مطر الوراق عن الحسن في قوله {خلقتني من نار, وخلقته من طين} قال: قاس إبليس وهو أول من قاس, إسناده صحيح, وقال: حدثني عمرو بن مالك, حدثني يحيى بن سليم الطائفي عن هشام عن ابن سيرين, قال: أول من قاس إبليس, وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس إسناد صحيح أيضاً.


    ** قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ * قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنّكَ مِنَ المُنظَرِينَ
    يقول تعالى مخاطباً لإبليس بأمر قدري كوني {فاهبط منها} أي بسبب عصيانك لأمري وخروجك عن طاعتي فما يكون لك أن تتكبر فيها, قال كثير من المفسرين: الضمير عائد إلى الجنة ويحتمل أن يكون عائداً إلى المنزلة التي هو فيها في الملكوت الأعلى {فاخرج إنك من الصاغرين} أي الذليلين الحقيرين, معاملة له بنقيض قصده ومكافأة لمراده بضده, فعند ذلك استدرك اللعين وسأل النظرة إلى يوم الدين, قال {أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين} أجابه تعالى إلى ما سأل, لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع, ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب.


    ** قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمّ لاَتِيَنّهُمْ مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ
    يخبر تعالى أنه لما أنذر إبليس {إلى يوم يبعثون} واستوثق إبليس بذلك, أخذ في المعاندة والتمرد, فقال {فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم} أي كما أغويتني, قال ابن عباس: كما أضللتني, وقال غيره: كما أهلكتني لأقعدن لعبادك الذين تخلقهم من ذرية هذا الذي أبعدتني بسببه على {صراطك المستقيم} أي طريق الحق وسبيل النجاة, لأضلنهم عنها لئلا يعبدوك ولا يوحدوك بسبب إضلالك إياي, وقال بعض النحاة: الباء هنا قسمية كأنه يقول فبإغوائك إياي لأقعدن لهم صراطك المستقيم, قال مجاهد: صراطك المستقيم يعني الحق, وقال محمد بن سوقة عن عون بن عبد الله: يعني طريق مكة, قال ابن جرير: الصحيح أن الصراط المستقيم أعم من ذلك, (قلت) لما روى الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم, حدثنا أبو عقيل يعني الثقفي عبد الله بن عقيل, حدثنا موسى بن المسيب, أخبرني سالم بن أبي الجعد, عن سبرة بن أبي الفاكه, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الشيطان قعد لابن آدم بطرقه فقعد له بطريق الإسلام, فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك قال فعصاه وأسلم» قال «قعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر وتدع أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول, فعصاه وهاجر, ثم قعد له بطريق الجهاد وهو جهاد النفس والمال, فقال تقاتل فتقتل فتُنكَح المرأة ويقسم المال قال فعصاه وجاهد».
    وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك منهم فمات, كان حقاً على الله أن يدخله الجنة, وإن قتل كان حقاً على الله أن يدخله الجنة, وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة أو وقصته دابة كان حقاً على الله أن يدخله الجنة» وقوله {ثم لاَتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم} الاَية, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {ثم لاَتينهم من بين أيديهم} أشككهم في آخرتهم {ومن خلفهم} أرغبهم في دنياهم {وعن أيمانهم} أشبه عليهم أمر دينهم {وعن شمائلهم} أشهي لهم المعاصي, وقال ابن أبي طلحة في رواية العوفي كلاهما عن ابن عباس: أما من بين أيديهم فمن قبل دنياهم, وأما من خلفهم فأمر آخرتهم, وأما عن أيمانهم فمن قبل حسناتهم, وأما عن شمائلهم فمن قبل سيئاتهم, وقال سعيد بن أبي عروبة: عن قتادة, أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار, ومن خلفهم من أمر الدنيا فزينها لهم ودعاهم إليها, وعن أيمانهم من قبل حسناتهم بطأهم عنها, وعن شمائلهم زين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها وأمرهم بها, أتاك يا بن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك, لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله, وكذا روي عن إبراهيم النخعي والحكم بن عتيبة والسدي وابن جريج, إلا أنهم قالوا: من بين أيديهم الدنيا, ومن خلفهم الاَخرة.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 9:16

    ** فَدَلاّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمّا ذَاقَا الشّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنّةِ وَنَادَاهُمَا رَبّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشّجَرَةِ وَأَقُل لّكُمَآ إِنّ الشّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌ مّبِينٌ * قَالاَ رَبّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ
    قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب رضي الله عنه, قال: كان آدم رجلاً طوالاً كأنه نخلة سحوق, كثير شعر الرأس, فلما وقع فيما وقع به من الخطيئة, بدت له عورته عند ذلك وكان لا يراها, فانطلق هارباً في الجنة فتعلقت برأسه شجرة من شجر الجنة, فقال لها: أرسليني. فقالت: إني غير مرسلتك, فناداه ربه عز وجل: يا آدم أمني تفر؟ قال يا رب إني استحييتك, وقد رواه ابن جرير وابن مردويه من طرق, عن الحسن عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً, والموقوف أصح إسناداً. وقال عبد الرزاق: عن سفيان بن عيينة وابن المبارك, عن الحسن بن عمارة, عن المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: كانت الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته السنبلة, فلما أكلا منها بدت لهما سوآتهما, وكان الذي وارى عنهما من سوآتهما أظفارهما, وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة, ورق التين يلزقان بعضه إلى بعض, فانطلق آدم عليه السلام مولياً في الجنة, فعلقت برأسه شجرة من الجنة, فناداه الله يا آدم أمني تفر؟ قال لا ولكني استحييتك يا رب, قال: أما كان لك فيما منحتك من الجنة وأبحتك منها مندوحة عما حرمت عليك, قال: بلى يا رب ولكن وعزتك ما حسبت أن أحداً يحلف بك كاذباً, قال: وهو قول الله عز وجل {وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين} قال: فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كداً, قال: فأهبط من الجنة وكانا يأكلان منها رغداً, فأهبط إلى غير رغد من طعام وشراب, فعلم صنعة الحديد وأمر بالحرث فحرث وزرع ثم سقى حتى إذا بلغ حصد, ثم داسه ثم ذرّاه ثم طحنه ثم عجنه ثم خبزه ثم أكله, فلم يبلغه حتى بلغ منه ما شاء الله أن يبلغ.
    وقال الثوري: عن ابن أبي ليلى عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} قال: ورق التين. صحيح إليه. وقال مجاهد: جعلا يخصفان عليهما من ورق الجنة, قال: كهيئة الثوب, وقال وهب بن منبه في قوله ينزع عنهما لباسهما, قال: كان لباس آدم وحواء نوراً على فروجهما لا يرى هذا عورة هذه ولا هذه عورة هذا, فلما أكلا من الشجرة بدت لهما سوآتهما, رواه ابن جرير بسند صحيح إليه, وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة, قال: قال آدم أي رب أرأيت إن تبت واستغفرت, قال: إذاً أدخلك الجنة, وأما إبليس فلم يسأله التوبة وسأله النظرة, فأعطى كل واحد منهما الذي سأله, وقال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثنا عباد بن العوام, عن سفيان بن الحسين عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, قال: لما أكل آدم من الشجرة, قيل له: لم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟ قال: حواء أمرتني, قال: فإني قد أعقبتها أن لا تحمل إلا كرهاً ولا تضع إلا كرهاً, قال: فرنت عند ذلك حواء, فقيل لها الرنة عليك وعلى ولدك, وقال الضحاك بن مزاحم في قوله {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه.


    ** قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرّ وَمَتَاعٌ إِلَىَ حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ
    قيل المراد بالخطاب في {اهبطوا} آدم وحواء وإبليس والحية, ومنهم من لم يذكر الحية, والله أعلم, والعمدة في العداوة آدم وإبليس, ولهذا قال تعالى في سورة طه قال {اهبطا منها جميعاً} الاَية, وحواء تبع لاَدم, والحية إن كان ذكرها صحيحاً فهي تبع لإبليس, وقد ذكر المفسرون الأماكن التي هبط فيها كل منهم ويرجع حاصل تلك الأخبار إلى الإسرائيليات, والله أعلم بصحتها, ولو كان في تعيين تلك البقاع فائدة تعود على المكلفين في أمر دينهم أو دنياهم, لذكرها الله تعالى في كتابه أو رسوله صلى الله عليه وسلم, وقوله {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} أي قرار وأعمار مضروبة إلى آجال معلومة, قد جرى بها القلم وأحصاها القدر وسطرت في الكتاب الأول, وقال ابن عباس {مستقر} القبور, وعنه قال {مستقر} فوق الأرض وتحتها, رواهما ابن أبي حاتم, وقوله {قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون} كقوله تعالى: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} يخبر تعالى, أنه جعل الأرض داراً لبني آدم مدة الحياة الدنيا, فيها محياهم وفيها مماتهم وقبورهم ومنها نشورهم ليوم القيامة, الذي يجمع الله فيه الأولين والاَخرين ويجازي كلاً بعمله.


    ** يَابَنِيَ آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ
    يمتن تعالى على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش, فاللباس ستر العورات وهي السوآت, والرياش والريش ما يتجمل به ظاهراً, فالأول من الضروريات والريش من التكملات والزيادات, قال ابن جرير: الرياش في كلام العرب الأثاث وما ظهر من الثياب, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وحكاه البخاري عنه: الرياش المال وهكذا قال مجاهد وعروة بن الزبير والسدي والضحاك وغير واحد, وقال العوفي عن ابن عباس: الريش اللباس والعيش والنعيم, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الرياش الجمال, وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون, حدثنا أصبع عن أبي العلاء الشامي, قال: لبس أبو أمامة ثوباً جديداً فلما بلغ ترقوته قال: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي, ثم قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من استجد ثوباً فلبسه فقال حين يبلغ ترقوته: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي, ثم عمد إلى الثوب الخلق فتصدق به كان في ذمة الله وفي جوار الله وفي كنف الله حياً وميتاً» ورواه الترمذي وابن ماجه من رواية يزيد بن هارون عن أصبع هو ابن زيد الجهني, وقد وثقه يحيى بن معين وغيره, وشيخه أبو العلاء الشامي لا يعرف إلا بهذا الحديث, ولكن لم يخرجه أحد, والله أعلم.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 9:22

    ** وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقاً هَدَىَ وَفَرِيقاً حَقّ عَلَيْهِمُ الضّلاَلَةُ إِنّهُمُ اتّخَذُوا الشّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنّهُم مّهْتَدُونَ
    قال مجاهد: كان المشركون يطوفون بالبيت عراة يقولون نطوف كما ولدتنا أمهاتنا فتضع المرأة على قبلها النسعة أو الشيء وتقول:
    اليوم يبدو بعضه أو كلهوما بدا منه فلا أحله
    فأنزل الله {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} الاَية, قلت: كانت العرب ما عدا قريشاً لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها, وكانت قريش وهم الحمس يطوفون في ثيابهم, ومن أعاره أحمسي ثوباً طاف فيه, ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه فلا يتملكه أحد, ومن لم يجد ثوباً جديداً, ولا أعاره أحمسي ثوباً طاف عرياناً, وربما كانت امرأة فتطوف عريانة فتجعل على فرجها شيئاً ليستره بعض الستر فتقول:
    اليوم يبدو بعضه أو كلهوما بدا منه فلا أحله
    وأكثر ما كان النساء يطفن عراة بالليل, وكان هذا شيئاً قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم واتبعوا فيه آباءهم, ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع, فأنكر الله تعالى عليهم ذلك, فقال {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} فقال تعالى رداً عليهم {قل} أي يا محمد لمن ادعى ذلك {إن الله لا يأمر بالفحشاء} أي هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة, والله لا يأمر بمثل ذلك {أتقولون على الله مالا تعلمون} أي أتسندون إلى الله من الأقوال مالا تعلمون صحته, وقوله تعالى: {قل أمر ربي بالقسط} أي بالعدل والاستقامة {وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} أي أمركم بالاستقامة في عبادته في محالها وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات, فيما أخبروا به عن الله وما جاؤوا به من الشرائع وبالإخلاص له في عبادته, فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين, أن يكون صواباً موافقاً للشريعة وأن يكون خالصاً من الشرك.
    وقوله تعالى: {كما بدأكم تعودون} إلى قوله {الضلالة} اختلف في معنى قوله {كما بدأكم تعودون} فقال ابن أبي نجيح: عن مجاهد {كما بدأكم تعودون} يحييكم بعد موتكم, وقال الحسن البصري: كما بدأكم في الدنيا كذلك تعودون يوم القيامة أحياء, وقال قتادة {كما بدأكم تعودون} قال: بدأ فخلقهم ولم يكونوا شيئاً ثم ذهبوا ثم يعيدهم, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كما بدأكم أولاً كذلك يعيدكم آخراً, واختار هذا القول أبو جعفر بن جرير, وأيده بما رواه من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج كلاهما عن المغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال «يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين» وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث شعبة, وفي صحيح البخاري أيضاً من حديث الثوري به, وقال ورقاء بن إياس أبو يزيد عن مجاهد {كما بدأكم تعودون} قال يبعث المسلم مسلماً والكافر كافراً وقال أبو العالية {كما بدأكم تعودون} ردّوا إلى علمه فيهم وقال سعيد بن جبير كما بدأكم تعودون كما كتب عليكم تكونون, وفي رواية كما كنتم عليه تكونون, وقال محمد بن كعب القرظي: في قوله تعالى: {كما بدأكم تعودون} من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إلى ما ابتدىء عليه خلقه وإن عمل بأعمال أهل السعادة, ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إلى ما ابتدىء خلقه عليه وإن عمل بأعمال أهل الشقاء, كما أن السحرة عملوا بأعمال أهل الشقاء ثم صاروا إلى ما ابتدؤوا عليه, وقال السدي {كما بدأكم} تعودون فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة} يقول {كما بدأكم تعودون} كما خلقناكم فريق مهتدون وفريق ضلال, كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتكم.
    وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قوله {كما بدأكم تعودون فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة} قال: إن الله تعالى بدأ خلق ابن آدم مؤمناً وكافراً, كما قال {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأهم مؤمناً وكافراً: قلت: ويتأيد هذا القول بحديث ابن مسعود في صحيح البخاري «فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع, فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها, وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب, فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة». وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا علي بن الجعد, حدثنا أبو غسان عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن العبد ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل الجنة وإنه من أهل النار, وإنه ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل النار وإنه من أهل الجنة وإنما الأعمال بالخواتيم» هذا قطعة من حديث البخاري من حديث أبي غسان محمد بن مطرف المدني في قصة قزمان يوم أحد, وقال ابن جرير: حدثني ابن بشار حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «تبعث كل نفس على ما كانت عليه» وهذا الحديث رواه مسلم وابن ماجه من غير وجه, عن الأعمش به, ولفظه «يبعث كل عبد على ما مات عليه» وعن ابن عباس مثله, قلت: ويتأيد بحديث ابن مسعود, قلت: ولا بد من الجمع بين هذا القول إن كان هو المراد من الاَية, وبين قوله تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها} وما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل مولود يولد على الفطرة, فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه».
    وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى «إني خلقت عبادي حنفاء, فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم» الحديث, ووجه الجمع على هذا, أنه تعالى خلقهم ليكون منهم مؤمن وكافر في ثاني الحال, وإن كان قد فطر الخلق كلهم على معرفته وتوحيده والعلم بأنه لا إله غيره, كما أخذ عليهم الميثاق بذلك وجعله في غرائزهم وفطرهم ومع هذا قدر أن منهم شقياً ومنهم سعيداً {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} وفي الحديث «كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» وقدر الله نافذ في بريته, فإنه هو {الذي قدر فهدى} و {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} وفي الصحيحين «فأما من كان منكم من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة, وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة» ولهذا قال تعالى: {فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة} ثم علل ذلك فقال {إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله} الاَية, قال ابن جرير: وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحداً على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها, إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها فيركبها عناداً منه لربه فيها, لأنه لو كان كذلك لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه مهتد, وفريق الهدى فرق, وقد فرق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الاَية.


    ** يَابَنِيَ آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُوَاْ إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْمُسْرِفِينَ
    هذه الاَية الكريمة رد على المشركين فيما كانوا يعتمدونه, من الطواف بالبيت عراة كما رواه مسلم والنسائي وابن جرير, واللفظ له من حديث شعبة عن سلمة بن كهيل عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء, الرجال بالنهار والنساء بالليل, وكانت المرأة تقول:
    اليوم يبدو بعضه أو كلهوما بدا منه فلا أحله
    فقال الله تعالى {خذوا زينتكم عند كل مسجد} وقال العوفي: عن ابن عباس في قوله {خذوا زينتكم عند كل مسجد} الاَية, قال: كان رجال يطوفون بالبيت عراة فأمرهم الله بالزينة, والزينة اللباس وهو ما يواري السوأة وما سوى ذلك من جيد البز والمتاع, فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد, وهكذا قال مجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وقتادة والسدي والضحاك ومالك, عن الزهري وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها أنها نزلت في طواف المشركين بالبيت عراة, وقد روى الحافظ بن مردويه من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي, عن قتادة, عن أنس مرفوعاً, أنها نزلت في الصلاة في النعال, ولكن في صحته نظر, والله أعلم, ولهذه الاَية وما ورد في معناها من السنة يستحب التجمل عند الصلاة, ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد, والطيب لأنه من الزينة والسواك لأنه من تمام ذلك.
    ومن أفضل اللباس البياض كما قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عاصم, حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم, عن سعيد بن جبير وصححه عن ابن عباس مرفوعاً, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم, وكفنوا فيها موتاكم وإن خير أكحالكم الإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر» هذا حديث جيد الإسناد, رجاله على شرط مسلم ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم به, وقال الترمذي: حسن صحيح, وللإمام أحمد أيضاً وأهل السنن بإسناد جيد عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «عليكم بثياب البياض فالبسوها فإنها أطهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم» وروى الطبراني بسند صحيح عن قتادة عن محمد بن سيرين: أن تميماً الداري اشترى رداء بألف وكان يصلي فيه, وقوله تعالى {وكلوا واشربوا} الاَية, قال بعض السلف جمع الله الطب كله في نصف آية {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} وقال البخاري قال ابن عباس: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة, وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى, حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: أحل الله الأكل والشرب مالم يكن سرفاً أو مخيلة, إسناده صحيح, وقال الإمام أحمد: حدثنا بهز, حدثنا همام عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف, فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده» ورواه النسائي وابن ماجه من حديث قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة» وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة, حدثنا سليمان بن سليم الكلبي, حدثنا يحيى بن جابر الطائي سمعت المقدام بن معديكرب الكندي, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان فاعلاً لا محالة, فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه» ورواه النسائي والترمذي من طرق عن يحيى بن جابر به, وقال الترمذي: حسن وفي نسخة حسن صحيح.
    وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا سويد بن عبد العزيز, حدثنا بقية عن يوسف بن أبي كثير عن نوح بن ذكوان عن الحسن عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت» ورواه الدارقطني في الأفراد, وقال: هذا حديث غريب تفرد به بقية, وقال السدي: كان الذين يطوفون بالبيت عراة يحرمون عليهم الودك ما أقاموا في الموسم, فقال الله تعالى لهم: {كلوا واشربوا} الاَية, يقول لا تسرفوا في التحريم, وقال مجاهد: أمرهم أن يأكلوا ويشربوا مما رزقهم الله, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم {ولا تسرفوا} يقول: ولا تأكلوا حراماً ذلك الإسراف, وقال عطاء الخراساني: عن ابن عباس قوله {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} في الطعام والشراب, وقال ابن جرير: وقوله {إنه لا يحب المسرفين} يقول الله تعالى: إن الله لا يحب المتعدين حده في حلال أو حرام الغالين فيما أحل بإحلال الحرام أو بتحريم الحلال, ولكنه يحب أن يحلل ما أحل ويحرم ما حرم وذلك العدل الذي أمر به.

    يتبع


    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 9:29

    ** قَالَ ادْخُلُواْ فِيَ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ مّن الْجِنّ وَالإِنْسِ فِي النّارِ كُلّمَا دَخَلَتْ أُمّةٌ لّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتّىَ إِذَا ادّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لاُولاَهُمْ رَبّنَا هَـَؤُلآءِ أَضَلّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مّنَ النّارِ قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ وَلَـَكِن لاّ تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لاُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ
    يقول تعالى مخبراً عما يقوله لهؤلاء المشركين به, المفترين عليه المكذبين بآياته {ادخلوا في أمم} أي من أمثالكم وعلى صفاتكم {قد خلت من قبلكم} أي من الأمم السالفة الكافرة {من الجن والإنس في النار} يحتمل أن يكون بدلاً من قوله في أمم ويحتمل أن يكون في أمم أي مع أمم, وقوله {كلما دخلت أمة لعنت أختها} كما قال الخليل عليه السلام {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض} الاَية, وقوله تعالى: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار} وقوله {حتى إذا اداركوا فيها جميعاً} أي اجتمعوا فيها كلهم {قالت أخراهم لأولاهم} أي أخراهم دخولاً, وهم الأتباع لأولاهم وهم المتبوعون, لأنهم أشد جرماً من أتباعهم فدخلوا قبلهم فيشكوهم الأتباع إلى الله يوم القيامة لأنهم هم الذين أضلوهم عن سواء السبيل فيقولون {ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار} أي أضعف عليهم العقوبة كما قال تعالى: {يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب} الاَية, وقوله {قال لكل ضعف} أي قد فعلنا ذلك وجازينا كلاً بحسبه, كقوله {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً} الاَية.
    وقوله {وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم} وقوله {ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} الاَية, {وقالت أولاهم لأخراهم} أي قال المتبوعون للأتباع {فما كان لكم علينا من فضل} قال السدي: فقد ضللتم كما ضللنا {فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون} وهذه الحال كما أخبر الله تعالى عنهم في حال محشرهم في قوله تعالى: {ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين * قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين * وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلاّ ما كانوا يعملون}.


    ** إِنّ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السّمَآءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ حَتّىَ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مّن جَهَنّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ
    قوله {لا تفتح لهم أبواب السماء} قيل المراد لا يرفع لهم منها عمل صالح ولا دعاء, قاله مجاهد وسعيد بن جبير ورواه العوفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس, وكذا رواه الثوري عن ليث عن عطاء عن ابن عباس, وقيل المراد لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء, رواه الضحاك عن ابن عباس, وقاله السدي وغير واحد, ويؤيده ما قاله ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن المنهال هو ابن عمرو, عن زاذان عن البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح االفاجر, وأنه يصعد بها إلى السماء فيصعدون بها, فلا تمر على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة ؟ فيقولون فلان بأقبح أسمائه التي كان يدعى بها في الدنيا, حتى ينتهوا بها إلى السماء فيستفتحون بابها له فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا تفتح لهم أبواب السماء} الاَية, هكذا رواه وهو قطعة من حديث طويل رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من طرق عن المنهال بن عمرو به.
    وقد رواه الإمام أحمد بطوله فقال: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن المنهال بن عمرو, عن زاذان عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد, فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت به في الأرض, فرفع رأسه فقال «استعيذوا بالله من عذاب القبر ـ مرتين أو ثلاثة ثم قال ـ إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الاَخرة, نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مدّ البصر, ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ـ قال ـ فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة ؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا, فيستفتحون له فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة, فيقول الله عز وجل اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى.
    قال: فتعاد روحه فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك ؟ فيقول: ربي الله, فيقولان له: ما دينك ؟ فيقول: ديني الإسلام, فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول: هو رسول اللهصلى الله عليه وسلم, فيقولان له: وما عملك ؟ فيقول قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت, فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها, ويفسح له في قبره مد البصر ـ قال ـ ويأتيه رجل حسن الوجه وحسن الثياب طيب الريح, فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول له: من أنت فوجهك الوجه يجيء بالخير ؟ فيقول: أنا عملك الصالح فيقول: رب أقم الساعة رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي ـ قال. وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الاَخرة, نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر, ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب, قال: فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض, فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح فلا يفتح له ـ ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ {لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى, فتطرح روحه طرحاً ـ ثم قرأ ـ {ومن يشرك بالله فكأنما خرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان: ما دينك ؟ فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول: هاه هاه لا أدري فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له باباً إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول من أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر ؟ فيقول: أنا عملك الخبيث فيقول رب لا تقم الساعة».
    وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن يونس بن خباب عن المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة فذكر نحوه وفيه حتى إذا خرج روحه صلى عليه كل ملك السماء والأرض وكل ملك في السماء, وفتحت له أبواب السماء ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله عز وجل أن يعرج بروحه من قبلهم, وفي آخره ثم يقيض له أعمى أصم أبكم في يده مرزبة لو ضرب بها جبل كان تراباً فيضربه ضربة فيصير تراباً ثم يعيده الله عز وجل كما كان فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين, قال البراء: ثم يفتح له باب من النار ويمهد له فرش من النار, وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه وابن جرير واللفظ له من حديث محمد بن عمرو بن عطاء, عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل الصالح قالوا: اخرجي أيتها النفس المطمئنة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان, فيقولون ذلك حتى يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال من هذا ؟ فيقولون فلان فيقال مرحباً بالنفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب أدخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان, فيقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل, وإذا كان الرجل السوء قالوا اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج, فيقولون ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء, فيستفتح لها فيقال من هذا ؟ فيقولون فلان فيقولون لا مرحباً بالنفس الخبيثة التي كانت في الجسد الخبيث ارجعي ذميمة فإنه لم يفتح لك أبواب السماء فترسل بين السماء والأرض فتصير إلى القبر».

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 9:32

    ** وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ غِلّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ للّهِ الّذِي هَدَانَا لِهَـَذَا وَمَا كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلآ أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبّنَا بِالْحَقّ وَنُودُوَاْ أَن تِلْكُمُ الْجَنّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
    لما ذكر تعالى حال الأشقياء عطف بذكر حال السعداء فقال {والذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي آمنت قلوبهم وعملوا الصالحات بجوارحهم ضد أولئك الذين كفروا بآيات الله واستكبروا عنها, وينبه تعالى على أنه الإيمان والعمل به سهل لأنه تعالى قال {لا نكلف نفساً إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون * ونزعنا ما في صدورهم من غل} أي من حسد وبغض كما جاء في صحيح البخاري من حديث قتادة عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فو الذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أدل منه بمسكنه كان في الدنيا» وقال السدي في قوله {ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار} الاَية, إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فشربوا من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلم يشعثوا ولم يشحبوا بعدها أبداً, وقد روى أبو إسحاق عن عاصم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب نحواً من هذا كما سيأتي في قوله تعالى: {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً} إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان.
    وقال قتادة: قال علي رضي الله عنه إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم: {ونزعنا ما في صدورهم من غل} رواه ابن جرير: وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن عيينة عن إسرائيل قال سمعت الحسن يقول قال علي: فينا والله أهل بدر نزلت {ونزعنا ما في صدورهم من غل} وروى النسائي وابن مردويه واللفظ له من حديث أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قالرسول الله صلى الله عليه وسلم كل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول لولا أن الله هداني فيكون له شكراً وكل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول لو أن الله هداني فيكون له حسرة» ولهذا لما أورثوا مقاعد أهل النار من الجنة نودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون, أي بسبب أعمالكم نالتكم الرحمة فدخلتم الجنة وتبوأتم منازلكم بحسب أعمالكم. وإنما وجب الحمل على هذا لما ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «واعلموا أن أحدكم لن يدخله عمله الجنة» قالوا ولا أنت يا رسول الله قال «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل».


    ** وَنَادَىَ أَصْحَابُ الْجَنّةِ أَصْحَابَ النّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتّم مّا وَعَدَ رَبّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ * الّذِينَ يَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالاَخِرَةِ كَافِرُونَ
    يخبر تعالى بما يخاطب به أهل النار على وجه التقريع والتوبيخ إذا استقروا في منازلهم {أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً} أن ههنا مفسرة للقول المحذوف وقد للتحقيق أي قالوا لهم {قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً قالوا نعم} كما أخبر تعالى في سورة الصافات عن الذي كان له قرين من الكفار {فاطلع فرآه في سواء الجحيم * قال تالله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين * أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين} أي: ينكر عليه مقالته التي يقولها في الدنيا ويقرعه بما صارإليه من العذاب والنكال وكذلك تقرعهم الملائكة يقولون لهم: {هذه النار التي كنتم بها تكذبون * أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون * اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون} وكذلك قرّع رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلى القليب يوم بدر فنادى «يا أبا جهل بن هشام ويا عتبة بن ربيعة ويا شيبة بن ربيعة ـ وسمى رؤوسهم ـ هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً, وقال عمر: يا رسول الله تخاطب قوماً قد جيفوا ؟ فقال «والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا».
    وقوله تعالى: {فأذن مؤذن بينهم} أي أعلم معلم ونادى مناد {أن لعنة الله على الظالمين} أي مستقرة عليهم ثم وصفهم بقوله {الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً} أي يصدون الناس عن اتباع سبيل الله وشرعه وما جاءت به الأنبياء ويبغون أن تكون السبيل معوجة غير مستقيمة حتى لا يتبعها أحد {وهم بالاَخرة كافرون} أي وهم بلقاء الله في الدار الاَخرة كافرون أي جاحدون مكذبون بذلك لا يصدقونه ولا يؤمنون به فلهذا لا يبالون بما يأتون من منكر من القول والعمل لأنهم لا يخافون حساباً عليه ولا عقاباً فهم شر الناس أقوالاً وأعمالاً.


    ** وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النّارِ قَالُواْ رَبّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ
    لما ذكر تعالى مخاطبة أهل الجنة مع أهل النار نبه أن بين الجنة والنار حجاباً وهو الحاجز المانع من وصول أهل النار إلى الجنة, قال ابن جرير: وهو السور الذي قال الله تعالى فيه: {فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب} وهو الأعراف. الذي قال الله تعالى فيه: {وعلى الأعراف رجال} ثم روى بإسناده عن السدي أنه قال في قوله تعالى: {وبينهما حجاب} وهو السور وهو الأعراف وقال مجاهد الأعراف حجاب بين الجنة والنار سور له باب , قال ابن جرير: والأعراف جمع عُرْف وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى عرفاً, وإنما قيل لعرف الديك عرفاً لارتفاعه.
    وحدثنا سفيان بن وكيع, حدثنا ابن عيينة عن عُبيد الله بن أبي يزيد, سمع ابن عباس يقول: الأعراف هو الشيء المشرف. وقال الثوري عن جابر عن مجاهد عن ابن عباس قال: الأعراف سور كعرف الديك. وفي رواية عن ابن عباس: الأعراف جمع تل بين الجنة والنار حبس عليه ناس من أهل الذنوب بين الجنة والنار, وفي رواية عنه هو سور بين الجنة والنار. وكذا قال الضحاك وغير واحد من علماء التفسير. وقال السدي: إنما سمي الأعراف أعرافاً لأن أصحابه يعرفون الناس, واختلفت عبارات المفسرين في أصحاب الأعراف من هم ؟ وكلها قريبة ترجع إلى معنى واحد وهو أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم, نص عليه حذيفة وابن عباس وابن مسعود وغير واحد من السلف والخلف رحمهم الله, وقد جاء في حديث مرفوع رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الله بن إسماعيل حدثنا عبيد بن الحسين حدثنا سليمان بن داود حدثنا النعمان بن عبد السلام حدثنا شيخ لنا يقال له أبو عباد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن استوت حسناته وسيئاته فقال «أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون» وهذا حديث غريب من هذا الوجه.
    ورواه من وجه آخر عن سعيد بن سلمة عن أبي الحسام عن محمد بن المنكدر عن رجل من مزينة قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن استوت حسناته وسيئاته فقال «إنهم قوم خرجوا عصاة بغير إذن آبائهم فقتلوا في سبيل الله» وقال سعيد بن منصور: حدثنا أبو معشر حدثنا يحيى بن شبل عن يحيى بن عبد الرحمن المزني عن أبيه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف قال «هم ناس قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم فمنعهم من دخول الجنة معصية آبائهم ومنعهم من النار قتلهم في سبيل الله» ورواه ابن مردويه وابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن أبي معشر به, وكذا رواه ابن ماجه مرفوعاً من حديث أبي سعيد الخدري وابن عباس, والله أعلم بصحة هذه الأخبار المرفوعة, وقصاراها أن تكون موقوفة وفيه دلالة على ما ذكر. وقال ابن جرير حدثني يعقوب حدثنا هشيم أخبرنا حصين عن الشعبي عن حذيفة أنه سئل عن أصحاب الأعراف قال فقال: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة وخلفت بهم حسناتهم عن النار, قال فوقفوا هناك على السور حتى يقضي الله فيهم, وقد رواه من وجه آخر أبسط من هذا فقال حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح حدثنا يونس بن أبي إسحاق قال: قال الشعبي أرسل إليّ عبد الحميد بن عبد الرحمن وعنده أبو الزناد عبد الله ابن ذكوان مولى قريش فإذا هما قد ذكرا من أصحاب الأعراف ذكراً ليس كما ذكرا فقلت لهما: إن شئتما أنبأتكما بما ذكر حذيفة فقالا هات فقلت إن حذيفة ذكر أصحاب الأعراف فقال: هم تجاوزت بهم حسناتهم النار وقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة {وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين} فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم ربك فقال لهم اذهبوا فادخوا الجنة فإني قد غفرت لكم.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 9:37

    ** وَنَادَىَ أَصْحَابُ الأعْرَافِ رِجَالاٍ يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أَغْنَىَ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَـَؤُلآءِ الّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ
    يقول الله تعالى إخباراً عن تقريع أهل الأعراف لرجال من صناديد المشركين وقادتهم يعرفونهم في النار بسيماهم {ما أغنى عنكم جمعكم} أي كثرتكم {وما كنتم تستكبرون} أي لا ينفعكم كثرتكم ولا جموعكم من عذاب الله بل صرتم إلى ما أنتم فيه من العذاب والنكال {أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعني أصحاب الأعراف {ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون} وقال ابن جرير: حدثني محمد بن سعد حدثني أبي حدثني عمي حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس {قالوا ما أغنى عنكم جمعكم} الاَية, قال فلما قالوا لهم الذي قضى الله أن يقولوا يعني أصحاب الأعراف لأهل الجنة وأهل النار قال الله لأهل التكبر والأموال {أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون}.
    وقال حذيفة إن أصحاب الأعراف قوم تكاثفت أعمالهم فقصرت بهم حسناتهم عن الجنة وقصرت بهم سيئاتهم عن النار فجعلوا على الأعراف يعرفون الناس بسيماهم فلما قضى الله بين العباد أذن لهم في طلب الشفاعة فأتوا آدم فقالوا: يا آدم أنت أبونا فاشفع لنا عند ربك فقال هل تعلمون أن أحداً خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وسبقت رحمته إليه غضبه وسجدت له الملائكة غيري ؟ فيقولون لا فيقول ما علمت كنهه ما أستطيع أن أشفع لكم ولكن ائتوا ابني إبراهيم فيأتون إبراهيم صلى الله عليه وسلم فيسألونه أن يشفع لهم عند ربهم فيقول تعلمون من أحد اتخذه الله خليلاً هل تعلمون أن أحداً أحرقه قومه بالنار في الله غيري ؟ فيقولون لا فيقول ما علمت كنهه ما أستطيع أن أشفع لكم ولكن ائتوا ابني موسى فيأتون موسى عليه السلام فيقول هل تعلمون من أحد كلمه الله تكليماً وقربه نجياً غيري فيقولون لا فيقول ما علمت كنهه ما أستطيع أن أشفع لكم ولكن ائتوا عيسى فيأتونه عليه السلام فيقولون له اشفع لنا عند ربك فيقول هل تعلمون أحداً خلقه الله من غير أب فيقولون لا فيقول هل تعلمون من أحد كان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله غيري ؟ قال: فيقولون لا, فيقول: أنا حجيج نفسي ما علمت كنهه ما أستطيع أن أشفع لكم ولكن ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فيأتوني فأضرب بيدي على صدري ثم أقول أنا لها ثم أمشي حتى أقف بين يدي العرش فآتي ربي عز وجل فيفتح لي من الثناء ما لم يسمع السامعون بمثله قط ثم أسجد فيقال لي يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي ثم أثني على ربي عز وجل ثم أخر ساجداً فيقال لي ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول ربي أمتي فيقول هم لك فلا يبقى نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا غبطني بذلك المقام وهو المقام المحمود فآتي بهم الجنة فأستفتح فيفتح لي ولهم فيذهب بهم إلى نهر يقال له نهر الحيوان حافتاه قصب مكلل باللؤلؤ ترابه المسك وحصباؤه الياقوت فيغتسلون منه فتعود إليهم ألوان أهل الجنة وريح أهل الجنة فيصيرون كأنهم الكواكب الدرية ويبقى في صدورهم شامات بيض يعرفون بها يقال مساكين أهل الجنة.


    ** وَنَادَىَ أَصْحَابُ النّارِ أَصْحَابَ الْجَنّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُوَاْ إِنّ اللّهَ حَرّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الّذِينَ اتّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَـَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ
    يخبر تعالى عن ذلة أهل النار وسؤالهم أهل الجنة من شرابهم وطعامهم وأنهم لا يجابون إلى ذلك قال السدي {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله} يعني الطعام وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يستطعمونهم ويستسقونهم, وقال الثوري عن عثمان الثقفي عن سعيد بن جبير في هذه الاَية قال, ينادي الرجل أباه أوأخاه فيقول له قد احترقت فأفض علي من الماء فيقال لهم أجيبوهم فيقولون {إن الله حرمهما على الكافرين} وروي من وجه آخر عن سعيد عن ابن عباس مثله سواء وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم {إن الله حرمهما على الكافرين} يعني طعام الجنة وشرابها.
    قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا نصر بن علي أخبرنا موسى بن المغيرة حدثنا أبو موسى الصفار في دار عمرو بن مسلم قال: سألت ابن عباس أوسئل أي الصدقة أفضل ؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أفضل الصدقة الماء ألم تسمع إلى أهل النار لما استغاثوا بأهل الجنة قالوا أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله» وقال أيضاً: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح قال لما مرض أبو طالب قالوا له لو أرسلت إلى ابن أخيك هذا فيرسل إليك بعنقود من الجنة لعله أن يشفيك به, فجاءه الرسول وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر إن الله حرمهما على الكافرين.
    ثم وصف تعالى الكافرين بما كانوا يعتمدونه في الدنيا باتخاذهم الدين لهوا ولعباً واغترارهم بالدنيا وزينتها وزخرفها عما أمروا به من العمل للاَخرة, وقوله {فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا} أي يعاملهم معاملة من نسيهم, لأنه تعالى لا يشذ عن علمه شيء ولا ينساه كما قال تعالى: {في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى} وإنما قال تعالى هذا من باب المقابلة كقوله {نسوا الله فنسيهم} وقال {كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} وقال تعالى: {وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا} وقال العوفي عن ابن عباس في قوله {فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا} قال نسيهم الله من الخير ولم ينسهم من الشر, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال نتركهم كما تركوا لقاء يومهم هذا, وقال مجاهد نتركهم في النار, وقال السدي نتركهم من الرحمة كما تركوا أن يعملوا للقاء يومهم هذا, وفي الصحيح أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ألم أزوجك ؟ ألم أكرمك ؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع ؟ فيقول بلى فيقول أظننت أنك ملاقي ؟ فيقول لا فيقول الله تعالى فاليوم أنساك كما نسيتني ؟)


    ** وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصّلْنَاهُ عَلَىَ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبّنَا بِالْحَقّ فَهَل لّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الّذِي كُنّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوَاْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلّ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
    يقول تعالى مخبراً عن إعذاره إلى المشركين بإرسال الرسل إليهم بالكتاب الذي جاء به الرسول وأنه كتاب مفصل مبين كقوله {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت} الاَية, وقوله {فصلناه على علم} للعالمين أي على علم منا بما فصلناه به كقوله {أنزله بعلمه} قال ابن جرير وهذه الاَية مردودة على قوله {كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه} الاَية, {ولقد جئناهم بكتاب} الاَية, وهذا الذي قاله فيه نظر فإنه قد طال الفصل ولا دليل عليه وإنما الأمر أنه لما أخبر بما صاروا إليه من الخسارة في الاَخرة ذكر أنه قد أزاح عللهم في الدنيا بإرسال الرسل وإنزال الكتب كقوله {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} ولهذا قال {هل ينظرون إلا تأويله} أي ما وعدوا به من العذاب والنكال والجنة والنار قاله مجاهد وغير واحد, وقال مالك: ثوابه.

    ** إِنّ رَبّكُمُ اللّهُ الّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي الْلّيْلَ النّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنّجُومَ مُسَخّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبّ الْعَالَمِينَ
    يخبر تعالى أنه خلق العالم سماواته وأرضه وما بين ذلك في ستة أيام كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن, والستة الأيام هي: الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة وفيه اجتمع الخلق كله وفيه خلق آدم عليه السلام واختلفوا في هذه الأيام هل كل يوم منها كهذه الأيام كما هو المتبادر إلى الأذهان أو كل يوم كألف سنة كما نص على ذلك مجاهد والإمام أحمد بن حنبل ويروى ذلك من رواية الضحاك عن ابن عباس, فأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق لأنه اليوم السابع ومنه سمي السبت وهو القطع.
    فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال: حدثنا حجاج حدثنا ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال «خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر فيها يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل» فقد رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه والنسائي من غير وجه عن حجاج وهو ابن محمد الأعور عن ابن جريج به وفيه استيعاب الأيام السبعة والله تعالى قد قال في ستة أيام ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار ليس مرفوعاً والله أعلم.
    وأما قوله تعالى {ثم استوى على العرش} فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جداً ليس هذا موضع بسطها وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديماً وحديثاً وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله لا يشبهه شيء من خلقه و{ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} بل الأمر كما قال الأئمة منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري قال من شبه الله بخلقه كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الاَيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله ونفى عن الله تعالى النقائص فقد سلك سبيل الهدى, وقوله تعالى {يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً} أي يذهب ظلام هذا بضياء هذا وضياء هذا بظلام هذا وكل منهما يطلب الاَخر طلباً حثيثا أي سريعاً لا يتأخر عنه بل إذا ذهب هذا جاء هذا وعكسه كقوله {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون * والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم * والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم * لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون} فقوله {ولا الليل سابق النهار} أي لا يفوته بوقت يتأخر عنه بل هو في أثره بلا واسطة بينهما ولهذا قال {يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} منهم من نصب ومنهم من رفع وكلاهما قريب المعنى أي الجميع تحت قهره وتسخيره ومشيئته ولهذا قال منبهاً {ألا له الخلق والأمر} أي له الملك والتصرف {تبارك الله رب العالمين} كقوله {تبارك الذي جعل في السماء بروجاً} الاَية.
    قال ابن جرير: حدثني المثنى, حدثنا إسحاق حدثنا هشام أبو عبد الرحمن, حدثنا بقية بن الوليد, حدثنا عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاري عن عبد العزيز الشامي عن أبيه وكانت له صحبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح وحمد نفسه فقد كفر وحبط عمله ومن زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئاً فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه» لقوله {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} وفي الدعاء المأثور عن أبي الدرداء وروي مرفوعاً «اللهم لك الملك كله ولك الحمد كله وإليك يرجع الأمر كله, أسألك من الخير كله وأعوذ بك من الشر كله».

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 9:41

    ** ادْعُواْ رَبّكُمْ تَضَرّعاً وَخُفْيَةً إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ * وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنّ رَحْمَةَ اللّهِ قَرِيبٌ مّنَ الْمُحْسِنِينَ
    أرشد تبارك وتعالى عباده إلى دعائه الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم فقال {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية} قيل معناه تذللاً واستكانه, وخفية كقوله {واذكر ربك في نفسك} الاَية وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال رفع الناس أصواتهم بالدعاء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إن الذي تدعون سميع قريب» الحديث, وقال ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله {تضرعاً وخفية} قال السر وقال ابن جرير تضرعاً تذللاً واستكانة لطاعته وخفية يقول بخشوع قلوبكم وصحة اليقين بوحدانيته وربوبيته فيما بينكم وبينه لا جهراً مراءاة وقال عبد الله بن المبارك بن فضالة عن الحسن قال: إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار وما يشعرون به ولقد أدركنا أقوماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبداً ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم وذلك أن الله تعالى يقول {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية} وذلك أن الله ذكر عبداً صالحاً رضي فعله فقال {إذ نادى ربه نداء خفياً} وقال ابن جريج يكره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء ويؤمر بالتضرع والاستكانه.
    ثم روي عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله {إنه لا يحب المعتدين} في الدعاء ولا في غيره وقال أبو مجلز {إنه لا يحب المعتدين} لا يسأل منازل الأنبياء, وقال أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا شعبة عن زياد بن مخراق سمعت أبا نعامة عن مولى لسعد أن سعداً سمع ابناً له يدعو وهو يقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ونحواً من هذا وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها فقال لقد سألت الله خيراً كثيراً وتعوذت به من شر كثير وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء ـ وفي لفظ ـ يعتدون في الطهور والدعاء ـ وقرأ هذه الاَية {ادعوا ربكم تضرعاً} الاَية ـ وإن بحسبك أن تقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرّب إليها من قول أو عمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل» ورواه أبو داود من حديث شعبة عن زياد بن مخراق عن أبي نعامة عن مولى لسعد عن سعد فذكره والله أعلم, وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا الحريري عن أبي نعامة أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال يا بني سل الله الجنة وعُذْ به من النار فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور» وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفان به وأخرجه أبو داود عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن سعيد بن إياس الجُريْري عن أبي نعامة واسمه قيس بن عباية الحنفي البصري وهو إسناد حسن لا بأس به والله أعلم.
    وقوله تعالى {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض وما أضره بعد الإصلاح فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد ثم وقع الإفساد بعد ذلك كان أضر ما يكون على العباد فنهى تعالى عن ذلك وأمر بعبادته ودعائه والتضرع إليه والتذلل لديه فقال {وادعوه خوفاً وطمعاً} أي خوفاً مما عنده من وبيل العقاب وطمعاً فيما عنده من جزيل الثواب ثم قال {إن رحمت الله قريب من المحسنين} أي إن رحمته مرصدة للمحسنين الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره كما قال تعالى {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون} الاَية وقال قريب ولم يقل قريبة لأنه ضمن الرحمة معنى الثواب أو لأنها مضافة إلى الله فلهذا قال قريب من المحسنين وقال مطر الوراق تنجزوا موعود الله بطاعته فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين. رواه ابن أبي حاتم.


    ** وَهُوَ الّذِي يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتّىَ إِذَآ أَقَلّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مّيّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلّ الثّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَىَ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ * وَالْبَلَدُ الطّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ وَالّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرّفُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ
    لما ذكر تعالى أنه خالق السموات والأرض وأنه المتصرف الحاكم المدبر المسخر وأرشد إلى دعائه لأنه على ما يشاء قادر نبه تعالى على أنه الرزاق وأنه يعيد الموتى يوم القيامة فقال {وهو الذي يرسل الرياح نُشْراً} أي منتشرة بين يدي السحاب الحامل للمطر ومنهم من قرأ بشرا كقوله {ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات} وقوله {بين يدي رحمته} أي بين المطر كما قال {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد} وقال {فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير} وقوله {حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً} أي حملت الرياح سحاباً ثقالاً أي من كثرة ما فيها من الماء تكون ثقيلة قريبة من الأرض مدلهمة كما قال زيد بن عمرو بن نفيل رحمه الله:
    وأسلمت وجهي لمن أسلمتله المزن تحمل عذباً زلالاً
    وأسلمت وجهي لمن أسلمتله الأرض تحمل صخراً ثقالاً
    وقوله {سقناه لبلد ميت} أي إلى أرض ميتة مجدبة لا نبات فيها كقوله {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها} الاَية ولهذا قال {فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى} أي كما أحيينا هذه الأرض بعد موتها كذلك نحيي الأجساد بعد صيرورتها رميماً يوم القيامة ينزل الله سبحانه وتعالى ماء من السماء فتمطر الأرض أربعين يوماً فتنبت منه الأجساد في قبورها كما ينبت الحب في الأرض وهذا المعنى كثير في القرآن يضرب الله مثلاً ليوم القيامة بإحياء الأرض بعد موتها ولهذا قال {لعلكم تذكرون} وقوله {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه} أي والأرض الطيبة يخرج نباتها سريعاً حسناً كقوله {وأنبتها نباتاً حسناً} {والذي خبث لا يخرج إلا نكداً} قال مجاهد وغيره كالسباخ ونحوها وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الاَية: هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر.) وقال البخاري حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حماد بن أسامة عن يزيد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مثل ما بعثني الله به من العلم والهدى كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكانت منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» رواه مسلم والنسائي من طرق عن أبي أسامة حماد بن أسامة به.



    ** لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىَ قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـَهٍ غَيْرُهُ إِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلاُ مِن قَوْمِهِ إِنّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ * قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنّي رَسُولٌ مّن رّبّ الْعَالَمِينَ * أُبَلّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
    لما ذكر تعالى قصة آدم في أول السورة وما يتعلق بذلك وما يتصل به وفرغ منه شرع تعالى في ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام الأول فالأول فابتدأ بذكر نوح عليه السلام فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد آدم عليه السلام وهو نوح بن لامك بن متوشلح بن أخنوخ وهو إدريس النبي عليه السلام فيما يزعمون وهو أول من خط بالقلم ابن برد بن مهليل بن قنين بن يانش بن شيث بن آدم عليهم السلام هكذا نسبه محمد بن إسحاق وغير واحد من أئمة النسب.
    قال محمد بن إسحاق ولم يلق نبي من قومه من الأذى مثل نوح إلا نبي قتل وقال يزيد الرقاشي إنما سمي نوح لكثرة ما ناح على نفسه وقد كان بين آدم إلى زمن نوح عليهما السلام عشرة قرون كلهم على الإسلام قال عبد اللهبن عباس وغير واحد من علماء التفسير وكان أول ما عبدت الأصنام أن قوماً صالحين ماتوا فبنى قومهم عليهم مساجد وصوروا صورة أولئك فيها ليتذكروا حالهم وعبادتهم فيتشبهوا بهم فلما طال الزمان جعلوا أجساداً على تلك الصور فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً فلما تفاقم الأمر بعث الله سبحانه وتعالى وله الحمد والمنة رسوله نوحاً فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له فقال {يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} أي من عذاب يوم القيامة إذا لقيتم الله وأنتم مشركون به {قال الملأ من قومه} أي الجمهور والسادة والقادة والكبراء منهم {إنا لنراك في ضلال مبين} أي في دعوتك إيانا إلى ترك عبادة هذه الأصنام التي وجدنا عليها آباءنا وهكذا حال الفجار إنما يرون الأبرار في ضلالة كقوله {وإذ رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون} {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم} إلى غير ذلك من الاَيات {قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين} أي ما أنا ضال ولكن أنا رسول من رب العالمين رب كل شيء ومليكه {أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون} وهذا شأن الرسول أن يكون مبلغاً فصيحاً ناصحاً عالماً بالله لا يدركهم أحد من خلق الله في هذه الصفات كما جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم عرفة وهم أوفر ما كانوا وأكثر جمعاً «أيها الناس إنكم مسؤولون عني فما أنتم قائلون ؟» قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكسها عليهم ويقول «اللهم اشهد اللهم اشهد».

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 9:48

    ** أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مّن رّبّكُمْ عَلَىَ رَجُلٍ مّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتّقُواْ وَلَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ * فَكَذّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَآ إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ
    يقول تعالى إخباراً عن نوح أنه قال لقومه {أو عجبتم} الاَية, أي لا تعجبوا من هذا فإن هذا ليس بعجب أن يوحي الله إلى رجل منكم رحمة بكم ولطفاً وإحساناً إليكم لينذركم ولتتقوا نقمة الله ولا تشركوا به {ولعلكم ترحمون} قال الله تعالى {فكذبوه} أي تمادوا على تكذيبه ومخالفته وما آمن معه منهم إلا قليل كما نص عليه في موضع آخر {فأنجيناه والذين معه في الفلك} أي السفينة كما قال: فأنجيناه وأصحاب السفينة {وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا} كما قال {مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا} وقوله {إنهم كانوا قوماً عمين} أي عن الحق لا يبصرونه ولا يهتدون له فبين تعالى في هذه القصة أنه انتقم لأوليائه من أعدائه وأنجى رسوله والمؤمنين وأهلك أعداءهم من الكافرين كقوله {إنا لننصر رسلنا} الاَية.
    وهذه سنة الله في عباده في الدنيا والاَخرة أن العاقبة فيها للمتقين والظفر والغلب لهم كما أهلك قوم نوح بالغرق ونجى نوحاً وأصحابه المؤمنين وقال مالك عن زيد بن أسلم كان قوم نوح قد ضاق بهم السهل والجبل وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ما عذب الله قوم نوح إلا والأرض ملأى بهم وليس بقعة من الأرض إلا ولها مالك وحائز وقال ابن وهب بلغني عن ابن عباس أنه نجا مع نوح في السفينة ثمانون رجلاً أحدهم جرهم وكان لسانه عربياً رواه ابن أبي حاتم وروي متصلاً من وجه آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما.


    ** وَإِلَىَ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتّقُونَ * قَالَ الْمَلاُ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنّا لَنَظُنّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنّي رَسُولٌ مّن رّبّ الْعَالَمِينَ * أُبَلّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ * أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مّن رّبّكُمْ عَلَىَ رَجُلٍ مّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُوَاْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوَاْ آلاَءَ اللّهِ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ
    يقول تعالى وكما أرسلنا إلى قوم نوح نوحاً كذلك أرسلنا إلى عاد أخاهم هوداً قال محمد بن إسحاق هم ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح قلت هؤلاء هم عاد الأولى الذين ذكرهم الله وهم أولاد عاد بن إرم الذين كانوا يأوون إلى العمد في البر كما قال تعالى {ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد} وذلك لشدة بأسهم وقوتهم كما قال تعالى {فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة ؟ أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون} وقد كانت مساكنهم باليمن بالأحقاف وهي جبال الرمل قال محمد بن إسحاق عن محمد بن عبد الله بن أبي سعيد الخزاعي عن أبي الطفيل عامر بن واثلة سمعت علياً يقول لرجل من حضرموت: هل رأيت كثيباً أحمر يخالطه مدرة حمراء ذا أراك وسدر كثير بناحية كذا وكذا من أرض حضرموت. هل رأيته ؟ قال نعم يا أمير المؤمنين ؟ والله إنك لتنعته نعت رجل قد رآه, قال لا ولكني قد حدثت عنه فقال الحضرمي وما شأنه يا أمير المؤمنين ؟ قال فيه قبر هود عليه السلام رواه ابن جرير. وهذا فيه فائدة أن مساكنهم كانت باليمن فإن هوداً عليه السلام دفن هناك وقد كان من أشرف قومه نسباً لأن الرسل إنما يبعثهم الله من أفضل القبائل وأشرفهم ولكن كان قومه كما شدد خلقهم شدد على قلوبهم وكانوا من أشد الأمم تكذيباً للحق ولهذا دعاهم هود عليه السلام إلى عبادة الله وحده لا شريك له وإلى طاعته وتقواه.
    {قال الملأ الذين كفروا من قومه} والملأ هم الجمهور والسادة والقادة منهم {إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين} أي في ضلالة حيث تدعونا إلى ترك عبادة الأصنام والإقبال على عبادة الله وحده كما تعجب الملأ من قريش من الدعوة إلى إله واحد فقالوا {أجعل الاَلهة إلهاً واحداً} الاَية. {قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين} أي لست كما تزعمون بل جئتكم بالحق من الله الذي خلق كل شيء فهو رب كل شيء ومليكه {أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين} وهذه الصفات التي يتصف بها الرسل البلاغ والنصح والأمانة {أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم} أي لا تعجبوا أن بعث الله إليكم رسولاً من أنفسكم لينذركم أيام الله ولقاءه بل احمدوا الله على ذاكم {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح} أي واذكروا نعمة الله عليكم في جعلكم من ذرية نوح الذي أهلك الله أهل الأرض بدعوته لما خالفوه وكذبوه {وزادكم في الخلق بسطة} أي زاد طولكم على الناس بسطة أي جعلكم أطول من أبناء جنسكم كقوله في قصة طالوت {وزاده بسطة في العلم والجسم} {فاذكروا آلاء الله} أي نعمة ومننه عليكم {لعلكم تفلحون} والاَلاء جمع إلى وقيل ألى.


    ** قَالُوَاْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصّادِقِينَ * قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مّن رّبّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونِي فِيَ أَسْمَآءٍ سَمّيْتُمُوهَآ أَنْتُمْ وَآبَآؤكُمُ مّا نَزّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوَاْ إِنّي مَعَكُمْ مّنَ الْمُنْتَظِرِينَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَالّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ
    يخبر تعالى عن تمردهم وطغيانهم وعنادهم وإنكارهم على هود عليه السلام {قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده} الاَية كقول الكفار من قريش {إذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره أنهم كانوا يعبدون أصناماً فصنم يقال له صمد وآخر يقال صمود وآخر يقال له الهباء ولهذا قال هود عليه السلام {قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب} أي قد وجب عليكم بمقالتكم هذه من ربكم رجس قيل هو مقلوب من رجز وعن ابن عباس معناه سخط وغضب {أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم} أي أتحاجوني في هذه الأصنام التي سميتموها أنتم وآباؤكم آلهة وهي لا تضر ولا تنفع ولا جعل الله لكم على عبادتها حجة ولا دليلاً ولهذا قال {ما نزل الله بها من سلطان ؟ فانتظروا إني معكم من المنتظرين} وهذا تهديد ووعيد من الرسول لقومه ولهذا عقبه بقوله {فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين}.
    وقد ذكر الله سبحانه صفة إهلاكهم في أماكن أخر من القرآن بأنه أرسل عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم كما قال في الاَية الأخرى {وأما عاد فأهلكوا بريحٍ صرصر عاتية * سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية * فهل ترى لهم من باقية} لما تمردوا وعتوا أهلكهم الله بريح عاتية فكانت تحمل الرجل منهم فترفعه في الهواء ثم تنكسه على أم رأسه فتثلغ رأسه حتى تبينه من بين جثته ولهذا قال {كأنهم أعجاز نخل خاوية} وقال محمد بن إسحاق كانوا يسكنون باليمن بين عمان وحضرموت وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله فبعث الله إليهم هوداً عليه السلام وهو من أوسطهم نسباً وأفضلهم موضعاً فأمرهم أن يوحدوا الله ولا يجعلوا معه إلهاً غيره وأن يكفوا عن ظلم الناس فأبوا عليه وكذبوه وقالوا من أشد منا قوة واتبعه منهم ناس وهم يسير يكتمون إيمانهم فلما عتت عاد على الله وكذبوا نبيه وأكثروا في الأرض الفساد وتجبروا وبنوا بكل ريع آية عبثاً بغير نفع كلمهم هود فقال {أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين * فاتقوا الله وأطيعون} {قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين * إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء} أي بجنون {قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم}.
    قال محمد بن إسحاق: فلما أبوا إلا الكفر به أمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين فيما يزعمون حتى جهدهم ذلك قال: وكان الناس إذا جهدهم أمر في ذلك الزمان وطلبوا من الله الفرج فيه إنما يطلبونه بحرمة ومكان بيته وكان معروفاً عند أهل ذلك الزمان وبه العماليق مقيمون وهم من سلالة عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وكان سيدهم إذ ذاك رجلاً يقال هل معاوية بن بكر وكانت له أم من قوم عاد واسمها كلهدة ابنة الخيبري قال فبعثت عاد وفداً قريباً من سبعين رجلاً إلى الحرم ليستسقوا لهم عند الحرم فمروا بمعاوية بن بكر بظاهر مكة فنزلوا عليه فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان: قينتان لمعاوية وكانوا قد وصلوا إليه في شهر فلما طال مقامهم عنده وأخذته شفقة على قومه واستحيا منهم أن يأمرهم بالانصراف عمل شعراً يعرض لهم بالانصراف وأمر القينتين أن تغنياهم به فقال:
    ألا يا قيل ويحك قم فهينملعل الله يصبحنا غماما
    فيسقي أرض عاد إن عاداًقد أمسوا لا يبينون الكلاما
    من العطش الشديد وليس نرجوبه الشيخ الكبير ولا الغلاما
    وقد كانت نساؤهم بخيرفقد أمست نساؤهم عيامى
    وإن الوحش تأتيهم جهاراًولا تخشى لعادي سهاما
    وأنتم ههنا فيما اشتهيتمنهاركم وليلكم التماما
    فقبح وفدكم من وفد قومولا لُقّوا التحية والسلاما
    قال: فعند ذلك تنبه القوم لما جاؤوا له فنهضوا على الحرم ودعوا لقومهم فدعا داعيهم وهو قيل بن عنز فأنشأ الله سحابات ثلاثاً بيضاء وسوداء وحمراء ثم ناداه مناد من السماء اختر لنفسك أو لقومك من هذا السحاب فقال: اخترت هذه السحابة السوداء فإنها أكثر السحاب ماء فناداه مناد اخترت رماداً رمدداً, لا تبقي من عاد أحداً لا والداً تترك ولا ولداً, إلا جعلته همداً, إلا بني اللوذية المهندا, قال وبنو اللوذية بطن من عاد يقيمون بمكة فلم يصبهم ما أصاب قومهم قال وهم من بقي من أنسالهم وذراريهم عاد الاَخرة قال: وساق الله السحابة السوداء فيما يذكرون التي اختارها قيل بن عنز بما فيها من النقمة إلى عاد حتى تخرج عليهم من واد يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا وقالوا هذا عارض ممطرنا يقول {بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم * تدمر كل شيء} أي تهلك كل شيء مرت به فكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح فيما يذكرون امرأة من عاد يقال لها مميد فلما تبينت ما فيها صاحت ثم صعقت فلما أفاقت قالوا ما رأيت يا مميد ؟ قالت ريحاً فيها شبه النار أمامها رجال يقودونها فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً كما قال الله تعالى. والحسوم الدائمة فلم تدع من عاد أحداً إلا هلك, واعتزل هود عليه السلام فيما ذكر لي ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه ومن معه إلا ما تلين عليه الجلود وتلذ الأنفس وإنها لتمر على عاد بالظعن ما بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة وذكر تمام القصة بطولها وهو سياق غريب فيه فوائد كثيرة وقد قال الله تعالى: {ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ}.
    وقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده قريب مما أورده محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 9:51

    ** وَإِلَىَ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيّنَةٌ مّن رّبّكُمْ هَـَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِيَ أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَاذْكُرُوَاْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوّأَكُمْ فِي الأرْضِ تَتّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوَاْ آلاَءَ اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ * قَالَ الْمَلاُ الّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنّ صَالِحاً مّرْسَلٌ مّن رّبّهِ قَالُوَاْ إِنّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الّذِينَ اسْتَكْبَرُوَاْ إِنّا بِالّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَعَقَرُواْ النّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ علماء التفسير والنسب ثمود بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح وهو أخو جديس بن عاثر وكذلك قبيلة طسم كل هؤلاء كانوا أحياء من العرب العاربة قبل إبراهيم الخليل عليه السلام وكانت ثمود بعد عاد ومساكنهم مشهورة فيما بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ديارهم ومساكنهم وهو ذاهب إلى تبوك في سنة تسع. قال الإمام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا صخر بن جويرية عن نافع عن ابن عمر قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس على تبوك نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود فاستقى الناس من الاَبار التي كانت تشرب منها ثمود فعجنوا منها ونصبوا لها القدور فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأهرقوا القدور وعلفوا العجين الإبل ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا وقال «إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم فلا تدخلوا عليهم» وقال أحمد أيضاً حدثنا عفان حدثنا عبد العزيز بن مسلم حدثنا عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحجر «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم» وأصل هذا الحديث مخرج في الصحيحين من غير وجه.
    وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا يزيد بن هارون المسعودي عن إسماعيل بن أوسط عن محمد بن أبي كبشة الأنماري عن أبيه قال لما كان في غزوة تبوك تسارع الناس إلى أهل الحجر يدخلون عليهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى في الناس «الصلاة جامعة» قال فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ممسك بعنزة وهو يقول «ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم» فناداه رجل منهم نعجب منهم يا رسول الله ؟ قال «أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك. رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وبما هو كائن بعدكم فاستقيموا وسددوا فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئاً وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئاً» لم يخرجه أحد من أصحاب السنن وأبو كبشة اسمه عمر بن سعد ويقال عامر بن سعد والله أعلم, وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي الزبير عن جابر قال لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال «لا تسألوا الاَيات فقد سألها قوم صالح فكانت ـ يعني الناقة ـ ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج فعتوا عن أمر ربهم فعقروها وكانت تشرب ماءهم يوماً ويشربون لبنها يوماً فعقروها فأخذتهم صيحة أهمد الله من تحت أديم السماء منهم إلا رجلاً واحداً كان في حرم الله» فقالوا: من هو يا رسول الله ؟ قال «أبو رغال فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه» وهذا الحديث ليس في شيء من الكتب الستة وهو على شرط مسلم. قوله تعالى: {وإلى ثمود} أي ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحاً {قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} فجميع الرسل يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقال {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} وقوله {قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية} أي قد جاءتكم حجة من الله على صدق ما جئتكم به وكانوا هم الذين سألوا صالحاً أن يأتيهم بآية واقترحوا عليه بأن تخرج لهم من صخرة صماء عينوها بأنفسهم وهي صخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها الكاتبة فطلبوا منه أن تخرج لهم منها ناقة عشراء تمخض فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم الله إلى سؤالهم وأجابهم إلى طلبتهم ليؤمنن به وليتبعنه فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم قام صالح عليه السلام إلى صلاته ودعا الله عز وجل فتحركت تلك الصخرة ثم انصدعت عن ناقة جوفاء وبراء يتحرك جنينها بين جنبيها كما سألوا فعند ذلك آمن رئيسهم جندع بن عمرو ومن كان معه على أمره وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا فصدهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن صمعر بن جلهس وكان لجندع بن عمرو ابن عم يقال له: شهاب بن خليفة بن مخلاة بن لبيد بن جواس وكان من أشراف ثمود وأفاضلها فأراد أن يسلم أيضاً فنهاه أولئك الرهط فأطاعهم فقال في ذلك رجل من مؤمني ثمود يقال له مهوش بن عثمة بن الدميل رحمه الله:
    وكانت عصبة من آل عمروإلى دين النبي دعوا شهابا
    عزيز ثمود كلهم جميعاًفهمّ بأن يجيب فلو أجابا
    لأصبح صالح فينا عزيزاًوما عدلوا بصاحبهم ذؤابا
    ولكن الغواة من آل حجرتولوا بعد رشدهم ذئابا
    وأقامت الناقة وفصيلها بعد ما وضعته بين أظهرهم مدة تشرب من بئرها يوماً وتدعه لهم يوماً وكانوا يشربون لبنها يوم شربها يحتلبونها فيملأون ما شاؤوا من أوعيتهم وأوانيهم كما قال في الاَية الأخرى {ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر} وقال تعالى: {هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم} وكانت تسرح في بعض تلك الأودية ترد من فج وتصدر من غيره ليسعها لأنها كانت تتضلع من الماء وكانت على ما ذكر خلقاً هائلاً ومنظراً رائعاً إذا مرت بأنعامهم نفرت منها فلما طال عليهم ذلك واشتد تكذيبهم لصالح النبي عليه السلام عزموا على قتلها ليستأثروا بالماء كل يوم فيقال إنهم اتفقوا كلهم على قتلها, قال قتادة بلغني أن الذي قتلها طاف عليهم كلهم أنهم راضون بقتلها حتى على النساء في خدورهن وعلى الصبيان قلت وهذا هو الظاهر لقوله تعالى: {فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها} وقال {وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها} وقال {فعقروا الناقة} فأسند ذلك على مجموع القبيلة فدل على رضى جميعهم بذلك والله أعلم.
    وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير وغيره من علماء التفسير أن سبب قتلها أن امرأة منهم يقال لها عنيزة ابنة غنم بن مجلز وتكنى أم غنم كانت عجوزاً كافرة وكانت من أشد الناس عداوة لصالح عليه السلام, وكانت لها بنات حسان ومال جزيل وكان زوجها ذؤاب بن عمرو أحد رؤساء ثمود وامرأة أخرى يقال لها صدوف بنت المحيا بن زهير بن المختار ذات حسب ومال وجمال وكانت تحت رجل مسلم من ثمود ففارقته فكانتا تجعلان لمن التزم لهما بقتل الناقة, فدعت صدوف رجلاً يقال له الحباب, فعرضت عليه نفسها إن هو عقر الناقة فأبى عليها فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن مهرج بن المحيا فأجابها إلى ذلك ودعت عنيزة بنت غنم قدار بن سالف بن جذع وكان رجلاً أحمر أزرق قصيراً يزعمون أنه كان ولد زنية وأنه لم يكن من أبيه الذي ينسب إليه وهو سالف, وإنما هو من رجل يقال له صهياد ولكن ولد على فراش سالف. وقالت له أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة فعند ذلك انطلق قدار بن سالف, ومصدع بن مهرج فاستغويا غواة من ثمود فاتبعهما سبعة نفر فصاروا تسعة رهط وهم الذين قال الله تعالى: {وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون} وكانوا رؤساء في قومهم فاستمالوا القبيلة الكافرة بكمالها فطاوعتهم على ذلك فانطلقوا فرصدوا الناقة حين صدرت من الماء, وقد كمن لها قدار بن سالف في أصل صخرة على طريقها وكمن لها مصدع في أصل أخرى, فمرت على مصدع فرماها بسهم, فانتظم به عضلة ساقها وخرجت أم غنم عنيزة وأمرت ابنتها وكانت من أحسن الناس وجهاً فسفرت عن وجهها لقدار وذمّرته وشد على الناقة بالسيف فكشف عن عرقوبها فخرت ساقطة إلى الأرض ورغت رغاة واحدة تحذر سقبها ثم طعن في لبتها فنحرها وانطلق سقبها وهو فصيلها حتى أتى جبلاً منيعاً فصعد أعلى صخرة فيه ورغا, فروى عبدالرزاق عن معمر عمن سمع الحسن البصري أنه قال: يا رب أين أمي ؟ ويقال إنه رغا ثلاث مرات وإنه دخل في صخرة فغاب فيها, ويقال بل اتبعوه فعقروه مع أمه فالله أعلم, فلما فعلوا ذلك وفرغوا من عقر الناقة وبلغ الخبر صالحاً عليه السلام, فجاءهم وهم مجتمعون, فلما رأى الناقة بكى وقال {تمتعوا في داركم ثلاثة أيام} الاَية.
    وكان قتلهم الناقة يوم الأربعاء, فلما أمسى أولئك التسعة الرهط عزموا على قتل صالح وقالوا: إن كان صادقاً عجلناه قبلنا وإن كان كاذباً ألحقناه بناقته {قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم} الاَية, فلما عزموا على ذلك وتواطؤوا عليه وجاؤوا من الليل ليفتكوا بنبي الله, فأرسل الله سبحانه وتعالى وله العزة ولرسوله عليهم حجارة فرضختهم سلفاً وتعجيلاً قبل قومهم, وأصبح ثمود يوم الخميس وهو اليوم الأول من أيام النظرة ووجوههم مصفرة كما وعدهم صالح عليه السلام, وأصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل وهو يوم الجمعة ووجوههم محمرة, وأصبحوا في اليوم الثالث من أيام المتاع وهو يوم السبت ووجوههم مسودة, فلما أصبحوا من يوم الأحد وقد تحنطوا وقعدوا ينتظرون نقمة الله وعذابه عياذاً بالله من ذلك لا يدرون ماذا يفعل بهم ولا كيف يأتيهم العذاب, وأشرقت الشمس جاءتهم صيحة من السماء ورجفة شديدة من أسفل منهم, ففاضت الأرواح وزهقت النفوس في ساعة واحدة {فأصبحوا في دارهم جاثمين} أي صرعى لا أرواح فيهم ولم يفلت منهم أحد لا صغير ولا كبير لا ذكر ولا أنثى, قالوا: إلا جارية كانت مقعدة واسمها كلبة ابنة السلق, ويقال لها الزريقة, وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح عليه السلام, فلما رأت ما رأت من العذاب أطلقت رجلاها, فقامت تسعى كأسرع شيء فأتت حياً من الأحياء فأخبرتهم بما رأت وما حل بقومها ثم استسقتهم من الماء, فلما شربت ماتت.
    قال علماء التفسير: ولم يبق من ذرية ثمود أحد سوى صالح عليه السلام ومن تبعه رضي الله عنهم, إلا أن رجلاً يقال له أبو رغال كان لما وقعت النقمة بقومه مقيماً إذ ذاك في الحرم فلم يصبه شيء فلما خرج في بعض الأيام إلى الحل جاءه حجر من السماء فقتله, وقد تقدم في أول القصة حديث جابر بن عبد الله في ذلك وذكروا أن أبا رغال هذا هو والد ثقيف الذين كانوا يسكنون الطائف, قال عبد الرزاق عن معمر: أخبرني إسماعيل بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر أبي رغال فقال «أتدرون من هذا ؟» قالوا الله ورسوله أعلم, قال «هذا قبر أبي رغال رجل من ثمود كان في حرم الله فمنعه حرم الله عذاب الله, فلما خرج أصابه ما أصاب قومه فدفن هاهنا ودفن معه غصن من ذهب, فنزل القوم فابتدروه بأسيافهم فبحثوا عنه فاستخرجوا الغصن» وقال عبد الرزاق: قال معمر: قال الزهري: أبو رغال أبو ثقيف هذا مرسل من هذا الوجه.
    والله اعلم

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 9:55

    ** فَتَوَلّىَ عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاّ تُحِبّونَ النّاصِحِينَ
    هذا تقريع من صالح عليه السلام لقومه, لما أهلكهم الله بمخالفتهم إياه وتمردهم على الله وإبائهم عن قبول الحق وإعراضهم عن الهدى إلى العمى, قال لهم صالح ذلك بعد هلاكهم, تقريعاً وتوبيخاً وهم يسمعون ذلك, كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على أهل بدر أقام هناك ثلاثاً, ثم أمر براحلته فشدت بعد ثلاث من آخر الليل فركبها ثم سار حتى وقف على القليب قليب بدر, فجعل يقول «يا أبا جهل بن هشام يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة ويا فلان هل بن فلان وجدتم ما وعد ربكم حقاً, فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً» فقال له عمر: يا رسول الله ما تكلم من أقوام قد جيفوا ؟ فقال «والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكن لا يجيبون» وفي السيرة أنه عليه السلام قال لهم «بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم كذبتموني وصدقني الناس, وأخرجتموني وآواني الناس, وقاتلتموني ونصرني الناس, فبئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم».
    وهكذا صالح عليه السلام قال لقومه {لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم} أي فلم تنتفعوا بذلك)لأنكم لا تحبون الحق ولا تتبعون ناصحاً, ولهذا قال {ولكن لا تحبون الناصحين} وقد ذكر بعض المفسرين: أن كل نبي هلكت أمته كان يذهب فيقيم في الحرم حرم مكة, والله أعلم, وقد قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي عسفان حين حج قال «يا أبا بكر أي واد هذا ؟» قال هذا وادي عسفان, قال «لقد مر به هود وصالح عليهما السلام على بكرات خطمهن الليف أزرهم العباء وأرديتهم النمار, يلبون يحجون البيت العتيق» هذا حديث غريب من هذاالوجه لم يخرجه أحد منهم.


    ** وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن الْعَالَمِينَ * إِنّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ شَهْوَةً مّن دُونِ النّسَآءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مّسْرِفُونَ
    يقول تعالى {و} لقد أرسلنا {لوطاً} أو تقديره {و} اذكر {لوطاً إذ قال لقومه} ولوط هو ابن هاران بن آزر وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليهما السلام, وكان قد آمن مع إبراهيم عليه السلام وهاجر معه إلى أرض الشام فبعثه الله إلى أهل سدوم وما حولها من القرى, يدعوهم إلى الله عز وجل ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآثم والمحارم والفواحش التي اخترعوها لم يسبقهم بها أحد من بني آدم ولا غيرهم, وهو إتيان الذكور دون الإناث, وهذا شيء لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه ولا يخطر ببالهم, حتى صنع ذلك أهل سدوم عليهم لعائن الله.
    قال عمرو بن دينار في قوله {ما سبقكم بها من أحد من العالمين} قال: ما نزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط, وقال الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي باني جامع دمشق: لولا أن الله عز وجل قص علينا خبر قوم ولوط ما ظننت أن ذكراً يعلو ذكراً, ولهذا قال لهم لوط عليه السلام {أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء} أي عدلتم عن النساء وما خلق لكم ربكم منهن إلى الرجال وهذا إسراف منكم وجهل لأنه وضع الشيء في غير محله, ولهذا قال لهم في الاَية الأخرى {هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين} فأرشدهم إلى نسائهم فاعتذروا إليه بأنهم لا يشتهونهن, {قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد} أي لقد علمت أنه لا أرب لنا في النساء ولا إرادة, وإنك لتعلم مرادنا من أضيافك, وذكر المفسرون أن الرجال كانوا قد استغنى بعضهم ببعض وكذلك نساؤهم كن قد استغنين بعضهن ببعض أيضاً.


    ** وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَن قَالُوَاْ أَخْرِجُوهُمْ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهّرُونَ
    أي ما أجابوا لوطاً إلا أن هموا بإخراجه ونفيه ومن معه من بين أظهرهم, فأخرجه الله تعالى سالماً وأهلكهم في أرضهم صاغرين مهانين, وقوله تعالى: {إنهم أناس يتطهرون} قال قتادة: عابوهم بغير عيب, وقال مجاهد: إنهم أناس يتطهرون من أدبار الرجال وأدبار النساء. وروي مثله عن ابن عباس أيضاً.


    ** فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مّطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ
    يقول تعالى فأنجينا لوطاً وأهله ولم يؤمن به أحد منهم سوى أهل بيته فقط, كما قال تعالى: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} إلا امرأته فإنها لم تؤمن به, بل كانت على دين قومها تمالئهم عليه وتعلمهم بمن يقدم عليه من ضيفانه بإشارات بينها وبينهم, ولهذا لماأمر لوط عليه السلام ليسري بأهله أمر أن لا يعلمها ولا يخرجها من البلد, ومنهم من يقول: بل اتبعتهم فلما جاء العذاب التفتت هي فأصابها ما أصابهم, والأظهر أنها لم تخرج من البلد ولا أعلمها لوط بل بقيت معهم, ولهذا قال ههنا {إلا امرأته كانت من الغابرين} أي الباقين, وقيل من الهالكين وهو تفسير باللازم, وقوله {وأمطرنا عليهم مطراً} مفسر بقوله {وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد} ولهذا قال {فانظر كيف كان عاقبة المجرمين} أي انظر يا محمد كيف كان عاقبة من يجترىء على معاصي الله عز وجل ويكذب رسله.
    وقد ذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أن اللائط يلقى من شاهق ويتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط, وذهب آخرون من العلماء إلى أنه يرجم سواء كان محصناً أو غير محصن وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله والحجة ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو بن أبي عمر عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» وقال آخرون هو كالزاني فإن كان محصناً رجم, وإن لم يكن محصناً جلد مائة جلدة, وهو القول الاَخر للشافعي, وأما إتيان النساء في الأدبار فهو اللوطية الصغرى, وهو حرام بإجماع العلماء إلا قولاً ***اً لبعض السلف, وقد ورد في النهي عنه أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تقدم الكلام عليها في سورة البقرة.


    ** وَإِلَىَ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيّنَةٌ مّن رّبّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُمْ مّؤْمِنِينَ
    قال محمد بن إسحاق: هم من سلالة مدين بن إبراهيم وشعيب وهو ابن ميكيل بن يشجر قال واسمه بالسريانية يثرون (قلت) مدين تطلق على القبيلة وعلى المدينة وهي التي بقرب معان من طريق الحجاز قال الله تعالى: {ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمّة من الناس يسقون} وهم أصحاب الأيكة كما سنذكره إن شاء الله وبه الثقة {قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} هذه دعوة الرسل كلهم قد جاءتكم بينة من ربكم, أي قد أقام الله الحجج والبينات على صدق ما جئتكم به, ثم وعظهم في معاملتهم الناس بأن يوفوا المكيال والميزان ولا يبخسوا الناس أشياءهم, أي لا يخونوا الناس في أموالهم ويأخذوها على وجه البخس وهو نقص المكيال والميزان وتدليساً كما قال تعالى: {ويل للمطففين ـ إلى قوله ـ لرب العالمين} وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد نسأل الله العافية منه, ثم قال تعالى إخباراً عن شعيب الذي يقال له خطيب الأنبياء لفصاحة عبارته وجزالة موعظته.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 9:59

    ** وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُوَاْ إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثّرَكُمْ وَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مّنكُمْ آمَنُواْ بِالّذِيَ أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتّىَ يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ
    ينهاهم شعيب عليه السلام عن قطع الطريق الحسي والمعنوي بقوله {ولا تقعدوا بكل صراط توعدون} أي تتوعدون الناس بالقتل إن لم يعطوكم أموالهم قال السدي وغيره: كانوا عشارين, وعن ابن عباس ومجاهد وغير واحد {ولا تقعدوا بكل صراط توعدون} أي تتوعدون المؤمنين الاَتين إِلى شعيب ليتبعوه والأول أظهر لأنه قال {بكل صراط} وهو الطريق وهذا الثاني هو قوله {وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجاً} أي وتودون أن تكون سبيل الله عوجاً مائلة {واذكروا إِذ كنتم قليلاً فكثركم} أي كنتم مستضعفين لقلتكم فصرتم أعزة لكثرة عددكم فاذكروا نعمة الله عليكم في ذلك {وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين} أي من الأمم الخالية والقرون الماضية وما حل بهم من العذاب والنكال باجترائهم على معاصي الله وتكذيب رسله. وقوله {وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا} أي قد اختلفتم علي {فاصبروا} أي انتظروا {حتى يحكم الله بيننا} وبينكم أي يفصل {وهو خير الحاكمين} فإنه سيجعل العاقبة للمتقين, والدمار على الكافرين.


    ** قَالَ الْمَلاُ الّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنّكَ يَشُعَيْبُ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنّ فِي مِلّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نّعُودَ فِيهَآ إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ رَبّنَا وَسِعَ رَبّنَا كُلّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللّهِ تَوَكّلْنَا رَبّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ
    هذا خبر من الله تعالى عما واجهت به الكفار نبيه شعيباً ومن معه من المؤمنين في توعدهم إياه ومن معه بالنفي عن القرية أو الإكراه على الرجوع في ملتهم والدخول معهم فيما هم فيه, وهذا خطاب مع الرسول والمراد أتباعه الذين كانوا معه على الملة, وقوله {أو لو كنا كارهين ؟} يقول أو أنتم فاعلون ذلك ولو كنا كارهين ما تدعونا إليه فإنا إن رجعنا إلى ملتكم ودخلنا معكم فيما أنتم فيه, فقد أعظمنا الفرية على الله في جعل الشركاء معه أنداداً وهذا تعبير منه عن اتباعهم {وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا} وهذا رد إلى المشيئة فإنه يعلم كل شيء وقد أحاط بكل شيء علماً {على الله توكلنا} أي في أمورنا ما نأتي منها وما نذر {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق} أي احكم بيننا وبين قومنا وانصرنا عليهم {وأنت خير الفاتحين} أي خير الحاكمين, فإنك العادل الذي لا يجور أبداً.


    ** وَقَالَ الْمَلاُ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنّكُمْ إِذاً لّخَاسِرُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الّذِينَ كَذّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الّذِينَ كَذّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ
    يخبر تعالى عن شدة كفرهم وتمردهم وعتوهم وما هم فيه من الضلال وما جبلت عليه قلوبهم من المخالفة للحق ولهذا أقسموا وقالوا {لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون} فلهذا عقبه بقوله {فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين} أخبر تعالى هنا أنهم أخذتهم الرجفة وذلك كما أرجفوا شعيباً وأصحابه وتوعدهم بالجلاء كما أخبر عنهم في سورة هود فقال {ولما جاءهم أمرنا نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين} والمناسبة هناك والله أعلم أنهم لما تهكموا به في قولهم {أصلاتك تأمرك} الاَية فجاءت الصيحة فأسكتتهم, وقال تعالى إخباراً عنهم في سورة الشعراء {فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم} وما ذاك إلا لأنهم قالوا له في سياق القصة {فأسقط علينا كسفاً من السماء} الاَية.
    فأخبرأنه أصابهم عذاب يوم الظلة, وقد اجتمع عليهم ذلك كله {أصابهم عذاب يوم الظلة} وهي سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم, ثم جاءتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم فزهقت الأرواح وفاضت النفوس وخمدت الأجسام {فأصبحوا في دراهم جاثمين} ثم قال تعالى: {كأن لم يغنوا فيها} أي كأنهم لما أصابتهم النقمة لم يقيموا بديارهم التي أرادوا إجلاء الرسول وصحبه منها ثم قال تعالى مقابلاً لقيلهم {الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين}.


    ** فَتَوَلّىَ عَنْهُمْ وَقَالَ يَقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَىَ عَلَىَ قَوْمٍ كَافِرِينَ
    أي فتولى عنهم شعيب عليه السلام بعد ما أصابهم من العذاب والنقمة والنكال, وقال مقرعاً لهم وموبخاً {يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم} أي قد أديت إليكم ما أرسلت به فلاآسف عليكم وقد كفرتم بما جئتكم به فلهذا قال {فكيف آسى على قوم كافرين} ؟)


    ** وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مّن نّبِيّ إِلاّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَآءِ وَالضّرّآءِ لَعَلّهُمْ يَضّرّعُونَ * ثُمّ بَدّلْنَا مَكَانَ السّيّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتّىَ عَفَوْاْ وّقَالُواْ قَدْ مَسّ آبَاءَنَا الضّرّآءُ وَالسّرّآءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
    يقول تعالى مخبراً عما اختبر به الأمم الماضية الذين أرسل إليهم الأنبياء بالبأساء والضراء, يعني بالبأساء ما يصيبهم في أبدانهم من أمراض وأسقام, والضراء ما يصيبهم من فقر وحاجة ونحو ذلك {لعلهم يضرعون}, أي يدعون ويخشعون ويبتهلون إلى الله تعالى في كشف ما نزل بهم, وتقدير الكلام أنه ابتلاهم بالشدة ليتضرعوا فما فعلوا شيئاً من الذي أراد منهم, فقلب عليهم الحال إلى الرخاء ليختبرهم فيه, ولهذا قال {ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة} أي حولنا الحالة من شدة إلى رخاء ومن مرض وسقم إلى صحة وعافية ومن فقر إلى غنى ليشكروا على ذلك فما فعلوا, وقوله {حتى عفوا} أي كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم, يقال عفا الشيء إذا كثر.
    {وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون} يقول تعالى: ابتليناهم بهذا وهذا ليتضرعوا وينيبوا إلى الله فما نجع فيهم لا هذا ولا هذا ولا انتهوا بهذا ولا بهذا, بل قالوا: قد مسنا من البأساء والضراء ثم بعده من الرخاء مثل ما أصاب آباءنا في قديم الزمان والدهر, وإنما هو الدهر تارات وتارات, بل لم يتفطنوا لأمر الله فيهم و لا استشعروا ابتلاء الله لهم في الحالين, وهذا بخلاف حال المؤمنين الذين يشكرون الله على السراء ويصبرون على الضراء كما ثبت في الصحيحين «عجباً للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيراً له, وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له, وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له» فالمؤمن من يتفطن لما ابتلاه الله به من الضراء والسراء, ولهذا جاء في الحديث «لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج نقياً من ذنوبه, والمنافق مثله كمثل الحمار لا يدري فيم ربطه أهله ولا فيم أرسلوه» أو كما قال, ولهذا عقب هذه الصفة بقوله {فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون} أي أخذناهم بالعقوبة بغتة, أي على بغتة, وعدم شعور منهم أي أخذناهم فجأة كما في الحديث «موت الفجأة رحمة للمؤمن وأخذة أسف للكافر».


    ** وَلَوْ أَنّ أَهْلَ الْقُرَىَ آمَنُواْ وَاتّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مّنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ وَلَـَكِن كَذّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىَ أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىَ أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ
    يخبر تعالى عن قلة إيمان أهل القرى الذين أرسل فيهم الرسل, كقوله تعالى: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين} أي ما آمنت قرية بتمامها إلا قوم يونس, فإنهم آمنوا وذلك بعدما عاينوا العذاب, كما قال تعالى: {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين} وقال تعالى: {وما أرسلنا في قرية من نذير} الاَية, وقوله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا} أي آمنت قلوبهم بما جاء به الرسل وصدقت به واتبعوه, واتقوا بفعل الطاعات وترك المحرمات {لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} أي قطر السماء ونبات الأرض, قال تعالى: {ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} أي ولكن كذبوا رسلهم فعاقبناهم بالهلاك على ما كسبوا من المآثم والمحارم, ثم قال تعالى مخوفاً ومحذراً من مخالفة أوامره والتجرؤ على زواجره: {أفأمن أهل القرى} أي الكافرة {أن يأتيهم بأسنا} أي عذابنا ونكالنا {بياتاً} أي ليلاً {وهم نائمون * أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون} أي في حال شغلهم وغفلتهم {أفأمنوا مكر الله} أي بأسه ونقمته وقدرته عليهم وأخذه إياهم في حال سهوهم وغفلتهم {فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} ولهذا قال الحسن البصري رحمه الله: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 10:03

    ** أَوَلَمْ يَهْدِ لِلّذِينَ يَرِثُونَ الأرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ
    قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها} أو لم يتبين لهم أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم, وكذا قال مجاهد وغيره, وقال أبو جعفر بن جرير في تفسيرها: يقول تعالى أو لم يتبين للذين يستخلفون في الأرض من بعد إهلاك آخرين قبلهم كانوا أهلها فساروا سيرتهم وعملوا أعمالهم وعتوا على ربهم {أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم} يقول: أن لو نشاء فعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم {ونطبع على قلوبهم} يقول ونختم على قلوبهم {فهم لا يسمعون} موعظة ولا تذكيراً (قلت) وهكذا قال تعالى: {أفلم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لاَيات لأولي النهى} وقال تعالى: {أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لاَيات أفلا يسمعون} وقال {أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال * وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم} الاَية, وقال تعالى: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً} أي هل ترى لهم شخصاً أو تسمع لهم صوتاً ؟.
    وقال تعالى: {أو لم يروا كم أهلنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين} وقال تعالى بعد ذكره إهلاك عاد{فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين * ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون * ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الاَيات لعلهم يرجعون}.
    وقال تعالى: {وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير} وقال تعالى: {ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير} وقال تعالى: {فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد * أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها, فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} وقال تعالى {ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون} إلى غير ذلك من الاَيات الدالة على حلول نقمه بأعدائه وحصول نعمه لأوليائه ولهذا عقب بقوله وهو أصدق القائلين ورب العالمين.


    ** تِلْكَ الْقُرَىَ نَقُصّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ * وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ
    ( شا لما قص تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم خبر قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وما كان من إهلاكه الكافرين وإنجائه المؤمنين, وأنه تعالى أعذر إليهم بأن بين لهم الحق بالحجج على ألسنة الرسل صلوات الله عليهم أجمعين, قال تعالى: {تلك القرى نقص عليك} أي يا محمد {من أنبائها} أي من أخبارها {ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات} أي الحجج على صدقهم فيما أخبروهم به, كما قال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} وقال تعالى: {ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد * وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم} وقوله تعالى: {فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل} الباء سببية, أي فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم حكاه ابن عطية رحمه الله وهو متجه حسن كقوله {وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون * ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} الاَية, ولهذا قال هنا {كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين وما وجدنا لأكثرهم} أي لأكثر الأمم الماضية {من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} أي ولقد وجدنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة والامتثال. والعهد الذي أخذه هو ما جبلهم عليه وفطرهم عليه وأخذ عليهم في الأصلاب أنه ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو فأقروا بذلك وشهدوا على أنفسهم به, وخالفوه وتركوه وراء ظهورهم وعبدوا مع الله غيره بلا دليل ولاحجة لامن عقل ولا شرع, وفي الفطرة السليمة خلاف ذلك, وجاءت الرسل الكرام من أولهم إلى آخرهم بالنهي عن ذلك كما جاء في صحيح مسلم, يقول الله تعالى: {إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم} وفي الصحيحين «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» الحديث.
    وقال تعالى في كتابه العزيز {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقوله تعالى: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا من أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} إلى غير ذلك من الاَيات, وقد قيل في تفسير قوله تعالى: {فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل} ما روى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قوله {فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل} قال كان في علمه تعالى يوم أقروا له بالميثاق, أي فما كانوا ليؤمنوا لعلم الله منهم ذلك, وكذا قال الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب عن أنس, واختاره ابن جرير, وقال السدي {فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل} قال: ذلك يوم أخذ منهم الميثاق فآمنوا كرهاً, وقال مجاهد في قوله {فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل} هذا كقوله {ولو ردوا لعادوا} الاَية.
    ثُمّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مّوسَىَ بِآيَاتِنَآ إِلَىَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ
    يقول تعالى: {ثم بعثنا من بعدهم} أي الرسل المتقدم ذكرهم كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر أنبياء الله أجمعين {موسى بآياتنا} أي بحججنا ودلائلنا البينة إلى فرعون, وهو ملك مصر في زمن موسى {وملئه} أي قومه {فظلموا بها} أي جحدوا وكفروا بها ظلماً منهم وعناداً, وكقوله تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً فانظر كيف كان عاقبة المفسدين} أي الذين صدوا عن سبيل الله وكذبوا رسله, أي انظر كيف فعلنا بهم أغرقناهم عن آخرهم بمرأى من موسى وقومه, وهذا أبلغ في النكال بفرعون وقومه وأشفى لقلوب أولياء الله موسى وقومه من المؤمنين به.


    ** وَقَالَ مُوسَىَ يَفِرْعَوْنُ إِنّي رَسُولٌ مّن رّبّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاّ الْحَقّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَةٍ مّن رّبّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ * قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصّادِقِينَ
    ( شايخبر تعالى عن مناظرة موسى لفرعون وإلجامه إياه بالحجة وإظهاره الاَيات البينات بحضرة فرعون وقومه من قبط مصر, فقال تعالى: {وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين} أي أرسلني الذي هو خالق كل شيء وربه ومليكه, {حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق} فقال بعضهم: معناه حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق, أي جدير بذلك وحري به, قالوا: والباء وعلى يتعاقبان يقال رميت بالقوس وعلى القوس, وجاء على حال حسنة وبحال حسنة, وقال بعض المفسرين: معناه حريص على أن لا أقول على الله إلا الحق, وقرأ آخرون من أهل المدينة: حقيق عليّ بمعنى واجب وحق علي ذلك أن لا أخبر عنه إلا بما هو حق وصدق, لما أعلم من جلاله وعظيم شأنه {قد جئتكم ببينة من ربكم} أي بحجة قاطعة من الله أعطانيها دليلاً على صدقي فيما جئتكم به {فأرسل معي بني أسرائيل} أي أطلقهم من أسرك وقهرك, ودعهم وعبادة ربك وربهم فإنهم من سلالة نبي كريم إسرائيل, وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن {قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين} أي قال فرعون لست بمصدقك فيما قلت ولا بمطيعك فيما طلبت, فإن كانت معك حجة فأظهرها لنراها إن كنت صادقاً فيما ادعيت.
    فَأَلْقَىَ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنّاظِرِينَ
    ( شا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {ثعبان مبين} الحية الذكر, وكذا قال السدي والضحاك, وفي حديث الفتون من رواة يزيد بن هارون عن الأصبغ بن زيد عن القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, قال {فألقى عصاه} فتحولت حية عظيمة فاغرة فاها مسرعة إلى فرعون, فلما رآها فرعون أنها قاصدة إليه اقتحم عن سريره واستغاث بموسى أن يكفها عنه ففعل, وقال قتادة: تحولت حية عظيمة مثل المدينة, وقال السدي في قوله {فإذا هي ثعبان مبين} الثعبان الذكر من الحيات فاتحة فاها واضعة لحيها الأسفل في الأرض والأعلى على سور القصر, ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه فلما رآها ذعر منها ووثب وأحدث ولم يكن يحدث قبل ذلك, وصاح يا موسى خذها وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل, فأخذها موسى عليه السلام فعادت عصا, وروي عن عكرمة عن ابن عباس نحو هذا, وقال وهب بن منبه: لما دخل موسى على فرعون قال له فرعون: أعرفك قال نعم قال {ألم نربك فينا وليداً} قال: فرد إليه موسى الذي رد, فقال فرعون: خذوه فبادر موسى {فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين} فحملت على الناس فانهزموا منها, فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً قتل بعضهم بعضاً, وقام فرعون منهزماً حتى دخل البيت, رواه ابن جرير والإمام أحمد, في كتابه الزهد, وابن أبي حاتم وفيه غرابة في سياقه والله أعلم.
    وقوله {ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين} أي أخرج يده من درعه بعد ما أدخلها فيه فإذا هي بيضاء تتلألأ من غير برص ولا مرض, كما قال تعالى: {وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء} الاَية, وقال ابن عباس في حديث الفتون: من غير سوء يعني من غير برص ثم أعادها إلى كمه فعادت إلى لونها الأول, وكذا قال مجاهد وغير واحد.
    قَالَ الْمَلاُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنّ هَـَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ
    ( شاأي قال الملأ وهم الجمهور والسادة من قوم فرعون موافقين لقول فرعون فيه بعدما رجع إليه روعه واستقر على سرير مملكته بعد ذلك قال للملأ حوله {إن هذا لساحر عليم} فوافقوا وقالوا كمقالته وتشاوروا في أمره كيف يصنعون في أمره وكيف تكون حيلتهم في إطفاء نوره وإخماد كلمته وظهور كذبه وافترائه وتخوفوا أن يستميل الناس بسحره فيما يعتقدون فيكون ذلك سبباً لظهوره عليهم وإخراجه إياهم من أرضهم والذي خافوا منه وقعوا فيه كما قال تعالى: {ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} فلما تشاوروا في شأنه وائتمروا بما فيه اتفق رأيهم على ما حكاه الله تعالى عنهم في قوله تعالى

    يتبع


    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 10:08

    قَالُوَاْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ
    ( شاقال ابن عباس {أرجه} أخره وقال قتادة احبسه {وأرسل} أي ابعث {في المدائن} أي في الأقاليم ومدائن ملكك {حاشرين} أي من يحشر لك السحرة من سائر البلاد ويجمعهم وقت كان السحر في زمانهم غالباً كثيراً ظاهراً واعتقد من اعتقد منهم وأوهم من أوهم منهم أن ما جاء به موسى عليه السلام من قبيل ما تشعبذه سحرتهم فلهذا جمعوا له السحرة ليعارضوه بنظير ما أراهم من البينات كما أخبر تعالى عن فرعون حيث قال {أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتيك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه نحن ولا أنت مكاناً سوى * قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى * فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى} وقال تعالى ههنا
    وَجَآءَ السّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْوَاْ إِنّ لَنَا لأجْراً إِن كُنّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرّبِينَ
    ( شايخبر تعالى عما تشارط عليه فرعون والسحرة الذين استدعاهم لمعارضة موسى عليه السلام إن غلبوا موسى ليثيبنهم وليعطينهم عطاء جزيلاً فوعدهم ومناهم أن يعطيهم ما أرادوا ويجعلهم من جلسائه والمقربين عنده فلما توثقوا من فرعون لعنه الله.
    قَالُواْ يَمُوسَىَ إِمّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمّآ أَن نّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقَوْاْ فَلَمّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُوَاْ أَعْيُنَ النّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ
    ( شاهذه مبارزة من السحرة لموسى عليه السلام في قولهم {إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين} أي قبلك كما قال في الاَية الأخرى {وإما أن نكون أول من ألقى} فقال لهم موسى عليه السلام ألقوا أي أنتم أولاً, قيلالحكمة في هذا والله أعلم ليرى الناس صنيعهم ويتأملوا فإذا فرغوا من بهرجهم ومحالهم جاءهم الحق الواضح الجلي بعد التطلب له والانتظار منهم لمجيئه فيكون أوقع في النفوس وكذا كان ولهذا قال تعالى: {فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم} أي خيلوا إلى الأبصار أن ما فعلوا له حقيقة في الخارج ولم يكن إلا مجرد صنعة وخيال كما قال تعالى: {فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى * فأوجس في نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى * وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إن ما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى}.
    قال سفيان بن عيينة حدثنا أبو سعيد عن عكرمة عن ابن عباس: ألقوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً, قال فأقبلت يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى وقال محمد بن إسحاق صف خمسة عشر ألف ساحر مع كل ساحر حباله وعصيه وخرج موسى عليه السلام معه أخوه يتكى على عصاه حتى أتى الجمع وفرعون في مجلسه مع أشراف أهل مملكته ثم قال السحرة {يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم} فكان أول ما اختطفوا بسحرهم بصر موسى وبصر فرعون ثم أبصار الناس بعد ثم ألقى كل رجل منهم ما في يده من الحبال والعصي فإذا حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضاً وقال السدي كانوا بضعة وثلاثين ألف رجل وليس رجل منهم إلا ومعه حبل وعصا {فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم} يقول فرقوهم أي من الفرق وقال ابن جرير حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية عن هشام الدستوائي حدثنا القاسم بن أبي بزة قال جمع فرعون سبعين ألف ساحر فألقوا سبعين ألف حبل وسبعين ألف عصا حتى جعل يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ولهذا قال تعالى: {وجاءوا بسحر عظيم}.
    وَأَوْحَيْنَآ إِلَىَ مُوسَىَ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوَاْ آمَنّا بِرَبّ الْعَالَمِينَ * رَبّ مُوسَىَ وَهَارُونَ
    يخبر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله موسى عليه السلام في ذلك الموقف العظيم الذي فرق الله تعالى فيه بين الحق والباطل يأمره بأن يلقي ما في يمينه وهي عصاه {فإذا هي تلقف} أي تأكل {ما يأفكون} أي ما يلقونه ويوهمون أنه حق وهو باطل قال ابن عباس فجعلت لا تمر بشيء من حبالهم ولا من خشبهم إلا التقمته فعرفت السحرة أن هذا شيء من السماء ليس هذا بسحر فخروا سجداً وقالوا {آمنا برب العالمين رب موسى وهارون}.
    وقال محمد بن إسحاق جعلت تتبع تلك الحبال والعصي واحدة واحدة حتى ما يرى بالوادي قليل ولا كثير مما ألقوا ثم أخذها موسى فإذا هي عصا في يده كما كانت ووقع السحرة سجداً قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون لو كان هذا ساحراً ما غلبنا وقال القاسم بن أبي بزة أوحى الله إليه أن ألق عصاك فألقي عصاه فإذاهي ثعبان مبين فاغر فاه يبتلع حبالهم وعصيهم فألقي السحرة عند ذلك سجداً فما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار وثواب أهلهما.


    ** قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنّ هَـَذَا لَمَكْرٌ مّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لاُقَطّعَنّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ ثُمّ لاُصَلّبَنّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوَاْ إِنّآ إِلَىَ رَبّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنّآ إِلاّ أَنْ آمَنّا بِآيَاتِ رَبّنَا لَمّا جَآءَتْنَا رَبّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفّنَا مُسْلِمِينَ
    يخبر تعالى عما توعد به فرعون لعنه الله السحرة لما آمنوا بموسى عليه السلام وما أظهره للناس من كيده ومكره في قوله {إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها} أي إن غلبته لكم في يومكم هذا إنما كان عن تشاور منكم ورضاً منكم لذلك كقوله في الاَية الأخرى {إنه لكبيركم الذي علمكم السحر} وهو يعلم وكل من له لب أن هذا الذي قاله من أبطل الباطل فإن موسى عليه السلام بمجرد ما جاء من مدين دعا فرعون إلى الله وأظهر المعجزات الباهرة والحجج القاطعة على صدق ما جاء به فعند ذلك أرسل فرعون في مدائن ملكه ومعاملة سلطنته فجمع سحرة متفرقين من سائر الأقاليم ببلاد مصر ممن اختار هو والملأ من قومه وأحضرهم عنده ووعدهم بالعطاء الجزيل ولهذا قد كانوا من أحرص الناس على ذلك وعلى الظهور في مقامهم ذلك والتقدم عند فرعون. وموسى عليه السلام لا يعرف أحداً منهم ولا رآه ولا اجتمع به وفرعون يعلم ذلك وإنما قال هذا تستراً وتدليساً على رعاع دولته وجهلتهم كما قال تعالى: {فاستخف قومه فأطاعوه} فإن قوماً صدقوه في قوله {أنا ربكم الأعلى} من أجهل خلق الله وأضلهم.
    وقال السدي في تفسيره بإسناده المشهور عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما من الصحابة في قوله تعالى: {إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة} قال: التقى موسى عليه السلام وأمير السحرة فقال له موسى أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به حق. قال الساحر لاَتين غداً بسحر لا يغلبه سحر فوالله لئن غلبتني لأومنن بك ولأشهدن أنك حق وفرعون ينظر إليهما قالوا فلهذا قال ما قال, وقوله {لتخرجوا منها أهلها} أي تجتمعوا أنتم وهو وتكون لكم دولة وصولة وتخرجوا منها الأكابر والرؤساء وتكون الدولة والتصرف لكم {فسوف تعلمون} أي ما أصنع بكم ثم فسر هذا الوعيد بقوله {لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف} يعني يقطع يد الرجل اليمنى ورجله اليسرى أو بالعكس {ثم لأصلبنكم أجمعين} وقال في الاَية الأخرى {في جذوع النخل} أي على الجذوع.
    قال ابن عباس وكان أول من صلب وأول من قطع الأيدي والأرجل من خلاف فرعون وقول السحرة {إنا إلى ربنا منقلبون} أي قد تحققنا أنا إليه راجعون وعذابه أشد من عذابك ونكاله على ما تدعونا إليه اليوم وما أكرهتنا عليه من السحر أعظم من نكالك فلنصبرن اليوم على عذابك لنخلص عن عذاب الله ولهذا قالوا {ربنا أفرغ علينا صبراً} أي عمنا بالصبر على دينك والثبات عليه {وتوفنا مسلمين} أي متابعين لنبيك موسى عليه السلام وقالوا لفرعون {فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا * إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى * إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى * ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى} فكانوا في أول النهار سحرة, فصاروا في آخره شهداء بررة, قال ابن عباس وعبيد بن عمير وقتادة وابن جريج كانوا في أول النهار سحرة وفي آخره شهداء

    يتبع


    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 10:11

    ** وَقَالَ الْمَلاُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَىَ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَآءَهُمْ وَإِنّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُوَاْ إِنّ الأرْضَ للّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ * قَالُوَاْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَىَ رَبّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ
    يخبر تعالى عما تمالأ عليه فرعون وملؤه وما أضمروه لموسى عليه السلام وقومه من الأذى والبغضة {وقال الملأ من قوم فرعون} أي لفرعون {أتذر موسى وقومه} أي أتدعهم ليفسدوا في الأرض أي يفسدوا أهل رعيتك ويدعوهم إلى عبادة ربهم دونك يا لله العجب صار هؤلاء يشفقون من إفساد موسى وقومه! ألا إن فرعون وقومه هم المفسدون ولكن لا يشعرون ولهذا قالوا {ويذرك وآلهتك} قال بعضهم الواو هاهنا حالية أي أتذره وقومه يفسدون في الأرض وقد ترك عبادتك ؟ وقرأ ذلك أبي بن كعب وقد تركوك أن يعبدوك وآلهتك حكاه ابن جرير, وقال آخرون: هي عاطفة أي أتدعهم يصنعون من الفساد ما قد أقررتهم عليه وعلى ترك آلهتك, وقرأ بعضهم إلاهتك أي عبادتك وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وغيره وعلى القراءة الأولى قال بعضهم: كان لفرعون إله يعبده قال الحسن البصري كان لفرعون إله يعبده في السر وقال في رواية أخرى كان له حنانة في عنقه معلقة يسجد لها. وقال السدي في قوله تعالى: {ويذرك وآلهتك} وآلهته فيما زعم ابن عباس كانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم فرعون أن يعبدوها فلذلك أخرج لهم السامري عجلاً جسداً له خوار. فأجابهم فرعون فيما سألوه بقوله سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وهذا أمر ثان بهذا الصنيع وقد كان نكل بهم قبل ولادة موسى عليه السلام حذراً من وجوده فكان خلاف ما رامه وضد ما قصده فرعون. وهكذا عومل في صنيعه أيضاً لما أراد إذلال بني إسرائيل وقهرهم فجاء الأمر على خلاف ما أراد: أعزهم الله وأذله وأرغم أنفه وأغرقه وجنوده. ولما صمم فرعون على ما ذكره من المساءة لبني إسرائيل {قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا} ووعدهم بالعاقبة وأن الدار ستصير لهم في قوله {إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين * قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا} أي قد فعلوا بنا مثل ما رأيت من الهوان والإذلال من قبل ما جئت يا موسى ومن بعد ذلك فقال منبهاً لهم على حالهم الحاضر وما يصيرون إليه في ثاني الحال {عسى ربكم أن يهلك عدوكم} الاَية, وهذا تخصيص لهم على العزم على الشكر عند حلول النعم وزوال النقم.


    ** وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِالسّنِينَ وَنَقْصٍ مّن الثّمَرَاتِ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ * فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَطّيّرُواْ بِمُوسَىَ وَمَن مّعَهُ أَلآ إِنّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
    يقول تعالى: {ولقد أخذنا آل فرعون} أي اختبرناهم وامتحناهم وابتليناهم {بالسنين} وهي سني الجوع بسبب قلة الزروع {ونقص من الثمرات} قال مجاهد وهو دون ذلك وقال أبو إسحاق عن رجاء بن حيوة كانت النخلة لا تحمل إلا ثمرة واحدة {لعلهم يذكرون فإذا جاءتهم الحسنة} أي من الخصب والرزق {قالوا لنا هذه} أي هذا لنا بما نستحقه {وإن تصبهم سيئة} أي جدب وقحط {يطيّروا بموسى ومن معه} أي هذا بسببهم وما جاؤوا به {ألا إنما طائرهم عند الله} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {ألا إنما طائرهم عند الله} يقول مصائبهم عند الله {ولكن أكثرهم لا يعلمون} وقال ابن جريج عن ابن عباس قال {ألا إنما طائرهم عند الله} أي إلا من قبل الله.


    ** وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمّلَ وَالضّفَادِعَ وَالدّمَ آيَاتٍ مّفَصّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مّجْرِمِينَ * وَلَمّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرّجْزُ قَالُواْ يَمُوسَىَ ادْعُ لَنَا رَبّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنّا الرّجْزَ لَنُؤْمِنَنّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنّ مَعَكَ بَنِيَ إِسْرَآئِيلَ * فَلَماّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرّجْزَ إِلَىَ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ
    ( شاهذا إخبار من الله عز وجل عن تمرد قوم فرعون وعتوهم وعنادهم للحق وإصرارهم على الباطل في قولهم {مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين} يقولون أي آية جئتنا بها ودلالة وحجة أقمتها رددناها فلا نقبلها منك ولا نؤمن بك ولا بما جئت به قال الله تعالى: {فأرسلنا عليهم الطوفان} اختلفوا في معناه فعن ابن عباس في رواية كثرة الأمطار المغرقة المتلفة للزروع والثمار وبه قال الضحاك بن مزاحم, وعن ابن عباس في رواية أخرى هو كثرة الموت وكذا قال عطاء, وقال مجاهد: الطوفان الماء والطاعون على كل حال. وقال ابن جرير: حدثنا ابن هشام الرفاعي, حدثنا يحيى بن يمان حدثنا المنهال بن خليفة عن الحجاج عن الحكم بن ميناء عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الطوفان الموت» وكذا رواه ابن مردويه من حديث يحيى بن يمان به, وهو حديث غريب, وقال ابن عباس في رواية أخرى: هو أمر من الله طاف بهم ثم قرأ {فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون} وأما الجراد فمعروف مشهور وهو مأكول لما ثبت في الصحيحين عن أبي يعفور قال سألت عبد الله بن أبي أوفى عن الجراد فقال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد وروى الشافعي وأحمد بن حنبل وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أحلت لنا ميتتان ودمان: الحوت والجراد والكبد والطحال» ورواه أبو القاسم البغوي عن داود بن رشيد عن سويد بن عبد العزيز عن أبي تمام الأيلي عن زيد بن أسلم عن ابن عمر مرفوعاً مثله, وروى أبو داود عن محمد بن الفرج عن محمد بن ***قان الأهوازي عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن سلمان قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجراد فقال «أكثر جنود الله لا آكله ولا أحرمه» وإنما تركه عليه السلام لأنه كان يعافه كما عافت نفسه الشريفة أكل الضب وأذن فيه. وقد روى الحافظ ابن عساكر في جزء جمعه في الجراد من حديث أبي سعيد الحسن بن علي العدوي حدثنا نصر بن يحيى بن سعيد, حدثنا يحيى بن خالد عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلملا يأكل الجراد ولا الكلوتين ولا الضب من غير أن يحرمها أما الجراد فرجز وعذاب, وأما الكلوتان فلقربهما من البول, وأما الضب فقال «أتخوف أن يكون مسخاً» ثم قال غريب لم أكتبه إلا من هذا الوجه, وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشتهيه ويحبه, فروى عبد الله بن دينار عن ابن عمر: أن عمر سئل عن الجراد فقال: ليت أن عندنا منه قفعة أو قفعتين نأكله, وروى ابن ماجه: حدثنا أحمد بن منيع عن سفيان بن عيينة عن أبي سعد سعيد بن المرزبان البقال سمع أنس بن مالك يقول كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يتهادين الجراد على الأطباق, وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا داود بن رشيد حدثنا بقية بن الوليد عن يحيى بن يزيد القعنبي حدثني أبي عن صدي بن عجلان عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن مريم بنت عمران عليها السلام سألت ربها عز وجل أن يطعمها لحماً لا دم له فأطعمها الجراد فقالت اللهم أعشه بغير رضاع وتابع بينه بغير شياع» وقال نمير: الشياع الصوت, وقال أبو بكر بن أبي داود: حدثنا أبو تقي هشام بن عبد الملك المزني, حدثنا بقية بن الوليد حدثنا إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي زهير النميري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقاتلوا الجراد فإنه جند الله الأعظم» غريب جداً. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد} قال: كانت تأكل مسامير أبوابهم وتدع الخشب, وروى ابن عساكر من حديث علي بن زيد الخرائطي عن محمد بن كثير سمعت الأوزاعي يقول: خرجت إلى الصحراء فإذا أنا برِجْل من جراد في السماء فإذا برجل راكب على جرادة منها وهو شاك في الحديد وكلما قال بيده هكذا مال الجراد مع يده وهو يقول الدنيا باطل باطل ما فيها الدنيا باطل باطل ما فيها الدنيا باطل باطل مافيها, وروى الحافظ أبو الفرج المعافى بن زكريا الحريري: حدثنا محمد بن الحسن بن زياد, حدثنا أحمد بن عبد الرحيم أخبرنا وكيع عن الأعمش أنبأنا عامر قال: سئل شريح القاضي عن الجراد فقال: قبح الله الجرادة فيها خلقة سبعة جبابرة, رأسها رأس فرس, وعنقها عنق ثور, وصدرها صدر أسد, وجناحها جناح نسر, ورجلاها رجل جمل, وذنبها ذنب حية, وبطنها بطن عقرب, وقدمنا عند قوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة} حديث حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حج أو عمرة فاستقبلنا رجل جراد فجعلنا نضربه بالعصي ونحن محرمون, فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «لابأس بصيد البحر» وروى ابن ماجه عن هارون الحمال عن هشام بن القاسم عن زياد بن عبد الله بن علاثة عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أنس وجابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دعا على الجراد قال «اللهم أهلك كباره واقتل صغاره وأفسد بيضه واقطع دابره وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا إنك سميع الدعاء» فقال له جابر يا رسول الله أتدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره ؟ فقال «إنما هو نثرة حوت في البحر» قال هشام أخبرني زياد أنه أخبره من رآه ينثره الحوت قال من حقق ذلك إن السمك إذا باض في ساحل البحر فنضب الماء عنه وبدا للشمس أنه يفقس كله جراداً طياراً. وقدمنا عند قوله {إلا أمم أمثالكم} حديث عمر رضي الله عنه أن الله خلق ألف أمة ستمائة في البحر وأربعمائة في البر, وإن أولها هلاكاً الجراد, وقال أبو بكر بن أبي داود حدثنا يزيد بن المبارك حدثنا عبد الرحمن بن قيس حدثنا سالم بن سالم حدثنا أبو المغيرة الجوزجاني محمد بن مالك عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا وباء مع السيف ولا نجاء مع الجراد» حديث غريب وأما القمل فعن ابن عباس هو السوس الذي يخرج من الحنطة وعنه أنه الدبا وهو الجراد الصغير الذي لا أجنحة له وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة وعن الحسن وسعيد بن جبير القمل دواب سود صغار, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: القمل البراغيث, وقال ابن جرير القمل جمع واحدتها قملة وهي دابة تشبه القمل تأكلها الإبل فيما بلغني وهي التي عناها الأعشى بقوله:
    قوم يعالج قملاً أبناؤهموسلاسلاً أجدى وباباً موصدا

    يتبع


    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 10:15

    قال: وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة, يزعم أن القمل عند العرب الحمنان واحدتها حمنانة وهي صغار القردان فوق القمقامة. وقال أبو جعفر ابن جرير: حدثنا ابن حميد الرازي, حدثنا يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير قال: لما أتى موسى عليه السلام فرعون قال له: أرسل معي بني إسرائيل فلم يرسلهم فأرسل الله عليهم الطوفان وهو المطر فصب عليهم منه شيئاً خافوا أن يكون عذاباً فقالوا لموسى: ادع لنا ربك يكشف عنا المطر فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل, فدعا ربه فكشف عنهم فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل, فأنبت لهم في تلك السنة شيئاً لم ينبته قبل ذلك من الزروع والثمار والكلأ فقالوا: هذا ما كنا نتمنى فأرسل الله عليهم الجراد فسلطه على الكلأ, فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لا يبقي الزرع, فقالوا يا موسى ادع لنا ربك فيكشف عنا الجراد فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم الجراد فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل فداسوا وأحرزوا في البيوت فقالوا قد أحرزنا فأرسل الله عليهم القمل وهو السوس الذي يخرج منه فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها إلا ثلاثة أقفزة فقالوا يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا القمل فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل. فبينما هو جالس عند فرعون إذ سمع نقيق ضفدع فقال لفرعون ما تلقى أنت وقومك من هذا فقال وما عسى أن يكون كيد هذا فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه, فقالوا لموسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذه الضفادع فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم فلم يؤمنوا وأرسل الله عليهم الدم فكانوا ما استقوا من الأنهار والاَبار وما كان في أوعيتهم وجدوه دماً عبيطاً فشكوا إلى فرعون فقالوا إنا قد ابتلينا بالدم وليس لنا شراب فقال: إنه قد سحركم, فقالوا من أين سحرنا ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئاً من الماء إلا وجدناه دماً عبيطاً فأتوه وقالوا يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل, وقد روي نحو هذا عن ابن عباس والسدي وقتادة وغير واحد من علماء السلف أنه أخبر بذلك, وقال محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله, فرجع عدو الله فرعون حين آمنت السحرة مغلوباً مغلولاً ثم أبى إلا الإقامة على الكفر والتمادي في الشر فتابع الله عليه الاَيات فأخذه بالسنين وأرسل عليه الطوفان, ثم الجراد, ثم القمل, ثم الضفادع, ثم الدم, آيات مفصلات, فأرسل الطوفان وهو الماء ففاض على وجه الأرض, ثم ركد لا يقدرون على أن يحرثوا ولا أن يعملوا شيئاً حتى جهدوا جوعاً فلما بلغهم ذلك {قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل} فدعا موسى ربه فكشف عنهم فلم يفوا له بشيء مما قالوا فأرسل الله عليهم الجراد فأكل الشجر فيما بلغني حتى إن كان ليأكل مسامير الأبواب من الحديد حتى تقع دورهم ومساكنهم فقالوا مثل ما قالوا فدعا ربه فكشف عنهم فلم يفوا له بشيء مما قالوا فأرسل الله عليهم القمل فذكر لي أن موسى عليه السلام أمر أن يمشي إلى كثيب حتى يضربه بعصاه فمشى إلى كثيب أهيل عظيم فضربه بها فانثال عليهم قملاً حتى غلب على البيوت والأطعمة ومنعهم النوم والقرار, فلما جهدهم قالوا مثل ما قالوا فدعا ربه فكشف عنهم فلم يفوا له بشيء مما قالوا فأرسل الله عليهم الضفادع فملأت البيوت والأطعمة والاَنية فلا يكشف أحد ثوباً ولا طعاماً إلا وجد فيه الضفادع قد غلبت عليه, فلما جهدهم ذلك قالوا له مثل ما قالوا فسأل ربه فكشف عنهم فلم يفوا له بشيء مما قالوا فأرسل الله عليهم الدم فصارت مياه آل فرعون دماً لا يستقون من بئر ولا نهر ولا يغترفون من إناء إلا عاد دماً عبيطاً. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن منصور المروزي أنبأنا النضر أنبأنا إسرائيل أنبأنا جابر بن يزيد عن عكرمة عن عبيد الله بن عمرو قال: لا تقتلوا الضفادع فإنها لما أرسلت على قوم فرعون انطلق ضفدع منها فوقع في تنور فيه نار يطلب بذلك مرضاة الله فأبدلهن الله من هذا أبرد شيء يعلمه من الماء وجعل نقيقهن التسبيح, وروي من طريق عكرمة عن ابن عباس نحوه, وقال زيد بن أسلم: يعني بالدم الرعاف. رواه ابن أبي حاتم.
    فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمّ بِأَنّهُمْ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ * وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ الْحُسْنَىَ عَلَىَ بَنِيَ إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ
    ( شايخبر تعالى أنهم لما عتوا وتمردوا مع ابتلائه إياهم بالاَيات المتواترة واحدة بعد واحدة انتقم منهم بإغراقه إياهم في اليم وهو البحر الذي فرقه لموسى فجاوزه وبنو إسرائيل معه, ثم ورده فرعون وجنوده على أثرهم فلما استكملوا فيه ارتطم عليهم فغرقوا عن آخرهم وذلك بسبب تكذيبهم بآيات الله وتغافلهم عنها, وأخبر تعالى أنه أورث القوم الذين كانوا يستضعفون وهم بنو إسرائيل مشارق الأرض ومغاربها كما قال تعالى: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} وقال تعالى: {كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوماً آخرين} وعن الحسن البصري وقتادة في قوله {مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها} يعني الشام, وقوله {وتمت كلمة ربك الحسنى على إسرائيل بما صبروا} قال مجاهد وابن جرير وهي قوله تعالى: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} وقوله {ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه} أي وخربنا ما كان فرعون وقومه يصنعونه من العمارات والمزارع {وما كانوا يعرشون} قال ابن عباس ومجاهد {يعرشون} يبنون.
    وَجَاوَزْنَا بِبَنِيَ إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَىَ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىَ أَصْنَامٍ لّهُمْ قَالُواْ يَمُوسَىَ اجْعَلْ لّنَآ إِلَـَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنّ هَـَؤُلآءِ مُتَبّرٌ مّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
    يخبر تعالى عما قاله جهلة بني إسرائيل لموسى عليه السلام حين جاوزوا البحر وقد رأوا من آيات الله وعظيم سلطانه ما رأوا {فأتوا} أي فمروا {على قوم يعكفون على أصنام لهم}.
    قال بعض المفسرين كانوا من الكنعانيين وقيل كانوامن لخم قال ابن جرير: وكانوا يعبدون أصناماً على صور البقر فلهذا أثار ذلك شبهة لهم في عبادتهم العجل بعد ذلك فقالوا {يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} أي تجهلون عظمة الله وجلاله وما يجب أن ينزه عنه من الشريك والمثيل {إن هؤلاء متبر ما هم فيه} أي هالك {وباطل ما كانوا يعملون} وروى الإمام أبو جعفر ابن جرير في تفسير هذه الاَية من حديث محمد بن إسحاق وعقيل ومعمر كلهم عن الزهري عن سنان بن أبي سنان عن أبي واقد الليثي أنهم خرجوا من مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين قال وكان للكفار سدرة يعكفون عندها ويعلقون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط قال: فمررنا بسدرة خضراء عظيمة قال: فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال: «قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى لموسى: {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون} وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن سنان بن أبي سنان الديلي عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين فمررنا بسدرة فقلت يا نبي الله: اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة إنكم تركبون سنن من قبلكم» أورده ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده مرفوعاً.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 10:21

    ** قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـَهاً وَهُوَ فَضّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلآءٌ مّن رّبّكُمْ عَظِيمٌ
    يذكرهم موسى عليه السلام نعم الله عليهم من إنقاذهم من أسر فرعون وقهره وما كانوا فيه من الهوان والذلة وما صاروا إليه من العزة والاشتفاء من عدوهم والنظر إليه في حال هوانه وهلاكه وغرقه ودماره وقد تقدم تفسيرها في البقرة.


    ** وَوَاعَدْنَا مُوسَىَ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمّ مِيقَاتُ رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىَ لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ
    يقول تعالى ممتناً على بني إسرائيل بما حصل لهم من الهداية بتكليمه موسى عليه السلام وإعطائه التوراة وفيها أحكامهم وتفاصيل شرعهم فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة قال المفسرون فصامها موسى عليه السلام وطواها فلما تم الميقات استاك بلحاء شجرة فأمره الله تعالى أن يكمل بعشر أربعين وقد اختلف المفسرون في هذه العشر ما هي فالأكثرون على أن الثلاثين هي ذو القعدة والعشر عشر ذي الحجة قاله مجاهد ومسروق وابن جريج وروي عن ابن عباس وغيره فعلى هذا يكون قد كمل الميقات يوم النحر وحصل فيه التكليم لموسى عليه السلام وفيه أكمل الله الدين لمحمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} فلما تم الميقات وعزم موسىَ على الذهاب إلى الطور كما قال تعالى: {يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن} الاَية فحينئذ استخلف موسى عليه السلام على بني إسرائيل أخاه هارون ووصاه بالإصلاح وعدم الإفساد وهذا تنبيه وتذكير وإلا فهارون عليه السلام نبي شريف كريم على الله له وجاهة وجلالة صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء.


    ** وَلَمّا جَآءَ مُوسَىَ لِمِيقَاتِنَا وَكَلّمَهُ رَبّهُ قَالَ رَبّ أَرِنِيَ أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمّا تَجَلّىَ رَبّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرّ موسَىَ صَعِقاً فَلَمّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوّلُ الْمُؤْمِنِينَ
    يخبر تعالى عن موسى عليه السلام أنه لما جاء لميقات الله تعالى وحصل له التكليم من الله تعالى سأل الله تعالىَ أن ينظر إليه فقال {رب أرني أنظر إليك قال لن تراني} وقد أشكل حرف لن ههنا على كثير من العلماء لأنها موضوعة لنفي التأبيد فاستدل به المعتزلة على نفي الرؤية في الدنيا والاَخرة وهذا أضعف الأقوال لأنه قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون الله في الدار الاَخرة كما سنوردها عند قوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}.
    وقوله تعالى إخباراً عن الكفار {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} وقيل إنها لنفي التأبيد في الدنيا جمعاً بين هذه الاَية وبين الدليل القاطع على صحة الرؤيا في الدار الاَخرة وقيل إن هذا الكلام في هذا المقام كالكلام في قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} وقد تقدم ذلك في الأنعام وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام «يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده» ولهذا قال تعالى: {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً} قال أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسير هذه الاَية حدثنا أحمد بن سهيل الواسطي حدثنا قرة بن عيسى حدثنا الأعمش عن رجل عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما تجلى ربه للجبل أشار بأصبعه فجعله دكاً. وأرانا أبو إسماعيل بأصبعه السبابة, هذا الإسناد فيه رجل مبهم لم يسم, ثم قال حدثني المثنى, حدثنا حجاج بن منهال, حدثنا حماد عن ليث عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الاَية {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً} قال: هكذا بأصبعه, ووضع النبي صلى الله عليه وسلم أصبعه الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر, فساخ الجبل هكذا وقع في هذه الرواية حماد بن سلمة عن ليث عن أنس والمشهور حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس كما قال ابن جرير حدثني المثنى حدثنا هدبة بن خالد حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً} قال: «ووضع الإبهام قريباً من طرف خنصره», قال: «فساخ الجبل» قال حميد لثابت يقول هكذا فرفع ثابت يده فضرب صدر حميد وقال يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقوله أنس وأنا أكتمه ؟ وهكذا رواه الإمام أحمد في مسنده حدثنا أبو المثنى معاذ بن معاذ العنبري حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله {فلما تجلى ربه للجبل} قال: قال «هكذا» يعني أنه أخرج طرف الخنصر قال أحمد: أرانا معاذ فقال له حميد الطويل: ما تريد إلى هذا يا أبا محمد ؟ قال فضرب صدره ضربة شديدة وقال من أنت يا حميد وما أنت يا حميد ؟ يحدثني به أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ما تريد إليه ؟.
    وهكذا رواه الترمذي في تفسير هذه الاَية عن عبد الوهاب بن الحكم الوراق عن معاذ بن معاذ به وعن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة به ثم قال: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طرق عن حماد بن سلمة به وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ورواه أبو محمد بن الحسن بن محمد بن علي الخلال عن محمد بن علي بن سويد عن أبي القاسم البغوي عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة فذكره وقال هذا إسناد صحيح لا علة فيه, وقد رواه داود بن المحير عن شعبة عن ثابت عن أنس مرفوعاً وهذا ليس بشيء, لأن داود بن المحير كذاب, رواه)الحافظان أبو القاسم الطبراني وأبو بكر بن مردويه من طريقين عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس مرفوعاً بنحوه وأسنده ابن مردويه من طريق ابن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر مرفوعاً ولا يصح أيضاً, رواه الترمذي وصححه الحاكم وقال على شرط مسلم. وقال السدي عن عكرمة عن ابن عباس في قول الله تعالى: {فلما تجلى ربه للجبل} قال ما تجلى منه إلا قدر الخنصر {جعله دكاً} قال تراباً {وخر موسى صعقاً} قال مغشياً عليه رواه ابن جرير وقال قتادة {وخر موسى صعقاً} قال ميتاً وقال سفيان الثوري ساخ الجبل في الأرض حتى وقع في البحر فهو يذهب معه وقال سنيد عن حجاج بن محمد الأعور عن أبي بكر الهذلي {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً} انقعر فدخل تحت الأرض فلا يظهر إلى يوم القيامة وجاء في بعض الأخبار أنه ساخ في الأرض فهو يهوي فيها إلى يوم القيامة رواه ابن مردويه وقال ابن أبي حاتم حدثنا عمر بن شبة حدثنا محمد بن يحيى أبو غسان الكناني حدثنا عبد العزيز بن عمران عن معاوية بن عبد الله عن الجلد بن أيوب عن معاوية بن قرة عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لما تجلى الله للجبال طارت لعظمته ستة أجبل فوقعت ثلاثة بالمدينة وثلاثة بمكة, بالمدينة أحد وورقان ورضوى ووقع بمكة حراء وثبير وثور» وهذا حديث غريب بل منكر وقال ابن أبي حاتم ذكر عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج حدثنا الهيثم بن خارجة حدثنا عثمان بن حصين بن العلاف عن عروة بن رويم قال: كانت الجبال قبل أن يتجلى الله لموسى على الطور صماً ملساء فلما تجلى الله لموسى على الطور دك وتفطرت الجبال فصارت الشقوق والكهوف وقال الربيع بن أنس {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً} وذلك أن الجبل حين كشف الغطاء ورأى النور صار مثل دك من الدكاك وقال بعضهم جعله دكاً أي فتنة وقال مجاهد في قوله {ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني} فإنه أكبر منك وأشد خلقاً {فلما تجلى ربه للجبل} فنظر إلى الجبل لا يتمالك وأقبل الجبل فدك على أوله ورأى موسى ما يصنع الجبل فخر صعقاً وقال عكرمة جعله دكاء قال نظر الله إلى الجبل فصار صحراء تراباً وقد قرأ بهذه القراءة بعض القراء واختارها ابن جرير, وقد ورد فيها حديث مرفوع رواه ابن مردويه والمعروف أن الصعق هو الغشي ها هنا كما فسره ابن عباس وغيره لا كما فسره قتادة بالموت وإن كان صحيحاً في اللغة كقوله تعالى: {ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} فإن هناك قرينة تدل على الموت كما أن هنا قرينة تدل على الغشي. وهي قوله {فلما أفاق} والإفاقة لا تكون إلا عن غشي {قال سبحانك} تنزيهاً وتعظيماً وإجلالاً أن يراه أحد في الدنيا إلا مات. وقوله {تبت إليك} قال مجاهد أن أسألك الرؤية {وأنا أول المؤمنين} قال ابن عباس ومجاهد من بني إسرائيل واختاره ابن جرير وفي رواية أخرى عن ابن عباس {وأنا أول المؤمنين} أنه لا يراك أحد وكذا قال أبو العالية قد كان قبله مؤمنون ولكن يقول أنا أول من آمن بك أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة, وهذا قول حسن له اتجاه وقد ذكر محمد بن جرير في تفسيره ها هنا أثراً طويلاً فيه غرائب وعجائب عن محمد بن إسحاق بن يسار وكأنه تلقاه من الإسرائيليات والله أعلم, وقوله {وخر موسى صعقاً} فيه أبو سعيد وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم, فأما حديث أبي سعيد فأسنده البخاري في صحيحه ههنا فقال حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد لطم وجهه, وقال يا محمد إن رجلاً من أصحابك من الأنصار لطم وجهي قال «ادعوه» فدعوه قال «لم لطمت وجهه ؟» قال يا رسول الله إني مررت باليهودي فسمعته يقول والذي اصطفى موسى على البشر قال وعلى محمد ؟ قال فقلت وعلى محمد وأخذتني غضبة فلطمته فقال «لا تخيروني من بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور» وقد رواه البخاري في أماكن كثيرة من صحيحه ومسلم في أحاديث الأنبياء وأبو داود في كتاب السنة من سننه من طرق عن عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي الحسن المازني الأنصاري المدني عن أبيه عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري به. وأما حديث أبي هريرة فقال الإمام أحمد في مسنده حدثنا أبو كامل حدثنا إبراهيم بن سعد حدثنا ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال استب رجلان رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال المسلم: والذي اصطفى محمداً على العالمين فقال اليهودي: والذين اصطفى موسى على العالمين فغضب المسلم على اليهودي فلطمه, فأتى اليهودي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فأخبره فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترف بذلك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا موسى ممسك بجانب العرش فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل» أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به.
    والله اعلم.

    يتبع


    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 10:42

    ** قَالَ يَمُوسَىَ إِنّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ وَكُنْ مّنَ الشّاكِرِينَ * وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِن كُلّ شَيْءٍ مّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ
    يذكر تعالى أنه خاطب موسى بأنه اصطفاه على أهل زمانه برسالاته تعالى وبكلامه ولا شك أن محمداً صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم من الأولين والاَخرين ولهذا اختصه الله تعالى بأن جعله خاتم الأنبياء والمرسلين الذي تستمر شريعته إلى قيام الساعة وأتباعه أكثر من أتباع سائر الأنبياء والمرسلين كلهم وبعده في الشرف والفضل إبراهيم الخليل عليه السلام ثم موسى بن عمران كليم الرحمن عليه السلام ولهذا قال الله تعالى له: «فخذ ما آتيتك» أي من الكلام والمناجاة {وكن من الشاكرين} أي على ذلك ولا تطلب ما لا طاقة لك به ثم أخبر تعالى أنه كتب له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء قيل كانت الألواح من جوهر وإن الله تعالى كتب له فيها مواعظ وأحكاماً مفصلة مبينة للحلال والحرام وكانت هذه الألواح مشتملة على التوراة التي قال الله تعالى فيها: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس} وقيل الألواح أعطيها موسى قبل التوراة والله أعلم, وعلى كل تقدير فكانت كالتعويض له عما سأل من الرؤية ومنع منها والله أعلم, وقوله {فخذها بقوة} أي بعزم على الطاعة {وأمر قومك يأخذوا بأحسنها} قال سفيان بن عيينة حدثنا أبو سعيد عن عكرمة عن ابن عباس قال أمر موسى عليه السلام أن يأخذ بأشد ما أمر قومه. وقوله {سأريكم دار الفاسقين} أي سترون عاقبة من خالف أمري وخرج عن طاعتي كيف يصير إلى الهلاك والدمار والتباب قال ابن جرير وإنما قال {سأريكم دار الفاسقين} كما يقول القائل لمن يخاطبه سأريك غداً إلى ما يصير إليه حال من خالف أمري على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره, ثم نقل معنى ذلك عن مجاهد والحسن البصري وقيل معناه {سأريكم دار الفاسقين} أي: من أهل الشام وأعطيكم إياها وقيل: منازل قوم فرعون والأول أولى والله أعلم لأن هذا بعد انفصال موسى وقومه عن بلاد مصر وهو خطاب لبني إسرائيل قبل دخولهم التيه والله أعلم.


    ** سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الّذِينَ يَتَكَبّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَإِن يَرَوْاْ كُلّ آيَةٍ لاّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرّشْدِ لاَ يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيّ يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ * وَالّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الاَُخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
    يقول تعالى: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق} أي سأمنع فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوب المتكبرين عن طاعتي ويتكبرون على الناس بغير حق, أي كما استكبروا بغير حق أذلهم الله بالجهل كما قال تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} وقال تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} وقال بعض السلف: لا ينال العلم حيي ولا مستكبر, وقال آخر: من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذلك الجهل أبداً, وقال سفيان بن عيينة في قوله: { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق} قال: أنزع عنهم فهم القرآن وأصرفهم عن آياتي, قال ابن جرير: وهذا يدل على أن هذا الخطاب لهذه الأمة, قلت ليس هذا بلازم لأن ابن عيينة إنما أراد أن هذا مطرد في حق كل أمة ولا فرق بين أحد وأحد في هذا, والله أعلم. وقوله {وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها} كما قال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} وقوله {وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً} أي وإن ظهر لهم سبيل الرشد أي طريق النجاة لا يسلكوها, وإن ظهر لهم طريق الهلاك والضلال يتخذوه سبيلاً, ثم علل مصيرهم إلى هذه الحال بقوله {ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا} أي كذبت بها قلوبهم {وكانوا عنها غافلين} أي لا يعلمون شيئاً مما فيها, وقوله {والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الاَخرة حبطت أعمالهم} أي من فعل منهم ذلك واستمر عليه إلى الممات حبط عمله, وقوله {هل يجزون إلا ما كانوا يعملون} أي إنما نجازيهم بحسب أعمالهم التي أسلفوها إن خيراً فخير وإن شراً فشر وكما تدين تدان.


    ** وَاتّخَذَ قَوْمُ مُوسَىَ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ * وَلَمّا سُقِطَ فَيَ أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنّهُمْ قَدْ ضَلّواْ قَالُواْ لَئِن لّمْ يَرْحَمْنَا رَبّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ
    يخبر تعالى عن ضلال من ضل من بني إسرائيل في عبادتهم العجل الذي اتخذه لهم السامري, من حلي القبط الذي كانوا استعاروه منهم فشكل لهم منه عجلاً, ثم ألقى فيه القبضة من التراب التي أخذها من أثر فرس جبريل عليه السلام, فصار عجلاً جسداً له خوار: والخوار صوت البقر, وكان هذا منهم بعد ذهاب موسى لميقات ربه تعالى فأعلمه الله تعالى بذلك وهو على الطور, حيث يقول تعالى إخباراً عن نفسه الكريمة {قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري} وقد اختلف المفسرون في هذا العجل هل صار لحماً ودماً له خوار أو استمر على كونه من ذهب إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر على قولين والله أعلم. ويقال إنهم لما صوت لهم العجل رقصوا حوله وافتتنوا به وقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي قال الله تعالى: {أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً} وقال في هذه الاَية الكريمة {ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً} ينكر تعالى عليهم في ضلالهم بالعجل وذهولهم عن خالق السموات والأرض ورب كل شيء ومليكه أن عبدوا معه عجلاً جسداً له خوار لا يكلمهم ولا يرشدهم إلى خير ولكن غطى على أعين بصائرهم عمى الجهل والضلال كما تقدم من رواية الإمام أحمد وأبي داود عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حبك الشيء يعمي ويصم» وقوله {ولما سقط في أيديهم} أي ندموا على ما فعلوا {ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا} وقرأ بعضهم لئن لم ترحمنابالتاء المثناة من فوق {ربنا} منادى {وتغفر لنا لنكونن من الخاسرين} أي من الهالكين وهذا اعتراف منهم بذنبهم التجاء إلى الله عز وجل.


    ** وَلَمّا رَجَعَ مُوسَىَ إِلَىَ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمّ إِنّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ * قَالَ رَبّ اغْفِرْ لِي وَلأخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ
    يخبر تعالى أن موسى عليه السلام لما رجع إلى قومه من مناجاة ربه تعالى وهو غضبان أسف قال أبو الدرداء الأسف أشد الغضب. {قال بئسما خلفتموني من بعدي} يقول بئس ما صنعتم في عبادة العجل بعد أن ذهبت وتركتكم, وقوله {أعجلتم أمر ربكم} يقول استعجلتم مجيئي إليكم وهو مقدر من الله تعالى. وقوله {وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه} قيل كانت الألواح من زمرد وقيل من ياقوت وقيل من برد وفي هذا دلالة على ما جاء في الحديث: «ليس الخبر كالمعاينة» ثم ظاهر السياق أنه إنما ألقى الألواح غضباً على قومه, وهذا قول جمهور العلماء سلفاً وخلفاً. وروى ابن جرير عن قتادة في هذا قولاً غريباً لا يصح إسناده إلى حكاية قتادة وقد رده ابن عطية وغير واحد من العلماء وهو جدير بالرد وكأنه تلقاه قتادة عن بعض أهل الكتاب وفيهم كذابون ووضاعون وأفاكون وزنادقة. وقوله {وأخذ برأس أخيه يجره إليه} خوفاً أن يكون قد قصر في نهيهم كما قال في الاَية الأخرى {قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعن أفعصيت أمري * قال يا ابن أُم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي * إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي} وقال ههنا {ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين} أي لا تسوقني سياقهم وتجعلني معهم وإنما قال: ابن أم ليكون أرق وأنجع عنده وإلا فهو شقيقه لأبيه وأمه فلما تحقق موسى عليه السلام براءة ساحة هارون عليه السلام كما قال تعالى: {ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري} فعند ذلك {قال} موسى {رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين} وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا عفان حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه عز وجل أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح».

    يتبع


    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 10:52

    ** إِنّ الّذِينَ اتّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّن رّبّهِمْ وَذِلّةٌ فِي الْحَياةِ الدّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ * وَالّذِينَ عَمِلُواْ السّيّئَاتِ ثُمّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوَاْ إِنّ رَبّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رّحِيمٌ
    أما الغضب الذي نال بني إسرائيل في عبادة العجل فهو أن الله تعالى: لم يقبل لهم توبة حتى قتل بعضهم بعضاً, كما تقدم في سورة البقرة {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم. ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم} وأما الذلة فأعقبهم ذلك ذلاً وصغاراً في الحياة الدنيا, وقوله {وكذلك نجزي المفترين} نائلة لكل من افترى بدعة فإن ذل البدعة ومخالفة الرشاد متصلة من قلبه على كتفيه, كما قال الحسن البصري: إن ذل البدعة على أكتافهم وإن هملجت بهم البغلات وطقطقت بهم البراذين: وهكذا روى أيوب السختياني عن أبي قلابة الجرمي أنه قرأ هذه الاَية {وكذلك نجزي المفترين} فقال: هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة, وقال سفيان بن عيينة: كل صاحب بدعة ذليل, ثم نبه تعالى عباده وأرشدهم إلى أنه يقبل توبة عباده من أي ذنب كان حتى ولو كان من كفر أوشرك أونفاق أوشقاق, ولهذا عقب هذه القصة بقوله {والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك} أي: يا محمد يا رسول التوبة ونبي الرحمة {من بعدها} أي من بعد تلك الفعلة {لغفور رحيم}. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا أبان حدثنا قتادة عن عزرة عن الحسن العرني عن علقمة عن عبد الله بن مسعود أنه سئل عن ذلك يعني عن الرجل يزني بالمرأة ثم يتزوجها فتلا هذه الاَية {والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم} فتلاها عبد الله عشر مرات فلم يأمرهم بها ولم ينههم عنها.


    ** وَلَماّ سَكَتَ عَن مّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لّلّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ
    يقول تعالى: {ولما سكت} أي سكن {عن موسى الغضب} أي غضبه على قومه {أخذ الألواح} أي التي كان ألقاها من شدة الغضب على عبادتهم العجل غيرة لله وغضباً له {وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} يقول كثير من المفسرين إنها لما ألقاها تكسرت ثم جمعها بعد ذلك ولهذا قال بعض السلف فوجد فيها هدى ورحمة, وأما التفصيل فذهب وزعموا أن رضاضها لم يزل موجوداً في خزائن الملوك لبني إسرائيل إلى الدولة الإسلامية والله أعلم بصحة هذا وأما الدليل الواضح على أنها تكسرت حين ألقاها وهي من جوهر الجنة فقد أخبر تعالى أنه لما أخذها بعد ما ألقاها وجد فيها{هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} ضمن الرهبة معنى الخضوع, ولهذا عداها باللام. وقال قتادة: في قوله تعالى: {أخذ الألواح} قال رب إني أجد في الألواح أمة خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فاجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد. قال رب إني أجد في الألواح أمة هم الاَخرون السابقون أي آخرون في الخلق سابقون في دخول الجنة رب اجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد. قال رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرؤونها وكان من قبلهم يقرؤون كتابهم نظراً حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئاً ولم يعرفوه وإن الله أعطاهم من الحفظ شيئاً: لم يعطه أحد من الأمم. قال رب اجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد. قال رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الاَخر ويقاتلون فصول الضلالة حتى يقاتلون الأعور الكذاب فاجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد. قال رب إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم ويؤجرون عليها, وكان من قبلهم من الأمم إِذا تصدق بصدقة فقبلت منه بعث الله عليها ناراً فأكلتها وإن ردت عليه تركت فتأكلها السباع والطير وإن الله أخذ صدقاتهم من غنيهم لفقيرهم قال رب فاجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد. قال رب إِني أجد في الألواح أمة إِذا هم أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إِلى سبعمائة, رب اجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد. قال رب إِني أجد في الألواح أمة هم المشفوعون والمشفوع لهم فاجعلهم أمتي, قال تلك أمة أحمد. قال قتادة فذكر لنا أن نبي الله موسى عليه السلام نبذ الألواح وقال اللهم اجعلني من أمة أحمد.


    ** وَاخْتَارَ مُوسَىَ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لّمِيقَاتِنَا فَلَمّا أَخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مّن قَبْلُ وَإِيّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السّفَهَآءُ مِنّآ إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ
    قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الاَية, كان الله أمره أن يختار من قومه سبعين رجلاً فاختار سبعين رجلاً فبرز ليدعوا ربهم وكان فيما دعوا الله أن قالوا اللهم أعطنا ما لم تعطه أحداً قبلنا ولا تعطه أحداً بعدنا, فكره الله ذلك من دعائهم فأخذتهم الرجفة {قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإِياي} الاَية, وقال السدي: إِن الله أمر موسى أن يأتيه في ثلاثين من بني إِسرائيل يعتذرون إِليه من عبادة العجل ووعدهم موعداً {واختار موسى قومه سبعين رجلاً} على عينيه ثم ذهب بهم ليعتذروا فلما أتوا ذلك المكان قالوا {لن نؤمن لك} يا موسى {حتى نرى الله جهرة} فإنك قد كلمته فأرناه {فأخذتهم الصاعقة} فماتوا فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول رب ماذا أقول لبني إِسرائيل إِذا لقيتهم وقد أهلكت خيارهم {رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإِياي}. وقال محمد بن إسحاق: اختار موسى من بني إِسرائيل سبعين رجلاً الخير فالخير, وقال انطلقوا إلى الله فتوبوا إِليه مما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم, فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم, فقال له السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمرهم به وخرجوا معه للقاء ربه لموسى: اطلب لنا نسمع كلام ربنا, فقال: أفعل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله دنا موسى فدخل فيه وقال للقوم ادنوا وكان موسى إِذا كلمه الله وقع على جبهة موسى نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم, حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجوداً فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل فلما فرغ إليه من أمره وانكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا: يا موسى {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الرجفة} وهي الصاعقة فالتقت أرواحهم فماتوا جميعا, فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول {رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإِياي} قد سفهوا, أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل.
    وقال سفيان الثوري: حدثني أبو إسحاق عن عمارة بن عبيد السلولي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: انطلق موسى وهارون وشبر وشبير فانطلقوا إلى سفح جبل فنام هارون على سرير فتوفاه الله عز وجل, فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا له: أين هارون ؟ قال: توفاه الله عز وجل, قالوا: أنت قتلته حسدتنا على خلقه ولينه أو كلمة نحوها قال: فاختاروا من شئتم قال: فاختاروا سبعين رجلا قال: فذلك قوله تعالى {واختار موسى قومه سبعين رجلاً} فلما انتهوا إليه قالوا: يا هارون من قتلك ؟ قال: ما قتلني أحد ولكن توفاني الله, قالوا: يا موسى لن تعصى بعد اليوم فأخذتهم الرجفة قال فجعل موسى يرجع يميناً وشمالاً وقال: يا رب {لو شئت أهلكتهم من قبلُ وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء} قال: فأحياهم الله وجعلهم أنبياء كلهم هذا أثر غريب جداً وعمارة بن عبيد هذا لا أعرفه, وقد رواه شعبة عن أبي إسحاق عن رجل من بني سلول عن علي فذكره. وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وابن جرير: إنهم أخذتهم الرجفة لأنهم لم يزايلوا قومهم في عبادتهم العجل ولا نهوهم, ويتوجه هذا القول بقول موسى {أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} وقوله {إن هي إِلا فتنتك} أي ابتلاؤك واختبارك وامتحانك, قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وأبو العالية والربيع بن أنس وغير واحد من علماء السلف والخلف, ولا معنى له غير ذلك, يقول إن الأمر إلا أمرك وإن الحكم إلا لك فما شئت كان, تضل من تشاء وتهدي من تشاء, ولا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت, فالملك كله لك والحكم كله لك, لك الخلق والأمر. وقوله {أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين} الغفر هو الستر وترك المؤاخذة بالذنب والرحمة إذا قرنت مع الغفر يراد بها أن لا يوقعه في مثله في المستقبل {وأنت خير الغافرين} أي لا يغفر الذنب إلا أنت {واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الاَخرة} الفصل الأول من الدعاء لدفع المحذور وهذا لتحصيل المقصود {واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الاَخرة} أي أوجب لنا وأثبت لنا فيهما حسنة وقد تقدم تفسير الحسنة في سورة البقرة {إنا هدنا إليك} أي تبنا ورجعنا وأنبنا إليك, قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وأبو العالية والضحاك وإبراهيم التيمي والسدي وقتادة وغير واحد: وهو كذلك لغة, وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا أبي عن شريك عن جابر عن عبد الله بن يحيى عن علي قال: إنما سميت اليهود لأنهم قالوا {إنا هدنا إليك} جابر هو ابن يزيد الجعفي ضعيف.


    ** فَلَماّ نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُوَءِ وَأَخَذْنَا الّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ
    يقول تعالى مجيباً لنفسه في قوله {إِن هي إِلا فتنتك} الاَية, قال {عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء} أي أفعل ما أشاء وأحكم ما أريد, ولي الحكمة والعدل في كل ذلك سبحانه لا إله إِلا هو, وقوله تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} الاَية عظيمة الشمول والعموم, كقوله تعالى إِخباراً عن حملة العرش ومن حوله, أنهم يقولون {ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً}. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد, حدثنا أبي, حدثنا الجريري عن أبي عبد الله الجشمي, حدثنا جندب هو ابن عبد الله البجلي رضي الله عنه, قال: جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم علقها ثم صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى راحلته فأطلق عقالها ثم ركبها ثم نادى اللهم ارحمني ومحمداً ولا تشرك في رحمتنا أحداً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتقولون هذا أضل أم بعيره ألم تسمعوا ما قال ؟» قالوا بلى قال: «لقد حظرت رحمة واسعة إن الله عز وجل خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنها وإنسها وبهائمها وأخر عنده تسعاً وتسعين رحمة أتقولون هو أضل أم بعيره ؟} رواه أحمد وأبو داود, عن علي بن نصر عن عبد الصمد بن عبد الوارث به, وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا يحيى بن سعيد عن سليمان عن أبي عثمان عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إِن لله عز وجل مائة رحمة فمنها رحمة يتراحم بها الخلق وبها تعطف الوحوش على أولادها وأخر تسعة وتسعين إِلى يوم القيامة, تفرد بإِخراجه مسلم, فرواه من حديث سليمان هو ابن طرخان وداود بن أبي هند, كلاهما عن أبي عثمان واسمه عبد الرحمن بن مِلّ عن سلمان هو الفارسي عن النبي صلى الله عليه وسلم به, والله اعلم

    يتبع


    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 10:55

    ** وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنّمَآ أَتّبِعُ مَا يِوحَىَ إِلَيّ مِن رّبّي هَـَذَا بَصَآئِرُ مِن رّبّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
    قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {قالوا لولا اجتبيتها} يقول: لولا تلقيتها. وقال مرة أخرى: لولا أحدثتها فأنشأتها, وقال ابن جرير عن عبدالله بن كثير عن مجاهد في قوله {وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها} قال: لولا اقتضيتها, قالوا: تخرجها عن نفسك, وكذا قال قتادة والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, واختاره ابن جرير. وقال العوفي عن ابن عباس {لولا اجتبيتها} يقول: تلقيتها من الله تعالى. وقال الضحاك {لولا اجتبيتها} يقول: لولا أخذتها أنت فجئت بها من السماء, ومعنى قوله تعالى: {وإذا لم تأتهم بآية} أي معجزة وخارق, كقوله تعالى: {إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين} يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم: ألا تجهد نفسك في طلب الاَيات من الله حتى نراها ونؤمن بها, قال الله تعالى له: {قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي} أي أنا لا أتقدم إليه تعالى في شيء, وإنما أتبع ما أمرني به فأمتثل ما يوحيه إلي, فإن بعث آية قبلتها وإن منعها لم أسأله ابتداء إياها إلا أن يأذن لي في ذلك, فإنه حكيم عليم, ثم أرشدهم إلى أن هذا القرآن هو أعظم المعجزات وأبين الدلالات وأصدق الحجج والبينات, فقال {هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}.


    ** وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ
    لما ذكر تعالى أن القرآن بصائر للناس وهدى ورحمة, أمر تعالى بالإنصات عند تلاوته إعظاماً له واحتراماً, لا كما كان يعتمده كفار قريش المشركون في قولهم {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} الاَية, ولكن يتأكد ذلك من الصلاة المكتوبة إذا جهر الإمام بالقراءة, كما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا, وإذا قرأ فأنصتوا» وكذا رواه أهل السنن من حديث أبي هريرة أيضاً, وصححه مسلم بن الحجاج أيضاً, ولم يخرجه في كتابه, وقال إبراهيم بن مسلم الهجري عن أبي عياض عن أبي هريرة قال: كانوا يتكلمون في الصلاة, فلما نزلت هذه الاَية {وإذا قرى القرآن فاستمعوا له} والاَية الأخرى, أمروا بالإنصات.
    قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم عن المسيب بن رافع قال ابن مسعود: كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة, فجاء القرآن {وإذا قرى القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}. وقال أيضاً: حدثنا أبو كريب, حدثنا المحاربي عن داود بن أبي هند عن بشير بن جابر قال: صلى ابن مسعود فسمع ناساً يقرؤون مع الإمام, فلما انصرف قال: أما آن لكم أن تفهموا, أما آن لكم أن تعقلوا {وإذا قرى القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} كما أمركم الله, قال: وحدثني أبو السائب, حدثنا حفص عن أشعث عن الزهري قال: نزلت هذه الاَية في فتى من الأنصار كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما قرأ شيئاً قرأه, فنزلت {وإذا قرى القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}. وقد روى الإمام أحمد وأهل السنن من حديث الزهري عن أبي أكيمة الليثي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال «هل قرأ أحد منكم معي آنفاً ؟» قال رجل: نعم يا رسول الله, قال: «إني أقول ما لي أنازع القرآن» قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه بالقراءة من الصلاة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الترمذي: هذا حديث حسن, وصححه أبو حاتم الرازي. وقال عبد الله بن المبارك عن يونس عن الزهري: قال لا يقرأ من وراء الإمام فيما يجهر به الإمام, تكفيهم قراءة الإمام وإن لم يسمعهم صوته, ولكنهم يقرءون فيما لا يجهر به سراً في أنفسهم, ولا يصلح لأحد خلفه أن يقرأ معه فيما يجهر به سراً ولا علانية, فإن الله تعالى قال: {وإذا قرى القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} قلت: هذا مذهب طائفة من العلماء أن المأموم لا يجب عليه في الصلاة الجهرية قراءة فيما جهر فيه الإمام لا الفاتحة ولا غيرها, وهو أحد قولي الشافعية, وهو القديم كمذهب مالك ورواية عن أحمد بن حنبل, لما ذكرناه من الأدلة المتقدمة, وقال في الجديد: يقرأ الفاتحة فقط في سكتات الإمام, وهو قول طائفة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم, وقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل: لا يجب على المأموم قراءة أصلاً في السرية ولا الجهرية بما ورد في الحديث «من كان له إمام فقراءته قراءة له» وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده عن جابر مرفوعاً, وهو في موطأ مالك عن وهب بن كيسان عن جابر موقوفاً, وهذا أصح وهذه المسألة مبسوطة في غير هذا الموضع, وقد أفرد لها الإمام أبو عبد الله البخاري مصنفاً على حدة, واختار وجوب القراءة خلف الإمام في السرية والجهرية أيضاً, والله أعلم.
    وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الاَية قوله {وإذا قرى القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} يعني في الصلاة المفروضة, وكذا روي عن عبد الله بن المغفل. وقال ابن جرير: حدثنا حميد بن مسعدة, حدثنا بشر بن المفضل, حدثنا الجريري عن طلحة بن عبيد الله بن كريز قال: رأيت عبيد بن عمير وعطاء بن أبي رباح يتحدثان, والقاص يقص, فقلت: ألا تستمعان إلى الذكر وتستوجبان الموعود ؟ قال: فنظرا إلي ثم أقبلا على حديثهما, قال: فأعدت فنظرا إليّ وأقبلا على حديثهما, قال: فأعدت الثالثة قال فنظرا إلي فقالا: إنما ذلك في الصلاة {وإذا قرى القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} وكذا قال سفيان الثوري عن أبي هشام إسماعيل بن كثير عن مجاهد في قوله {وإذا قرى القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} قال: في الصلاة, وكذا رواه غير واحد عن مجاهد. وقال عبد الرزاق عن الثوري عن ليث عن مجاهد قال: لا بأس إذا قرأ الرجل في غير الصلاة أن يتكلم, وكذا قال سعيد بن جبير والضحاك وإبراهيم النخعي وقتادة والشعبي والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أن المراد بذلك في الصلاة.
    وقال شعبة عن منصور: سمعت إبراهيم بن أبي حمزة يحدث أنه سمع مجاهداً يقول في هذه الاَية {وإذا قرى القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} قال: في الصلاة والخطبة يوم الجمعة, وكذا روى ابن جريج عن عطاء مثله, وقال هشيم عن الربيع بن صبيح عن الحسن قال: في الصلاة وعند الذكر. وقال ابن المبارك عن بقية: سمعت ثابت بن عجلان يقول: سمعت سعيد بن جبير يقول في قوله {وإذا قرى القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} قال: الإنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة وفيما يجهر به الإمام من الصلاة, وهذا اختيار ابن جرير أن المراد من ذلك الإنصات في الصلاة وفي الخطبة, كما جاء في الأحاديث من الأمر بالإنصات خلف الإمام وحال الخطبة. وقال عبد الرزاق عن الثوري عن ليث عن مجاهد أنه كره إذا مر الإمام بآية خوف أو بآية رحمة أن يقول أحد من خلفه شيئاً, قال: السكوت. وقال مبارك بن فضالة عن الحسن: إذا جلست إلى القرآن فأنصت له. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم, حدثنا عباد بن ميسرة عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من استمع إلى آية من كتاب الله كتبت له حسنة مضاعفة, ومن تلاها كانت له نوراً يوم القيامة» تفرد به الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

    ** وَاذْكُر رّبّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوّ وَالاَصَالِ وَلاَ تَكُنْ مّنَ الْغَافِلِينَ * إِنّ الّذِينَ عِندَ رَبّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ
    يأمر تعالى بذكره أول النهار وآخره كثيراً, كما أمر بعبادته في هذين الوقتين في قوله {فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} وقد كان هذا قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء, وهذه الاَية مكية. وقال ههنا: بالغدو, وهو أول النهار, والاَصال جمع أصيل كما أن الأيمان جمع يمين, وأما قوله {تضرعاً وخيفة} أي اذكر ربك في نفسك رغبة ورهبة وبالقول لا جهراً, ولهذا قال {ودون الجهر من القول} وهكذا يستحب أن يكون الذكر لا يكون نداء وجهراً بليغاً, ولهذا لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أقريب ربنا فنناجيه, أم بعيد فنناديه ؟ فأنزل الله عز وجل {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان}.
    وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء في بعض الأسفار, فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم «يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم, فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إن الذي تدعونه سميع قريب أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» وقد يكون المراد من هذه الاَية كما في قوله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً} فإن المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن سبوه وسبوا من أنزله وسبوا من جاء به, فأمره الله تعالى أن لا يجهر به لئلا ينال منه المشركون ولا يخافت به عن أصحابه فلا يسمعهم, وليتخذ سبيلاً بين الجهر والإسرار, وكذا قال في هذه الاَية الكريمة {ودون الجهر من القول بالغدو والاَصال ولا تكن من الغافلين} وقد زعم ابن جرير وقبله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن المراد بها أمر السامع للقرآن في حال استماعه بالذكر على هذه الصفة. وهذا بعيد مناف للإنصات المأمور به, ثم إن المراد بذلك في الصلاة كما تقدم أو في الصلاة والخطبة, ومعلوم أن الإنصات إذ ذاك أفضل من الذكر باللسان, سواء كان سراً أو جهراً, فهذا الذي قالاه لم يتابعا عليه, بل المراد الحض على كثرة الذكر من العباد بالغدو والاَصال, لئلا يكونوا من الغافلين, ولهذا مدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون, فقال {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته} الاَية, وإنما ذكرهم بهذا ليقتدى بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم, ولهذا شرع لنا السجود ههنا لما ذكر سجودهم لله عز وجل, كما جاء في الحديث «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها يتمون الصفوف الأول فالأول ويتراصون في الصف» وهذه أول سجدة في القرآن مما يشرع لتاليها ومستمعها السجود بالإجماع, وقد ورد في حديث رواه ابن ماجه عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عدها في سجدات القرآن.


    تمت الاعراف

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 11:00

    سورة الأنفال


    وهي مدنية. آياتها سبعون وست آيات. كلماتها ألف كلمة وستمائة كلمة وإحدى وثلاثون كلمة. حروفها خمسة آلاف ومائتان وأربعة وتسعون حرفاً والله أعلم.
    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

    ** يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنفَالُ للّهِ وَالرّسُولِ فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ
    قال البخاري: قال ابن عباس: الأنفال المغانم, حدثنا محمد بن عبد الرحيم حدثنا سعيد بن سليمان, أخبرنا هشيم أخبرنا أبو بشر, عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما سورة الأنفال قال: نزلت في بدر. أما ما علقه عن ابن عباس فكذلك رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: الأنفال الغنائم, كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة ليس لأحد منها شيء, وكذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء والضحاك وقتادة وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد أنها المغانم, وقال الكلبي, عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال: الأنفال الغنائم, قال فيها لبيد:
    إن تقوى ربنا خير نفلوبإذن الله ريثى وعجل
    وقال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك بن أنس عن ابن شهاب عن القاسم بن محمد قال: سمعت رجلاً يسأل ابن عباس عن الأنفال, فقال ابن عباس رضي الله عنهما: الفرس من النفل والسلب من النفل. ثم عاد لمسألته فقال ابن عباس ذلك أيضاً ثم قال الرجل: الأنفال التي قال الله في كتابه ما هي ؟ قال القاسم فلم يزل يسأله حتى كاد يحرجه, فقال ابن عباس: أتدرون ما مثل هذا مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب. وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن القاسم بن محمد قال: قال ابن عباس: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إذا سئل عن شيء قال لا آمرك ولا أنهاك. ثم قال ابن عباس: والله ما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلا زاجراً آمراً محللاً محرماً. قال القاسم فسلط على ابن عباس رجل فسأله عن الأنفال فقال ابن عباس: كان الرجل ينفل فرس الرجل وسلاحه, فأعاد عليه الرجل فقال له مثل ذلك, ثم عاد عليه حتى أغضبه, فقال ابن عباس: أتدرون ما مثل هذا ؟ مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب حتى سالت الدماء على عقبيه أو على رجليه, فقال الرجل أما أنت فقد انتقم الله لعمر منك. وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس, أنه فسر النفل بما ينفله الإمام لبعض الأشخاص من سلب أو نحوه بعد قسم أصل المغنم وهو المتبادر إلى فهم كثير من الفقهاء من لفظ النفل, والله أعلم.
    وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: إنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمس بعد الأربعة من الأخماس, فنزلت {يسألونك عن الأنفال} وقال ابن مسعود ومسروق: لا نفل يوم الزحف, إنما النفل قبل التقاء الصفوف, رواه ابن أبي حاتم عنهما, وقال ابن المبارك وغير واحد عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح في الاَية {يسألونك عن الأنفال} قال يسألونك فيما شذ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال, من دابة أو عبد أو أمة أو متاع فهو نفل للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع به ما يشاء, وهذا يقتضي أنه فسر الأنفال بالفيء وهو ما أخذ من الكفار من غير قتال. قال ابن جرير: وقال آخرون: هي أنفال السرايا حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا علي بن صالح بن حيي, قال بلغني في قوله تعالى: {يسألونك عن الأنفال} قال السرايا, ومعنى هذا ما ينفله الإمام لبعض السرايا زيادة على قسمهم مع بقية الجيش. وقد صرح بذلك الشعبي, واختار ابن جرير أنها زيادة على القسم, ويشهد لذلك ما ورد في سبب نزول الاَية وهو ما رواه الإمام أحمد, حيث قال: حدثنا أبو معاوية حدثنا أبو إسحاق الشيباني عن محمد بن عبيد الله الثقفي عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم بدر وقتل أخي عمير قتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه, وكان يسمى ذا الكتيفة, فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اذهب فاطرحه في القبض» قال فرجعت وبي مالا يعلمه إلا الله, من قتل أخي وأخذ سلبي, قال فما جاوزت إلا يسيراً حتى نزلت سورة الأنفال, فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «اذهب فخذ سلبك».
    وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أسود بن عامر, أخبرنا أبو بكر عن عاصم بن أبي النجود عن مصعب بن سعد عن سعد بن مالك, قال: قلت يا رسول الله قد شفاني الله اليوم من المشركين, فهب لي هذا السيف, فقال: «إن هذا السيف لا لك ولا لي, ضعه» قال: فوضعته, ثم رجعت فقلت: عسى أن يعطي هذا السيف من لا يبلي بلائي, قال: فإذا رجل يدعوني من ورائي قال: قلت قد أنزل الله فيّ شيئاً ؟ قال: كنت سألتني السيف وليس هو لي, وإنه قد وهب لي, فهو لك. قال: وأنزل الله هذه الاَية {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول}. ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن أبي بكر بن عياش به, وقال الترمذي: حسن صحيح, وهكذا رواه أبو داود الطيالسي, أخبرنا شعبة أخبرنا سماك بن حرب قال سمعت مصعب بن سعد يحدث عن سعد, قال: نزلت فيّ أربع آيات, أصبت سيفاً يوم بدر فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت نفلنيه, فقال «ضعه من حيث أخذته» مرتين, ثم عاودته فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ضعه من حيث أخذته» فنزلت هذه الاَية {يسألونك عن الأنفال} الاَية وتمام الحديث, في نزول {ووصينا الإنسان بوالديه حسناً} وقوله تعالى: {إنما الخمر والميسر} وآية الوصية وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة به, وقال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر عن بعض بني ساعدة قال: سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة يقول: أصبت سيف ابن عائذ يوم بدر, وكان السيف يدعى بالمرزبان, فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يردوا ما في أيديهم من النفل, أقبلت به فألقيته في النفل, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئاً يسأله, فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي, فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياه, ورواه ابن جرير من وجه آخر.

    ** إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ * الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
    قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}. قال: المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه. ولا يؤمنون بشيء من آيات الله ولا يتوكلون ولا يصلون إذا غابوا ولا يؤدون زكاة أموالهم, فأخبر الله تعالى أنهم ليسوا بمؤمنين, ثم وصف الله المؤمنين فقال {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} فأدوا فرائضه {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً} يقول زادتهم تصديقاً {وعلى ربهم يتوكلون} يقول لا يرجون غيره. وقال مجاهد {وجلت قلوبهم} فرقت أي فزعت وخافت, وكذا قال السدي وغير واحد, وهذه صفة المؤمن حق المؤمن الذي إذا ذكر الله وجل قلبه أي خاف منه, ففعل أوامره وترك زواجره, كقوله تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله, فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون}, وكقوله تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى} ولهذا قال سفيان الثوري: سمعت السدي يقول في قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}. قال: هو الرجل يريد أن يظلم أو قال يهم بمعصية فيقال له: اتق الله فيجل قلبه, وقال الثوري أيضاً عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن شهر بن حوشب عن أمّ الدرداء في قوله {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} قال: الوجل في القلب كاحتراق السعفة, أما تجد له قشعريرة ؟ قال: بلى. قالت: إذا وجدت ذلك فادع الله عند ذلك, فإن الدعاء يذهب ذلك, وقوله {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً}, كقوله {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً ؟ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون}. وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بهذه الاَية وأشباهها على زيادة الإيمان وتفاضلة في القلوب, كما هو مذهب جمهور الأمة, بل قد حكى الإجماع عليه غير واحد من الأئمة كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد, كما بينا ذلك مستقصى في أول شرح البخاري, ولله الحمد والمنة, {وعلى ربهم يتوكلون } أي لا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه ولا يلوذون إلا بجنابه, ولا يطلبون الحوائج إلا منه, ولا يرغبون إلا إليه, ويعلمون أنه ما شاء كان, وما لم يشأ لم يكن, وأنه المتصرف في الملك, وحده لا شريك له ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب, ولهذا قال سعيد بن جبير: التوكل على الله جماع الإيمان. وقوله {الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} ينبه تعالى بذلك على أعمالهم بعدما ذكر اعتقادهم وهذه الأعمال تشمل أنواع الخير كلها, وهو إقامة الصلاة وهو حق الله تعالى, وقال قتادة: إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها, وقال مقاتل بن حيان: إقامتها المحافظة على مواقيتها وإسباغ الطهور فيها وتمام ركوعها وسجودها وتلاوة القرآن فيها والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هذا إقامتها, والإنفاق مما رزقهم الله يشمل إخراج الزكاة وسائر الحقوق للعباد من واجب ومستحب. والخلق كلهم عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لخلقه. قال قتادة في قوله {ومما رزقناهم ينفقون}, فأنفقوا مما رزقكم الله فإنما هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم أوشكت أن تفارقها.


    يتبع


    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 11:05



    عدل سابقا من قبل الشريف أمير أبوهاشم في الأربعاء 17 يونيو - 11:15 عدل 2 مرات
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 11:11

    ** إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاّ بُشْرَىَ وَلِتَطْمَئِنّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النّصْرُ إِلاّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
    قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نوح قراد, حدثنا عكرمة بن عمار حدثنا سماك الحنفي أبو زميل, حدثني ابن عباس حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر, نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف, ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة, فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة وعليه رداؤه وإزاره, ثم قال «اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الارض أبداً» قال فما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرداه ثم التزمه من ورائه ثم قال: يانبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله عز وجل {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} فلما كان يومئذ التقوا, فهزم الله المشركين فقتل منهم سبعون رجلاً وأسر منهم سبعون رجلاً, واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعلياً فقال أبو بكر: يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذناه منهم قوة لنا على الكفار وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً
    فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما ترى يا ابن الخطاب ؟» قال: قلت ما أرى ما رأىَ أبو بكر ولكني أرى أن تمكني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين, هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم. فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت وأخذ منهم الفداء فلما كان من الغد قال عمر فغدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وهما يبكيان فقلت: ما يبكيك أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. قال النبي صلى الله عليه وسلم «للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة» لشجرة قريبة من النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عز وجل {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ـ إلى قوله ـ فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً} فأحل لهم الغنائم. فلما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون وفر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه فأنزل الله {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ؟ قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير} بأخذكم الفداء ورواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير وابن مردويه من طرق عن عكرمة بن عمار به وصححه علي بن المديني والترمذي وقالا لا يعرف إلا من حديث عكرمة بن عمار اليماني وهكذا روى علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس أن هذه الاَية الكريمة قوله {إذ تستغيثون ربكم} في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم, وكذا قال يزيد بن يثيع والسدي وابن جريج وقال أبو بكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي صالح قال: لما كان يوم بدر جعل النبي صلى الله عليه وسلم يناشد ربه أشد المناشدة يدعو فأتاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله بعض مناشدتك فوالله ليفين الله لك بما وعدك, قال البخاري في كتاب المغازي باب قول الله تعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم ـ إلى قوله ـ فإن الله شديد العقاب} حدثنا أبو نعيم حدثنا إسرائيل عن مخارق عن طارق بن شهاب قال سمعت ابن مسعود يقول شهدت من المقداد بن الأسود مشهداً لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به, أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال: لا نقول كما
    قال قوم موسى {اذهب أنت وربك فقاتلا} ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره يعني قوله. حدثني محمد بن عبد الله بن حوشب حدثنا عبد الوهاب حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر «اللهم أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد» فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك فخرج وهو يقول سيهزم الجمع ويولون الدبر» وروراه النسائي عن بندار عن عبد الوهاب عن عبد المجيد الثقفي وقوله تعالى {بألف من الملائكة مردفين} أي يردف بعضهم بعضاً كما قال هارون بن عنترة عن ابن عباس {مردفين} متتابعين ويحتمل أن المراد {مردفين} لكم أي نجدة لكم كما قال العوفي عن ابن عباس {مردفين} يقول المدد كما تقول أنت للرجل زده كذا وكذا وهكذا قال مجاهد وابن كثير القارى وابن زيد {مردفين} ممدين, وقال أبو كدينة عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس {يمددكم ربكم بألف من الملائكة مردفين} قال وراء كل ملك ملك. وفي رواية بهذا الإسناد {مردفين} قال بعضهم على أثر بعض وكذا قال أبو ظبيان والضحاك وقتادة وقال ابن جرير حدثني المثنى حدثنا إسحاق حدثنا يعقوب بن محمد الزهري حدثني عبد العزيز بن عمران عن الزمعي عن أبي الحويرث عن محمد جبير عن علي رضي الله عنه قال: نزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر, ونزل ميكائيل في ألف من الملائكة عن ميسرة النبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الميسرة. وهذا يقتضي إن صح إسناده أن الألف مردفة بمثلها ولهذا قرأ بعضهم {مردَفين} بفتح الدال, والله أعلم. والمشهور ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: وأمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مجنبة, وميكائيل في خمسمائة مجنبة, وروى الإمام أبو جعفر بن جرير ومسلم من حديث عكرمة بن عمار عن أبي زميل سماك بن وليد الحنفي عن ابن عباس, عن عمر الحديث المتقدم, ثم قال أبو زميل: حدثني ابن عباس قال: بينا رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول أقدم حيزوم إذ نظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقياً قال فنظر إليه فإذا هو قد حطم وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين وقال البخاري: باب شهود الملائكة بدراً. حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا جرير عن يحيى بن سعيد عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه وكان أبوه من أهل بدر قال جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ قال «من أفضل المسلمين» أو كلمة نحوها قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة. انفرد بإخراجه البخاري وقد رواه الطبراني في المعجم الكبير من حديث رافع بن خديج وهو خطأ, والصواب رواية البخاري والله أعلم وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر لما شاوره في قتل حاطب بن أبي بلتعة «إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» وقوله تعالى: {وما جعله الله إلا بشرى} الاَية, أي وما جعل الله بعث الملائكة وإعلامه إياكم بهم إلا بشرى {ولتطمئن به قلوبكم} وإلا فهو تعالى قادر على نصركم على أعدائكم ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله أي بدون ذلك ولهذا قال {وما النصر إلا من عند الله} كما قال تعالى {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مّناً بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها * ذلك ولو يشاء الله لا نتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم * سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنة عرفها لهم} وقال تعالى {وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين} فهذه حكم شرع الله جهاد الكفار بأيدي المؤمنين لأجلها وقد كان تعالى إنما يعاقب الأمم السالفة المكذبة للأنبياء بالقوارع التي تعم تلك الأمم المكذبة كما أهلك قوم نوح بالطوفان, وعاداً الأولى بالدبور, وثمود بالصيحة, وقوم لوط بالخسف والقلب وحجارة السجيل, وقوم شعيب بيوم الظلة, فلما بعث الله تعالى موسى وأهلك عدوه فرعون وقومه بالغرق في اليم ثم أنزل على موسى التوراة شرع فيها قتال الكفار واستمر الحكم في بقية الشرائع بعده على ذلك كما قال تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر} وقتل المؤمنين للكافرين, أشد إهانة للكافرين, وأشفى لصدور المؤمنين, كما قال تعالى للمؤمنين من هذه الأمة {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم, ويخزهم وينصركم عليهم, ويشف صدور قوم مؤمنين} ولهذا كان قتل صناديد قريش بأيدي أعدائهم الذين ينظرون إليهم بأعين ازدرائهم أنكى لهم وأشفى لصدور حزب الإيمان, فقتل أبي جهل في معركة القتال وحومة الوغى أشد إهانة له من موته على فراشه بقارعة أو صاعقة أو نحو ذلك كما مات أبو لهب لعنه الله بالعدسة بحيث لم يقربه أحد من أقاربه, إنما غسلوه بالماء قذفاً من بعيد, ورجموه حتى دفنوه, ولهذا قال تعالى: {إن الله عزيز} أي له العزة ولرسوله وللمؤمنين بهما في الدنيا والاَخرة كقوله تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} {حكيم} فيما شرعه من قتال الكفار مع القدرة على دمارهم وإهلاكهم بحوله وقوته سبحانه وتعالى.


    يتبع


    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 11:24

    ** إِذْ يُغَشّيكُمُ النّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السّمَآءِ مَآءً لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىَ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ الّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُواْ الرّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنّهُمْ شَآقّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النّارِ
    يذكرهم الله تعالى بماأنعم به عليهم من إلقائه النعاس عليهم أماناً أمنهم به من خوفهم الذي حصل لهم من كثرة عدوهم وقلة عددهم, وكذلك فعل تعالى بهم يوم أحد كما قال تعالى: {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم} الاَية, قال أبو طلحة: كنت ممن أصابه النعاس يوم أحد, ولقد سقط السيف من يدي مراراً يسقط وآخذه, ويسقط وآخذه, ولقد نظرت إليهم يميدون وهم تحت الحجف, وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا زهير حدثنا ابن مهدي عن شعبة عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي رضي الله عنه قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ولقد رأيتنا وما فينا إلاّ نائم, إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت شجرة ويبكي حتى أصبح. وقال سفيان الثوري عن عاصم عن أبي رزين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: النعاس في القتال أمنة من الله, وفي الصلاة من الشيطان, وقال قتادة: النعاس في الرأس, والنوم في القلب, قلت: أما النعاس فقد أصابهم يوم أحد وأمر ذلك مشهور جداً, وأما الاَية الشريفة إنما هي في سياق قصة بدر, وهي دالة على وقوع ذلك أيضاً وكأن ذلك كائن للمؤمنين عند شدة البأس لتكون قلوبهم آمنة مطمئنة بنصر الله, وهذا من فضل الله ورحمته بهم ونعمته عليهم وكما قال تعالى: {فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً} ولهذا جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق رضي الله عنه وهما يدعوان أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة من النوم ثم استيقظ مبتسماً فقال: «أبشر يا أبا بكر هذا جبريل على ثناياه النقع» ثم خرج من باب العريش وهو يتلو قوله تعالى: {سيهزم الجمع ويولون الدبر}. وقوله {وينزل عليكم من السماء ماء} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: نزل النبي صلى الله عليه وسلم حين سار إلى بدر والمشركون بينهم وبين الماء رملة دعصة وأصاب المسلمين ضعف شديد وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ يوسوس بينهم تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون مجنبين فأمطر الله عليهم مطراً شديداً فشرب المسلمون وتطهروا وأذهب الله عنهم رجس الشيطان وثبت الرمل حين أصابه المطر ومشى الناس عليه والدواب فساروا إلى القوم, وأمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة فكان جبريل في خمسمائة مجنبة, وميكائيل في خمسمائة مجنبة. وكذا قال العوفي عن ابن عباس: إن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير وليقاتلوا عنها نزلوا على الماء يوم بدر فغلبوا المؤمنين عليه فأصاب المؤمنين الظمأ فجعلوا يصلون مجنبين محدثين حتى تعاطوا ذلك في صدورهم فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي فشرب المؤمنون وملؤوا الأسقية وسقوا الركاب واغتسلوا من الجنابة فجعل الله في ذلك طهوراً وثبت به الأقدام وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة فبعث الله المطر عليها فضربها حتى اشتدت وثبتت عليها الأقدام. ونحو ذلك روي عن قتادة والضحاك والسدي, وقد روي عن سعيد بن المسيب والشعبي والزهري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه طش أصابهم يوم بدر. والمعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر نزل على أدنى ماء هناك أي أول ماء وجده فتقدم إليه الحباب بن المنذر فقال يا رسول الله هذا المنزل الذي نزلته منزل أنزلك الله إياه فليس لنا أن نجاوزه أو منزل نزلته للحرب والمكيدة ؟ فقال « بل منزل نزلته للحرب والمكيدة» فقال يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل ولكن سر بنا حتى ننزل على أدنى ماء يلي القوم ونغور ما وراءه من القلب, ونستقي الحياض فيكون لنا ماء وليس لهم ماء فسار رسول الله صلى الله عليه وسلمففعل كذلك, وفي مغازي الأموي أن الحباب لما قال ذلك نزل ملك من السماء وجبريل جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ذلك الملك, يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول لك إن الرأي ما أشار به الحباب بن المنذر فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل عليه السلام فقال «هل تعرف هذا» ؟ فنظر إليه فقال: ما كل الملائكة أعرفهم وإنه ملك وليس بشيطان. وأحسن ما في هذا ما رواه الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي رحمه الله حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال: بعث الله السماء وكان الوادي دهساً فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مالبد لهم الأرض, ولم يمنعهم من المسير وأصاب قريشاً مالم يقدروا على أن يرحلوا معه وقال مجاهد: أنزل الله عليهم المطر قبل النعاس فأطفأ بالمطر الغبار وتلبدت به الأرض وطابت نفوسهم وثبتت به أقدامهم, وقال ابن جرير: حدثنا هارون بن إسحاق حدثنا مصعب بن المقدام حدثنا إسرائيل حدثنا أبو إسحاق عن حارثة عن علي رضي الله عنه قال: أصابنا من الليل طش من المطر يعني الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرض على القتال. وقوله {ليطهركم به} أي من حدث أصغر أو أكبر وهو تطهير الظاهر {ويذهب عنكم رجز الشيطان} أي من وسوسة أو خاطر سيء وهو تطهير الباطن كما قال تعالى في حق أهل الجنة {عاليهم ثياب سندس خضر واستبرق وحلوا أساور من فضة} فهذا زينة الظاهر {وسقاهم ربهم شراباً طهوراً} أي مطهراً لما كان من غل أو حسد أو تباغض وهو زينة الباطن وطهارته {وليربط على قلوبكم} أي بالصبر والإقدام على مجالدة الأعداء وهو شجاعة الباطن {ويثبت به الأقدام} وهو شجاعة الظاهر, والله أعلم.
    ** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للّهِ وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
    قال البخاري {استجيبوا} أجيبوا {لما يحييكم} لما يصلحكم. حدثني إسحاق حدثنا روح حدثنا شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن قال: سمعت حفص بن عاصم يحدث عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال كنت أصلي فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم فدعاني فلم آته حتى صليت ثم أتيته فقال «ما منعك أن تأتيني ؟ ألم يقل الله {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} ـ ثم قال ـ لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج» فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرج فذكرت له. وقال معاذ: حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن سمع حفص بن عاصم سمع أبا سعيد رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا وقال {الحمد لله رب العالمين} هي السبع المثاني. هذا لفظه بحروفه وقد تقدم الكلام على هذا الحديث بذكر طرقه في أول تفسير الفاتحة. وقال مجاهد في قوله {لما يحييكم} قال للحق, وقال قتادة {لما يحييكم} قال هو هذا القرآن فيه النجاة والبقاء والحياة وقال السدي {لما يحييكم} ففي الإسلام إحياؤهم بعد موتهم بالكفر, وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} أي للحرب التي أعزكم الله تعالى بها بعد الذل, وقواكم بها بعد الضعف, ومنعكم من عدوكم بعد القهر منهم لكم. وقوله تعالى: {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه}, قال ابن عباس يحول بين المؤمن وبين الكفر وبين الكافر وبين الإيمان, رواه الحاكم في مستدركه موقوفاً, وقال صحيح ولم يخرجاه, ورواه ابن مردويه من وجه آخر مرفوعاً, ولا يصح لضعف إسناده والموقوف أصح, وكذا قال مجاهد وسعيد وعكرمة والضحاك وأبو صالح وعطية ومقاتل بن حيان والسدي, وفي رواية عن مجاهد في قوله {يحول بين المرء وقلبه} أي حتى يتركه لا يعقل, وقال السدي يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه. وقال قتادة هو كقوله {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} وقد وردت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يناسب هذه الاَية, وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن أنس بن مالك رضي الله عنه, قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك». قال: فقلنا يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به, فهل تخاف علينا ؟ قال: «نعم, إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها». وهكذا رواه الترمذي في كتاب القدر من جامعه عن هناد بن السري عن أبي معاوية محمد بن حازم الضرير عن الأعمش, واسمه سليمان بن مهران عن أبي سفيان واسمه طلحة بن نافع عن أنس, ثم قال: حسن. وهكذا روي عن غير واحد عن الأعمش, ورواه بعضهم عنه عن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث أبي سفيان عن أنس أصح.
    ** وَاتّقُواْ فِتْنَةً لاّ تُصِيبَنّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصّةً وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
    يحذر تعالى عباده المؤمنين فتنة أي اختباراً ومحنة يعم بها المسيء وغيره لا يخص بها أهل المعاصي ولا من باشر الذنب بل يعمهما حيث لم تدفع وترفع, كما قال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا شداد بن سعيد حدثنا غيلان بن جرير عن مطرف قال: قلنا للزبير: يا أبا عبد الله ما جاء بكم ؟ ضيعتم الخليفة الذي قتل ثم جئتم تطلبون بدمه ؟ فقال الزبير رضي الله عنه: إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} لم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت منا حيث وقعت, وقد رواه البزار من حديث مطرف عن الزبير وقال: لا نعرف مطرفاً روى عن الزبير غير هذا الحديث, وقد روى النسائي من حديث جرير بن حازم عن الحسن عن الزبير نحو هذا, وقد روى ابن جرير حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا مبارك بن فضالة عن الحسن قال, قال الزبير لقد خوفنا بها يعني قوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ظننا أنا خصصنا بها خاصة وكذا رواه حميد عن الحسن عن الزبير رضي الله عنه وقال داود بن أبي هند عن الحسن في هذه الاَية قال نزلت في علي وعثمان وطلحة والزبير رضي الله عنهم, وقال سفيان الثوري عن الصلت بن دينار عن عقبة بن صهبان سمعت الزبير يقول: لقد قرأت هذه الاَية زماناً وما أرانا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب} وقد روي من غير وجه عن الزبير بن العوام, وقال السدي: نزلت في أهل بدر خاصة فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلمو منكم خاصة} يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وقال في رواية له عن ابن عباس في تفسير هذه الاَية أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين ظهرانيهم فيعمهم الله بالعذاب, وهذا تفسير حسن جداً, ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} هي أيضاً لكم, وكذا قال الضحاك ويزيد بن أبي حبيب, وغير واحد, وقال ابن مسعود ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة إن الله تعالى يقول {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} فأيكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلات الفتن رواه ابن جرير,

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 11:28

    والقول بأن هذا التحذير يعم الصحابة وغيرهم وإن كان الخطاب معهم هو الصحيح, ويدل عليه الأحاديث الواردة في أخص ما يذكر ههنا ما رواه الإمام أحمد حيث قال, حدثنا أحمد بن الحجاج أخبرنا عبد الله يعني ابن المبارك, أنبأنا سيف بن أبي سليمان سمعت عدي بن عدي الكندي يقول, حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يعني عدي بن عميرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه, فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة» فيه رجل متهم ولم يخرجوه في الكتب الستة ولا واحد منهم والله أعلم.

    ** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرّسُولَ وَتَخُونُوَاْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوَاْ أَنّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
    قال عبد الرزاق بن أبي قتادة والزهري: أنزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة لينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشاروه في ذلك فأشار عليهم بذلك وأشار بيده إلى حلقه, أي إنه الذبح, ثم فطن أبو لبابة ورأى أنه قد خان الله ورسوله, فحلف لا يذوق ذواقاً حتى يموت أو يتوب الله عليه, وانطلق إلى مسجد المدينة فربط نفسه في سارية منه, فمكث كذلك تسعة أيام حتى كان يخر مغشياً عليه من الجهد حتى أنزل الله توبته على رسوله, فجاء الناس يبشرونه بتوبة الله عليه, وأرادوا أن يحلوه من السارية, فحلف لا يحله منها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده, فحله, فقال: يا رسول الله: إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة, فقال «يجزيك الثلث أن تصدق به». وقال ابن جرير: حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا يونس بن الحارث الطائفي حدثنا محمد بن عبيد الله بن عون الثقفي عن المغيرة بن شعبة قال: نزلت هذه الاَية في قتل عثمان, رضي الله عنه {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول} الاَية.
    وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا القاسم بن بشر بن معروف حدثنا شبابة بن سوار حدثنا محمد بن المحرم قال لقيت عطاء بن أبي رباح فحدثني قال: حدثني جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أبا سفيان في موضع كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا» فكتب رجل من المنافقين إليه إن محمداً يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله عز وجل {لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم} الاَية, هذا حديث غريب جداً, وفي سنده وسياقه نظر, وفي الصحيحين قصة حاطب بن أبي بلتعة أنه كتب إلى قريش يعلمهم بقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم عام الفتح, فأطلع الله رسوله على ذلك, فبعث في إثر الكتاب فاسترجعه واستحضر حاطباً فأقر بما صنع, وفيها فقام عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله: ألا أضرب عنقه, فإنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين ؟ فقال: «دعه فإنه قد شهد بدراً, وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم». قلت: والصحيح أن الاَية عامة, وإن صح أنها وردت على سبب خاص, فالأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند الجماهير من العلماء. والخيانة تعم الذنوب الصغار والكبار اللازمة والمتعدية. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وتخونوا أماناتكم} الأمانة, الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد, يعني الفريضة. يقول: {لا تخونوا} لا تنقضوها. وقال في رواية: {لا تخونوا الله والرسول}, يقول بترك سنته وارتكاب معصيته.
    ** يِا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إَن تَتّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
    قال ابن عباس والسدي ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة ومقاتل بن حيان وغير واحد {فرقاناً} مخرجاً, زاد مجاهد في الدنيا والاَخرة, وفي رواية عن ابن عباس {فرقاناً} نجاة, وفي رواية عنه نصراً, وقال محمد بن إسحاق {فرقاناً} أي فصلاً بين الحق والباطل وهذا التفسير من ابن إسحاق أعم مما تقدم وهو يستلزم ذلك كله, فإن من اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره وفق لمعرفة الحق من الباطل, فكان ذلك سبب نصره ونجاته ومخرجه من أمور الدنيا وسعادته يوم القيامة وتكفير ذنوبه وهو محوها, وغفرها سترها عن الناس وسبباً لنيل ثواب الله الجزيل كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم}.


    ** وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ
    قال ابن عباس ومجاهد وقتادة {ليثبتوك} ليقيدوك, وقال عطاء وابن زيد: ليحبسوك, وقال السدي: الإثبات هو الحبس والوثاق, وهذا يشمل ما قاله هؤلاء وهؤلاء وهو مجمع الأقوال, وهو الغالب من صنيع من أراد غيره بسوء, وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج: قال عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول: لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه. قال له عمه أبو طالب: هل تدري ما ائتمروا بك ؟ قال «يريدون أن يسحروني أو يقتلوني أو يخرجوني». فقال: من أخبرك بهذا ؟ قال «ربي» قال: نعم الرب ربك استوص به خيراً. قال «أنا استوصي به, بل هو يستوصي بي».
    وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني محمد بن إسماعيل المصري المعروف بالوساوسي, أخبرنا عبد الحميد بن أبي داود عن ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن المطلب بن أبي وداعة أن أبا طالب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يأتمر بك قومك ؟ قال «يريدون أن يسحروني أو يقتلوني أو يخرجوني». فقال: من أخبرك بهذا ؟ قال «ربي». قال: نعم الرب ربك فاستوص به خيراً. قال «أنا استوصي به, بل هو يستوصي بي». قال: فنزلت {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} الاَية. وذكر أبي طالب في هذا غريب جداً, بل منكر, لأن هذه الاَية مدنية, ثم إن هذه القصة واجتماع قريش على هذا الائتمار والمشاورة على الإثبات أو النفي أو القتل إنما كان ليلة الهجرة سواء, وكان ذلك بعد موت أبي طالب بنحو من ثلاث سنين لما تمكنوا منه واجترؤوا عليه بسبب موت عمه أبي طالب الذي كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه, والدليل على صحة ما قلنا ما روى الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال: وحدثني الكلبي عن باذان مولى أم هانىء عن ابن عباس أن نفراً من قريش من أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل فلما رأوه قالوا له من أنت ؟ قال شيخ من أهل نجد, سمعت أنكم اجتمعتم فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم رأيي ونصحي. قالوا: أجل, ادخل, فدخل معهم, فقال: انظروا في شأن هذا الرجل, والله ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره. فقال قائل منهم: احبسوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء زهير والنابغة إنما هو كأحدهم. قال: فصرخ عدو الله الشيخ النجدي فقال: والله ما هذا لكم برأي والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم, فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم, قالوا: صدق الشيخ فانظروا في غير هذا. قال قائل منهم: أخرجوه من بين أظهركم فتستريحوا منه فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع وأين وقع إذا غاب عنكم أذاه واسترحتم وكان أمره في غيركم. فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه. وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه ؟ والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب ليجتمعن عليه ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم. قالوا: صدق والله, فانظروا رأياً غير هذا. قال: فقال أبو جهل لعنه الله, والله لأشيرن عليكم برأي ما أركم أبصرتموه بعد, لا أرى غيره. قالوا: وما هو ؟ قال: تأخذون من كل قبيلة غلاماً شاباً وسيطاً نهداً, ثم يعطى كل غلام منهم سيفاً صارماً, ثم يضربونه ضربة رجل واحد, فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها, فما أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها. فإنهم إذا رأوا ذلك, قبلوا العقل واسترحنا وقطعنا عنا أذاه. قال: فقال الشيخ النجدي: هذا والله الرأي, القول ما قال الفتى, لا أرى غيره. قال: فتفرقوا على ذلك وهم مجمعون له. فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه وأخبره بمكر القوم فلم يبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته تلك الليلة وأذن الله له عند ذلك بالخروج وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة الأنفال يذكر نعمه عليه وبلاءه عنده {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} وأنزل في قولهم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء, {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} فكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة للذي اجتمعوا عليه من الرأي, وعن السدي نحو هذا السياق وأنزل الله في إرادتهم إخراجه قوله تعالى: {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذاً لا يلبثون خلافك إلا قليلاً} وكذا روى العوفي عن ابن عباس, وروي عن مجاهد وعروة بن الزبير وموسى بن عقبة وقتادة ومقسم وغير واحد نحو ذلك, وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر أمر الله حتى إذا اجتمعت قريش فمكرت به وأرادوا به ما أرادوا أتاه جبريل عليه السلام فأمره أن لا يبيت في مكانه الذي كان يبيت فيه فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فأمره أن يبيت على فراشه ويتسجى ببرد له أخضر ففعل ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على القوم وهم على بابه, وخرج معه بحفنة من تراب فجعل يذرها على رؤوسهم وأخذ الله بأبصارهم عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ {يس والقرآن الحكيم ـ إلى قوله ـ فأغشيناهم فهم لا يبصرون}, وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: روي عن عكرمة ما يؤكد هذا, وقد روى ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, قال: دخلت فاطمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال: «ما يبكيك يا بنية ؟» قالت يا أبت ومالي لا أبكي وهؤلاء الملأ من قريش في الحجر يتعاهدون باللات والعزى, ومناة الثالثة الأخرى لو قد رأوك لقاموا إليك فيقتلونك وليس منهم إلا من قد عرف نصيبه من دمك, فقال: «يا بنية ائتني بوضوء» فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج إلى المسجد فلما رأوه قالوا: ها هو ذا فطأطأوا رؤوسهم وسقطت رقابهم بين أيديهم فلم يرفعوا أبصارهم فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فحصبهم بهاوقال: «شاهت الوجوه» فما أصاب رجلاً منهم حصاة من حصياته إلا قتل يوم بدر كافراً, ثم قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه, ولا أعرف له علة. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر أخبرني عثمان الجزري, عن مقسم مولى ابن عباس أخبره ابن عباس في قوله: {وإذ يمكر بك} الاَية قال: تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي صلى الله عليه وسلم, وقال بعضهم بل اقتلوه, وقال بعضهم: بل أخرجوه فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فبات علي رضي الله عنه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم, وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار وبات المشركون يحرسون علياً يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم, فلما أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوا علياً رد الله تعالى مكرهم فقالوا: أين صاحبك هذا ؟ قال لا أدري, فاقتصوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا لو دخل ههنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاث ليال, وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير في قوله {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} أي فمكرت بهم بكيدي المتين حتى خلصتك منهم


    يتبع


    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 11:42

    ** وَمَا لَهُمْ أَلاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوَاْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاّ الْمُتّقُونَ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ
    يخبر تعالى أنهم أهل لأن يعذبهم, ولكن لم يوقع ذلك بهم لبركة مقام الرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم, ولهذا لما خرج من بين أظهرهم أوقع الله بهم بأسه يوم بدر, فقتل صناديدهم وأسر سراتهم وأرشدهم تعالى إلى الاستغفار من الذنوب التي هم متلبسون بها من الشرك والفساد. وقال قتادة والسدي وغيرهما: لم يكن القوم يستغفرون, ولو كانوا يستغفرون لما عذبوا. واختاره ابن جرير, فلولا ما كان بين أظهرهم من المستضعفين من المؤمنين المستغفرين لوقع بهم البأس الذي لا يرد, ولكن دفع عنهم بسبب أولئك, كما قال تعالى في يوم الحديبية {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله, ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم, فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء, لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً}. قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب عن جعفر بن أبي المغيرة عن ابن أبزى قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فأنزل الله {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم}, قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأنزل الله {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} , قال: وكان أولئك البقية من المسلمين الذين بقوا فيها مستضعفين, يعني بمكة {يستغفرون} فلما خرجوا أنزل الله {وما لهم أن لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه}, قال: فأذن الله في فتح مكة فهو العذاب الذي وعدهم. وروي عن ابن عباس وأبي مالك والضحاك وغير واحد نحو هذا, وقد قيل: إن هذه الاَية ناسخة لقوله تعالى: {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}, على أن يكون المراد صدور الاستغفار منهم أنفسهم, قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح عن الحسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة والحسن البصري قالا: قال في الأنفال {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}, فنسختها الاَية التي تليها {وما لهم ألا يعذبهم الله ـ إلى قوله ـ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}, فقوتلوا بمكة فأصابهم فيها الجوع والضر, وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي نميلة يحيى بن واضح. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} ثم استثنى أهل الشرك فقال {وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام} ـ وقوله ـ {وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون} أي وكيف لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام أي الذي بمكة يصدون المؤمنين الذين هم أهله عن الصلاة فيه والطواف به, ولهذا قال: {وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون} أي هم ليسوا أهل المسجد الحرام وإنما أهله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما قال تعالى: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون * إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الاَخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين}, وقال تعالى: {وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله}, الاَية. وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الاَية: حدثنا سليمان بن أحمد هو الطبراني, حدثنا جعفر بن إلياس بن صدقة المصري, حدثنا نعيم بن حماد, حدثنا نوح بن أبي مريم عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أولياؤك ؟ قال: «كل تقي» وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن أولياؤه إلا المتقون}. وقال الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو بكر الشافعي, حدثنا إسحاق بن الحسن, حدثنا أبو حذيفة, حدثنا سفيان عن عبد الله بن خثيم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فقال: «هل فيكم من غيركم ؟» فقالوا فينا ابن أختنا وفينا حليفنا وفينا مولانا فقال: «حليفنا منا وابن أختنا منا ومولانا منا إن أوليائي منكم المتقون» ثم قال هذا صحيح ولم يخرجاه, وقال عروة والسدي ومحمد بن إسحاق في قوله تعالى: {إن أولياؤه إلا المتقون} قال هم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم. وقال مجاهد: هم المجاهدون من كانوا وحيث كانوا, ثم ذكر تعالى ما كانوا يعتمدونه عند المسجد الحرام, وما كانوا يعاملونه به, فقال: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية}, قال عبد الله بن عمرو وابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو رجاء العطاردي ومحمد بن كعب القرظي وحجر بن عنبس ونبيط بن شريط وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو الصفير, وزاد مجاهد وكانوا يدخلون أصابعهم في أفواههم, وقال السدي: المكاء الصفير على نحو طير أبيض يقال له المكاء ويكون بأرض الحجاز {وتصدية}, قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو خلاد سليمان بن خلاد, حدثنا يونس بن محمد المؤدب, حدثنا يعقوب يعني ابن عبد الله الأشعري, حدثنا جعفر بن المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية}, قال المكاء الصفير والتصدية التصفيق, قال قرة: وحكى لنا عطية فعل ابن عمر فصفر ابن عمر وأمال خده وصفق بيديه, وعن ابن عمر أيضاً أنه قال: إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويصفقون ويصفرون رواه ابن أبي حاتم في تفسيره بسنده عنه. وقال عكرمة: كانوا يطوفون بالبيت على الشمال, قال مجاهد: وإنما كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا بذلك على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته, وقال الزهري يستهزئون بالمؤمنين, وعن سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد {وتصدية} قال صدهم الناس عن سبيل الله عز وجل. قوله {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}, قال الضحاك وابن جريج ومحمد بن إسحاق: هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والسبي, واختاره ابن جرير ولم يحك غيره, وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال عذاب أهل الإقرار بالسيف وعذاب أهل التكذيب بالصيحة والزلزلة.
    ** إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمّ يُغْلَبُونَ وَالّذِينَ كَفَرُوَاْ إِلَىَ جَهَنّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنّمَ أُوْلَـَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
    قال محمد بن إسحاق: حدثني الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعيد بن معاذ قالوا لما أصيبت قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة, فقالوا يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم, فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا ففعلوا, قال ففيهم كما ذكر عن ابن عباس أنزل الله عز وجل {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ـ إلى قوله ـ هم الخاسرون}, وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير والحكم بن عيينة وقتادة والسدي وابن أبزى أنها نزلت في أبي سفيان ونفقته الأموال في أحد لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال الضحاك: نزلت في أهل بدر وعلى كل تقدير فهي عامة, وإن كان سبب نزولها خاصاً فقد أخبر تعالى أن الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن اتباع طريق الحق فسيفعلون ذلك ثم تذهب أموالهم ثم تكون عليهم حسرة أي ندامة حيث لم تجد شيئاً لأنهم أرادوا إطفاء نور الله وظهور كلمتهم على كلمة الحق والله متم نوره ولو كره الكافرون وناصر دينه ومعلن كلمته ومظهر دينه على كل دين فهذا الخزي لهم في الدنيا ولهم في الاَخرة عذاب النار فمن عاش منهم رأى بعينه وسمع بأذنه ما يسوءه, ومن قتل منهم أو مات فإلى الخزي الأبدي والعذاب السرمدي, ولهذا قال: {فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون, والذين كفروا إلى جهنم يحشرون} وقوله تعالى: {ليميز الله الخبيث من الطيب} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {ليميز الله الخبيث من الطيب} فيميز أهل السعادة من أهل الشقاء, وقال السدي: يميز المؤمن من الكافر, وهذا يحتمل أن يكون هذا التمييز في الاَخرة كقوله: {ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم} الاَية, وقوله: {ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون}, وقال في الاَية الأخرى: {يومئذ يصدعون} وقال تعالى: {وامتازوا اليوم أيها المجرمون} ويحتمل أن يكون هذا التمييز في الدنيا بما يظهر من أعمالهم للمؤمنين, وتكون الللام معللة لما جعل الله للكافرين من مال ينفقونه في الصد عن سبيل الله أي إنما أقدرناهم على ذلك {ليميز الله الخبيث من الطيب} أي من يطيعه بقتال أعدائه الكافرين, أو يعصيه بالنكول عن ذلك كقوله: {وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا, قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم} الاَية وقال تعالى: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب} الاَية, وقال تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} ونظيرها في براءة أيضاً فمعنى الاَية على هذا إنما ابتليناكم بالكفار يقاتلونكم وأقدرناهم على إنفاق الأموال وبذلها في ذلك {ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه} أي يجمعه كله وهو جمع الشيء بعضه على بعض كما قال تعالى في السحاب {ثم يجعله ركاماً} أي متراكماً متراكباً {فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون} أي هؤلاء هم الخاسرون في الدنيا والاَخرة.


    يتبع


    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 11:50

    ** قُل لِلّذِينَ كَفَرُوَاْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنّةُ الأوّلِينِ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِن تَوَلّوْاْ فَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَىَ وَنِعْمَ النّصِيرُ
    يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {قل للذين كفروا إن ينتهوا} أي عما هم فيه من الكفر والمشاقة والعناد ويدخلوا في الإسلام والطاعة والإنابة يغفر لهم ما قد سلف أي من كفرهم, وذنوبهم وخطاياهم كما جاء في الصحيح من حديث أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية, ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والاَخر» وفي الصحيح أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما كان قبلها» وقوله {وإن يعودوا} أي يستمروا على ما هم فيه {فقد مضت سنة الأولين} أي فقد مضت سنتنا في الأولين أنهم إذا كذبوا واستمروا على عنادهم أنا نعاجلهم بالعذاب والعقوبة. قال مجاهد في قوله {فقد مضت سنة الأولين} أي في قريش يوم بدر وغيرها من الأمم, وقال السدي ومحمد بن إسحاق أي يوم بدر. وقوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} قال البخاري حدثنا الحسن بن عبد العزيز حدثنا عبد الله بن يحيى حدثنا حيوة بن شريح عن بكر بن عمرعن بكير عن نافع عن ابن عمر أن رجلاً جاء فقال: يا أبا عبد الرحمن ألا تصنع ما ذكر الله في كتابه {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} الاَية فما يمنعك أن لا تقاتل كما ذكر الله في كتابه ؟ فقال: يا ابن أخي أعير بهذه الاَية, ولا أقاتل أحب إلي من أن أعير بالاَية التي يقول الله عز وجل {ومن يقتل مؤمناً متعمداً} إلى آخر الاَية قال: فإن الله تعالى يقول {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} قال ابن عمر قد فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان الإسلام قليلاً وكان الرجل يفتن في دينه إما أن يقتلوه وإما أن يوثقوه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة, فلما رأى أنه لا يوافقه فيما يريد قال فما قولكم في علي وعثمان ؟ قال ابن عمر أما قولي في علي وعثمان, أما عثمان فكان الله قد عفا عنه وكرهتم أن يعفو الله عنه, وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه وأشار بيده وهذه ابنته أو بنته حيث ترون, وحدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا بيان أن ابن وبرة حدثه قال حدثني سعيد بن جبير قال: خرج علينا أو إلينا ابن عمر رضي الله عنهما فقال كيف ترى في قتال الفتنة ؟ فقال: وهل تدري ما الفتنة ؟ كان محمد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين وكان الدخول عليهم فتنة, وليس بقتالكم على الملك. هذا كله سياق البخاري رحمه الله تعالى وقال عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس قد صنعوا ما ترى وأنت ابن عمر بن الخطاب وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج ؟ قال يمنعني أن الله حرم علي دم أخي المسلم. قالوا أو لم يقل الله {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} ؟ قال قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين كله لله, وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله. وكذا روى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أيوب بن عبد الله اللخمي, قال كنت عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما, فأتاه رجل فقال: إن الله يقول {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}, قال: قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة, وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله. وكذا رواه حماد بن سلمة, فقال ابن عمر: قاتلت أنا وأصحابي حتى كان الدين كله لله, وذهب الشرك ولم تكن فتنة, ولكنك وأصحابك تقاتلون حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله, رواهما ابن مردويه. وقال أبو عوانة: عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه, قال: قال ذو البطين, يعني أسامة بن زيد: لا أقاتل رجلاً يقول لا إله إلا الله أبداً. فقال سعد بن مالك: وأنا والله لا أقاتل رجلاً يقول لا إله إلا الله أبداً, فقال رجل ألم يقل الله {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} ؟ فقالا: قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين كله لله. رواه ابن مردويه, وقال الضحاك عن ابن عباس {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة}, يعني لا يكون شرك, وكذا قال أبو العالية ومجاهد والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم, وقال محمد بن إسحاق: بلغني عن الزهري عن عروة بن الزبير, وغيره من علمائنا, حتى لا تكون فتنة, حتى لا يفتن مسلم عن دينه, وقوله {ويكون الدين كله لله} قال الضحاك: عن ابن عباس في هذه الاَية, قال يخلص التوحيد لله, وقال الحسن وقتادة وابن جريج {ويكون الدين كله لله} أن يقال لا إله إلا الله, وقال محمد بن إسحاق: ويكون التوحيد خالصاً لله, ليس فيه شرك, ويخلع ما دونه من الأنداد.
    ** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لّعَلّكُمْ تُفْلَحُونَ * وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوَاْ إِنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ
    هذا تعليم من الله تعالى لعباده المؤمنين آداب اللقاء وطريق الشجاعة عند مواجهة الأعداء, فقال {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا} ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدو, حتى إذا مالت الشمس قام فيهم, فقال: «يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو, واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم, وقال: «اللهم منزل الكتاب, ومجري السحاب, وهازم الأحزاب, اهزمهم وانصرنا عليهم» وقال عبد الرزاق: عن سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن زياد, عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية, فإذا لقيتموهم فاثبتوا واذكروا الله, فإن صخبوا وصاحوا فعليكم بالصمت», وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا إبراهيم بن هاشم البغوي, حدثنا أمية بن بسطام, حدثنا معتمر بن سليمان, حدثنا ثابت بن زيد عن رجل عن زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً, قال: «إن الله يحب الصمت عند ثلاث عند تلاوة القرآن, وعند الزحف, وعند الجنازة» وفي الحديث الاَخر المرفوع, يقول الله تعالى: {إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مناجز قرنه} أي لا يشغله ذلك الحال, عن ذكري ودعائي واستعانتي.
    ** وَلَوْ تَرَىَ إِذْ يَتَوَفّى الّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لّلْعَبِيدِ
    يقول تعالى: ولو عاينت يا محمد حال توفي الملائكة أرواح الكفار, لرأيت أمراً عظيماً هائلاً فظيعاً منكراً,)إذ {يضربون وجوههم وأدبارهم} ويقولون لهم {وذوقوا عذاب الحريق}, قال ابن جريج: عن مجاهد {أدبارهم} أستاههم, قال يوم بدر. قال ابن جريج: قال ابن عباس: إذا أقبل المشركون بوجوههم إلى المسلمين, ضربوا وجوههم بالسيوف, وإذا ولوا أدركتهم الملائكة يضربون أدبارهم. وقال ابن أبي نجيح: عن مجاهد, في قوله {إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم} يوم بدر, وقال وكيع: عن سفيان الثوري عن أبي هاشم إسماعيل بن كثير عن مجاهد, وعن شعبة عن يعلى بن مسلم, عن سعيد بن جبير, يضربون وجوههم وأدبارهم قال وأستاههم, ولكن الله يَكْنىَ, وكذا قال عمر مولى عفرة. وعن الحسن البصري قال: قال رجل يا رسول الله: إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشوك, قال «ذاك ضرب الملائكة» رواه ابن جرير وهو مرسل, وهذا السياق وإن كان سببه وقعة بدر, ولكنه عام في حق كل كافر, ولهذا لم يخصصه تعالى بأهل بدر, بل قال تعالى: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم} وفي سورة القتال مثلها, وتقدم في سورة الأنعام قوله تعالى: {ولو ترى إذ المجرمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم} أي باسطو أيديهم بالضرب فيهم بأمر ربهم, إذ استصعبت أنفسهم, وامتنعت من الخروج من الأجساد أن تخرج قهراً, وذلك إذ بشروهم بالعذاب والغضب من الله, كما في حديث البراء أن ملك الموت إذا جاء الكافر عند احتضاره في تلك الصورة المنكرة, يقول: اخرجي أيتها النفس الخبيثة إلى سموم وحميم وظل من يحموم, فتتفرق في بدنه فيستخرجونها من جسده, كما يخرج السفود من الصوف المبلول, فتخرج معها العروق والعصب, ولهذا أخبر تعالى: أن الملائكة تقول لهم ذوقوا عذاب الحريق, وقوله تعالى: {ذلك بما قدمت أيديكم} أي هذا الجزاء بسبب ما عملتم من الأعمال السيئة في حياتكم الدنيا, جازاكم الله بها هذا الجزاء {وأن الله ليس بظلام للعبيد} أي لا يظلم أحداً من خلقه, بل هو الحكم العدل الذي لا يجور تبارك وتعالى, وتقدس وتنزه الغني الحميد, ولهذا جاء في الحديث الصحيح, عند مسلم رحمه الله, من رواية أبي ذر رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, إن الله تعالى يقول «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا, يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» ولهذا قال تعالى.


    ** كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنّ اللّهَ قَوِيّ شَدِيدُ الْعِقَابِ
    يقول تعالى: فعل هؤلاء من المشركين المكذبين بما أرسلت به يا محمد, كما فعل الأمم المكذبة قبلهم, ففعلنا بهم ما هو دأبنا أي عادتنا وسنتنا في أمثالهم من المكذبين من آل فرعون ومن قبلهم من الأمم المكذبة بالرسل, الكافرين بآيات الله {فأخذهم الله بذنوبهم} أي بسبب ذنوبهم أهلكهم وأخذهم أخذ عزيز مقتدر, {إن الله قوي شديد العقاب} أي لا يغلبه غالب ولا يفوته هارب.


    ** ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىَ قَوْمٍ حَتّىَ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذّبُواْ بآيَاتِ رَبّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآ آلَ فِرْعَونَ وَكُلّ كَانُواْ ظَالِمِينَ
    يخبر تعالى عن تمام عدله وقسطه في حكمه بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد, إلا بسبب ذنب ارتكبه, كقوله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم, وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له ومالهم من دونه من وال} وقوله {كدأب آل فرعون} أي كصنعه بآل فرعون وأمثالهم, حين كذبوا بآياته, أهلكهم بسبب ذنوبهم وسلبهم تلك النعم التي أسداها إليهم, من جنات وعيون وزروع وكنوز ومقام كريم, ونعمة كانوا فيها فاكهين, وما ظلمهم الله في ذلك بل كانوا هم الظالمين.


    ** إِنّ شَرّ الدّوَابّ عِندَ اللّهِ الّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * الّذِينَ عَاهَدْتّ مِنْهُمْ ثُمّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلّ مَرّةٍ وَهُمْ لاَ يَتّقُونَ * فَإِمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِم مّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ
    أخبر تعالى: أن شر ما دب على وجه الأرض هم الذين كفروا فهم لا يؤمنون, الذين كلما عاهدوا عهداً نقضوه, وكلما أكدوه بالأيمان نكثوه, {وهم لا يتقون} أي لا يخافون من الله في شيء ارتكبوه من الاَثام, {فإما تثقفنهم في الحرب} أي تغلبهم وتظفر بهم في حرب, {فشرد بهم من خلفهم} أي نكل بهم, قاله ابن عباس والحسن البصري والضحاك والسدي وعطاء الخراساني وابن عيينة, ومعناه غلظ عقوبتهم وأثخنهم قتلاً, ليخاف من سواهم من الأعداء من العرب وغيرهم, ويصيروا لهم عبرة, {لعلهم يذكرون} وقال السدي: يقول: لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيصنع بهم مثل ذلك.


    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 11:56

    ** وَإِمّا تَخَافَنّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىَ سَوَآءٍ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الخَائِنِينَ
    يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وإما تخافن من قوم} قد عاهدتهم {خيانة} أي نقضاً لما بينك وبينهم من المواثيق والعهود, {فانبذ إليهم} أي عهدهم {على سواء}, أي أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم, حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم, وهم حرب لك, وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء, أي تستوي أنت وهم في ذلك, قال الراجز:
    فاضرب وجوه الغدر للأعداءحتى يجيبوك إلى السواء
    وعن الوليد بن مسلم أنه قال في قوله تعالى: {فانبذ إليهم على سواء} أي على مهل, {إن الله لا يحب الخائنين} أي حتى ولو في حق الكفار لا يحبها أيضاً. قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة, عن أبي الفيض عن سليم بن عامر, قال: كان معاوية يسير في أرض الروم, وكان بينه وبينهم أمد, فأراد أن يدنو منهم, فإذا انقضى الأمد غزاهم, فإذا شيخ على دابة يقول: الله أكبر, الله أكبر, وفاء لا غدراً, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ومن كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة ولا يشدها حتى ينقضي أمدها, أو ينبذ إليهم على سواء» قال: فبلغ ذلك معاوية, فرجع, فإذا بالشيخ عمرو بن عنبسة رضي الله عنه, وهذا الحديث رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة, وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه, من طرق عن شعبة به, وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا محمد بن عبد الله الزبيري, حدثنا إسرائيل, عن عطاء بن السائب, عن أبي البختري عن سلمان, يعني الفارسي رضي الله عنه, أنه انتهى إلى حصن أو مدينة, فقال لأصحابه: دعوني أدعوهم كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم, فقال: إنما كنت رجلاً منكم, فهداني الله عز وجل للإسلام, فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا, وإن أبيتم فأدوا الجزية وأنتم صاغرون, وإن أبيتم نابذناكم على سواء, {إن الله لا يحب الخائنين} يفعل ذلك بهم ثلاثة أيام, فلما كان اليوم الرابع غدا الناس إليها ففتحوها بعون الله.


    ** وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوَاْ إِنّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ * وَأَعِدّواْ لَهُمْ مّا اسْتَطَعْتُمْ مّن قُوّةٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ
    يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ولا تحسبن} يا محمد {الذين كفروا سبقوا} أي فاتونا, فلا نقدر عليهم بل هم تحت قهر قدرتنا, وفي قبضة مشيئتنا, فلا يعجزوننا, كقوله تعالى: {أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون} أي يظنون, وقوله تعالى: {ولا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير} وقوله تعالى: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد} ثم أمر تعالى, بإعداد آلات الحرب لمقاتلتهم حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة, فقال: {وأعدوا لهم ما استطعتم} أي مهما أمكنكم {من قوة ومن رباط الخيل} قال الإمام أحمد: حدثنا هارون بن معروف, حدثنا ابن وهب, أخبرني عمرو بن الحارث, عن أبي علي ثمامة بن شفي, أخي عقبة بن عامر, أنه سمع عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي» رواه مسلم, عن هارون بن معروف, وأبو داود عن سعيد بن منصور, وابن ماجه عن يونس بن عبد الأعلى, ثلاثتهم عن عبد الله بن وهب به. ولهذا الحديث طرق أخر, عن عقبة بن عامر, منها ما رواه الترمذي من حديث صالح بن كيسان, عن رجل عنه, وروى الإمام أحمد وأهل السنن عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ارموا واركبوا وأن ترموا خير من أن تركبوا».
    وقال الإمام مالك عن زيد بن أسلم, عن أبي صالح السمان, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل لثلاثة, لرجل أجر, ولرجل ستر, وعلى رجل وزر, فأما الذي له أجر, فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة, فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة, كانت له حسنات ولو أنها قطعت طيلها, فاستنت شرفاً أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له, ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقي به, كان ذلك حسنات له, فهي لذلك الرجل أجر, ورجل ربطها تغنياً وتعففاً, ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي له ستر, ورجل ربطها فخراً ورياء ونواء, فهي على ذلك وزر» وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر, فقال «ما أنزل الله عليّ فيها شيئاً إلا هذه الاَية الجامعة الفاذة {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} رواه البخاري وهذا لفظه, ومسلم كلاهما من حديث مالك, وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج, أخبرنا شريك, عن الركين بن الربيع, عن القاسم بن حسان, عن عبد الله بن مسعود, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: «الخيل ثلاثة: ففرس للرحمن, وفرس للشيطان, وفرس للإنسان, فأما فرس الرحمن فالذي يربط في سبيل الله, فعلفه وروثه وبوله ـ وذكر ما شاء الله ـ وأما فرس الشيطان, فالذي يقامر أو يراهن عليها, وأما فرس الإنسان, فالفرس يربطها الإنسان يلتمس بطنها, فهي له ستر من الفقر» وقد ذهب أكثر العلماء, إلى أن الرمي أفضل من ركوب الخيل, وذهب الإمام مالك, إلى أن الركوب أفضل من الرمي, وقول الجمهور أقوى للحديث, والله أعلم.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 12:02

    ** إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ آوَواْ وّنَصَرُوَاْ أُوْلَـَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مّن وَلاَيَتِهِم مّن شَيْءٍ حَتّىَ يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدّينِ فَعَلَيْكُمُ النّصْرُ إِلاّ عَلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
    ذكر تعالى أصناف المؤمنين وقسمهم إلى مهاجرين خرجوا من ديارهم وأموالهم وجاءوا لنصر الله ورسوله وإقامة دينه وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك, وإلى أنصار وهم المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم وواسوهم في أموالهم ونصروا الله ورسوله بالقتال معهم فهؤلاء {بعضهم أولياء بعض} أي كل منهم أحق بالاَخر من كل أحد, ولهذا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار كل اثنين أخوان فكانوا يتوارثون بذلك إرثاً مقدماً على القرابة حتى نسخ الله تعالى ذلك بالمواريث, ثبت ذلك في صحيح البخاري عن ابن عباس, ورواه العوفي وعلي بن أبي طلحة عنه, وقال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير واحد: قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن شريك عن عاصم عن أبي وائل عن جرير هو ابن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض, والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة» تفرد به أحمد. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا سفيان حدثنا عكرمة يعني ابن إبراهيم الأزدي حدثنا عاصم عن شقيق عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المهاجرون والأنصار, والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض في الدنيا والاَخرة» هكذا رواه في مسند عبد الله بن مسعود
    ** وَالّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ
    لما ذكر تعالى أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض, قطع الموالاة بينهم وبين الكفار, كما قال الحاكم في مستدركه: حدثنا محمد بن صالح بن هانىء, حدثنا أبو سعيد يحيى بن منصور الهروي, حدثنا محمد بن أبان, حدثنا محمد بن يزيد وسفيان بن حسين, عن الزهري, عن علي بن الحسين, عن عمرو بن عثمان, عن أسامة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يتوارث أهل ملتين, ولا يرث مسلم كافراً, ولا كافر مسلماً ـ ثم قرأ ـ {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير}» ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. قلت: الحديث في الصحيحين من رواية أسامة بن زيد, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» وفي المسند والسنن, من حديث عمرو بن شعيب, عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتوارث أهل ملتين شتى» وقال الترمذي: حسن صحيح وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا محمد, عن معمر, عن الزهري, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ على رجل دخل في الإسلام, فقال: «تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت وتصوم رمضان, وإنك لا ترى نار مشرك إلا وأنت له حرب» وهذا مرسل من هذا الوجه, وقد روي متصلاً من وجه آخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا بريء من كل مسلم بين ظهراني المشركين» ثم قال: «لا يتراءى ناراهما».
    وقال أبو داود في آخر كتاب الجهاد: حدثنا محمد بن داود بن سفيان, أخبرني يحيى بن حسان, أنبأنا سليمان بن موسى أبو داود, حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب أخبرني خبيب بن سليمان عن سمرة بن جندب: أما بعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله» وذكر الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث حاتم بن إسماعيل عن عبد الله بن هرمز عن محمد وسعيد ابني عبيد عن أبي حاتم المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه, إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض» قالوا: يا رسول الله وإن كان فيه قال: «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه» ثلاث مرات, وأخرجه أبو داودوالترمذي من حديث حاتم بن إسماعيل به بنحوه, ثم روي من حديث عبد الحميد بن سليمان: عن ابن عجلان عن أبي وثيمة النضري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه, إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض» ومعنى قوله {إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} أي إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين وإلا وقعت فتنة في الناس وهو التباس الأمر واختلاط المؤمنين بالكافرين فيقع بين الناس فساد منتشر عريض طويل.


    ** وَالّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ آوَواْ وّنَصَرُوَاْ أُولَـَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لّهُمْ مّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـَئِكَ مِنكُمْ وَأْوْلُواْ الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىَ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
    لما ذكر تعالى حكم المؤمنين في الدنيا عطف بذكر مالهم في الاَخرة, فأخبر عنهم بحقيقة الإيمان كما تقدم في أول السورة وأنه سبحانه سيجازيهم بالمغفرة والصفح عن الذنوب إن كانت, وبالرزق الكريم وهو الحسن الكثير الطيب الشريف دائم مستمر أبداً لا ينقطع ولا ينقضي ولا يسأم ولا يمل لحسنه وتنوعه. ثم ذكر أن الأتباع لهم في الدنيا على ما كانوا عليه من الإيمان والعمل الصالح فهم معهم في الاَخرة, كما قال {والسابقون الأولون} الاَية وقال {والذين جاءوا من بعدهم} الاَية. وفي الحديث المتفق عليه بل المتواتر من طرق صحيحة, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «المرء مع من أحب» وفي الحديث الاَخر «من أحب قوماً فهو منهم» وفي رواية «حشر معهم». وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن شريك عن عاصم عن أبي وائل عن جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء لبعض, والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة» قال شريك: فحدثنا الأعمش عن تميم بن سلمة عن عبد الرحمن بن هلال عن جرير عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله, تفرد به أحمد من هذين الوجهين. وأما قوله تعالى: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} أي في حكم الله وليس المراد بقوله: {وأولو الأرحام} خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة الذين لا فرض لهم ولا هم عصبة, بل يدلون بوارث كالخالة والخال والعمة وأولاد البنات وأولاد الأخوات ونحوهم, كما قد يزعمه بعضهم ويحتج بالاَية ويعتقد ذلك صريحاً في المسألة بل الحق أن الاَية عامة تشمل جميع القرابات, كما نص عليه ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير واحد على أنها ناسخة للإرث بالحلف والإخاء اللذين كانوا يتوارثون بهما أولاً, وعلى هذا فتشمل ذوي الأرحام بالاسم الخاص, ومن لم يورثهم يحتج بأدلة من أقواها حديث «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» قالوا: فلو كان ذا حق لكان ذا فرض في كتاب الله مسمى فلما لم يكن كذلك لم يكن وارثاً, والله أعلم.


    تمت الانفال
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 12:23

    سورة التوبة

    ** بَرَآءَةٌ مّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الّذِينَ عَاهَدْتُمْ مّنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُواْ فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوَاْ أَنّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ
    هذه السورة الكريمة من أواخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال البخاري: حدثنا أبو الوليد, حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول آخر آية نزلت {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} وآخر سورة نزلت براءة, وإنما لم يبسمل في أولها لأن الصحابة لم يكتبوا البسملة في أولها في المصحف الإمام, بل اقتدوا في ذلك بأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه, كما قال الترمذي: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر وابن أبي عدي وسهيل بن يوسف قالوا: حدثنا عوف بن أبي جميلة, أخبرني يزيد الفارسي, أخبرني ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين وقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال ما حملكم على ذلك ؟ فقال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هذه الاَية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا, وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن, وكانت قصتها شبيهة بقصتها وحسبت أنها منها, وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال, وكذا رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه, والحاكم في مستدركه من طرق أخر عن عوف الأعرابي به, وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه, وأول هذه السورة الكريمة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك وهم بالحج, ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك وأنهم يطوفون بالبيت عراة, فكره مخالطتهم وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميراً على الحج تلك السنة ليقيم للناس مناسكهم ويعلم المشركين أن لا يحجوا بعد عامهم هذا, وأن ينادي في الناس {براءة من الله ورسوله} فلما قفل أتبعه بعلي بن أبي طالب ليكون مبلغاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونه عصبة له كما سيأتي بيانه.
    ** وَأَذَانٌ مّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الأكْبَرِ أَنّ اللّهَ بَرِيَءٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ وَإِن تَوَلّيْتُمْ فَاعْلَمُوَاْ أَنّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشّرِ الّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
    يقول تعالى وإعلام {من الله ورسوله} وتقدم وإنذار إلى الناس {يوم الحج الأكبر} وهو يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك وأظهرها وأكثرها جمعاً {أن الله بريء من المشركين ورسوله} أي بريء منهم أيضاً ثم دعاهم إلى التوبة إليه, فقال {فإن تبتم} أي مما أنتم فيه من الشرك والضلال {فهو خير لكم, وإن توليتم} أي استمررتم على ما أنتم عليه {فاعلموا أنكم غير معجزي الله} بل هو قادر عليكم وأنتم في قبضته وتحت قهره ومشيئته, {وبشر الذين كفروا بعذاب أليم} أي في الدنيا بالخزي والنكال وفي الاَخرة بالمقامع والأغلال, قال البخاري رحمه الله: حدثنا عبد الله بن يوسف, حدثنا الليث, حدثني عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في المؤذنين الذين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. قال حميد: ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة, قال أبو هريرة فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر ببراءة, وأن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان, ورواه البخاري أيضاً: حدثنا أبو اليمان, أخبرناشعيب عن الزهري, أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان, ويوم الحج الأكبر يوم النحر, وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس الحج الأصغر, فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرك, هذا لفظ البخاري في كتاب الجهاد. وقال عبد الرزاق: عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله: {براءة من الله ورسوله} قال: لما كان النبي صلى الله عليه وسلم زمن حنين اعتمر من الجعرانة ثم أمّر أبا بكر على تلك الحجة, قال معمر: قال الزهري: وكان أبو هريرة يحدث أن أبا بكر أمر أبا هريرة أن يؤذن ببراءة في حجة أبي بكر, قال أبو هريرة: ثم أتبعنا النبي صلى الله عليه وسلم علياً وأمره أن يؤذن ببراءة وأبو بكر على الموسم كما هو أو قال على هيئته. وهذا السياق فيه غرابة من جهة أن أمير الحج كان سنة عمرة الجعرانة إنما هو عتاب بن أسيد فأما أبو بكر إنما كان أميراً سنة تسع.
    ** وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّىَ يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَعْلَمُونَ
    يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه {وإن أحد من المشركين} الذين أمرتك بقتالهم وأحللت لك استباحة نفوسهم وأموالهم {استجارك} أي استأمنك فأجبه إلى طلبته حتى يسمع كلام الله أي القرآن تقرؤه عليه وتذكر له شيئاً من أمر الدين تقيم به عليه حجة الله {ثم أبلغه مأمنه} أي وهو آمن مستمر الأمان حتى يرجع إلى بلاده وداره ومأمنه {ذلك بأنهم قوم لا يعلمون} أي إنما شرعنا أمان مثل هؤلاء ليعلموا دين الله وتنتشر دعوة الله في عباده.
    وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في تفسير هذه الاَية قال: إنسان يأتيك ليسمع ما تقول وما أنزل عليك فهو آمن حتى يأتيك فتسمعه كلام الله وحتى يبلغ مأمنه حيث جاء, ومن هذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الأمان لمن جاءه مسترشداً أو في رسالة, كما جاءه يوم الحديبية جماعة من الرسل من قريش, منهم عروة بن مسعود ومكرز بن حفص وسهيل بن عمرو وغيرهم, واحداً بعد واحد يترددون في القضية بينه وبين المشركين فرأوا من إعظام المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهرهم وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر, فرجعوا إلى قومهم وأخبروهم بذلك, وكان ذلك وأمثاله من أكبر أسباب هداية أكثرهم, ولهذا أيضاً لما قدم رسول مسيلمة الكذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أتشهد أن مسيلمة رسول الله ؟ قال نعم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن الرسل لا تقتل لضربت عنقك» وقد قيض الله له ضرب العنق في إمارة ابن مسعود على الكوفة, وكان يقال له ابن النواحة ظهر عنه في زمان ابن مسعود أنه يشهد لمسيلمة بالرسالة, فأرسل إليه ابن مسعود فقال له: إنك الاَن لست في رسالة وأمر به فضربت عنقه لا رحمه الله ولعنه. والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب, وطلب من الإمام أو نائبه أماناً أعطي أماناً ما دام متردداً في دار الإسلام, وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه, لكن قال العلماء لا يجوز أن يمكن من الإقامة في دار الإسلام سنة, ويجوز أن يمكن من إقامة أربعة أشهر, وفيما بين ذلك فيما زاد على أربعة أشهر ونقص عن سنة قولان عن الإمام الشافعي وغيره من العلماء رحمهم الله.


    ** كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاّ الّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتّقِينَ
    يبين تعالى حكمته في البراءة من المشركين ونظرته إياهم أربعة أشهر, ثم بعد ذلك السيف المرهف أين ثقفوا فقال تعالى: {كيف يكون للمشركين عهد} أي أمان ويتركون فيما هم فيه وهم مشركون بالله كافرون به وبرسوله {إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام} يعني يوم الحديبية, كما قال تعالى: {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله} الاَية, {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} أي مهما تمسكوا بما عاقدتموهم عليه وعاهدتموهم من ترك الحرب بينكم وبينهم عشر سنين {فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين} وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك والمسلمون. استمر العقد والهدنة مع أهل مكة من ذي القعدة في سنة ست إلى أن نقضت قريش العهد ومالؤوا حلفاءهم وهم بنو بكر على خزاعة أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوهم معهم في الحرم أيضاً فعنذ ذلك غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان سنة ثمان ففتح الله عليه البلد الحرام ومكنه من نواصيهم ولله الحمد والمنة, فأطلق من أسلم منهم بعد القهر والغلبة عليهم فسموا الطلقاء, وكانوا قريباً من ألفين, ومن استمر على كفره وفرّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه بالأمان والتسيير في الأرض أربعة أشهر يذهب حيث شاء, ومنهم صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما, ثم هداهم الله بعد ذلك إلى الإسلام التام, والله المحمود على جميع ما يقدره ويفعله.


    ** كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاّ وَلاَ ذِمّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىَ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ
    يقول تعالى محرضاً للمؤمنين على معاداتهم والتبري منهم ومبيناً أنهم لا يستحقون أن يكون لهم عهد لشركهم بالله تعالى وكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم, ولأنهم لو ظهروا على المسلمين وأديلوا عليهم لم يبقوا ولم يذروا ولا راقبوا فيهم إلاً ولا ذمة. قال علي بن أبي طلحة وعكرمة والعوفي عن ابن عباس: الإلّ القرابة والذمة العهد. وكذا قال الضحاك والسدي كما قال تميم بن مقبل:
    أفسد الناس خلوف خلفواقطعوا الإل وأعراق الرحم
    وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
    وجدناهم كاذباً إلهموذو الإل والعهد لا يكذب
    وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: لا يرقبون في مؤمن إلا, قال: الإل الله, وفي رواية لا يرقبون الله ولا غيره. وقال ابن جرير: حدثني يعقوب, حدثنا ابن علية عن سليمان عن أبي مجلز في قوله تعالى: {لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة} مثل قوله جبريل ميكائيل إسرافيل كأنه يقول لا يرقبون الله, والقول الأول أظهر وأشهر وعليه الأكثر. وعن مجاهد أيضاً الإل العهد. وقال قتادة: الإل الحلف.

    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 12:28

    ** اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاّ وَلاَ ذِمّةً وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ * فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَآتَوُاْ الزّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَنُفَصّلُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
    يقول تعالى ذماً للمشركين وحثاً للمؤمنين على قتالهم {اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً} يعني أنهم اعتاضوا عن اتباع آيات الله بما التهوا به من أمور الدنيا الخسيسة {فصدوا عن سبيله} أي منعوا المؤمنين من اتباع الحق {إنهم ساء ما كانوا يعملون * لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة} تقدم تفسيره وكذا الاَية التي بعدها {فإن تابوا وأقاموا الصلاة} إلى آخرها تقدمت. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا يحيى بن أبي بكر, حدثنا أبو جعفر الرازي, حدثنا الربيع بن أنس قال: سمعت أنس بن مالك يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فارق الدنيا على الإخلاص لله وعبادته لا يشرك به, وأقام الصلاة وآتى الزكاة فارقها والله عنه راضٍ» وهو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم, قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء وتصديق ذلك في كتاب الله {فإن تابوا} يقول فإن خلعوا الأوثان وعبادتها {وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} وقال في آية أخرى {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} ثم قال البزار: آخر الحديث عندي والله أعلم فارقها وهو عنه راضٍ وباقيه عندي من كلام الربيع بن أنس.


    ** وَإِن نّكَثُوَاْ أَيْمَانَهُم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوَاْ أَئِمّةَ الْكُفْرِ إِنّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلّهُمْ يَنتَهُونَ
    يقول تعالى وإن نكث المشركون الذين عاهدتموهم على مدة معينة أيمانهم أي عهودهم ومواثيقهم {وطعنوا في دينكم} أي عابوه وانتقصوه, ومن ههنا أخذ قتل من سب الرسول صلوات الله وسلامه عليه أو من طعن في دين الإسلام أو ذكره بنقص, ولهذا قال: {فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون} أي يرجعون عما هم فيه من الكفر والعناد والضلال. وقد قال قتادة وغيره: أئمة الكفر. كأبي جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف وعدد رجالاً, وعن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: مر سعد بن أبي وقاص برجل من الخوارج فقال الخارجي: هذا من أئمة الكفر فقال سعد كذبت بل أنا قاتلت أئمة الكفر رواه ابن مردويه, وقال الأعمش عن زيد بن وهب عن حذيفة أنه قال ما قوتل أهل هذه الاَية بعد. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: مثله, والصحيح أن الاَية عامة وإن كان سبب نزولها مشركي قريش فهي عامة لهم ولغيرهم والله أعلم وقال: الوليد بن مسلم: حدثنا صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير, أنه كان في عهد أبي بكر رضي الله عنه إلى الناس حين وجههم إلى الشام قال: إنكم ستجدون قوماً محوّقة رؤوسهم, فاضربوا معاقد الشيطان منهم بالسيوف, فوالله لأن أقتل رجلاً منهم أحب أليّ من أن أقتل سبعين من غيرهم وذلك بأن الله يقول: {فقاتلوا أئمة الكفر} رواه ابن أبي حاتم.


    ** أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نّكَثُوَاْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمّواْ بِإِخْرَاجِ الرّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مّؤُمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَىَ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
    وهذا أيضاً تهييج وتحضيض وإغراء على قتال المشركين الناكثين بأيمانهم الذين هموا بإخراج الرسول من مكة, كما قال تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} وقال تعالى: {يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم} الاَية, وقال تعالى: {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها} الاَية, وقوله: {وهم بدءوكم أول مرة} قيل المراد بذلك: يوم بدر حين خرجوا لنصر عيرهم, فلما نجت وعلموا بذلك استمروا على وجوههم, طلباً للقتال بغياً وتكبراً كما تقدم بسط ذلك, وقيل المراد نقضهم العهد وقتالهم مع حلفائهم بني بكر لخزاعة أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح وكان ما كان ولله الحمد والمنة
    ** لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمّ وَلّيْتُم مّدْبِرِينَ * ثُمّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىَ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لّمْ تَرَوْهَا وَعذّبَ الّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ * ثُمّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَىَ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ
    قال ابن جريج عن مجاهد هذه أول آية نزلت من براءة يذكر تعالى للمؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله, وأن ذلك من عنده تعالى وبتأييده وتقديره لا بعددهم ولا بعددهم ونبههم على أن النصر من عنده سواء قل الجمع أو كثر فإن يوم حنين أعجبتهم كثرتهم ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئاً فولوا مدبرين إلا القليل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أنزل نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين معه كما سنبينه إن شاء الله تعالى مفصلاً ليعلمهم أن النصر من عنده تعالى وحده وبإمداده وإن قل الجمع فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي سمعت يونس يحدث عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الصحابة أربعة, وخير السرايا أربعمائة, وخير الجيوش أربعة آلاف ولن تغلب اثنا عشر ألفاً من قلة» وهكذا رواه أبو داود والترمذي ثم قال هذا حديث حسن غريب جداً لا يسنده أحد غير جرير بن حازم, وإنما روي عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. وقد رواه ابن ماجه والبيهقي وغيره عن أكثم الجوني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه والله أعلم. وقد كانت وقعة حنين بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة.
    وذلك لما فرغ صلى الله عليه وسلم من فتح مكة وتمهدت أمورها وأسلم عامة أهلها وأطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغه أن هوازن جمعوا له ليقاتلوه وأن أميرهم مالك بن عوف بن النضر, ومعه ثقيف بكمالها وبنو جشم وبنو سعد بن بكر وأوزاع من بني هلال وهم قليل وناس من بني عمرو بن عامر وعوف بن عامر وقد أقبلوا ومعهم النساء والولدان والشاء والنعم وجاءوا بقضهم وقضيضهم فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيشه الذي جاء معه للفتح وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب ومعه الذين أسلموا من أهل مكة وهم الطلقاء في ألفين فسار بهم إلى العدو فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له حنين فكانت فيه الوقعة في أول النهار في غلس الصبح انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن فلما تواجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد ثاوروهم, ورشقوا بالنبال وأصلتوا السيوف وحملوا حملة رجل واحد كما أمرهم ملكهم فعند ذلك ولى المسلمون مدبرين كما قال الله عز وجل, وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكب يومئذ بغلته الشهباء يسوقها إلى نحو العدو, والعباس عمه آخذ بركابها الأيمن, وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بركابها الأيسر يثقلانها لئلا تسرع السير وهو ينوه باسمه عليه الصلاة والسلام ويدعو المسلمين إلى الرجعة ويقول: «إليّ عباد الله إليّ أنا رسول الله» ويقول في تلك الحال: «أنا النبي لا كذب, أنا ابن عبد المطلب» وثبت معه من أصحابه قريب من مائة ومنهم من قال ثمانون فمنهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما والعباس وعلي والفضل بن عباس وأبو سفيان بن الحارث وأيمن بن أم أيمن وأسامة بن زيد وغيرهم رضي الله عنهم ثم أمر صلى الله عليه وسلم عمه العباس وكان جهير الصوت أن ينادي بأعلى صوته يا أصحاب الشجرة يعني شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها على أن لا يفروا عنه فجعل ينادي بهم يا أصحاب السمرة, ويقول تارة يا أصحاب سورة البقرة, فجعلوا يقولون يا لبيك يا لبيك, وانعطف الناس فتراجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, حتى إن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع لبس درعه ثم انحدر عنه وأرسله ورجع بنفسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما اجتمعت شرذمة منهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم عليه السلام أن يصدقوا الحملة وأخذ قبضة من تراب بعد ما دعا ربه واستنصره, وقال «اللهم أنجز لي ما وعدتني» ثم رمى القوم بها فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينه وفمه ما يشغله عن القتال ثم انهزموا فاتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    ** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * قَاتِلُواْ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلاَ يُحَرّمُونَ مَا حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتّىَ يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ
    أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين ديناً وذاتاً بنفي المشركين الذين هم نجس ديناً عن المسجد الحرام وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الاَية وكان نزولها في سنة تسع ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً صحبة أبي بكر رضي الله عنهما عامئذ وأمره أن ينادي في المشركين أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. فأتم الله ذلك وحكم به شرعاً وقدراً. وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} إلا أن يكون عبداً أو أحداً من أهل الذمة. وقد روي مرفوعاً من وجه آخر فقال الإمام أحمد حدثنا حسين حدثنا شريك عن الأشعث يعني ابن سوار عن الحسن عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد وخدمهم» تفرد به الإمام أحمد مرفوعاً والموقوف أصح إسناداً. وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي, كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين وأتبع نهيه قول الله تعالى: {إنما المشركون نجس} وقال عطاء: الحرم كله مسجد لقوله تعالى: {فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} ودلت هذه الاَية الكريمة على نجاسة المشرك كما ورد في الصحيح «المؤمن لا ينجس» وأما نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب, وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم, وقال أشعث عن الحسن من صافحهم فليتوضأ. رواه ابن جرير


    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 12:33

    ** وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنّىَ يُؤْفَكُونَ * اتّخَذُوَاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوَاْ إِلاّ لِيَعْبُدُوَاْ إِلَـَهاً وَاحِداً لاّ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ
    وهذا إغراء من الله تعالى للمؤمنين على قتال الكفار من اليهود والنصارى لمقالتهم هذه المقالة الشنيعة والفرية على الله تعالى فأما اليهود فقالوا في العزير: إنه ابن الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً, وذكر السدي وغيره أن الشبهة التي حصلت لهم في ذلك أن العمالقة لما غلبت على بني إسرائيل فقتلوا علماءهم وسبوا كبارهم بقي العزير يبكي على بني إسرائيل وذهاب العلم منهم حتى سقطت جفون عينيه فبينما هو ذات يوم إذ مر على جبانة وإذا امرأة تبكي عند قبر وهي تقول: وامطعماه واكاسياه فقال لها: ويحك من كان يطعمك قبل هذا ؟ قالت: الله قال: فإن الله حي لا يموت, قالت يا عزير فمن كان يعلم العلماء قبل بني إسرائيل ؟ قال: الله. قالت: فلم تبكي عليهم ؟ فعرف أنه شيء قد وعظ به ثم قيل له اذهب إلى نهر كذا فاغتسل منه وصل هناك ركعتين فإنك ستلقى هناك شيخاً فما أطعمك فكله فذهب ففعل ما أمر به فإذا الشيخ فقال له: افتح فمك ففتح فمه فألقى فيه شيئاً كهيئة الجمرة العظيمة ثلاث مرات فرجع عزير وهو من أعلم الناس بالتوراة فقال: يا بني إسرائيل قد جئتكم بالتوراة فقالوا يا عزير ما كنت كذاباً فعمد فربط على أصبع من أصابعه قلماً وكتب التوراة بأصبعه كلها فلما تراجع الناس من عدوهم ورجع العلماء أخبروا بشأن عزير فاستخرجوا النسخ التي كانوا أودعوها في الجبال وقابلوها بها فوجدوا ما جاء به صحيحاً فقال بعض جهلتهم: إنما صنع هذا لأنه ابن الله
    ** إِنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَاوَات وَالأرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفّةً وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ
    قال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل أخبرنا أيوب أخبرنا محمد بن سيرين عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض, السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» ثم قال «أي يوم هذا ؟» قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: «أليس يوم النحر ؟» قلنا بلى ثم قال: «أي شهر هذا ؟» قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: «أليس ذا الحجة ؟» قلنا بلى ثم قال: «أي بلد هذا ؟» قلنا: الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: «أليست البلدة ؟» قلنا بلى قال: «فإن دماءكم وأموالكم ـ وأحسبه قال ـ وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا لا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض ألا هل بلغت ؟ ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب فلعل من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه» رواه البخاري في التفسير
    ** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدّنْيَا مِنَ الاَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا فِي الاَخِرَةِ إِلاّ قَلِيلٌ * إِلاّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
    هذا شروع في عتاب من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك حين طابت الثمار والظلال في شدة الحر وحمارّة القيظ فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله} أي إذا دعيتم إلى الجهاد في سبيل الله {اثاقلتم إلى الأرض} أي تكاسلتم وملتم إلى المقام في الدعة والخفض وطيب الثمار {أرضيتم بالحياة الدنيا من الاَخرة ؟} أي ما لكم فعلتم هكذا أرضىً منكم بالدنيا بدلاً من الاَخرة ؟ ثم زهد تبارك وتعالى في الدنيا, ورغب في الاَخرة فقال {فما متاع الحياة الدنيا في الاَخرة إلا قليل} كما قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع ويحيى بن سعيد قالا حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن المستورد أخي بني فهر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما الدنيا في الاَخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم فلينظر بم ترجع ؟» وأشار بالسبابة انفرد بإخراجه مسلم. وروى ابن أبي حاتم حدثنا بشر بن مسلم بن عبد الحميد الحمصي بحمص حدثنا الربيع بن روح حدثنا محمد بن خالد الوهبي حدثنا زياد يعني الجصاص عن أبي عثمان قال: قلت: يا أبا هريرة سمعت من إخواني بالبصرة أنك تقول: سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الله يجزي بالحسنة ألف ألف حسنة» قال أبو هريرة: بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة» ثم تلا هذه الاَية {فما متاع الحياة الدنيا في الاَخرة إلا قليل} فالدنيا ما مضى منها وما بقي منها عند الله قليل. وقال الثوري عن الأعمش في الاَية {فما متاع الحياة الدنيا في الاَخرة إلا قليل} قال: كزاد الراكب.
    ** انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
    قال سفيان الثوري عن أبيه عن أبي الضحى مسلم بن صبيح: هذه الاَية {انفروا خفافاً وثقالاً } أول ما نزل من سورة براءة وقال معتمر بن سليمان عن أبيه قال: زعم حضرمي أنه ذكر له أن ناساً كانوا عسى أن يكون أحدهم عليلاً وكبيراً فيقول: إني لا آثم فأنزل الله {انفروا خفافاً وثقالاً} الاَية أمر الله تعالى بالنفير العام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك لقتال أعداء الله من الروم الكفرة من أهل الكتاب وحتم على المؤمنين في الخروج معه على كل حال في المنشط والمكره والعسر واليسر فقال {انفروا خفافاً وثقالاً}.
    وقال علي بن زيد عن أنس عن أبي طلحة: كهولاً وشباباً ما سمع الله عذر أحد ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قتل وفي رواية قرأ أبو طلحة سورة براءة فأتى على هذه الاَية {انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} فقال أرى ربنا استنفرنا شيوخاً وشباناً جهزوني يا بني, فقال بنوه يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات ومع أبي بكر حتى مات ومع عمر حتى مات فنحن نغزو عنك فأبى فركب البحر فمات فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد تسعة أيام فلم يتغير فدفنوه فيها وهكذا روي عن ابن عباس وعكرمة وأبي صالح والحسن البصري وسهيل بن عطية ومقاتل بن حيان والشعبي وزيد بن أسلم أنهم قالوا في تفسير هذه الاَية {انفروا خفافاً وثقالاً} كهولاً وشباناً وكذا قال عكرمة والضحاك ومقاتل بن حيان وغيرواحد, وقال مجاهد شباناً وشيوخاً وأغنياء ومساكين وكذا قال أبو صالح وغيره وقال الحكم بن عتيبة: مشاغيل وغير مشاغيل, وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: {انفروا خفافاً وثقالاً} يقول انفروا نشاطاً وغير نشاط, وكذا قال قتادة وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد {انفروا خفافاً وثقالاً} قالوا فإن فينا الثقيل, وذا الحاجة والضيعة والشغل والمتيسر به أمره فأنزل الله وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا {خفافاً وثقالاً} أي على ما كان منهم وقال الحسن بن أبي الحسن البصري أيضاً في العسر واليسر وهذا كله من مقتضيات العموم في الاَية وهذا اختيار ابن جرير.
    ** لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاّتّبَعُوكَ وَلَـَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشّقّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ
    يقول تعالى موبخاً للذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وقعدوا بعدما استأذنوه في ذلك مظهرين أنهم ذوو أعذار ولم يكونوا كذلك فقال: {لو كان عرضاً قريباً} قال ابن عباس: غنيمة قريبة {وسفراً قاصداً} أي قريباً أيضاً {لا تبعوك} أي لكانوا جاءوا معك لذلك {ولكن بعدت عليهم الشقة} أي المسافة إلى الشام {وسيحلفون بالله} أي لكم إذا رجعتم إليهم {لو استطعنا لخرجنا معكم} أي لو لم يكن لنا أعذار لخرجنا معكم قال الله تعالى: {يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون}.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 12:54

    ** عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتّىَ يَتَبَيّنَ لَكَ الّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ * لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتّقِينَ * إِنّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدّدُونَ
    قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو حصين بن سليمان الرازي حدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر عن عون قال: هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا ؟ نداء بالعفو قبل المعاتبة فقال {عفا الله عنك لم أذنت لهم} وكذا قال مورق العجلي وغيره. وقال قتادة: عاتبه كما تسمعون ثم أنزل التي في سورة النور فرخص له في أن يأذن لهم إن شاء فقال {فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم} الاَية. وكذا روي عن عطاء الخراساني, وقال مجاهد: نزلت هذه الاَية في أناس قالوا: استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن لكم فاقعدوا, ولهذا قال تعالى: {حتى يتبين لك الذين صدقوا} أي في إبداء الأعذار {وتعلم الكاذبين} يقول تعالى هلا تركتهم لما استأذنوك فلم تأذن لأحد منهم في القعود لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب فإنهم قد كانوا مصرين على القعود عن الغزو وإن لم تأذن لهم فيه.

    ** لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلّبُواْ لَكَ الاُمُورَ حَتّىَ جَآءَ الْحَقّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ
    يقول تعالى محرضاً لنبيه عليه السلام على المنافقين: {لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور} أي لقد أعملوا فكرهم وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك وخذلان دينك وإخماده مدة طويلة, وذلك أول مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة رمته العرب عن قوس واحدة, وحاربته يهود المدينة ومنافقوها, فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته قال عبد الله بن أبي وأصحابه: هذا أمر قد توجه فدخلوا في الإسلام ظاهراً ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم ولهذا قال تعالى: {حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون}.


    ** وَمِنْهُمْ مّن يَقُولُ ائْذَن لّي وَلاَ تَفْتِنّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنّ جَهَنّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ
    يقول تعالى ومن المنافقين من يقول لك: يا محمد {ائذن لي} في القعود {ولا تفتني} بالخروج معك بسبب الجواري من نساء الروم. قال الله تعالى: {ألا في الفتنة سقطوا} أي قد سقطوا في الفتنة بقولهم هذا كما قال محمد بن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن قتادة وغيرهم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلمذات يوم وهو في جهازه للجد بن قيس أخي بني سلمة: «هل لك يا جد العام في جلاد بني الأصفر ؟» فقال: يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني, فوالله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجباً بالنساء مني, وإنى أخشي إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عنهن. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «قد أذنت لك» ففي الجد بن قيس نزلت هذه: {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني} الاَية, أي إن كان إنما يخشى من نساء بني الأصفر وليس ذلك به فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة بنفسه عن نفسه أعظم. وهكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وغير واحد أنها نزلت في الجد بن قيس, وقد كان الجد بن قيس هذا من أشراف بني سلمة. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: «من سيدكم يا بني سلمة ؟» قالوا: الجد بن قيس على أنا نبخله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وأي داء أدوأ من البخل! ولكن سيدكم الفتى الجعد الأبيض بشر بن البراء بن معرور» وقوله تعالى: {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} أي لا محيد لهم عنها ولا محيص ولا مهرب.


    ** إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلّواْ وّهُمْ فَرِحُونَ * قُل لّن يُصِيبَنَآ إِلاّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ
    يعلم تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بعداوة هؤلاء له لأنه مهما أصابه من حسنة أي فتح وظفر على الأعداء مما يسره ويسر أصحابه ساءهم ذلك {وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل} أي قد احترزنا من متابعته من قبل هذا {ويتولوا وهم فرحون} فأرشد الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جوابهم في عداوتهم هذه التامة فقال: {قل} أي لهم {لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا} أي نحن تحت مشيئته وقدره {هو مولانا} أي سيدنا وملجؤنا {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} أي ونحن متوكلون عليه وهو حسبنا ونعم الوكيل.


    ** قُلْ هَلْ تَرَبّصُونَ بِنَآ إِلاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبّصُوَاْ إِنّا مَعَكُمْ مّتَرَبّصُونَ * قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لّن يُتَقَبّلَ مِنكُمْ إِنّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاّ أَنّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصّلاَةَ إِلاّ وَهُمْ كُسَالَىَ وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاّ وَهُمْ كَارِهُونَ
    يقول تعالى: {قل} لهم يا محمد {هل تربصون بنا} أي تنتظرون بنا {إلا إحدى الحسنيين} شهادة أو ظفر بكم قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم {ونحن نتربص بكم} أي ننتظر بكم {أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا} أي ننتظر بكم هذا أو هذا إما {أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا} بسبي أو بقتل {فتربصوا إنا معكم متربصون} وقوله تعالى: {قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً} أي مهما أنفقتم من نفقة طائعين أو مكرهين {لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوماً فاسقين} ثم أخبر تعالى عن سبب ذلك وهو أنهم لا يتقبل منهم {لأنهم كفروا بالله وبرسوله} أي والأعمال إنما تصح بالإيمان {ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى} أي ليس لهم قصد صحيح ولا همة في العمل {ولا ينفقون} نفقة {إلا وهم كارهون} وقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن الله لا يمل حتى تملوا وأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً. فلهذا لا يقبل الله من هؤلاء نفقة ولا عملاً لأنه إنما يتقبل من المتقين.


    ** فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ
    يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم} كما قال تعالى: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى} وقال {أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون} وقوله {إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا} قال الحسن البصري بزكاتها والنفقة منها في سبيل الله, وقال قتادة: هذا من المقدم والمؤخر تقديره: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الاَخرة. واختار ابن جرير قول الحسن, وهو القول القوي الحسن, وقوله {وتزهق أنفسهم وهم كافرون} أي ويريد أن يميتهم حين يميتهم على الكفر ليكون ذلك أنكى لهم وأشد لعذابهم. عياذاً بالله من ذلك وهذا يكون من باب الاستدراج لهم فيما هم فيه.


    ** وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مّنكُمْ وَلَـَكِنّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدّخَلاً لّوَلّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ
    يخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن جزعهم وفزعهم وفرقهم وهلعهم أنهم {يحلفون بالله إنهم لمنكم} يميناً مؤكدة {وما هم منكم} أي في نفس الأمر {ولكنهم قوم يفرقون} أي فهو الذي حملهم على الحلف {لو يجدون ملجأ} أي حصناً يتحصنون به وحرزاً يتحرزون به {أو مغارات} وهي التي في الجبال {أو مدخلاً} وهو السرب في الأرض والنفق قال ذلك في الثلاثة ابن عباس ومجاهد وقتادة {لولوا إليه وهم يجمحون} أي يسرعون في ذهابهم عنكم لأنهم إنما يخالطونكم كرهاً لا محبة وودوا أنهم لا يخالطونكم ولكن للضرورة أحكام ولهذا لا يزالون في هم وحزن وغم لأن الإسلام وأهله لا يزال في عز ونصر ورفعة, فلهذا كلما سر المسلمون ساءهم ذلك فهم يودون أن لا يخالطوا المؤمنين ولهذا قال {لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلاً لولوا إليه وهم يجمحون}.
    ** وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنّ إِنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مّنْكُمْ نُعَذّبْ طَآئِفَةً بِأَنّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ
    قال أبو معشر المديني: عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين: ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطوناً وأكذبنا ألسنة, وأجبننا عند اللقاء. فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب. فقال: {أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ـ إلى قوله ـ كانوا مجرمين} وإن رجليه لتسفعان الحجارة وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متعلق بنسعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال عبد الله بن وهب: أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء. فقال رجل في المسجد: كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن, فقال عبد الله بن عمر أنا رأيته متعلقاً بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة, وهو يقول يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون} الاَية. وقد رواه الليث عن هشام بن سعيد بنحو من هذا.
    وقال ابن إسحاق وقد كان من جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني أمية بن زيد بن عمرو بن عوف, ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مخشي بن حمير, يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً ؟ والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال, إرجافاً وترهيباً للمؤمنين فقال مخشي بن حمير: والله لوددت أن أقاضي على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة, وإننا نغلب أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني لعمار بن ياسر «أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فاسألهم عما قالوا فإن أنكروا فقل بلى قلتم كذا وكذا» فانطلق إليهم عمار فقال ذلك لهم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه فقال وديعة بن ثابت ورسول الله واقف على راحلته, فجعل يقول وهو آخذ بحقبها: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب فقال مخشي بن حمير: يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي فكان الذي عفي عنه في هذه الاَية مخشي بن حمير فتسمى عبد الرحمن وسأل الله أن يقتل شهيداً لا يعلم مكانه, فقتل يوم اليمامة ولم يوجد له أثر.
    .

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 12:59

    ** فَإِن رّجَعَكَ اللّهُ إِلَىَ طَآئِفَةٍ مّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوّلَ مَرّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ
    يقول تعالى آمراً لرسوله عليه الصلاة السلام {فإن رجعك الله} أي ردك الله من غزوتك هذه {إلى طائفة منهم} قال قتادة: ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلاً {فاستأذنوك للخروج} أي معك إلى غزوة أخرى {فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً} أي تعزيراً لهم وعقوبة, ثم علل ذلك بقوله: {إنكم رضيتم بالقعود أول مرة} وهذا كقوله تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} الاَية, فإن جزاء السيئة السيئة بعدها كما أن ثواب الحسنة الحسنة بعدها, كقوله في عمرة الحديبية {سيقول المخلفون إِذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها} الاَية. وقوله تعالى: {فاقعدوا مع الخالفين} قال ابن عباس: أي الرجال الذين تخلفوا عن الغزاة, وقال قتادة {فاقعدوا مع الخالفين} أي مع النساء قال ابن جرير وهذا لا يستقيم لأن جمع النساء لا يكون بالياء والنون ولو أريد النساء لقال فاقعدوا مع الخوالف أو الخالفات, ورجح قول ابن عباس رضي الله عنهما
    ** وَلاَ تُصَلّ عَلَىَ أَحَدٍ مّنْهُم مّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ
    أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبرأ من المنافقين وأن لا يصلي على أحد منهم إذا مات, وأن لا يقوم على قبره ليستغفر له أو يدعو له لأنهم كفروابا لله ورسوله وماتوا عليه وهذا حكم عام في كل من عرف نفاقه, وإن كان سبب نزول الاَية في عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين كما قال البخاري: حدثنا عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي «جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه, ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه, فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنما خيرني الله فقال {استغفر لهم أولا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} وسأزيده على السبعين» قال إنه منافق. قال فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل آية {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره}, وكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة حماد بن أسامة به, ثم رواه البخاري عن إبراهيم بن المنذر عن أنس بن عياض عن عبيد الله وهو ابن عمر العمري به, وقال فصلى عليه وصلينا معه وأنزل الله {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً} الاَية. وهكذا رواه الإمام أحمد عن يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله به.
    ** وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مّعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ
    يقول تعالى منكراً وذاماً للمتخلفين عن الجهاد الناكلين عنه مع القدرة عليه ووجود السعة والطول. واستأذنوا الرسول في القعود وقالوا {ذرنا نكن مع القاعدين} ورضوا لأنفسهم بالعار والقعود في البلد مع النساء, وهن الخوالف بعد خروج الجيش, فإذا وقع الحرب كانوا أجبن الناس, وإذا كان أمن كانوا أكثر الناس كلاماً, كما قال تعالى عنهم في الاَية الأخرى: {فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت, فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد} أي علت ألسنتهم بالكلام الحاد القوي في الأمن, وفي الحرب أجبن شيء, وكما قال الشاعر:
    أفي السلم أعيار أجفاء وغلظةوفي الحرب أشباه النساء الفوارك ؟
    وقال تعالى في الاَية الأخرى {ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة, فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم} الاَية, وقوله {وطبع على قلوبهم} أي بسبب نكولهم عن الجهاد والخروج مع الرسول في سبيل الله {فهم لا يفقهون} أي لا يفهمون ما فيه صلاح لهم فيفعلوه ولا ما فيه مضرة لهم فيجتنبوه.
    ** لَـَكِنِ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُوْلَـَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدّ اللّهُ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
    لما ذكر تعالى ذنب المنافقين وبين ثناءه على المؤمنين ومالهم في آخرتهم, فقال {لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا} إلى آخر الاَيتين من بيان حالهم ومآلهم, وقوله: {وأولئك لهم الخيرات} أي في الدار الاَخرة في جنات الفردوس والدرجات العلى.


    ** وَجَآءَ الْمُعَذّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
    ثم بين تعالى حال ذوي الأعذار في ترك الجهاد الذين جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه ويبينون له ما هم فيه من الضعف وعدم القدرة على الخروج وهم من أحياء العرب ممن حول المدينة. قال الضحاك عن ابن عباس, إنه كان يقرأ {وجاء المعذرون} بالتخفيف ويقول: هم أهل العذر. وكذا روى ابن عيينة عن حميد عن مجاهد سواء, قال ابن إسحاق: وبلغني أنهم نفر من بني غفار خفاف بن إيماء بن رخصة, وهذا: القول هو الأظهر في معنى الاَية, لأنه قال بعد هذا {وقعد الذين كذبوا الله ورسوله} أي لم يأتوا فيعتذروا, وقال ابن جريج عن مجاهد {وجاء المعذرون من الأعراب} قال: نفر من بني غفار جاءوا فاعتذروا فلم يعذرهم الله, وكذا قال الحسن وقتادة ومحمد بن إسحاق والقول الأول أظهر والله أعلم, لما قدمنا من قوله بعده {وقعد الذين كذبوا الله ورسوله} أي وقعد آخرون من الأعراب عن المجيء للاعتذار ثم أوعدهم بالعذاب الأليم فقال: {سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم}.


    ** لّيْسَ عَلَى الضّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىَ الْمَرْضَىَ وَلاَ عَلَى الّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلّوْا وّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ حَزَناً أَلاّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ * إِنّمَا السّبِيلُ عَلَى الّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
    ثم بين تعالى الأعذار التي لا حرج على من قعد معها عن القتال, فذكر منها ما هو لازم للشخص لا ينفك عنه وهو الضعف في التركيب الذي لا يستطيع معه الجلاد في الجهاد, ومنه العمى والعرج ونحوهما, ولهذا بدأ به ومنه ما هو عارض بسبب مرض عنّ له في بدنه شغله عن الخروج في سبيل الله أو بسبب فقره لا يقدر على التجهيز للحرب, فليس على هؤلاء حرج إذا قعدوا ونصحوا في حال قعودهم ولم يرجفوا بالناس ولم يثبطوهم وهم محسنون في حالهم هذا, ولهذا قال: {ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم} وقال سفيان الثوري عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي ثمامة رضي الله عنه قال: قال الحواريون يا روح الله أخبرنا عن الناصح لله ؟ قال الذي يؤثر حق الله على حق الناس, وإذا حدث له أمران أو بدا له أمر الدنيا وأمر الاَخرة, بدأ بالذي للاَخرة ثم تفرغ للذي للدنيا.
    ** وَالسّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
    يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان, ورضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم والنعيم المقيم, قال الشعبي: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار من أدرك بيعة الرضوان عام الحديبية, وقال أبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين والحسن وقتادة, هم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال محمد بن كعب القرظي: مر عمر بن الخطاب برجل يقرأ هذه الاَية, {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار} فأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا ؟ فقال: أبي بن كعب, فقال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه, فلما جاءه قال عمر أنت أقرأت هذا هذه الاَية هكذا ؟ قال: نعم. قال: وسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم. قال: لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا, فقال أبي تصديق هذه الاَية في أول سورة الجمعة {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم} وفي سورة الحشر {والذين جاءوا من بعدهم} الاَية, وفي الأنفال {والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا معكم} الاَية, ورواه ابن جرير, قال: وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤها برفع الأنصار عطفاً على والسابقون الأولون, فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان, فياويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم, ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه, فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم. عياذاً بالله من ذلك. وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة وقلوبهم منكوسة, فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي الله عنهم ؟ وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه ويسبون من سبه الله ورسوله, ويوالون من يوالي الله ويعادون من يعادي الله وهم متبعون لا مبتدعون ويقتدون ولا يبتدون, ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 13:03

    ** وَمِمّنْ حَوْلَكُمْ مّنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذّبُهُم مّرّتَيْنِ ثُمّ يُرَدّونَ إِلَىَ عَذَابٍ عَظِيمٍ
    يخبر تعالى رسوله صلوات الله وسلامه عليه أن في أحياء العرب ممن حول المدينة منافقون, وفي أهل المدينة أيضاً منافقون {مردوا على النفاق} أي مرنوا واستمروا عليه, ومنه يقال شيطان مريد, ومارد ويقال تمرد فلان على الله أي عتا وتجبر, وقوله: {لا تعلمهم نحن نعلمهم} لا ينافي قوله تعالى: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول} لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها, لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين, وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقاً وإن كان يراه صباحاً ومساء, وشاهد هذا بالصحة ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن النعمان بن سالم عن رجل عن جبير بن مطعم رضي الله عنه, قال قلت: يا رسول الله إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر بمكة فقال: «لتأتينكم أجوركم ولو كنتم في جحر ثعلب» وأصغى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه فقال «إن في أصحابي منافقين» ومعناه أنه قد يبوح بعض المنافقين والمرجفين من الكلام بما لا صحة له ومن مثلهم صدر هذا الكلام الذي سمعه جبير بن مطعم, وتقدم في تفسير قوله {وهموا بما لم ينالوا} أنه صلى الله عليه وسلم أعلم حذيفة بأعيان أربعة عشر أو خمسة عشر منافقاً, وهذا تخصيص لا يقتضي أنه اطلع على أسمائهم وأعيانهم كلهم, والله أعلم.
    ** خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * أَلَمْ يَعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصّدَقَاتِ وَأَنّ اللّهَ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ
    أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم ويزكيهم بها وهذا عام وإن أعاد بعضهم الضمير في أموالهم إلى الذين اعترفوا بذنوبهم وخلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً, ولهذا اعتقد بعض مانعي الزكاة من أحياء العرب أن دفع الزكاة إلى الإمام لا يكون, وإنما كان هذا خاصاً بالرسول صلى الله عليه وسلم, ولهذا احتجوا بقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} الاَية, وقد رد عليهم هذا التأويل والفهم الفاسد, أبو بكر الصديق وسائر الصحابة وقاتلوهم حتى أدوا الزكاة إلى الخليفة كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, حتى قال الصديق: والله لو منعوني عناقاً ـ وفي رواية عقالاً ـ كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقاتلنهم على منعه, وقوله {وصل عليهم} أي ادع لهم واستغفر لهم كما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بصدقة قوم صلى عليهم فأتاه أبي بصدقته فقال: «اللهم صل على آل أبي أوفى» وفي الحديث الاَخر أن امرأة قالت: يا رسول الله صل عليّ وعلى زوجي, فقال «صلى الله عليك وعلى زوجك» وقوله: {إن صلاتك سكن لهم} قرأ بعضهم صلواتك على الجمع وآخرون قرأوا إن صلاتك على الإفراد {سكن لهم} قال ابن عباس: رحمة لهم, وقال قتادة وقار, وقوله: {والله سميع} أي لدعائك {عليم} أي بمن يستحق ذلك منك ومن هو أهل له, قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا أبو العميس عن أبي بكر بن عمرو بن عتبة عن ابن حذيفة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا لرجل أصابته وأصابت ولده وولد ولده, ثم رواه عن أبي نعيم عن مسعر عن أبي بكر بن عمرو بن عتبة عن ابن لحذيفة, قال مسعر: وقد ذكره مرة عن حذيفة إن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لتدرك الرجل وولده وولد ولده.
    ** وَالّذِينَ اتّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاّ الْحُسْنَىَ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لّمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التّقْوَىَ مِنْ أَوّلِ يَوْمٍ أَحَقّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبّونَ أَن يَتَطَهّرُواْ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُطّهّرِينَ
    سبب نزول هذه الاَيات الكريمات, أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب, وكان قد تنصر في الجاهلية وقرأ علم أهل الكتاب, وكان فيه عبادة في الجاهلية وله شرف في الخزرج كبير, فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة واجتمع المسلمون عليه وصارت للإسلام كلمة عالية وأظهرهم الله يوم بدر, شرق اللعين أبو عامر بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها, وخرج فاراً إلى كفار مكة من مشركي قريش, يمالئهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب وقدموا عام أحد, فكان من أمر المسلمين ما كان وامتحنهم الله عز وجل, وكانت العاقبة للمتقين, وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين, فوقع في إحداهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصيب ذلك اليوم فجرح وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى وشج رأسه صلوات الله وسلامه عليه, وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته, فلما عرفوا كلامه قالوا: لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق يا عدو الله, ونالوا منه وسبوه فرجع وهو يقول: والله لقد أصاب قومي بعدي شر, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره وقرأ عليه من القرآن, فأبى أن يسلم وتمرد, فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيداً طريداً فنالته هذه الدعوة, وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد, ورأى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور, ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم فوعده ومناه وأقام عنده, وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه, وأمرهم أن يتخذوا له معقلاً يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه ويكون مرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك, فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك, وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته, وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية, فعصمه الله من الصلاة فيه فقال: «إنا على سفر ولكن إذا رجعنا إن شاء الله» فلما قفل عليه السلام راجعاً إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم, نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء الذي أسس من أول يوم على التقوى. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة, كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الاَية, هم أناس من الأنصار بنوا مسجداً فقال لهم أبو عامر: ابنوا مسجداً واستعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجنود من الروم وأخرج محمداً وأصحابه, فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له: قد فرغنا من بناء مسجدنا فنحب أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة, فأنزل الله عز وجل {لا تقم فيه أبداً} إلى قوله: {الظالمين} وكذا روي عن سعيد بن جبير ومجاهد وعروة بن الزبير وقتادة وغير واحد من العلماء, وقال محمد بن إسحاق بن يسار, عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم, قالوا: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني من تبوك حتى نزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار, وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية, وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه, فقال: «إني على جناح سفر وحال شغل» أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ولو قد قدمنا إن شاء الله تعالى أتيناكم فصلينا لكم فيه» فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف, ومعن بن عدي أو أخاه عامر بن عدي أخا بلعجلان فقال: «انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه» فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف, وهم رهط مالك بن الدخشم. فقال مالك لمعن: أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي, فدخل أهله فأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه ناراً ثم خرجا يشتدان حتى دخلا المسجد وفيه أهله, فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه, ونزل فيهم من القرآن ما نزل {والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً} إلى آخر القصة. وكان الذين بنوه اثني عشر رجلاً: خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف, ومن داره أخرج مسجد الشقاق, وثعلبة بن حاطب من بني عبيد وموالي بني أمية بن زيد, ومعتب بن قشير من بني ضبيعة بن زيد, وأبو حبيبة بن الأزعر من بني ضبيعة بن زيد, وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف من بني عمرو بن عوف, وحارثة بن عامر وابناه مجمع بن حارثة وزيد بن حارثة ونبتل الحارث وهم من بني ضبيعة ومخرج, وهم من بني ضبيعة, وبجاد بن عثمان وهو من بني ضبيعة, ووديعة بن ثابت, وموالي بني أمية رهط أبي لبابة بن عبد المنذر. وقوله {وليحلفن} أي الذين بنوه {إن أردنا إلا الحسنى} أي ما أردنا ببنيانه إلا خيراً ورفقاً بالناس, قال الله تعالى: {والله يشهد إنهم لكاذبون} أي فيما قصدوا وفيما نووا, وإنما بنوه ضراراً لمسجد قباء وكفراً بالله وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل, وهو أبو عامر الفاسق الذي يقال له الراهب لعنه الله, وقوله {لا تقم فيه أبداً} نهي له صلى الله عليه وسلم والأمة تبع له في ذلك عن أن يقوم فيه أي يصلي فيه أبداً. ثم حثه على الصلاة بمسجد قباء الذي أسس من أول يوم بنيانه على التقوى, وهي طاعة الله وطاعة رسوله وجمعاً لكلمة المؤمنين ومعقلاً وموئلاً للإسلام وأهله, ولهذا قال تعالى: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه} والسياق إنما هو في معرض مسجد قباء, ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة في مسجد قباء كعمرة», وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور مسجد قباء راكباً وماشياً, وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بناه وأسسه أول قدومه ونزوله على بني عمرو بن عوف كان جبريل هو الذي عين له جهة القبلة, فالله أعلم.
    ** التّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السّائِحُونَ الرّاكِعُونَ السّاجِدونَ الاَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ
    هذا نعت المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بهذه الصفات الجميلة والخلال الجليلة {التائبون} من الذنوب كلها التاركون للفواحش {العابدون} أي القائمون بعبادة ربهم محافظين عليها وهي الأقوال والأفعال, فمن أخص الأقوال الحمد, فلهذا قال: {الحامدون} ومن أفضل الأعمال الصيام وهو ترك الملاذ من الطعام والشراب والجماع, وهو المراد بالسياحة ههنا, ولهذا قال: {السائحون} كما وصف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله تعالى: {سائحات} أي صائمات, وكذا الركوع والسجود وهما عبارة عن الصلاة, ولهذا قال: {الراكعون الساجدون} وهم مع ذلك ينفعون خلق الله ويرشدونهم إلى طاعة الله بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر مع العلم بما ينبغي فعله ويجب تركه, وهو حفظ حدود الله في تحليله وتحريمه علماً وعملاً, فقاموا بعبادة الحق ونصح الخلق, ولهذا قال: {وبشر المؤمنين} لأن الإيمان يشمل هذا كله, والسعادة كل السعادة لمن اتصف به.


    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 13:24

    (بيان أن المراد بالسياحة الصيام) قال سفيان الثوري: عن عاصم عن زِرّ عن عبد الله بن مسعود قال {السائحون} الصائمون وكذا روي عن سعيد بن جبير والعوفي عن ابن عباس, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كل ما ذكر الله في القرآن السياحة هم الصائمون, وكذا قال الضحاك رحمه الله, وقال ابن جرير: حدثنا أحمد بن إسحاق, حدثنا أبو أحمد, حدثنا إبراهيم بن يزيد عن الوليد بن عبد الله عن عائشة رضي الله عنها قالت: سياحة هذه الأمة الصيام, وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وأبو عبد الرحمن السلمي والضحاك بن مزاحم وسفيان بن عيينة وغيرهم, أن المراد بالسائحين الصائمون, وقال الحسن البصري: {السائحون} الصائمون شهر رمضان, وقال أبو عمرو العبدي: {السائحون} الذين يديمون الصيام من المؤمنين, وقد ورد في حديث مرفوع نحو هذا, وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع, حدثنا حكيم بن حزام, حدثنا سليمان عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «السائحون هم الصائمون» وهذا الموقوف أصح, وقال أيضاً حدثني يونس عن ابن وهب عن عمر بن الحارث عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير, قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السائحين, فقال «هم الصائمون» وهذا مرسل جيد وهذا أصح الأقوال وأشهرها.
    ** مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الأعْرَابِ أَن يَتَخَلّفُواْ عَن رّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نّيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
    يعاتب تبارك وتعالى المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك من أهل المدينة ومن حولها من أحياء العرب, ورغبتهم بأنفسهم عن مواساته فيما حصل له من المشقة, فإنهم نقصوا أنفسهم من الأجر لأنهم {لا يصيبهم ظمأ} وهو العطش {ولا نصب} وهو التعب {ولا مخمصة} وهي المجاعة {ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار}. أي ينزلون منزلاً يرهب عدوهم {ولا ينالون} منه ظفراً وغلبة عليه {إلا كتب لهم} بهذه الأعمال التي ليست داخلة تحت قدرهم وإنما هي ناشئة عن أفعالهم أعمالاً صالحة وثواباً جزيلاً {إن الله لا يضيع أجر المحسنين} كقوله {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً}.
    ** وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
    يقول تعالى: {ولا ينفقون} هؤلاء الغزاة في سبيل الله {نفقة صغيرة ولا كبيرة} أي قليلاً ولا كثيراً {ولا يقطعون وادياً} أي في السير إلى الأعداء {إلا كتب لهم} ولم يقل ههنا به, لأن هذه أفعال صادرة عنهم, ولهذا قال: {ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون} وقد حصل لأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه من هذه الاَية الكريمة حظ وافر ونصيب عظيم, وذلك أنه أنفق في هذه الغزوة النفقات الجليلة والأموال الجزيلة, كما قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا أبو موسى الغنزي, حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث, حدثني سليمان بن المغيرة, حدثني الوليد بن أبي هشام, عن فرقد أبي طلحة, عن عبد الرحمن بن خباب السلمي, قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحث على جيش العسرة فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها, قال ثم حث, فقال عثمان: عليّ مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتابها, قال ثم نزل مرقاة من المنبر ثم حث, فقال عثمان بن عفان: عليّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها. قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بيده هكذا يحركها, وأخرج عبد الصمد يده كالمتعجب «ما على عثمان ما عمل بعد هذا» وقال عبد الله أيضاً: حدثنا هارون بن معروف, حدثنا ضمرة, حدثنا عبد الله بن شوذب, عن عبد الله بن القاسم عن كثير مولى عبد الرحمن بن سمرة عن عبد الرحمن بن سمرة, قال: جاء عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حتى جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة, قال: فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده ويقول: «ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم» يرددها مراراً, وقال قتادة في قوله تعالى: {ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم} الاَية. ما ازداد قوم في سبيل الله بعداً من أهليهم إلا ازدادوا قرباً من الله.


    ** وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لّيَتَفَقّهُواْ فِي الدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوَاْ إِلَيْهِمْ لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ
    هذا بيان من الله تعالى لما أراد من نفير الأحياء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, فإنه قد ذهبت طائفة من السلف إلى أنه كان يجب النفير على كل مسلم إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال تعالى: {انفروا خفاقاً وثقالاً} وقال {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب} الاَية, قال فنسخ ذلك بهذه الاَية. وقد يقال إن هذا بيان لمراده تعالى من نفير الأحياء كلها وشرذمة من كل قبيلة إن لم يخرجوا كلهم, ليتفقه الخارجون مع الرسول بما ينزل من الوحي عليه وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم بما كان من أمر العدو, فيجتمع لهم الأمران في هذا النفير المعين, وبعده صلى الله عليه وسلم تكون الطائفة النافرة من الحي إما للتفقه وإما للجهاد, فإنه فرض كفاية على الأحياء, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الاَية {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} يقول: ما كان المؤمنون لينفروا جميعاً ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} يعني عصبة يعني السرايا ولا يسيروا إلا بإذنه, فإذا رجعت السرايا وقد أنزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون مع النبي صلى الله عليه وسلم, وقالوا إن الله قد أنزل على نبيكم قرآناً وقد تعلمناه فتمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم ويبعث سرايا أخرى, فذلك قوله: {ليتفقهوا في الدين} يقول: ليتعلموا ما أنزل الله على نبيهم وليعلموا السرايا إذا رجعت إليهم, {لعلهم يحذرون} وقال مجاهد: نزلت هذه الاَية في أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, خرجوا في البوادي فأصابوا من الناس معروفاً, ومن الخصب ما ينتفعون به, ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى, فقال الناس لهم: ما نراكم إلا وقد تركتم أصحابكم وجئتمونا ؟ فوجدوا في أنفسهم من ذلك تحرجاً وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم, فقال الله عز وجل: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} يبغون الخير {ليتفقهوا في الدين} وليستمعوا ما في الناس وما أنزل الله فعذرهم {ولينذروا قومهم} الناس كلهم إذا رجعوا إليهم {لعلهم يحذرون} وقال قتادة في الاَية: هذا إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيوش أمرهم الله أن يغزوا بنبيه صلى الله عليه وسلم, وتقيم طائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تتفقه في الدين, وتنطلق طائفة تدعو قومها وتحذرهم وقائع الله فيمن خلا قبلهم.


    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأربعاء 17 يونيو - 13:28

    يرجي من الأخوة الأعضاء عدم الرد علي هذا الموضوع حتي افرغ من نقله كامل


    وشكراً لتعاونكم
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الخميس 18 يونيو - 8:34

    ** لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ * فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لآ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَهُوَ رَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
    يقول تعالى ممتناً على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولاً من أنفسهم أي من جنسهم وعلى لغتهم كما قال إبراهيم عليه السلام: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم} وقال تعالى: {لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم} وقال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} أي منكم وبلغتكم كما قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي والمغيرة بن شعبة لرسول كسرى: إن الله بعث فينا رسولاً منا نعرف نسبه وصفته ومدخله ومخرجه وصدقه وأمانته وذكر الحديث وقال سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه في قوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} قال: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية وقال صلى الله عليه وسلم «خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح» وقد وصل هذا من وجه آخر كما قال الحافظ أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي في كتابه الفاصل بين الراوي والواعي: حدثنا أبو أحمد يوسف بن هارون بن زياد حدثنا ابن أبي عمر حدثنا محمد بن جعفر بن محمد قال: أشهد على أبي لحدثني عن أبيه عن جده عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي لم يمسني من سفاح الجاهلية شيء» وقوله تعالى: {عزيز عليه ما عنتم} أي يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها ولهذا جاء في الحديث المروي من طرق عنه أنه قال: «بعثت بالحنيفية السمحة» وفي الصحيح «إن هذا الدين يسر وشريعته كلها سهلة سمحة كاملة يسيرة على من يسرها الله تعالى عليه» {حريص عليكم} أي على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم, وقال الطبراني حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري حدثنا سفيان بن عيينة عن فِطْن عن أبي الطفيل عن أبي ذر قال: تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكر لنا منه علماً قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم» وقال الإمام أحمد: حدثنا فطن حدثنا المسعودي عن الحسن بن سعد عن عبدة الهذلي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يحرم حرمة إلا وقد علم أنه سيطلعها منكم مطلع ألا وإني آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النار كتهافت الفراش أو الذباب».
    وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه ملكان فيما يرى النائم فقعد أحدهما عند رجليه والاَخر عند رأسه. فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: اضرب مثل هذا ومثل أمته فقال: إن مثله ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة ولم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة فقال: أرأيتم إن وردت بكم رياضاً معشبة وحياضاً رواء تتبعوني ؟ فقالوا: نعم قال: فانطلق بهم فأوردهم رياضاً معشبة وحياضاً رواء فأكلوا وشربوا وسمنوا فقال لهم: ألم ألفكم على تلك الحال فجعلتم لي إن وردت بكم رياضاً معشبة وحياضاً رواء أن تتبعوني ؟ فقالوا بلى فقال: فإن بين أيديكم رياضاً هي أعشب من هذه وحياضاً هي أروى من هذه فاتبعوني فقالت طائفة صدق والله لنتبعه, وقالت طائفة قد رضينا بهذا نقيم عليه, وقال البزار: حدثنا سلمة بن شبيب وأحمد بن منصور قالا حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان حدثنا أبي عن عكرمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينه في شيء قال عكرمة: أراه قال في دم فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ثم قال: «أحسنت إليك» قال الأعرابي لا ولا أجملت فغضب بعض المسلمين وهموا أن يقوموا إليه فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم أن كفوا فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ إلى منزله دعا الأعرابي إلى البيت فقال: «إنك إنما جئتنا تسألنا فأعطيناك فقلت ما قلت» فزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً وقال: «أحسنت إليك ؟» فقال الأعرابي نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك فقلت ما قلت. وفي أنفس أصحابي عليك من ذلك شيء فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب عن صدورهم» فقال: نعم فلما جاء الأعرابي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن صاحبكم كان جاء فسألنا فأعطيناه فقال ما قال, وإنا قد دعوناه فأعطيناه فزعم أنه قد رضي, كذلك يا أعرابي ؟» فقال الأعرابي: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً.
    فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً. فقال لهم صاحب الناقة خلوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها وأنا أعلم بها فتوجه إليها وأخذ لها من قتام الأرض ودعاها حتى جاءت واستجابت وشد عليها رحلها وإني لو أطعتكم حيث قال ما قال لدخل النار» رواه البزار ثم قال لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه (قلت) وهو ضعيف بحال إبراهيم بن الحكم بن أبان والله أعلم, وقوله: {بالمؤمنين رءوف رحيم} كقوله {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين * فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون * وتوكل على العزيز الرحيم} وهكذا أمره تعالى في هذه الاَية الكريمة وهي قوله تعالى {فإن تولوا} أي تولوا عما جئتم به من الشريعة العظيمة المطهرة الكاملة الشاملة {فقل حسبي الله لا إله إلا هو} أي الله كافي لا إله إلا هو عليه توكلت كما قال تعالى: {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً} {وهو رب العرش العظيم} أي هو مالك كل شيء وخالقه, لأنه رب العرش العظيم الذي هو سقف المخلوقات وجميع الخلائق من السموات والأرضين وما فيهما وما بينهما تحت العرش مقهورون بقدرة الله تعالى, وعلمه محيط بكل شيء وقدره نافذ في كل شيء وهو على كل شيء وكيل, قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا بشر بن عمر حدثنا شعبة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما عن أبي بن كعب قال: آخر آية نزلت من القرآن هذه الاَية {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} إلى آخر السورة, وقال عبد الله بن الإمام أحمد حدثنا روح بن عبد المؤمن حدثنا عمر بن شقيق حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب رضي الله عنهم أنهم جمعوا القرآن في مصاحف في خلافة أبي بكر رضي الله عنه فكان رجال يكتبون ويملي عليهم أبي بن كعب فلما انتهوا إلى هذه الاَية من سورة براءة {ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم} الاَية فظنوا أن هذا آخر ما نزل من القرآن فقال لهم أبي بن كعب إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأني بعدها آيتين {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} إلى آخر السورة قال هذا آخر ما نزل من القرآن فختم بما فتح به بالله الذي لا إله إلا هو وهو قول الله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله ألا أنا فاعبدون} وهذا غريب أيضاً.
    وقال أحمد حدثنا علي بن بحر حدثنا علي بن محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الاَيتين من آخر براءة {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} إلى عمر بن الخطاب فقال: من معك على هذا ؟ قال: لا أدري والله إني لأشهد لسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيتها وحفظتها فقال عمر: وأنا أشهد لسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا سورة من القرآن فضعوها فيها, فوضعوها في آخر براءة, وقد تقدم الكلام أن عمر بن الخطاب هو الذي أشار على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بجمع القرآن فأمر زيد بن ثابت فجمعه وكان عمر يحضرهم وهم يكتبون ذلك, وفي الصحيح أن زيداً قال: فوجدت آخر سورة براءة مع خزيمة بن ثابت أو أبي خزيمة, وقد قدمنا أن جماعة من الصحابة تذكروا ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال خزيمة بن ثابت حين ابتدأهم بها والله أعلم, وقد روى أبو داود عن يزيد بن محمد عن عبد الرزاق بن عمر ـ وقال كان من ثقات المسلمين من المتعبدين عن مدرك بن سعد قال يزيد شيخ ثقة عن يونس بن ميسرة عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال: من قال إذا أصبح وإذا أمسى: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم. سبع مرات إلا كفاه الله ما أهمه, وقد رواه ابن عساكر في ترجمة عبد الرزاق عن عمر, هذا من رواية أبي زرعة الدمشقي عنه عن أبي سعد مدرك بن أبي سعد الفزاري عن يونس بن ميسرة بن حليس عن أم الدرداء سمعت أبا الدرداء يقول: ما من عبد يقول: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات صادقاً كان بها أو كاذباً إلا كفاه الله ما أهمه. وهذه زيادة غريبة, ثم رواه في ترجمة عبد الرزاق أبي محمد عن أحمد بن عبد الله بن عبد الرزاق عن جده عبد الرزاق بن عمر بسنده فرفعه فذكر مثله بالزيادة وهذا منكر, والله أعلم.

    تمت التوبة
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6707
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الخميس 18 يونيو - 8:43

    سورة يونس
    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

    ** الَر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * أَكَانَ لِلنّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىَ رَجُلٍ مّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النّاسَ وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُوَاْ أَنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنّ هَـَذَا لَسَاحِرٌ مّبِينٌ
    أما الحروف المقطعة في أوائل السور فقد تقدم الكلام عليها في أوائل سورة البقرة, وقال أبو الضحى عن ابن عباس في قوله تعالى: {الر} أي أنا الله أرى. وكذلك قال الضحاك وغيره {تلك آيات الكتاب الحكيم} بياض في الأصل أي هذه آيات القرآن المحكم المبين وقال مجاهد {الر تلك آيات الكتاب الحكيم}. وقال الحسن: التوراة والزبور, وقال قتادة: {تلك آيات الكتاب} قال الكتب التي كانت قبل القرآن, وهذا القول لا أعرف وجهه ولا معناه. وقوله {أكان للناس عجباً} الاَية. يقول تعالى منكراً على من تعجب من الكفار من إرسال المرسلين من البشر كما أخبر تعالى عن القرون الماضين من قولهم: {أبشر يهدوننا} وقال هود وصالح لقومهما: {أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم} وقال تعالى مخبراً عن كفار قريش أنهم قالوا: {أجعل الاَلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب} وقال الضحاك عن ابن عباس: لما بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً أنكرت العرب ذلك أو من أنكر منهم فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً مثل محمد قال فأنزل الله عز وجل {أكان للناس عجباً} الاَية. وقوله: {أن لهم قدم صدق عند ربهم} اختلفوا فيه فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق} يقول سبقت لهم السعادة في الذكر الأول وقال العوفي عن ابن عباس {أن لهم قدم صدق عند ربهم} يقول: أجراً حسناً بما قدموا وكذا قال الضحاك والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهذا كقوله تعالى: {لينذر بأساً شديداً} الاَية, وقال مجاهد {أن لهم قدم صدق عند ربهم} قال الأعمال الصالحة صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم قال: ومحمد صلى الله عليه وسلم يشفع لهم, وكذا قال زيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقال قتادة سلف صدق عند ربهم واختار ابن جرير قول مجاهد أن الأعمال الصالحة التي قدموها كما يقال له قدم في الإسلام, كقول حسان:
    لنا القدم العليا إليك وخلفنا
    ** إِنّ رَبّكُمُ اللّهُ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبّرُ الأمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكّرُونَ
    يخبر تعالى أنه رب العالم جميعه, وأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام قيل كهذه الأيام وقيل كل يوم كألف سنة مما تعدون كما سيأتي بيانه ثم على استوى العرش والعرش أعظم المخلوقات وسقفها. قال ابن أبي حاتم حدثنا حجاج بن حمزة حدثنا أبو أسامة حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال سمعت سعداً الطائي يقول: العرش ياقوتة حمراء, وقال وهب بن منبه خلقه الله من نوره وهذا غريب. وقوله: {يدبر الأمر} أي يدبر أمر الخلائق {لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض} ولا يشغله شأن عن شأن ولا تغلطه المسائل ولا يتبرم بإلحاح الملحين ولا يلهيه تدبير الكبير عن الصغير في الجبال والبحار والعمران والقفار {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} الاَية.
    ** إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً إِنّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ
    يخبر تعالى أن إليه مرجع الخلائق يوم القيامة لا يترك منهم أحداً حتى يعيده كما بدأه, ثم ذكر تعالى أنه كما بدأ الخلق كذلك يعيده {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط} أي بالعدل والجزاء الأوفى {والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون} أي بسبب كفرهم يعذبون يوم القيامة بأنواع العذاب من سموم وحميم وظل من يحموم {هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج} {هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن}.


    ** هُوَ الّذِي جَعَلَ الشّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاّ بِالْحَقّ يُفَصّلُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنّ فِي اخْتِلاَفِ الْلّيْلِ وَالنّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتّقُونَ
    يخبر تعالى عما خلق من الاَيات الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه أنه جعل الشعاع الصادر عن جرم الشمس ضياء وجعل شعاع القمر نوراً, هذا فن وهذا فن آخر, ففاوت بينهما لئلا يشتبها, وجعل سلطان الشمس بالنهار وسلطان القمر بالليل, وقدر القمر منازل, فأول ما يبدو صغيراً ثم يتزايد نوره وجرمه حتى يستوسق ويكمل إبداره, ثم يشرع في النقص حتى يرجع إلى حالته الأولى في تمام شهر كقوله تعالى: {والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون} وقوله تعالى: {والشمس والقمر حسباناً} الاَية, وقوله في هذه الاَية الكريمة: {وقدره} أي القمر {منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} فبالشمس تعرف الأيام وبسير القمر تعرف الشهور والأعوام {ما خلق الله ذلك إلا بالحق} أي لم يخلقه عبثاً بل له حكمة عظيمة في ذلك وحجة بالغة كقوله تعالى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار} وقال تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم} وقوله: {نفصل الاَيات} أي نبين الحجج والأدلة {لقوم يعلمون} وقوله: {إن في اختلاف الليل والنهار} أي تعاقبهما إذا جاء هذا ذهب هذا وإذا ذهب هذا جاء هذا لا يتأخر عنه شيئاً كقوله تعالى: {يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً} وقال: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر} الاَية.
    ** إَنّ الّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدّنْيَا وَاطْمَأَنّواْ بِهَا وَالّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَـَئِكَ مَأْوَاهُمُ النّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
    يقول تعالى مخبراً عن حال الأشقياء الذين كفروا بلقاء الله يوم القيامة ولا يرجون في لقائه شيئاً ورضوا بهذه الحياة الدنيا واطمأنت إليها نفوسهم. قال الحسن: والله ما زينوها ولا رفعوها حتى رضوا بها وهم غافلون عن آيات الله الكونية فلا يتفكرون فيها والشرعية فلا يأتمرون بها فإن مأواهم يوم معادهم النار جزاء على ما كانوا يكسبون في دنياهم من الاَثام والخطايا والإجرام مع ما هم فيه من الكفر بالله ورسوله واليوم الاَخر.


    ** إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ فِي جَنّاتِ النّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللّهُمّ وَتَحِيّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ
    هذا إخبار عن حال السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين وامتثلوا ما أمروا به فعملوا الصالحات بأنه سيهديهم بإيمانهم, يحتمل أن تكون الباء ههنا سببية فتقديره بسبب إيمانهم في الدنيا يهديهم الله يوم القيامة على الصراط المستقيم حتى يجوزوه ويخلصوا إلى الجنة, ويحتمل أن تكون للاستعانة كما قال مجاهد في قوله: {يهديهم ربهم بإيمانهم} قال: يكون لهم نوراً يمشون به, وقال ابن جريج في الاَية: يمثل له عمله في صورة حسنة وريح طيبة إذا قام من قبره يعارض صاحبه ويبشره بكل خير فيقول له: من أنت ؟ فيقول: أنا عملك فيجعل له نوراً من بين يديه حتى يدخله الجنة فذلك قوله تعالى: {يهديهم ربهم بإيمانهم} والكافر يمثل له عمله في صورة سيئة وريح منتنة فيلزم صاحبه ويلازّه حتى يقذفه في النار, وروي نحوه عن قتادة مرسلاً فالله أعلم, وقوله: {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام, وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} أي هذا حال أهل الجنة. قال ابن جريج أخبرت بأن قوله: {دعواهم فيها سبحانك اللهم} قال: إذا مرّ بهم الطير يشتهونه قالوا سبحانك اللهم وذلك دعواهم فيأتيهم الملك بما يشتهونه فيسلم عليهم فيردون عليه فذلك قوله: {وتحيتهم فيها سلام} قال فإذا أكلوا حمدوا الله فذلك قوله: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}.
    وقال مقاتل بن حيان: إذا أراد أهل الجنة أن يدعوا بالطعام قال أحدهم {سبحانك اللهم} قال فيقوم على أحدهم عشرة آلاف خادم مع كل خادم صحفة من ذهب فيها طعام ليس في الأخرى قال فيأكل منهن كلهن, وقال سفيان الثوري: إذا أراد أحدهم أن يدعو بشيء قال {سبحانك اللهم} وهذه الاَية فيها شبه من قوله: {تحيتهم يوم يلقونه سلام} الاَية. وقوله: {لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماً} وقوله: {سلام قولاً من رب رحيم} وقوله: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم} الاَية, وقوله {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} هذا فيه دلالة على أنه تعالى هو المحمود أبداً, المعبود على طول المدى, ولهذا حمد نفسه عند ابتداء خلقه واستمراره وفي ابتداء كتابه وعند ابتداء تنزيله حيث يقول تعالى: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب} {الحمد لله الذي خلق السموات والأرض} إلى غير ذلك من الأحوال التي يطول بسطها وأنه المحمود في الأولى والاَخرة في الحياة الدنيا وفي الاَخرة وفي جميع الأحوال ولهذا جاء في الحديث: إن أهل الجنة يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس. وإنما يكون ذلك كذلك لما يرون من تزايد نعم الله عليهم فتكرر وتعاد وتزداد فليس لها انقضاء ولا أمد فلا إله إلا هو ولا رب سواه.

    يتبع

    .

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس 9 مايو - 6:53