دارة السادة الأشراف

مرحبا بك عزيزي الزائر
ندعوك أن تدخل المنتدى معنا
وإن لم يكن لديك حساب بعد
نتشرف بدعوتك لإنشائه
ونتشرف بدعوتك لزيارة الموقع الرسمي لدارة السادة الأشراف على الرابط :
www.dartalashraf.com


انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

دارة السادة الأشراف

مرحبا بك عزيزي الزائر
ندعوك أن تدخل المنتدى معنا
وإن لم يكن لديك حساب بعد
نتشرف بدعوتك لإنشائه
ونتشرف بدعوتك لزيارة الموقع الرسمي لدارة السادة الأشراف على الرابط :
www.dartalashraf.com

دارة السادة الأشراف

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

أنساب , مشجرات , مخطوطات , وثائق , صور , تاريخ , تراجم , تعارف , دراسات وأبحاث , مواضيع متنوعة

Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 79880579.th
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 78778160
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 16476868
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 23846992
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 83744915
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 58918085
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 99905655
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 16590839.th
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Resizedk
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 20438121565191555713566

2 مشترك

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الثلاثاء 16 يونيو - 16:35

    تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :

    بسم الله الرحمن الرحيم



    انا النهردة جايبلكم موضوع روعة
    اجمل موضوع تقروه فى حياتكم علشان طبعا مافيش احسن من القرأن الكريم


    انا جايبة تفسير القرأن الكريم لابن كثير بس تفسير السور عامة مش تفسير الايات وموضوع هيفدنا كلنا وكمان هو موضوع مختصر اوىى بالنسبة لكتاب التفسير نفسه يارب يعجبكم وربنا يعلم انا تعبت فى التوبيك ده اد ايه انا كنت متوقعة انه ينزل على 100 مرة بس لقت الموضوع بقى اكتر من كدة بكتير بس الحمد لله اهو الموضوع خلص ويارب يفدكم جميعا ان شاء الله



    اى حد عايز تفسير اى سورة يدخل على التوبيك وهيلاقى ترتبها زى القرأن بالظبط



    سورة الفاتحة
    ** بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
    يقال لها الفاتحة أي فاتحة الكتاب خطاً وبها تفتتح القراءة في الصلوات, ويقال لها أيضاً أم الكتاب عند الجمهور, ذكره أنس, والحسن وابن سيرين كرها تسميتها بذلك, قال الحسن وابن سيرين إنما ذلك اللوح المحفوظ, وقال الحسن الاَيات المحكمات هن أم الكتاب ولذا كرها أيضاً أن يقال لها أم القرآن وقد ثبت في الصحيح عند الترمذي وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحمد لله رب العالمين أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني والقرآن العظيم» ويقال لها (الحمد) ويقال لها (الصلاة) لقوله صلى الله عليه وسلم عن ربه «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله: حمدني عبدي» الحديث. فسميت الفاتحة صلاة لأنها شرط فيها ويقال لها (الشفاء) لما رواه الدارمي عن أبي سعيد مرفوعاً «فاتحة الكتاب شفاء من كل سم» ويقال لها (الرقية) لحديث أبي سعيد في الصحيح حين رقى بها الرجل السليم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «وما يدريك أنها رقية» ؟ وروى الشعبي عن ابن عباس أن سماها (أساس القرآن) قال: وأساسها بسم الله الرحمن الرحيم وسماها سفيان بن عيينه (بالواقية) وسماها يحيى بن أبي كثير (الكافية) لأنها تكفي عما عداها ولا يكفي ما سواها عنها كما جاء في بعض الأحاديث المرسلة «أم القرآن عوض من غيرها وليس من غيرها عوض منها» ويقال لها سورة الصلاة والكنز, ذكرهما الزمخشري في كشافه.
    وهي مكية قاله ابن عباس وقتادة وأبو العالية, وقيل مدنية قاله أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري ويقال نزلت مرتين: مرة بمكة ومرة بالمدينة, والأول أشبه لقوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني} والله تعالى أعلم. وحكى أبو الليث السمرقندي أن نصفها نزل بمكة ونصفها الاَخر نزل بالمدينة وهو غريب جداً, نقله القرطبي عنه وهي سبع آيات بلا خلاف, وقال عمرو بن عبيد ثمان, وقال حسين الجعفي ستة, وهذان القولان ***ان وإنما اختلفوا في البسملة هل هي آية مستقلة من أولها كما هو عند جمهور قراء الكوفة وقول جماعة من الصحابة والتابعين وخلق من الخلف أو بعض آية أو لا تعد من أولها بالكلية كما هو قول أهل المدينة من القراء والفقهاء على ثلاثة أقوال كما سيأتي تقريرها في موضعه إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
    قالوا وكلماتها خمس وعشرون كلمة وحروفها مائة وثلاثة عشر حرفاً. قال البخاري في أول كتاب التفسير وسميت أم الكتاب لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف ويبدأ بقراءتها في الصلاة, وقيل: إنما سميت بذلك لرجوع معاني القرآن كله إلى ما تضمنته. قال ابن جرير: والعرب تسمي كل جامع أمرأو مقدم لأمر إذا كانت له توابع تتبعه هو لها إمام جامع: أمّاً, فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ أم الرأس ويسمون لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها أمّاً, واستشهد بقول ذي الرمة.
    على رأسه أم لنا نقتدي بهاجماع أمور ليس نعصي لها أمراً
    ـ يعني الرمح ـ قال وسميت مكة أم القرى لتقدمها أمام جميعها وجمعها ما سواها وقيل لأن الأرض دحيت منها. ويقال لها أيضاً: الفاتحة لأنها تفتتح بها القراءة وافتتحت الصحابة بها كتابة المصحف الإمام وصح تسميتها بالسبع المثاني قالوا لأنها تثنى في الصلاة فتقرأ في كل ركعة وإن كان للمثاني معنى آخر كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
    قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا ابن أبي ذئب وهاشم بن هاشم عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أم القرآن: «هي أم القرآن وهي السبع المثاني وهي القرآن العظيم» ثم رواه عن إسماعيل بن عمر عن ابن أبي ذئب به وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: حدثني يونس بن عبد الأعلى أنبأنا ابن وهب أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب وهي السبع المثاني» وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في تفسيره حدثنا أحمد بن محمد بن زياد حدثنا محمد بن غالب بن حارث, حدثنا إسحاق بن عبد الواحد الموصلي, حدثنا المعافى بن عمران عن عبد الحميد بن جعفر عن نوح بن أبي بلال عن المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحمد لله رب العالمين سبع آيات: بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن, وهي السبع المثاني والقرآن العظيم, وهي أم الكتاب, وفاتحة الكتاب» وقد رواه الدارقطني أيضاً عن أبي هريرة أنهم فسروا قوله تعالى {سبعاً من المثاني} بالفاتحة وأن البسملة هي الاَية السابعة منها وسيأتي تمام هذا عند البسملة. وقد روى الأعمش عن إبراهيم قال: قيل لابن مسعود: لمَ لم تكتب الفاتحة في مصحفك ؟ فقال: لو كتبتها لكتبتها في أول كل سورة, قال أبو بكر بن أبي داود يعني حيث يقرأ في الصلاة, قال: واكتفيت بحفظ المسلمين لها عن كتابتها وقد قيل: إن الفاتحة أول شيء أنزل من القرآن كما ورد في حديث رواه البيهقي في دلائل النبوة ونقله الباقلاني أحد أقوال ثلاثة وقيل: {ياأيها المدثر} كما في حديث جابر في الصحيح وقيل: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} وهذ هو الصحيح كما سيأتي تقريره في موضعه والله المستعان.
    ذكر ما ورد في فضل الفاتحة
    قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة حدثني خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال: كنت أصلي فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه حتى صليت, قال: فأتيته فقال: «مامنعك أن تأتيني» ؟ قال قلت: يا رسول الله إني كنت أصلي قال: ألم يقل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} ثم قال: «لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قيل أن تخرج من المسجد» قال: فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول الله إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قال: «نعم {الحمد لله رب العالمين} هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» وهكذا رواه البخاري عن مسدد وعلي بن المديني, كلاهما عن يحيى بن سعيد القطان به, ورواه في موضع آخر من التفسير, وأبو داوود والنسائي وابن ماجه من طرق عن شعبة به, ورواه الواقدي عن محمد بن معاذ الأنصاري عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى عن أبي بن كعب فذكر نحوه. وقد وقع في الموطأ للإمام مالك بن أنس رحمه الله ما ينبغي التنبيه عليه فإنه رواه مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي أن أبا سعيد مولى ابن عامر بن كريز أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب وهو يصلي في المسجد فلما فرغ من صلاته لحقه قال فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على يدي وهو يريد أن يخرج من باب المسجد ثم قال صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن لا تخرج من باب المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها» قال أبي رضي الله عنه, فجعلت أبطى في المشي رجاء ذلك ثم قلت: يا رسول الله ما السورة التي وعدتني ؟ قال: «كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة ؟ قال فقرأت عليه {الحمد لله رب العالمين} حتى أتيت على آخرها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هي هذه السورة وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيت» فأبو سعيد هذا ليس بأبي سعيد بن المعلى كما اعتقده ابن الأثير في جامع الأصول ومن تبعه فإن ابن المعلى صحابي أنصاري وهذا تابعي من موالي خزاعة وذاك الحديث متصل صحيح, وهذا ظاهره منقطع إن لم يكن سمعه أبو سعيد هذا من أبي بن كعب فإن كان قد سمعه منه فهو على شرط مسلم والله أعلم. على أنه قد روي عن أبي بن كعب من غير وجه


    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 18:32

    ** وَقَالَ الّذِيَ آمَنَ يَقَوْمِ اتّبِعُونِ أَهْدِكُـمْ سَبِيـلَ الرّشَـادِ * يَقَوْمِ إِنّمَا هَـَذِهِ الْحَيَاةُ الدّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنّ الاَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَـرَارِ * مَنْ عَمِـلَ سَـيّئَةً فَلاَ يُجْزَىَ إِلاّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِـلَ صَالِحاً مّن ذَكَـرٍ أَوْ أُنْثَىَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ
    يقول المؤمن لقومه ممن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا ونسي الجبار الأعلى فقال لهم: {يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد} لا كما كذب فرعون في قوله: {وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} ثم زهدهم في الدنيا التي قد آثروها على الاَخرى وصدتهم عن التصديق برسول الله موسى عليه الصلاة والسلام فقال: {يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع} أي قليلة زائلة فانية عن قريب تذهب وتضمحل {وإن الاَخرة هي دار القرار} أي الدار التي لا زوال لها ولا انتقال منها ولا ظعن عنها إلى غيرها بل إما نعيم وإما جحيم ولهذا قال جلت عظمته: {من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها} أي واحدة مثلها {ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب} أي لا يتقدر بجزاء بل يثيبه الله عز وجل ثواباً كثيراً لا انقضاء له ولا نفاد والله تعالى الموفق للصواب.


    ** وَيَقَوْمِ مَا لِيَ أَدْعُوكُـمْ إِلَى النّجَاةِ وَتَدْعُونَنِيَ إِلَى النّارِ * تَدْعُونَنِي لأكْـفُرَ بِاللّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفّارِ * لاَ جَرَمَ أَنّمَا تَدْعُونَنِيَ إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدّنْيَا وَلاَ فِي الاَخِرَةِ وَأَنّ مَرَدّنَآ إِلَى اللّهِ وَأَنّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُـمْ وَأُفَوّضُ أَمْرِيَ إِلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوقَاهُ اللّهُ سَيّئَاتِ مَا مَكَـرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوَءُ الْعَذَابِ * النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوَاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ الْعَذَابِ
    يقول لهم المؤمن ما بالي أدعوكم إلى النجاة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وتصديق رسوله الله الذي بعثه {وتدعونني إلى النار * تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم} أي على جهل بلا دليل {وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار} أي هو في عزته وكبريائه يغفر ذنب من تاب إليه {لا جرم أنما تدعونني إليه} يقول حقاً ؟ قال السدي وابن جرير معنى قوله {لا جرم} حقاً. وقال الضحاك {لا جرم} لا كذب وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {لا جرم} يقول: بلى إن الذي تدعونني إليه من الأصنام والأنداد {ليس له دعوة في الدنيا ولا في الاَخرة} قال مجاهد: الوثن ليس له شيء, وقال قتادة يعني الوثن لا ينفع ولا يضر, وقال السدي: لا يجيب داعيه لا في الدنيا ولا في الاَخرة, وهذا كقوله تبارك وتعالى: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون ؟ * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين} {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم} وقوله: {وأن مردنا إلى الله} أي في الدار الاَخرة فيجازي كلاً بعمله ولهذا قال: {وأن المسرفين هم أصحاب النار} أي خالدين فيها بإسرافهم وهو شركهم بالله عز وجل: {فستذكرون ما أقول لكم} أي سوف تعلمون صدق ما أمرتكم به ونهيتكم عنه ونصحتكم ووضحت لكم وتتذكرونه وتندمون حيث لا ينفع الندم {وأفوض أمري إلى الله} أي وأتوكل على الله وأستعينه وأقاطعكم وأباعدكم {إن الله بصير بالعباد} أي هو بصير بهم تعالى وتقدس فيهدي من يستحق الهداية ويضل من يستحق الإضلال وله الحجة البالغة والحكمة التامة والقدر النافذ. وقوله تبارك وتعالى: {فوقاه الله سيئات ما مكروا} أي في الدنيا والاَخرة, وأما في الدنيا فنجاه الله تعالى مع موسى عليه الصلاة والسلام وأما في الاَخرة فبالجنة {وحاق بآل فرعون سوء العذاب} وهو الغرق في اليم ثم النقلة منه إلى الجحيم, فإن أرواحهم تعرض على النار صباحاً ومساء إلى قيام الساعة فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار ولهذا قال: {ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} أي أشده ألماً وأعظمه نكالاً, وهذه الاَية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور وهي قوله تعالى: {النار يعرضون عليها غدواً وعشياً}.
    ولكن هنا سؤال وهو أنه لا شك أن هذه الاَية مكية وقد استدلوا بها على عذاب القبر في البرزخ وقد قال الإمام أحمد حدثنا هاشم هو ابن القاسم أبو النضر حدثنا إسحاق بن سعيد هو ابن عمرو بن سعيد بن العاص حدثنا سعيد يعني أباه عن عائشة رضي الله عنها أن يهودية كانت تخدمها فلا تصنع عائشة رضي الله عنها إليها شيئاً من المعروف إلا قالت لها اليهودية وقاك الله عذاب القبر قالت رضي الله عنها: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي فقلت: يا رسول الله هل للقبر عذاب قبل يوم القيامة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لا, من زعم ذلك ؟» قالت هذه اليهودية لا أصنع إليها شيئاً من المعروف إلا قالت وقاك الله عذاب القبر قال صلى الله عليه وسلم: «كذبت يهود وهم على الله أكذب لا عذاب دون يوم القيامة» ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث فخرج ذات يوم نصف النهار مشتملاً بثوبه محمرة عيناه وهو ينادي بأعلى صوته «القبر كقطع الليل المظلم, أيها الناس لو تعلمون ما أعلم بكيتم كثيراً وضحكتم قليلاً, أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر فإن عذاب القبر حق» وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه وروى أحمد حدثنا يزيد حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت سألتها امرأة يهودية فأعطتها فقالت لها وقاك الله من عذاب القبر فأنكرت عائشة رضي لله عنها ذلك فلما رأت النبي صلى الله عليه وسلم قالت له فقال صلى الله عليه وسلم «لا» قالت عائشة رضي الله عنها ثم قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك «وإنه أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم» وهذا أيضاً على شرطهما. فيقال فما الجمع بين هذا وبين كون الاَية مكية وفيها دلالة على عذاب البرزخ ؟ والجواب أن الاَية دلت على عرض الأرواح على النار غدواً وعشياً في البزرخ وليس فيها دلالة على اتصال تألمها بأجسادها في القبور إذ قد يكون ذلك مختصاً بالروح فأما حصول ذلك للجسد في البرزخ وتألمه بسببه فلم يدل عليه إلا السنة في الأحاديث المرضية الاَتي ذكرها. وقد يقال إن هذه الاَية إنما دلت على عذاب الكفار في البرزخ ولا يلزم من ذلك أن يعذب المؤمن في قبره بذنب. ومما يدل على ذلك ما رواه الإمام أحمد حدثنا عثمان بن عمر حدثنا يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امراة من اليهود وهي تقول أشعرت أنكم تفتنون في قبوركم, فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «إنما يفتن يهود» قالت عائشة رضي الله عنها فلبثنا ليالي ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إنكم تفتنون في القبور» وقالت عائشة رضي الله عنها فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يستعيذ من عذاب القبر, وهكذا رواه مسلم عن هارون بن سعيد وحرملة كلاهما عن ابن وهب عن يونس بن يزيد الأيلي عن الزهري به.
    وقد يقال إن هذه الاَية دلت على عذاب الأرواح في البرزخ ولا يلزم من ذلك أن يتصل في الأجساد في قبورها فلما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بخصوصه استعاذ منه والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد روى البخاري من حديث شعبة عن أشعث ابن أبي الشعثاء عن أبيه عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أن يهودية دخلت عليها فقالت نعوذ بالله من عذاب القبر فسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر فقال صلى الله عليه وسلم: «نعم عذاب القبر حق» قالت عائشة رضي الله عنها: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر. فهذا يدل على أنه بادر صلى الله عليه وسلم إلى تصديق اليهودية في هذا الخبر وقرر عليه, وفي الأخبار المتقدمة أنه أنكر ذلك حتى جاءه الوحي فلعلهما قضيتان والله سبحانه أعلم وأحاديث عذاب القبر كثيرة جداً وقال قتادة في قوله تعالى: {غدواً وعشياً} صباحاً ومساء ما بقيت الدنيا يقال لهم يا آل فرعون هذه منازلكم توبيخاً ونقمة وصغاراً لهم, وقال ابن زيد هم فيها اليوم يغدى بهم ويراح إلى أن تقوم الساعة. وقال: ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد حدثنا المحاربي حدثنا ليث عن عبد الرحمن بن ثروان عن هذيل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر تسرح بهم في الجنة حيث شاؤوا, وإن أرواح ولدان المؤمنين في أجواف عصافير تسرح في الجنة حيث شاءت فتأوي إلى قناديل معلقة في العرش, وإن أرواح آل فرعون في أجواف طيور سود تغدو على جهنم وتروح عليها فذلك عرضها, وقد رواه الثوري عن أبي قيس عن الهذيل بن شرحبيل من كلامه في أرواح آل فرعون وكذلك قال السدي. وفي حديث الإسراء من رواية أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه «ثم انطلق بي إلى خلق كثير من خلق الله رجال كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم مصفدون على سابلة آل فرعون وآل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً {ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} وآل فرعون كالإبل المسومة يخبطون الحجارة والشجر ولا يعقلون وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا زيد بن أخرم حدثنا عامر بن مدرك الحارثي حدثنا عتبة ـ يعني ابن يقظان ـ عن قيس بن مسلم عن طارق عن شهاب عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أحسن محسن من مسلم أو كافر إلا أثابه الله تعالى» قال قلنا يا رسول الله ما إثابة الله الكافر ؟ فقال: «إن كان قد وصل رحماً أو تصدق بصدقة أو عمل حسنة أثابه الله تبارك وتعالى المال والولد والصحة وأشباه ذلك» قلنا فما إثابته في الاَخرة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «عذاباً دون العذاب» وقرأ {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} ورواه البزار في مسنده عن زيد بن أخرم ثم قال: لا نعلم له إسناداً غير هذا. وقال ابن جرير حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير حدثنا حماد بن محمد الفزاري البلخي قال سمعت الأوزاعي وسأله رجل فقال: رحمك الله رأينا طيوراً تخرج من البحر تأخذ ناحية الغرب بيضاً فوجاً فوجاً لا يعلم عددها إلا الله عز وجل فإذا كان العشي رجع مثلها سوداً قال وفطنتم إلى ذلك ؟ قال نعم, قال إن ذلك الطير في حواصلها أرواح آل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشياً فترجع إلى وكورها وقد احترقت أرياشها وصارت سوداً فينبت عليها من الليل ريش أبيض ويتناثر الأسود ثم تغدو على النار غدواً وعشياً ثم ترجع إلى وكورها, فذلك دأبهم في الدنيا فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} قال وكانوا يقولون إنهم ستمائة ألف مقاتل, وقال الإمام أحمد حدثنا إسحاق حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة, وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله عز وجل إليه يوم القيامة» أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك به.

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 18:33

    ** إِنّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ * يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ الْلّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوَءُ الدّارِ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَىَ وَأَوْرَثْنَا بَنِيَ إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ * هُدًى وَذِكْرَىَ لاُوْلِي الألْبَابِ * فَاصْبِرْ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ وَاسْتَغْفِـرْ لِذَنبِكَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ بِالْعَشِيّ وَالإِبْكَارِ * إِنّ الّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيَ آيَاتِ اللّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاّ كِبْرٌ مّـا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّـهُ هُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ
    قد أورد أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا} سؤالاً فقال قد علم أن بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قتله قومه بالكلية كيحيى وزكريا وشعياء ومنهم من خرج من بين أظهرهم إما مهاجراً كإبراهيم, وإما إلى السماء كعيسى فأين النصرة في الدنيا ثم أجاب عن ذلك بجوابين (أحدهما) أن يكون الخبر خرج عاماً والمراد به البعض قال وهذا سائغ في اللغة (الثاني) أن يكون المراد بالنصر والإنتصار لهم ممن آذاهم وسواء كان ذلك بحضرتهم أو في غيبهم أو بعد موتهم كما فعل بقتلة يحيى وزكريا وشعياء سلط عليهم من أعدائهم من أهانهم وسفك دماءهم وقد ذكر أن النمرود أخذه الله تعالى أخذ عزيز مقتدر, وأما الذين راموا صلب المسيح عليه السلام من اليهود فسلط الله تعالى عليهم الروم فأهانوهم وأذلوهم وأظهرهم الله تعالى عليهم ثم قبل يوم القيامة سينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام إماماً عادلاً وحكماً مقسطاً فيقتل المسيح الدجال وجنوده من اليهود ويقتل الخنزير ويكسر الصليب, ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام وهذه نصرة عظيمة وهذه سنة الله تعالى في خلقه في قديم الدهر وحديثه أنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا ويقر أعينهم ممن آذاهم ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله تبارك وتعالى من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب» وفي الحديث الاَخر: «إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث بالحرب» ولهذا أهلك الله عز وجل قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وقوم لوط وأهل مدين وأشباههم وأضرابهم ممن كذب الرسل وخالف الحق. وأنجى الله تعالى من بينهم المؤمنين فلم يهلك منهم أحداً وعذب الكافرين فلم يفلت منهم أحداً, قال السدي لم يبعث الله عز وجل رسولاً قط إلى قوم فيقتلونه أو قوماً من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلون فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله تبارك وتعالى لهم من ينصرهم فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا قال فكانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون فيها. وهكذا نصر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه على من خالفه وناوأه وكذبه وعاداه فجعل كلمته هي العليا ودينه هو الظاهر على سائر الأديان, وأمره بالهجرة من بين ظهراني قومه إلى المدينة النبوية وجعل له فيها أنصاراً وأعواناً, ثم منحه أكتاف المشركين يوم بدر فنصره عليهم وخذلهم له وقتل صناديديهم, وأسر سراتهم فاستاقهم مقرنين في الأصفاد, ثم منّ عليهم بأخذه الفداء منهم ثم بعد مدة قريبة فتح عليه مكة فقرت عينه ببلده وهو البلد المحرم الحرام المشرف المعظم فأنفذه الله تعالى به مما كان فيه من الكفر والشرك وفتح له اليمن ودانت له جزيرة العرب بكاملها ودخل الناس في دين الله أفواجاً, ثم قبضه الله تعالى إليه لما له عنده من الكرامة العظيمة فأقام الله تبارك وتعالى أصحابه خلفاء بعده فبلغوا عنه دين الله عز وجل ودعوا عباد الله تعالى إلى الله جل وعلا, وفتحوا البلاد والرساتيق والأقاليم والمدائن والقرى والقلوب حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الأرض ومغاربها. ثم لا يزال هذا الدين قائماً منصوراً ظاهراً إلى قيام الساعة ولهذا قال تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} أي يوم القيامة تكون النصرة أعظم وأكبر وأجل, قال مجاهد: الأشهاد الملائكة. وقوله تعالى: {يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم} بدل من قوله: {ويوم يقوم الأشهاد} وقرأ آخرون يوم بالرفع كأنه فسره به {ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين} وهم)المشركون {معذرتهم} أي لا يقبل منهم عذر ولا فدية {ولهم اللعنة} أي الإبعاد والطرد من الرحمة {ولهم سوء الدار} وهي النار قاله السدي بئس المنزل والمقيل, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما {ولهم سوء الدار} أي سوء العاقبة وقوله تعالى: {ولقد آتينا موسى الهدى} وهو ما بعثه الله عز وجل به من الهدى والنور {وأورثنا بني إسرائيل الكتاب} أي جعلنا لهم العاقبة وأورثناهم بلاد فرعون وأمواله وحواصله وأرضه بما صبروا على طاعة الله تبارك وتعالى واتباع رسوله موسى عليه الصلاة والسلام وفي الكتاب الذي أورثوه وهو التوارة {هدى وذكرى لأولي الألباب} وهي العقول الصحيحة السليمة. وقوله عز وجل: {فاصبر} أي يا محمد {إن وعد الله حق} أي وعدناك أنا سنعلي كلمتك ونجعل العاقبة لك ولمن اتبعك والله لا يخلف الميعاد وهذا الذي أخبرناك به حق لا مرية فيه ولا شك وقوله تبارك وتعالى: {واستغفر لذنبك} هذا تهييج للأمة على الاستغفار {وسبح بحمد ربك بالعشي} أي في أواخر النهار وأوائل الليل {والإبكار} وهي أوائل النهار وأواخر الليل. وقوله تعالى: {إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم} أي يدفعون الحق بالباطل ويردون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة بلا برهان ولا حجة من الله {إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه} أي ما في صدورهم إلا كبر على اتباع الحق واحتقار لمن جاءهم به وليس ما يرومونه من إخماد الحق وإعلاء الباطل بحاصل لهم بل الحق هو المرفوع وقولهم وقصدهم هو الموضوع {فاستعذ بالله} أي من حال مثل هؤلاء {إنه هو السميع البصير} أو من شر مثل هؤلاء المجادلين في آيات الله بغير سلطان هذا تفسير ابن جرير.
    وقال كعب وأبو العالية نزلت هذه الاَية في اليهود {إن الذين يجادلون في آيات اللهبغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه} قال أبو العالية وذلك أنهم ادعوا أن الدجال منهم وأنهم يملكون به الأرض فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم آمراً له أن يستعيذ من فتنة الدجال ولهذا قال عز وجل: {فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير} وهذا قول غريب وفيه تعسف بعيد وإن كان قد رواه ابن أبي حاتم في كتابه, والله سبحانه وتعالى أعلم.


    ** لَخَلْقُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ وَلَـَكِنّ أَكْـثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * وَمَا يَسْتَوِي الأعْـمَىَ وَالْبَصِيرُ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَلاَ الْمُسِيَءُ قَلِيـلاً مّا تَتَذَكّرُونَ * إِنّ السّاعَةَ لاَتِيَـةٌ لاّ رَيْبَ فِيهَا وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ
    يقول تعالى منبهاً على أنه يعيد الخلائق يوم القيامة وأن ذلك سهل عليه يسير لديه بأنه خلق السموات والأرض وخلقهما أكبر من خلق الناس بدأة وإعادة فمن قدر على ذلك فهو قادر على ما دونه بطريق الأولى والأحرى كما قال تعالى: {أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير} وقال ههنا: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون} فلهذا لا يتدبرون هذه الحجة ولا يتأملونها كما كان كثير من العرب يعترفون بأن الله تعالى خلق السموات والأرض وينكرون المعاد استبعاداً وكفراً وعناداً وقد اعترفوا بما هو أولى مما أنكروا ثم قال تعالى: {وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلاً ما تتذكرون} أي كما لا يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئاً والبصير الذي يرى ما انتهى إليه بصره, بل بينهما فرق عظيم كذلك لا يستوي المؤمنون الأبرار والكفرة الفجار {قليلاً ما تتذكرون} أي ما أقل ما يتذكر كثير من الناس ثم قال تعالى: {إن الساعة لاَتية} أي لكائنة وواقعة {لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} أي لا يصدقون بها بل يكذبون بوجودها. قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم حدثنا أشهب حدثنا مالك عن شيخ قديم من أهل اليمن قدم من ثم قال: سمعت أن الساعة إذا دنت اشتد البلاء على الناس واشتد حر الشمس, والله أعلم.


    ** وَقَالَ رَبّكُـمْ ادْعُونِيَ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرِينَ
    هذا من فضله تبارك وتعالى وكرمه أنه ندب عباده إلى دعائه وتكفل لهم بالإجابة كما كان سفيان الثوري يقول: يا من أحب عباده إليه من سأله فأكثر سؤاله, ويا من أبغض عباده إليه من لم يسأله وليس أحد كذلك غيرك يا رب. رواه ابن أبي حاتم وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
    الله يغضب إن تركت سؤالهوبُنَيّ آدم حين يسأل يغضب
    وقال قتادة: قال كعب الأحبار أعطيت هذه الأمة ثلاثاً لم تعطهن أمة قبلها ولا نبي: كان إذا أرسل الله نبياً قال له أنت شاهد على أمتك وجعلتكم شهداء على الناس, وكان يقال له ليس عليك في الدين من حرج وقال لهذه الأمة: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وكان يقال له ادعني أستجب لك وقال لهذه الأمة {ادعوني أستجب لكم} رواه ابن أبي حاتم. وقال الإمام الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده: حدثنا أبو إبراهيم الترجماني حدثنا صالح المرّي قال: سمعت الحسن يحدث عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل قال: «أربع خصال واحدة منهن لي وواحدة لك وواحدة بيني وبينك وواحدة فيما بينك وبين عبادي, فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئاً وأما التي لك علي فما عملت من خير جزيتك به وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلي الإجابة وأما التي بينك وبين عبادي فارض لهم ما ترضى لنفسك». وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن ذر عن يسيع الكندي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الدعاء هو العبادة» ثم قرأ {ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} وهكذا رواه أصحاب السنن الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن جرير كلهم من حديث الأعمش به.

    يتبع
    0
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 18:33

    ** قُلْ إِنّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَمّا جَآءَنِيَ الْبَيّنَاتُ مِن رّبّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ * هُوَ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمّ مِن نّطْفَةٍ ثُمّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمّ لِتَـبْلُغُوَاْ أَشُدّكُـمْ ثُمّ لِتَكُـونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مّن يُتَوَفّىَ مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوَاْ أَجَلاً مّسَمّى وَلَعَلّـكُمْ تَعْقِلُونَ * هُوَ الّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَىَ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ
    يقول تبارك وتعالى قل يا محمد لهؤلاء المشركين إن الله عز وجل ينهى أن يعبد أحد سواه من الأصنام والأنداد والأوثان وقد بين تبارك وتعالى أنه لا يستحق العبادة أحد سواه في قوله جلت عظمته: {هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً} أي هو الذي يقلبكم في هذه الأطوار كلها وحده لا شريك له وعن أمره وتدبيره وتقديره يكون ذلك {ومنكم من يتوفى من قبل} أي من قبل أن يوجد ويخرج إلى هذا العالم بل تسقطه أمه سقطاً ومنهم من يتوفى صغيراً وشاباً وكهلاً قبل الشيخوخة كقوله تعالى: {لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى} وقال عز وجل ههنا: {ولتبلغوا أجلاً مسمى ولعلكم تعقلون} قال ابن جريج تتذكرون البعث ثم قال تعالى: {هو الذي يحيي ويميت} أي هو المتفرد بذلك لا يقدر على ذلك أحد سواه {فإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} أي لا يخالف ولا يمانع بل ما شاء كان لا محالة.


    ** أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيَ آيَاتِ اللّهِ أَنّىَ يُصْرَفُونَ * الّذِينَ كَذّبُواْ بِالْكِـتَابِ وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأغْلاَلُ فِيَ أَعْنَاقِهِمْ والسّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمّ فِي النّارِ يُسْجَرُونَ * ثُمّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ اللّهِ قَـالُواْ ضَـلّواْ عَنّا بَل لّمْ نَكُنْ نّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلّ اللّهُ الْكَافِرِينَ * ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ * ادْخُلُوَاْ أَبْوَابَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ
    يقول تعالى ألا تعجب يا محمد من هؤلاء المكذبين بآيات الله ويجادلون في الحق بالباطل كيف تصرف عقولهم عن الهدى إلى الضلال {الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا} أي من الهدى والبيان {فسوف يعلمون} هذا تهديد شديد, ووعيد أكيد, من الرب جل جلاله لهؤلاء كما قال تعالى: {ويل يومئذ للمكذبين} وقوله عز وجل: {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل} أي متصلة بالأغلال بأيدي الزبانية يسحبونهم على وجوههم تارة إلى الحميم وتارة إلى الجحيم ولهذا قال تعالى: {يسحبون, في الحميم ثم في النار يسجرون} كما قال تبارك وتعالى: {هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون, يطوفون بينها وبين حميم آن} وقال تعالى بعد ذكر أكلهم الزقوم وشربهم الحميم: {وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال * في سموم وحميم * وظل من يحموم * لا بارد ولا كريم ـ إلى أن قال ـ ثم إنكم أيها الضالون المكذبون * لأكلون من شجر من زقوم * فمالئون منها البطون * فشاربون عليه من الحميم * فشاربون شرب الهيم * هذا نزلهم يوم الدين} وقال عز وجل: {إن شجرة الزقوم طعام الأثيم, كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم, خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم, ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم, ذق إنك أنت العزيز الكريم, إن هذا ما كنتم به تمترون} أي يقال لهم ذلك على وجه التقريع والتوبيخ والتحقير والتصغير والتهكم والاستهزاء بهم, قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا أحمد بن منيع حدثنا منصور بن عمار حدثنا بشير بن طلحة الخزامي عن خالد بن دريك عن يعلى بن منبه رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ينشىء الله عز وجل سحابة لأهل النار سوداء مظلمة ويقال يا أهل النار أي شيء تطلبون ؟ فيذكرون بها سحاب الدنيا فيقولون نسأل بارد الشراب فتمطرهم أغلالاً تزيد في أغلالهم وسلاسل تزيد في سلاسلهم وجمراً يلهب النار عليهم» هذا حديث غريب. وقوله تعالى: {ثم قيل لهم أينما كنتم تشركون من دون الله ؟} أي قيل لهم أين الأصنام التي كنتم تعبدونها من دون الله هل ينصرونكم اليوم {قالوا ضلوا عنا} أي ذهبوا فلم ينفعونا {بل لم نكن ندعو من قبل شيئاً} أي جحدوا عبادتهم كقوله جلت عظمته: {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين} ولهذا قال عز وجل: {كذلك يضل الله الكافرين}. وقوله: {ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون} أي تقول لهم الملائكة هذا الذي أنتم فيه جزاء على فرحكم في الدنيا بغير حق ومرحكم وأشركم وبطركم {ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين} أي فبئس المنزل والمقيل الذي فيه الهوان والعذاب الشديد لمن استكبر عن آيات الله واتباع دلائله وحججه, والله أعلم.


    ** فَاصْبِرْ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَـإِمّا نُرِيَنّكَ بَعْضَ الّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفّيَنّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ مِنْهُم مّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مّن لّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ فَإِذَا جَـآءَ أَمْرُ اللّهِ قُضِيَ بِالْحَقّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ
    يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على تكذيب من كذبه من قومه فإن الله تعالى سينجز لك ما وعدك من النصر والظفر على قومك وجعل العاقبة لك ولمن اتبعك في الدنيا والاَخرة {فإما نرينك بعض الذي نعدهم} أي في الدنيا وكذلك وقع فإن الله تعالى أقر أعينهم من كبرائهم وعظمائهم أبيدوا في يوم بدر ثم فتح الله عليه مكة وسائر جزيرة العرب في حياته صلى الله عليه وسلم وقوله عز وجل: {أو نتوفينك فإلينا يرجعون} أي فنذيقهم العذاب الشديد في الاَخرة, ثم قال تعالى مسلياً له: {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم من قصصنا عليك} كما قال جل وعلا في سورة النساء سواء أي منهم من أوحينا إليك خبرهم وقصصهم مع قومهم كيف كذبوهم ثم كانت للرسل العاقبة والنصرة {ومنهم من لم نقصص عليك} وهم أكثر ممن ذكر بأضعاف أضعاف كما تقدم التنبيه على ذلك في سورة النساء ولله الحمد والمنة. وقوله تعالى: {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله} أي ولم يكن لواحد من الرسل أن يأتي قومه بخارق للعادات إلا أن يأذن الله له في ذلك فيدل على صدقه فيما جاءهم به {فإذا جاء أمر الله} وهو عذابه ونكاله المحيط بالمكذبين {قضي بالحق} فينجي المؤمنين, ويهلك الكافرين ولهذا قال عز وجل: {وخسر هنالك المبطلون}.


    ** اللّهُ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعَامَ لِتَرْكَـبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَـبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيّ آيَاتِ اللّهِ تُنكِرُونَ
    يقول تعالى ممتناً على عباده بما خلق لهم من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون, فالإبل تركب وتؤكل وتحلب ويحمل عليها الأثقال في الأسفار والرحال إلى البلاد النائية, والأقطار الشاسعة والبقر تؤكل ويشرب لبنها وتحرث عليها الأرض, والغنم تؤكل ويشرب لبنها والجميع تجز أصوافها وأشعارها وأوبارها فيتخذ منها الأثاث والثياب والأمتعة كما فصل وبين في أماكن تقدم ذكرها في سورة الأنعام وسورة النحل وغير ذلك ولذا قال عز وجل ههنا {لتركبوا منها ومنها تأكلون * ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون} وقوله جل وعلا: {ويريكم آياته} أي حججه وبراهينه في الاَفاق وفي أنفسكم {فأي آيات الله تنكرون} أي لا تقدرون على إنكار شيء من آياته إلا أن تعاندوا وتكابروا.


    ** أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوَاْ أَكْـثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدّ قُوّةً وَآثَاراً فِي الأرْضِ فَمَآ أَغْنَىَ عَنْهُم مّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * فَلَمّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوَاْ آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَكَـفَرْنَا بِمَا كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنّةَ اللّهِ الّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ
    يخبر تعالى عن الأمم المكذبة بالرسل في قديم الدهر وماذا حل بهم من العذاب الشديد مع شدة قواهم وما آثروه في الأرض وجمعوه من الأموال فما أغنى عنهم ذلك شيئاً ولا رد عنهم ذرة من بأس الله وذلك لأنهم لما جاءتهم الرسل بالبينات, والحجج القاطعات, والبراهين الدامغات, لم يلتفتوا إليهم ولا أقبلوا عليهم واستغنوا بما عندهم من العلم في زعمهم عما جاءتهم به الرسل قال مجاهد: قالوا نحن أعلم منهم لن نبعث ولن نعذب وقال السدي: فرحوا بما عندهم من العلم بجهالتهم فأتاهم من بأس الله تعالى ما لا قبل لهم به {وحاق بهم} أي أحاط بهم {ما كانوا به يستهزئون} أي يكذبون ويستبعدون وقوعه {فلما رأوا بأسنا} أي عاينوا وقوع العذاب بهم {قالواآمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين} أي وحدوا الله عز وجل وكفروا بالطاغوت ولكن حيث لا تقال العثرات ولا تنفع المعذرة وهذا كما قال فرعون حين أدركه الغرق: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين} قال الله تبارك وتعالى: {آلاَن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} أي فلم يقبل الله منه لأنه قد استجاب لنبيه موسى عليه الصلاة والسلام دعاءه حين قال: {واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} وهكذا قال تعالى ههنا: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده} أي هذا حكم الله في جميع من تاب عند معاينة العذاب أنه لا يقبل ولهذا جاء في الحديث «إن الله تعالى يقبل توبة العبد مالم يغرغر» أي فإذا غرغر وبلغت الروح الحنجرة وعاين الملك فلا توبة حينئذ ولهذا قال تعالى: {وخسر هنالك الكافرون} آخر سورة غافر ولله الحمد والمنة.


    تمت سورة غافر

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 18:34

    سورة فصلت
    وهي مكية بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** حـمَ * تَنزِيلٌ مّنَ الرّحْمَـَنِ الرّحِيمِ * كِتَابٌ فُصّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِيَ أَكِنّةٍ مِمّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنّنَا عَامِلُونَ
    يقول تعالى: {حم تنزيل من الرحمن الرحيم} يعني القرآن منزل من الرحمن الرحيم كقوله: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق} وقوله: {وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين} وقوله تبارك وتعالى: {كتاب فصلت آياته} أي بينت معانيه وأحكمت أحكامه {قرآناً عربياً} أي في حال كونه قرآناً عربياً بيناً واضحاً فمعانيه مفصلة وألفاظه واضحة غير مشكلة كقوله تعالى: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} أي هو معجز من حيث لفظه ومعناه {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} وقوله تعالى: {لقوم يعلمون} أي إنما يعرف هذا البيان والوضوح العلماء الراسخون {بشيراً ونذيراً} أي تارة يبشر المؤمنين وتارة ينذر الكافرين {فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون} أي أكثر قريش فهم لا يفهمون منه شيئاً مع بيانه ووضوحه {وقالوا قلوبنا في أكنة} أي في غلف مغطاة {مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر} أي صمم عما جئتنا به {ومن بيننا وبينك حجاب} فلا يصل إلينا شيء مما تقوله {فاعمل إننا عاملون} أي اعمل أنت على طريقتك ونحن على طريقتنا لا نتابعك, قال الإمام العالم عبد بن حميد في مسنده: حدثني ابن أبي شيبة حدثنا علي بن مسهر عن الأجلح عن الزيال بن حرملة الأسدي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: اجتمعت قريش يوماً فقالوا انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ولننظر ماذا يرد عليه فقالوا ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة, فقالوا أنت يا أبا الوليد فأتاه عتبة فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنت خير أم عبد المطلب, فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الاَلهة التي عِبْتَ وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك, إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك, فرقت جماعتنا وشتت أمرنا, وعبت ديننا وفضحتنا في العرب, حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً وأن في قريش كاهناً والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى, أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً واحداً, وإن كان بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فرغت» قال نعم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بسم الله الرحمن الرحيم, حم تنزيل من الرحمن الرحيم ـ حتى بلغ ـ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} فقال عتبة حسبك حسبك ما عندك غير هذا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا» فرجع إلى قريش فقالوا ما وراءك ؟ قال ما تركت شيئاً أرى أنكم تكلمون به إلا كلمته, قالوا فهل أجابك ؟ قال لا والذي نصبها بنية ما فهمت شيئاً مما قاله غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود, قالوا ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال ؟ قال لا والله ما فهمت شيئاً مما قال غير ذكر الصاعقة. وهكذا رواه الحافظ أيو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي بكر بن أبي شيبة بإسناده مثله سواه, وقد ساقه البغوي في تفسيره بسنده عن محمد بن فضيل عن الأجلح وهو ابن عبد الله الكندي الكوفي وقد ضعف بعض الشيء عن الزيال بن حرملة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه فذكر الحديث إلى قوله: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش واحتبس عنهم, فقال أبو جهل يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه وما ذاك إلا من حاجة أصابته فانطلقوا بنا إليه فانطلقوا إليه فقال أبو جهل: يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك صبأت إلى محمد وأعجبك طعامه فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد, فغضب عتبة وأقسم أن لا يكلم محمداً أبداً وقال والله لقد علمتم أني من أكثر قريش مالاً ولكني أتيته وقصصت عليه القصة فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر وقرأ السورة إلى قوله تعالى: {فإن أعرضوا فقل أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} فأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب فخشيت أن ينزل بكم العذاب, وهذا السياق أشبه من سياق البزار وأبي يعلى والله تعالى أعلم, وقد أورد هذه القصة الإمام محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة على خلاف هذا النمط فقال حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيداً قال يوماً وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله أن يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا ؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون, فقالوا بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه, فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث علمت من السلطَة في العشيرة والمكان في النسب, وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضا. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل يا أبا الوليد أسمع» قال يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً, وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا, وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الأطباء وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أو كما قال له, حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال: «أفرغت يا أبا الوليد ؟» قال نعم. قال «فاستمع مني» قال أفعل. قال: {بسم الله الرحمن الرحيم, حم تنزيل من الرحمن الرحيم, كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون} ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وهو يقرؤها عليه. فلما سمع عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال «قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك» فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد قال ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة, يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي خلّوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ, فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به. قالوا سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه, قال هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم. وهذا السياق أشبه من الذي قبله, والله أعلم.


    ** قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىَ إِلَيّ أَنّمَآ إِلَـَهُكُمْ إِلَـَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوَاْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ * الّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ بِالاَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ يقول تعالى: {قل} يا محمد لهؤلاء المكذبين المشركين {إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد} لا كما تعبدونه من الأصنام والأنداد والأرباب المتفرقين إنما الله إله واحد {فاستقيموا إليه} أي أخلصوا له العبادة على منوال ما أمركم به على ألسنة الرسل {واستغفروه} أي لسالف الذنوب {وويل للمشركين} أي دمار لهم وهلاك عليهم {الذين لا يؤتون الزكاة} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعني الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله وكذا قال عكرمة وهذا كقوله تبارك وتعالى: {قد أفلح من زكاها, وقد خاب من دساها} وكقوله جلت عظمته: {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى} وقوله عز وجل: {فقل هل لك إلى أن تزكى ؟} والمراد بالزكاة ههنا طهارة النفس من الأخلاق الرذيلة ومن أهم ذلك طهارة النفس من الشرك, وزكاة المال إنما سميت زكاة لأنها تطهره من الحرام وتكون سبباً لزيادته وبركته وكثرة نفعه وتوفيقاً إلى استعماله في الطاعات, وقال السدي {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة} أي يؤدون الزكاة, وقال معاوية بن قرة ليس هم من أهل الزكاة وقال قتادة يمنعون زكاة أموالهم وهذا هو الظاهر عند كثير من المفسرين واختاره ابن جرير وفيه نظر لأن إيجاب الزكاة إنما كان في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة على ما ذكره غير واحد وهذه الاَية مكية اللهم إلا أن يقال لا يبعد أن يكون أصل الصدقة والزكاة وكان مأموراً به في ابتداء البعثة كقوله تبارك وتعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} فأما الزكاة ذات النصب والمقادير فإنما بين أمرها بالمدينة ويكون هذا جمعاً بين القولين كما أن أصل الصلاة كان واجباً قبل طلوع الشمس وقبل غروبها في ابتداء البعثة فلما كان ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة ونصف فرض الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس وفصل شروطها وأركانها وما يتعلق بها بعد ذلك شيئاً فشيئاً والله أعلم. ثم قال جل جلاله بعد ذلك: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون} قال مجاهد وغيره: غير مقطوع ولا مجبوب كقوله تعالى: {ماكثين فيها أبداً} وكقوله عز وجل: {عطاء غير مجذوذ} وقال السدي غير ممنون عليهم وقد رد عليه هذا التفسير بعض الأئمة فإن المنة لله تبارك وتعالى على أهل الجنة قال الله تبارك وتعالى: {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان} وقال أهل الجنة فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلا إن يتغمدني الله برحمة منه وفضل».

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 18:34

    ** فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَآءَتْهُمُ الرّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ اللّهَ قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبّنَا لأنزَلَ مَلاَئِكَةً فَإِنّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَأَمّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُواْ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدّ مِنّا قُوّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِيَ أَيّامٍ نّحِسَاتٍ لّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَلَعَذَابُ الاَخِرَةِ أَخْزَىَ وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ * وَأَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبّواْ الْعَمَىَ عَلَى الْهُدَىَ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * وَنَجّيْنَا الّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يتّقُونَ
    يقول تعالى قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين بما جئتهم به من الحق إن أعرضتم عما جئتكم به من عند الله تعالى فإني أنذركم حلول نقمة الله بكم كما حلت بالأمم الماضين من المكذبين بالمرسلين {صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} أي ومن شاكلهما ممن فعل كفعلهما {إذْ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم} كقوله تعالى: {واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه} أي في القرى المجاورة لبلادهم بعث الله إليهم الرسل يأمرون بعبادة الله وحده لا شريك له ومبشرين ومنذرين, ورأوا ما أحل الله بأعدائه من النقم, وما ألبس أولياءه من النعم, ومع هذا ما آمنوا ولا صدقوا بل كذبوا وجحدوا وقالوا: {لو شاء ربنا لأنزل ملائكة} أي لو أرسل الله رسلاً لكانوا ملائكة من عنده {فإنا بما أرسلتم به} أي أيها البشر {كافرون} أي لا نتبعكم وأنتم بشر مثلنا قال الله تعالى: {فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق} أي بغوا وعتوا وعصوا {وقالوا من أشد منا قوة ؟} أي منوا بشدة تركيبهم وقواهم واعتقدوا أنهم يمتنعون بها من بأس الله {ألم يرواأن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة} أي أفما يتفكرون فيمن يبارزون بالعداوة فإنه العظيم الذي خلق الأشياء وركب فيها قواها الحاملة لها وأن بطشه شديد كما قال عز وجل: {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون} فبارزوا الجبار بالعداوة وجحدوا بآياته وعصوا رسله فلهذا قال: {فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً} قال بعضهم وهي شديدة الهبوب, وقيل الباردة. وقيل هي التي لها صوت والحق أنها متصفة بجميع ذلك فإنها كانت ريحاً شديدة قوية لتكون عقوبتهم من جنس ما اغتروا به من قواهم وكانت باردة شديدة البرد جداً كقوله تعالى: {بريح صرصر عاتية} أي باردة شديدة وكانت ذات صوت مزعج, ومنه سمي النهر المشهور ببلاد المشرق صرصراً لقوة صوت جريه. وقوله تعالى: {في أيام نحسات} أي متتابعات {سبع ليال وثمانية أيام حسوماً} وكقوله: {في يوم نحس مستمر} أي ابتدأوا العذاب في يوم نحس عليهم واستمر بهم هذا النحس {سبع ليال وثمانية أيام حسوماً} حتى أبادهم عن آخرهم واتصل بهم خزي الدنيا بعذاب الاَخرة ولهذا قال: {لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الاَخرة أخزى} أي أشد خزياً لهم {وهم لا ينصرون} أي في الاَخرة كما لم ينصروا في الدنيا وما كان لهم من الله من واق يقيهم العذاب ويدرأ عنهم النكال, وقوله عز وجل: {وأما ثمود فهديناهم} قال ابن عباس رضي الله عنهما وأبو العالية وسعيد بن جبير وقتادة والسدي وابن زيد: بينا لهم, وقال الثوري دعوناهم {فاستحبوا العمى على الهدى} أي بصرناهم وبينا لهم ووضحنا لهم الحق على لسان نبيهم صالح عليه الصلاة والسلام فخالفوه وكذبوه وعقروا ناقة الله تعالى التي جعلها آية وعلامة على صدق نبيهم {فأخذتهم صاعقة العذاب الهون} أي بعث الله عليهم صيحة ورجفة وذلاً وهواناً وعذاباً ونكالاً {بما كانوا يكسبون} أي من التكذيب والجحود {ونجينا الذين آمنوا} أي من بين أظهرهم لم يمسهم سوء ولا نالهم من ذلك ضرر بل نجاهم الله تعالى مع نبيهم صالح عليه الصلاة والسلام بتقواهم لله عز وجل.


    ** وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللّهِ إِلَى النّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتّىَ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتّمْ عَلَيْنَا قَالُوَاْ أَنطَقَنَا اللّهُ الّذِي أَنطَقَ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَـَكِن ظَنَنتُمْ أَنّ اللّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنّكُمُ الّذِي ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ الُخَاسِرِينَ * فَإِن يَصْبِرُواْ فَالنّارُ مَثْوًى لّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مّنَ الْمُعْتَبِينَ
    يقول تعالى: {ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون} أي اذكر لهؤلاء المشركين يوم يحشرون إلى النار يوزعون أي تجمع الزبانية أولهم على آخرهم كما قال تبارك وتعالى: {ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً} أي عطاشاً. وقوله عز وجل: {حتى إذا ما جاءوها} أي وقفوا عليها {شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون} أي بأعمالهم مما قدموه وأخروه لا يكتم منه حرف {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا} أي لاموا أعضاءهم وجلودهم حين شهدوا عليهم فعند ذلك أجابتهم الأعضاء {قالوا أنطقنا الله الذي أَنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة} أي فهو لا يخالف ولا يمانع وإليه ترجعون. قال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا محمد بن عبد الرحيم حدثنا علي بن قادم حدثنا شريك عن عبيد المكتب عن الشعبي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وابتسم فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا تسألوني عن أي شيء ضحكت ؟» قالوا يا رسول الله من أي شيء ضحكت ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة يقول أي ربي أليس وعدتني أن لا تظلمني, قال بلى فيقول فإني لا أقبل علي شاهداً إلا من نفسي فيقول الله تبارك وتعالى أوليس كفى بي شهيداً وبالملائكة الكرام الكاتبين ـ قال ـ فيردد هذا الكلام مراراً ـ قال ـ فيختم على فيه وتتكلم أركانه بما كان يعمل, فيقول بعداً لكن وسحقاً, عنكن كنت أجادل» ثم رواه هو وابن أبي حاتم من حديث أبي عامر الأسدي عن الثوري عن عبيد المكتب عن فضيل بن عمرو عن الشعبي ثم قال لا نعلم رواه عن أنس رضي الله عنه غير الشعبي وقد أخرجه مسلم والنسائي جميعاً عن أبي بكر بن أبي النضر عن عبيد الله بن عبد الرحمن الأشجعي عن الثوري به. ثم قال النسائي لا أعلم أحداً رواه عن الثوري غير الأشجعي وليس كما قال كما رأيت والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا إسماعيل بن علية عن يونس بن عبيد عن حميد بن هلال قال: قال أبو بردة: قال أبو موسى: ويدعى الكافر والمنافق للحساب فيعرض عليه ربه عز وجل عمله فيجحد ويقول أي رب وعزتك لقد كتب عليّ هذا الملك ما لم أعمل فيقول له الملك أما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا ؟ فيقول لا وعزتك أي رب ما عملته قال فإذا فعل ذلك ختم على فيه, قال الأشعري رضي الله عنه: فإني لأحسب أول ما ينطق منه فخذه اليمنى. وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا زهير حدثنا حسن عن ابن لهيعة قال دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله فجحد وخاصم فيقول هؤلاء جيرانك يشهدون عليك فيقول كذبوا فيقول أهلك وعشيرتك فيقول كذبوا فيقول احلفوا فيحلفون ثم يصمتهم الله تعالى وتشهد عليهم ألسنتهم ويدخلهم النار»

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 18:35

    ** وَقَيّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيّنُواْ لَهُم مّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِيَ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ إِنّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ * وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلّكُمْ تَغْلِبُونَ * فَلَنُذِيقَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أَسْوَأَ الّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللّهِ النّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَآءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُون * وَقَال الّذِينَ كَفَرُواْ رَبّنَآ أَرِنَا اللّذَيْنِ أَضَلاّنَا مِنَ الْجِنّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ
    يذكر تعالى أنه هو الذي أضل المشركين وأن ذلك بمشيئته وكونه وقدرته وهو الحكيم في أفعاله بما قيض لهم من القرناء من شياطين الإنس والجن {فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم} أي حسنوا لهم أعمالهم في الماضي وبالنسبة إلى المستقبل فلم يروا أنفسهم إلا محسنين كما قال تعالى: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون}. وقوله تعالى: {وحق عليهم القول} أي كلمة العذاب كما حق على أمم قد خلت من قبلهم ممن فعل كفعلهم من الجن والإنس {إنهم كانوا خاسرين} أي استووا هم وإياهم في الخسار والدمار. وقوله تعالى: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن} أي تواصوا فيما بينهم أن لا يطيعوا للقرآن ولا ينقادوا لأوامره {والغوا فيه} أي إذا تلي لا تسمعوا له كما قال مجاهد والغوا فيه يعني بالمكاء والصفير والتخليط في المنطق على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن قريش تفعله, وقال الضحاك عن ابن عباس {والغوا فيه} عيبوه, وقال قتادة: اجحدوا به وأنكروه وعادوه{لعلكم تغلبون} هذا حال هؤلاء الجهلة من الكفار ومن سلك مسلكهم عند سماع القرآن وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بخلاف ذلك فقال تعالى: {وإذا قريء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} ثم قال عز وجل منتصراً للقرآن ومنتقماً ممن عاداه من أهل الكفران {فلنذيقن الذين كفروا عذاباً شديداً} أي في مقابلة ما اعتمدوه في القرآن وعند سماعهم {ولنجرينهم أسوأ الذي كانوا يعملون} أي بشر أعمالهم وسيء أفعالهم {ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون * وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين} قال سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن مالك بن الحصين الفزاري عن أبيه عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى: {اللذين أضلانا} قال إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه. وهكذا روى العوفي عن علي رضي الله عنه مثل ذلك. وقال السدي عن علي رضي الله عنه فإبليس يدعو به كل صاحب شرك وابن آدم يدعو به كل صاحب كبيرة فإبليس الداعي إلى كل شر من شرك فمادونه وابن آدم الأول كما ثبت في الحديث «ما قتلت نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل». وقولهم: {نجعلهما تحت أقدامنا} أي أسفل منا في العذاب ليكونا أشد عذاباً منا ولهذا قالوا {ليكونا من الأسفلين} أي في الدرك الأسفل من النار كما تقدم في الأعراف في سؤال الأتباع من الله تعالى أن يعذب قادتهم أضعاف عذابهم {قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون} أي أنه تعالى قد أعطى كلاً منهم ما يستحقه من العذاب والنكال بحسب عمله وإفساده كما قال تعالى {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كانوا يفسدون}.


    ** إِنّ الّذِينَ قَالُواْ رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنّةِ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفِي الاَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِيَ أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدّعُونَ * نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رّحِيمٍ
    يقول تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} أي أخلصوا العمل لله وعملوا بطاعة الله تعالى على ما شرع الله لهم قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا الجراح حدثنا سلم بن قتيبة أبو قتيبة الشعيري حدثنا سهيل بن أبي حزم حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاَية: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} قد قالها ناس ثم كفر أكثرهم فمن قالها حتى يموت فقد استقام عليها, وكذا رواه النسائي في تفسيره والبزار وابن جرير عن عمرو بن علي الفلاس عن سلم بن قتيبة به. وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن الفلاس به. ثم قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد عن سعيد بن نمران قال: قرأت عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه هذه الاَية: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} قال هم الذين لم يشركوا بالله شيئاً ثم روى من حديث الأسود بن هلال قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ما تقولون في هذه الاَية: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} قال فقالوا: {ربنا الله ثم استقاموا} من ذنب فقال: لقد حملتموه على غير المحمل قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلم يلتفتوا إلى إله غيره. وكذا قال مجاهد وعكرمة والسدي وغير واحد وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبد الله الظهراني أخبرنا حفص بن عمر العدليّ عن الحكم بن أبان عن عكرمة قال سئل ابن عباس رضي الله عنهما أي آية في كتاب الله تبارك وتعالى أرخص ؟ قال قوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} على شهادة أن لا إله إلا الله. وقال الزهري: تلا عمر رضي الله عنه هذه الاَية على المنبر ثم قال استقاموا والله لله بطاعته ولم يروغوا روغان الثعالب.
    وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما {قالوا ربنا الله ثم استقاموا} على أداء فرائضه, وكذا قال قتادة: قال وكان الحسن يقول اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة, وقال أبو العالية {ثم استقاموا} أخلصوا له الدين والعمل.
    وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم حدثنا يعلى بن عطاء عن عبد الله بن سفيان الثقفي عن أبيه أن رجلاً قال: يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحداً بعدك قال صلى الله عليه وسلم: «قل آمنت بالله ثم استقم» قلت فما أتقي ؟ فأومأ إلى لسانه. ورواه النسائي من حديث شعبة عن يعلى بن عطاء به. ثم قال أحمد: حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا إبراهيم بن سعد حدثني ابن شهاب عن محمد بن عبد الرحمن بن ماعز الغامدي عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به قال صلى الله عليه وسلم «قل ربي الله ثم استقم» قلت: يا رسول الله ما أكثر ما تخاف علي ؟ فأخذ رسول الله بطرف لسان نفسه ثم قال: «هذا» وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه من حديث الزهري به وقال الترمذي حسن صحيح. وقد أخرجه مسلم في صحيحه والنسائي من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك قال صلى الله عليه وسلم: «قل آمنت بالله ثم استقم» وذكر تمام الحديث. وقوله تعالى: {تتنزل عليهم الملائكة} قال مجاهد والسدي وزيد بن أسلم وابنه: يعني عند الموت قائلين {أن لا تخافوا} قال مجاهدوعكرمة وزيد بن أسلم أي مما تقدمون عليه من أمر الاَخرة {ولا تحزنوا} على ما خلفتموه من أمر الدنيا من ولد وأهل ومال أو دين فإنا نخلفكم فيه {وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} فيبشرونهم بذهاب الشر وحصول الخير: وهذا كما جاء في حديث البراء رضي الله عنه قال: «إن الملائكة تقول لروح المؤمن اخرجي أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان» وقيل إن الملائكة تتنزل عليهم يوم خروجهم من قبورهم حكاه ابن جرير عن ابن عباس والسدي. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا عبد السلام بن مطهر حدثنا جعفر بن سليمان قال سمعت ثابتاً قرأ سورة حم السجدة حتى بلغ {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة} فوقف فقال بلغنا أن العبد المؤمن حين يبعثه الله تعالى من قبره يتلقاه الملكان اللذان كانا معه في الدنيا فيقولان لا تخف ولا تحزن {وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} قال فيضمن من الله تعالى خوفه ويقر عينه فما عظيمة يخشى الناس يوم القيامة إلا هي للمؤمن قرة عين لما هداه الله تبارك وتعالى ولما كان يعمل في الدنيا وقال زيد بن أسلم: يبشرونه عند موته وفي قبره وحين يبعث. رواه ابن أبي حاتم وهذا القول يجمع الأقوال كلها وهو حسن جداً وهو الواقع. وقوله تبارك وتعالى: {نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الاَخرة} أي تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار نحن كنا أولياءكم في الحياة الدنيا نسددكم ونوفقكم ونحفظكم ونوفقكم ونحفظكم بأمر الله وكذلك نكون معكم في الاَخرة نؤنس منكم الوحشة في القبور وعند النفخة في الصور ونؤمنكم يوم البعث والنشور ونجاوز بكم الصراط المستقيم ونوصلكم إلى جنات النعيم {ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم} أي في الجنة من جميع ما تختارون مما تشتهيه النفوس وتقربه العيون {ولكم فيها ما تدعون} أي مهما طلبتم وجدتم وحضر بين أيديكم كما اخترتم {نزلاً من غفور رحيم} أي ضيافة وعطاء من غفور لذنوبكم رحيم بكم رؤوف حيث غفر وستر ورحم ولطف. وقد ذكر ابن أبي حاتم ههنا حديث سوق الجنة عند قوله تعالى: {ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلاً من غفور رحيم} فقال: حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين أبي)سعيد حدثنا الأوزاعي حدثني حسان بن عطية عن سعيد بن المسيب أنه لقي أبا هريرة رضي الله عنه فقال أبو هريرة رضي الله عنه أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة فقال سعيد: أو فيها سوق ؟ فقال: نعم أخبرني رسول الله أن أهل الجنة إذا دخلوا فيها ونزلوا بفضل أعمالهم فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون الله عز وجل ويبرز لهم عرشه ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة ويوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من ياقوت ومنابر من ***جد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ويجلس أدناهم وما فيهم دنيء على كثبان المسك والكافور ما يرون أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلساً. قال أبو هريرة رضي الله عنه قلت يا رسول الله وهل نرى ربنا, قال صلى الله عليه وسلم: «نعم, هل تمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر» قلنا لا , قال صلى الله عليه وسلم: «فكذلك لا تمارون في رؤية ربكم تعالى ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره الله محاضرة حتى إنه ليقول للرجل منهم يا فلان بن فلان أتذكر يوم عملت كذا وكذا يذكره غدراته في الدنيا ـ أي رب أفلم تغفر لي, فيقول بلى, فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه ـ قال ـ فبينما هم على ذلك غشيتهم سحابة من فوقهم فأمطرت عليهم طيباً لم يجدوا مثل ريحه شيئاً قط ـ قال ـ ثم يقول ربنا عز وجل قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة وخذوا مااشتهيتم, قال فنأتي سوقاً قد حفت به الملائكة, فيها ما لم تنظر العيون إلى مثله ولم تسمع الاَذان ولم يخطر على القلوب قال فيحمل لنا ما اشتهينا ليس يباع فيه شيء ولا يشترى وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضاً. قال فيقبل الرجل ذو المنزلة الرفيعة فيلقى من هو دونه. وما فيهم دنيء فيروعه ما يرى عليه من اللباس فما ينقضي آخر حديثه حتى يتمثل عليه أحسن منه وذلك لأنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها ثم ننصرف إلى منازلنا فيتلقانا أزواجنا فيقلن مرحباً وأهلاً بحبيبنا لقد جئت وإن بك من الجمال والطيب أفضل مما فارقتنا عليه فيقول إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار تبارك وتعالى وبحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا به» وقد رواه الترمذي في صفة الجنة من جامعه عن محمد بن إسماعيل عن هشام بن عمار ورواه ابن ماجة عن هشام بن عمار به نحوه ثم قال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه, .

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 18:35

    ** وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمّن دَعَآ إِلَى اللّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السّيّئَةُ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقّاهَا إِلاّ الّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقّاهَآ إِلاّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ * وَإِمّا يَنزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ
    يقول عز وجل: {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله} أي دعا عباد الله إليه {وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين} أي هو في نفسه مهتد بما يقوله فنفعه لنفسه ولغيره لازم ومتعد وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه وينهون عن المنكر ويأتونه بل يأتمر بالخير ويترك الشر ويدعو الخلق إلى الخالق تبارك وتعالى وهذه عامة في كل من دعا إلى الخير وهو في نفسه مهتد ورسول الله صلى الله عليه وسلم أولى الناس بذلك كما قال محمد بن سيرين والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وقيل المراد بها المؤذنون الصلحاء كما ثبت في صحيح مسلم «المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة» وفي السنن مرفوعاً «الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن فأرشد الله الأئمة وغفر للمؤذنين» وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن الهروي حدثنا غسان قاضي هراة وقال أبو زرعة: حدثنا إبراهيم بن طهمان عن مطر عن الحسن عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: «سهام المؤذنين عند الله تعالى يوم القيامة كسهام المجاهدين وهو بين الاَذان والإقامة كالمتشحط في سبيل الله تعالى في دمه» قال: وقال ابن مسعود رضي الله عنه لو كنت مؤذناً ما باليت أن لا أحج ولا أعتمر ولا أجاهد قال: وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو كنت مؤذناً لكمل أمري وما باليت أن لا أنتصب لقيام الليل ولا لصيام النهار سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم اغفر للمؤذنين» ثلاثاً, قال: فقلت يا رسول الله تركتنا ونحن نجتلد على الأذان بالسيوف قال صلى الله عليه وسلم: «كلا يا عمر إنه سيأتي على الناس زمان يتركون الأذان على ضعافهم وتلك لحوم حرمها الله عز وجل على النار لحوم المؤذنين» قال وقالت عائشة رضي الله عنها ولهم هذه الاَية {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين} قالت: فهو المؤذن إذا قال حي على الصلاة فقد دعا إلى الله وهكذا قال ابن عمر رضي الله عنهما وعكرمة إنها نزلت في المؤذنين وقد ذكر البغوي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قال في قوله عز وجل وعمل صالحاً يعني صلاة ركعتين بين الأذان والإقامة. ثم أورد البغوي حديث عبد الله بن المغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بين كل أذانين ـ صلاة ـ ثم قال في الثالثة ـ لمن شاء» وقد أخرجه الجماعة في كتبهم من حديث عبد الله بن بريدة عنه وحديث الثوري عن زيد العمي عن أبي إياس معاوية بن قرة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال الثوري: لا أراه إلا قد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم «الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة» ورواه أبو داود والترمذي والنسائي في اليوم والليلة كلهم من حديث الثوري به وقال الترمذي: هذا حديث حسن, ورواه النسائي أيضاً من حديث سليمان التيمي عن قتادة عن أنس به. والصحيح أن الاَية عامة في المؤذنين وفي غيرهم فأما حال نزول هذه الاَية فإنه لم يكن الأذان مشروعاً بالكلية لأنها مكية والأذان إنما شرع بالمدينة بعد الهجرة حين أريه عبد الله بن عبد ربه الأنصاري رضي الله عنه في منامه فقصه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يلقيه على بلال رضي الله عنه فإنه أندى صوتاً كما هو مقرر في موضعه فالصحيح إذن أنها عامة كما قال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن البصري أنه تلا هذه الاَية {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين} فقال هذا حبيب الله هذا ولي الله هذا صفوة الله هذا خيرة الله هذا أحب أهل الأرض إلى الله أجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته وعمل صالحاً في إجابته وقال إنني من المسلمين هذا خليفة الله, وقوله تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة} أي فرق عظيم بين هذه وهذه {ادفع بالتي هي أحسن} أي من أساء إليك فادفعه عنك بالإحسان إليه كما قال عمر رضي الله عنه: ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه.
    وقوله عز وجل: {فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} وهو الصديق إذا أحسنت إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إليه إلى مصافاتك ومحبتك والحنو عليك حتى يصير كأنه ولي لك حميم أي قريب إليك من الشفقة عليك والإحسان إليك, ثم قال عز وجل: {وما يلقاها إلا الذين صبروا} أي وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها إلا من صبر على ذلك فإنه يشق على النفوس {وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} أي ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والاَخرة, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الاَية: أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب والحلم عند الجهل والعفو عند الإساءة فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم. وقوله تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله} أي أن شيطان الإنس ربما ينخدع بالإحسان إليه فأما شيطان الجن فإنه لا حيلة فيه إذا وسوس إلا الاستعاذة بخالقة الذي سلطه عليك فإذا استعذت بالله والتجأت إليه كفه عنك ورد كيده, وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يقول: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه», وقد قدمنا أن هذا المقام لا نظير له في القرآن إلا في سورة الأعراف عند قوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين * وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم} وفي سورة المؤمنين عند قوله: {ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون * وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين * وأعوذ بك رب أن يحضرون}.


    ** وَمِنْ آيَاتِهِ اللّيْلُ وَالنّهَارُ وَالشّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُواْ لِلّهِ الّذِي خَلَقَهُنّ إِن كُنتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ * فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ فَالّذِينَ عِندَ رَبّكَ يُسَبّحُونَ لَهُ بِاللّيْلِ وَالنّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزّتْ وَرَبَتْ إِنّ الّذِيَ أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَىَ إِنّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
    يقول تعالى منبهاً خلقه على قدرته وأنه الذي لا نظير له على ما يشاء قادر {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر} أي أنه خلق الليل بظلامه والنهار بضيائه وهما متعاقبان لا يفترقان, والشمس نورها وإشراقها والقمر وضياءه وتقدير منازله في فلكه واختلاف سيره في سمائه ليعرف باختلاف سيره وسير الشمس مقادير الليل والنهار والجمع والشهور والأعوام, ويتبين حلول الحقوق وأوقات العبادات والمعاملات. ثم لما كان الشمس والقمر أحسن الأجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلي نبه تعالى على أنهما مخلوقان عبدان من عبيده تحت قهره وتسخيره فقال: {لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون} أي ولا تشركوا به فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره فإنه لا يغفر أن يشرك به ولهذا قال تعالى: {فإن استكبروا}أي عن إفراد العبادة له وأبوا إلا أن يشركوا معه غيره {فالذين عند ربك} يعني الملائكة {يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون} كقوله عز وجل: {فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين}. وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا سفيان يعني ابن وكيع حدثنا أبي عن ابن أبي ليلى عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الليل ولا النهار ولا الشمس ولا القمر ولا الرياح فإنها ترسل رحمة لقوم وعذاباً لقوم». وقوله: {ومن آياته} أي على قدرته على إعادة الموتى {أنك ترى الأرض خاشعة} أي هامدة لا نبات فيها بل هي ميتة {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} أي أخرجت من جميع ألوان الزروع والثمار {إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير}.


    ** إِنّ الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيَ آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يُلْقَىَ فِي النّارِ خَيْرٌ أَم مّن يَأْتِيَ آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِالذّكْرِ لَمّا جَآءَهُمْ وَإِنّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ * مّا يُقَالُ لَكَ إِلاّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنّ رَبّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ
    قوله تبارك وتعالى: {إن الذين يلحدون في آياتنا}قال ابن عباس: الإلحاد وضع الكلام على غير مواضعه. وقال قتادة وغيره هو الكفر والعناد, وقوله عز وجل: {لا يخفون علينا} فيه تهديد شديد ووعيد أكيد أي إنه تعالى عالم بمن يلحد في آياته وأسمائه وصفاته وسيجزيه على ذلك بالعقوبة والنكال ولهذا قال تعالى: {أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة ؟} أي أيستوي هذا وهذا ؟ لا يستويان. ثم قال عز وجل تهديداً للكفرة: {اعملوا ما شئتم} قال مجاهد والضحاك وعطاء الخراساني {اعملوا ما شئتم} وعيد أي من خير أو شر إنه عالم بكم وبصير بأعمالكم ولهذا قال: {إنه بما تعملون بصير} ثم قال جل جلاله: {إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم} قال الضحاك والسدي وقتادة وهو القرآن {وإنه لكتاب عزيز} أي منيع الجناب لا يرام أن يأتي أحد بمثله {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} أي ليس للبطلان إليه سبيل لأنه منزل من رب العالمين ولهذا قال: {تنزيل من حكيم حميد} أي حكيم في أقواله وأفعاله حميد بمعنى محمود أي في جميع ما يأمر به وينهى عنه الجميع محمودة عواقبه وغاياته. ثم قال عز وجل: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} قال قتادة والسدي وغيرهما ما يقال لك من التكذيب إلا كما قد قيل للرسل من قبلك فكما كذبت كذبوا وكما صبروا على أذى قومهم لهم فاصبر أنت على أذى قومك لك. وهذا اختيار ابن جرير ولم يحك هو ولا ابن أبي حاتم غيره وقوله تعالى: {إن ربك لذو مغفرة} أي لمن تاب إليه {وذو عقاب أليم} أي لمن استمر على كفره وطغيانه وعناده وشقاقه ومخالفته, قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال نزلت هذه الاَية {إن ربك لذو مغفرة} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحداً العيش, ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد».

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 18:36

    وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لّقَالُواْ لَوْلاَ فُصّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيّ وَعَرَبِيّ قُلْ هُوَ لِلّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيَ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَـَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مّكَانٍ بَعِيدٍ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رّبّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنّهُمْ لَفِي شَكّ مّنْهُ مُرِيبٍ
    لما ذكر تعالى القرآن وفصاحته وبلاغته وإحكامه في لفظه ومعناه ومع هذا لم يؤمن به المشركون نبه على أن كفرهم به كفر عناد وتعنت كما قال عز وجل: {ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين} وكذلك لو أنزل القرآن كله بلغة العجم لقالوا على وجه التعنت والعناد {لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي} أي لقالوا هلا أنزل مفصلاً بلغة العرب ولأنكروا ذلك فقالوا أعجمي وعربي أي كيف ينزل كلام أعجمي على مخاطب عربي لا يفهمه ؟ هكذا روي هذا المعنى عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي وغيرهم ؟ وقيل المراد بقولهم لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي أي هل أنزل بعضها بالأعجمي وبعضها بالعربي ؟ هذا قول الحسن البصري وكان يقرؤها كذلك بلا استفهام في قوله أعجمي وهو رواية عن سعيد بن جبير وهو في التعنت والعناد أبلغ ثم قال عز وجل: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء} أي قل يا محمد هذا القرآن لمن آمن به هدى لقلبه وشفاء لما في الصدور من الشكوك والريب {والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر} أي لا يفهمون ما فيه {وهو عليهم عمى} أي لا يهتدون إلى ما فيه من البيان كما قال سبحانه وتعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا} {أولئك ينادون من مكان بعيد} قال مجاهد يعني بعيد من قلوبهم قال ابن جرير معناه كأن من يخاطبهم يناديهم من مكان بعيد لا يفهمون ما يقول, وقلت وهذا كقوله تعالى: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون} وقال الضحاك ينادون يوم القيامة بأشنع أسمائهم. وقال السدي كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه: جالساً عند رجل من المسلمين يقضي إذ قال: يا لبيكاه فقال له عمر رضي الله عنه لم تلبي, هل رأيت أحداً أو دعاك أحد ؟ فقال دعاني داع من وراء البحر فقال عمر رضي الله عنه أولئك ينادون من مكان بعيد رواه ابن أبي حاتم. وقوله تبارك وتعالى: {ولقدآتينا موسى الكتاب فاختلف فيه} أي كذب وأوذي {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} {ولو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى} بتأخير الحساب إلى يوم المعاد {لقضي بينهم} أي لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً {وإنهم لفي شك منه مريب} أي وما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم لما قالوا بل كانوا شاكين فيما قالوه غير محققين لشيء كانوا فيه, هكذا وجهه ابن جرير وهو محتمل, والله أعلم.


    ** مّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبّكَ بِظَلاّمٍ لّلْعَبِيدِ * إِلَيْهِ يُرَدّ عِلْمُ السّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىَ وَلاَ تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي قَالُوَاْ آذَنّاكَ مَا مِنّا مِن شَهِيدٍ * وَضَلّ عَنْهُم مّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنّواْ مَا لَهُمْ مّن مّحِيصٍ
    يقول تعالى: {من عمل صالحاً فلنفسه} اي إنما يعود نفع ذلك على نفسه {ومن أساء فعليها} أي إنما يرجع وبال ذلك عليه {وما ربك بظلام للعبيد} أي لا يعاقب أحداً إلا بذنبه ولا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه وإرسال الرسول إليه ثم قال جل وعلا: {إليه يرد علمُ الساعة} أي لا يعلم ذلك أحد سواه كما قال محمد صلى الله عليه وسلم وهو سيد البشر لجبريل عليه الصلاة والسلام وهو من سادات الملائكة حين سأله عن الساعة فقال «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» وكما قال عز وجل: {إلى ربك منتهاها} وقال جل جلاله: {لا يجليها لوقتها إلا هو} قوله تبارك وتعالى: {وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه} أي الجميع بعلمه لايعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وقد قال سبحانه وتعالى: {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها} وقال جلت عظمته: {يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار} وقال تعالى: {وما يعمر من معمر ولا ينقص عمره من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير} وقوله جل وعلا: {ويوم يناديهم أين شركائي ؟} أي يوم القيامة ينادي الله المشركين على رؤوس الخلائق أين شركائي الذين عبدتموهم معي {قالوا آذناك} أي أعلمناك {ما منا من شهيد} أي ليس أحد منا يشهد اليوم أن معك شريكاً {وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل} أي ذهبوا فلم ينفعوهم {وظنوا ما لهم من محيص} أي وظن المشركون يوم القيامة وهذا بمعنى اليقين {ما لهم من محيص} أي لا محيد لهم عن عذاب الله كقوله تعالى: {ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفاً}.


    ** لاّ يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ وَإِن مّسّهُ الشّرّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مّنّا مِن بَعْدِ ضَرّآءَ مَسّتْهُ لَيَقُولَنّ هَـَذَا لِي وَمَآ أَظُنّ السّاعَةَ قَآئِمَةً وَلَئِن رّجّعْتُ إِلَىَ رَبّيَ إِنّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىَ فَلَنُنَبّئَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنّهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسّهُ الشّرّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ
    يقول تعالى لا يمل الإنسان من دعاء ربه بالخير وهو المال وصحة الجسم وغير ذلك فإن مسه الشر وهو البلاء أو الفقر {فيئوس قنوط} أي يقع في ذهنه أنه لا يتهيأ له بعد هذا خير {ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي} أي إذا أصابه خير ورزق بعد ما كان في شدة ليقولن هذا لي إني كنت أستحقه عند ربي {وما أظن الساعة قائمة} أي يكفر بقيام الساعة أي لأجل أنه خول نعمة يبطر ويفخر ويكفر كما قال تعالى: {كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى} {ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى} أي ولئن كان ثم معاد فليحسنن إلي ربي كما أحسن إلي في هذه الدار, يتمنى على الله عز وجل مع إساءته العمل وعدم اليقين قال الله تبارك وتعالى: {فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ} يتهدد تعالى من كان هذا عمله واعتقاده بالعقاب والنكال ثم قال تعالى: {وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه} أي أعرض عن الطاعة واستكبر عن الانقياد لأوامر الله عز وجل كقوله جل جلاله: {فتولى بركنه} {وإذا مسه الشر} أي الشدة {فذو دعاء عريض} أي يطيل المسألة في الشيء الواحد فالكلام العريض ما طال لفظه وقل معناه والوجيز عكسه وهو ما قل ودل وقد قال تعالى: {وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه} الاَية.


    ** قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللّهِ ثُمّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلّ مِمّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الاَفَاقِ وَفِيَ أَنفُسِهِمْ حَتّىَ يَتَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُ الْحَقّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلاَ إِنّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مّن لّقَآءِ رَبّهِمْ أَلاَ إِنّهُ بِكُلّ شَيْءٍ مّحِيطُ
    يقول تعالى: {قل} يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين بالقرآن {أرأيتم إن كان} هذا القرآن {من عند الله ثم كفرتم به ؟} أي كيف ترون حالكم عند الذي أنزله على رسوله ؟ ولهذا قال عز وجل: {من أضل ممن هو في شقاق بعيد ؟} أي في كفر و عناد ومشاقة للحق و مسلك بعيد من الهدى ثم قال جل جلاله: {سنريهم آياتنا في الاَفاق وفي أنفسهم} أي سنظهر لهم دلالاتنا وحججنا على كون القرآن حقاً منزلا من عند الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلائل خارجية {في الاَفاق} من الفتوحات وظهور الإسلام على الأقاليم وسائر الأديان قال مجاهد والحسن والسدي: ودلائل في أنفسهم قالوا: وقعة بدر وفتح مكة ونحو ذلك من الوقائع التي حلت بهم نصر الله فيها محمداً صلى الله عليه وسلم وصحبه وخذل فيها الباطل وحزبه ويحتمل أن يكون المراد من ذلك ما الإنسان مركب منه وفيه وعليه من المواد والأخلاط والهيئات العجيبة كما هو مبسوط في علم التشريح الدال على حكمة الصانع تبارك وتعالى وكذلك ما هو مجبول عليه من الأخلاق المتباينة من حسن وقبح وغير ذلك وما هو متصرف فيه تحت الأقدار التي لا يقدر بحوله وقوته وحيله وحذره أن يجوزها ولا يتعداها كما أنشده ابن أبي الدنيا في كتابه التفكر والاعتبار عن شيخه أبي جعفر القرشي حيث قال وأحسن المقال:
    وإذا نظرت تريد معتبرافانظر إليك ففيك معتبرأنت الذي تمسي وتصبح فيالدنيا وكل أموره عبرأنت المصرف كان في صغرثم استقل بشخصك الكبرأنت الذي تنعاه خلقتهينعاه منه الشعر والبشرأنت الذي تعطي وتسلب لاينجيه من أن يسلب الحذرأنت الذي لا شيء منه لهوأحق منه بماله القدر
    وقوله تعالى: {حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} أي كفى بالله شهيداً على أفعال عباده وأقوالهم وهو يشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق فيما أخبر به عنه كما قال: {لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه} الاَية. وقوله تعالى: {ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم} أي في شك من قيام الساعة ولهذا لا يتفكرون فيه ولا يعملون له ولا يحذرون منه بل هو عندهم هدر لا يعبأون به وهو كائن لا محالة وواقع لا ريب فيه قال ابن أبي الدنيا: حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا خلف بن تميم حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا سعيد الأنصاري قال: إن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد أيها الناس فإني لم أجمعكم لأمر أحدثه فيكم, ولكن فكرت في هذا الأمر الذي أنتم إليه صائرون فعلمت أن المصدق بهذا الأمر أحمق والمكذب به هالك, ثم نزل. ومعنى قوله رضي الله عنه إن المصدق به أحمق أي لأنه لا يعمل له عمل مثله ولا يحذر منه ولا يخالف من هوله وهو ذلك مصدق به موقن بوقوعه وهو مع ذلك يتمادى في لعبه وغفلته وشهواته وذنوبه فهو أحمق بهذا الاعتبار والأحمق في اللغة ضعيف العقل, وقوله والمكذب به هالك هذا واضح, والله أعلم. ثم قال تعالى مقرراً أنه على كل شيء قدير وبكل شيء محيط وإقامة الساعة لديه يسير سهل عليه تبارك وتعالى: {ألا إنه بكل شيء محيط} أي المخلوقات كلها تحت قهره وفي قبضته وتحت طي علمه وهو المتصرف فيها كلها بحكمه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن لا إله إلا هو.


    تمت سورة فصلت

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 18:36

    سورة الشورى
    وهي مكية بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

    ** حـمَ * عَسَقَ * كَذَلِكَ يُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَلِيّ العَظِيمُ * تَكَادُ السّمَاوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِن فَوْقِهِنّ وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرْضِ أَلاَ إِنّ اللّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ * وَالّذِينَ اتّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ اللّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ
    قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة. وقد روى ابن جرير ههنا أثراً غريباً عجيباً منكراً فقال: أخبرنا أحمد بن زهير حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج عن أرطأة بن المنذر قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال له وعنده حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه: أخبرني عن تفسير قول الله تعالى: {حم, عسق} قال فأطرق ثم أعرض عنه ثم كرر مقالته فأعرض عنه فلم يجبه بشيء وكره مقالته, ثم كررها الثالثة فلم يحر إليه شيئاً فقال له حذيفة رضي الله عنه: أنا أنبئك بها قد عرفت لم كرهها ونزلت في رجل من أهل بيته يقال له عبد الإله أو عبد الله ينزل على نهر من أنهار المشرق تبنى عليه مدينتان يشق النهر بينهما شقاً فإذا أذن الله تبارك وتعالى في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدتهم بعث الله عز وجل على إحداها ناراً ليلاً فتصبح سوداء مظلمة وقد احترقت كأنها لم تكن مكانها وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت ؟ فما هو إلا بياض يومها ذلك حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم ثم يخسف الله بها وهم جميعاً فذلك قوله تعالى: {حم, عسق} يعني عزيمة من الله تعالى وفتنة وقضاء حم عين يعني عدلاً منه سين: يعني سيكون ق: يعني واقع بهاتين المدينتين وأغرب منه ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في الجزء الثاني من مسند ابن عباس رضي الله عنه عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ولكن إسناده ضعيف جداً ومنقطع فإنه قال: حدثنا أبو طالب عبد الجبار بن عاصم حدثنا أبو عبد الله الحسن بن يحيى الخشني الدمشقي عن أبي معاوية قال: صعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه المنبر فقال: أيها الناس هل سمع منكم أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر {حم, عسق} فوثب ابن عباس رضي الله عنه فقال أنا, قال حم اسم من أسماء الله تعالى, قال فعين ؟ قال عاين المولون عذاب يوم بدر, قال فسين ؟ قال سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون, قال فقاف ؟ فسكت فقام أبو ذر ففسر كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وقال قاف قارعة من السماء تغشى الناس. وقوله عز وجل: {كذلك يوحي إليك, وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم} أي كما أنزل إليك هذا القرآن كذلك أنزل الكتب والصحف على الأنبياء قبلك. وقوله تعالى: { الله العزيز} أي في انتقامه {الحكيم} في أقواله وأفعاله.
    قال الإمام مالك رحمه الله عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال, وأحياناً يأتيني الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول» قالت عائشة رضي الله عنها فلقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه صلى الله عليه وسلم ليتفصد عرقاً. أخرجاه في الصحيحين ولفظه للبخاري. وقد رواه الطبراني عن عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه عن عامر بن صالح عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها عن الحارث بن هشام أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف ينزل عليك الوحي ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «في مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت ما قال ـ وقال ـ وهو أشده علي ـ قال ـ وأحياناً يأتيني الملك فيتمثل لي فيكلمني فأعي ما يقول». وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عمرو بن الوليد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله هل تحس بالوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك فما من مرة يوحى إلي إلا ظننت أن نفسي تقبض» تفرد به أحمد, وقد ذكرنا كيفية إتيان الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول شرح البخاري بما أغنى عن إعادته ههناو لله الحمد والمنة. وقوله تبارك وتعالى: {له ما في السموات وما في الأرض} أي الجميع عبيد له وملك له تحت قهره وتصريفه {وهو العلي العظيم} كقوله تعالى: {الكبير المتعال} {وهو العلي الكبير} والاَيات في هذا كثيرة. وقوله عز وجل: {تكاد السموات يتفطرن من فوقهن} وقال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك وقتادة والسدي وكعب الأحبار أي فرقاً من العظمة {والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض} كقوله جل وعلا: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً} وقوله جل جلاله: {ألا إن الله هو الغفور الرحيم} إعلام بذلك وتنويه به, وقوله سبحانه وتعالى: {والذين اتخذوا من دونه أولياء} يعني المشركين {الله حفيظ عليهم} أي شهيد على أعمالهم يحصيها ويعدها عداً, وسيجزيهم بها أوفر الجزاء {وما أنت عليهم بوكيل} أي إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل.


    ** وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لّتُنذِرَ أُمّ الْقُرَىَ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنّةِ وَفَرِيقٌ فِي السّعِيرِ * وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَلَـَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظّالِمُونَ مَا لَهُمْ مّن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ
    يقول تعالى وكما أوحينا إلى الأنبياء قبلك {أوحينا إليك قرآناً عربياً} أي واضحاً جلياً بيناً {لتنذر أم القرى} وهي مكة {ومن حولها} أي من سائر البلاد شرقاً وغرباً, وسميت مكة أم القرى لأنها أشرف من سائر البلاد لأدلة كثيرة مذكورة في مواضعها, ومن أوجز ذلك وأدله ما قال الإمام أحمد: حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب عن الزهري حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: إن عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو واقف بالحزورة في سوق مكة «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت» هكذا رواية الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث الزهري به وقال الترمذي حسن صحيح. وقوله عز وجل: {وتنذر يوم الجمع} وهو يوم القيامة يجمع الله الأولين والاَخرين في صعيد واحد وقوله تعالى: {لا ريب فيه} أي لا شك في وقوعه وأنه كائن لا محالة, وقوله جل وعلا: {فريق في الجنة وفريق في السعير} كقوله تعالى: {يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن} أي يغبن أهل الجنة أهل النار, وكقوله عز وجل: {إن في ذلك لاَية لمن خاف عذاب الاَخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود * وما نؤخره إلا لأجل معدود * يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد} قال الإمام أحمد حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا ليث حدثني أبو قبيل المعافري عن شفي الأصبحي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال: «أتدرون ما هذان الكتابان ؟» قلنا لا إلا أن تخبرنا يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم للذي في يمينه: «هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ـ ثم أجمل على آخرهم ـ لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً ـ ثم قال صلى الله عليه وسلم للذي في يساره: هذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم)أبداً» فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأي شيء نعمل إن كان هذا الأمر قد فرغ منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل, وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل» ثم قال صلى الله عليه وسلم بيده فقبضها ثم قال «فرغ ربكم عز وجل من العباد ـ ثم قال باليمنى فنبذ بها فقال فريق في الجنة ـ ونبذ باليسرى وقال ـ فريق في السعير» وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعاً عن قتيبة عن الليث بن سعد وبكر بن مضر كلاهما عن أبي قبيل عن شفي بن مانع الأصبحي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما به, وقال الترمذي حسن صحيح غريب وساقه البغوي في تفسيره من طريق بشر بن بكر عن سعيد بن عثمان عن أبي الزاهرية عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بنحوه وعنده زيادات منها ـ ثم قال: فريق في الجنة وفريق في السعير عدل من الله عز وجل ـ ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن عبد الله بن صالح كاتب الليث عن الليث به ورواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن أبي قبيل عن شفي عن رجل من الصحابة رضي الله عنهم فذكره.


    ** أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَاللّهُ هُوَ الْوَلِيّ وَهُوَ يُحْيِـي الْمَوْتَىَ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللّهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّي عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ جَعَلَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
    يقول تعالى منكراً على المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله ومخبراً أنه هو الولي الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده فإنه هو القادر على إحياء الموتى وهو على كل شيء قدير, ثم قال عز وجل: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} أي مهما اختلفتم فيه من الأمور وهذا عام في جميع الأشياء {فحكمه إلى الله} أي هو الحاكم فيه بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كقوله جل وعلا: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} {ذلكم الله ربي} أي الحاكم في كل شيء {عليه توكلت وإليه أنيب} أي أرجع في جميع الأمور, وقوله جل جلاله: {فاطر السموات والأرض} أي خالقهما وما بينهما {جعل لكم من أنفسكم أزواجاً} أي من جنسكم وشكلكم منة عليكم وتفضلاً جعل من جنسكم ذكراً وأنثى {ومن الأنعام أزواجاً} أي وخلق لكم من الأنعام ثمانية أزواج. وقوله تبارك وتعالى: {يذرؤكم فيه} أي يخلقكم فيه أي في ذلك الخلق على هذه الصفة لا يزال يذرؤكم فيه ذكوراً وإناثاً خلقاً من بعد خلق وجيلاً بعد جيل ونسلاً بعد نسل من الناس والأنعام وقال البغوي يذرؤكم فيه أي في الرحم وقيل في البطن وقيل في هذا الوجه من الخلقة. قال مجاهد نسلاً من الناس والأنعام, وقيل في بمعنى الباء أي يذرؤكم به {ليس كمثله شيء} أي ليس كخالق الأزواج كلها شيء لأنه الفرد الصمد الذي لا نظير له {وهو السميع البصير}. وقوله تعالى: {له مقاليد السموات والأرض} تقدم تفسيره في سورة الزمر وحاصل ذلك أنه المتصرف الحاكم فيهما {يبسطُ الرزق لمن يشاء ويقدر} أي يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء وله الحكمة والعدل التام {إنه بكل شيء عليم}.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 18:36

    ** شَرَعَ لَكُم مّنَ الدّينِ مَا وَصّىَ بِهِ نُوحاً وَالّذِيَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىَ وَعِيسَىَ أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللّهُ يَجْتَبِيَ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيَ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ * وَمَا تَفَرّقُوَاْ إِلاّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رّبّكَ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى لّقُضِيَ بِيْنَهُمْ وَإِنّ الّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكّ مّنْهُ مُرِيبٍ
    يقول تعالى لهذه الأمة: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك} فذكر أول الرسل بعد آدم عليه السلام وهو نوح عليه السلام وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم . ثم ذكر من بين ذلك من أولي العزم وهم إبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وهذه الاَية انتظمت ذكر الخمسة كما اشتملت آية الأحزاب عليهم في قوله تبارك وتعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم} الاَية والدين الذي جاءت به الرسل كلهم هو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال عز وجل: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}. وفي الحديث «نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد» أي القدر المشترك بينهم هو عبادة الله وحده لا شريك له وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم كقوله جل جلاله: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً} ولهذا قال تعالى ههنا: {أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} أي وصى الله تعالى جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالائتلاف والجماعة. ونهاهم عن الافتراق والاختلاف, وقوله عز وجل: {كبر على المشركين ما تدعوهم إليه} أي شق عليهم وأنكروا ما تدعوهم إليه يا محمد من التوحيد. ثم قال جل جلاله: {الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب} أي هو الذي يقدر الهداية لمن يستحقها ويكتب الضلالة على من آثرها على طريق الرشد, ولهذا قال تبارك وتعالى : {وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم} أي إنما كان مخالفتهم للحق بعد بلوغه إليهم وقيام الحجة عليهم وما حملهم على ذلك إلا البغي والعناد والمشقة ثم قال عز وجل: {ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى} أي لولا الكلمة السابقة من الله تعالى بإنظار العباد بإقامة حسابهم إلى يوم المعاد لعجل عليهم العقوبة في الدنيا سريعاً. وقوله جلت عظمته: {وإن الذين أُورثوا الكتاب من بعدهم} يعني الجيل المتأخر بعد القرن الأول المكذب للحق {لفي شك منه مريب} أي ليسوا على يقين من أمرهم وإيمانهم وإنما هم مقلدون لاَبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا برهان وهم في حيرة من أمرهم وشك مريب وشقاق بعيد.


    ** فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللّهُ رَبّنَا وَرَبّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ
    اشتملت هذه الاَية الكريمة على عشر كلمات مستقلات كل منها منفصلة عن التي قبلها حكم برأسها, قالوا: ولا نظير لها سوى آية الكرسي, فإنها أيضاً عشرة فصول كهذه. وقوله: {فلذلك فادع} أي فللذي أَوحينا إليك من الدين الذي وصينا به جميع المرسلين قبلك, أصحاب الشرائع الكبار المتبعة كأولي العزم وغيرهم فادع الناس إليه. وقوله عز وجل: {واستقم كما أمرت} أي واستقم أنت ومن اتبعك على عبادة الله تعالى كما أمركم الله عز وجل, وقوله تعالى: {ولا تتبع أهواءهم} يعني المشركين فيما اختلفوا فيه وكذبوه وافتروه من عبادة الأوثان.
    وقوله جل وعلا: {وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب} أي صدقت بجميع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء لا نفرق بين أحد منهم. وقوله: {وأمرت لأعدل بينكم} أي في الحكم كما أمرني الله, وقوله جلت عظمته: {الله ربنا وربكم} أي هو المعبود لا إله غيره فنحن نقر بذلك اختياراً وأنتم وإن لم تفعلوه اختياراً فله يسجد من في العالمين طوعاً واختياراً. وقوله تبارك وتعالى: {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم} أي نحن برآء منكم, كما قال سبحانه وتعالى: {وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون} وقوله تعالى: {لا حجة بيننا وبينكم} قال مجاهد: أي لا خصومة. قال السدي: وذلك قبل نزول آية السيف, وهذا متجه لأن هذه الاَية مكية, وآية السيف بعد الهجرة. وقوله عز وجل: {الله يجمع بيننا} أي يوم القيامة, كقوله: {قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم} وقوله جل وعلا: {وإليه المصير} أي المرجع والمآب يوم الحساب.


    ** وَالّذِينَ يُحَآجّونَ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ حُجّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ * اللّهُ الّذِيَ أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلّ السّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنّهَا الْحَقّ أَلاَ إِنّ الّذِينَ يُمَارُونَ فَي السّاعَةِ لَفِي ضَلاَلَ بَعِيدٍ
    يقول تعالى متوعداً الذين يصدون عن سبيل الله من آمن به: {والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له} أي يجادلون المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله ليصدوهم عما سلكوه من طريق الهدى {حجتهم داحضة عند ربهم} أي باطلة عند الله {وعليهم غضب} أي منه {ولهم عذاب شديد} أي يوم القيامة, قال ابن عباس رضي الله عنه ومجاهد: جادلوا المؤمنين بعد ما استجابوا لله ولرسوله ليصدوهم عن الهدى وطمعوا أن تعود الجاهلية, وقال قتادة: هم اليهود والنصارى قالوا: ديننا خير من دينكم ونبينا قبل نبيكم ونحن خير منكم وأولى بالله منكم, وقد كذبوا في ذلك. ثم قال تعالى: {الله الذي أنزل الكتاب بالحق} يعني الكتب المنزلة من عنده على أنبيائه {والميزان} وهو العدل والإنصاف, قاله مجاهد وقتادة, وهذه كقوله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} وقوله: {والسماء رفعها ووضع الميزان * ألا تطغوا في الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان}.
    وقوله تبارك وتعالى: {وما يدريك لعل الساعة قريب} فيه ترغيب فيها وترهيب منها وتزهيد في الدنيا, وقوله عز وجل: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها} أي: يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين, وإنما يقولون ذلك تكذيباً واستبعاداً وكفراً وعناداً {والذين آمنوا مشفقون منها} أي خائفون وجلون من وقوعها {ويعلمون أنها الحق} أي كائنة لا محالة, فهم مستعدون لها عاملون من أجلها. وقد روي من طرق تبلغ درجة التواتر في الصحاح والحسان والسنن والمسانيد, وفي بعض ألفاظه أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوت جهوري وهو في بعض أسفاره, فناداه فقال: يا محمد, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نحواً من صوته: «هاؤم», فقال له: متى الساعة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويحك إنها كائنة فما أعددت لها ؟» فقال: حب الله ورسوله, فقال صلى الله عليه وسلم: «أنت مع من أحببت», فقوله في الحديث «المرء مع من أحب» هذا متواتر لا محالة, والغرض أنه لم يجبه عن وقت الساعة بل أمره بالاستعداد لها. وقوله تعالى: {ألا إن الذين يمارون في الساعة} أي يجادلون في وجودها ويدفعون وقوعها {لفي ضلال بعيد} أي في جهل بين, لأن الذي خلق السموات والأرض قادر على إحياء الموتى بطريق الأولى والأحرى, كما قال تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه}.


    ** اللّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْقَوِيّ الْعَزِيزُ * مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِن نّصِيبٍ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مّنَ الدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنّ الظّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * تَرَى الظّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنّاتِ لَهُمْ مّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ
    يقول تعالى مخبراً عن لطفه بخلقه في رزقه إياهم عن آخرهم لا ينسى أحداً منهم, سواء في رزقه البر والفاجر, كقوله عز وجل: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} ولها نظائر كثيرة, وقوله جل وعلا: {يرزق من يشاء} أي يوسع على من يشاء {وهو القوي العزيز} أي لا يعجزه شيء ثم قال عز وجل: {من كان يريد حرث الاَخرة} أي عمل الاَخرة {نزد له في حرثه} أي نقويه ونعينه على ما هو بصدده ونكثر نماءه ونجزيه بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء الله {ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الاَخرة من نصيب} أي ومن كان إنما سعيه ليحصل له شيء من الدنيا وليس له إلى الاَخرة هم البتة بالكلية حرمه الله الاَخرة والدنيا إن شاء أعطاه منها وإن لم يشأ لم يحصل لا هذه ولا هذه, وفاز الساعي بهذه النية بالصفقة الخاسرة في الدنيا والاَخرة, والدليل على هذا أن هذه الاَية ههنا مقيدة بالاَية التي في سبحان وهي قوله تبارك وتعالى: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد, ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً * ومن أراد الاَخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً * كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً * انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللاَخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً}.
    وقال الثوري عن مغيرة عن أبي العالية عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الاَخرة للدنيا لم يكن له في الاَخرة من نصيب» وقوله جل وعلا: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} أي هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس من تحريم ما حرموا عليهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام, وتحليل أكل الميتة والدم والقمار إلى نحو ذلك من الضلالات والجهالة الباطلة التي كانوا قد اخترعوها في جاهليتهم من التحليل والتحريم والعبادات الباطلة والأقوال الفاسدة وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت عمرو بن لحي بن قمعة يجر قصبه في النار» لأنه أول من سيب السوائب, وكان هذا الرجل أحد ملوك خزاعة وهو أول من فعل هذه الأشياء وهو الذي حمل قريشاً على عبادة الأصنام لعنه الله وقبحه ولهذا قال تعالى: {ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم} أي لعوجلوا بالعقوبة لولا ما تقدم من الإنظار إلى يوم المعاد {وإن الظالمين لهم عذاب أليم} أي شديد موجع في جهنم وبئس المصير.
    ثم قال تعالى: {ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا} أي في عرصات القيامة {وهو واقع بهم} أي الذي يخافون منه واقع بهم لا محالة هذا حالهم يوم معادهم وهم في هذا الخوف والوجل {والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم} فأين هذا من هذا ؟ أي أين من هو في العرصات في الذل والهوان والخوف المحقق عليه بظلمه ممن هو في روضات الجنات فيما يشاء من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومناظر ومناكح وملاذ مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. قال الحسن بن عرفة: حدثنا عمرو بن عبد الرحمن الاَبار, حدثنا محمد بن سعد الأنصاري عن أبي طيبة قال إن الشرب من أهل الجنة لتظلهم السحابة فتقول ما أمطركم ؟ قال فما يدعو داع من القوم بشيء إلا أمطرتهم حتى إن القائل منهم ليقول أمطرينا كواعب أتراباً. ورواه ابن جرير عن الحسن بن عرفة به, ولهذا قال تعالى: {ذلك هو الفضل الكبير} أي الفوز العظيم والنعمة التامة السابغة الشاملة العامة.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 18:37

    ** ذَلِكَ الّذِي يُبَشّرُ اللّهُ عِبَادَهُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ قُل لاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَىَ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنّ اللّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً فَإِن يَشَإِ اللّهُ يَخْتِمْ عَلَىَ قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقّ الْحَقّ بِكَلِمَاتِهِ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ
    يقول تعالى لما ذكر روضات الجنات, لعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات {ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي هذا حاصل لهم كائن لا محالة ببشارة الله تعالى لهم به. وقوله عز وجل: {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح لكم ما لا تعطونيه وإنما أطلب منكم أن تكفوا شركم عني وتذروني أبلغ رسالات ربي إن لم تنصروني فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة. قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة قال: سمعت طاوساً يحدث عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن قوله تعالى إلا المودة في القربى فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد فقال ابن عباس: عجلت إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة فقال إلا أن لا تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة, انفرد به البخاري, ورواه الإمام أحمد بن يحيى القطان عن شعبة به, وهكذا روى عامر الشعبي والضحاك وعلي بن أبي طلحة والعوفي ويوسف بن مهران وغير واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما مثله, وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وأبو مالك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم.
    وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا هاشم بن القاسم بن زيد الطبراني وجعفر القلانسي قالا: حدثنا آدم بن أبي إياس, حدثنا شريك عن خصيف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أسألكم عليه أجراً إلا أن تودوني في نفسي لقرابتي منكم وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم» وروى الإمام أحمد عن حسن بن موسى, حدثنا قزعة يعني ابن سويد بن أبي حاتم عن أبيه عن مسلم بن إبراهيم عن قزعة بن سويد عن ابن نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا أسألكم على ما آتيتكم من البينات والهدى أجراً إلا أن توادوا الله وأن تقربوا إليه بطاعته» وهكذا روى قتادة عن الحسن البصري مثله وهذا كأنه تفسير بقول ثان كأنه يقول إلا المودة في القربى أي إلا أن تعملوا بالطاعة التي تقربكم عند الله زلفى. وقول ثالث وهو ما حكاه البخاري وغيره رواية عن سعيد بن جبير ما معناه أنه قال معنى ذلك أن تودوني في قرابتي أي تحسنوا إليهم وتبروهم.
    وقال السدي عن أبي الديلم قال: لما جيء بعلي بن الحسين رضي الله عنه أسيراً فأقيم على درج دمشق قام رجل من أهل الشام فقال الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة فقال له علي بن الحسين رضي الله عنه: أقرأت القرآن ؟ قال: نعم, قال: أقرأت آل حم ؟ قال: قرأت القرآن ولم أقرأ آل حم, قال: ما قرأت {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} قال: وإنكم لأنتم هم ؟ قال: نعم, وقال أبو إسحق السبيعي: سألت عمرو بن شعيب عن قوله تبارك وتعالى: {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} فقال: قربى النبي صلى الله عليه وسلم رواهما ابن جرير.
    ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا مالك بن إسماعيل, حدثنا عبد السلام, حدثني يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: قالت الأنصار: فعلنا وفعلنا وكأنهم فخروا, فقال ابن عباس أو العباس رضي الله عنهما ـ شك عبد السلام ـ لنا الفضل عليكم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم في مجالسهم فقال: «يا معشر الأنصار ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي ؟» قالوا بلى يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم: «ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي ؟» قالوا: بلى يا رسول الله, قال: «أفلا تجيبوني ؟» قالوا: ما نقول يا رسول الله ؟ قال: «ألا تقولون ألم يخرجك قومك فآويناك أولم يكذبوك فصدقناك أولم يخذلوك فنصرناك» قال: فما زال صلى الله عليه وسلم يقول حتى جثوا على الركب, وقالوا: أموالنا في أيدينا لله ولرسوله, قال: فنزلت {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين عن عبدالمؤمن بن علي, عن عبد السلام عن يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف بإسناده مثله أو قريباً منه. وفي الصحيحين في قسم غنائم حنين قريب من هذا السياق ولكن ليس فيه ذكر نزول هذه الاَية, وذكر نزولها في المدينة فيه نظر لأن السورة مكية وليس يظهر بين هذه الاَية وهذا السياق مناسبة, والله أعلم.
    وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا رجل سماه, حدثنا حسين الأشقر عن قيس عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه, قال: لما نزلت هذه الاَية {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} قالوا: يا رسول الله, من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم ؟ قال: «فاطمة وولدها رضي الله عنهما» وهذا إسناد ضعيف فيه مبهم لا يعرف عن شيخ شيعي مخترق وهو حسين الأشقر ولا يقبل خبره في هذا المحل, وذكر نزول الاَية في المدينة بعيد فإنها مكية ولم يكن إذ ذاك لفاطمة رضي الله عنها أولاد بالكلية فإنها لم تتزوج بعلي رضي الله عنه إلا بعد بدر من السنة الثانية من الهجرة والحق تفسير هذه الاَية بما فسرها به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كما رواه عنه البخاري ولا ننكر الوصاة بأهل البيت والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم, فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخراً وحسباً ونسباً, ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية, كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه وعلي وأهل ذريته رضي الله عنهم أجمعين.
    وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته بغدير خم: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي, وإنهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض» وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن يزيد بن أبي زياد, عن عبد الله بن الحارث عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إن قريشاً إذا لقي بعضهم بعضاً لقوهم ببشر حسن, وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها, قال: فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً وقال «والذي نفسي بيده لا يدخل قلب الرجل الإيمان حتى يحبكم لله ورسوله».
    ثم قال أحمد: حدثنا جرير عن يزيد بن أبي زياد, عن عبد الله بن الحارث بن عبد المطلب بن ربيعة, قال: دخل العباس رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا لنخرج فنرى قريشاً تحدث, فإذا رأونا سكتوا, فغضب رسول الله ودر عرق بين عينيه ثم قال صلى الله عليه وسلم: «والله لا يدخل قلب امرىء مسلم إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي», وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب, حدثنا خالد, حدثنا شعبة عن واقد قال: سمعت أبي يحدث عن ابن عمر رضي الله عنهما عن أبي بكر ـ هو الصديق ـ رضي الله عنه قال: ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته. وفي الصحيح أن الصديق رضي الله عنه قال لعلي رضي الله عنه: والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي, وقال عمر بن الخطاب للعباس رضي الله عنهما والله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم, لأن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب. فحال الشيخين رضي الله عنهما هو الواجب على كل أحد أن يكون كذلك, ولهذا كانا أفضل المؤمنين بعد النبيين والمرسلين رضي الله عنهما وعن سائر الصحابة أجمعين.
    وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أبي حيان التيمي, حدثني يزيد بن حيان قال: انطلقت أنا وحصين بن ميسرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم رضي الله عنه, فلما جلسنا إليه قال حصين: لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً, رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت معه, لقد رأيت يا زيد خيراً كثيراً, حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا ابن أخي لقد كبر سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما حدثتكم فاقبلوه وما لا فلا تكلفونيه, ثم قال رضي الله عنه: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطيباً فينا بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة, فحمد الله تعالى وأثنى عليه وذكر ووعظ, ثم قال صلى الله عليه وسلم: «أما بعد, أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب, وإني تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به» فحث على كتاب الله ورغب فيه وقال صلى الله عليه وسلم: «وأهل بيتي أذكركم في أهل بيتي, أذكركم الله في أهل بيتي» فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال: إن نساءه لسن من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم عليه الصدقة بعده, قال: ومن هم ؟ قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس رضي الله عنهم, قال: أكل هؤلاء حرم عليه الصدقة ؟ قال: نعم, وهكذا رواه مسلم والنسائي من طرق يزيد بن حيّان به.
    وقال أبو عيسى الترمذي: حدثنا علي بن المنذر الكوفي, حدثنا محمد بن فضيل, حدثنا الأعمش عن عطية عن أبي سعيد والأعمش عن حبيب بن أبي ثابت, عن زيد بن أرقم رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: أحدهما أعظم من الاَخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض, والاَخر عترة أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما» تفرد بروايته ثم قال: هذا حديث حسن غريب. وقال الترمذي أيضاً: حدثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي, حدثنا زيد بن الحسن عن جعفر بن محمد بن الحسن عن أبيه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب, فسمعته يقول: «ياأيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي» تفرد به الترمذي أيضاً, وقال: حسن غريب, وفي الباب عن أبي ذر وأبي سعيد وزيد بن أرقم وحذيفة بن أسيد رضي الله عنهم.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 18:37

    ** وَهُوَ الّذِي يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السّيّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ * وَلَوْ بَسَطَ اللّهُ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرْضِ وَلَـَكِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مّا يَشَآءُ إِنّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ * وَهُوَ الّذِي يُنَزّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيّ الْحَمِيدُ
    يقول تعالى ممتناً على عباده بقبول توبتهم إليه إذا تابوا ورجعوا إليه أنه من كرمه وحلمه أن يعفو ويصفح ويستر ويغفر, وكقوله عز وجل: {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً} وقد ثبت في صحيح مسلم رحمة الله عليه, حيث قال: حدثنا محمد بن الصباح وزهير بن حرب قالا: حدثنا عمر بن يونس, حدثنا عكرمة بن عمار, حدثنا إسحاق بن أبي طلحة, حدثني أنس بن مالك, وهو عمه رضي الله عنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لله تعالى أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كانت راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته, فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده, فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك ـ أخطأ من شدة الفرح». وقد ثبت أيضاً في الصحيح من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نحوه.
    وقال عبد الرزاق عن معمر, عن الزهري في قوله تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده} إن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته في المكان يخاف أن يقتله فيه العطش» وقال همام بن الحارث: سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن الرجل يفجر بالمرأة ثم يتزوجها ؟ قال: لا بأس به, وقرأ {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده} الاَية, رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث شريح القاضي عن إبراهيم بن مهاجر عن إبراهيم النخعي, عن همام فذكره, وقوله عز وجل: {ويعفو عن السيئات} أي يقبل التوبة في المستقبل, ويعفو عن السيئات في الماضي {ويعلم ما تفعلون} أي هو عالم بجميع ما فعلتم وصنعتم وقلتم ومع هذا يتوب على من تاب إليه.
    وقوله تعالى: {ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات} قال السدي: يعني يستجيب لهم, وكذا قال ابن جرير: معناه يستجيب لهم الدعاء لأنفسهم ولأصحابهم وإخوانهم, وحكاه عن بعض النحاة, وأنه جعلها كقوله عز وجل: {فاستجاب لهم ربهم} ثم روى هو وابن أبي حاتم من حديث الأعمش عن شقيق بن سلمة, عن سلمة بن سبرة)قال: خطبنا معاذ رضي الله عنه بالشام, فقال: أنتم المؤمنون وأنتم أهل الجنة, والله إني لأرجو أن يدخل الله تعالى من تسبون من فارس والروم الجنة وذلك بأن أحدكم إذا عمل له ـ يعني أحدهم عملاً قال: أحسنت رحمك الله, أحسنت بارك الله فيك ثم قرأ {ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله}.
    وحكى ابن جرير عن بعض أهل العربية أنه جعل قوله: {الذين يستمعون القول} أي هم الذين يستجيبون للحق ويتبعونه كقوله تبارك وتعالى: {إنما يستجيب الذين يسمعون, والموتى يبعثهم الله} والمعنى الأول أظهر لقوله تعالى: {ويزيدهم من فضله} أي يستجيب دعاءهم فوق ذلك. ولهذا قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن المصفى, حدثنا بقية, حدثنا إسماعيل بن عبد الله الكندي, حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {ويزيدهم من فضله} قال «الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليهم معروفاً في الدنيا» وقال قتادة عن إبراهيم النخعي اللخمي في قوله عز وجل: {ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات} قال: يشفعون في إخوانهم {ويزيدهم من فضله} قال: يشفعون في إخوان إخوانهم. وقوله عز وجل {والكافرون لهم عذاب شديد} لما ذكر المؤمنين ومالهم من الثواب الجزيل ذكر الكافرين ومالهم عنده يوم القيامة من العذاب الشديد الموجع المؤلم يوم معادهم وحسابهم.
    وقوله تعالى: {ولوبسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض} أي لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض أشراً وبطراً.
    وقال قتادة: كان يقال خير العيش ما لا يلهيك ولا يطغيك, وذكر قتادة «إنما أخاف عليكم ما يخرج الله تعالى من زهرة الحياة الدنيا» وسؤال السائل: أيأتي الخير بالشر ؟ الحديث. وقوله عز وجل: {ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير} أي ولكن يرزقهم من الرزق ما يختاره مما فيه صلاحهم وهو أعلم بذلك فيغني من يستحق الغنى ويفقر من يستحق الفقر كما جاء في الحديث المروي «إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه».
    وقوله تعالى: {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا} أي من بعد إياس الناس من نزول المطر ينزله عليهم في وقت حاجتهم وفقرهم إليه كقوله عز وجل: {وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين} وقوله جل جلاله: {وينشر رحمته} أي يعم بها الوجود على أهل ذلك القطر وتلك الناحية. قال قتادة: ذكر لنا أن رجلاً قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين قحط المطر وقنط الناس. فقال عمر رضي الله عنه: مطرتم ثم قرأ {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد} أي هو المتصرف لخلقه بما ينفعهم في دنياهم وأخراهم وهو المحمود العاقبة في جميع ما يقدره ويفعله.


    ** وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَثّ فِيهِمَا مِن دَآبّةٍ وَهُوَ عَلَىَ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ * وَمَآ أَصَابَكُمْ مّن مّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ * وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ
    يقول تعالى: {ومن آياته} الدالة على عظمته وقدرته العظيمة وسلطانه القاهر {خلق السموات والأرض وما بث فيهما} أي ذرأ فيهما في السموات والأرض {من دابة} وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوانات على اختلاف أشكالهم وألوانهم ولغاتهم وطباعهم وأجناسهم وأنواعهم وقد فرقهم في أرجاء أقطار السموات والأرض {وهو} مع هذا كله {على جمعهم إذا يشاء قدير} أي يوم القيامة يجمع الأولين والاَخرين وسائرالخلائق في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر فيحكم فيهم بحكمه العدل الحق.
    وقوله عز وجل: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} أي مهما أصابكم أيها الناس من المصائب فإنما هي عن سيئات تقدمت لكم {ويعفو عن كثير} أي من السيئات فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} وفي الحديث الصحيح «والذي نفسي بيده ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن إلا كفر الله عنه بها من خطاياه حتى الشوكة يشاكها». وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابن علية, حدثنا أيوب قال: قرأت في كتاب أبي قلابة قال نزلت {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} وأبو بكر رضي الله عنه يأكل فأمسك وقال: يا رسول الله إني أرى ما عملت من خير وشر, فقال: «أرأيت ما رأيت مما تكره, فهو من مثاقيل ذر الشر وتدخر مثاقيل الخير حتى تعطاه يوم القيامة» وقال: قال أبو إدريس: فإني أرى مصداقها في كتاب الله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} ثم رواه من وجه آخر عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه قال والأول أصح.
    وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع, حدثنا مروان بن معاوية الفزاري, حدثنا الأزهر بن راشد الكاهلي عن الخضر بن القواس البجلي عن أبي سخيلة عن علي رضي الله عنه قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله عز وجل, وحدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير, وسأفسرها لك يا علي: ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله تعالى أحلم من أن يثني عليه العقوبة في الاَخرة وما عفا الله عنه في الدنيا فالله تعالى أكرم من أن يعود بعد عفوه» وكذا رواه الإمام أحمد عن مروان بن معاوية وعبدة عن أبي سخيلة قال: قال علي رضي الله عنه فذكر نحوه مرفوعاً.
    ثم روى ابن أبي حاتم نحوه من وجه آخر موقوفاً فقال: حدثنا أبي, حدثنا منصور بن أبي مزاحم, حدثنا أبو سعيد بن أبي الوضاح عن أبي الحسن عن أبي جحيفة قال دخلت على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: ألا أحدثكم بحديث ينبغي لكل مؤمن أن يعيه ؟ قال: فسألناه فتلا هذه الاَية {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} قال ما عاقب الله تعالى به في الدنيا فالله أحلم من أن يثني عليه بالعقوبة يوم القيامة وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود عفوه يوم القيامة. وقال الإمام أحمد: حدثنا يعلى بن عبيد, حدثنا طلحة يعني ابن يحيى عن أبي بردة عن معاوية هو ابن أبي سفيان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلا كفر الله تعالى عنه به من سيئاته} وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا حسين عن زائدة عن ليث عن مجاهد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله تعالى بالحزن ليكفرها».
    وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي, حدثنا أبو أسامة عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن هو البصري قال في قوله تبارك وتعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} قال لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا عثرة قدم إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر». وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا عمر بن علي, حدثنا هشيم عن منصور عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: دخل عليه بعض أصحابه وقد كان ابتلي في جسده فقال له بعضهم إنا لنبأس لك لما نرى فيك, قال فلا تبتئس بما ترى فإن ما ترى بذنب وما يعفو الله عنه أكثر ثم تلا هذه الاَية {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}.
    وحدثنا أبي, حدثنا يحيى بن الحميد الحماني, حدثنا جرير عن أبي البلاد قال: قلت للعلاء بن بدر {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} وقد ذهب بصري وأنا غلام ؟ قال فبذنوب والديك. وحدثنا أبي, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا وكيع عن عبد العزيز بن أبي داود عن الضحاك قال: ما نعلم أحداً حفظ القرآن ثم نسيه إلا بذنب ثم قرأ الضحاك {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} ثم يقول الضحاك: وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 18:38

    ** وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلاَمِ * إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىَ ظَهْرِهِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ * وَيَعْلَمَ الّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيَ آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مّن مّحِيصٍ
    يقول تعالى ومن آياته الدالة على قدرته الباهرة وسلطانه تسخيره البحر لتجري فيه الفلك بأمره وهي الجواري في البحر كالأعلام أي كالجبال, قاله مجاهد والحسن والسدي والضحاك: أي هذه في البحر كالجبال في البر {إن يشأ يسكن الريح} أي التي تسير في البحر بالسفن لو شاء لسكنها حتى لا تحرك السفن بل تبقى راكدة لا تجيء ولا تذهب بل واقفة على ظهره أي على وجه الماء {إن في ذلك لاَيات لكل صبار} أي في الشدائد {شكور} أي إن في تسخيره البحر وإجرائه الهوى بقدر ما يحتاجون إليه لسيرهم لدلالات على نعمه تعالى على خلقه لكل صبار أي في الشدائد شكور في الرخاء. وقوله عز وجل {أو يوبقهن بما كسبوا} أي ولو شاء لأهلك السفن وغرقها بذنوب أهلها الذين هم راكبون فيها {ويعف عن كثير} أي من ذنوبهم ولو آخذهم بجميع ذنوبهم لأهلك كل من ركب البحر.
    وقال بعض علماء التفسير معنى قوله تعالى: {أو يوبقهن بما كسبوا} أي لو شاء لأرسل الريح قوية عاتية فأخذت السفن وأحالتها عن سيرها المستقيم فصرفتها ذات اليمين أو ذات الشمال آبقة لا تسير على طريق ولا إلى جهة مقصد, وهذا القول يتضمن هلاكها وهو مناسب للأول وهو أنه تعالى لو شاء لسكن الريح فوقفت أو لقواه فشردت وأبقت وهلكت, ولكن من لطفه ورحمته أنه يرسله بحسب الحاجة كما يرسل المطر بقدر الكفاية ولو أنزله كثيراً جداً لهدم البنيان أو قليلاً لما أنبت الزرع والثمار حتى إنه يرسل إلى مثل بلاد مصر سيحاً من أرض أخرى غيرها لأنهم لا يحتاجون إلى مطر ولو أنزل عليهم لهدم بنيانهم وأسقط جدرانهم, وقوله تعالى: {ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص} أي لا محيد لهم عن بأسنا ونقمتنا فإنهم مقهورون بقدرتنا.


    ** فَمَآ أُوتِيتُمْ مّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ لِلّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ * وَالّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمْ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىَ بَيْنَهُمْ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ
    يقول تعالى محقراً لشأن الحياة الدنيا وزينتها وما فيها من الزهرة والنعيم الفاني بقوله تعالى: {فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا} أي مهما حصلتم وجمعتم فلا تغتروا به فإنما هو متاع الحياة الدنيا وهي دار دنيئة فانية زائلة لا محالة {وما عند الله خير وأبقى} أي وثواب الله تعالى خير من الدنيا وهو باق سرمدي فلا تقدموا الفاني على الباقي ولهذا قال تعالى: {للذين آمنوا} أي للذين صبروا على ترك الملاذ في الدنيا {وعلى ربهم يتوكلون} أي ليعينهم على الصبر في أداء الواجبات وترك المحرمات.
    ثم قال تعالى: {والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش} وقد قدمنا الكلام على الإثم والفواحش في سورة الأعراف {وإذا ما غضبوا هو يغفرون} أي سجيتهم تقتضي الصفح والعفو عن الناس ليس سجيتهم الانتقام من الناس. وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله وفي حديث آخر كان يقول لأحدنا عند المعتبة: «ما له تربت جبينه» وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان عن زائدة عن منصور عن إبراهيم قال: كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا وكانوا إذا قدروا عفوا.
    وقوله عز وجل: {والذين استجابوا لربهم} أي اتبغوا رسله وأطاعوا أمره واجتنبوا زجره {وأقاموا الصلاة} وهي أعظم العبادات لله عز جل {وأمرهم شورى بينهم} أي لا يبرمون أمراً حتى يتشاوروا فيه ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها كما قال تبارك وتعالى: {وشاورهم في الأمر} الاَية ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها ليطيب بذلك قلوبهم وهكذا لما حضرت عمر بن الخطاب رضي الله عنه الوفاة حين طعن جعل الأمر بعده شورى في ستة نفر وهم عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم فاجتمع رأي الصحابة كلهم رضي الله عنهم على تقديم عثمان عليهم رضي الله عنهم {ومما رزقناهم ينفقون} وذلك بالإحسان إلى خلق الله الأقرب إليهم منهم فالأقرب.
    وقوله عز وجل: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} أي فيهم قوة الانتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم ليسوا بالعاجزين ولا الأذلين بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم وإن كانوا مع هذا إذا قدروا عفوا كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام لإخوته: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم} مع قدرته على مؤاخذتهم ومقابلتهم على صنيعهم إليه وكما عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية ونزلوا من جبل التنعيم فلما قدر عليهم منّ عليهم مع قدرته على الانتقام وكذلك عفوه صلى الله عليه وسلم عن غوث بن الحارث الذي أراد الفتك به حين اخترط سيفه وهو نائم فاستيقظ صلى الله عليه وسلم وهو في يده مصلتاً فانتهره فوضعه من يده وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف في يده ودعا أصحابه ثم أعلمهم بما كان من أمره و أمر هذا الرجل وعفا عنه وكذلك عفا صلى الله عليه وسلم عن لبيد بن الأعصم الذي سحره عليه السلام ومع هذا لم يعرض له ولا عاتبه مع قدرته عليه وكذلك عفوه صلى الله عليه وسلم عن المرأة اليهودية ـ وهي زينب أخت مرحب اليهودي الخيبري الذي قتله محمود بن مسلمة ـ التي سمت الذراع يوم خيبر ـ فأخبره الذراع بذلك فدعاها فاعترفت فقال صلى الله عليه وسلم: «ما حملك على ذلك ؟» قالت: أردت إن كنت نبياً لم يضرك وإن لم تكن نبياً استرحنا منك فأطلقها عليه الصلاة والسلام ولكن لما مات منه بشر بن البراء رضي الله عنه قتلها به, والأحاديث والاَثار في هذا كثيرة جداً, والله سبحانه وتعالى أعلم.


    ** وَجَزَآءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللّهِ إِنّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَـَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ * إِنّمَا السّبِيلُ عَلَى الّذِينَ يَظْلِمُونَ النّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ أُوْلَـَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاُمُورِ
    قوله تبارك وتعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} كقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} وكقوله: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} الاَية, فشرع العدل وهو القصاص وندب إلى الفضل وهو العفو كقوله جل وعلا: {والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له} ولهذا قال ههنا: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} أي لا يضيع ذلك عند الله كما صح ذلك في الحديث «وما زاد الله تعالى عبداً بعفو إلا عزاً» وقوله تعالى: {إنه لا يحب الظالمين} أي المعتدين وهو المبتدىء بالسيئة.
    ثم قال جل وعلا: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} أي ليس عليهم جناح في الانتصار ممن ظلمهم. قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع, حدثنا معاذ بن معاذ, حدثنا ابن عون قال: كنت أسأل عن الانتصار في قوله تعالى: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} فحدثني علي بن زيد بن جدعان عن أم محمد امرأة أبيه قال ابن عون: زعموا أنها كانت تدخل على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها, قالت: قالت أم المؤمنين رضي الله عنها: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندنا زينب بنت جحش رضي الله عنها, فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصنع بيده شيئاً فلم يفطن لها, فقلت بيده حتى فطنته لها فأمسك, وأقبلت زينب رضي الله عنها تقحم لعائشة رضي الله عنها فنهاها, فأبت أن تنتهي, فقال لعائشة رضي الله عنها «سبيها» فسبتها فغلبتها, وانطلقت زينب رضي الله عنها فأتت علياً رضي الله عنه فقالت إن عائشة تقع بكم وتفعل بكم فجاءت فاطمة رضي الله عنها فقال صلى الله عليه وسلم لها «إنها حبة أبيك ورب الكعبة» فانصرفت, وقالت لعلي رضي الله عنه: إني قلت له صلى الله عليه وسلم كذا وكذا, فقال لي كذا وكذا, قال: وجاء علي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه في ذلك, هكذا أورد هذا السياق, وعلي بن زيد بن جدعان, يأتي في رواياته بالمنكرات غالباً, وهذا فيه نكارة, والصحيح خلاف هذا السياق, كما رواه النسائي وابن ماجه من حديث خالد بن سلمة الفأفاء, عن عبد الله البهي عن عروة, قال: قالت عائشة رضي الله عنها, ما علمت حتى دخلت علي زينب بغير إذن وهي غضبى, ثم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبك إذا قلبت لك ابنة أبي بكر درعها, ثم أقبلت علي فأعرضت عنها, حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم «دونك فانتصري» فأقبلت عليها حتى رأيت ريقها قد يبس في فمها ما ترد علي شيئاً, فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه, وهذا لفظ النسائي.
    وقال البزار: حدثنا يوسف بن موسى, حدثنا أبو غسان, حدثنا أبو الأحوص عن أبي حمزة عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعا على من ظلمه فقد انتصر» ورواه الترمذي من حديث أبي الأحوص عن أبي حمزة واسمه ميمون, ثم قال: لا نعرفه إلا من حديثه, وقد تكلم فيه من قبل حفظه. وقوله عز وجل: {إنما السبيل} أي إنما الحرج والعنت {على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق} أي يبدءون الناس بالظلم, كما جاء في الحديث الصحيح «المستبان ما قالا فعلى البادىء ما لم يعتد المظلوم» {أولئك لهم عذاب أليم} أي شديد موجع.
    قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا الحسن بن موسى, حدثنا سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد, حدثنا عثمان الشحام, حدثنا محمد بن واسع قال: قدمت مكة فإذا على الخندق منظرة, فأخذت حاجتي فانطلق بي إلى مروان بن المهلب, وهو أمير على البصرة فقال ما حاجتك يا أبا عبد الله ؟ قلت: حاجتي إن استطعت أن تكون كما كان أخو بني عدي, قال: ومن أخو بني عدي ؟ قال العلاء بن زياد: استعمل صديقاً له مرة على عمل, فكتب إليه: أما بعد, فإن استطعت أن لا تبيت إلا وظهرك خفيف, وبطنك خميص, وكفك نقية من دماء المسلمين وأموالهم, فإنك إذا فعلت ذلك, لم يكن عليك سبيل {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس, ويبغون في الأرض بغير الحق, أولئك لهم عذاب أليم} فقال مروان: صدق والله ونصح, ثم قال: ما حاجتك يا أبا عبد الله, قلت: حاجتي أن تلحقني بأهلي, قال: نعم, رواه ابن أبي حاتم, ثم إن الله تعالى, لما ذم الظلم وأهله وشرع القصاص, قال نادباً إلى العفو والصفح: {ولمن صبر وغفر}, أي صبر على الأذى, وستر السيئة {إن ذلك لمن عزم الأمور} قال سعيد بن جبير: يعني لمن حق الأمور التي أمر الله بها, أي لمن الأمور المشكورة, والأفعال الحميدة التي عليها ثواب جزيل, وثناء جميل.


    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 18:38

    ** وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيّ مّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظّالِمِينَ لَمّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَىَ مَرَدّ مّن سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذّلّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيّ وَقَالَ الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّ الْخَاسِرِينَ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ إِنّ الظّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مّقِيمٍ * وَمَا كَانَ لَهُم مّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مّن دُونِ اللّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ
    يقول تعالى مخبراً عن نفسه الكريمة أنه ما يشاء كان ولا راد له, وما لم يشأ لم يكن فلا موجد له, وأنه من هداه فلا مضل له, ومن يضلل الله فلا هادي له, كما قال عز وجل: {ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً} ثم قال عز وجل مخبراً عن الظالمين وهم المشركون بالله: {لما رأوا العذاب} أي يوم القيامة تمنوا الرجعة إلى الدنيا {يقولون هل إلى مرد من سبيل} كما قال جل وعلا: {ولوترى إذ وقفوا على النار, فقالوا: ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين * بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون}. وقوله عز وجل: {وتراهم يعرضون عليها} أي على النار {خاشعين من الذل} أي الذي قد اعتراهم بما أسلفوا من عصيان الله تعالى {ينظرون من طرف خفي} قال مجاهد: يعني ذليل أي ينظرون إليها مسارقة خوفاً منها والذي يحذرون منه واقع بهم لا محالة, وما هو أعظم مما في نفوسهم, أجارنا الله من ذلك. {وقال الذين آمنوا} أي يقولون يوم القيامة {إن الخاسرين} أي الخسار الأكبر {الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة} أي ذهب بهم إلى النار فعدموا لذتهم في دار الأبد وخسروا أنفسهم, وفرق بينهم وبين أحبابهم وأصحابهم وأهاليهم وقراباتهم فخسروهم {ألا إن الظالمين في عذاب مقيم} أي دائم سرمدي أبدي لا خروج لهم منها ولا محيد لهم عنها. وقوله تعالى: {وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله} أي ينقذونهم مما هم فيه من العذاب والنكال {ومن يضلل الله فما له من سبيل} أي ليس له خلاص.


    ** اسْتَجِيبُواْ لِرَبّكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ مَرَدّ لَهُ مِنَ اللّهِ مَا لَكُمْ مّن مّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مّن نّكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاّ الْبَلاَغُ وَإِنّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنّ الإِنسَانَ كَفُورٌ
    لما ذكر تعالى ما يكون في يوم القيامة من الأهوال والأمور العظام الهائلة, حذر منه وأمر بالاستعداد له, فقال: {استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله} أي إذا أمر بكونه فإنه كلمح البصر يكون, وليس له دافع ولا مانع. وقوله عز وجل: {ما لكم من ملجأ يومئذٍ وما لكم من نكير} أي ليس لكم حصن تتحصنون فيه ولا مكان يستركم وتتنكرون فيه فتغيبون عن بصره تبارك وتعالى, بل هو محيط بكم بعلمه وبصره وقدرته, فلا ملجأ منه إلا إليه {يقول الإنسان يومئذ أين المفر * كلا لا وزر * إلى ربك يومئذ المستقر} وقوله تعالى: {فإن أعرضوا} يعني المشركين {فما أرسلناك عليهم حفيظاً} أي لست عليهم بمسيطر, وقال عز وجل: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} وقال تعالى: {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} وقال جل وعلا ههنا: {إن عليك إلا البلاغ} أي إنما كلفناك أن تبلغهم رسالة الله إليهم.
    ثم قال تبارك وتعالى: {وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها} أي إذا أصابه رخاء ونعمة فرح بذلك {وإن تصبهم} يعني الناس {سيئة} أي جدب وبلاء وشدة {فإن الإنسان كفور} أي يجحد ما تقدم من النعم ولا يعرف إلا الساعة الراهنة, فإن أصابته نعمة أشر وبطر, وإن أصابته محنة يئس وقنط, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: «يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار» فقالت امرأة: ولم يا رسول الله ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «لأنكن تكثرن الشكاية وتكفرن العشير, لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم تركت يوماً, قالت: ما رأيت منك خيراً قط» وهذا حال أكثر النساء, إلا من هداه الله تعالى وألهمه رشده, وكان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات, فالمؤمن كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له, وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له, وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن».


    ** لِلّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذّكُورَ * أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ
    يخبر تعالى أنه خالق السموات والأرض ومالكهما والمتصرف فيهما, وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن, وأنه يعطي من يشاء ويمنع من يشاء, ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع, وأنه يخلق ما يشاء {يهب لمن يشاء إناثاً} أي يرزقه البنات فقط. قال البغوي: ومنهم لوط عليه الصلاة والسلام. {ويهب لمن يشاء الذكور} أي يرزقه البنين فقط, قال البغوي: كإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لم يولد له أنثى {أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً} أي يعطي لمن يشاء من الناس الزوجين الذكر والأنثى أي هذا وهذا, قال البغوي: كمحمد صلى الله عليه وسلم {ويجعل من يشاء عقيماً} أي لا يولد له. قال البغوي: كيحيى وعيسى عليهما السلام, فجعل الناس أربعة أقسام: منهم من يعطيه البنات, ومنهم من يعطيه البنين, ومنهم من يعطيه من النوعين ذكوراً وإناثاً, ومنهم من يمنعه هذا وهذا فيجعله عقيماً لا نسل له ولا ولد له. {إنه عليم} أي بمن يستحق كل قسم من هذه الأقسام {قدير} أي على من يشاء من تفاوت الناس في ذلك, وهذا المقام شبيه بقوله تبارك وتعالى عن عيسى عليه الصلاة والسلام {ولنجعله آية للناس} أي دلالة على قدرته تعالى وتقدس حيث خلق الخلق على أربعة أقسام, فآدم عليه الصلاة والسلام مخلوق من تراب لا من ذكر وأنثى, وحواء عليها السلام مخلوقة من ذكر بلا انثى, وسائر الخلق سوى عيسى عليه السلام من ذكر وأنثى, وعيسى عليه السلام من أنثى بلا ذكر, فتمت الدلالة بخلق عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام. ولهذا قال تعالى: {ولنجعله آية للناس} فهذا المقام في الاَباء والمقام الأول في الأبناء وكل منهما أربعة أقسام, فسبحان العليم القدير.


    ** وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنّهُ عَلِيّ حَكِيمٌ * وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَـَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نّهْدِي بِهِ مَن نّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنّكَ لَتَهْدِيَ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلاَ إِلَى اللّهِ تَصِيرُ الاُمُورُ
    هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جنات الله عز وجل, وهو أنه تبارك وتعالى تارة يقذف في روع النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً لا يتمارى فيه أنه من الله عز وجل, كما جاء في صحيح ابن حبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها, فاتقوا الله وأجملوا في الطلب». وقوله تعالى: {أو من وراء حجاب} كما كلم موسى عليه الصلاة والسلام, فإنه سأل الرؤية بعد التكليم فحجب عنها.
    وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «ما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب وإنه كلم أباك كفاحاً» كذا جاء في الحديث, وكان قد قتل يوم أحد, ولكن هذا في عالم البرزخ, والاَية إنما هي في الدار الدنيا. وقوله عز وجل: {أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء} كما ينزل جبريل عليه الصلاة والسلام وغيره من الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام {إنه عليّ حكيم} فهو علي عليم خبير حكيم. وقوله عز وجل: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} يعني القرآن {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} أي على التفصيل الذي شرع لك في القرآن {ولكن جعلناه} أي القرآن {نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا} كقوله تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى} الاَية.
    وقوله تعالى: {وإنك} أي يا محمد {لتهدي إلى صراط مستقيم} وهو الخلق القويم, ثم فسره بقوله تعالى: {صراط الله} أي وشرعه الذي أمر به الله {الذي له ما في السموات وما في الأرض} أي ربهما ومالكهما والمتصرف فيهما والحاكم الذي لا معقب لحكمه {ألا إلى الله تصير الأمور} أي ترجع الأمور فيفصلها ويحكم فيها سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً.


    تمت سورة الشورى

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 18:55

    سورة الزخرف
    وهي مكية
    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** حـمَ * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لّعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنّهُ فِيَ أُمّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيّ حَكِيمٌ * أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مّسْرِفِينَ * وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نّبِيّ فِي الأوّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مّنْ نّبِيّ إِلاّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَأَهْلَكْنَآ أَشَدّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَىَ مَثَلُ الأوّلِينَ
    يقول تعالى: {حم والكتاب المبين} أي البين الواضح الجلي المعاني والألفاظ, لأنه نزل بلغة العرب التي هي أفصح اللغات للتخاطب بين الناس, ولهذا قال تعالى: {إنا جعلناه} أي نزلناه {قرآناً عربياً} أي بلغة العرب فصيحاً واضحاً {لعلكم تتقون} أي تفهمونه وتتدبرونه, كما قال عز وجل: {بلسان عربي مبين}. وقوله تعالى: {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم} بين شرفه في الملأ الأعلى ليشرفه ويعظمه ويطيعه أهل الأرض, فقال تعالى: {وإنه} أي القرآن {في أم الكتاب} أي اللوح المحفوظ, قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد {لدينا} أي عندنا, قاله قتادة وغيره {لعلي} أي ذو مكانة وشرف وفضل قاله قتادة {حكيم} أي محكم بريء من اللبس والزيغ. وهذا كله تنبيه على شرفه وفضله, كما قال تبارك وتعالى: {إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون * تنزيل من رب العالمين} وقال تعالى: {كلا إنها تذكرة * فمن شاء ذكره * في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة * بأيدي سفرة * كرام بررة} ولهذا استنبط العلماء رضي الله عنهم من هاتين)الاَيتين أن المحدث لايمس المصحف كما ورد به الحديث إِن صح, لأن الملائكة يعظمون المصاحف المشتملة على القرآن في الملأ الأعلى, فأهل الأرض بذلك أولى وأحرى, لأنه نزل عليهم, وخطابه متوجه إليهم, فهم أحق أن يقابلوه بالإكرام والتعظيم, والانقياد له بالقبول والتسليم, لقوله تعالى: {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم}.
    وقوله عز وجل: {أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين ؟} اختلف المفسرون في معناها فقيل معناها أتحسبون أن نصفح عنكم فلا نعذبكم ولم تفعلوا ما أمرتم به, قاله ابن عباس رضي الله عنهما وأبو الصالح ومجاهد والسدي واختاره ابن جرير, وقال قتادة في قوله تعالى: {أفنضرب عنكم الذكر صفحاً ؟} والله لو أن هذا القرآن رفع حين ردته أوائل هذه الأمة لهلكوا, ولكن الله تعالى عاد بعائدته ورحمته فكرره عليهم ودعاه إليهم عشرين سنة أو ما شاء الله من ذلك, وقول قتادة لطيف المعنى جداً, وحاصله أنه يقول في معناه إنه تعالى من لطفه ورحمته بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير وإلى الذكر الحكيم وهو القرآن, وإن كانوا مسرفين معرضين عنه بل أمر به ليهتدي به من قدر هدايته, وتقوم الحجة على من كتب شقاوته.
    ثم قال جل وعلا مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه وآمراً له بالصبر عليهم: {وكم أرسلنا من نبي في الأولين} أي في شيع الأولين {وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون} أي يكذبونه ويسخرون به. وقوله تبارك وتعالى: {فأهلكنا أشد منهم بطشاً} أي فأهلكنا المكذبين بالرسل, وقد كانوا أشد بطشاً من هؤلاء المكذبين لك يا محمد, كقوله عز وجل: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة} والاَيات في ذلك كثيرة جداً. وقوله جل جلاله: {ومضى مثل الأولين} قال مجاهد: سنتهم. وقال قتادة: عقوبتهم. وقال غيرهما: عبرتهم, أي جعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين أن يصيبهم ما أصابهم, كقوله تعالى في آخر هذه السورة: {فجعلناهم سلفاً ومثلاً للاَخرين} وكقوله جلت عظمته: {سنة الله التي قد خلت في عباده} وقال عز وجل: {ولن تجد لسنة الله تبديلاً}.


    ** وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مّنْ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنّ خَلَقَهُنّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لّعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَالّذِي نَزّلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَالّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُواْ عَلَىَ ظُهُورِهِ ثُمّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الّذِي سَخّرَ لَنَا هَـَذَا وَمَا كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنّآ إِلَىَ رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ
    يقول تعالى: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله, العابدين معه غيره {من خلق السموات والأرض ؟ ليقولن خلقهن العزيز العليم} أي ليعترفن بأن الخالق لذلك هو الله وحده لا شريك له, وهم مع هذا يعبدون معه غيره من الأصنام والأنداد, ثم قال تعالى: {الذي جعل لكم الأرض مهداً} أي فراشاً قراراً ثابتة تسيرون عليها وتقومون وتنامون وتنصرفون, مع أنها مخلوقة على تيار الماء, لكنه أرساها بالجبال لئلا تميد هكذا ولا هكذا {وجعل لكم فيها سبلاً} أي طرقاً بين الجبال والأودية {لعلكم تهتدون} أي في سيركم من بلد إلى بلد, وقطر إلى قطر, {والذي نزل من السماء ماء بقدر} أي بحسب الكفاية لزروعكم وثماركم وشربكم لأنفسكم ولأنعامكم.
    وقوله تبارك وتعالى: {فأنشرنا به بلدة ميتاً} أي أرضاً ميتة, فلما جاءها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج, ثم نبه تعالى بإحياء الأرض على إحياء الأجساد يوم المعاد بعد موتها, فقال: {كذلك تخرجون} ثم قال عز وجل: {والذي خلق الأزواج كلها} أي مما تنبت الأرض من سائر الأصناف من نبات وزروع وثمار وأزاهير وغير ذلك. ومن الحيوانات على اختلاف أجناسها وأصنافها {وجعل لكم من الفلك} أي السفن {والأنعام ما تركبون} أي ذللها لكم وسخرها ويسرها لأكلكم لحومها وشربكم ألبانها وركوبكم ظهورها, ولهذا قال جل وعلا: {لتستووا على ظهوره} أي لتستووا متمكنين مرتفعين {على ظهوره} أي على ظهور هذا الجنس {ثم تذكروا نعمة ربكم} أي فيما سخر لكم {إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين} أي مقاومين, ولولا تسخير الله لنا هذا ما قدرنا عليه. قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة والسدي وابن زيد: مقرنين, أي مطيقين, {وإنا إلى ربنا لمنقلبون} أي لصائرون إليه بعد مماتنا وإليه سيرنا الأكبر, وهذا من باب التنبيه بسير الدنيا على سير الاَخرة, كما نبه بالزاد الدنيوي على الزاد الأخروي في قوله تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} وباللباس الدنيوي على الأخروي في قوله تعالى: {وريشاً ولباس التقوى ذلك خير}.

    ذكر الأحاديث الواردة عند ركوب الدابة
    (حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب) رضي الله عنه. قال الإمام: حدثنا يزيد, حدثنا شريك بن عبد الله عن أبي إسحاق, عن علي بن ربيعة قال: رأيت علياً رضي الله عنه أتى بدابة, فلما وضع رجله في الركاب قال: باسم الله, فلما استوى عليها قال: الحمد لله {سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون} ثم حمد الله تعالى ثلاثاً وكبر ثلاثاً, ثم قال: سبحانك لا إله إلا أنت قد ظلمت نفسي فاغفر لي ثم ضحك, فقلت له: مم ضحكت يا أمير المؤمنين ؟ فقال رضي الله عنه: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثلما فعلت ثم ضحك, فقلت: مم ضحكت يا رسول الله ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «يعجب الرب تبارك وتعالى من عبده إذا قال رب اغفر لي, ويقول علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري» وهكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث أبي الأحوص, زاد النسائي ومنصور عن أبي إسحاق السبيعي عن علي بن ربيعة الأسدي الوالبي به. وقال الترمذي: حسن صحيح, وقد قال عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة:قلت لأبي إسحاق السبيعي: ممن سمعت هذا الحديث ؟ قال: من يونس بن خباب, فلقيت يونس بن خباب فقلت: ممن سمعته ؟ فقال: من رجل سمعه من علي بن ربيعة, ورواه بعضهم عن يونس بن خباب عن شقيق بن عقبة الأسدي عن علي بن ربيعة الوالبي به.
    (حديث عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة «حدثنا أبو بكر بن عبد الله عن علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما, قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أردفه على دابته, فلما استوى عليها كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وحمد ثلاثاً, وهلل واحدة, ثم استلقى عليه وضحك, ثم أقبل عليه فقال «ما من امرىء مسلم يركب فيصنع كما صنعت, إلا أقبل الله عز وجل عليه, فضحك إليه كما ضحكت إليك» تفرد به أحمد.
    (حديث عبد الله بن عمر) رضي الله عنهما. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو كامل, حدثنا حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن علي بن عبد الله البارقي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركب راحلته كبر ثلاثاً ثم قال «سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ـ ثم يقول ـ اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى, ومن العمل ما ترضى, اللهم هون علينا السفر واطو لنا البعيد, اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل, اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا». وكان صلى الله عليه وسلم إذا رجع إلى أهله قال: «آيبون تائبون إن شاء الله عابدون لربنا حامدون» وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث ابن جريج, والترمذي من حديث حماد بن سلمة, كلاهما عن أبي الزبير به.
    (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن عمرو بن الحكم بن ثوبان عن أبي لاس الخزاعي قال: حملنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبل من إبل الصدقة إلى الحج, فقلنا: يا رسول الله ما نرى أن تحملنا هذه, فقال صلى الله عليه وسلم: «ما من بعير إلا في ذروته شيطان, فاذكروا اسم الله عليها إذا ركبتموها كما آمركم, ثم امتهنوها لأنفسكم فإنما يحمل الله عز وجل» أبو لاس اسمه محمد بن الأسود بن خلف.
    (حديث آخر) في معناه ـ قال أحمد: حدثنا عتاب, أخبرنا عبد الله, وعلي بن إسحاق, أخبرنا عبد الله يعني ابن المبارك, أخبرنا أسامة بن زيد, أخبرني محمد بن حمزة أنه سمع أباه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «على ظهر كل بعير شيطان فإذا ركبتموها فسموا الله عز وجل ثم لا تقصروا عن حاجاتكم».

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 18:56

    ** وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنّ الإنسَانَ لَكَفُورٌ مّبِينٌ * أَمِ اتّخَذَ مِمّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرّحْمَـَنِ مَثَلاً ظَلّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَن يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ * وَجَعَلُواْ الْمَلاَئِكَةَ الّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرّحْمَـَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ * وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرّحْمَـَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ
    يقول تعالى مخبراً عن المشركين فيما افتروه وكذبوه في جعلهم بعض الأنعام لطواغيتهم وبعضها لله تعالى, كما ذكر الله عز وجل عنهم في سورة الأنعام في قوله تبارك وتعالى: {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون} وكذلك جعلوا له في قسمي البنات والبنين أخسهما وأردأهما وهو البنات, كما قال تعالى: {ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذاً قسمة ضيزى} وقال جل وعلا ههنا: {وجعلوا له من عباده جزءاً إن الإنسان لكفور مبين} ثم قال جل وعلا: {أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين ؟} وهذا إنكار عليهم غاية الإنكار. ثم ذكر تمام الإنكار, فقال جلت عظمته {وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ظل وجهه مسوداً وهو كظيم} أي إذا بشر أحد هؤلاء بما جعلوه لله من البنات يأنف من ذلك غاية الأنفة, وتعلوه كآبة من سوء ما بشر به, ويتوارى من القوم من خجله من ذلك, يقول تبارك وتعالى: فكيف تأنفون من ذلك وتنسبونه إلى الله عز وجل, ثم قال سبحانه وتعالى: {أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين} أي المرأة ناقصة يكمل نقصها بلبس الحلي منذ تكون طفلة وإذا خاصمت فلا عبارة لها, بل هي عاجزة عيية أومن يكون هكذا ينسب إلى جناب الله العظيم, فالأنثى ناقصة الظاهر والباطن في الصورة والمعنى, فيكمل نقص ظاهرها وصورتها بلبس الحلي وما في معناه ليجبر ما فيها من نقص كما قال بعض شعراء العرب:
    وما الحلي إلا زينة من نقيصةيتمم من حسن إذا الحسن قصرا
    وأما إذا كان الجمال موفراًكحسنك لم يحتج إلى أن يزورا
    وأما نقص معناها فإنها ضعيفة عاجزة عن الانتصار عند الانتصار لا عبارة لها ولا همة, كما قال بعض العرب وقد بشر ببنت: ما هي بنعم الولد نصرها بكاء, وبرها سرقة, وقوله تبارك وتعالى: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً} أي اعتقدوا فيهم ذلك, فأنكر عليهم تعالى قولهم ذلك فقال: {أَشهدوا خلقهم} أي شاهدوه وقد خلقهم الله إناثاً {ستكتب شهادتهم} أي بذلك {ويسألون} عن ذلك يوم القيامة وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد {وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم} أي لو أراد الله لحال بيننا وبين عبادة هذه الأصنام التي هي على صور الملائكة التي هي بنات الله, فإنه عالم بذلك وهو يقرنا عليه, فجمعوا بين أنواع كثيرة من الخطأ:
    (أحدها) جعلهم لله تعالى ولداً, تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علواً كبيراً.
    (الثاني) دعواهم أنه اصطفى البنات على البنين فجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً.
    (الثالث) عبادتهم لهم مع ذلك كله بلا دليل ولا برهان ولا إذن من الله عز وجل, بل بمجرد الاَراء والأهواء والتقليد للأسلاف والكبراء والاَباء والخبط في الجاهلية الجهلاء.
    (الرابع) احتجاجهم بتقديرهم على ذلك قدراً, وقد جهلوا في هذا الإحتجاج جهلاً كبيراً, فإنه تعالى قد أنكر ذلك عليهم أشد الإنكار فإنه منذ بعث الرسل وأنزل الكتب يأمر بعبادته وحده لا شريك له, وينهى عن عبادة ما سواه قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} وقال عز وجل: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} وقال جل وعلا في هذه الاَية بعد أن ذكر حجتهم هذه: {ما لهم بذلك من علم} أي بصحة ما قالوه واحتجوا به {إن هم إلا يخرصون} أي يكذبون ويتقولون. وقال مجاهد في قوله تعالى:{ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون} يعني ما يعلمون قدرة الله تبارك وتعالى على ذلك.
    ** أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوَاْ إِنّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىَ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَىَ آثَارِهِم مّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مّن نّذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىَ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَىَ آثَارِهِم مّقْتَدُونَ * قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىَ مِمّا وَجَدتّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قَالُوَاْ إِنّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ
    يقول تعالى منكراً على المشركين في عبادتهم غير الله بلا برهان ولا دليل ولا حجة {أم آتيناهم كتاباً من قبله} أي من قبل شركهم {فهم به مستمسكون} أي فيما هم فيه ليس الأمر كذلك, كقوله عز وجل: {أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون} أي لم يكن ذلك. ثم قال تعالى: {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون} أي ليس لهم مستند فيما هم فيه من الشرك سوى تقليد الاَباء والأجداد بأنهم كانوا على امة, والمراد بها الدين ههنا. وفي قوله تبارك وتعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة} وقولهم: {وإنا على آثارهم} أي وراءهم {مهتدون} دعوى منهم بلا دليل. ثم بين جل وعلا أن مقالة هؤلاء قد سبقهم إليها أشباههم ونظراؤهم من الأمم السالفة المكذبة للرسل, تشابهت قلوبهم فقالوا مثل مقالتهم {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أَتواصوا به بل هم قوم طاغون} وهكذا قال ههنا: {وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} ثم قال عز وجل: {قل} أي يا محمد لهؤلاء المشركين {أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون} أي لو علموا وتيقنوا صحة ما جئتم به لما انقادوا لذلك لسوء قصدهم ومكابرتهم للحق وأهله. قال الله تعالى: {فانتقمنا منهم} أي من الأمم المكذبة بأنواع من العذاب كما فصله تبارك وتعالى في قصصهم {فانظر كيف كان عاقبة المكذبين} أي كيف بادوا وهلكوا وكيف نجى الله المؤمنين.


    ** وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنّنِي بَرَآءٌ مّمّا تَعْبُدُونَ * إِلاّ الّذِي فَطَرَنِي فَإِنّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ * بَلْ مَتّعْتُ هَـَؤُلاَءِ وَآبَآءَهُمْ حَتّىَ جَآءَهُمُ الْحَقّ وَرَسُولٌ مّبِينٌ * وَلَمّا جَآءَهُمُ الْحَقّ قَالُواْ هَـَذَا سِحْرٌ وَإِنّا بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ هَـَذَا الْقُرْآنُ عَلَىَ رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لّيَتّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ مّمّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً لّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرّحْمَـَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِن كُلّ ذَلِكَ لَمّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَالاَخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتّقِينَ
    يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء ووالد من بعث بعده من الأنبياء الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان, فقال: {إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين * وجعلها كلمة باقية في عقبه} أي هذه الكلمة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما سواه من الأوثان, وهي لا إله إلا الله أي جعلها دائمة في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله تعالى من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام {لعلهم يرجعون} أي إليها.
    قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم في قوله عز وجل: {وجعلها كلمة باقية في عقبه} يعني لا إله إلا الله لا يزال في ذريته من يقولها, وروي نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال ابن زيد: كلمة الإسلام وهو يرجع إلى ما قاله الجماعة, ثم قال جل وعلا: {بل متعت هؤلاء} يعني المشركين {وآباءهم} أي فتطاول عليهم العمر في ضلالهم {حتى جاءهم الحق ورسول مبين} أي بين الرسالة والنذارة {ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون} أي كابروه وعاندوه ودفعوا بالصدور والراح كفراً وحسداً وبغياً{وقالوا} أي كالمعترضين على الذي أنزله تعالى وتقدس {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} أي هلا كان إنزال هذا القرآن على رجل عظيم كبير في أعينهم من القريتين ؟ يعنون مكة والطائف, قاله ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي وقتادة والسدي وابن زيد, وقد ذكر غير واحد منهم أنهم أرادوا بذلك الوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي وقال مالك عن زيد بن أسلم والضحاك والسدي: يعنون الوليد بن المغيرة ومسعود بن عمرو الثقفي. وعن مجاهد: يعنون عمير بن عمرو بن مسعود الثقفي وعنه أيضاً أنهم يعنون عتبة بن ربيعة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: جباراً من جبابرة قريش, وعنه رضي الله عنهما أنهم يعنون الوليد بن المغيرة وحبيب بن عمرو بن عمير الثقفي, وعن مجاهد: يعنون عتبة بن ربيعة بمكة وابن عبد ياليل بالطائف. وقال السدي: عنوا بذلك الوليد بن المغيرة وكنانة بن عمرو بن عمير الثقفي, والظاهر أن مرادهم رجل كبير من أي البلدتين كان قال الله تبارك وتعالى راداً عليهم في هذا الإعتراض {أهم يقسمون رحمة ربك ؟} أي ليس الأمر مردوداً إليهم. بل إلى الله عز وجل, والله أعلم حيث يجعل رسالاته, فإنه لا ينزلها إلا على أزكى الخلق قلباً ونفساً. وأشرفهم بيتاً, وأطهرهم أصلاً.
    ثم قال تبارك وتعالى: {وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا} أي إنما ذلك من الدنيا الفانية الزائلة الحقيرة عند الله تعالى, أي يعجل لهم بحسناتهم التي يعملونها في الدنيا مآكل ومشارب ليوافوا الاَخرة, وليس لهم عند الله تبارك وتعالى حسنة يجزيهم بها كما ورد به الحديث الصحيح. وورد في حديث آخر «لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء» أسنده البغوي من رواية زكريا بن منظور عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. ورواه الطبراني من طريق زمعة بن صالح عن أبي حازم عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم «لو عدلت الدنيا عند الله جناح بعوضة ما أعطى كافراً منها شيئاً» ثم قال سبحانه وتعالى: {والاَخرة عند ربك للمتقين} أي هي لهم خاصة لا يشاركهم فيها أحد غيرهم, ولهذا لما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين صعد إليه في تلك المشربة لما آلى صلى الله عليه وسلم من نسائه فرآه على رمال حصير قد أثر بجنبه, فابتدرت عيناه بالبكاء وقال: يا رسول الله هذا كسرى وقيصر فيما هما فيه, وأنت صفوة الله من خلقه, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس وقال: «أو فيّ شاك أنت يا ابن الخطاب ؟» ثم قال صلى الله عليه وسلم أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا» وفي رواية «أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الاَخرة». وفي الصحيحين أيضاً وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة, ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولنا في الاَخرة» وإنما خولهم الله تعالى في الدنيا لحقارتهم كما روى الترمذي وابن ماجه من طريق أبي حازم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء أبداً» قال الترمذي: حسن صحيح.

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 18:56

    ** وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرّحْمَـَنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنّهُمْ لَيَصُدّونَهُمْ عَنِ السّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنّهُم مّهْتَدُونَ * حَتّىَ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يَلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظّلَمْتُمْ أَنّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصّمّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ * فَإِمّا نَذْهَبَنّ بِكَ فَإِنّا مِنْهُم مّنتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنّكَ الّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنّا عَلَيْهِمْ مّقْتَدِرُونَ * فَاسْتَمْسِكْ بِالّذِيَ أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنّكَ عَلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ * وَإِنّهُ لَذِكْرٌ لّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ * وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرّحْمَـَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ
    يقول تعالى: {ومن يعش} أي يتعامى ويتغافل ويعرض {عن ذكر الرحمن} والعشا في العين ضعف بصرها, والمراد ههنا عشا البصيرة {نقيض له شيطاناً فهو له قرين} كقوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى} الاَية, وكقوله: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} وكقوله جل جلاله: {وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم} الاَية, ولهذا قال تبارك وتعالى ههنا: {وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون * حتى إذا جاءنا} أي هذا الذي تغافل عن الهدى نقيض له من الشياطين من يضله ويهديه إلى صراط الجحيم. فإذا وافى الله عز وجل يوم القيامة يتبرم بالشيطان الذي وكل به {قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين} وقرأ بعضهم {حتى إذا جاءانا} يعني القرين والمقارن. قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن سعيد الجريري قال: بلغنا أن الكافر إذا بعث من قبره يوم القيامة سفع بيده شيطان فلم يفارقه حتى يصيرهما الله تبارك وتعالى إلى النار, فذلك حين يقول {يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين} والمراد بالمشرقين هاهنا هو ما بين المشرق والمغرب وإنما استعمل هاهنا تغليباً كما يقال: القمران والعمران والأبوان, قاله ابن جرير وغيره.
    ثم قال تعالى: {ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون} أي لا يغني عنكم اجتماعكم في النار واشتراككم في العذاب الأليم. وقوله جلت عظمته: {أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين} أي ليس ذلك إليك إنما عليك البلاغ وليس عليك هداهم, ولكن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء وهو الحكم العدل في ذلك ثم قال تعالى: {فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون} أي لا بد أن ننتقم منهم ونعاقبهم ولو ذهبت أنت {أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون} أي نحن قادرون على هذا وعلى هذا ولم يقبض الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم حتى أقر عينه من أعدائه وحكمه في نواصيهم, وملكه ما تضمنته صياصيهم! هذا معنى قول السدي واختاره ابن جرير.
    وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى, حدثنا ابن ثور عن معمر قال: تلا قتادة {فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون} فقال: ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقيت النقمة, ولن يري الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في أمته شيئاً يكرهه حتى مضى, ولم يكن نبي قط إلا وقد رأى العقوبة في أمته إلا نبيكم صلى الله عليه وسلم. قال: وذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري ما يصيب أمته من بعده فما رئي ضاحكاً منبسطاً حتى قبضه الله عز وجل, وذكر من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة نحوه, ثم روى ابن جرير عن الحسن نحو ذلك أيضاً, وفي الحديث «النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد, وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون» ثم قال عز وجل {فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم} أي خذ بالقرآن المنزل على قلبك, فإنه هو الحق وما يهدي إليه هو الحق المفضي إلى صراط الله المستقيم الموصل إلى جنات النعيم والخير الدائم المقيم.
    ثم قال جل جلاله: {وإنه لذكر لك ولقومك} قيل معناه لشرف لك ولقومك, قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد, واختاره ابن جرير ولم يحك سواه وأورد البغوي ههنا حديث الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن هذا الأمر في قريش لا ينازعهم فيه أحد إلا أكبه الله تعالى على وجهه ما أقاموا الدين» رواه البخاري ومعناه أنه شرف لهم من حيث إنه أنزل بلغتهم, فهم أفهم الناس له فينبغي أن يكونوا أقوم الناس به وأعملهم بمقتضاه, وهكذا كان خيارهم وصفوتهم من الخلص من المهاجرين السابقين الأولين ومن شابههم وتابعهم, وقيل معناه {وإنه لذكر لك ولقومك} أي لتذكير لك ولقومك, وتخصيصهم بالذكر لا ينفي من سواهم, كقوله تعالى: {لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون} وكقوله تبارك وتعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} {وسوف تسألون} أي عن هذا القرآن, وكيف كنتم في العمل به والاستجابة له.
    وقوله سبحانه وتعالى: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} أي جميع الرسل دعوا إلى ما دعوت الناس إليه من عبادة الله وحده لا شريك له, ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد, كقوله جلت عظمته: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} قال مجاهد في قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: واسأل الذين أرسلنا إليهم قبلك من رسلنا. وهكذا حكاه قتادة والضحاك والسدي عن ابن مسعود رضي الله عنه, وهذا كأنه تفسير لا تلاوة, والله أعلم. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: واسألهم ليلة الإسراء, فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جمعوا له, واختار ابن جرير الأول, والله أعلم.


    ** وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىَ بِآيَاتِنَآ إِلَىَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنّي رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ * فَلَمّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مّنْهَا يَضْحَكُونَ * وَمَا نُرِيِهِم مّنْ آيَةٍ إِلاّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقَالُواْ يَأَيّهَا السّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنّنَا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ
    يقول تعالى مخبراً عبده ورسوله موسى عليه السلام أنه ابتعثه إلى فرعون وملئه من الأمراء والوزراء والقادة والأتباع والرعايا من القبط وبني إسرائيل يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له, وينهاهم عن عبادة ما سواه, وأنه بعث معه آيات عظاماً كيده وعصاه, وما أرسل معه من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم, ومن نقص الزروع والأنفس والثمرات, ومع هذا كله استكبروا عن اتباعها والانقياد لها, وكذبوها وسخروا منها وضحكوا ممن جاءهم بها{وما تأتيهم من آية إلا هي أكبر من أختها} ومع هذا ما رجعوا عن غيهم وضلالهم, وجهلهم وخبالهم وكلما جاءتهم آية من هذه الاَيات يضرعون إلى موسى عليه الصلاة والسلام ويتلطفون له في العبارة بقولهم: {يا أيها الساحر} أي العالم, قاله ابن جرير, وكان علماء زمانهم هم السحرة. ولم يكن السحر في زمانهم مذموماً عندهم فليس هذا منهم على سبيل الانتقاص منهم لأن الحال حال ضرورة منهم إليه لا تناسب ذلك, وإنما هو تعظيم في زعمهم, ففي كل مرة يعدون موسى عليه السلام إن كشف عنهم هذا أن يؤمنوا به ويرسلوا معه بني إسرائيل وفي كل مرة ينكثون ما عاهدوا عليه, وهذا كقوله تبارك وتعالى: {فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين * ولما وقع عليهم الرجز قال يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل * فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون}.


    ** وَنَادَىَ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيَ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مّنْ هَـَذَا الّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ الْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ * فَلَمّآ آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لّلاَخِرِينَ

    يقول تعالى مخبراً عن فرعون وتمرده وعتوه وكفره وعناده, أنه جمع قومه فنادى فيهم متبجحاً مفتخراً بملك مصر وتصرفه فيها{أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي} قال قتادة: قد كانت لهم جنات وأنهار ماء {أفلا تبصرون} أي أفلا ترون ما أنا فيه من العظمة والملك, يعني موسى وأتباعه فقراء ضعفاء وهذا كقوله تعالى:{فحشر فنادى * فقال أنا ربكم الأعلى * فأخذه الله نكال الاَخرة والأولى}.
    وقوله: {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين} قال السدي: يقول بل أنا خير من هذا الذي هو مهين, وهكذا قال بعض نحاة البصرة: إن أم ههنا بمعنى بل, ويؤيد هذا ما حكاه الفراء عن بعض القراء أنه قرأها {أما أنا خير من هذا الذي هو مهين} قال ابن جرير: ولو صحت هذه القراءة لكان معناها صحيحاً واضحاً, ولكنها خلاف قراءة الأمصار فإنهم قرأوا {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين} على الاستفهام (قلت) وعلى كل تقدير فإنما يعني فرعون لعنه الله بذلك أنه خير من موسى عليه الصلاة والسلام, وقد كذب في قوله هذا كذباً بيناً واضحاً) فعليه لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة. ويعني بقوله مهين كما قال سفيان حقير, وقال قتادة والسدي: يعني ضعيف. وقال ابن جرير: يعني لا ملك له ولا سلطان ولا مال {ولا يكاد يبين} يعني لا يكاد يفصح عن كلامه فهو عيي حصر. قال السدي {لا يكاد يبين} أي لا يكاد يفهم. وقال قتادة والسدي وابن جرير: يعني عيي اللسان, وقال سفيان: يعني في لسانه شيء من الجمرة حين وضعها في فمه وهو صغير, وهذا الذي قاله فرعون لعنه الله كذب واختلاق, وإنما حمله على هذا الكفر والعناد وهو ينظر إلى موسى عليه الصلاة والسلام بعين كافرة شقية, وقد كان موسى عليه السلام من الجلالة والعظمة والبهاء في صورة يبهر أبصار ذوي الألباب.
    وقوله: {مهين} كذب. بل هو المهين الحقير خلقة وخلقاً وديناً, وموسى هو الشريف الصادق البار الراشد. وقوله: {ولا يكاد يبين} افتراء أيضاً فإنه وإن كان قد أصاب لسانه في حال صغره شيء من جهة تلك الجمرة, فقد سأل الله عز وجل أن يحل عقدة من لسانه ليفقهوا قوله, وقد استجاب الله تبارك وتعالى له ذلك في قوله: {قد أوتيت سؤلك يا موسى} وبتقدير أن يكون قد بقي شيء لم يسأل إزالته, كما قاله الحسن البصري وإنما سأل زوال ما يحصل معه الإبلاغ والإفهام, فالأشياء الخلقية التي ليست من فعل العبد لا يعاب بها ولا يذم عليها, وفرعون وإن كان يفهم وله عقل, فهو يدري هذا, وإنما أراد الترويج على رعيته فإنهم كانوا جهلة أغبياء وهكذا قوله: {فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب} وهي ما يجعل في الأيدي من الحلي. قال ابن عباس رضي الله عنهماوقتادة وغير واحد {أو جاء معه الملائكة مقترنين} أي يكنفونه خدمة له ويشهدون بتصديقه, نظر إلى الشكل الظاهر ولم يفهم السر المعنوي الذي هو أظهر مما نظر إليه لو كان يفهم, ولهذا قال تعالى: {فاستخف قومه فأطاعوه} أي استخف عقولهم فدعاهم إلى الضلالة فاستجابوا له {إنهم كانوا قوماً فاسقين} قال الله تعالى: {فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: آسفونا أسخطونا, وقال الضحاك عنه: أغضبونا, وهكذا قال ابن عباس أيضاً ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي وقتادة والسدي وغيرهم من المفسرين.

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 18:57

    ** إِنّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنّمَ خَالِدُونَ * لاَ يُفَتّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـَكِن كَانُواْ هُمُ الظّالِمِينَ * وَنَادَوْاْ يَمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبّكَ قَالَ إِنّكُمْ مّاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقّ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقّ كَارِهُونَ * أَمْ أَبْرَمُوَاْ أَمْراً فَإِنّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنّا لاَ نَسْمَعُ سِرّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىَ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ
    لما ذكر تعالى حال السعداء ثنى بذكر الأشقياء فقال: {إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون * لا يفتر عنهم} أي ساعة واحدة {وهم فيه مبسلون} أي آيسون من كل خير. {وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين} أي بأعمالهم السيئة بعد قيام الحجة عليهم. وإرسال الرسل إليهم, فكذبوا وعصوا فجوزوا بذلك جزاء وفاقاً وما ربك بظلام للعبيد. {ونادوا يا مالك} وهو خازن النار. قال البخاري: حدثنا حجاج بن منهال حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن عطاء عن صفوان بن يعلى عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك} أي يقبض أرواحنا فيريحنا مما نحن فيه فإنهم كما قال تعالى: {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها} وقال عز وجل: {ويتجنبها الأشقى * الذي يصلى النار الكبرى * ثم لا يموت فيها ولا يحيا} فلما سألوا أن يموتوا أجابهم مالك {قال إنكم ماكثون} قال ابن عباس: مكث ألف سنة ثم قال: إنكم ماكثون رواه ابن أبي حاتم أي لا خروج لكم منها ولا محيد لكم عنها ثم ذكر سبب شقوتهم, وهو مخالفتهم للحق ومعاندتهم له فقال: {لقد جئناكم بالحق} أي بيناه لكم ووضحناه وفسرناه {ولكن أكثركم للحق كارهون} أي ولكن كانت سجاياكم لا تقبله ولا تقبل عليه, وإنما تنقاد للباطل وتعظمه, وتصد عن الحق وتأباه وتبغض أهله, فعودوا على أنفسكم بالملامة. واندموا حيث لا تنفعكم الندامة, ثم قال تبارك وتعالى: {أم أبرموا أمراً فإنا مبرمون} قال مجاهد: أرادوا كيد شر, فكدناهم وهذا الذي قاله مجاهد كما قال تعالى: {ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون} وذلك لأن المشركين كانوا يتحيلون في رد الحق بالباطل بحيل ومكر يسلكونه, فكادهم الله تعالى ورد وبال ذلك عليهم, ولهذا قال: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم} أي سرهم وعلانيتهم {بلى ورسلنا لديهم يكتبون} أي نحن نعلم ما هم عليه والملائكة أيضاً يكتبون أعمالهم صغيرها وكبيرها.


    ** قُلْ إِن كَانَ لِلرّحْمَـَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوّلُ الْعَابِدِينَ * سُبْحَانَ رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ * فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتّىَ يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الّذِي يُوعَدُونَ * وَهُوَ الّذِي فِي السّمآءِ إِلَـَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَـَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * وَتَبَارَكَ الّذِي لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَلاَ يَمْلِكُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشّفَاعَةَ إِلاّ مَن شَهِدَ بِالْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَلَئِن سَأَلْتَهُم مّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنّ اللّهُ فَأَنّىَ يُؤْفَكُونَ * وَقِيلِهِ يَرَبّ إِنّ هَـَؤُلاَءِ قَوْمٌ لاّ يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
    يقول تعالى: {قل} يا محمد {إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} أي لو فرض هذا لعبدته على ذلك, لأني عبد من عبيده مطيع لجميع ما يأمرني به ليس عندي استكبار ولا إباء عن عبادته, فلو فرض هذا لكان هذا, ولكن هذا ممتنع في حقه تعالى والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز أيضاً كما قال عز وجل: {لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هوالله الواحد القهار} وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: {فأنا أول العابدين} أي الاَنفين, ومنهم سفيان الثوري والبخاري, حكاه فقال ويقال أول العابدين الجاحدين من عَبِد يعْبَد, وذكر ابن جرير لهذا القول من الشواهد ما رواه عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب, حدثني ابن أبي ذئب عن أبي قسيط عن بعجة بن زيد الجهني أن امرأة منهم دخلت على زوجها وهو رجل منهم أيضاً, فولدت له في ستة أشهر فذكر ذلك زوجها لعثمان بن عفان رضي الله عنه, فأمر بها أن ترجم, فدخل عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: إن الله تعالى يقول في كتابه {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} وقال عز وجل: {وفصاله في عامين} قال: فو الله ما عبد عثمان رضي الله عنه أن بعث إليها ترد, قال يونس: قال ابن وهب: عبد استنكف. وقال الشاعر:
    ة متى ما يشأ ذو الود يصرم خليلهويعبد عليه لا محالة ظالما
    وهذا القول فيه نظر لأنه كيف يلتئم مع الشرط فيكون تقديره إن كان هذا فأنا ممتنع منه ؟ هذا فيه نظر فليتأمل اللهم إلا أن يقال: أن إنْ ليست شرطاً وإنما هي نافية, كما قال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {قل إن كان للرحمن ولد} يقول: لم يكن للرحمن ولد, فأنا أول الشاهدين. وقال قتادة هي كلمة من كلام العرب {إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} أي إن ذلك لم يكن فلا ينبغي, وقال أبو صخر {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} أي فأنا أول من عبده بأن لا ولد له, وأول من وحده, وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وقال مجاهد {فأنا أول العابدين} أي أول من عبده ووحده وكذبكم, وقال البخاري {فأنا أول العابدين} الاَنفين وهما لغتان رجل عابد وعبد, والأول أقرب على أنه شرط وجزاء ولكن هو ممتنع, وقال السدي {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} يقول : لو كان له ولد كنت أول من عبده بأن له ولداً ولكن لا ولد له, وهو اختيار ابن جرير ورد قول من زعم أن إنْ نافية. ولهذا قال تعالى: {سبحان رب السموات والأرض رب العرش عما يصفون} أي تعالى وتقدس وتنزه خالق الأشياء عن أن يكون له ولد فإنه فرد أحد صمد, لا نظير له ولا كفء له فلا ولد له.
    وقوله تعالى: {فذرهم يخوضوا} أي في جهلهم وضلالهم {ويلعبوا} في دنياهم {حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون} وهو يوم القيامة أي فسوف يعلمون كيف يكون مصيرهم ومآلهم وحالهم في ذلك اليوم قوله تبارك وتعالى: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} أي هو إله من في السماء وإله من في الأرض يعبده أهلها وكلهم خاضعون له أذلاء بين يديه {وهو الحكيم العليم} وهذه الاَية كقوله سبحانه وتعالى: {وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون} أي هو المدعو الله في السموات والأرض {وتبارك الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما} أي هو خالقها ومالكها, والمتصرف فيها بلا مدافعة ولا ممانعة, فسبحانه وتعالى عن الولد وتبارك, أي استقر له السلامة من العيوب والنقائص, لأنه الرب العلي العظيم المالك للأشياء الذي بيده أزمة الأمور نقضاً وإبراماً. {وعنده علم الساعة} أي لا يجليها لوقتها إلا هو {وإليه ترجعون} أي فيجازي كلاً بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر. ثم قال تعالى: {ولا يملك الذين يدعون من دونه} أي من الأصنام والأوثان {الشفاعة} أي لا يقدرون على الشفاعة لهم {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} هذا استثناء منقطع. أي لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم, فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له. ثم قال عز وجل: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون} أي ولئن سألت هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره {من خلقهم ليقولن الله} أي هم يعترفون أنه الخالق للأشياء جميعها وحده لا شريك له في ذلك, ومع هذا يعبدون معه غيره ممن لا يملك شيئاً ولا يقدر على شيء, فهم في ذلك في غاية الجهل والسفاهة وسخافة العقل. ولهذا قال تعالى: {فأنى يؤفكون}.
    وقوله جل وعلا: {وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون} أي وقال محمد صلى الله عليه وسلم, قيله أي شكا إلى ربه شكواه من قومه الذين كذبوه فقال يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون, كما أخبر تعالى في الاَية الأخرى: {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً} وهذا الذي قلناه هو قول ابن مسعود رضي الله عنه ومجاهد وقتادة, وعليه فسر ابن جرير, قال البخاري: وقرأ عبد الله يعني ابن مسعود رضي الله عنه {وقال الرسول يا رب} وقال مجاهد في قوله: {وقيله يا رب إن هؤلاء لا يؤمنون} قال يؤثر الله عز وجل قول محمد صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة: هو قول نبيكم صلى الله عليه وسلم يشكو قومه إلى ربه عز وجل. ثم حكى ابن جرير في قوله تعالى: {وقيله يا رب} قراءتين إحداهما النصب, ولها توجيهان: أحدهما أنه معطوف على قوله تبارك وتعالى: {نسمع سرهم ونجواهم} والثاني أن يقدر فعل وقال قيله, والثانية الخفض وقيله عطفاً على قوله: {وعنده علم الساعة} وتقديره وعلم قيله. وقوله تعالى: {فاصفح عنهم} أي المشركين {وقل سلام} أي لا تجاوبهم بمثل ما يخاطبونك به من الكلام السيء, ولكن تألفهم واصفح عنهم فعلاً وقولاً {فسوف يعلمون} هذا تهديد من الله تعالى لهم, ولهذا أحلّ بهم بأسه الذي لا يرد وأعلى دينه وكلمته, وشرع بعد ذلك الجهاد والجلاد حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً, وانتشر الإسلام في المشارق والمغارب والله أعلم. آخر تفسير سورة الزخرف.

    تمت سورة الزخرف
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 18:57

    سورة الدخان
    وهي مكية
    قال الترمذي: حدثنا سفيان بن وكيع, حدثنا زيد بن الحباب عن عمر بن أبي خثعم عن يحيى بن أبي كثير, عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك» ثم قال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه, وعمر بن أبي خثعم يضعف قال البخاري منكر الحديث.
    ثم قال: حدثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي, حدثنا زيد بن الحباب عن هشام أبي المقدام عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة غفر له» ثم قال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه, وهشام أبو المقدام يضعف, والحسن لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه, كذا قال أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد رحمة الله عليهم أجمعين, وفي مسند البزار من رواية أبي الطفيل عامر بن واثلة عن زيد بن حارثة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن صياد: «إني قد خبأت خبأ فما هو ؟» وخبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الدخان فقال: هو الدخ. فقال: «اخسأ ما شاء الله كان» ثم انصرف.
    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** حمَ * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مّبَارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مّنْ عِنْدِنَآ إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مّن رّبّكَ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُم مّوقِنِينَ * لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ رَبّكُمْ وَرَبّ آبَآئِكُمُ الأوّلِينَ
    يقول تعالى مخبراً عن القرآن العظيم أنه أنزله في ليلة مباركة, وهي ليلة القدر كما قال عز وجل: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} وكان ذلك في شهر رمضان كما قال تبارك وتعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} وقد ذكرنا في الأحاديث الواردة في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته, ومن قال: إنها ليلة النصف من شعبان كما روي عن عكرمة فقد أبعد النجعة, فإن نص القرآن أنها في رمضان, والحديث الذي رواه عبد الله بن صالح عن الليث عن عقيل عن الزهري, أخبرني عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تقطع الاَجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له وقد أخرج اسمه في الموتى» فهو حديث مرسل ومثله لا يعارض به النصوص. وقوله عز وجل: {إنا كنا منذرين} أي معلمين ما ينفعهم ويضرهم شرعاً لتقوم حجة الله على عباده.
    وقوله: {فيها يفرق كل أمر حكيم} أي في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة, وما يكون فيها من الاَجال والأرزاق وما يكون فيها إلى آخرها. وهكذا روي عن ابن عمر ومجاهد وأبي مالك والضحاك وغير واحد من السلف وقوله جل وعلا: {حكيم} أي محكم لا يبدل ولا يغير, ولهذا قال جل جلاله: {أمراً من عندنا} أي جميع ما يكون ويقدره الله تعالى وما يوحيه فبأمره وإذنه وعلمه {إنا كنا مرسلين} أي إلى الناس رسولاً يتلو عليهم آيات الله مبينات فإن الحاجة كانت ماسة إليه, ولهذا قال تعالى: {رحمة من ربك إنه هو السميع العليم * رب السموات والأرض وما بينهما} أي الذي أنزل القرآن هو رب السموات والأرض وخالقها ومالكها وما فيها {إن كنتم موقنين} أي إن كنتم متحققين ثم قال تعالى: {لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين} وهذه الاَية كقوله تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت} الاَية.


    ** بَلْ هُمْ فِي شَكّ يَلْعَبُونَ * فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السّمَآءُ بِدُخَانٍ مّبِينٍ * يَغْشَى النّاسَ هَـَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رّبّنَا اكْشِفْ عَنّا الْعَذَابَ إِنّا مْؤْمِنُونَ * أَنّىَ لَهُمُ الذّكْرَىَ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مّبِينٌ * ثُمّ تَوَلّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلّمٌ مّجْنُونٌ * إِنّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنّكُمْ عَآئِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَىَ إِنّا مُنتَقِمُونَ
    يقول تعالى: بل هؤلاء المشركون في شك يلعبون أي قد جاءهم الحق اليقين وهم يشكون فيه ويمترون ولا يصدقون به, ثم قال عز وجل متوعداً لهم ومهدداً: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} قال سليمان بن مهران الأعمش عن أبي الضحى مسلم بن صبيح, عن مسروق قال: دخلنا المسجد, يعني مسجد الكوفة عند أبواب كندة, فإذا رجل يقص على أصحابه {يوم تأتي السماء بدخان مبين} تدرون ما ذلك الدخان ؟ ذلك دخان يأتي يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام, قال: فأتينا ابن مسعود رضي الله عنه, فذكرنا له ذلك وكان مضطجعاً, ففزع فقعد وقال: إن الله عز وجل قال لنبيكم صلى الله عليه وسلم: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم الله أعلم سأحدثكم عن ذلك, إن قريشاً لما أبطأت عن الإسلام واستعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف, فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة, وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان, وفي رواية فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد.
    قال الله تعالى: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم} فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل يا رسول الله استسق الله لمضر فإنها قد هلكت, فاستسقى صلى الله عليه وسلم لهم فسقوا فنزلت {إنا كاشفو العذاب قليلاً إنكم عائدون} قال ابن مسعود رضي الله عنه: فيكشف عنهم العذاب يوم القيامة فلما أصابهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنزل الله عز وجل: {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} قال يعني يوم بدر قال ابن مسعود رضي الله عنه: فقد مضى خمسة: الدخان والروم والقمر والبطشة واللزام, وهذا الحديث مخرج في الصحيحين ورواه الإمام أحمد في مسنده, وهو عند الترمذي والنسائي في تفسيريهما, وعند ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق متعددة عن الأعمش به, وقد وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسير الاَية بهذا, وأن الدخان مضى: جماعة من السلف كمجاهد وأبي العالية وإبراهيم النخعي والضحاك وعطية العوفي, وهو اختيار ابن جرير.
    وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا جعفر بن مسافر, حدثنا يحيى بن حسان, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا عبد الرحمن الأعرج في قوله عز وجل: {يوم تأتي السماء بدخان مبين} قال: كان يوم فتح مكة وهذا القول غريب جداً بل منكر. وقال آخرون لم يمض الدخان بعد بل هو من أمارات الساعة كما تقدم من حديث أبي سريحة حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه, قال: أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة ونحن نتذاكر الساعة فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها, والدخان والدابة وخروج يأجوج ومأجوج وخروج عيسى بن مريم والدجال وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق, وخسف بالمغرب, وخسف بجزيرة العرب, ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس ـ أو تحشر الناس ـ تبيت معهم حيث باتوا, وتقيل معهم حيث قالوا». تفرد بإخراجه مسلم في صحيحه, وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن صياد: «إني خبأت لك خبأ» قال: هو الدخ, قال صلى الله عليه وسلم «اخسأ فلن تعدو قدرك» قال: وخبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} وهذا فيه إشعار بأنه من المنتظر المرتقب, وابن صياد كاشف على طريقة الكهان بلسان الجان, وهم يقرطمون العبارة, ولهذا قال هو الدخ, يعني الدخان, فعندها عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مادته وأنها شيطانية فقال صلى الله عليه وسلم: «اخسأ فلن تعدو قدرك».
    ثم قال ابن جرير: وحدثني عصام بن رواد بن الجراح, حدثنا أبي, حدثنا سفيان بن أبي سعيد الثوري, حدثنا منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش قال: سمعت حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول الاَيات الدجال ونزول عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام, ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا, والدخان ـ قال حذيفة رضي الله عنه يا رسول الله وما الدخان ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاَية {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين * يغشى الناس هذا عذاب أليم} ـ يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوماً وليلة, أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة, وأما الكافر فيكون بمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره». قال ابن جرير: لو صح هذا الحديث لكان فاصلاً وإنما لم أشهد له بالصحة لأن محمد بن خلف العسقلاني حدثني أنه سأل رواداً عن هذا الحديث هل سمعه من سفيان ؟ فقال له: لا , قال فقلت: أقرأته عليه ؟ قال:لا , قال فقلت: أقرىء عليه وأنت حاضر فأقر به ؟ فقال: لا , فقلت له: فمن أين جئت به ؟ فقال: جاءني به قوم فعرضوه علي وقالوا لي اسمعه منا, فقرءوه علي ثم ذهبوا به فحدثوا به عني أو كما قال وقد أجاد ابن جرير في هذا الحديث ههنا, فإنه موضوع بهذا السند, وقد أكثر ابن جرير من سياقه في أماكن من هذا التفسير, وفيه منكرات كثيرة جداً, ولا سيما في أول سورة بني إسرائيل في ذكر المسجد الأقصى, والله أعلم.
    وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا محمد بن عوف, حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش, حدثني أبي, حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم أنذركم ثلاثاً: الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة, ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه, والثانية الدابة والثالثة الدجال». ورواه الطبراني عن هاشم بن يزيد عن محمد بن إسماعيل بن عياش به وهذا إسناد جيد. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا صفوان, حدثنا الوليد, حدثنا خليل عن الحسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يهيج الدخان بالناس, فأما المؤمن فيأخذه الزكمة, وأما الكافر فينفخه حتى يخرج من كل مسمع منه». ورواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه موقوفاً, وروى سعيد بن عوف عن الحسن مثله.
    وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم, حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال: لم تمض آية الدخان بعد, يأخذ المؤمن كهيئة الزكام وتنفخ الكافر حتى ينفذ وروى ابن جرير من حديث الوليد بن جميع عن عبد الملك بن المغيرة, عن عبد الرحمن بن البيلماني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: يخرج الدخان فيأخذ المؤمن كهيئة الزكام, ويدخل مسامع الكافر والمنافق حتى يكون كالرأس الحنيذ أي المشوي على الرضف, ثم قال ابن جرير: حدثني يعقوب, حدثنا ابن علية عن ابن جريج عن عبد الله بن أبي مليكة قال: غدوت على ابن عباس رضي الله عنهما ذات يوم فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت. قلت: لِمَ ؟ قال: قالوا طلع الكوكب ذو الذنب, فخشيت أن يكون الدخان قد طرق فما نمت حتى أصبحت. وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن ابن أبي عمر عن سفيان عن عبد الله بن أبي يزيد, عن عبد الله بن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره, وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن, وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما التي أوردوها مما فيه مقنع, ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الاَيات المنتظرة مع أنه ظاهر القرآن, قال الله تبارك وتعالى: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} أي بين واضح يراه كل أحد, وعلى ما فسر به ابن مسعود رضي الله عنه إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد, وهكذا قوله تعالى: {يغشى الناس} أي يتغشاهم ويعمهم, ولو كان أمراً خيالياً يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه {يغشى الناس}.

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 18:58

    ** وَلَقَدْ فَتَنّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ * أَنْ أَدّوَاْ إِلَيّ عِبَادَ اللّهِ إِنّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * وَأَن لاّ تَعْلُواْ عَلَى اللّهِ إِنّيَ آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مّبِينٍ * وَإِنّي عُذْتُ بِرَبّي وَرَبّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ * وَإِن لّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فَاعْتَزِلُونِ * فَدَعَا رَبّهُ أَنّ هَـَؤُلاَءِ قَوْمٌ مّجْرِمُونَ * فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنّكُم مّتّبَعُونَ * وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنّهُمْ جُندٌ مّغْرَقُونَ * كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السّمَآءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ * وَلَقَدْ نَجّيْنَا بَنِيَ إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِن فِرْعَوْنَ إِنّهُ كَانَ عَالِياً مّنَ الْمُسْرِفِينَ * وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىَ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُم مّنَ الاَيَاتِ مَا فِيهِ بَلاَءٌ مّبِينٌ
    يقول تعالى: ولقد اختبرنا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون وهم قبط مصر {وجاءهم رسول كريم} يعني موسى كليمه عليه الصلاة والسلام {أن أدوا إليّ عباد الله} كقوله عز وجل: {أن أرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى}. وقوله جل وعلا: {إني لكم رسول أمين} أي مأمون على ما أبلغكموه. وقوله تعالى: {وأن لا تعلوا على الله} أي لا تستكبروا عن اتباع آياته والانقياد لحججه والإيمان ببراهينه كقوله عز وجل: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} {إني آتيكم بسلطان مبين} أي بحجة ظاهرة واضحة وهي ما أرسله الله تعالى به من الاَيات البينات والأدلة القاطعات. {وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون} قال ابن عباس رضي الله عنهما وأبو صالح: هو الرجم باللسان وهو الشتم. وقال قتادة: الرجم بالحجارة أي أعوذ بالله الذي خلقني وخلقكم من أن تصلوا إلي بسوء من قول أو فعل {وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون} أي فلا تتعرضوا لي ودعوا الأمر بيني وبينكم مسالمة إلى أن يقضي الله بيننا. فلما طال مقامه صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم وأقام حجج الله تعالى عليهم. كل ذلك وما زادهم ذلك إلا كفراً وعناداً, دعا ربه عليهم دعوة نفذت فيهم كما قال تبارك وتعالى: {وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم * قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما} وهكذا قال ههنا: {فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون} فعند ذلك أمره الله تعالى أن يخرج ببني إسرائيل من بين أظهرهم من غير أمر فرعون ومشاورته واستئذانه ولهذا قال جل جلاله: {فأسر بعبادي ليلاً إنكم متبعون} كما قال تعالى: {ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاًولا تخشى}.
    وقوله عز وجل ههنا: {واترك البحر رهواً إنهم جند مغرقون} وذلك أن موسى عليه الصلاة والسلام لما جاوز هو وبنو إسرائيل البحر, أراد موسى أن يضربه بعصاه حتى يعود كما كان, ليصير حائلاً بينهم وبين فرعون فلا يصل إليهم, فأمره الله تعالى أن يتركه على حاله ساكناً وبشره بأنهم جند مغرقون فيه وأنه لا يخاف دركاً ولا يخشى, وقال ابن عباس رضي الله عنهما {واترك البحر رهواً} كهيئته وامضه, وقال مجاهد: رهواً طريقاً يبساً كهيئته. يقول: لا تأمره يرجع اتركه حتى يرجع آخرهم, وكذا قال عكرمة والربيع بن أنس والضحاك وقتادة وابن زيد, وكعب الأحبار وسماك بن حرب وغير واحد ثم قال تعالى: {كم تركوا من جنات} وهي البساتين {وعيون وزروع} والمراد بها الأنهار والاَبار {ومقام كريم} وهي المساكن الأنيقة والأماكن الحسنة, وقال مجاهد وسعيد بن جبير {ومقام كريم} المنابر, وقال ابن لهيعة عن وهب بن عبد الله المعافري عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: نيل مصر سيد الأنهار سخر الله تعالى له كل نهر بين المشرق والمغرب وذلله له, فإذا أراد الله عز وجل أن يجري نيل مصر أمر كل نهر أن يمده فأمدته الأنهار بمائها, وفجر الله تبارك وتعالى له الأرض عيوناً, فإذا انتهى جريه إلى ما أراد الله جل وعلا أوحى الله تعالى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره, وقال في قول الله تعالى: {فأخرجناهم من جنات وعيون * وزروع ومقامٍ كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين} قال: كانت الجنان بحافتي نهر النيل من أوله إلى آخره في الشقين جميعاً, ما بين أسوان إلى رشيد, وكان له تسع خلج: خليج الإسكندرية, وخليج دمياط, وخليج سردوس, وخليج منف, وخليج الفيوم, وخليج المنهى متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء وزرع ما بين الجبلين كله من أول مصر إلى آخر ما يبلغه الماء, وكانت جميع أرض مصر تروى من ستة عشر ذراعاً لما قدروا ودبروا من قناطرها وجسورها وخلجها.
    {ونعمة كانوا فيها فاكهين} أي عيشة كانوا يتفكهون فيها فيأكلون ما شاؤوا ويلبسون ما أحبوا مع الأموال والجاهات والحكم في البلاد, فسلبوا ذلك جميعه في صبيحة واحدة وفارقوا الدنيا وصاروا إلى جهنم وبئس المصير, واستولى على البلاد المصرية وتلك الحواصل الفرعونية والممالك القبطية بنو إسرائيل كما قال تبارك وتعالى: {كذلك وأورثناها بني إسرائيل}. وقال في هذه الاَية الأخرى {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا, ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه, وما كانوا يعرشون}.
    وقال عز وجل ههنا: {كذلك وأورثناها قوماً آخرين} وهم بنو إسرائيل كما تقدم. وقوله سبحانه وتعالى: {فما بكت عليهم السماء والأرض} أي لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم, ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله تعالى فيها فقدتهم, فلهذا استحقوا أن لا ينظروا ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم وعتوهم وعنادهم. قال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا أحمد بن إسحاق البصري, حدثنا مكي بن إبراهيم, حدثنا موسى بن عبيدة, حدثني يزيد الرقاشي حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد إلا وله في السماء بابان: باب يخرج منه رزقه, وباب يدخل منه عمله وكلامه, فإذا مات فقداه وبكيا عليه». وتلا هذه الاَية {فما بكت عليهم السماء والأرض} وذكر أنهم لم يكونوا عملوا على الأرض عملاً صالحاً يبكي عليهم, ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي عليهم, ورواه ابن أبي حاتم من حديث موسى بن عبيدة وهو الربذي, وقال ابن جرير: حدثني يحيى بن طلحة, حدثني عيسى بن يونس عن صفوان بن عمرو عن شريح بن عبيد الحضرمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ. ألا لا غربة على مؤمن, ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض» ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {فما بكت عليهم السماء والأرض} ثم قال: «إنهما لا يبكيان على الكافر».
    وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عصام, حدثنا أبو أحمد يعني الزبيري, حدثنا العلاء بن صالح عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله قال: سأل رجل علياً رضي الله عنه هل تبكي السماء والأرض على أحد ؟ فقال له: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من قبلك, إنه ليس من عبد إلا له مصلى في الأرض ومصعد عمله من السماء. وإن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض ولا عمل يصعد في السماء ثم قرأ علي رضي الله عنه {فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين} وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب , حدثنا طلق بن غنام عن زائدة عن منصور عن منهال عن سعيد بن جبير قال: أتى ابن عباس رضي الله عنهما رجل فقال: يا أبا العباس أرأيت قول الله تعالى: {فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين} فهل تبكي السماء والأرض على أحد ؟ قال رضي الله عنه: نعم إنه ليس أحد من الخلائق إلا وله باب في السماء منه ينزل رزقه وفيه يصعد عمله, فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه ففقده بكى عليه, وإذا فقده مصلاه من الأرض التي كان يصلي فيها ويذكر الله عز وجل فيها بكت عليه, وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الأرض آثار صالحة ولم يكن يصعد إلى الله عز وجل منهم خير, فلم تبك عليهم السماء والأرض, وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما نحو هذا.
    وقال سفيان الثوري عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان يقال تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحاً, وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وغير واحد, وقال مجاهد أيضاً: ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً, قال فقلت له: أتبكي الأرض ؟ فقال: أتعجب وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود ؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دوي كدوي النحل ؟ وقال قتادة: كانوا أهون على الله عز وجل من أن تبكي عليهم السماء والأرض. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا عبد السلام بن عاصم, حدثنا إسحاق بن إسماعيل, حدثنا المستورد بن سابق عن عبيد المكتب عن إبراهيم قال: ما بكت السماء منذ كانت الدنيا إلا على اثنين, قلت لعبيد: أَليس السماء والأرض تبكي على المؤمن ؟ قال: ذاك مقامه حيث يصعد عمله. قال: وتدري ما بكاء السماء! قلت: لا . قال: تحمر وتصير وردة كالدهان, إن يحيى بن زكريا عليه الصلاة والسلام لما قتل احمرت السماء وقطرت دماً وإن الحسين بن علي رضي الله عنهما لما قتل احمرت السماء.
    وحدثنا علي بن الحسين, حدثنا أبو غسان محمد بن عمرو زنيج, حدثنا جرير عن يزيد بن أبي زياد قال: لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما احمرت آفاق السماء أربعة أشهر, قال يزيد: واحمرارها بكاؤها, وهكذا قال السدي في الكبير, وقال عطاء الخراساني: بكاؤها أن تحمر أطرافها وذكروا أيضاً في مقتل الحسين رضي الله عنه أنه ما قلب حجر يومئذ إلا وجد تحته دم عبيط, وأنه كسفت الشمس واحمر الأفق وسقطت حجارة, وفي كل من ذلك نظر, والظاهر أنه من سخف الشيعة وكذبهم ليعظموا الأمر ولا شك أنه عظيم, ولكن لم يقع هذا الذي اختلقوه وكذبوه وقد وقع ما هو أعظم من قتل الحسين رضي الله عنه ولم يقع شيء مما ذكروه, فإنه قتل أبوه علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أفضل منه بالإجماع, ولم يقع شيء من ذلك, وعثمان بن عفان رضي الله عنه قتل محصوراً مظلوماً ولم يكن شيء من ذلك. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل في المحراب في صلاة الصبح, وكأن المسلمين لم تطرقهم مصيبة قبل ذلك ولم يكن شيء من ذلك. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو سيد البشر في الدنيا والاَخرة, يوم مات لم يكن شيء مما ذكروه. ويوم مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم خسفت الشمس فقال الناس: خسفت لموت إبراهيم! فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف وخطبهم وبين لهم أن الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته.

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 18:58

    ** إِنّ هَـَؤُلاَءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلاّ مَوْتَتُنَا الاُوْلَىَ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ * فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبّعٍ وَالّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ
    يقول تعالى منكراً على المشركين في إنكارهم البعث والمعاد وأنه ما ثم إلا هذه الحياة الدنيا ولا حياة بعد الممات ولا بعث ولا نشور, ويحتجون بآبائهم الماضين الذين ذهبوا فلم يرجعوا فإن كان البعث حقاً {فأتوا بآياتنا إن كنتم صادقين} وهذه حجة باطلة وشبه فاسدة, فإن المعاد إنما هو يوم القيامة لا في الدار الدنيا بل بعد انقضائها وذهابها وفراغها, يعيد الله العالمين خلقاً جديداً, ويجعل الظالمين لنار جهنم وقوداً, يوم تكونون شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً, ثم قال تعالى متهدداً لهم ومتوعداً ومنذراً لهم بأسه الذي لا يرد كما حل بأشباههم ونظرائهم من المشركين المنكرين للبعث كقوم تبع, وهم سبأ, حيث أهلكهم الله عز وجل وخرب بلادهم وشردهم في البلاد وفرقهم شذر مذر, كما تقدم ذلك في سورة سبأ وهي مصدرة بإنكار المشركين للمعاد, وكذلك ههنا شبههم بأولئك وقد كانوا عرباً من قحطان, كما أن هؤلاء عرب من عدنان, وقد كانت حمير وهم سبأ كلما ملك فيهم رجل سموه تبعاً, كما يقال كسرى لمن ملك الفرس, وقيصر لمن ملك الروم, وفرعون لمن ملك مصر كافراً, والنجاشي لمن ملك الحبشة وغير ذلك من أعلام الأجناس.
    ولكن اتفق أن بعض تبابعتهم خرج من اليمن وسار في البلاد حتى وصل إلى سمرقند واشتد ملكه وعظم سلطانه وجيشه, واتسعت مملكته وبلاده وكثرت رعاياه وهو الذي مصر الحيرة, فاتفق أنه مر بالمدينة النبوية وذلك في أيام الجاهلية, فأراد قتال أهلها فمانعوه وقاتلوه بالنهار, وجعلوا يقرونه بالليل فاستحيا منهم وكف عنهم, واستصحب معه حبرين من أحبار يهود كانا قد نصحاه وأخبراه أنه لا سبيل له على هذه البلدة, فإنها مهاجر نبي يكون في آخر الزمان, فرجع عنها وأخذهما معه إلى بلاد اليمن, فلما اجتاز بمكة أراد هدم الكعبة فنهياه عن ذلك أيضاً وأخبراه بعظمة هذا البيت, وأنه من بناء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام, وأنه سيكون له شأن عظيم على يدي ذلك النبي المبعوث في آخر الزمان, فعظمها وطاف بها وكساها الملاء والوصائل والحبر, ثم كر راجعاً إلى اليمن ودعا أهلها إلى التهود معه, وكان إذ ذاك دين موسى عليه الصلاة والسلام فيه من يكون من الهداية قبل بعثة المسيح عليه الصلاة والسلام, فتهود معه عامة أهل اليمن, وقد ذكر القصة بطولها الإمام محمد بن إسحاق في كتابه السيرة, وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخه ترجمة حافلة أورد فيها أشياء كثيرة مما ذكرنا ومما لم نذكر. وذكر أنه ملك دمشق وأنه كان إذا استعرض الخيل صفت له من دمشق إلى اليمن. ثم ساق من طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أدري الحدود طهارة لأهلهاأم لا ؟ ولا أدري تبع لعيناً كان أم لا ؟ ولا أدري ذو القرنين نبياً كان أم ملكاً ؟» وقال غيره «عزير أكان نبياً أم لا ؟» وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن محمد بن حماد الظهراني عن عبد الرزاق قال الدارقطني: تفرد به عبد الرزاق, ثم روى ابن عساكر من طريق محمد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً «عزير لا أدري أنبياً أم لا ؟ ولا أدري ألعين تبع أم لا ؟» ثم أورد ما جاء في النهي عن سبه ولعنته كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وكأنه والله أعلم كان كافراً ثم أسلم وتابع دين الكليم على يدي من كان من أحبار اليهود في ذلك الزمان على الحق قبل بعثة المسيح عليه السلام, وحج البيت في زمن الجرهميين وكساه الملاء والوصائل من الحرير والحبر ونحر عنده ستة آلاف بدنة وعظمه وأكرمه. ثم عاد إلى اليمن.
    وقد ساق قصته بطولها الحافظ ابن عساكر من طرق متعددة مطولة مبسوطة عن أبي بن كعب, وعبد الله بن سلام وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم, وكعب الأحبار وإليه المرجع في ذلك كله, وإلى عبد الله بن سلام أيضاً وهو أثبت وأكبر وأعلم. وكذا روى قصته وهب بن منبه ومحمد بن إسحاق في السيرة كما هو مشهور فيها. وقد اختلط على الحافظ ابن عساكر في بعض السياقات ترجمة تبع هذا بترجمة آخر متأخر عنه بدهر طويل, فإن تبعاً هذا المشار إليه في القرآن أسلم قومه على يديه, ثم لما توفي عادوا بعده إلى عبادة النيران والأصنام فعاقبهم الله تعالى كما ذكره في سورة سبأ, وقد بسطنا قصتهم هنالك ولله الحمد والمنة, وقال سعيد بن جبير: كسا تبع الكعبة وكان سعيد ينهى عن سبه, وتبع هذا هو تبع الأوسط, واسمه أسعد أبو كريب بن ملكيكرب اليماني, ذكروا أنه ملك على قومه ثلاثمائة سنة وستاً وعشرين سنة, ولم يكن في حمير أطول مدة منه, وتوفي قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو من سبعمائة سنة. وذكروا أنه لما ذكر له الحبران من يهود المدينة أن هذه البلدة مهاجر نبي في آخر الزمان اسمه أحمد, قال في ذلك شعراً واستودعه عند أهل المدينة, فكانوا يتوارثونه ويروونه خلفاً عن سلف, وكان ممن يحفظه أبو أيوب خالد بن زيد الذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره وهو:
    شهدت على أحمد أنهرسول من الله باري النسمفلو مد عمري إلى عمرهلكنت وزيراً له وابن عموجاهدت بالسيف أعداءهوفرجت عن صدره كل غم
    وذكر ابن ابي الدنيا أنه حفر قبر بصنعاء في الإسلام فوجدوا فيه امرأتين صحيحتين, وعند رؤوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب: هذا قبر حيي وتميس, وروي حيي وتماضر ابنتي تبع, ماتتا وهما تشهدان أن لا إله إلا الله ولا تشركان به شيئاً, وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما. وقد ذكرنا في سورة سبأ شعراً في ذلك أيضاً. قال قتادة: ذكر لنا أن كعباً كان يقول في تبع نُعِتَ نَعتَ الرجل الصالح: ذم الله تعالى قومه ولم يذمه. قال: وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: لا تسبوا تبعاً فإنه قد كان رجلاً صالحاً. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا صفوان, حدثنا الوليد, حدثنا عبد الله بن لهيعة عن أبي زرعة ـ يعني عمرو بن جابر الحضرمي, قال: سمعت سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا تبعاً فإنه قد كان أسلم».


    ** وَمَا خَلَقْنَا السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاّ بِالْحَقّ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * إِنّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مّوْلًى شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ * إِلاّ مَن رّحِمَ اللّهُ إِنّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ
    يقول تعالى مخبراً عن عدله وتنزيهه نفسه عن اللعب والعبث والباطل كقوله جل وعلا: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار} وقال تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون ؟* فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم} ثم قال تعالى: {إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين} وهو يوم القيامة يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق, فيعذب الكافرين ويثيب المؤمنين. وقوله عز وجل: {ميقاتهم أجمعين} أي يجمعهم كلهم أولهم وآخرهم {يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً} أي لا ينفع قريب قريباً كقوله سبحانه وتعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} وكقوله جلت عظمته: {ولا يسأل حميم حميماً يبصرونهم} أي لا يسأل أخاً له عن حاله وهو يراه عياناً. وقوله جل وعلا: {ولا هم ينصرون} أي لا ينصر القريب قريبه ولا يأتيه نصره من خارج, ثم قال: {إلا من رحم الله} أي لا ينفع يومئذ إلا رحمة الله عز وجل بخلقه {إنه هو العزيز الرحيم} أي هو عزيز ذو رحمة واسعة.


    ** إِنّ شَجَرَةَ الزّقّومِ * طَعَامُ الأثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَىَ سَوَآءِ الْجَحِيمِ * ثُمّ صُبّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنّ هَـَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ
    يقول تعالى مخبراً عما يعذب به الكافرين الجاحدين للقائه: {إن شجرة الزقوم طعام الأثيم} الأثيم أي في قوله وفعله, وهو الكافر, وذكر غير واحد أنه أبو جهل, ولا شك في دخوله في هذه الاَية, ولكن ليست خاصة به. قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن همام بن الحارث أن أبا الدرداء كان يقرىء رجلاً {إن شجرة الزقوم طعام الأثيم} فقال: طعام اليتيم, فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: قل إن شجرة الزقوم طعام الفاجر أي ليس له طعام من غيرها, قال مجاهد: ولووقعت قطرة منها في الأرض لأفسدت على أهل الأرض معيشتهم, وقد تقدم نحوه مرفوعاً, وقوله: {كالمهل} قالوا: كعكر الزيت {يغلي في البطون كغلي الحميم} أي من حرارتها ورداءتها, وقوله: {خذوه} أي الكافر, وقد ورد أنه تعالى إذا قال للزبانية خذوه ابتدره سبعون ألفاً منهم, وقوله: {فاعتلوه} أي سوقوه سحباً ودفعاً في ظهره, قال مجاهد {خذوه فاعتلوه} أي خذوه فادفعوه, وقال الفرزدق:
    ليس الكرام بناحليك أباهمحتى ترد إلى عطية تعتل
    {إلى سواء الجحيم} أي وسطها {ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم} كقوله عز وجل: {يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود} وقد تقدم أن الملك يضربه بمقمعة من حديد, فتفتح دماغه ثم يصب الحميم على رأسه فينزل في بدنه, فيسلت ما في بطنه من أمعائه حتى تمرق من كعبيه, أعاذنا الله تعالى من ذلك. وقوله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} أي قولوا له ذلك على وجه التهكم والتوبيخ, وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: أي لست بعزيز ولا كريم. وقد قال الأموي في مغازيه: حدثنا أسباط بن محمد, حدثنا أبو بكر الهذلي عن عكرمة قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل لعنه الله فقال: «إن الله تعالى أمرني أن أقول لك, أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى» قال: فنزع ثوبه من يده وقال: ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء, ولقد علمت أني أمنع أهل البطحاء وأنا العزيز الكريم, قال فقتله الله يوم بدر وأذله وعيره بكلمته وأنزل: {ذق إنك أنت العزيز الكريم}. وقوله عز وجل: {إن هذا ما كنتم به تمترون} كقوله تعالى: {يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً هذه النار التي كنتم بها تكذبون * أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون} ولهذا قال تعالى ههنا: {إن هذا ما كنتم به تمترون}.


    ** إِنّ الْمُتّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مّتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاّ الْمَوْتَةَ الاُولَىَ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلاً مّن رّبّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * فَإِنّمَا يَسّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ * فَارْتَقِبْ إِنّهُمْ مّرْتَقِبُونَ
    لما ذكر تعالى حال الأشقياء عطف بذكر السعداء ولهذا سمي القرآن مثاني, فقال: {إن المتقين} أي لله في الدنيا {في مقام أمين} أي في الاَخرة وهو الجنة, قد أمنوا فيها من الموت والخروج, ومن كل هم وحزن وجزع وتعب ونصب ومن الشيطان وكيده وسائر الاَفات والمصائب {في جنات وعيون} وهذا في مقابلة ما أولئك فيه من شجرة الزقوم وشرب الحميم, وقوله تعالى: {يلبسون من سندس} وهو رفيع الحرير كالقمصان ونحوها {وإستبرق} وهو ما فيه بريق ولمعان وذلك كالريش وما يلبس على أعالي القماش {متقابلين} أي على السرر لا يجلس أحد منهم وظهره إلى غيره. وقوله تعالى: {كذلك وزوجناهم بحور عين} أي هذا العطاء مع ما قد منحناهم من الزوجات الحسان الحور العين اللاتي {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان} {كأنهن الياقوت والمرجان} {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا نوح بن حبيب, حدثنا نصر بن مزاحم العطار. حدثنا عمر بن سعد عن رجل عن أنس رضي الله عنه رفعه نوح قال: لو أن حوراء بزقت في بحر لجي لعذب ذلك الماء لعذوبة ريقها.

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 18:59

    ** إِنّ شَجَرَةَ الزّقّومِ * طَعَامُ الأثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَىَ سَوَآءِ الْجَحِيمِ * ثُمّ صُبّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنّ هَـَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ
    يقول تعالى مخبراً عما يعذب به الكافرين الجاحدين للقائه: {إن شجرة الزقوم طعام الأثيم} الأثيم أي في قوله وفعله, وهو الكافر, وذكر غير واحد أنه أبو جهل, ولا شك في دخوله في هذه الاَية, ولكن ليست خاصة به. قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن همام بن الحارث أن أبا الدرداء كان يقرىء رجلاً {إن شجرة الزقوم طعام الأثيم} فقال: طعام اليتيم, فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: قل إن شجرة الزقوم طعام الفاجر أي ليس له طعام من غيرها, قال مجاهد: ولووقعت قطرة منها في الأرض لأفسدت على أهل الأرض معيشتهم, وقد تقدم نحوه مرفوعاً, وقوله: {كالمهل} قالوا: كعكر الزيت {يغلي في البطون كغلي الحميم} أي من حرارتها ورداءتها, وقوله: {خذوه} أي الكافر, وقد ورد أنه تعالى إذا قال للزبانية خذوه ابتدره سبعون ألفاً منهم, وقوله: {فاعتلوه} أي سوقوه سحباً ودفعاً في ظهره, قال مجاهد {خذوه فاعتلوه} أي خذوه فادفعوه, وقال الفرزدق:
    ليس الكرام بناحليك أباهمحتى ترد إلى عطية تعتل
    {إلى سواء الجحيم} أي وسطها {ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم} كقوله عز وجل: {يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود} وقد تقدم أن الملك يضربه بمقمعة من حديد, فتفتح دماغه ثم يصب الحميم على رأسه فينزل في بدنه, فيسلت ما في بطنه من أمعائه حتى تمرق من كعبيه, أعاذنا الله تعالى من ذلك. وقوله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} أي قولوا له ذلك على وجه التهكم والتوبيخ, وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: أي لست بعزيز ولا كريم. وقد قال الأموي في مغازيه: حدثنا أسباط بن محمد, حدثنا أبو بكر الهذلي عن عكرمة قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل لعنه الله فقال: «إن الله تعالى أمرني أن أقول لك, أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى» قال: فنزع ثوبه من يده وقال: ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء, ولقد علمت أني أمنع أهل البطحاء وأنا العزيز الكريم, قال فقتله الله يوم بدر وأذله وعيره بكلمته وأنزل: {ذق إنك أنت العزيز الكريم}. وقوله عز وجل: {إن هذا ما كنتم به تمترون} كقوله تعالى: {يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً هذه النار التي كنتم بها تكذبون * أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون} ولهذا قال تعالى ههنا: {إن هذا ما كنتم به تمترون}.


    ** إِنّ الْمُتّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مّتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاّ الْمَوْتَةَ الاُولَىَ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلاً مّن رّبّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * فَإِنّمَا يَسّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ * فَارْتَقِبْ إِنّهُمْ مّرْتَقِبُونَ
    لما ذكر تعالى حال الأشقياء عطف بذكر السعداء ولهذا سمي القرآن مثاني, فقال: {إن المتقين} أي لله في الدنيا {في مقام أمين} أي في الاَخرة وهو الجنة, قد أمنوا فيها من الموت والخروج, ومن كل هم وحزن وجزع وتعب ونصب ومن الشيطان وكيده وسائر الاَفات والمصائب {في جنات وعيون} وهذا في مقابلة ما أولئك فيه من شجرة الزقوم وشرب الحميم, وقوله تعالى: {يلبسون من سندس} وهو رفيع الحرير كالقمصان ونحوها {وإستبرق} وهو ما فيه بريق ولمعان وذلك كالريش وما يلبس على أعالي القماش {متقابلين} أي على السرر لا يجلس أحد منهم وظهره إلى غيره. وقوله تعالى: {كذلك وزوجناهم بحور عين} أي هذا العطاء مع ما قد منحناهم من الزوجات الحسان الحور العين اللاتي {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان} {كأنهن الياقوت والمرجان} {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا نوح بن حبيب, حدثنا نصر بن مزاحم العطار. حدثنا عمر بن سعد عن رجل عن أنس رضي الله عنه رفعه نوح قال: لو أن حوراء بزقت في بحر لجي لعذب ذلك الماء لعذوبة ريقها.
    وقوله عز وجل: {يدعون فيها بكل فاكهة آمنين} أي مهما طلبوا من أنواع الثمار أحضر لهم وهم آمنون من انقطاعه وامتناعه بل يحضر إليهم كلما أرادوا. وقوله: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} هذا استثناء يؤكد النفي فإنه استثناء منقطع, ومعناه أنهم لا يذوقون فيها الموت أبداً كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ثم يذبح ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت» وقد تقدم الحديث في سورة مريم عليها الصلاة والسلام. وقال عبد الرزاق: حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي مسلم الأغر عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقال لأهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً, وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبداً, وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً, وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً» رواه مسلم عن إسحاق بن راهويه وعبد بن حميد, كلاهما عن عبد الرزاق به هكذا يقول أبو إسحاق, وأهل العراق يقولون أبو مسلم الأغر, وأهل المدينة يقولون أبو عبد الله الأغر. وقال أبو بكر بن أبي داود السجستاني: حدثنا أحمد بن حفص عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان عن الحجاج هو ابن حجاج عن عبادة عن عبيد الله بن عمرو عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اتقى الله دخل الجنة ينعم فيها ولا يبأس ويحيا فيها فلا يموت, لا تبلى ثيابه, ولا يفنى شبابه».
    وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن يحيى, حدثنا عمرو بن محمد الناقد, حدثنا سليم بن عبد الله الرقي, حدثنا مصعب بن إبراهيم, حدثنا عمران بن الربيع الكوفي عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال: سئل نبي الله صلى الله عليه وسلم: أينام أهل الجنة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «النوم أخو الموت وأهل الجنة لا ينامون» وهكذا رواه أبو بكر بن مردويه في تفسيره, حدثنا أحمد بن القاسم بن صدقة المصري, حدثنا المقدام بن داود, حدثنا عبد الله بن المغيرة, حدثنا سفيان الثوري عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النوم أخو الموت وأهل الجنة لا ينامون», وقال أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا الفضل بن يعقوب , حدثنا محمد بن يوسف الفريابي عن سفيان عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله: هل ينام أهل الجنة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لا , النوم أخو الموت, ثم قال: لا نعلم أحداً أسنده عن ابن المنكدر عن جابر رضي الله عنه إلا الثوري ولا عن الثوري إلا الفريابي, هكذا قال, وقد تقدم خلاف ذلك, والله أعلم.
    وقوله تعالى: {ووقاهم عذاب الجحيم} أي مع هذا النعيم العظيم المقيم قد وقاهم وسلمهم ونجاهم وزحزحهم عن العذاب الأليم في دركات الجحيم, فحصل لهم المطلوب ونجاهم من المرهوب ولهذا قال عز وجل: {فضلاً من ربك ذلك هو الفوز العظيم} أي إنما كان هذا بفضله عليهم وإحسانه إليهم كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اعملوا وسددوا وقاربوا واعلموا أن أحداً لن يدخله عمله الجنة» قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل», وقوله تعالى: {فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون} أي إنما يسرنا هذا القرآن الذي أنزلناه سهلاً واضحاً بيناً جلياً بلسانك الذي هو أفصح اللغات وأجلاها وأعلاها {لعلهم يتذكرون} أي يتفهمون ويعلمون.
    ثم لما كان مع هذا الوضوح والبيان من الناس من كفر وخالف وعاند قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم مسلياً له وواعداً له بالنصر, ومتوعداً لمن كذبه بالعطب والهلاك: {فارتقب} أي انتظر {إنهم مرتقبون} أي فسيعملون لمن تكون النصرة والظفر وعلو الكلمة في الدنيا والاَخرة, فإنها لك يا محمد ولإخوانك من النبيين والمرسلين ومن اتبعكم من المؤمنين كما قال تعالى: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} الاَية. وقال تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد * يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار}.

    تمت سورة الدخان

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 18:59

    سورة الجاثية
    وهي مكية
    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** حمَ * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنّ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لاَيَاتٍ لّلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثّ مِن دَآبّةٍ آيَاتٌ لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ وَمَآ أَنَزَلَ اللّهُ مِنَ السّمَآءِ مّن رّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ آيَاتٌ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
    يرشد تعالى خلقه إلى التفكر في آلائه ونعمه, وقدرته العظيمة التي خلق بها السموات والأرض, وما فيها من المخلوقات المختلفة والأجناس, والأنواع من الملائكة والجن والإنس والدواب والطيور والوحوش والسباع والحشرات, وما في البحر من الأصناف المتنوعة واختلاف الليل والنهار في تعاقبهما دائبين لا يفتران, هذا بظلامه وهذا بضيائه, وما أنزل الله تبارك وتعالى من السحاب من المطر في وقت الحاجة إليه, وسماه رزقاً لأن به يحصل الرزق {فأحيا به الأرض بعد موتها} أي بعد ما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء. وقوله عز وجل: {وتصريف الرياح} أي جنوباً وشمالاً ودبوراً وصباً, برية وبحرية, ليلية ونهارية. ومنها ما هو للمطر, ومنها ما هو للقاح, ومنها ما هو غذاء للأرواح ومنها ما هو عقيم لا ينتج , وقال سبحانه وتعالى: أولاً: {لاَيات للمؤمنين} ثم يوقنون ثم يعقلون وهو ترق من حال شريف إلى ما هو أشرف منه وأعلى, وهذه الاَيات شبيهة بآية البقرة وهي قوله تعالى: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس, وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها, وبث فيها من كل دابة, وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لاَيات لقوم يعقلون} وقد أورد ابن أبي حاتم ههنا عن وهب بن منبه أثراً طويلاً غريباً في خلق الإنسان من الأخلاط الأربعة, والله أعلم.


    ** تَلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ * وَيْلٌ لّكُلّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللّهِ تُتْلَىَ عَلَيْهِ ثُمّ يُصِرّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَـَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مّهِينٌ * مّن وَرَآئِهِمْ جَهَنّمُ وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مّا كَسَبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ أَوْلِيَآءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * هَـَذَا هُدًى وَالّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ
    يقول تعالى: {تلك آيات الله} يعني القرآن بما فيه من الحجج والبينات {نتلوها عليك بالحق} أي متضمنة الحق من الحق, فإذا كانوا لا يؤمنون بها ولا ينقادون لها فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ؟ ثم قال تعالى: {ويل لكل أفاك أثيم} أي أفاك في قوله كذاب حلاف مهين أثيم في فعله وقلبه كافر بآيات الله ولهذا قال: {يسمع آيات الله تتلى عليه} أي تقرأ عليه {ثم يصر} أي على كفره وجحوده استكباراً وعناداً {كأن لم يسمعها} أي كأنه ما سمعها {فبشره بعذاب أليم} أي فأخبره أن له عند الله تعالى يوم القيامة عذاباً أليماً موجعاً {وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً} أي إذا حفظ شيئاً من القرآن كفر به واتخذه سخرياً وهزواً {أولئك لهم عذاب مهين} أي في مقابلة ما استهان بالقرآن واستهزأ به, ولهذا روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو, ثم فسر العذاب الحاصل له يوم معاده فقال: {من ورائهم جهنم} أي كل من اتصف بذلك سيصيرون إلى جهنم يوم القيامة {ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً} أي لا تنفعهم أموالهم ولا أولادهم {ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء} أي ولا تغني عنهم الاَلهة التي عبدوها من دون الله شيئاً {ولهم عذاب عظيم} ثم قال تبارك وتعالى: {هذا هدى} يعني القرآن {والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم} وهو المؤلم الموجع. والله سبحانه وتعالى أعلم.


    ** اللّهُ الّذِي سَخّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخّرَ لَكُمْ مّا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ * قُل لّلّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيّامَ اللّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمّ إِلَىَ رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ
    يذكر تعالى نعمه على عبيده فيما سخر لهم من البحر {لتجري الفلك} وهي السفن فيه بأمره تعالى. فإنه هو الذي أمر البحر بحملها {ولتبتغوا من فضله} أي في المتاجر والمكاسب {ولعلكم تشكرون} أي على حصول المنافع المجلوبة من الأقاليم النائية القصية, ثم قال عز وجل: {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض} أي من الكواكب والجبال والبحار والأنهار, وجميع ما تنتفعون به أي الجميع من فضله وإحسانه وامتنانه ولهذا قال: {جميعاً منه} أي من عنده وحده لا شريك له في ذلك, كما قال تبارك وتعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} وروى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى: {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه} كل شيء هو من الله. وذلك الاسم فيه اسم من أسمائه, فذلك جميعاً منه ولا ينازعه فيه المنازعون, واستيقن أنه كذلك. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن خلف العسقلاني, حدثنا الفريابي عن سفيان عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن أبي أراكة قال: سأل رجل عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: مم خلق الخلق ؟ قال: من النور والنار والظلمة والثرى. قال: وائت ابن عباس رضي الله عنهما فاسأله, فأتاه فقال له مثل ذلك, فقال: ارجع إليه فسله مما خلق ذلك كله. فرجع إليه فسأله فتلا {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه} هذا أثر غريب وفيه نكارة {إن في ذلك لاَيات لقوم يتفكرون}.
    وقوله تعالى: {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله} أي ليصفحوا عنهم ويتحملوا الأذى منهم وكان هذا في ابتداء الإسلام, أمروا أن يصبروا على أذى المشركين وأهل الكتاب ليكون ذلك كالتأليف لهم, ثم لما أصروا على العناد شرع الله للمؤمنين الجلاد والجهاد. هكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة, وقال مجاهد: {لا يرجون أيام الله} لا ينالون نعم الله تعالى, وقوله تبارك وتعالى: {ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون} أي إذا صفحوا عنهم في الدنيا فإن الله عز وجل مجازيهم بأعمالكم السيئة في الاَخرة, ولهذا قال تعالى: {من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون} أي تعودون إليه يوم القيامة فتعرضون بأعمالكم عليه فيجزيكم خيرها وشرها, والله سبحانه وتعالى أعلم.


    ** وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِيَ إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنّبُوّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطّيّبَاتِ وَفَضّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمينَ * وَآتَيْنَاهُم بَيّنَاتٍ مّنَ الأمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوَاْ إِلاّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنّ رَبّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ثُمّ جَعَلْنَاكَ عَلَىَ شَرِيعَةٍ مّنَ الأمْرِ فَاتّبِعْهَا وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ * إِنّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَإِنّ الظّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَاللّهُ وَلِيّ الْمُتّقِينَ * هَـَذَا بَصَائِرُ لِلنّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ
    يذكر تعالى ما أنعم به على بني إسرائيل من إنزال الكتب عليهم وإرسال الرسل إليهم وجعله الملك فيهم, ولهذا قال تبارك وتعالى: {ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات} أي من المآكل والمشارب {وفضلناهم على العالمين} أي في زمانهم {وآتيناهم بينات من الأمر} أي حججاً وبراهين وأدلة قاطعات, فقامت عليهم الحجج ثم اختلفوا بعد ذلك من بعد قيام الحجة, وإنما كان ذلك بغياً منهم على بعضهم بعضاً {إن ربك} يا محمد {يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} أي سيفصل بينهم بحكمه العدل, وهذا فيه تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلكهم وأن تقصد منهجهم, ولهذا قال جل وعلا: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها} أي اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين, وقال جل جلاله ههنا: {ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون * إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض} أي وماذا تغني عنهم ولا يتهم لبعضهم بعضاً فإنهم لا يزيدونهم إلا خساراً ودماراً وهلاكاً {والله ولي المتقين} وهو تعالى يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات, ثم قال عز وجل: {هذا بصائر للناس} يعني القرآن {وهدى ورحمة لقوم يوقنون}.


    ** أَمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرَحُواْ السّيّئَاتِ أَن نّجْعَلَهُمْ كَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَوَآءً مّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللّهُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقّ وَلِتُجْزَىَ كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتّخَذَ إِلَـَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلّهُ اللّهُ عَلَىَ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىَ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىَ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللّهِ أَفَلاَ تَذَكّرُونَ
    يقول تعالى: {لا يستوي المؤمنون والكافرون} كما قال عز وجل: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون} وقال تبارك وتعالى: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات} أي عملوها وكسبوها {أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ؟} أي نساويهم بهم في الدنيا والاَخرة {ساء ما يحكمون} أي ساء ما ظنوا بنا وبعدلنا أن نساوي بين الأبرار والفجار في الدار الاَخرة وفي هذه الدار. قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا مؤمل بن إهاب, حدثنا بكير بن عثمان التنوخي, حدثنا الوضين بن عطاء عن يزيد بن مرثد الباجي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: إن الله تعالى بنى دينه على أربعة أركان, فمن صبر عليهن ولم يعمل بهن لقي الله من الفاسقين, قيل: وما هن يا أبا ذر ؟ قال يسلم حلال الله لله وحرام الله لله وأمر الله لله ونهي الله لله لا يؤتمن عليهن إلا الله.
    قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم «كما أنه لا يجتنى من الشوك العنب كذلك لا ينال الفجار منازل الأبرار». هذا حديث غريب من هذا الوجه, وقد ذكر محمد بن إسحاق في كتاب السيرة أنهم وجدوا حجراً بمكة في أس الكعبة مكتوب عليه: تعملون السيئات وترجون الحسنات أجل كما يجنى من الشوك العنب. وقد روى الطبراني من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن مسروق أن تميماً الداري قام ليلة حتى أصبح يردد هذه الاَية {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات} ولهذا قال تعالى: {ساء ما يحكمون} وقال عز وجل: {وخلق الله السموات والأرض بالحق} أي بالعدل {ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون}.
    ثم قال جل وعلا: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} أي إنما يأتمر بهواه, فما رآه حسناً فعله وما رآه قبيحاً تركه, وهذا قد يستدل به على المعتزلة في قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين, وعن مالك فيما روي عنه من التفسير لا يهوي شيئاً إلا عبده, وقوله: {وأضله الله على علم} يحتمل قولين: أحدهما وأضله الله لعلمه أنه يستحق ذلك, والاَخر وأضله الله بعد بلوغ العلم إليه وقيام الحجة عليه. والثاني يستلزم الأول ولا ينعكس {وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة} أي فلا يسمع ما ينفعه ولا يعي شيئاً يهتدي به ولا يرى حجة يستضيء بها. ولهذا قال تعالى: {فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون} كقوله تعالى: {من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون}.

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:00

    ** وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاّ الدّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنّونَ * وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ مّا كَانَ حُجّتَهُمْ إِلاّ أَن قَالُواْ ائْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلِ اللّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
    يخبر تعالى عن قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا} أي ما ثم إلا هذه الدار, يموت قوم ويعيش آخرون, وما ثم معاد ولا قيامة, وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون المعاد, وتقوله الفلاسفة الإلهيون منهم, وهم ينكرون البداءة والرجعة, وتقوله الفلاسفة الدهرية الدرية المنكرون للصانع, المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه, وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى, فكابروا المعقول وكذبوا المنقول ولهذا قالوا {وما يهلكنا إلا الدهر} قال الله تعالى: {وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون} أي يتوهمون ويتخيلون فأما الحديث الذي أخرجه صاحبا الصحيح وأبو داود والنسائي من رواية سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول تعالى يؤذيني ابن آدم, يسب الدهر وأنا الدهر, بيدي الأمر أقلب ليله ونهاره» وفي رواية «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر» وقد أورده ابن جرير بسياق غريب جداً فقال: حدثنا أبو كريب, حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان أهل الجاهلية يقولون إنما يهلكنا الليل والنهاروهو الذي يهلكنا يميتنا ويحيينا فقال الله تعالى في كتابه: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} ويسبون الدهر فقال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم, يسب الدهر وأنا الدهر, بيدي الأمر أقلب الليل والنهار, وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن منصور عن شريح بن النعمان عن ابن عيينة مثله. ثم روى عن يونس عن ابن وهب عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال الله تعالى: يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر بيدي الليل والنهار» وأخرجه صاحبا الصحيح والنسائي من حديث يونس بن يزيد به. وقال محمد بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال «يقول الله تعالى: استقرضت عبدي فلم يعطني وسبني عبدي, يقول وادهراه وأنا الدهر» قال الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر» كانت العرب في جاهليتهم إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا يا خيبة الدهر, فينسبون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه, وإنما فاعلها هو الله تعالى فكأنهم إنما سبوا الله عز وجل, لأنه فاعل ذلك في الحقيقة, فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار, لأن الله تعالى هو الدهر الذي يعنونه ويسندون إليه تلك الأفعال, هذا أحسن ما قيل في تفسيره وهو المراد, والله أعلم, وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى أخذاً من هذا الحديث.
    وقوله تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات} أي إذا استدل عليهم وبين لهم الحق, وأن الله تعالى قادر على إعادة الأبدان بعد فنائها وتفرقها {ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين} أي أحيوهم إن كان ما تقولونه حقاً. قال الله تعالى: {قل الله يحييكم ثم يميتكم} أي كما تشاهدون ذلك يخرجكم من العدم إلى الوجود {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ؟} أي الذي قدر على البداءة قادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} {ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه} أي إنما يجمعكم إلى يوم القيامة لا يعيدكم في الدنيا حتى تقولوا {ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين} {يوم يجمعكم ليوم الجمع} {لأي يوم أجلت ليوم الفصل} {وما نؤخره إلا لأجل معدود} وقال ههنا {ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه} أي لا شك فيه {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أي فلهذا ينكرون المعاد ويستبعدون قيام الأجساد قال الله تعالى: {إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً} أي يرون وقوعه بعيداً والمؤمنون يرون ذلك سهلاً قريباً.


    ** وَلِلّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السّاَعةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ * وَتَرَىَ كُلّ أُمّةٍ جَاثِيَةً كُلّ أمّةٍ تُدْعَىَ إِلَىَ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَـَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقّ إِنّ كُنّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
    يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض والحاكم فيهما في الدنيا والاَخرة, ولهذا قال عز وجل: {ويوم تقوم الساعة} أي يوم القيامة {يخسر المبطلون} وهم الكافرون بالله الجاحدون بما أنزله على رسله من الاَيات البينات والدلائل الواضحات.
    وقال ابن أبي حاتم: قدم سفيان الثوري المدينة فسمع المعافري يتكلم ببعض ما يضحك به الناس, فقال له: يا شيخ أما علمت أن لله تعالى يوماً يخسر فيه المبطلون ؟ قال: فما زالت تعرف في المعافري حتى لحق بالله تعالى, ذكره ابن أبي حاتم ثم قال تعالى: {وترى كل أمة جاثية} أي على ركبها من الشدة والعظمة, ويقال إن هذا إذا جيء بجهنم فإنها تزفر زفرة, لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه, حتى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ويقول: نفسي نفسي نفسي! لا أسألك اليوم إلا نفسي. وحتى إن عيسى عليه الصلاة والسلام ليقول: لا أسألك إلا نفسي لا أسألك مريم التي ولدتني! قال مجاهد وكعب الأحبار والحسن البصري {كل أمة جاثية} أي على الركب. وقال عكرمة: جاثية متميزة على ناحيتها وليس على الركب, والأول أولى. قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرى, حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن عبد الله بن باباه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كأني أراكم جاثين بالكوم دون جهنم» وقال إسماعيل بن أبي رافع المدني عن محمد بن كعب عن أبي هريرة رضي الله عنه, مرفوعاً في حديث الصور: فيتميز الناس وتجثو الأمم, وهي التي يقول الله تعالى: {وترى كل أمة جاثية كل أمةٍ تدعى إلى كتابها} وهذا فيه جمع بين القولين ولا منافاة, والله أعلم.
    وقوله عز وجل: {كل أمة تدعى إلى كتابها} يعني كتاب أعمالها كقوله جل جلاله: {ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء} ولهذا قال سبحانه وتعالى: {اليوم تجزون ما كنتم تعملون} أي تجازون بأعمالكم خيرها وشرها كقوله عز وجل: {ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر * بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولوألقى معاذيره} ولهذا قال جلت عظمته: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} أي يستحضر جميع أعمالكم من غير زيادة ولا نقص كقوله جل جلاله: {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه, ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها, ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً} وقوله عز وجل: {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} أي إنا كنا نأمر الحفظة أن تكتب أعمالكم عليكم. قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: تكتب الملائكة أعمال العباد ثم تصعد بها إلى السماء, فيقابلون الملائكة في ديوان الأعمال على ما بأيدي الكتبة, مما قد أبرز لهم من اللوح المحفوظ في كل ليلة قدر, مما كتبه الله في القدم على العباد قبل أن يخلقهم فلا يزيد حرفاً ولا ينقص حرفاً ثم قرأ {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون}.

    ** فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَأَمّا الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىَ عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مّجْرِمِينَ * وَإِذَا قِيلَ إِنّ وعْدَ اللّهِ حَقّ وَالسّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مّا نَدْرِي مَا السّاعَةُ إِن نّظُنّ إِلاّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـَذَا وَمَأْوَاكُمُ النّارُ وَمَا لَكُمْ مّن نّاصِرِينَ * ذَلِكُم بِأَنّكُمُ اتّخَذْتُمْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَغَرّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ * فَلِلّهِ الْحَمْدُ رَبّ السّمَاوَتِ وَرَبّ الأرْضِ رَبّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَآءُ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعِزِيزُ الْحَكِيمُ
    يخبر تعالى عن حكمه في خلقه يوم القيامة فقال تعالى : {فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي آمنت قلوبهم وعملت جوارحهم الأعمال الصالحة وهي الخالصة الموافقة للشرع {فيدخلهم ربهم في رحمته} وهي الجنة كما ثبت في الصحيح أن الله تعالى قال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء {ذلك الفوز المبين} أي البين الواضح. ثم قال تعالى: {وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم ؟} أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً, أما قرئت عليكم آيات الله تعالى فاستكبرتم عن اتباعها, وأعرضتم عن سماعها, وكنتم قوماً مجرمين في أفعالكم مع ما اشتملت عليه قلوبكم من التكذيب ؟ {وإِذا قيل إِن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها} أي إِذا قال لكم المؤمنون ذلك {قلتم ما ندري ما الساعة} أي لا نعرفها {إِن نظن إِلا ظناً} أي إِن نتوهم وقوعها إِلا توهماً أي مرجوحاً ولهذا قال: {وما نحن بمستيقنين} أي بمتحققين. قال الله تعالى: {وبدا لهم سيئات ما عملوا} أي وظهر لهم عقوبة أعمالهم السيئة {وحاق بهم} أي أحاط بهم {ما كانوا به يستهزئون} أي من العذاب والنكال {وقيل اليوم ننساكم} أي نعاملكم معاملة الناسي لكم في نار جهنم {كما نسيتم لقاء يومكم هذا} أي فلم تعملوا له لأنكم لم تصدقوا به {ومأواكم النار وما لكم من ناصرين}. وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لبعض العبيد يوم القيامة: «ألم أزوجك ؟ ألم أكرمك ؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع ؟ فيقول: بلى يارب. فيقول أفظننت أنك ملاقي ؟ فيقول: لا. فيقول الله تعالى: فاليوم أنساك كما نسيتني».
    قال الله تعالى: {ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزواً} أي إِنما جازيناكم هذا الجزاء لأنكم اتخذتم حجج الله عليكم سخرياً تسخرون وتستهزؤن بها {وغرتكم الحياة الدنيا} أي خدعتكم فاطمأننتم إِليها فأصبحتم من الخاسرين, ولهذا قال عز وجل: {فاليوم لا يخرجون منها} أي من النار {ولا هم يستعتبون} أي لا يطلب منهم العتبى بل يعذبون بغير حساب ولا عتاب كما تدخل طائفة من المؤمنين الجنة بغير عذاب ولا حساب ثم لما ذكر تعالى حكمه في المؤمنين والكافرين, قال: {فلله الحمد رب السموات ورب الأرض} أي المالك لهما وما فيهما, ولهذا قال {رب العالمين} ثم قال جل وعلا: {وله الكبرياء في السموات والأرض} قال مجاهد: يعني السلطان أي هو العظيم الممجد الذي كل شيء خاضع لديه فقير إِليه. وقد ورد في الحديث الصحيح «يقول الله تعالى: العظمة إِزاري, والكبرياء ردائي فمن نازعني واحداً منهما أسكنته ناري» ورواه مسلم من حديث الأعمش عن أبي إِسحاق عن الأغر أبي مسلم, عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه. وقوله تعالى: {وهو العزيز} أي الذي لا يغالب ولا يمانع {الحكيم} في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره تعالى وتقدس لا إِله إِلا هو.


    تمت سورة الجاثية

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:00

    سورة الأحقاف
    وهي مكية
    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** حـمَ * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * مَا خَلَقْنَا السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاّ بِالْحَقّ وَأَجَلٍ مّسَمًى وَالّذِينَ كَفَرُواْ عَمّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ مّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مّن قَبْلِ هَـَذَآ أَوْ أَثَارَةٍ مّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمَنْ أَضَلّ مِمّن يَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَن لاّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ
    يخبر تعالى أنه أنزل الكتاب على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم, صلوات الله عليه دائماً إِلى يوم الدين, ووصف نفسه بالعزة التي لا ترام, والحكمة في الأقوال والأفعال, ثم قال تعالى: {ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق} أي لا على وجه العبث والباطل {وأجل مسمى} أي وإِلى مدة معينة مضروبة لا تزيد ولا تنقص, وقوله تعالى: {والذين كفروا عما أنذروا معرضون} أي لا هون عما يراد بهم, وقد أنزل الله تعالى إِليهم كتاباً وأرسل إِليهم رسولاً, وهم معرضون عن ذلك كله أي وسيعلمون غب ذلك. ثم قال تعالى: {قل} أي لهؤلاء المشركين العابدين مع الله غيره {أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض} أي أرشدوني إلى المكان الذي استقلوا بخلقه من الأرض {أم لهم شرك في السموات ؟} أي ولا شرك لهم في السموات ولا في الاَرض وما يملكون من قطمير, إن الملك والتصرف كله إلا لله عز وجل, فكيف تعبدون معه غيره وتشركون به ؟ من أرشدكم إلى هذا ؟ من دعاكم إليه ؟ أهو أمركم به ؟ أم هو شيء اقترحتموه من عند أنفسكم ؟ ولهذا قال: {ائتوني بكتاب من قبل هذا} أي هاتوا كتاباً من كتب الله المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يأمركم بعبادة هذه الأصنام {أو أثارة من علم} أي دليل بينٍ على هذا المسلك الذي سلكتموه {إن كنتم صادقين} أي لا دليل لكم لا نقلياً ولا عقلياً على ذلك, ولهذا قرأ آخرون: أو أثرة من علم أي أو علم صحيح تؤثرونه عن أحد ممن قبلكم, كما قال مجاهد في قوله تعالى: {أو أثارة من علم} أو أحد يأثر علماً,
    ** وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقّ لَمّا جَآءَهُمْ هَـَذَا سِحْرٌ مّبِينٌ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَىَ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ * قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرّسُلِ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَىَ إِلَيّ وَمَآ أَنَاْ إِلاّ نَذِيرٌ مّبِينٌ
    يقول عز وجل مخبراً عن المشركين في كفرهم وعنادهم: أنهم إِذا تتلى عليهم آيات الله بينات أي في حال بيانها ووضوحها وجلائها يقولون {هذا سحر مبين} أي سحر واضح وقد كذبوا وافتروا وضلوا وكفروا {أم يقولون افتراه} يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: {قل إِن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً} أي لو كذبت عليه وزعمت أنه أرسلني وليس كذلك لعاقبني أشد العقوبة, ولم يقدر أحد من أهل الأرض لا أنتم ولا غيركم, أن يجيرني منه, كقوله تبارك وتعالى: {قل إِني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً* إِلا بلاغاً من الله ورسالاته} وقال تعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين} ولهذا قال سبحانه وتعالى ههنا: {قل إِن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيداً بيني وبينكم} هذا تهديد ووعيد أكيد وترهيب شديد.
    .
    وقوله تعالى: {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الاَية: نزل بعدها {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} وهكذا قال عكرمة والحسن وقتادة: إِنها منسوخة بقوله تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} قالوا: ولما نزلت هذه الاَية قال رجل من المسلمين: هذا قد بين الله تعالى, ماهو فاعل بك يا رسول الله, فما هو فاعل بنا ؟ فأنزل الله تعالى: {ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار} هكذا قال, والذي هو ثابت في الصحيح أن المؤمنين قالوا: هنيئاً لك يارسول الله فما لنا ؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الاَية, وقال الضحاك {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} أي ما أدري بماذا أومر وبماذا أنهى بعد هذا ؟ وقال أبو بكر الهذلي عن الحسن البصري في قوله تعالى: {وماأدري ما يفعل بي ولا بكم} قال: أما في الاَخرة فمعاذ الله وقد علم أنه في الجنة, ولكن قال: لاأدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا, أخرج كما أخرجت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من قبلي ؟ أم أقتل كما قتلت الأنبياء من قبلي ؟ ولا أدري أيخسف بكم أو ترمون بالحجارة ؟ وهذا القول هو الذي عول عليه ابن جرير وأنه لا يجوز غيره ولا شك أن هذا هو اللائق به صلى الله عليه وسلم, فإِنه بالنسبة إِلى الاَخرة جازم أنه يصير إِلى الجنة هو ومن اتبعه, وأما في الدنيا فلم يدر ما كان يؤول إِليه أمره وأمر مشركي قريش إِلى ماذا, أيؤمنون أم يكفرون فيعذبون فيستأصلون بكفرهم.
    فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد, حدثنا يعقوب, حدثنا أبي عن ابن شهاب عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أم العلاء, وهي امرأة من نسائهم أخبرته وكانت بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: طار لهم في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين عثمان بن مظعون رضي الله عنه فاشتكى عثمان رضي الله عنه عندنا فمرضناه, حتى إِذا توفي أدرجناه في أثوابه فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت رحمة الله عليك أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله عز وجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك أن الله تعالى أكرمه» فقلت: لا أدري بأبي أنت وأمي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإِني لأرجو له الخير, والله ما أدري وأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يفعل بي».
    قالت: والله لا أزكي أحداً بعده أبداً وأحزنني ذلك فنمت فرأيت لعثمان رضي الله عنه عيناً تجري, فجئت إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاك عمله» فقد انفرد بإِخراجه البخاري دون مسلم, وفي لفظ له «ما أدري وأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يفعل به» وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ بدليل قولها فأحزنني ذلك, وفي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعين بالجنة إِلا الذي نص الشارع على تعيينهم كالعشرة وابن سلام والغميصاء وبلال وسراقة, وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر, والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة, وزيد بن حارثة وجعفر وابن رواحة وما أشبه هؤلاء رضي الله عنهم, وقوله {إِن أتبع إِلا ما أوحي إلي} أي إِنما أتبع ما ينزله الله علي من الوحي {وما أنا إِلا نذير مبين} أي بين النذارة أمري ظاهر لكل ذي لب وعقل, والله أعلم.


    ** قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِيَ إِسْرَائِيلَ عَلَىَ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ * وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَـَذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ * وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىَ إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَـَذَا كِتَابٌ مّصَدّقٌ لّسَاناً عَرَبِيّاً لّيُنذِرَ الّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَىَ لِلْمُحْسِنِينَ * إِنّ الّذِينَ قَالُواْ رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
    يقول تعالى: {قل} يا محمد لهؤلاء المشركين الكافرين بالقرآن {أرأيتم إِن كان} هذا القرآن {من عند الله وكفرتم به} أي ما ظنكم أن الله صانع بكم إِن كان هذا الكتاب الذي جئتكم به قد أنزل علي لأبلغكموه, وقد كفرتم به وكذبتموه. {وشهد شاهد من بني إِسرائيل على مثله} أي وقد شهدت بصدقه وصحته الكتب المتقدمة المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبلي, بشرت به وأخبرت بمثل ما أخبر هذا القرآن به. وقوله عز وجل: {فآمن} أي هذا الذي شهد بصدقه من بني إِسرائيل لمعرفته بحقيقته {واستكبرتم} أنتم عن اتباعه, وقال مسروق: فآمن هذا الشاهد بنبيه وكتابه وكفرتم أنتم بنبيكم وكتابكم {إِن الله لا يهدي القوم الظالمين} وهذا الشاهد اسم جنس يعم عبد الله بن سلام رضي الله عنه وغيره, فإِن هذه الاَية مكية نزلت قبل إِسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه, وهذا كقوله تبارك وتعالى: {وإِذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إِنه الحق من ربنا إِنا كنا من قبله مسلمين} وقال: {إِن الذين أوتوا العلم من قبله إِذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إِن كان وعد ربنا لمفعولاً} قال مسروق والشعبي: ليس بعبد الله بن سلام هذه الاَية مكية, وإِسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه كان بالمدينة. رواه عنهما ابن جرير وابن أبي حاتم واختاره ابن جرير. وقال مالك عن أبي النضر عن عامر بن سعد عن أبيه قال: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض إِنه من أهل الجنة, إِلا لعبد الله بن سلام رضي الله عنه, قال: وفيه نزلت {وشهد شاهد من بني إِسرائيل على مثله} رواه البخاري ومسلم والنسائي من حديث مالك به, وكذا قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد والضحاك وقتادة وعكرمة ويوسف بن عبد الله بن سلام وهلال بن يساف والسدي والثوري ومالك بن أنس, وابن زيد أنهم كلهم قالوا: إِنه عبد الله بن سلام.
    وقوله تعالى: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إِليه} أي قالوا عن المؤمنين بالقرآن لو كان القرآن خيراً ما سبقنا هؤلاء إِليه, يعنون بلالاً وعماراً وصهيباً وخباباً رضي الله عنهم, وأشباههم وأضرابهم من المستضعفين والعبيد والإماء, وما ذاك إلا لأنهم عند أنفسهم يعتقدون أن لهم عند الله وجاهة وله بهم عناية. وقد غلطوا في ذلك غلطاً فاحشاً وأخطأوا خطأ بيناً كما قال تبارك وتعالى: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا} أي يتعجبون كيف اهتدى هؤلاء دوننا ولهذا قالوا: {لو كان خيراً ما سبقونا إِليه} وأما أهل السنة والجماعة, فيقولون: في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم هو بدعة لأنه لو كان خيراً لسبقونا إِليه, لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إِلا وقد بادروا إِليها.
    وقوله تعالى: {وإِذ لم يهتدوا به} أي بالقرآن {فسيقولون هذا إِفك قديم} أي كذب قديم أي مأثور عن الناس الأقدمين فينتقصون القرآن وأهله, وهذا هو الكبر الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بطر الحق وغمط الناس» . ثم قال تعالى: {ومن قبله كتاب موسى} وهو التوراة {إِماماً ورحمة وهذا كتاب} يعني القرآن {مصدق} أي لما قبله من الكتب {لساناً عربياً} أي فصيحاً بيناً واضحاً {لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين} أي مشتمل على النذارة للكافرين والبشارة للمؤمنين, وقوله تعالى: {فلا خوف عليهم} أي فيما يستقبلون {ولا هم يحزنون} على ما خلفهم {أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون} أي الأعمال سبب لنيل الرحمة لهم وسبوغها عليهم, والله أعلم.

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:00

    ** وَوَصّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حَتّىَ إِذَا بَلَغَ أَشُدّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِيَ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الّتِيَ أَنْعَمْتَ عَلَيّ وَعَلَىَ وَالِدَيّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرّيّتِيَ إِنّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ نَتَقَبّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيّئَاتِهِمْ فِيَ أَصْحَابِ الْجَنّةِ وَعْدَ الصّدْقِ الّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ
    لما ذكر تعالى في الاَية الأولى التوحيد له وإِخلاص العبادة والاستقامة إِليه, عطف بالوصية بالوالدين كما هو مقرون في غير ما آية من القرآن كقوله عز وجل: {وقضى ربك ألا تعبدوا إِلا إِياه وبالوالدين إِحساناً} وقوله جل جلاله: {أن اشكر لي ولوالديك إِلي المصير} إِلى غير ذلك من الاَيات الكثيرة. وقال عز وجل ههنا {ووصينا الإنسان بوالديه إِحساناً} أي أمرناه بالإحسان إِليهما والحنو عليهما وقال أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة, أخبرني سماك بن حرب قال: سمعت مصعب بن سعد يحدث عن سعد رضي الله عنه قال: قالت أم سعد لسعد: أليس قد أمر الله بطاعة الوالدين فلا آكل طعاماً ولا أشرب شراباً حتى تكفر بالله تعالى, فامتنعت من الطعام والشراب حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا ونزلت هذه الاَية {ووصينا الإنسان بوالديه إِحساناً} الاَية. ورواه مسلم وأهل السنن إِلا ابن ماجه من حديث شعبة بإِسناده نحوه وأطول منه {حملته أمه كرهاً} أي قاست بسببه في حمله مشقة وتعباً من وحام وغثيان وثقل وكرب, إِلى غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة, {ووضعته كرهاً} أي بمشقة أيضاً من الطلق وشدته {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً}.
    وقد استدل علي رضي الله عنه بهذه الاَية مع التي في لقمان {وفصاله في عامين} وقوله تبارك وتعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر وهو استنباط قوي وصحيح, ووافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم. قال محمد بن إِسحاق بن يسار عن يزيد بن عبيد الله بن قسيط عن معمر بن عبد الله الجهني قال: تزوج رجل منا امرأة من جهينة فولدت له لتمام ستة أشهر, فانطلق زوجها إلى عثمان رضي الله عنه, فذكر ذلك له, فبعث إليها, فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها فقالت: وما يبكيك ؟ فوالله ما التبس بي أحد من خلق الله تعالى غيره قط, فيقضي الله سبحانه وتعالى في ما شاء, فلما أتى بها عثمان رضي الله عنه أمر برجمها فبلغ ذلك علياً رضي الله عنه: فأتاه فقال له ما تصنع, قال: ولدت تماماً لستة أشهر, وهل يكون ذلك, فقال له علي رضي الله عنه: أما تقرأ القرآن: قال: بلى. قال: أما سمعت الله عز وجل يقول {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} وقال {حولين كاملين} فلم نجده بقي إلا ستة أشهر قال: فقال عثمان رضي الله عنه والله ما فطنت بهذا, عليّ بالمرأة فوجدوها قد فرغ منها قال: فقال معمر: فوالله ما الغراب بالغراب ولا البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه, فلما رآه أبوه قال: ابني والله لا أشك فيه. قال: وابتلاه الله تعالى بهذه القرحة بوجهه الاَكلة, فمازالت تأكله حتى مات, رواه ابن أبي حاتم, وقد أوردناه من وجه آخر عند قوله عز وجل: {فأنا أول العابدين}.
    وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي, حدثنا فروة بن أبي المغراء, حدثنا علي بن مسهر عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر كفاه من الرضاع أحد وعشرين شهراً, وإذا وضعته لسبعة أشهر كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهراً, وإذا وضعته لستة أشهر فحولين كاملين لأن الله تعالى يقول {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً حتى إذا بلغ أشده} أي قوي وشب وارتجل. {وبلغ أربعين سنة} أي تناهى عقله وكمل فهمه وحلمه. ويقال إنه لا يتغير غالباً عما يكون عليه ابن الأربعين, قال أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن القاسم بن عبد الرحمن قال: قلت لمسروق: متى يؤخذ الرجل بذنوبه ؟ قال إذا بلغت الأربعين فخذ حذرك.
    وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو عبد الله القواريري, حدثنا عروة بن قيس الأزدي, وكان قد بلغ مائة سنة, حدثنا أبو الحسن السلولي عمر بن أوس قال: قال محمد بن عمرو بن عثمان عن عثمان رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العبد المسلم إذا بلغ أربعين سنة خفف الله تعالى حسابه, وإذا بلغ الستين سنة رزقه الله تعالى الإنابة إليه, وإذا بلغ سبعين سنة أحبه أهل السماء وإذا بلغ ثمانين سنة ثبت الله تعالى حسناته ومحا سيئاته, وإذا بلغ تسعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, وشفعه الله تعالى في أهل بيته, وكتب في السماء أسير الله في أرضه» وقد روي هذا من غير وجه, وهو في مسند الإمام أحمد, وقد قال الحجاج بن عبد الله الحكمي أحد أمراء بني أمية بدمشق, تركت المعاصي والذنوب أربعين سنة حياء من الناس, ثم تركتها حياءً من الله عز وجل, وما أحسن قول الشاعر:
    صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسهفلما علاه قال للباطل: ابعد!
    {قال رب أوزعني} أي ألهمني {أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والديّ وأن أعمل صالحاً ترضاه} أي في المستقبل {وأصلح لي في ذريتي} أي نسلي وعقبي {إني تبت إليك وإني من المسلمين} وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد التوبة والإنابة إلى الله عز وجل ويعزم عليها, وقد روى أبو داود في سننه عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم أن يقولوا في التشهد «اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا, واهدنا سبل السلام ونجنا من الظلمات إلى النور وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن, وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا, وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم, واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها عليك قابليها وأتممها علينا» قال الله عز وجل: {أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة} أي هؤلاء المتصفون بما ذكرنا, التائبون إلى الله تعالى المنيبون إليه, المستدركون ما فات بالتوبة والاستغفار, هم الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم فيغفر لهم الكثير من الزلل ونتقبل منهم اليسير من العمل.
    {في أصحاب الجنة} أي هم في جملة أصحاب الجنة, وهذا حكمهم عند الله كما وعد الله عز وجل من تاب إليه وأناب, ولهذا قال تعالى: {وعد الصدق الذي كانوا يوعدون} قال ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم, حدثنا المعتمر بن سليمان عن الحكم بن أبان عن الغطريف, عن جابر بن زيد عن ابن عباس رضي الله عنهما, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, عن الروح الأمين عليه الصلاة والسلام قال: «يؤتى بحسنات العبد وسيئاته فيقتص بعضها ببعض, فإن بقيت حسنة وسع الله تعالى له في الجنة» قال: فدخلت على يزداد فحدث بمثل هذا قال: قلت فإن ذهبت الحسنة ؟ قال {أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون} وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن محمد بن عبد الأعلى الصنعاني عن المعتمر بن سليمان بإسناده مثله وزاد عن الروح الأمين. قال: قال الرب جل جلاله: يؤتى بحسنات العبد وسيئاته فذكره, وهو حديث غريب وإسناده جيد ولا بأس به.
    وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا سليمان بن معبد, حدثنا عمرو بن عاصم الكلائي, حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية عن ابي وحشية عن يوسف بن سعد, عن محمد بن حاطب قال: ونزل في داري حيث ظهر علي رضي الله عنه على أهل البصرة فقال له يوماً: لقد شهدت أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه, وعنده عمار وصعصعة والأشتر ومحمد بن أبي بكر رضي الله عنهم, فذكروا عثمان رضي الله عنه فنالوا منه, فكان علي رضي الله عنه على السرير ومعه عود في يده, فقال قائل منهم: إن عندكم من يفصل بينكم, فسألوه فقال علي رضي الله عنه: كان عثمان رضي الله عنه من الذين قال الله تعالى: {أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون} قال: والله عثمان وأصحاب عثمان رضي الله عنهم, قالها ثلاثاً. قال يوسف فقلت لمحمد بن حاطب: آلله لسمعت هذا عن علي رضي الله عنه ؟ قال: آلله لسمعت هذا عن علي رضي الله عنه.


    ** وَالّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفّ لّكُمَآ أَتَعِدَانِنِيَ أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ اللّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَيَقُولُ مَا هَـَذَآ إِلاّ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ * أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ حَقّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِيَ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الْجِنّ وَالإِنسِ إِنّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ * وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * وَيَوْمَ يُعْرَضُ الّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ
    لما ذكر تعالى حال الداعين للوالدين البارين بهما ومالهم عنده من الفوز, والنجاة, عطف بحال الأشقياء العاقين للوالدين فقال: {والذي قال لوالديه أف لكما} وهذا عام في كل من قال هذا, ومن زعم أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما فقوله ضعيف, لأن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أسلم بعد ذلك, وحسن إسلامه وكان من خيار أهل زمانه, وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في ابن لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما وفي صحة هذا نظر, والله تعالى أعلم. وقال ابن جريج عن مجاهد: نزلت في عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما قاله ابن جريج وقال آخرون عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما, وهذا أيضاً قول السدي, وإنما هذا عام في كل من عق والديه وكذب بالحق, فقال لوالديه {أف لكما} عقهما.
    وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن العلاء, حدثنا يحيى بن أبي زائدة, عن إسماعيل بن أبي خالد, أخبرني عبد الله بن المديني, قال: إني لفي المسجد حين خطب مروان فقال: إن الله تعالى قد أرى أمير المؤمنين في يزيد رأياً حسناً, وأن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر عمر رضي الله عنهما, فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: أهرقلية ؟ إن أبا بكر رضي الله عنه والله ما جعلها في أحد من ولده ولا أحد من أهل بيته, ولا جعلها معاوية في ولده إلا رحمة وكرامة لولده, فقال مروان: ألست الذي قال لوالديه أف لكما ؟ فقال عبد الرحمن رضي الله عنه: ألست ابن اللعين الذين لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباك ؟ قال وسمعتهما عائشة رضي الله عنها فقالت: يامروان أنت القائل لعبد الرحمن رضي الله عنه كذا وكذا ؟ كذبت ما فيه نزلت ولكن نزلت في فلان ابن فلان, ثم انتحب مروان ثم نزل عن المنبر, حتى أتى باب حجرتها, فجعل يكلمها حتى انصرف, وقد رواه البخاري بإسناد آخر ولفظ آخر فقال: حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز, استعمله معاوية بن أبي سفيان, رضي الله عنهما, فخطب وجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما شيئاً, فقال: خذوه, فدخل بيت عائشة رضي الله عنها فلم يقدروا عليه, فقال مروان: إن هذا الذي أنزل فيه {والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي} فقالت عائشة رضي الله عنها من وراء الحجاب: ما أنزل الله عز وجل فينا شيئاً من القرآن إلا أن الله تعالى أنزل عذري.

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:01

    ** وَلَقَدْ مَكّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مّكّنّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَىَ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَحَاقَ بِه مّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مّنَ الْقُرَىَ وَصَرّفْنَا الاَيَاتِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الّذِينَ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ قُرْبَاناً آلِهَةَ بَلْ ضَلّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
    يقول تعالى: ولقد مكنا الأمم السالفة في الدنيا من الأموال والأولاد, وأعطيناهم منها مالم نعطكم مثله ولا قريباً منه, {وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إِذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} أي وأحاط بهم العذاب, والنكال الذي كانوا يكذبون به ويستبعدون وقوعه, أي فاحذروا أيها المخاطبون أن تكونوا مثلهم فيصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب في الدنيا والاَخرة.
    وقوله تعالى: {ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى} يعني أهل مكة, وقد أهلك الله الأمم المكذبة بالرسل مما حولها كعاد, وكانوا بالأحقاف بحضرموت عند اليمن, وثمود وكانت منازلهم بينهم وبين الشام, وكذلك سبأ وهم أهل اليمن, ومدين وكانت في طريقهم وممرهم إِلى غزة, وكذلك بحيرة قوم لوط كانوا يمرون بها أيضاً, وقوله عز وجل: {وصرفنا الاَيات} أي بيناها وأوضحناها {لعلهم يرجعون * فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة} أي فهل نصروهم عند احتياجهم إِليهم. {بل ضلوا عنهم} أي بل ذهبوا عنهم أحوج ما كانوا إِليهم {وذلك إِفكهم} أي: كذبهم {وما كانوا يفترون} أي وافتراؤهم في اتخاذهم إِياهم آلهة وقد خابوا وخسروا في عبادتهم لها واعتمادهم عليها, والله أعلم.


    ** وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمّا حَضَرُوهُ قَالُوَاْ أَنصِتُواْ فَلَمّا قُضِيَ وَلّوْاْ إِلَىَ قَوْمِهِم مّنذِرِينَ * قَالُواْ يَقَوْمَنَآ إِنّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىَ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِيَ إِلَى الْحَقّ وَإِلَىَ طَرِيقٍ مّسْتَقِيمٍ * يَقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ اللّهِ وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَن لاّ يُجِبْ دَاعِيَ اللّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضَ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُوْلَـَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ
    قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان, حدثنا عمرو, سمعت عكرمة عن الزبير, {وإِذ صرفنا إِليك نفراً من الجن يستمعون القرآن} قال: بنخلة, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء الاَخرة {كادوا يكونون عليه لبداً} قال سفيان: ألبد بعضهم على بعض كاللبد بعضه على بعض, تفرد به أحمد, وسيأتي من رواية ابن جرير عن عكرمة, عن ابن عباس أنهم سبعة من جن نصيبين. وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا أبو عوانة (ح) وقال الإمام الشهير الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه دلائل النبوة: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد عبدان, أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار, حدثنا إِسماعيل القاضي أخبرنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم, انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إِلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء, وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إِلى قومهم فقالوا مالكم, فقالوا حيل بيننا وبين خبر السماء, فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء.
    فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامداً إِلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر, فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء, فهناك حين رجعوا إِلى قومهم {قالوا إِنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إِلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا} وأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم {قل أوحي إِلي أنه استمع نفر من الجن} وإِنما أوحي إليه قول الجن رواه البخاري عن مسدد بنحوه, وأخرجه مسلم عن شيبان بن فروخ عن أبي عوانة به, ورواه الترمذي والنسائي في التفسير من حديث أبي عوانة, وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو أحمد, حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الجن يستمعون الوحي فيسمعون الكلمة فيزيدون فيها عشراً, فيكون ما سمعوا حقاً وما زادوا باطلاً, وكانت النجوم لا يرمى بها قبل ذلك, فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب, فشكوا ذلك إلى إبليس فقال: ما هذا إلا من أمر قد حدث, فبث جنوده فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بين جبلي نخلة, فأتوه فأخبروه فقال: هذا الحديث الذي حدث في الأرض, ورواه الترمذي والنسائي في كتابي التفسير من سننيهما من حديث إسرائيل به, وقال الترمذي: حسن صحيح, وهكذا رواه ايوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما, وكذا رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً بمثل هذا السياق بطوله, وهكذا قال الحسن البصري إنه صلى الله عليه وسلم ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله تعالى عليه بخبرهم, وذكر محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان عن محمد بن كعب القرظي قصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ودعائه إياهم إلى الله عز وجل وإبائهم عليه, فذكر القصة بطولها وأورد ذلك الدعاء الحسن «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت أرحم الراحمين وأنت رب المستضعفين, وأنت ربي إلى من تكلني ؟ إلى عدو يتجهمني أم إلى صديق قريب ملكته أمري, إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي, أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والاَخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك, ولك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك».
    قال: فلما انصرف عنهم بات بنخلة فقرأ تلك الليلة من القرآن فاستمعه الجن من أهل نصيبين, وهذا صحيح, ولكن قوله إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر, فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء كما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهماالمذكور, وخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف كان بعد موت عمه, وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين كما قرره ابن إسحاق وغيره, والله أعلم, وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو أحمد الزبيري, حدثنا سفيان عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن النخلة {فلما حضروه قالوا أَنصتوا} قال صه, وكانوا تسعة وأحدهم زوبعة, فأنزل الله عز وجل: {وإذْ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين ـ إلى ـ ضلال مبين} فهذا مع الأول من رواية ابن عباس رضي الله عنهما يقتضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر بحضورهم في هذه المرة, وإنما استمعوا قراءته ثم رجعوا إلى قومهم, ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالاً قوماً بعد قوم وفوجاً بعد فوج, كما ستأتي بذلك الأخبار في موضعها والاَثار مما سنوردها إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
    فأما ما رواه البخاري ومسلم جميعاً عن أبي قدامة عبيد الله بن سعيد السرخسي, عن أبي أسامة حماد بن أسامة عن مسعر بن كدام, عن معن بن عبد الرحمن, قال: سمعت أبي يقول: سألت مسروقاً من آذن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة استمعوا القرآن ؟ فقال: حدثني أبوك يعني ابن مسعود رضي الله عنه أنه آذنته بهم شجرة, فيحتمل أن يكون هذا في المرة الأولى ويكون إثباتاً مقدماً على نفي ابن عباس رضي الله عنهما, ويحتمل أن يكون في المرة الأولى, ولكن لم يشعر بهم حال استماعهم حتى آذنته بهم الشجرة أي أعلمته باجتماعهم, والله أعلم, ويحتمل أن يكون هذا في بعض المرات المتأخرات, والله أعلم.
    قال الحافظ البيهقي: وهذا الذي حكاه ابن عباس رضي الله عنهما إنما هو أول ما سمعت الجن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعلمت حاله, وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم, ثم بعد ذلك أتاه داعي الجن فقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله عز وجل كما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

    (ذكر الروايات عنه بذلك)
    قال الإمام أحمد: حدثنا إِسماعيل بن إبراهيم, حدثنا داود عن الشعبي وابن أبي زائدة, أخبرنا داود عن الشعبي عن علقمة قال: قلت لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: هل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد ؟ فقال: ما صحبه منا أحد ولكنا فقدناه ذات ليلة بمكة فقلنا اغتيل ؟ استطير ؟ ما فعل ؟ قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم, فلما كان في وجه الصبح ـ أو قال ـ في السحر إذا نحن به يجيء من قبل حراء, فقلنا: يا رسول الله, فذكروا له الذي كانوا فيه فقال: «إنه أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم» قال: فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم قال: قال الشعبي: سألوه الزاد, قال عامر: سألوه بمكة وكانوا من جن الجزيرة فقال: «كل عظم ذكر اسم الله عليه أن يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً, وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم ـ قال ـ فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجن» وهكذا رواه مسلم في صحيحه عن علي بن حجر عن إسماعيل بن علية به نحوه.
    وقال مسلم أيضاً: حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا عبد الأعلى, حدثنا داود وهو ابن أبي هند عن عامر قال: سألت علقمة: هل كان ابن مسعود رضي الله عنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود رضي الله عنه فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال: لا ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه, فالتمسناه في الأودية والشعاب فقيل استطير ؟ اغتيل ؟ قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم, فلما أصبحنا إذ هو جاء من قبل حراء, قال: فقلنا: يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك, فبتنا بشر ليلة بات بها قوم, فقال: «أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن». قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم, وسألوه الزاد فقال: «كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر مايكون لحماً, وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم».
    (طريق أخرى) عن ابن مسعود رضي الله عنه. قال أبو جعفر بن جرير: حدثني أحمد بن عبد الرحمن, حدثني عمي, حدثني يونس عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله قال: إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بت الليلة أقرأ على الجن واقفاً بالحجون».
    (طريق أخرى) فيها أنه كان معه ليلة الجن. قال ابن جرير رحمه الله: حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب, حدثنا عمي عبد الله بن وهب, أخبرني يونس عن ابن شهاب عن أبي عثمان بن سنة الخزاعي, وكان من أهل الشام قال: إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهو بمكة: «من أحب منكم أن يحضر أمر الجن الليلة فليفعل» فلم يحضر منهم أحد غيري, قال: فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة خطّ لي برجله خطاً ثم أمرني أن أجلس فيه ثم انطلق حتى قام, فافتتح القرآن فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته, ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب, ذاهبين حتى بقي منهم رهط, ففرغ رسول الله, فأعطاهم عظماً وروثاً, ثم نهى أن يستطيب أحد بروث أو عظم. ورواه ابن جرير عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن أبي زرعة وهب بن راشد عن يونس بن يزيد الأيلي به.
    ورواه البيهقي في الدلائل من حديث عبد الله بن صالح كاتب الليث عن يونس به, وقد روى إسحاق بن راهويه عن جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن مسعود رضي الله عنه, فذكر نحو ما تقدم ورواه الحافظ أبو نعيم من طريق موسى بن عبيدة عن سعيد بن الحارث عن أبي المعلى عن ابن مسعود رضي الله عنه, فذكر نحوه أيضاً.
    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:01

    ** وَلَقَدْ مَكّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مّكّنّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَىَ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَحَاقَ بِه مّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مّنَ الْقُرَىَ وَصَرّفْنَا الاَيَاتِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الّذِينَ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ قُرْبَاناً آلِهَةَ بَلْ ضَلّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
    يقول تعالى: ولقد مكنا الأمم السالفة في الدنيا من الأموال والأولاد, وأعطيناهم منها مالم نعطكم مثله ولا قريباً منه, {وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إِذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} أي وأحاط بهم العذاب, والنكال الذي كانوا يكذبون به ويستبعدون وقوعه, أي فاحذروا أيها المخاطبون أن تكونوا مثلهم فيصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب في الدنيا والاَخرة.
    وقوله تعالى: {ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى} يعني أهل مكة, وقد أهلك الله الأمم المكذبة بالرسل مما حولها كعاد, وكانوا بالأحقاف بحضرموت عند اليمن, وثمود وكانت منازلهم بينهم وبين الشام, وكذلك سبأ وهم أهل اليمن, ومدين وكانت في طريقهم وممرهم إِلى غزة, وكذلك بحيرة قوم لوط كانوا يمرون بها أيضاً, وقوله عز وجل: {وصرفنا الاَيات} أي بيناها وأوضحناها {لعلهم يرجعون * فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة} أي فهل نصروهم عند احتياجهم إِليهم. {بل ضلوا عنهم} أي بل ذهبوا عنهم أحوج ما كانوا إِليهم {وذلك إِفكهم} أي: كذبهم {وما كانوا يفترون} أي وافتراؤهم في اتخاذهم إِياهم آلهة وقد خابوا وخسروا في عبادتهم لها واعتمادهم عليها, والله أعلم.


    ** وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمّا حَضَرُوهُ قَالُوَاْ أَنصِتُواْ فَلَمّا قُضِيَ وَلّوْاْ إِلَىَ قَوْمِهِم مّنذِرِينَ * قَالُواْ يَقَوْمَنَآ إِنّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىَ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِيَ إِلَى الْحَقّ وَإِلَىَ طَرِيقٍ مّسْتَقِيمٍ * يَقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ اللّهِ وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَن لاّ يُجِبْ دَاعِيَ اللّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضَ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُوْلَـَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ
    قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان, حدثنا عمرو, سمعت عكرمة عن الزبير, {وإِذ صرفنا إِليك نفراً من الجن يستمعون القرآن} قال: بنخلة, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء الاَخرة {كادوا يكونون عليه لبداً} قال سفيان: ألبد بعضهم على بعض كاللبد بعضه على بعض, تفرد به أحمد, وسيأتي من رواية ابن جرير عن عكرمة, عن ابن عباس أنهم سبعة من جن نصيبين. وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا أبو عوانة (ح) وقال الإمام الشهير الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه دلائل النبوة: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد عبدان, أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار, حدثنا إِسماعيل القاضي أخبرنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم, انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إِلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء, وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إِلى قومهم فقالوا مالكم, فقالوا حيل بيننا وبين خبر السماء, فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء.
    فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامداً إِلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر, فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء, فهناك حين رجعوا إِلى قومهم {قالوا إِنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إِلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا} وأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم {قل أوحي إِلي أنه استمع نفر من الجن} وإِنما أوحي إليه قول الجن رواه البخاري عن مسدد بنحوه, وأخرجه مسلم عن شيبان بن فروخ عن أبي عوانة به, ورواه الترمذي والنسائي في التفسير من حديث أبي عوانة, وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو أحمد, حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الجن يستمعون الوحي فيسمعون الكلمة فيزيدون فيها عشراً, فيكون ما سمعوا حقاً وما زادوا باطلاً, وكانت النجوم لا يرمى بها قبل ذلك, فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب, فشكوا ذلك إلى إبليس فقال: ما هذا إلا من أمر قد حدث, فبث جنوده فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بين جبلي نخلة, فأتوه فأخبروه فقال: هذا الحديث الذي حدث في الأرض, ورواه الترمذي والنسائي في كتابي التفسير من سننيهما من حديث إسرائيل به, وقال الترمذي: حسن صحيح, وهكذا رواه ايوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما, وكذا رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً بمثل هذا السياق بطوله, وهكذا قال الحسن البصري إنه صلى الله عليه وسلم ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله تعالى عليه بخبرهم, وذكر محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان عن محمد بن كعب القرظي قصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ودعائه إياهم إلى الله عز وجل وإبائهم عليه, فذكر القصة بطولها وأورد ذلك الدعاء الحسن «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت أرحم الراحمين وأنت رب المستضعفين, وأنت ربي إلى من تكلني ؟ إلى عدو يتجهمني أم إلى صديق قريب ملكته أمري, إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي, أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والاَخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك, ولك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك».
    قال: فلما انصرف عنهم بات بنخلة فقرأ تلك الليلة من القرآن فاستمعه الجن من أهل نصيبين, وهذا صحيح, ولكن قوله إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر, فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء كما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهماالمذكور, وخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف كان بعد موت عمه, وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين كما قرره ابن إسحاق وغيره, والله أعلم, وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو أحمد الزبيري, حدثنا سفيان عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن النخلة {فلما حضروه قالوا أَنصتوا} قال صه, وكانوا تسعة وأحدهم زوبعة, فأنزل الله عز وجل: {وإذْ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين ـ إلى ـ ضلال مبين} فهذا مع الأول من رواية ابن عباس رضي الله عنهما يقتضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر بحضورهم في هذه المرة, وإنما استمعوا قراءته ثم رجعوا إلى قومهم, ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالاً قوماً بعد قوم وفوجاً بعد فوج, كما ستأتي بذلك الأخبار في موضعها والاَثار مما سنوردها إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
    فأما ما رواه البخاري ومسلم جميعاً عن أبي قدامة عبيد الله بن سعيد السرخسي, عن أبي أسامة حماد بن أسامة عن مسعر بن كدام, عن معن بن عبد الرحمن, قال: سمعت أبي يقول: سألت مسروقاً من آذن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة استمعوا القرآن ؟ فقال: حدثني أبوك يعني ابن مسعود رضي الله عنه أنه آذنته بهم شجرة, فيحتمل أن يكون هذا في المرة الأولى ويكون إثباتاً مقدماً على نفي ابن عباس رضي الله عنهما, ويحتمل أن يكون في المرة الأولى, ولكن لم يشعر بهم حال استماعهم حتى آذنته بهم الشجرة أي أعلمته باجتماعهم, والله أعلم, ويحتمل أن يكون هذا في بعض المرات المتأخرات, والله أعلم.
    قال الحافظ البيهقي: وهذا الذي حكاه ابن عباس رضي الله عنهما إنما هو أول ما سمعت الجن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعلمت حاله, وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم, ثم بعد ذلك أتاه داعي الجن فقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله عز وجل كما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

    (ذكر الروايات عنه بذلك)
    قال الإمام أحمد: حدثنا إِسماعيل بن إبراهيم, حدثنا داود عن الشعبي وابن أبي زائدة, أخبرنا داود عن الشعبي عن علقمة قال: قلت لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: هل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد ؟ فقال: ما صحبه منا أحد ولكنا فقدناه ذات ليلة بمكة فقلنا اغتيل ؟ استطير ؟ ما فعل ؟ قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم, فلما كان في وجه الصبح ـ أو قال ـ في السحر إذا نحن به يجيء من قبل حراء, فقلنا: يا رسول الله, فذكروا له الذي كانوا فيه فقال: «إنه أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم» قال: فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم قال: قال الشعبي: سألوه الزاد, قال عامر: سألوه بمكة وكانوا من جن الجزيرة فقال: «كل عظم ذكر اسم الله عليه أن يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً, وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم ـ قال ـ فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجن» وهكذا رواه مسلم في صحيحه عن علي بن حجر عن إسماعيل بن علية به نحوه.
    وقال مسلم أيضاً: حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا عبد الأعلى, حدثنا داود وهو ابن أبي هند عن عامر قال: سألت علقمة: هل كان ابن مسعود رضي الله عنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود رضي الله عنه فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال: لا ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه, فالتمسناه في الأودية والشعاب فقيل استطير ؟ اغتيل ؟ قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم, فلما أصبحنا إذ هو جاء من قبل حراء, قال: فقلنا: يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك, فبتنا بشر ليلة بات بها قوم, فقال: «أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن». قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم, وسألوه الزاد فقال: «كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر مايكون لحماً, وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم».


    تمت سورة الاحقاف
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:02

    سورة محمد
    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
    ** الّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ أَضَلّ أَعْمَالَهُمْ * وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَآمَنُواْ بِمَا نُزّلَ عَلَىَ مُحَمّدٍ وَهُوَ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ كَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ اتّبَعُواْ الْبَاطِلَ وَأَنّ الّذِينَ آمَنُواْ اتّبَعُواْ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ لِلنّاسِ أَمْثَالَهُمْ
    يقول تعالى: {الذين كفروا} أي بآيات الله {وصدوا} غيرهم {عن سبيل الله أضل أعمالهم} أي أبطلها وأذهبها ولم يجعل لها ثواباً ولا جزاء كقوله تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً} ثم قال جل وعلا: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي آمنت قلوبهم وسرائرهم وانقادت لشرع الله جوارحهم وبواطنهم وظواهرهم {وآمنوا بما نزل على محمد} عطف خاص على عام وهو دليل على أنه شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلى الله عليه وسلم. وقوله تبارك وتعالى: {وهو الحق من ربهم} جملة معترضة حسنة ولهذا قال جل جلاله: {كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي أمرهم. وقال مجاهد: شأنهم. وقال قتادة وابن زيد: حالهم والكل متقارب. وقد جاء في حديث تشميت العاطس «يهديكم الله ويصلح بالكم» ثم قال عز وجل: {ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل} أي إنما أبطلنا أعمال الكفار. وتجاوزنا عن سيئات الأبرار, وأصلحنا شؤونهم لأن الذين كفروا اتبعوا الباطل أي اختاروا الباطل على الحق {وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم} أي يبين لهم مآل أعمالهم, وما يصيرون إليه في معادهم, والله سبحانه وتعالى أعلم.


    ** فَإِذَا لَقِيتُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرّقَابِ حَتّىَ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدّواْ الْوَثَاقَ فَإِمّا مَنّا بَعْدُ وَإِمّا فِدَآءً حَتّىَ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـَكِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَن يُضِلّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنّةَ عَرّفَهَا لَهُمْ * يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تَنصُرُواْ اللّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لّهُمْ وَأَضَلّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ اللّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ
    يقول تعالى مرشداً للمؤمنين إلى ما يعتمدونه في حروبهم مع المشركين {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب} أي إذا واجهتموهم فاحصدوهم حصداً بالسيوف {حتى إذا أثخنتموهم} أي أهلكتموهم قتلاً {فشدوا الوثاق} الأسارى الذين تأسرونهم, ثم أنتم بعد انقضاء الحرب وانفصال المعركة مخيرون في أمرهم, إن شئتم مننتم عليهم فأطلقتم أساراهم مجاناً, وإن شئتم فاديتموهم بمال تأخذونه منهم وتشارطونهم عليه, والظاهر أن هذه الاَية نزلت بعد وقعة بدر, فإن الله سبحانه وتعالى عاتب المؤمنين على الاستكثار من الأسارى يومئذ, ليأخذوا منهم الفداء والتقليل من القتل يومئذ فقال: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الاَخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} ثم قد ادعى بعض العلماء أن هذه الاَية المخيرة بين مفاداة الأسير والمن عليه منسوخة بقوله تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} الاَية, رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقاله قتادة والضحاك والسدي وابن جريج وقال الاَخرون وهم الأكثرون: ليست بمنسوخة, ثم قال بعضهم: إنما الإمام مخير بين المن على الأسير ومفاداته فقط, ولا يجوز له قتله. وقال آخرون منهم: بل له أن يقتله إن شاء لحديث قتل النبي صلى الله عليه وسلم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط من أسارى بدر. وقال ثمامة بن أثال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال له: «ما عندك يا ثمامة ؟» فقال إن تقتل تقتل ذا دم, وإن تمنن تمنن على شاكر, وإن كنت تريد المال فاسأل تعط منه ما شئت. وزاد الشافعي رحمة الله عليه فقال: الإمام مخير بين قتله أو المن عليه أو مفاداته أو استرقاقه أيضاً, وهذه المسألة محررة في علم الفروع وقد دللنا على ذلك في كتابنا الأحكام ولله سبحانه وتعالى الحمد والمنة.
    وقوله عز وجل: {حتى تضع الحرب أوزارها} قال مجاهد: حتى ينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام, وكأنه أخذه من قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال». وقال الإمام أحمد: حدثنا الحكم بن نافع, حدثنا إسماعيل بن عياش عن إبراهيم بن سليمان, عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي عن جبير بن نفير قال: إن سلمة بن نفيل أخبرهم أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني سيبت الخيل وألقيت السلاح ووضعت الحرب أوزارها وقلت: لا قتال, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «الاَن جاء القتال لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الناس يزيغ الله تعالى قلوب أقوام, فيقاتلونهم ويرزقهم الله منهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك, ألا إن عقد دار المؤمنين بالشام والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» وهكذا رواه النسائي من طريقين عن جبير بن نفير عن سلمة بن نفيل السكوني به.
    وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا داود بن رشيد, حدثنا الوليد بن مسلم عن محمد بن مهاجر, عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: لما فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح قالوا يا رسول الله سيبت الخيل ووضعت السلاح ووضعت الحرب أوزارها قالوا لا قتال قال: «كذبوا الاَن جاء القتال, ولا يزال الله تعالى يرفع قلوب قوم يقاتلونهم فيرزقهم منهم حتى يأتي أمر الله, وهم على ذلك وعقر دار المسلمين بالشام». وهكذا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن داود بن رشيد به, والمحفوظ أنه من رواية سلمة بن نفيل كما تقدم, وهذا يقوي القول بعدم النسخ كأنه شرع هذا الحكم في الحرب إلى أن لا يبقى حرب. وقال قتادة {حتى تضع الحرب أوزارها} حتى لا يبقى شرك, وهذا كقوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله}. ثم قال بعضهم: حتى تضع الحرب أوزارها أي أوزار المحاربين وهم المشركون بأن يتوبوا إلى الله عز وجل, وقيل أوزار أهلها بأن يبذلوا الوسع في طاعة الله تعالى. وقوله عز وجل: {ذلك ولو يشاء الله لا نتصر منهم} أي هذا ولو شاء الله لا نتقم من الكافرين بعقوبة ونكال من عنده {ولكن ليبلو بعضكم ببعض} أي ولكن شرع لكم الجهاد وقتال الأعداء ليختبركم, ويبلو أخباركم كما ذكر حكمته في شرعية الجهاد في سورتي آل عمران وبراءة في قوله تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}.
    وقال تبارك وتعالى في سورة براءة: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم} ثم لما كان من شأن القتال أن يقتل كثير من المؤمنين قال: {والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم} أي لن يذهبها بل يكثرها وينميها ويضاعفها . ومنهم من يجري عليه عمله طول برزخه, كما ورد بذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال: حدثنا زيد بن يحيى الدمشقي, حدثنا ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن كثير بن مرة عن قيس الجذامي ـ رجل كانت له صحبة ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يعطى الشهيد ست خصال: عند أول قطرة من دمه تكفر عنه كل خطيئة, ويرى مقعده من الجنة, ويزوج من الحور العين, ويأمن من الفزع الأكبر, ومن عذاب القبر, ويحلى حلة الإيمان» تفرد به أحمد رحمه الله.
    (حديث آخر) قال أحمد أيضاً: حدثنا الحكم بن نافع, حدثني إسماعيل بن عياش عن بحير بن سعيد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب الكندي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن للشهيد عند الله ست خصال: أن يغفر له في أول دفقة من دمه, ويرى مقعده من الجنة, ويحلى حلة الإيمان, ويزوج الحور العين ويجار من عذاب القبر, ويأمن من الفزع الأكبر, ويوضع على رأسه تاج الوقار مرصع بالدر والياقوت, الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين, ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه». وقد أخرجه الترمذي وصححه وابن ماجة. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يغفر للشهيد كل شيء إلا الدّين» وروي من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم, وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته» ورواه أبو داود والأحاديث في فضل الشهيد كثيرة جداً.
    وقوله تبارك وتعالى: {سيهديهم} أي إلى الجنة كقوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم}. وقوله عز وجل {ويصلح بالهم} أي أمرهم وحالهم {ويدخلهم الجنة عرفها لهم} أي عرفهم بها وهداهم إليها. قال مجاهد: يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم, وحيث قسم الله لهم منها لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا لا يستدلون عليها أحداً, وروى مالك عن ابن زيد بن أسلم نحو هذا, وقال محمد بن كعب: يعرفون بيوتهم إذا دخلوا الجنة كما تعرفون بيوتكم إذا انصرفتم من الجمعة. وقال مقاتل بن حيان: بلغنا أن الملك الذي كان وكل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه في الجنة ويتبعه ابن آدم حتى يأتي أقصى منزل هو له فيعرفه كل شيء أعطاه الله تعالى في الجنة, فإذا انتهى إلى أقصى منزله في الجنة دخل إلى منزله وأزواجه وانصرف الملك عنه, ذكره ابن أبي حاتم رحمه الله. وقد ورد الحديث الصحيح بذلك أيضاً رواه البخاري من حديث قتادة عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار, يتقاضون مظالم كانت بينهم في الدنيا, حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة, والذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمنزله الذي كان في الدنيا.
    ثم قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} كقوله عز وجل: {ولينصرن الله من ينصره} فإن الجزاء من جنس العمل ولهذا قال تعالى: {ويثبت أقدامكم} كما جاء في الحديث «من بلغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع إبلاغها, ثبت الله تعالى قدميه على الصراط يوم القيامة» ثم قال تبارك وتعالى: {والذين كفروا فتعساً لهم} عكس تثبيت الأقدام للمؤمنين الناصرين لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم, وقد ثبت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تعس عبد الدينار, تعس عبد الدرهم, تعس عبد القطيفة, تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش!» أي فلا شفاه الله عز وجل. وقوله سبحانه وتعالى: {وأضل أعمالهم} أي أحبطها وأبطلها, ولهذا قال: {ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله} أي لا يريدونه ولا يحبونه {فأحبط أعمالهم}.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:02

    ** أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمّرَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا * ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ مَوْلَى الّذِينَ آمَنُواْ وَأَنّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَىَ لَهُمْ * إِنّ اللّهَ يُدْخِلُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَالّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنّارُ مَثْوًى لّهُمْ * وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدّ قُوّةً مّن قَرْيَتِكَ الّتِيَ أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ
    يقول تعالى: {أفلم يسيروا} يعني المشركين بالله المكذبين لرسوله {في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم} أي عاقبهم بتكذيبهم وكفرهم, أي ونجى المؤمنين من بين أظهرهم, ولهذا قال تعالى: {وللكافرين أمثالها}. ثم قال: {ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم} ولهذا لما قال أبو سفيان صخر بن حرب رئيس المشركين يوم أحد, حين سأل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلم يجب وقال: أما هؤلاء فقد هلكوا, وأجابه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: كذبت يا عدو الله بل أبقىالله تعالى لك ما يسوءك, وإن الذين عددت لأحياء, فقال أبو سفيان يوم بيوم بدر, والحرب سجال, أما إنكم ستجدون مثلة لم آمر بها, ولم أنه عنها, ثم ذهب يرتجز ويقول: اعل هبل اعل هبل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تجيبوه ؟» فقالوا: يا رسول الله وما نقول قال صلى الله عليه وسلم قولوا: «الله أعلى وأجل» ثم قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم, فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا تجيبوه ؟» قالوا: وما نقول يا رسول الله ؟ قال: قولوا: «الله مولانا ولا مولى لكم».
    ثم قال سبحانه وتعالى: {إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار} أي يوم القيامة {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تاكل الأنعام} أي في دنياهم يتمتعون بها ويأكلون منها كأكل الأنعام خضما وقضما, وليس لهم همة إلا في ذلك, ولهذا ثبت في الصحيح «المؤمن يأكل في مِعىً واحد, والكافر يأكل في سبعة أمعاء» ثم قال تعالى: {والنار مثوى لهم} أي يوم جزائهم, وقوله عز وجل: {وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك} يعني مكة {أهلكناهم فلا ناصر لهم} وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لأهل مكة في تكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو سيد الرسل وخاتم الأنبياء, فإذا كان الله عز وجل قد أهلك الأمم الذين كذبوا الرسل قبله بسببهم, وقد كانوا أشد قوة من هؤلاء فماذا ظن هؤلاء أن يفعل الله بهم في الدنيا والأخرى ؟ فإن رفع عن كثير منهم العقوبة في الدنيا لبركة وجود الرسول نبي الرحمة فإن العذاب يوفر على الكافرين به في معادهم {يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون}.
    وقوله تعالى: {من قريتك التي أخرجتك} أي الذين أخرجوك من بين أظهرهم. وقال ابن أبي حاتم: ذكر أبي عن محمد بن عبد الأعلى عن المعتمر بن سليمان عن أبيه عن حنش, عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما, أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار أتاه قال فالتفت إلى مكة وقال: «أنت أحب بلاد الله إلى الله, وأنت أحب بلاد الله إلي, ولولا أن المشركين أخرجوني لم أخرج منك» فأعدى الأعداء من عدا على الله تعالى في حرمه, أو قتل غير قاتله, أو قتل بدحول الجاهلية, فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم {وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم}.


    ** أَفَمَن كَانَ عَلَىَ بَيّنَةٍ مّن رّبّهِ كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوَءُ عَمَلِهِ وَاتّبَعُوَاْ أَهْوَاءَهُمْ * مّثَلُ الْجَنّةِ الّتِي وُعِدَ الْمُتّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مّن مّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لّبَنٍ لّمْ يَتَغَيّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مّنْ خَمْرٍ لّذّةٍ لّلشّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مّنْ عَسَلٍ مّصَفّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مّن رّبّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطّعَ أَمْعَآءَهُمْ
    يقول تعالى: {أفمن كان على بينة من ربه} أي على بصيرة ويقين من أمر الله ودينه بما أنزل في كتابه من الهدى والعلم, وبما جبله الله عليه من الفطرة المستقيمة, {كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم} أي ليس هذا كهذا, كقوله تعالى: {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ؟} وكقوله تعالى: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة, أصحاب الجنة هم الفائزون} ثم قال عز وجل {مثل الجنة التي وعد المتقون} قال عكرمة {مثل الجنة} أي نعتها {فيها أنهار من ماء غير آسن} قال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وقتادة: يعني غير متغير. وقال قتادة والضحاك وعطاء الخراساني: غير منتن, والعرب تقول: أسن الماء إذ تغير ريحه, وفي حديث مرفوع أورده ابن أبي حاتم: غير آسن يعني الصافي الذي لا كدر فيه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا وكيع عن الأعمش عن عبد الله بن مرة, عن مسروق قال: قال عبد الله رضي الله عنه: أنهار الجنة تفجر من جبل من مسك {وأنهار من لبن لم يتغير طعمه} أي بل في غاية البياض والحلاوة والدسومة, وفي حديث مرفوع «لم يخرج من ضروع الماشية» {وأنهار من خمر لذة للشاربين} أي ليست كريهة الطعم والرائحة كخمر الدنيا حسنة المنظر والطعم والرائحة والفعل {لا فيها غول ولا هم عنهاينزفون} {لا يصدعون عنها ولا ينزفون} {بيضاء لذة للشاربين} وفي حديث مرفوع «لم يعصرها الرجال بأقدامهم» {وأنهار من عسل مصفى} أي وهو في غاية الصفاء وحسن اللون والطعم والريح. وفي حديث مرفوع «لم يخرج من بطون النحل».
    وقال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن هارون, أخبرنا الجريري عن حكيم بن معاوية عن أبيه, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «في الجنة بحر اللبن وبحر الماء وبحر العسل وبحر الخمر, ثم تشقق الأنهار منها بعد» ورواه الترمذي في صفة الجنة عن محمد بن بشار عن يزيد بن هارون, عن سعيد بن أبي إياس الجريري وقال: حسن صحيح. وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا أحمد بن محمد بن عاصم, حدثنا عبد الله بن محمد بن النعمان, حدثنا مسلم بن إبراهيم, حدثنا الحارث بن عبيد أبو قدامة الأيادي, حدثنا أبو عمران الجوني عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذه الأنهار تشخب من جنة عدن في جوبة ثم تصدع بعد أنهاراً» وفي الصحيح «إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة, وأعلى الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة وفوقه عرش الرحمن».
    وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا مصعب بن حمزة الزبيري وعبد الله بن الصفر السكري قالا: حدثنا إبراهيم بن المنذر الخزامي, حدثنا عبد الرحمن بن المغيرة, حدثني عبد الرحمن بن عياش عن دلهم بن الأسود قال دلهم, وحدثنيه أيضاً أبي الأسود عن عاصم بن لقيط قال: إن لقيط بن عامر خرج وافداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله فعلام نطلع من الجنة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «على أنهار عسل مصفى, وأنهار خمر ما بها من صداع ولا ندامة, وأنهار من لبن لم يتغير طعمه, وماء غير آسن, وفاكهة لعمر إلهك ما تعلمون وخير من مثله, وأزواج مطهرة» قلت: يا رسول الله أولنا فيها زوجات مصلحات ؟ قال «الصالحات للصالحين تلذونهن مثل لذاتكم في الدنيا ويلذونكم, غير أن لا توالد» وقال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا: حدثنا يعقوب بن عبيدة عن يزيد بن هارون, أخبرني الجريري عن معاوية بن قرة عن أبيه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لعلكم تظنون أن أنهار الجنة تجري في أُخدود في الأرض والله إنها لتجري سائحة على وجه الأرض, حافاتها قباب اللؤلؤ وطينها المسك الأذفر, وقد رواه أبو بكر بن مردويه من حديث مهدي بن حكيم عن يزيد بن هارون به مرفوعاً.
    وقوله تعالى: {ولهم فيها من كل الثمرات} كقوله عز وجل: {يدعون فيها بكل فاكهة آمنين} وقوله تبارك وتعالى: {فيهما من كل فاكهة زوجان} وقوله سبحانه وتعالى: {ومغفرة من ربهم} أي مع ذلك كله. وقوله سبحانه وتعالى: {كمن هو خالد في النار} أي هؤلاء الذين ذكرنا منزلتهم من الجنة كمن هو خالد في النار ؟ ليس هؤلاء كهؤلاء, وليس من هو في الدرجات كمن هو في الدركات {وسقوا ماء حميماً} أي حاراً شديد الحر لا يستطاع {فقطع أمعاءهم} أي قطع ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء ـ عياذاً بالله تعالى من ذلك.


    ** وَمِنْهُمْ مّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتّىَ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ وَاتّبَعُوَاْ أَهْوَآءَهُمْ * وَالّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ * فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ السّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنّىَ لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ * فَاعْلَمْ أَنّهُ لاَ إِلَـَهَ إِلا اللّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ
    يقول تعالى مخبراً عن المنافقين في بلادتهم وقلة فهمهم, حيث كانوا يجلسون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه فلا يفهمون منه شيئاً فإذا خرجوا من عنده {قالوا للذين أوتوا العلم} من الصحابة رضي الله عنهم {ماذا قال آنفاً} أي الساعة. لا يعقلون ما قال ولا يكترثون له. قال الله تعالى: {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم} أي فلا فهم صحيح ولا قصد صحيح. ثم قال عز وجل: {والذين اهتدوا زادهم هدى} أي والذين قصدوا الهداية وفقهم الله تعالى لها فهداهم إليها وثبتهم عليها وزادهم منها {وآتاهم تقواهم} أي ألهمهم رشدهم. وقوله تعالى: {فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة} أي وهم غافلون عنها {فقد جاء أشراطها} أي أمارات اقترابها كقوله تبارك وتعالى: {هذا نذير من النذر الأولى أزفت الاَزفة} وكقوله جلت عظمته: {اقتربت الساعة وانشق القمر} وقوله سبحانه وتعالى: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} وقوله جل وعلا: {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون} فبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة, لأنه خاتم الرسل الذي أكمل الله تعالى به الدين وأقام به الحجة على العالمين.
    وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأمارات الساعة وأشراطها وأبان عن ذلك وأوضحه بما لم يؤته نبي قبله, كما هو مبسوط في موضعه. وقال الحسن البصري: بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة وهو كما قال ولهذا جاء في أسمائه صلى الله عليه وسلم أنه نبي التوبة ونبي الملحمة, والحاشر الذي يحشر الناس على قدميه, والعاقب الذي ليس بعده نبي.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:03

    ** وَيَقُولُ الّذِينَ آمَنُواْ لَوْلاَ نُزّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَىَ لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ اللّهَ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ * فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ وَتُقَطّعُوَاْ أَرْحَامَكُمْ * أَوْلَـَئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ فَأَصَمّهُمْ وَأَعْمَىَ أَبْصَارَهُمْ
    يقول تعالى مخبراً عن المؤمنين أنهم تمنوا شرعية الجهاد, فلما فرضه الله عز وجل وأمر به نكل عنه كثير من الناس كقوله تبارك وتعالى: {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناش كخشية الله أو أشد خشية وقالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب ؟ قل متاع الدنيا قليل والاَخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا} وقال عز وجل ههنا: {ويقول الذين آمنوا لو لا نزلت سورة} أي مشتملة على حكم القتال ولهذا قال: {فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت} أي من فزعهم ورعبهم وجبنهم من لقاء الأعداء, ثم قال مشجعاً لهم {فأولى لهم طاعة وقول معروف} أي وكان الأولى بهم أن يسمعوا ويطيعوا أي في الحالة الراهنة {فإذا عزم الأمر} أي جد الحال, وحضر القتال {فلو صدقوا الله} أي خلصوا له النية {لكان خيراً لهم}.
    وقوله سبحانه وتعالى: {فهل عسيتم إن توليتم} أي عن الجهاد ونكلتم عنه {أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ؟} أي تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء تسفكون الدماء وتقطعون الأرحام, ولهذا قال تعالى: {أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم} وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموماً, وعن قطع الأرحام خصوصاً, بل وقد أمر الله تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام, وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال وبذل الأموال, وقد وردت الأحاديث الصحاح والحسان بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق عديدة ووجوه كثيرة, قال البخاري: حدثنا خالد بن مخلد, حدثنا سليمان, حدثني معاوية بن أبي مزرد عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله تعالى الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقوي الرحمن عز وجل فقال مه, فقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة فقال تعالى: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ؟ قالت: بلى, قال: فذاك لك» قال أبو هريرة رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم} ثم رواه البخاري من طريقين آخرين عن معاوية بن أبي مزرد به قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرءوا إن شئتم {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم}. ورواه مسلم من حديث معاوية بن أبي مزرد به.
    وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن علية, حدثنا عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن عن أبيه عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أحرى أن يعجل الله تعالى عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الاَخرة من البغي وقطيعة الرحم». ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث إسماعيل هو ابن علية به, وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكر, حدثنا ميمون أبو محمد المرئي, حدثنا محمد بن عباد المخزومي عن ثوبان رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سره النسأ في الأجل والزيادة في الرزق فليصل رحمه». تفرد به أحمد وله شاهد في الصحيح. وقال أحمد أيضاً: حدثنا يزيد بن هارون, حدثنا حجاج بن أرطأة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن لي ذوي أرحام, أصل ويقطعون, وأعفو ويظلمون, وأحسن ويسيئون أفأكافئهم ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لا, إذن تتركون جميعاً ولكن جد بالفضل وصلهم, فإنه لن يزال معك ظهير من الله عز وجل ما كنت على ذلك» تفرد به أحمد من هذا الوجه وله شاهد من وجه آخر.
    وقال الإمام أحمد: حدثنا يعلى, حدثنا فطر عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرحم معلقة بالعرش وليس الواصل بالمكافىء ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها» رواه البخاري. وقال أحمد: حدثنا بهز, حدثنا حماد بن سلمة, أخبرنا قتادة عن أبي ثمامة الثقفي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «توضع الرحم يوم القيامة لها حجنة كحجنة المغزل تكلم بلسان طلق ذلق, فتقطع من قطعها وتصل من وصلها» وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان, حدثنا عمرو عن أبي قابوس عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الراحمون يرحمهم الرحمن, ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء, والرحم شجنة من الرحمن من وصلها وصلته ومن قطعها بتته» وقد رواه أبو داود والترمذي من حديث سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار به, وهذا هو الذي يروى بتسلسل الأولية وقال الترمذي: حسن صحيح.
    وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون حدثنا هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ, أن أباه حدثه أنه دخل على عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وهو مريض فقال له عبد الرحمن رضي الله عنه, وصلت رحمك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل: أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسمها من اسمي, فمن يصلها أصله ومن يقطعها أقطعه فأبته ـ أو قال ـ من بتها أبته» تفرد به أحمد من هذا الوجه, ورواه أحمد أيضاً من حديث الزهري عن أبي سلمة عن الرداد ـ أو أبي الرداد ـ عن عبد الرحمن بن عوف به, ورواه أبو داود والترمذي من رواية أبي سلمة عن أبيه, والأحاديث في هذا كثيرة جداً.
    وقال الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز, حدثنا محمد بن عمار الموصلي, حدثنا عيسى بن يونس عن الحجاج بن الفرافصة, عن أبي عمر البصري عن سليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» وبه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا ظهر القول وخزن العمل وائتلفت الألسنة وتباغضت القلوب, وقطع كل ذي رحم رحمه فعند ذلك لعنهم الله وأصمهم وأعمى أبصارهم» والأحاديث في هذا كثيرة, والله أعلم.


    ** أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىَ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ * إِنّ الّذِينَ ارْتَدّواْ عَلَىَ أَدْبَارِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشّيْطَانُ سَوّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىَ لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُواْ لِلّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزّلَ اللّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنّهُمُ اتّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ اللّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ
    يقول تعالى آمراً بتدبر القرآن وتفهمه وناهياً عن الإعراض عنه فقال: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} أي بل على قلوب أقفالها, فهي مطبقة لا يخلص إليها شيء من معانيه, قال ابن جرير: حدثنا بشر, حدثنا حماد بن زيد, حدثنا هشام بن عروة عن أبيه رضي الله عنه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ؟} فقال شاب من أهل اليمن: بل عليها أقفالها حتى يكون الله تعالى يفتحها أو يفرجها, فما زال الشاب في نفس عمر رضي الله عنه حتى ولي فاستعان به. ثم قال تعالى: {إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى} أي فارقوا الإيمان ورجعوا إلى الكفر {من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم} أي زين لهم ذلك وحسنه {وأملى لهم} أي غرهم وخدعهم {ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر} أي ما لؤوهم وناصحوهم في الباطن على الباطل وهذا شأن المنافقين يظهرون خلاف ما يبطنون. ولهذا قال الله عز وجل: {والله يعلم إسرارهم} أي ما يسرون وما يخفون, الله مطلع عليه وعالم به كقوله تبارك وتعالى: {والله يكتب ما يبيتون}.
    ثم قال تعالى: {فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم} أي كيف حالهم إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم وتعاصت الأرواح في أجسادهم واستخرجتها الملائكة بالعنف والقهر والضرب, كما قال سبحانه وتعالى: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم} الاَية. وقال تعالى: {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم} أي بالضرب {أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون} ولهذا قال ههنا: {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم}.

    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:03

    ** أَمْ حَسِبَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مّرَضٌ أَن لّن يُخْرِجَ اللّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَآءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ * وَلَنَبْلُوَنّكُمْ حَتّىَ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ
    يقول تعالى: {أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ؟} أي أيعتقد المنافقون أن الله لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين, بل سيوضح أمرهم ويجليه حتى يفهمهم ذوو البصائر, وقد أنزل الله تعالى في ذلك سورة براءة فبين فيها فضائحهم, وما يعتمدونه من الأفعال الدالة على نفاقهم, ولهذا كانت تسمى الفاضحة. والأضغان: جمع ضغن وهو ما في النفوس من الحسد والحقد للإسلام وأهله والقائمين بنصره. وقوله تعالى: {ولو نشاء لأريناكم فلعرفتهم بسيماهم} يقول عز وجل ولو نشاء يا محمد لأريناك أشخاصهم فعرفتهم عياناً, ولكن لم يفعل تعالى ذلك في جميع المنافقين ستراً منه على خلقه, وحملاً للأمور على ظاهر السلامة ورداً للسرائر إلى عالمها {ولتعرفنهم في لحن القول} أي فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم يفهم المتكلم من أي الحزبين هو بمعاني كلامه وفحواه, وهو المراد من لحن القول كما قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه.
    وفي الحديث «ما أسر أحد سريرة إلا كساه الله تعالى جلبابها إن خيراً فخير وإن شراً فشر» وقد ذكرنا ما يستدل به على نفاق الرجل وتكلمنا على نفاق العمل والاعتقاد في أول شرح البخاري بما أغنى عن إعادته ههنا, وقد ورد في الحديث تعيين جماعة من المنافقين. قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا سفيان عن سلمة عن عياض بن عياض عن أبيه عن أبي مسعود عقبة بن عمرو رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: «إن منكم منافقين فمن سميت فليقم ـ ثم قال ـ قم يا فلان, قم يا فلان قم يا فلان ـ حتى سمى ستة وثلاثين رجلاً ثم قال ـ إن فيكم أو منكم ـ منافقين فاتقوا الله» قال فمر عمر رضي الله عنه برجل ممن سمى مقنع قد كان يعرفه فقال: مالك ؟ فحدثه بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بعداً لك سائر اليوم. وقوله عز وجل: {ولنبلونكم} أي لنختبرنكم بالأوامر والنواهي {حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} وليس في تقدم علم الله تعالى بما هو كائن أنه سيكون شك ولا ريب, فالمراد حتى نعلم وقوعه ولهذا يقول ابن عباس رضي الله عنهما في مثل هذا: إلا لنعلم أي لنرى.


    ** إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَشَآقّواْ الرّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمُ الْهُدَىَ لَن يَضُرّواْ اللّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ * يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوَاْ أَعْمَالَكُمْ * إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ * فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُوَاْ إِلَى السّلْمِ وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ
    يخبر تعالى عمن كفر وصد عن سبيل الله وخالف الرسول وشاقه, وارتد عن الإيمان من بعد ما تبين له الهدى أنه لن يضر الله شيئاً, وإنما يضر نفسه ويخسرها يوم معادها, وسيحبط الله عمله فلا يثيبه على سالف ما تقدم من عمله الذي عقبه بردته مثقال بعوضة من خير, بل يحبطه ويمحقه بالكلية كما أن الحسنات يذهبن السيئات. وقد قال الإمام أحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة: حدثنا أبو قدامة, حدثنا وكيع, حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع «لا إله إلا الله ذنب» كما لا ينفع مع الشرك عمل فنزلت {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم} فخافوا أن يبطل الذنب العمل, ثم روي عن طريق عبد الله بن المبارك أخبرني بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبول حتى نزلت {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم} فقلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟ فقلنا: الكبائر الموجبات والفواحش حتى نزل قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك فكنا نخاف على من أصاب الكبائروالفواحش ونرجو لمن لم يصبها.
    ثم أمر تبارك وتعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله التي هي سعادتهم في الدنيا والاَخرة ونهاهم عن الارتداد الذي هو مبطل للأعمال, ولهذا قال تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} أي بالردة, ولهذا قال بعدها: {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم} كقوله سبحانه وتعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} الاَية. ثم قال جل وعلا لعباده المؤمنين: {فلا تهنوا} أي لا تضعفوا عن الأعداء {وتدعوا إلى السلم} أي المهادنة والمسالمة ووضع القتال بينكم وبين الكفار في حال قوتكم وكثرة عددكم وعددكم,.. ولهذا قال: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون} أي في حال علوكم على عدوكم.. فأما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين, ورأى الإمام في المهادنة, والمعاهدة مصلحة فله أن يفعل ذلك, كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صده كفار قريش عن مكة ودعوه إلى الصلح, ووضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين فأجابهم صلى الله عليه وسلم إلى ذلك. وقوله جلت عظمته: {والله معكم} فيه بشارة عظيمة بالنصر والظفر على الأعداء {ولن يتركم أعمالكم} أي ولن يحبطها ويبطلها ويسلبكم إياها بل يوفيكم ثوابها ولا ينقصكم منها شيئاً والله أعلم.


    ** إِنّمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ * هَا أَنتُمْ هَـَؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَمِنكُم مّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنّمَا يَبْخَلُ عَن نّفْسِهِ وَاللّهُ الْغَنِيّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ وَإِن تَتَوَلّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمّ لاَ يَكُونُوَاْ أَمْثَالَكُم
    يقول تعالى تحقيراً لأمر الدنيا وتهويناً لشأنها {إنما الحياة الدنيا لعب ولهو} أي حاصلها ذلك إلا ما كان منها لله عز وجل, ولهذا قال تعالى: {وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم} أي هو غني عنكم لا يطلب منكم شيئاً وإنما فرض عليكم الصدقات من الأموال مواساة لإخوانكم الفقراء, ليعود نفع ذلك عليكم ويرجع ثوابه إليكم, ثم قال جل جلاله: {إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا} أي يحرجكم تبخلوا {ويخرج أضغانكم} قال قتادة: قد علم الله تعالى أن في إخراج الأموال إخراج الأضغان. وصدق قتادة فإن المال محبوب ولا يصرف إلا فيما هو أحب إلى الشخص منه. وقوله تعالى: {ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل} أي لا يجيب إلى ذلك {ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه} أي إنما نقص نفسه من الأجر وإنما يعود وبال ذلك عليه {والله الغني} أي عن كل ما سواه وكل شيء فقير إليه دائماً, ولهذا قال تعالى: {وأنتم الفقراء} أي بالذات إليه, فوصفه بالغني وصف لازم له, ووصف الخلق بالفقر وصف لازم لهم لا ينفكون عنه.
    وقوله تعالى: {وإن تتولوا} أي عن طاعته واتباع شرعه {يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} أي ولكن يكونون سامعين مطيعين له ولأوامره. وقال ابن أبي حاتم وابن جرير: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, حدثنا ابن وهب, أخبرني مسلم بن خالد عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الاَية {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدل بنا ثم لا يكونوا أمثالنا ؟ قال: فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي رضي الله عنه ثم قال «هذا وقومه ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس» تفرد به مسلم بن خالد الزنجي, ورواه عنه غير واحد, وقد تكلم فيه بعض الأئمة رحمة الله عليهم, والله أعلم.


    تمت سورة محمد

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:03

    سورة الفتح
    وهي مدنية
    قال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا شعبة عن معاوية بن قرة قال سمعت عبد الله بن مغفل يقول قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في مسيره سورة الفتح على راحلته فرجع فيها قال معاوية لولا أني أكره أن يجتمع الناس علينا لحكيت قراءته, أخرجاه من حديث شعبة به.


    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** إِنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مّبِيناً * لّيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَقَدّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخّرَ وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مّسْتَقِيماً * وَيَنصُرَكَ اللّهُ نَصْراً عَزِيزاً
    نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم, من الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة, حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام فيقضي عمرته فيه, وحالوا بينه وبين ذلك ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة, وأن يرجع عامه هذا ثم يأتي من قابل, فأجابهم إلى ذلك على تكره من جماعة من الصحابة, منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما سيأتي تفصيله في موضعه من تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى, فلما نحر هديه حيث أحصر ورجع أنزل الله عز وجل هذه السورة من أمره وأمرهم, وجعل ذلك الصلح فتحاً باعتبار ما فيه من المصلحة وما آل الأمر إليه, كما روى ابن مسعود رضي الله عنه وغيره أنه قال: إنكم تعدون الفتح فتح مكة ونحن نعد الفتح صلح الحديبية, وقال الأعمش عن أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه قال: ما كنا نعد)الفتح إلا يوم الحديبة, وقال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحاً, ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية, كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة. والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة, فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتانا فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم تمضمض ودعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد, ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركائبنا.
    وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو نوح, حدثنا مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قال: فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يرد عليّ, قال فقلت في نفسي: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ألححت كررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فلم يرد عليك ؟ قال: فركبت راحلتي فحركت بعيري فتقدمت مخافة أن يكون نزل فيّ شيء, قال: فإذا أنا بمناد يا عمر, قال: فرجعت وأنا أظن أنه نزل فيّ شيء قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم «نزل علي البارحة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً* ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} ورواه البخاري والترمذي والنسائي من طرق عن مالك رحمه الله, وقال علي بن المديني هذا إسناد مدني جيد لم نجده إلا عندهم, وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} مرجعه من الحديبية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد أنزلت علي الليلة آية أحب إلي مما على الأرض» ثم قرأها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هنيئاً مريئاً يا نبي الله لقد بين الله عز وجل ما يفعل بك فماذا يفعل بنا ؟ فنزلت عليه صلى الله عليه وسلم {ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار ـ حتى بلغ ـ فوزاً عظيماً} أخرجاه في الصحيحين من رواية قتادة به.
    وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى, حدثنا مجمع بن يعقوب قال: سمعت أبي يحدث عن عمه عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري, عن عمه مجمع بن حارثة الأنصاري رضي الله عنه, وكان أحد القراء الذين قرأوا القرآن قال: شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الأباعر فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس ؟ قالوا: أوحي إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجنا مع الناس نوجف فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم, فاجتمع الناس عليه فقرأ عليهم {إنا فتحنا لك فتحاً مبينا} قال: فقال: رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أي رسول الله أو فتح هو ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «إي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح» فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سهماً. وكان الجيش ألفاً وخمسمائة منهم ثلثمائة فارس أعطى الفارس سهمين وأعطى الراجل سهماً ورواه أبو داود في الجهاد عن محمد بن عيسى عن مجمع بن يعقوب به.
    وقال ابن جرير حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع, حدثنا أبو بحر, حدثنا شعبة, حدثنا جامع بن شداد عن عبدالرحمن بن أبي علقمة قال: سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: لما أقبلنا من الحديبية عرسنا فنمنا فلم نستيقظ إلا والشمس قد طلعت, فاستيقظنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم قال: فقلنا أيقظوه فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «افعلوا ما كنتم تفعلون وكذلك يفعل من نام أو نسي» قال: وفقدنا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبناها فوجدناها قد تعلق خطامها بشجرة, فأتيته بها فركبها فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي قال: وكان إذا أتاه الوحي اشتد عليه, فلما سري عنه أخبرنا أنه أنزل عليه {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} وقد رواه أحمد وأبو داود والنسائي من غير وجه عن جامع بن شداد به. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان عن زياد بن علاقة قال: سمعت المغيرة بن شعبة يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي حتى ترم قدماه فقيل له أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال صلى الله عليه وسلم «أفلا أكون عبداً شكوراً ؟» أخرجاه وبقية الجماعة إلا أبا داود من حديث زياد به.
    وقال الإمام أحمد: حدثنا هارون بن معروف, حدثنا ابن وهب, حدثني أبو صخر عن ابن قسيط عن ابن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تتفطر رجلاه, فقالت له عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم لك من ذنبك وما تأخر ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة أفلا أكون عبداً شكوراً». أخرجه مسلم في الصحيح من رواية عبد الله بن وهب به. وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا عبد الله بن عوف الخراز وكان ثقة بمكة حدثنا محمد بن بشر حدثنا مسعر عن قتادة عن أنس قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه ـ أو قال ساقاه ـ فقيل له أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً» غريب من هذا الوجه فقوله: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} أي بيناً وظاهراً والمراد به صلح الحديبية, فإنه حصل بسببه خير جزيل, وآمن الناس واجتمع بعضهم ببعض, وتكلم المؤمن مع الكافر وانتشر العلم النافع والإيمان.
    وقوله تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم التي لا يشاركه فيها غيره, وليس في حديث صحيح في ثواب الأعمال لغيره غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, وهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو صلى الله عليه وسلم في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه لا من الأولين ولا من الاَخرين, وهو صلى الله عليه وسلم أكمل البشر على الإطلاق وسيدهم في الدنيا والاَخرة, ولما كان أطوع خلق الله تعالى لله وأشدهم تعظيماً لأوامره ونواهيه قال حين بركت به الناقة: «حبسها حابس الفيل» ثم قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم شيئاً يعظمون به حرمات الله إلا أجبتهم إليها» فلما أطاع الله في ذلك وأجاب إلى الصلح قال الله تعالى له: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك} أي في الدنيا والاَخرة {ويهديك صراطاً مستقيماً} أي بما يشرعه لك من الشرع العظيم والدين القويم {وينصرك الله نصراً عزيزاً} أي بسبب خضوعك لأمر الله عز وجل يرفعك الله وينصرك على أعدائك كما جاء في الحديث الصحيح «وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً. وما تواضع أحد لله عز وجل إلا رفعه الله تعالى» وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ما عاقبت أحداً عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله تبارك وتعالى فيه.


    ** هُوَ الّذِيَ أَنزَلَ السّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوَاْ إِيمَاناً مّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلّهِ جُنُودُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً * لّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللّهِ فَوْزاً عَظِيماً * وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظّآنّينَ بِاللّهِ ظَنّ السّوْءِ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السّوْءِ وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدّ لَهُمْ جَهَنّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً * وَلِلّهِ جُنُودُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
    وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
    يقول تعالى: {هو الذي أنزل السكينة} أي جعل الطمأنينة, قال ابن عباس رضي الله عنهما وعنه: الرحمة وقال قتادة: الوقار في قلوب المؤمنين, وهم الصحابة رضي الله عنهم, يوم الحديبية الذين استجابوا لله ولرسوله وانقادوا لحكم الله ورسوله, فلما اطمأنت قلوبهم بذلك واستقرت زادهم إيماناً مع إيمانهم, وقد استدل بها البخاري وغيره من الأئمة على تفاضل الإيمان في القلوب, ثم ذكر تعالى أنه لو شاء لا نتصر من الكافرين فقال سبحانه وتعالى: {ولله جنود السموات والأرض} أي ولو أرسل عليهم ملكاً واحداً لأباد خضراءهم, ولكنه تعالى شرع لعباده المؤمنين الجهاد والقتال, لما له في ذلك من الحكمة البالغة والحجة القاطعة والبراهين الدامغة, ولهذا قال جلت عظمته: {وكان الله عليماً حكيماً}.
    ثم قال عز وجل: {ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها} قد تقدم حديث أنس رضي الله عنه حين قالوا: هنيئاً لك يا رسول الله, هذا لك فما لنا ؟ فأنزل الله تعالى: {ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها} أي ما كثين فيها أبداً {ويكفر عنهم سيئاتهم} أي خطاياهم وذنوبهم فلا يعاقبهم عليها, بل يعفو ويصفح ويغفر ويستر ويرحم ويشكر {وكان ذلك عند الله فوزاً عظيماً} كقوله جل وعلا: {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} الاَية. وقوله تعالى: {ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء} أي يتهمون الله تعالى في حكمه ويظنون بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية, ولهذا قال تعالى: {عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم} أي أبعدهم من رحمته {وأعد لهم جهنم وساءت مصيراً} ثم قال عز وجل مؤكداً لقدرته على الانتقام من الأعداء أعداء الإسلام ومن الكفرة والمنافقين {ولله جنود السموات والأرض وكان الله عزيزاً حكيماً}.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:04

    ** إِنّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً * لّتُؤْمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * إِنّ الّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نّكَثَ فَإِنّمَا يَنكُثُ عَلَىَ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىَ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
    يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {إنا أرسلناك شاهداً} أي على الخلق {ومبشراً} أي للمؤمنين {ونذيراً} أي للكافرين وقد تقدم تفسيرها في سورة الأحزاب. {لتؤمنوا با لله ورسوله وتعزروه} قال ابن عباس رضي الله عنهما وغير واحد: تعظموه {وتوقروه} من التوقير وهو الاحترام والإجلال والإعظام {وتسبحوه} أي تسبحون الله {بكرة وأصيلاً} أي أول النهار وآخره. ثم قال عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم تشريفاً له وتعظيماً وتكريماً: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} كقوله جل وعلا: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} {يد الله فوق أيديهم} أي هو حاضر معهم يسمع أقوالهم ويرى مكانهم ويعلم ضمائرهم وظواهرهم فهو تعالى هو المبايع بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن, ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بابعتم به وذلك هو الفوز العظيم}.
    وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا الفضل بن يحيى الأنباري: حدثنا علي بن بكار عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سل سيفه في سبيل الله فقد بايع الله» وحدثنا أبي, حدثنا يحيى بن المغيرة, أخبرنا جرير عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر «والله ليبعثنه الله عز وجل يوم القيامة له عينان ينظر بهما ولسان ينطق به ويشهد على من استلمه بالحق فمن استلمه فقد بايع الله تعالى» ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم} ولهذا قال تعالى ههنا: {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه} أي إنما يعود وبال ذلك على الناكث والله غني عنه {ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً} أي ثواباً جزيلاً. وهذه البيعة هي بيعة الرضوان وكانت تحت شجرة سمر بالحديبية, وكان الصحابة رضي الله عنهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ قيل ألفاً وثلثمائة, وقيل وأربعمائة, وقيل وخمسمائة, والأوسط أصح,
    ** وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجّلَ لَكُمْ هَـَذِهِ وَكَفّ أَيْدِيَ النّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مّسْتَقِيماً * وَأُخْرَىَ لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللّهُ بِهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيراً * وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الّذِينَ كفَرُواْ لَوَلّوُاْ الأدْبَارَ ثُمّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * سُنّةَ اللّهِ الّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً * وَهُوَ الّذِي كَفّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً
    قال مجاهد في قوله تعالى: {وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها} هي جميع المغانم إلى اليوم {فعجل لكم هذه} يعني فتح خيبر, وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما {فعجل لكم هذه} يعني صلح الحديبية {وكف أيدي الناس عنكم} أي لم ينلكم سوء مما كان أعداؤكم أضمروه لكم من المحاربة والقتال, وكذلك كف أيدي الناس عنكم الذين خلفتموهم وراء ظهوركم عن عيالكم وحريمكم {ولتكون آية للمؤمنين} أي يعتبرون بذلك, فإن الله تعالى حافظهم وناصرهم على سائر الأعداء مع قلة عددهم, وليعلموا بصنيع الله هذا بهم إنه العالم بعواقب الأمور, وإن الخيرة فيما يختاره لعباده المؤمنين وإن كرهوه في الظاهر كما قال عز وجل {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم} {ويهديكم صراطاً مستقيماً} أي بسبب انقيادكم لأمره واتباعكم طاعته, وموافقتكم رسوله صلى الله عليه وسلم.
    وقوله تبارك وتعالى: {وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديراً} أي وغنيمة أخرى وفتحاً آخر معيناً لم تكونوا تقدرون عليها, قد يسرها الله عليكم وأحاط بها لكم, فإنه تعالى يرزق عباده المتقين له من حيث لا يحتسبون, وقد اختلف المفسرون في هذه الغنيمة ما المراد بها فقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما هي خيبر, وهذا على قوله عز وجل: {فعجل لكم هذه} إنها صلح الحديبية, وقاله الضحاك وابن إسحاق وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وقال قتادة: هي مكة واختاره ابن جرير, وقال ابن أبي ليلى والحسن البصري: هي فارس والروم, وقال مجاهد: هي كل فتح وغنيمة إلى يوم القيامة. وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن سماك الحنفي عن ابن عباس رضي الله عنهما {وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها} قال: هذه الفتوح التي تفتح إلى اليوم.
    وقوله تعالى: {ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون ولياً ولا نصيراً} يقول عز وجل مبشراً لعباده المؤمنين, بأنه لو ناجزهم المشركون لنصر الله رسوله وعباده المؤمنين عليهم, ولا نهزم جيش الكفر فاراً مدبراً لا يجدون ولياً ولا نصيراً, لأنهم محاربون لله ولرسوله ولحزبه المؤمنين. ثم قال تبارك وتعالى: {سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً} أي هذه سنة الله وعادته في خلقه, ما تقابل الكفر والإيمان في موطن إلا نصر الله الإيمان على الكفر فرفع الحق ووضع الباطل, كما فعل تعالى يوم بدر بأوليائه المؤمنين نصرهم على أعدائه من المشركين مع قلة عدد المسلمين وعددهم وكثرة المشركين وعددهم.
    وقوله سبحانه وتعالى: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيراً} هذا امتنان من الله على عباده المؤمنين حين كف أيدي المشركين عنهم فلم يصل إليهم منهم سوء, وكف أيدي المؤمنين عن المشركين فلم يقاتلوهم عند المسجد الحرام, بل صان كلاً من الفريقين وأوجد بينهم صلحاً فيه خير للمؤمنين وعاقبة لهم في الدنيا والاَخرة, وقد تقدم في حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه حين جاؤوا بأولئك السبعين الأسارى, فأوقفوهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إليهم فقال: «أرسلوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه». قال وفي ذلك أنزل الله عز وجل: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم} الاَية. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون, حدثنا حماد عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون رجلاً من أهل مكة بالسلاح, من قبل جبل التنعيم, يريدون غرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا عليهم فأخذوا. قال عفان: فعفا عنهم ونزلت هذه الاَية: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم} ورواه مسلم وأبو داود في سننه والترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما من طرق عن حماد بن سلمة به.
    وقال أحمد أيضاً: حدثنا زيد بن الحباب, حدثنا الحسين بن واقد, حدثنا ثابت البناني عن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصل الشجرة التي قال تعالى في القرآن, وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. وسهيل بن عمرو بين يديه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم» فأخذ سهيل بيده وقال: ما نعرف الرحمن الرحيم, اكتب في قضيتنا ما نعرف فقال: «اكتب باسمك اللهم ـ وكتب ـ هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة» فأمسك سهيل بن عمرو بيده وقال: لقد ظلمناك إن كنت رسوله اكتب في قضيتنا ما نعرف فقال اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله «فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شاباً عليهم السلاح, فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأخذ الله تعالى بأسماعهم فقمنا إليهم فأخذناهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل جئتم في عهد أحد ؟ أو هل جعل لكم أحداً أماناً ؟» فقالوا: لا , فخلى سبيلهم فأنزل الله تعالى: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم} الاَية رواه النسائي من حديث حسين بن واقد به.
    وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا يعقوب القمي, حدثنا جعفر عن ابن أبزى قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم بالهدي وانتهى إلى ذي الحليفة قال له عمر رضي الله عنه: يا نبي الله, تدخل على قوم لك حرب بغير سلاح ولا كراع ؟ قال: فبعث صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فلم يدع فيها كراعاً ولا سلاحاً إلا حمله, فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل فسار حتى أتى منى, فنزل بمنى فأتاه عينه أن عكرمة بن أبي جهل قد خرج عليك في خمسمائة, فقال لخالد بن الوليد رضي الله عنه: «يا خالد هذا ابن عمك قد أتاك في الخيل» فقال خالد رضي الله عنه: أنا سيف الله وسيف رسوله, فيومئذ سمي سيف الله, فقال: يا رسول الله ابعثني أين شئت, فبعثه على خيل فلقي عكرمة في الشعب فهزمه حتى أدخله حيطان مكة, ثم عاد في الثانية فهزمه حتى أدخله حيطان مكة, ثم عاد في الثالثة فهزمه حتى أدخله حيطان مكة, فأنزل الله تعالى: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة ـ إلى قوله تعالى ـ عذاباً أليماً} قال فكف الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم عنهم من بعد أن أظفره عليهم لبقايا من المسلمين كانوا بقوا فيها كراهية أن تطأهم الخيل, ورواه ابن أبي حاتم عن ابن أبزى بنحوه, وهذا السياق فيه نظر فإنه لا يجوز أن يكون عام الحديبية, لأن خالداً رضي الله عنه لم يكن أسلم بل قد كان طليعة للمشركين يومئذ, كما ثبت في الصحيح, ولا يجوز أن يكون في عمرة القضاء لأنهم قاضوه على أن يأتي في العام القابل فيعتمر, ويقيم بمكة ثلاثة أيام, ولما قدم صلى الله عليه وسلم لم يمانعوه ولا حاربوه ولا قاتلوه.
    فإذا قيل: فيكون يوم الفتح ؟ فالجواب: ولا يجوز أن يكون يوم الفتح لأنه لم يسق عام الفتح هدياً, وإنما جاء محارباً مقاتلاً في جيش عرمرم, فهذا السياق فيه خلل وقد وقع فيه شيء فليتأمل والله أعلم. وقال ابن إسحاق: حدثني من لا أتهم عن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنه قال: إن قريشاً بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين, وأمروهم أن يطيفوا بعسكررسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا من أصحابه أحداً فأخذوا أخذاً, فأتي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم وخلى سبيلهم, وقد كانوا رموا إلى عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل. قال ابن إسحاق: وفي ذلك أنزل الله تعالى: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم} الاَية. وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلاً يقال له ابن زنيم اطلع على الثنية من الحديبية, فرماه المشركون بسهم فقتلوه, فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً فأتوه باثني عشر فارساً من الكفار فقال لهم: «هل لكم علي عهد ؟ هل لكم علي ذمة ؟» قالوا: لا , فأرسلهم وأنزل الله تعالى في ذلك: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم} الاَية.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:04

    هُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مّؤْمِنَاتٌ لّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مّنْهُمْ مّعَرّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لّيُدْخِلَ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيّلُواْ لَعَذّبْنَا الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * إِذْ جَعَلَ الّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيّةَ حَمِيّةَ الْجَاهِلِيّةِ فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىَ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَىَ وَكَانُوَاْ أَحَقّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً
    يقول تعالى مخبراً عن الكفار من مشركي العرب من قريش, ومن ما لأهم على نصرتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم {هم الذين كفروا} أي هم الكفار دون غيرهم {وصدوكم عن المسجد الحرام} أي أنتم أحق به وأنتم أهله في نفس الأمر {والهدي معكوفاً أن يبلغ محله} أي صدوا الهدي أن يصل وهذا من بغيهم وعنادهم, وكان الهدي سبعين بدنة كما سيأتي إن شاء الله تعالى, وقوله عز وجل: {ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات} أي بين أظهرهم ممن يكتم إيمانه ويخفيه منهم خيفة على أنفسهم من قومهم, لكنا سلطناكم عليهم فقتلتموهم وأبدتم خضراءهم ولكن بين أفنائهم من المؤمنين والمؤمنات أقوام لا تعرفونهم حالة القتل, ولهذا قال تعالى: {لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة} أي إثم وغرامة {بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء} أي يؤخر عقوبتهم ليخلص من بين أظهرهم المؤمنين, وليرجع كثير منهم إلى الإسلام, ثم قال تبارك وتعالى: {لو تزيلوا} أي لو تميز الكفار من المؤمنين الذين بين أظهرهم {لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً} أي لسلطناكم عليهم فلقتلتموهم قتلاً ذريعاً.
    قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أبو الزنباع روح بن الفرج, حدثنا عبد الرحمن بن أبي عباد المكي, حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد مولى بني هاشم, حدثنا حجر بن خلف قال: سمعت عبد الله بن عوف يقول: سمعت جنيد بن سبع يقول: قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول النهار كافراً, وقاتلت معه آخر النهار مسلماً, وفينا نزلت {ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات} قال: كنا تسعة نفر سبعة رجال وامرأتين, ثم رواه من طريق أخرى عن محمد بن عباد المكي به, وقال فيه عن أبي جمعة جنيد بن سبع فذكره, والصواب أبو جعفر حبيب بن سباع, ورواه ابن أبي حاتم من حديث حجر بن خلف به: قال: كنا ثلاثة رجال وتسع نسوة, وفينا نزلت {ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات} وقال ابن أبي حاتم, حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري. حدثنا عبد الله بن عثمان بن جبلة عن أبي حمزة عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً} يقول لو تزيل الكفار من المؤمنين لعذبهم الله عذاباً أليماً بقتلهم إياهم.
    وقوله عز وجل: {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية} وذلك حين أبوا أن يكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم, وأبوا أن يكتبوا هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله {فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى} وهي قول «لا إله إلا الله» كما قال ابن جرير وعبد الله بن الإمام أحمد. حدثنا الحسن بن قزعة أبو علي البصري حدثنا سفيان بن حبيب, حدثنا شعبة عن ثور عن أبيه عن الطفيل, يعني ابن أبي بن كعب عن أبيه رضي الله عنه, أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «وألزمهم كلمة التقوى» قال «لا إله إلا الله» وكذا رواه الترمذي عن الحسن بن قزعة, وقال غريب لا نعرفه إلا من حديثه, وسألت أبا زرعة عنه فلم يعرفه إلا من هذا الوجه, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي, حدثنا عبد الله بن صالح, حدثني الليث, حدثني عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة رضي الله عنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله, فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عز وجل» وأنزل الله في كتابه وذكر قوماً فقال: {إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون} وقال الله جل ثناؤه: {وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها} وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله, فاستكبروا عنها, واستكبر عنها المشركون يوم الحديبية فكاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قضية المدة, وكذا رواه بهذه الزيادات ابن جرير من حديث الزهري, والظاهر أنها مدرجة من كلام الزهري والله أعلم.
    ** لّقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيَا بِالْحَقّ لَتَدْخُلُنّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً * هُوَ الّذِيَ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىَ وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَكَفَىَ بِاللّهِ شَهِيداً
    كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى في المنام أنه دخل مكة وطاف بالبيت فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة فلما ساروا عام الحديبية لم يشك جماعة منهم أن هذه الرؤيا تتفسر هذا العام فلما وقع ما وقع من قضية الصلح ورجعوا عامهم ذلك على أن يعودوا من قابل وقع في نفس بعض الصحابة رضي الله عنهم من ذلك شيء, حتى سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك فقال له فيما قال أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال: «بلى أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا ؟» قال لا , قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فإنك آتيه ومطوف به» وبهذا أجاب الصديق رضي الله عنه أيضاً حذو القذة بالقذة ولهذا قال تبارك وتعالى: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله} هذا لتحقيق الخبر وتوكيده وليس هذا من الإستثناء في شيء. وقوله عز وجل: {آمنين} أي في حال دخولكم. وقوله: {محلقين رؤوسكم ومقصرين} حال مقدرة لأنهم في حال دخولهم لم يكونوا محلقين ومقصرين وإنما كان هذا في ثاني الحال. كان منهم من حلق رأسه ومنهم من قصره, وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله المحلقين» قالوا والمقصرين يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «رحم الله المحلقين» قالوا والمقصرين يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «رحم الله المحلقين» قالوا والمقصرين يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «والمقصرين» في الثالثة أو الرابعة. وقوله سبحانه وتعالى: {لا تخافون} حال مؤكدة في المعنى فأثبت لهم الأمن حال الدخول ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد لا يخافون من أحد وهذا كان في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة رجع إلى المدينة. فأقام بها ذا الحجة والمحرم وخرج في صفر إلى خيبر, ففتحها الله عليه بعضها عنوة وبعضها صلحاً, وهي إقليم عظيم كثير النخل والزروع, فاستخدم من فيها من اليهود عليها على الشطر وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم, ولم يشهدها أحد غيرهم إلا الذين قدموا من الحبشة جعفر بن أبي طالب وأصحابه, وأبو موسى الأشعري وأصحابه رضي الله عنهم, ولم يغب منهم أحد, قال ابن زيد: إلا أبا دجانة سماك بن خرشة, كما هو مقرر في موضعه ثم رجع إلى المدينة.
    فلما كان في ذي القعدة من سنة سبع خرج صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمراً هو وأهل الحديبية, فأحرم من ذي الحليفة وساق معه الهدي, قيل: كان ستين بدنة, فلبى وسار أصحابه يلبون. فلما كان صلى الله عليه وسلم قريباً من مر الظهران بعث محمد بن مسلمة بالخيل والسلاح أمامه. فلما رآه المشركون رعبوا رعباً شديداً, وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم, وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه من وضع القتال عشر سنين, فذهبوا فأخبروا أهل مكة, فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم, بعث السلاح من القسي والنبل والرماح إلى بطن يأجج وسار إلى مكة بالسيوف مغمدة في قربها كما شارطهم عليه. فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش مكرز بن حفص فقال: يا محمد ما عرفناك تنقض العهد, فقال صلى الله عليه وسلم: «وما ذاك ؟» قال «دخلت علينا بالسلاح والقسي والرماح. فقال صلى الله عليه وسلم: «لم يكن ذلك وقد بعثنا به إلى يأجج». فقال: بهذا عرفناك بالبر والوفاء, وخرجت رؤوس الكفار من مكة لئلا ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه رضي الله عنهم غيظاً وحنقاً. وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان, فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله وأصحابه, فدخلها عليه الصلاة والسلام وبين يديه أصحابه يلبون, والهدي قد بعثه إلى ذي طوى وهو راكب ناقته القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية, وعبد الله بن رواحة الأنصاري آخذ بزمام ناقة رسول الله يقودها وهو يقول:
    باسم الذي لا دين إلا دينهباسم الذي محمد رسوله
    خلوا بني الكفار عن سبيلهاليوم نضربكم على تأويله
    كما ضربناكم على تنزيلهضرباً يزيل الهام عن مقيله
    ويذهل الخليل عن خليلهقد أنزل الرحمن في تنزيله
    في صحف تتلى على رسولهبأن خير القتل في سبيله
    يا رب إني مؤمن بقيله
    فهذا مجموع من روايات متفرقة. قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء دخلها وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه آخذ بخطام ناقته صلى الله عليه وسلم وهو يقول:
    خلوا بني الكفار عن سبيلهإني شهيد أنه رسوله
    خلوا فكل الخير في رسولهيا رب إني مؤمن بقيله
    نحن قتلناكم على تأويلهكما قتلناكم على تنزيله
    ضرباً يزيل الهام عن مقيلهويذهل الخليل عن خليله
    وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر عن الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه, قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء مشى عبد الله بن رواحة رضي الله عنه بين يديه وفي رواية: وابن رواحة آخذ بغرزه وهو رضي الله عنه يقول:
    خلوا بني الكفار عن سبيلهقد نزل الرحمن في تنزيله
    بأن خير القتل في سبيلهيا رب إني مؤمن بقيله
    نحن قتلناكم على تأويلهكما قتلناكم على تنزيله
    اليوم نضربكم على تأويلهضرباً يزيل الهام عن مقيله
    ويذهل الخليل عن خليله
    وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن الصباح, حدثنا إسماعيل يعني ابن زكريا عن عبد الله, يعني ابن عثمان عن أبي الطفيل عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مر الظهران في عمرته بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشاً تقول ما يتباعثون من العجف, فقال أصحابه لو انتحرنا من ظهرنا فأكلنا من لحمه وحسونا من مرقه أصبحنا غداً حين ندخل على القوم وبنا جمامة. قال صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا ولكن اجمعوا لي من أزوادكم, فجمعوا له وبسطوا الأنطاع فأكلوا حتى تركوا وحثا كل واحد منهم في جرابه, ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل المسجد وقعدت قريش نحو الحجر فاضطبع صلى الله عليه وسلم بردائه ثم قال «لا يرى القوم فيكم غميزة» فاستلم الركن ثم رمل حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الأسود, فقالت قريش: ما ترضون بالمشي أما إنكم لتنقزون نقز الظباء, ففعل ذلك ثلاثة أشواط فكانت سنة. قال أبو الطفيل: فأخبرني ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في حجة الوداع:

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:05

    وقال أحمد أيضاً: حدثنا يونس بن محمد, حدثنا حماد بن زيد, حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم حمى يثرب ولقوا منها سوءاً, فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب, ولقوا منها شراً وجلس المشركون من الناحية التي تلي الحجر, فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة ليرى المشركون جلدهم, قال: فرملوا ثلاثة أشواط, وأمرهم أن يمشوا بين الركنين حيث لا يراهم المشركون, ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم. فقال المشركون: أهؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم هؤلاء أجلد من كذا وكذا أخرجاه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد به.
    وفي لفظ: قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم صبيحة رابعة يعني من ذي القعدة, فقال المشركون إنه يقدم عليكم وفد قد وهنتهم حمى يثرب فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة, ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم. قال البخاري: وزاد ابن سلمة. يعني حماد بن سلمة, عن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم لعامه الذي استأمن قال ارملوا, ليري المشركين قوتهم والمشركون من قبل قعيقعان, وحدثنا محمد, حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما سعى النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت وبالصفا والمروة ليرى المشركون قوته. ورواه في مواضع أخر ومسلم والنسائي من طرق عن سفيان بن عيينه به. وقال أيضاً: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا سفيان حدثنا إسماعيل بن أبي خالد أنه سمع ابن أبي أوفى يقول: لما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سترناه من غلمان المشركين ومنهم, أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, انفرد به البخاري دون مسلم, وقال البخاري أيضاً: حدثنا محمد بن رافع, حدثنا سريج بن النعمان, حدثنا فليح وحدثني محمد بن الحسين بن إبراهيم, حدثنا أبي, حدثنا فليح بن سليمان عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً, فحال كفار قريش بينه وبين البيت, فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل, ولا يحمل سلاحاً عليهم إلا سيوفاً ولا يقيم بها إلا ما أحبوا. فاعتمر صلى الله عليه وسلم من العام المقبل فدخلها كما كان صالحهم, فلما أن أقام بها ثلاثاً أمروه أن يخرج فخرج صلى الله عليه وسلم, وهو في صحيح مسلم أيضاً.
    وقال البخاري أيضاً: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة, حتى قاضاهم على أن يقيموا بها ثلاثة أيام, فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضانا عليه محمد رسول الله, قالوا: لا نقر بهذا ولو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئاً, ولكن أنت محمد بن عبد الله. قال صلى الله عليه وسلم: «أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله» ثم قال صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: «امح رسول الله» قال رضي الله عنه: لا والله لا أمحوك أبداً, فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب «هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله أن لا يدخل مكة بالسلاح إلا بالسيف في القراب, وأن لا يخرج من أهلها بأحد أراد أن يتبعه, وأن لا يمنع من أصحابه أحداً إن أراد أن يقيم بها».
    فلما دخلها ومضى الأجل أتوا علياً فقالوا: قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل, فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فتبعته ابنة حمزة رضي الله عنه تنادي يا عم يا عم, فتناولها علي رضي الله عنه فأخذ بيدها وقال لفاطمة رضي الله عنها: دونك ابنة عمك فحملتها, فاختصم فيها علي وزيد وجعفر رضي الله عنهم فقال علي رضي الله عنه: أنا أخذتها وهي ابنة عمي. وقال جعفر رضي الله عنه: ابنة عمي وخالتها تحتي, وقال زيد رضي الله عنه: ابنة أخي, فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: «الخالة بمنزلة الأم» وقال لعلي رضي الله عنه: «أنت مني وأنا منك» وقال لجعفر رضي الله عنه «أشبهت خلقي وخلقي وقال صلى الله عليه وسلم لزيد رضي الله عنه: «أنت أخونا ومولانا» قال علي رضي الله عنه: ألا تتزوج ابنة حمزة رضي الله عنه ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «إنها ابنة أخي من الرضاعة» تفرد به من هذا الوجه.
    وقوله تعالى: {فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً} أي فعلم الله عز وجل من الخيرة والمصلحة في صرفكم عن مكة ودخولكم إليها عامكم ذلك ما لم تعلموا أنتم {فجعل من دون ذلك} أي قبل دخولكم الذي وعدتم به في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم فتحاً قريباً, وهو الصلح الذي كان بينكم وبين أعدائكم من المشركين, ثم قال تبارك وتعالى مبشراً للمؤمنين بنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم على عدوه, وعلى سائر أهل الأرض: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق} أي بالعلم النافع والعمل الصالح, فإن الشريعة تشتمل على شيئين: علم وعمل, فالعلم الشرعي صحيح, والعمل الشرعي مقبول, فإخباراتها حق وإنشاءاتها عدل {ليظهره على الدين كله} أي على أهل جميع الأديان من سائر الأرض من عرب وعجم ومليين ومشركين {وكفى بالله شهيداً} أي أنه رسوله وهو ناصره, والله سبحانه وتعالى أعلم.


    ** مّحَمّدٌ رّسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّآءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكّعاً سُجّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىَ عَلَىَ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفّارَ وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ مِنْهُم مّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً
    يخبر تعالى عن محمد صلى الله عليه وسلم أنه رسوله حقاً بلا شك ولا ريب فقال: {محمد رسول الله} وهذا مبتدأ وخبر, وهو مشتمل على كل وصف جميل, ثم ثنى بالثناء على أصحابه رضي الله عنهم فقال: {والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} كما قال عز وجل: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديداً عنيفاً على الكفار, رحيماً براً بالأخيار, غضوباً عبوساً في وجه الكافر ضحوكاً بشوشاً في وجه أخيه المؤمن كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذي يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد, إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر». وقال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً». وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه, كلا الحديثين في الصحيح.
    وقوله سبحانه وتعالى: {تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً} وصفهم بكثرة العمل وكثرة الصلاة وهي خير الأعمال, ووصفهم بالإخلاص فيها لله عز وجل والاحتساب عند الله تعالى جزيل الثواب, وهو الجنة المشتملة على فضل الله عز وجل وهو سعة الرزق عليهم ورضاه تعالى عنهم, وهو أكبر من الأول كما قال جل وعلا: {ورضوان من الله أكبر} وقوله جل جلاله: {سيماهم في وجوههم من أثر السجود} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: سيماهم في وجوههم يعني السمت الحسن. وقال مجاهد وغير واحد: يعني الخشوع والتواضع. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا حسين الجعفي عن زائدة عن منصور عن مجاهد {سيماهم في وجوههم من أثر السجود} قال: الخشوع. قلت: ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه, فقال: ربما كان بين عيني من هو أقسى قلباً من فرعون. وقال السدي: الصلاة تحسن وجوههم, وقال بعض السلف: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار, وقد أسنده ابن ماجه في سننه عن إسماعيل بن محمد الطلحي عن ثابت بن موسى عن شريك, عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» والصحيح أنه موقوف. وقال بعضهم: إن للحسنة نوراً في القلب وضياء في الوجه وسعة في الرزق ومحبة في قلوب الناس.
    وقال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه, والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه, فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله تعالى أصلح الله عز وجل ظاهره للناس, كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: من أصلح سريرته أصلح الله تعالى علانيته. وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمود بن محمد المروزي, حدثنا حامد بن آدم المروزي, حدثنا الفضل بن موسى عن محمد بن عبيد الله العرزمي عن سلمة بن كهيل, عن جندب بن سفيان البجلي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله تعالى رداءها, إن خيراً فخير وإن شراً فشر» العرزمي متروك. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائناً ما كان».
    وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا زهير, حدثنا قابوس بن أبي ظبيان أن أباه حدثه عن ابن عباس رضي الله عنهما, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة» ورواه أبو داود عن عبد الله بن محمد النفيلي عن زهير به, فالصحابة رضي الله عنهم خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم. وقال مالك رضي الله عنه: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة رضي الله عنهم الذين فتحوا الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا, وصدقوا في ذلك فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة, وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد نوه الله تبارك وتعالى بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة, ولهذا قال سبحانه وتعالى ههنا: {ذلك مثلهم في التوراة} ثم قال {و مثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه} أي فراخه {فآزره} أي شده {فاستغلظ} أي شب وطال {فاستوى على سوقه يعجب الزراع} أي فكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطء مع الزرع {ليغيظ بهم الكفار}.
    ومن هذه الاَية انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه, في رواية عنه, بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم قال: لأنهم يغيظونهم ومن غاظ الصحابة رضي الله عنهم فهو كافر لهذه الاَية, ووافقه طائفة من العلماء رضي الله عنهم على ذلك, والأحاديث في فضل الصحابة رضي الله عنهم والنهي عن التعرض لهم بمساءة كثيرة, ويكفيهم ثناء الله عليهم ورضاه عنهم: ثم قال تبارك وتعالى: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم} من هذه لبيان الجنس {مغفرة} أي لذنوبهم {وأجراً عظيماً} أي ثواباً جزيلاً ورزقاً كريماً. ووعد الله حق وصدق لا يخلف ولا يبدل, وكل من اقتفى أثر الصحابة رضي الله عنهم فهو في حكمهم, ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة, رضي الله عنهم وأرضاهم وجعل جنات الفردوس مأواهم, وقد فعل. قال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى, حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه». آخر تفسير سورة الفتح ولله الحمد والمنة.

    تمت سورة الفتح

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:05

    سورة الحجرات

    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

    ** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوَاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ * إِنّ الّذِينَ يَغُضّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللّهِ أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتّقْوَىَ لَهُم مّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
    هذه آيات أدب الله تعالى بها عباده المؤمنين, فيما يعاملون به الرسول صلى الله عليه وسلم من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام, فقال تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} أي لا تسارعوا في الأشياء بين يديه أي قبله, بل كونوا تبعاً له في جميع الأمور حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ رضي الله عنه حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن: «بمَ تحكم ؟» قال: بكتاب الله تعالى, قال صلى الله عليه وسلم: «فإن لم تجد ؟» قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , قال صلى الله عليه وسلم: «فإن لم تجد ؟» قال رضي الله عنه: أجتهد رأيي, فضرب في صدره وقال «الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم». وقد رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه فالغرض منه أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة, ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله.
    قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما «لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة, وقال العوفي عنه: نهى أن يتكلموا بين يدي كلامه, وقال مجاهد: لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضي الله تعالى على لسانه, وقال الضحاك: لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله من شرائع دينكم, وقالسفيان الثوري {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} بقول ولا فعل, وقال الحسن البصري {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} قال: لا تدعوا قبل الإمام, وقال قتادة: ذكر لنا أن ناساً كانوا يقولون لو أنزل في كذا وكذا, لو صنع كذا, فكره الله تعالى ذلك وتقدم فيه {واتقوا الله} أي فيما أمركم به {إن الله سميع} أي لأقوالكم {عليم} بنياتكم.
    وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} هذا أدب ثان أدب الله تعالى به المؤمنين أن لا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فوق صوته, وقد روي أنها نزلت في الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال البخاري: حدثنا بسرة بن صفوان اللخمي, حدثنا نافع بن عمر عن أبي مليكة, قال: كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما, رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم, فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس رضي الله عنه أخي بني مجاشع, وأشار الاَخر برجل آخر, قال نافع: لا أحفظ اسمه, فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما, ما أردت إلا خلافي, قال: ما أردت خلافك, فارتفعت أصواتهما في ذلك فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} قال ابن الزبير رضي الله عنهما فما كان عمر رضي الله عنه يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الاَية حتى يستفهمه, ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر رضي الله عنه. انفرد به دون مسلم.
    ثم قال البخاري: حدثنا حسن بن محمد, حدثنا حجاج عن ابن جريج, حدثني ابن أبي ملكية أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه: أمر القعقاع بن معبد, وقال عمر رضي الله عنه: بل أمر الأقرع بن حابس, فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما أردت إلا خلافي, فقال عمر رضي الله عنه: ما أردت خلافك, فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت في ذلك {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} حتى انقضت الاَية {ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم} الاَية. وهكذا رواه ههنا منفرداً به أيضاً وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا الفضل بن سهل, حدثنا إسحاق بن منصور, حدثنا حصين بن عمر عن مخارق عن طارق بن شهاب عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الاَية {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} قلت: يا رسول الله والله لا أكلمك إلا كأخي السرار. حصين بن عمر, هذا وإن كان ضعيفاً لكن قد رويناه من حديث عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة رضي الله عنهما بنحو ذلك, والله أعلم. وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا أزهر بن سعد, أخبرنا ابن عون, أنبأني موسى بن أنس عن أنس بن مالك رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس رضي الله عنه فقال رجل: يا رسول الله أنا أعلم لك علمه, فأتاه فوجده في بيته منكساً رأسه فقال له: ما شأنك ؟ فقال: شر كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله فهو من أهل النار, فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا, قال موسى: فرجع إليه المرة الاَخرة ببشارة عظيمة فقال: «اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكن من أهل الجنة» تفرد به البخاري من هذا الوجه.
    وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم, حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الاَية {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ـ إلى قوله ـ وأنتم لا تشعرون} وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنا من أهل النار حبط عملي وجلس في أهله حزيناً ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له: تفقدك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك ؟ قال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم وأجهر له بالقول حبط عملي أنا من أهل النار, فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما قال, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا , بل هو من أهل الجنة» قال أنس رضي الله عنه: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة, فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعض الانكشاف فجاء ثابت بن قيس بن شماس, وقد تحنط ولبس كفنه فقال: بئسما تعودون أقرانكم فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه.
    وقال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا الحسن بن موسى, حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الاَية {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} إلى آخر الاَية, جلس ثابت رضي الله عنه في بيته قال: أنا من أهل النار, واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ: «يا أبا عمرو ما شأن ثابت أَشتكى ؟» فقال سعد رضي الله عنه: إنه لجاري وما علمت له بشكوى. قال: فأتاه سعد رضي الله عنه فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ثابت رضي الله عنه: أنزلت هذه الاَية ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا من أهل النار, فذكر ذلك سعد رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل هو من أهل الجنة» ثم رواه مسلم عن أحمد بن سعيد الدرامي عن حيان بن هلال عن سليمان بن المغيرة به, قال ولم يذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه, وعن قطن بن بشير عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس رضي الله عنه بنحوه, وقال ليس فيه ذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه. حدثني هدبة بن عبد الأعلى الأسدي, حدثنا المعتمر بن سليمان, سمعت أبي يذكر عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الاَية فاقتص الحديث ولم يذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه وزاد: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رجل من أهل الجنة. فهذه الطرق الثلاث معللة لرواية حماد بن سلمة فيما تفرد به من ذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه, والصحيح أن حال نزول هذه الاَية لم يكن سعد بن معاذ رضي الله عنه موجوداً, لأنه كان قد مات بعد بني قريظة بأيام قلائل سنة خمس, وهذه الاَيات نزلت في وفد بني تميم, والوفود إنما تواتروا في سنة تسع من الهجرة, والله أعلم.
    وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا زيد بن الحباب, حدثنا أبو ثابت بن ثابت بن قيس بن شماس, حدثني عمي إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس عن أبيه رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الاَية {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول} قال: قعد ثابت بن قيس رضي الله عنه في الطريق يبكي, قال: فمر به عاصم بن عدي من بني العجلان فقال: ما يبكيك يا ثابت ؟ قال: هذه الاَية أتخوف أن تكون نزلت فيّ وأنا صيت رفيع الصوت. قال: فمضى عاصم بن عدي رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , قال: وغلبه البكاء فأتى امرأته جميلة ابنة عبد الله بن أبي ابن سلول, فقال لها: إذا دخلت بيت فرسي فشدي على الضبة بمسمار, فضربته بمسمار حتى إذا خرج عطفه وقال: لا أخرج حتى يتوفاني الله تعالى, أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال وأتى عاصم رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره فقال: «اذهب فادعه لي» فجاء عاصم رضي الله عنه إلى المكان فلم يجده, فجاء إلى أهله, فوجده في بيت الفرس فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك, فقال: اكسر الضبة, قال: فخرجا فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يبكيك يا ثابت ؟» فقال رضي الله عنه: أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الاَية نزلت فيّ {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما ترضى أن تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة ؟» فقال: رضيت ببشرى الله تعالى ورسوله , ولا أرفع صوتي أبداًعلى صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    قال: وأنزل الله تعالى: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أُولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى} الاَية: وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين كذلك, فقد نهى الله عز وجل عن رفع الأصوات بحضرة رسول الله, وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما, فجاء فقال: أتدريان أين أنتما ؟ ثم قال: من أين أنتما ؟ قالا: من أهل الطائف, فقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً. وقال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلم كما كان يكره في حياته عليه الصلاة والسلام, لأنه محترم حياً وفي قبره صلى الله عليه وسلم دائماً, ثم نهى عن الجهر له بالقول كما يجهر الرجل لمخاطبه ممن عداه, بل يخاطب بسكينة ووقار وتعظيم, ولهذا قال تبارك وتعالى: {ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض} كما قال تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً}.
    وقوله عز وجل: {أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} أي إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده, خشية أن يغضب من ذلك فيغضب الله تعالى لغضبه, فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري كما جاء في الصحيح: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقي لها بالاً يكتب له بها الجنة, وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض» ثم ندب الله تعالى إلى خفض الصوت عنده وحث على ذلك, وأرشد إليه, ورغب فيه فقال: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى} أي أخلصها لها وجعلها أهلاً ومحلاً {لهم مغفرة وأجر عظيم} وقد قال الإمام أحمد في كتاب الزهد: حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان عن منصور عن مجاهد قال: كتب إلى عمر: يا أمير المؤمنين, رجل لا يشتهي المعصية, ولا يعمل بها أفضل, أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها فكتب عمر رضي الله عنه: إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها {أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم}.

    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:06

    ** إَنّ الّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنّهُمْ صَبَرُواْ حَتّىَ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ
    ثم إنه تبارك وتعالى ذم الذين ينادونه من وراء الحجرات وهي بيوت نسائه, كما يصنع أجلاف الأعراب فقال: {أكثرهم لا يعقلون} ثم أرشد تعالى إلى الأدب في ذلك فقال عز وجل: {ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم} أي لكان لهم في ذلك الخيرة والمصلحة في الدنيا والاَخرة. ثم قال جل ثناؤه داعياً لهم إلى التوبة والإنابة {والله غفور رحيم} وقد ذكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميمي رضي الله عنه فيما أورده غير واحد. قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا وهيب, حدثنا موسى بن عقبة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن الأقرع بن حابس رضي الله عنه, أنه نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات فقال: يا محمد يا محمد, وفي رواية: يا رسول الله, فلم يجبه فقال: يا رسول الله إن حمدي لزين, وإن ذمي لشين, فقال صلى الله عليه وسلم: «ذاك الله عز وجل» وقال ابن جرير: حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث المروزي, حدثنا الفضل بن موسى عن الحسين بن واقد, عن أبي إسحاق عن البراء في قوله تبارك وتعالى: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات} قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد, إن حمدي زين وذمي شين, فقال صلى الله عليه وسلم: «ذاك الله عز وجل» وهكذا ذكره الحسن البصري وقتادة مرسلاً.
    وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرة قال: كان بشر بن غالب ولبيد بن عطارد أو بشر بن عطارد ولبيد بن غالب, وهما عند الحجاج جالسان, فقال بشر بن غالب للبيد بن عطارد: نزلت في قومك بني تميم {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات} قال: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير, فقال: أما إنه لو علم بآخر الاَية أجابه {يمنون عليك أن أسلموا} قالوا: أسلمنا ولم يقاتلك بنو أسد, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عمرو بن علي الباهلي. حدثنا المعتمر بن سليمان قال: سمعت داود الطفاوي يحدث عن أبي مسلم البجلي عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: اجتمع أناس من العرب فقالوا: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يك نبياً فنحن أسعد الناس به, وإن يك ملكاً نعش بجناحه. قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قالوا فجاؤوا إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادونه وهو في حجرته: يا محمد يا محمد, فأنزل الله تعالى: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون} قال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني, فمدها فجعل يقول «لقد صدق الله تعالى قولك يا زيد, لقد صدق الله قولك يا زيد» ورواه ابن جرير عن الحسن بن عرفة, عن المعتمر بن سليمان به.


    ** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوَاْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىَ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ * وَآعْلَمُوَاْ أَنّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مّنَ الأمْرِ لَعَنِتّمْ وَلَـَكِنّ اللّهَ حَبّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَـَئِكَ هُمُ الرّاشِدُونَ * فَضْلاً مّنَ اللّهِ وَنِعْمَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
    يأمر تعالى بالتثبت في خبر الفاسق ليحتاط له لئلا يحكم بقوله, فيكون في نفس الأمر كاذباً أو مخطئاً, فيكون الحاكم بقوله قد اقتفى وراءه, وقد نهى الله عز وجل عن اتباع سبيل المفسدين, ومن هاهنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال لاحتمال فسقه في نفس الأمر, وقبلها آخرون لأنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق, وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال, وقد قررنا هذه المسألة في كتاب العلم من شرح البخاري ولله تعالى الحمد والمنة, وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الاَية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط, حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق, وقد روي ذلك من طرق ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من رواية ملك بني المصطلق, وهو الحارث بن ضرار والد جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها. قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن سابق, حدثنا عيسى بن دينار, حدثني أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه يقول: قدمت على رسول الله فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه وأقررت به. ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها وقلت يا رسول الله أرجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته. وترسل إلي يا رسول الله رسولاً إبان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة.
    فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه احتبس عليه الرسول لم يأته وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله, فدعا بسروات قومه فقال لهم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقت لي وقتاً يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف, ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة, فانطلقوا بنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة, فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق أي خاف, فرجع حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن الحارث قد منعني الزكاة وأراد قتلي, فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث البعث إلى الحارث رضي الله عنه وأتى الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا: هذا الحارث, فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم ؟ قالوا: إليك. قال: ولم ؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله. قال رضي الله عنه: لا والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني.
    فلما دخل الحارث على رسول الله قال: «منعت الزكاة وأردت قتل رسولي ؟» قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول الله صلى الله عليه وسلم, خشيت أن يكون كانت سخطة الله تعالى ورسوله. قال فنزلت الحجرات {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ ـ إلى قوله ـ حكيم} ورواه ابن أبي حاتم عن المنذر بن ***ان التمار عن محمد بن سابق به. ورواه الطبراني من حديث محمد بن سابق به, غير أنه سماه الحارث بن سرار والصواب أنه الحارث بن ضرار كما تقدم. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا جعفر بن عون عن موسى بن عبيدة عن ثابت مولى أم سلمة, عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً في صدقات بني المصطلق بعد الوقيعة فسمع بذلك القوم فتلقوه يعظمون أمر رسول الله قالت فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله, قالت فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بني المصطلق قد منعوني صدقاتهم. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون, قالت فبلغ القوم رجوعه, فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصفوا له حين صلى الظهر, فقالوا: نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله, بعثت إلينا رجلاً مصدقاً فسررنا بذلك وقرت به أعيننا, ثم إنه رجع من بعض الطريق فخشينا أن يكون ذلك غضباً من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وسلم, فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال رضي الله عنه فأذن بصلاة العصر قالت ونزلت {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}.
    وروى ابن جرير أيضاً من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الاَية قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق ليأخذ منهم الصدقات, وإنهم لما أتاهم الخبر فرحوا وخرجوا يتلقون رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإنه لما حدث الوليد أنهم خرجوا يتلقونه رجع الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة, فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك غضباً شديداً, فبينا هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه الوفد فقالوا: يا رسول الله, إنا حدثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق, وإنا خشينا أن ما رده كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا, وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله, وإن النبي صلى الله عليه وسلم استغشهم وهم بهم, فأنزل الله تبارك وتعالى عذرهم في الكتاب فقال: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} إلى آخر الاَية.
    وقال مجاهد وقتادة: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ليصدقهم, فتلقوه بالصدقة فرجع فقال إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك, زاد قتادة: وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه إليهم, وأمره أن يتثبت ولا يعجل, فانطلق حتى أتاهم ليلاً فبعث عيونه فلما جاؤوا أخبروا خالداً رضي الله عنه أنهم مستمسكون بالإسلام, وسمعوا أذانهم وصلاتهم, فلما أصبحوا أتاهم خالد رضي الله عنه فرأى الذي يعجبه فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر فأنزل الله تعالى هذه الاَية. قال قتادة: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «التثبث من الله والعجلة من الشيطان» وكذا ذكر غير واحد من السلف منهم ابن أبي ليلى ويزيد بن رومان والضحاك, ومقاتل بن حيان, وغيرهم في هذه الاَية أنها أنزلت في الوليد بن عقبة, والله أعلم.
    وقوله تعالى: {واعلموا أن فيكم رسول الله } أي اعلموا أن بين أظهركم رسول الله فعظموه ووقروه وتأدبوا معه وانقادوا لأمره, فإنه أعلم بمصالحكم وأشفق عليكم منكم, ورأيه فيكم أتم من رأيكم لأنفسكم كما قال تبارك وتعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} ثم بين أن رأيهم سخيف بالنسبة إلى مراعاة مصالحهم فقال: {لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم} أي لو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدى ذلك إلى عنتكم وحرجكم, كما قال سبحانه وتعالى: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون} وقوله عز وجل: {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم} أي حببه إلى نفوسكم وحسنه في قلوبكم.
    قال الإمام أحمد: حدثنا بهز حدثنا علي بن مسعدة, حدثنا قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الإسلام علانية والإيمان في القلب ـ قال ثم يشير بيده إلى صدره ثلاث مرات ثم يقول ـ التقوى ههنا التقوى ههنا» {وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} أي وبغض إليكم الكفر والفسوق وهي الذنوب الكبار والعصيان, وهي جميع المعاصي وهذا تدريج لكمال النعمة, وقوله تعالى: {أولئك هم الراشدون} أي المتصفون بهذه الصفة هم الراشدون الذين قد آتاهم الله رشدهم.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:06

    قال الإمام أحمد: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري, حدثنا عبد الواحد بن أيمن المكي عن أبي رفاعة الزرقي عن أبيه قال: لماكان يوم أحد وانكفأ المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استووا حتى أثني على ربي عز وجل» فصاروا خلفه صفوفاً فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم لك الحمد كله, اللهم لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت, ولا هادي لمن أضللت, ولا مضل لمن هديت, ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت, ولا مقرب لما باعدت, ولا مباعد لما قربت. اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك, اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة والأمن يوم الخوف. اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا ومن شر ما منعتنا. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين, اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك, اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق» ورواه النسائي في اليوم والليلة عن زياد بن أيوب عن مروان بن معاوية عن عبد الواحد ابن أيمن عن عبيد بن رفاعة عن أبيه به. وفي الحديث المرفوع: «من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن» ثم قال: {فضلاً من الله ونعمة} أي هذا العطاء الذي منحكموه هو فضل منه عليكم ونعمة من لدنه {والله عليم حكيم} أي عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدرته.


    ** وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىَ الاُخْرَىَ فَقَاتِلُواْ الّتِي تَبْغِي حَتّىَ تَفِيَءَ إِلَىَ أَمْرِ اللّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوَاْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ * إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ
    يقول تعالى آمراً بالإصلاح بين الفئتين الباغين بعضهم على بعض: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} فسماهم مؤمنين مع الاقتتال, وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج عن الإيمان بالمعصية وإن عظمت, لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهم, وهكذا ثبت في صحيح البخاري من حديث الحسن عن أبي بكر رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوماً, ومعه على المنبر الحسن بن علي رضي الله عنهما, فجعل ينظر إليه مرة, وإلى الناس أخرى ويقول: «إن ابني هذا سيد ولعل الله تعالى أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين». فكان كما قال صلى الله عليه وسلم, أصلح الله به بين أهل الشام وأهل العراق بعد الحروب الطويلة, والواقعات المهولة. وقوله تعالى: {فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} أي حتى ترجع إلى أمر الله» ورسوله, وتسمع للحق وتطيعه, كما ثبت في الصحيح عن أنس رضي الله عنه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً» قلت: يا رسول الله, هذا نصرته مظلوماً, فكيف أنصره ظالماً ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «تمنعه من الظلم فذاك نصرك إياه».
    ** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظّنّ إِنّ بَعْضَ الظّنّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ تَوّابٌ رّحِيمٌ
    يقول تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن كثير من الظن, وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله لأن بعض ذلك يكون إثماً محضاً, فليتجنب كثير منه احتياطاً وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيراً, وأنت تجد لها في الخير محملاً. وقال أبو عبد الله بن ماجة: حدثنا أبو القاسم بن أبي ضمرة نصربن محمد بن سليمان الحمصي, حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن أبي قيس النضري, حدثنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: «ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك, والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حرمة منك, ماله ودمه وأن يظن به إلا خيراً» تفرد به ابن ماجة من هذا الوجه, وقال مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث, ولا تجسسوا ولاتحسسوا ولا تنافسوا ولاتحاسدوا, ولا تباغضوا ولا تدابروا, وكونوا عباد الله إخواناً» رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى وأبو داود عن العتبي عن مالك به.
    وقال سفيان بن عيينة عن الزهري عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا, وكونوا عباد الله إخواناً, ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» رواه مسلم والترمذي وصححه من حديث سفيان بن عيينة به. وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله القرمطي العدوي, حدثنا بكر بن عبد الوهاب المدني, حدثنا إسماعيل بن قيس الأنصاري, حدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي الرجال عن أبيه, عن جده حارثة بن النعمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث لازمات لأمتي: الطيرة والحسد وسوء الظن» فقال الرجل: وما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «إذا حسدت فاستغفر الله, وإذا ظننت فلا تحقق, وإذا تطيرت فامض» وقال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن زيد رضي الله عنه قال: أُتِيَ ابن مسعود رضي الله عنه برجل فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمراً, فقال عبد الله رضي الله: قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به. سماه ابن أبي حاتم في روايته الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم, حدثنا ليث عن إبراهيم بن نشيط الخولاني عن كعب بن علقمة عن أبي الهيثم عن دخين كاتب عقبة قال: قلت لعقبة: إن لنا جيراناً يشربون الخمر وأنا داع لهم الشرط فيأخذونهم. قال: لا تفعل ولكن عظهم وتهددهم, قال: ففعل فلم ينتهوا. قال: فجاءه دخين فقال: إني قد نهيتهم فلم ينتهوا وإني داع لهم الشرط فتأخذهم , فقال له عقبة: ويحك لا تفعل ؟ فإني سمعت رسول الله يقول: «من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موؤدة من قبرها» ورواه أبو داود والنسائي من حديث الليث بن سعد به نحوه, وقال سفيان الثوري عن ثور عن راشد بن سعد عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم» فقال أبو الدرداء رضي الله عنه كلمة سمعها معاوية رضي الله عنه من رسول)الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها, ورواه أبو داود منفرداً به من حديث الثوري به.
    وقال أبو داود أيضاً: حدثنا سعيد بن عمرو الحضرمي, حدثنا إسماعيل بن عياش, حدثنا ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن جبير بن نفير وكثير بن مرة, وعمرو بن الأسود والمقدام بن معد يكرب وأبي أمامة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم» {ولا تجسسوا} أي على بعضكم بعضاً والتجسس غالباً يطلق في الشر ومنه الجاسوس. وأما التحسس فيكون غالباً في الخير كما قال عز وجل إخباراً عن يعقوب أنه قال {يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله} وقد يستعمل كل منهما في الشر كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا, وكونوا عباد الله إخواناً» وقال الأوزاعي: التجسس البحث عن الشيء. والتحسس الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون أو يتسمع على أبوابهم, والتدابر: الصرم, رواه ابن أبي حاتم عنه.
    وقوله تعالى: {ولا يغتب بعضكم بعضاً} فيه نهي عن الغيبة, وقد فسرها الشارع كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود: حدثنا القعنبي, حدثنا عبد العزيز بن محمد عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله ما الغيبة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «ذكرك أخاك بما يكره» قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال صلى الله عليه وسلم إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته, وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» ورواه الترمذي عن قتيبة عن الدراوردي به وقال: حسن صحيح. ورواه ابن جرير عن بندار عن غندر عن شعبة عن العلاء. وهكذا قال ابن عمر رضي الله عنهما ومسروق وقتادة وأبو إسحاق ومعاوية بن قرة. وقال أبو داود: حدثنا مسدد, حدثنا يحيى عن سفيان, حدثني علي بن الأقمر عن أبي حذيفة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا. قال غير مسدد: تعني قصيرة, فقال صلى الله عليه وسلم: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته» قالت: وحكيت له إنساناً فقال صلى الله عليه وسلم: «ما أحب أني حكيت إنساناً وإن لي كذا وكذا» ورواه الترمذي من حديث يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع ثلاثتهم عن سفيان الثوري, عن علي بن الأقمر عن أبي حذيفة سلمة بن صهيب الأرحبي عن عائشة رضي الله عنها به وقال: حسن صحيح.
    وقال ابن جرير: حدثني ابن أبي الشوارب, حدثنا عبد الواحد بن زياد, حدثنا سليمان الشيباني, حدثنا حسان بن المخارق أن امرأة دخلت على عائشة رضي الله عنها, فلما قامت لتخرج أشارت عائشة رضي الله عنها بيدها إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي إنها قصيرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم «اغتبتها» والغيبة محرمة بالإجماع, ولا يستثنى من ذلك إلا من رجحت مصلحته, كما في الجرح والتعديل والنصيحة كقوله صلى الله عليه وسلم, لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر: «ائذنوا له بئس أخو العشيرة!» وكقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس رضي الله عنها, وقد خطبها معاوية وأبو الجهم: «أما معاوية فصعلوك, وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه» وكذا ما جرى مجرى ذلك, ثم بقيتها على الترحيم الشديد, وقد ورد فيها الزجر الأكيد, ولهذا شبهها تبارك وتعالى بأكل اللحم من الإنسان الميت كما قال عز وجل: {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه} أي كما تكرهون هذا طبعاً فاكرهوه ذاك شرعاً, فإن عقوبته أشد من هذا, وهذا من التنفير عنها والتحذير منها كما قال صلى الله عليه وسلم في العائد في هبته: «كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه» وقد قال: «ليس لنا مثل السوء» وثبت في الصحاح والحسان والمسانيد من غير وجه أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا».
    وقال أبو داود: حدثنا واصل بن عبد الأعلى , حدثنا أسباط بن محمد عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام ماله وعرضه ودمه, حسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم» ورواه الترمذي عن عبيد بن أسباط بن محمد عن أبيه به وقال: حسن غريب. وحدثنا عثمان بن أبي شيبة: حدثنا الأسود بن عامر, حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن سعيد بن عبد الله بن جريج عن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه, لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم, فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته, ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته» تفرد به أبو داود وقد روي من حديث البراء بن عازب. فقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا إبراهيم بن دينار, حدثنا مصعب بن سلام عن حمزة بن حبيب الزيات, عن أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العواتق في بيوتها ـ أو قال ـ في خدورها, فقال: يا معشر من آمن بلسانه, لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم, فإنه من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته, ومن يتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته».

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:07

    (طريق أخرى) عن ابن عمر. قال أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي: حدثنا عبد الله بن ناجية, حدثنا يحيى بن أكثم, حدثنا الفضل بن موسى الشيباني عن الحسين بن واقد عن أوفى بن دلهم عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه, لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم, فإنه من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته, ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله» قال: ونظر ابن عمر يوماً إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك وللمؤمن أعظم حرمة عند الله منك. قال أبو داود: حدثنا حيوة بن شريح, حدثنا قتيبة عن ابن ثوبان عن أبيه عن محكول, عن وقاص بن ربيعة عن المستورد أنه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها في جهنم, ومن كسا ثوباً برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله في جهنم, ومن قام برجل مقام سمعة ورياء فإن الله تعالى يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة» تفرد به أبو داود. وحدثنا ابن مصفى حدثنا بقية وأبو المغيرة, حدثنا صفوان, حدثني راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخشمون وجوههم وصدورهم, قلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» تفرد به أبو داود وهكذا رواه الإمام أحمد عن أبي المغيرة عبد القدوس بن الحجاج الشامي به.
    وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن عبدة, أخبرنا أبو عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد العمي, أخبرنا أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال: قلنا يا رسول الله حدثنا ما رأيت ليلة أسري بك ؟ قال: ثم انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير, رجال ونساء موكل بهم رجال يعمدون إلى عرض جنب أحدهم, فيجذون منه الجذة مثل النعل ثم يضعونها في في أحدهم. فيقال له كل كما أكلت وهو يجد من أكله الموت يا محمد لو يجد الموت وهو يكره عليه, فقلت: يا جبرائيل من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء الهمازون واللمازون أصحاب النميمة, فيقال: أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه وهو يكره على أكل لحمه, هكذا أورد هذا الحديث وقد سقناه بطوله في أول تفسير سورة سبحان ولله الحمد والمنة, وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا الربيع عن يزيد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن يصوموايوماً ولا يفطرن أحد حتى آذن له, فصام الناس, فلما أمسوا جعل الرجل يجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول ظللت منذ اليوم صائماً فائذن لي فأفطر فأذن له ويجيء الرجل فيقول ذلك, فيأذن له حتى جاء رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتين من أهلك ظلتا منذ اليوم صائمتين, فائذن لهما فليفطرا, فأعرض عنه ثم أعاد, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما صامتا, وكيف صام من ظل يأكل من لحوم الناس ؟ اذهب فمرهما إن كانتا صائمتين أن يستقيئا» ففعلتا, فقاءت كل واحدة منهما علقة, فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو ماتتا وهما فيهما لأكلتهما النار» إسناد ضعيف ومتن غريب. وقد رواه الحافظ البيهقي من حديث يزيد بن هارون.
    حدثنا سليمان التيمي قال: سمعت رجلاً يحدث في مجلس أبي عثمان النهدي عن عبيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن ههنا امرأتين صامتا وإنهما كادتا تموتان من العطش, أراه قال بالهاجرة, فأعرض عنه أوسكت عنه, فقال: يا نبي الله إنهماوالله قد ماتتا أو كادتا تموتان, فقال: ادعهما. فجاءتا قال: فجيء بقدح أو عس, فقال لإحداهما قيئي. فقاءت من قيح ودم وصديد حتى قاءت نصف القدح, ثم قال للأخرى : قيئي, فقاءت قيحاً ودماً وصديداً ولحماً ودماً عبيطاً وغيره حتى ملأت القدح, ثم قال: «إن هاتين صامتا عما أحل الله تعالى لهما وأفطرتا على ما حرم الله عليهما, جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس». وهكذا رواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون وابن أبي عدي, كلاهما عن سليمان بن طرخان التيمي به مثله أو نحوه, ثم رواه أيضاً من حديث مسدد عن يحيى القطان عن عثمان بن غياث. حدثني رجل أظنه في حلقة أبي عثمان عن سعد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنهم أمروا بصيام, فجاء رجل في نصف النهار فقال: يا رسول الله فلانة وفلانة قد بلغتا الجهد فأعرض عنه مرتين أو ثلاثاً ثم قال «ادعهما» فجاء بعس أو قدح فقال لإحداهما: قيئي. فقاءت لحماً ودماً عبيطاً وقيحاً, وقال للأخرى مثل ذلك ثم قال: إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما وأفطرتا على ما حرم الله عليهما. أتت إحداهما للأخرى فلم تزالا تأكلان لحوم الناس حتى امتلأت أجوافهما قيحاً. قال البيهقي: كذا قال عن سعد, والأول وهو عبيد أصح.
    ** قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنّا قُل لّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـَكِن قُولُوَاْ أَسْلَمْنَا وَلَمّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ * إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ * قُلْ أَتُعَلّمُونَ اللّهَ بِدِينِكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * يَمُنّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاّ تَمُنّواْ عَلَيّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِنُ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * إِنّ اللّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
    يقول تعالى منكراً على الأعراب الذين أول ما دخلوا في الإسلام ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم بعد: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} وقد استفيد من هذه الاَية الكريمة أن الإيمان أخص من الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة, ويدل عليه حديث جبريل عليه الصلاة والسلام حين سأل عن الإسلام ثم عن الإيمان ثم عن الإحسان, فترقى من الأعم إلى الأخص ثم للأخص منه. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن الزهري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنهما قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً ولم يعط رجلاً منهم شيئاً, فقال سعد رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً شيئاً, وهو مؤمن, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلم ؟ حتى أعادها سعد رضي الله عنه ثلاثاً والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أو مسلم ؟ ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأعطي رجالاً وأدع من هو أحب إلي منهم, فلم أعطه شيئاً مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم» أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به, فقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمن والمسلم, فدل على أن الإيمان أخص من الإسلام, وقد قررنا ذلك بأدلته في أول شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري ولله الحمد والمنة. ودل ذلك على أن ذاك الرجل كان مسلماً ليس منافقاً لأنه تركه من العطاء, ووكله إلى ما هو فيه من الإسلام, فدل هذا على أن هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الاَية ليسوا بمنافقين وإنما هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم, فادعوا لأنفسهم مقاماً أعلى مما وصلوا إليه فأدبوا في ذلك, وهذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما وإبراهيم النخعي وقتادة واختاره ابن جرير. وإنما قلنا هذا لأن البخاري رحمه الله ذهب إلى أن هؤلاء كانوا منافقين يظهرون الإيمان وليسوا كذلك.
    وقد روي عن سعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد أنهم قالوا في قوله تبارك وتعالى: {ولكن قولوا أسلمنا} أي استسلمنا خوف القتل والسبي. قال مجاهد: نزلت في بني أسد بن خزيمة. وقال قتادة: نزلت في قوم امتنوا بإيمانهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم, والصحيح الأول أنهم قوم ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان, ولم يحصل لهم بعد فأدبوا وأعلموا أن ذلك لم يصلوا إليه بعد, ولو كانوا منافقين لعنفوا وفضحوا كما ذكر المنافقون في سورة براءة, وإنما قيل لهؤلاء تأديباً: {قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} أي لم تصلوا إلى حقيقة الإيمان بعد. ثم قال تعالى: {وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً} أي لا ينقصكم من أجوركم شيئاً كقوله عز وجل: {وما ألتناهم من عملهم من شيء} وقوله تعالى: {إن الله غفور رحيم} أي لمن تاب إليه وأناب. وقوله تعالى: {إنما المؤمنون} أي إنما المؤمنون الكمل {الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا} أي لم يشكوا ولا تزلزلوا بل ثبتوا على حال واحدة هي التصديق المحض {وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله} أي وبذلوا مهجهم ونفائس أموالهم في طاعة الله ورضوانه {أولئك هم الصادقون} أي في قولهم إذا قالوا إنهم مؤمنون, لا كبعض الأعراب الذين ليس لهم من الإيمان إلا الكلمة الظاهرة.
    وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن غيلان, حدثنا رشدين, حدثنا عمرو بن الحارث عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء: الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله, والذي يأمنه الناس على أموالهم وأنفسهم, والذي إذا أشرف على طمع تركه لله عز وجل» وقوله سبحانه وتعالى: {قل أتعلمون الله بدينكم} أي أتخبرونه بما في ضمائركم {والله يعلم ما في السموات وما في الأرض} أي لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر {والله بكل شيء عليم} ثم قال تعالى: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم} يعني الأعراب الذين يمنون بإسلامهم ومتابعتهم ونصرتهم على الرسول صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى رداً عليهم: {قل لا تمنوا علي إسلامكم} فإن نفع ذلك إنما يعود عليكم ولله المنة عليكم فيه {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} أي في دعواكم ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم حنين: «يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي ؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ؟ وكنتم عالة فأغناكم الله بي ؟» كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمن.
    وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري, حدثنا يحيى بن سعيد الأموي عن محمد بن قيس عن أبي عون, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله أسلمنا وقاتلتك العرب ولم نقاتلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فقههم قليل وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم. ونزلت هذه الاَية {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} ثم قال: لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه, ولا نعلم روى أبو عون محمد بن عبيد الله عن سعيد بن جبير غير هذا الحديث ثم كرر الإخبار بعلمه بجميع الكائنات وبصره بأعمال المخلوقات فقال: {إن الله يعلم غيب السموات والأرض والله بصير بما تعلمون} آخر تفسير سورة الحجرات, ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة.

    تمت سورة الحجرات
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:07

    سورة ق

    هذه السورة هي أول الحزب المفصل على الصحيح وقيل من الحجرات. وأما ما يقوله العوام إنه من (عم) فلا أصل له ولم يقله أحد من العلماء رضي الله عنهم المعتبرين فيما نعلم. والدليل على أن هذه السورة هي أول المفصل ما رواه أبو داود في سننه باب تحزيب القرآن ثم قال: حدثنا مسدد, حدثنا قران بن تمام, حدثنا عبد الله بن سعيد أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو خالد, سليمان بن حيّان, وهذا لفظه عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى عن عثمان بن عبد الله بن أوس عن جده, قال عبد الله بن سعيد: حدثنيه أوس بن حذيفة ثم اتفقا قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف, قال فنزلت الأحلاف على المغيرة بن شعبة رضي الله عنه, وأنزل الرسول صلى الله عليه وسلم بني مالك في قبة له, قال مسدد: وكان في الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثقيف, قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ليلة يأتينا بعد العشاء يحدثنا, قال أبو سعيد, قائماً على رجليه حتى يراوح بين رجليه من طول القيام, فأكثر ما يحدثنا به صلى الله عليه وسلم ما لقي من قومه قريش ثم يقول صلى الله عليه وسلم: «لا سواء وكنا مستضعفين مستذلين ـ قال مسدد بمكة ـ فلما خرجنا إلى المدينة كانت الحرب سجالاً بيننا وبينهم ندال عليهم ويدالون علينا» فلما كانت ليلة أبطأ عنا صلى الله عليه وسلم عن الوقت الذي كان يأتينا فيه, فقلنا: لقد أبطأت علينا الليلة, قال صلى الله عليه وسلم: «إنه طرأ علي حزبي من القرآن فكرهت أن أجيء حتى أتمه». قال أوس: سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يحزبون القرآن ؟ فقالوا: ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة وثلاث عشرة.
    وحزب المفصل وحده, ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر به, ورواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عن عبد الله بن عبد الرحمن هو ابن يعلى الطائفي به. إذا علم هذا فإذا عددت ثمانياً وأربعين سورة فالتي بعدهن سورة ق. بيانه ثلاث: البقرة وآل عمران والنساء. وخمس: المائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة. وسبع: يونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل. وتسع: سبحان والكهف ومريم وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والنور والفرقان. وإحدى عشرة: الشعراء والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان والم السجدة والأحزاب وسبأ وفاطر ويس. وثلاث عشرة: الصافات وص والزمر وغافر وحم السجدة وحم عسق والزخرف والدخان والجاثية والأحقاق والقتال والفتح والحجرات. ثم بعد ذلك الحزب المفصل كما قاله الصحابة رضي الله عنهم. فتعين أن أوله سورة ق. وهو الذي قلنا ولله الحمد والمنة. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, حدثنا مالك عن ضمرة بن سعيد عن عبيد الله بن عبد الله أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيد ؟ قال: بقاف واقتربت, ورواه مسلم وأهل السنن الأربعة من حديث مالك به. وفي رواية لمسلم عن فليح عن ضمرة عن عبيد الله عن أبي واقد قال: سألني عمر رضي الله عنه, فذكره.

    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** قَ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوَاْ أَن جَآءَهُمْ مّنذِرٌ مّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَـَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذّبُواْ بِالْحَقّ لَمّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِيَ أَمْرٍ مّرِيجٍ
    {ق}: حرف من حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور كقوله تعالى: {ص ـ ون ـ والم ـ وحم ـ وطس} ونحو ذلك, قاله مجاهد وغيره وقد أسلفنا الكلام عليها في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته, وقد روي عن بعض السلف أنهم قالوا: ق جبل محيط بجميع الأرض يقال له جبل قاف, وكأن هذا, والله أعلم, من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس لما رأى من جواز الرواية عنهم مما لا يصدق ولا يكذب,وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم, يلبسون به على الناس أمر دينهم, كما افترى في هذه الأمة مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وما بالعهد من قدم فكيف بأمة بني إسرائيل مع طول المدى وقلة الحفاظ النقاد فيهم وشربهم الخمور, وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه وتبديل كتب الله وآياته, وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله: «وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» فيما قد يجوزه العقل, فأما فيما تحيله العقول ويحكم فيه بالبطلان ويغلب على الظنون كذبه فليس من هذا القبيل, والله أعلم.
    وقد أكثر كثير من السلف من المفسرين, وكذا طائفة كثيرة من الخلف من الحكاية عن كتب أهل الكتاب في تفسير القرآن المجيد, وليس بهم احتياج إلى أخبارهم,ولله الحمد والمنة, حتى أن الإمام أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي, رحمة الله عليه, أورد ههنا أثراً غريباً لا يصح سنده عن ابن عباس رضي الله عنهما فقال: حدثنا أبي قال: حدثت عن محمد بن إسماعيل المخزومي, حدثنا ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خلق الله تبارك وتعالى من وراء هذه الأرض بحراً محيطاً بها, ثم خلق من وراء ذلك البحر جبلاً يقال له قاف, سماء الدنيا مرفوعة عليه, ثم خلق الله تعالى من وراء ذلك الجبل أرضاً مثل تلك الأرض سبع مرات, ثم خلق من وراء ذلك بحراً محيطاً بها, ثم خلق من وراء ذلك جبلاً يقال له قاف السماء الثانية مرفوعة عليه, حتى عد سبع أرضين وسبعة أبحر وسبعة أجبل وسبع سموات, قال وذلك في قوله تعالى: {والبحر يمده من بعده سبعة أبحر} فإسناده هذا الأثر فيه انقطاع, والذي رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل {ق} هو اسم من أسماء الله عز وجل والذي ثبت عن مجاهد أنه حرف من حروف الهجاء كقوله تعالى: {ص ـ ن ـ حم ـ طس ـ الم} ونحو ذلك, فهذه تبعد ما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقيل: المراد قضي الأمر والله, وأن قوله جل ثناؤه {ق} قال: دلت على المحذوف من بقية الكلمة كقول الشاعر:
    قلت لها قفي فقالت ق
    وفي هذا التفسير نظر لأن الحذف في الكلام يكون إنما يكون إذا دل دليل عليه, ومن أين يفهم هذا من ذكر هذا الحرف ؟ وقوله تعالى: {والقرآن المجيد} أي الكريم العظيم الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} واختلفوا في جواب القسم ما هو ؟ فحكى ابن جرير عن بعض النحاة أنه قوله تعالى: {قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ} وفي هذا نظر بل الجواب هو مضمون الكلام بعد القسم, وهو إثبات النبوة وإثبات المعاد وتقريره وتحقيقه, وإن لم يكن القسم يلتقي لفظاً, وهذا كثير في أقسام القرآن كما تقدم في قوله: {ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق} وهكذا قال ههنا: {ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب} أي تعجبوا من إرسال رسول إليهم من البشر, كقوله جل جلاله: {أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس} أي وليس هذا بعجيب فإن الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس.
    ثم قال عز وجل مخبراً عنهم في تعجبهم أيضاً من المعاد واستبعادهم لوقوعه {أئذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد} أي يقولون أئذا متنا وبلينا وتقطعت الأوصال منا وصرنا تراباً, كيف يمكن الرجوع بعد ذلك إلى هذه البنية والتركيب ؟ {ذلك رجع بعيد} أي بعيد الوقوع. والمعنى أنهم يعتقدون استحالته وعدم إمكانه. قال الله تعالى رداً عليهم: {قد علمنا ما تنقص الأرض منهم} أي ما تأكل من أجسادهم في البلى نعلم ذلك ولا يخفى علينا أين تفرقت الأبدان وأين ذهبت وإلى أين صارت {وعندنا كتاب حفيظ} أي حافظ لذلك فالعلم شامل والكتاب أيضاً فيه كل الأشياء مضبوطة. قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {قد علمنا ما تنقص الأرض منهم} أي ما تأكل من لحومهم وأبشارهم, وعظامهم وأشعارهم, وكذا قال مجاهد وقتادة والضحاك وغيرهم, ثم بين تبارك وتعالى سبب كفرهم وعنادهم واستبعادهم ما ليس ببعيد فقال: {بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج} أي وهذا حال كل من خرج عن الحق مهما قال بعد ذلك فهو باطل, والمريج: المختلف المضطرب الملتبس المنكر خلاله كقوله تعالى: {إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك}.


    ** أَفَلَمْ يَنظُرُوَاْ إِلَى السّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيّنّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَىَ لِكُلّ عَبْدٍ مّنِيبٍ * وَنَزّلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَآءً مّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنّاتٍ وَحَبّ الْحَصِيدِ * وَالنّخْلَ بَاسِقَاتٍ لّهَا طَلْعٌ نّضِيدٌ * رّزْقاً لّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ
    يقول تعالى منبهاً للعباد على قدرته العظيمة التي أظهر بها ما هو أعظم مما تعجبوا مستبعدين لوقوعه {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها} أي بالمصابيح {وما لها من فروج} قال مجاهد: يعني من شقوق, وقال غيره: فتوق, وقال غيره: صدوع, والمعنى متقارب كقوله تبارك وتعالى: {الذي خلق سبع سموات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور * ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير} أي كليل عن أن يرى عيباً أو نقصاً. وقوله تبارك وتعالى: {والأرض مددناها} أي وسعناها وفرشناها {وألقينا فيها رواسي} وهي الجبال لئلا تميد بأهلها وتضطرب, فإنها مقرة على تيار الماء المحيط بها من جميع جوانبها {وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج} أي من جميع الزروع والثمار والنبات والأنواع {ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون} وقوله بهيج أي حسن المنظر {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب} أي ومشاهدة خلق السموات والأرض وما جعل الله فيهما من الاَيات العظيمة تبصرة ودلالة وذكرى لكل عبد منيب أي خاضع خائف وجل رجاع إلى الله عز وجل.
    وقوله تعالى: {ونزلنا من السماء ماء مباركاً} أي نافعاً {فأنبتنا به جنات} أي حدائق من بساتين ونحوها {وحب الحصيد} وهو الزرع الذي يراد لحبه وادخاره {والنخل باسقات} أي طوالاً شاهقات, قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي وغيرهم: الباسقات الطوال {لها طلع نضيد} أي منضود {رزقاً للعباد} أي للخلق {وأحيينا به بلدة ميتا} وهي الأرض التي كانت هامدة, فلما نزل الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج من أزاهير وغير ذلك, مما يحار الطرف في حسنها, وذلك بعد ما كانت لا نبات بها فأصبحت تهتز خضراء, فهذا مثال للبعث بعد الموت والهلاك, كذلك يحيي الله الموتى وهذا المشاهد من عظيم قدرته بالحس أعظم مما أنكره الجاحدون للبعث, كقوله عز وجل: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس} وقوله تعالى: {أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بل إنه على كل شيء قدير} وقال سبحانه وتعالى: {ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير}.

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:08

    ** كَذّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرّسّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ وَقَوْمُ تّبّعٍ كُلّ كَذّبَ الرّسُلَ فَحَقّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ
    يقول تعالى مهدداً لكفار قريش, بما أحله بأشباههم ونظرائهم وأمثالهم من المكذبين قبلهم, من النقمات والعذاب الأليم في الدنيا كقوم نوح وما عذبهم الله تعالى به من الغرق العام لجميع أهل الأرض وأصحاب الرس, وقد تقدمت قصتهم في سورة الفرقان {وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط} وهم أمته الذين بعث إليهم من أهل سدوم ومعاملتها من الغور, وكيف خسف الله تعالى بهم الأرض, وأحال أرضهم بحيرة منتنة خبيثة بكفرهم وطغيانهم ومخالفتهم الحق. {وأصحاب الأيكة} وهم قوم شعيب عليه الصلاة والسلام {وقوم تبع} وهو اليماني, وقد ذكرنا من شأنه في سورة الدخان ما أغنى عن إعادته ههنا, ولله الحمد والشكر.
    {كل كذب الرسل} أي كل من هذه الأمم وهؤلاء القرون كذب رسولهم, ومن كذب رسولاً فكأنما كذب جميع الرسل كقوله جل وعلا: {كذبت قوم نوح المرسلين} وإنما جاءهم رسول واحد فهم في نفس الأمر لو جاءهم جميع الرسل كذبوهم {فحق وعيد} أي فحق عليهم ما أوعدهم الله تعالى على التكذيب من العذاب والنكال, فليحذر المخاطبون أن يصيبهم ما أصابهم فإنهم قد كذبوا رسولهم كما كذبوا أولئك. وقوله تعالى: {أفعيينا بالخلق الأول} أي أفعجزنا ابتداء الخلق حتى هم في شك من الإعادة {بل هم في لبس من خلق جديد} والمعنى أن ابتداء الخلق لم يعجزنا والإعادة أسهل منه كما قال عز وجل: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} وقال الله جل جلاله: {وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشاها أول مرة وهو بكل خلق عليم} وقد تقدم في الصحيح «يقول الله تعالى يؤذيني ابن آدم يقول لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته».
    ** وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ * مّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصّورِ ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ * وَجَآءَتْ كُلّ نَفْسٍ مّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ * لّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مّنْ هَـَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ
    يخبر تعالى عن قدرته على الإنسان بأنه خالقه وعلمه محيط بجميع أموره, حتى إنه تعالى يعلم ما توسوس به نفوس بني آدم من الخير والشر. وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل» وقوله عز وجل: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} يعني ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه, ومن تأوله على العلم فإنما فر لئلا يلزم حلول أو اتحاد وهما منفيان بالإجماع, تعالى الله وتقدس, ولكن اللفظ لا يقتضيه فإنه لم يقل: وأنا أقرب إليه من حبل الوريد وإنما قال: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} كما قال في المحتضر {ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون} يعني ملائكته وكما قال تبارك وتعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} فالملائكة نزلت بالذكر وهو القرآن بإذن الله عز وجل, وكذلك الملائكة أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه بإقدار الله جل وعلا لهم على ذلك. فللملك لمة من الإنسان كما أن للشيطان لمة, وكذلك الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم, كما أخبر بذلك الصادق المصدوق ولهذا قال تعالى ههنا: {إذ يتلقى المتلقيان} يعني الملكين الذين يكتبان عمل الإنسان.
    {عن اليمين وعن الشمال قعيد} أي مترصد {ما يلفظ} أي ابن آدم {من قول} أي ما يتكلم بكلمة {إلا لديه رقيب عتيد} أي إلا ولها من يرقبها معد لذلك يكتبها لا يترك كلمة ولا حركة كما قال تعالى: {وإن عليكم لحافظين * كراماً كاتبين * يعلمون ما تفعلون} وقد اختلف العلماء هل يكتب الملك كل شيء من الكلام. وهو قول الحسن وقتادة, أو إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب كما هو قول ابن عباس رضي الله عنهما, فعلى قولين وظاهر الاَية الأول لعموم قوله تبارك وتعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة الليثي عن أبيه عن جده علقمة عن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان صلى الله عليه وسلم تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم يلقاه, وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت, يكتب الله تعالى عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه» فكان علقمة يقول: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث, ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث محمد بن عمرو به, وقال الترمذي: حسن صحيح وله شاهد في الصحيح.
    وقال الأحنف بن قيس: صاحب اليمين يكتب الخير وهو أمير على صاحب الشمال فإن أصاب العبد خطيئة قال له أمسك, فإن استغفر الله تعالى نهاه أن يكتبها وإن أبى كتبها, رواه ابن أبي حاتم, وقال الحسن البصري وتلا هذه الاَية {عن اليمين وعن الشمال قعيد} يا ابن آدم بسطت لك صحيفة ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والاَخر عن شمالك, فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك, وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك, فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت في عنقك معك في قبرك حتى يخرج يوم القيامة فعند ذلك يقول تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} ثم يقول: عدل والله فيك من جعلك حسيب نفسك.
    وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} قال: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى أنه ليكتب قوله أكلت شربت ذهبت جئت رأيت, حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر منه ما كان فيه من خير أو شر وألقي سائره, وذلك قوله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} وذكر عن الإمام أحمد أنه كان يئن في مرضه فبلغه عن طاوس أنه قال يكتب الملك كل شيء حتى الأنين فلم يئن أحمد حتى مات رحمه الله. وقوله تبارك وتعالى: {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد} يقول عز وجل: وجاءت أيها الإنسان سكرة الموت بالحق أي كشفت لك عن اليقين الذي كنت تمتري فيه {ذلك ما كنت منه تحيد} أي هذا هو الذي كنت تفر منه قد جاءك فلا محيد ولا مناص ولا فكاك ولا خلاص,
    وقد اختلف المفسرون في المخاطب بقوله: {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد} فالصحيح أن المخاطب بذلك الإنسان من حيث هو, وقيل الكافر, وقيل غير ذلك, وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا إبراهيم بن زياد سبلان, أخبرنا عباد بن عباد عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبيه, عن جده علقمة بن وقاص قال: إن عائشة رضي الله عنها قالت: حضرت أبي رضي الله عنه وهو يموت, وأنا جالسة عند رأسه فأخذته غشية, فتمثلت ببيت من الشعر:
    من لا يزال دمعه مقنعاًفإنه لا بد مرة مدفوق
    قالت: فرفع رضي الله عنه رأسه فقال: يا بنية ليس كذلك ولكن كما قال تعالى: {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد} وحدثنا خلف بن هشام, حدثنا أبو شهاب الخياط عن إسماعيل بن أبي خالد عن البهي قال: لما أن ثقل أبو بكر رضي الله عنه جاءت عائشة رضي الله عنها فتمثلت بهذا البيت:
    لعمرك ما يغني الثراء عن الفتىإذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
    فكشف عن وجهه وقال رضي الله عنه: ليس كذلك, ولكن قولي {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد} وقد أوردت لهذا الأثر طرقاً كثيرة في سيرة الصديق رضي الله عنه عند ذكر وفاته, وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول: «سبحان الله إن للموت لسكرات» وفي قوله: {ذلك ما كنت منه تحيد} قولان: (أحدهما) أن ما ههنا موصولة أي الذي كنت منه تحيد بمعنى تبتعد وتتناءى وتفر قد حل بك ونزل بساحتك (والقول الثاني) أن نافية بمعنى ذلك ما كنت تقدر على الفرار منه ولا الحيد عنه وقد قال الطبراني في المعجم الكبير: حدثنا مؤمل بن علي الصائغ المكي, حدثنا حفص عن ابن عمر الحدي, حدثنا معاذ بن محمد الهذلي عن يونس بن عبيد عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يفر من الموت مثل الثعلب تطلبه الأرض بدين, فجاء يسعى حتى إذا أعيى وأسهد دخل حجره وقالت له الأرض يا ثعلب ديني, فخرج وله حصاص فلم يزل كذلك حتى تقطعت عنقه ومات» ومضمون هذا المثل كما لا انفكاك له ولا محيد عن الأرض, كذلك الإنسان لا محيد له عن الموت.
    وقوله تبارك وتعالى: {ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد} قد تقدم الكلام على حديث النفخ في الصور والفزع والصعق والبعث, وذلك يوم القيامة. وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته وانتظر أن يؤذن له» قالوا: يا رسول الله كيف نقول ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل» فقال القوم: حسبنا الله ونعم الوكيل {وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد} أي ملك يسوقه إلى المحشر وملك يشهد عليه بأعماله هذا هو الظاهر من الاَية الكريمة, وهو اختيار ابن جرير ثم روي من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن يحيى بن رافع مولى لثقيف قال: سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يخطب فقرأ هذه الاَية {وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد} فقال سائق يسوقها إلى الله تعالى وشاهد يشهد عليها بما عملت, وكذا قال مجاهد وقتادة وابن زيد. وقال مطرف عن أبي جعفر مولى أشجع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: السائق الملك والشهيد العمل, وكذلك قال الضحاك والسدي, وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: السائق من الملائكة والشهيد الإنسان نفسه, يشهد على نفسه, وبه قال الضحاك بن مزاحم أيضاً.
    وحكى ابن جرير ثلاثة أقوال في المراد بهذا الخطاب في قوله تعالى: {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} (أحدها) أن المراد بذلك الكافر, رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما, وبه يقول الضحاك بن مزاحم وصالح بن كيسان.(والثاني) أن المراد بذلك كل أحد من بر وفاجر لأن الاَخرة بالنسبة إلى الدنيا كاليقظة, والدنيا كالمنام, وهذا اختيار ابن جرير, ونقله عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. (والثالث) أن المخاطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وبه يقول زيد بن أسلم وابنه, والمعنى على قولهما: لقد كنت في غفلة من هذا القرآن قبل أن يوحى إليك, فكشفنا عنك غطاءك بإنزاله إليك فبصرك اليوم حديد, والظاهر من السياق خلاف هذا بل الخطاب مع الإنسان من حيث هو, والمراد بقوله تعالى: {لقد كنت في غفلة من هذا} يعني من هذا اليوم {فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} أي قوي لأن كل أحد يوم القيامة يكون مستبصراً حتى الكفار في الدنيا, يكونون يوم القيامة على الاستقامة, لكن لا ينفعهم ذلك, قال الله تعالى: {أَسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا}. وقال عز وجل: {ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم ربناأبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون}.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:08

    ** وَقَالَ قَرِينُهُ هَـَذَا مَا لَدَيّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنّمَ كُلّ كَفّارٍ عَنِيدٍ * مّنّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مّرِيبٍ * الّذِي جَعَلَ مَعَ اللّهِ إِلَـَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشّدِيدِ * قَالَ قرِينُهُ رَبّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَـَكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ * قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيّ وَقَدْ قَدّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدّلُ الْقَوْلُ لَدَيّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاّمٍ لّلْعَبِيدِ
    يقول تعالى مخبراً عن المللك الموكل بعمل ابن آدم إنه يشهد عليه يوم القيامة بما فعل ويقول: {هذا ما لدي عتيد} أي معتمد محضر بلا زيادة ولا نقصان. وقال مجاهد: هذا كلام الملك السائق, يقول ابن آدم الذي وكلتني به قد أحضرته وقد اختار ابن جرير أنه يعم السائق والشهيد, وله اتجاه وقوة, فعند ذلك يحكم الله تعالى في الخليقة بالعدل فيقول: {ألقيا في جهنم كل كفار عنيد} وقد اختلف النحاة في قوله: {ألقيا} فقال بعضهم هي لغة لبعض العرب يخاطبون المفرد بالتثنية كما روي عن الحجاج أنه كان يقول يا حرسي اضربا عنقه, ومما أنشد ابن جرير على هذه قول الشاعر:
    فإن تزجراني يا ابن عفان أَنزجروإن تتركاني أحم عرضاً ممنعا
    وقيل: بل هي نون التأكيد سهلت إلى الألف, وهذا بعيد لأن هذا إنما يكون في الوقف, والظاهر أنها مخاطبة مع السائق والشهيد, فالسائق أحضره إلى عرصة الحساب, فلما أدى الشهيد عليه أمرهما الله تعالى بإلقائه في نار جهنم, وبئس المصير {ألقيا في جهنم كل كفار عنيد} أي كثير الكفر والتكذيب بالحق عنيد معاند للحق, معارض له بالباطل مع علمه بذلك {مناع للخير} أي لا يؤدي ما عليه من الحقوق ولا بر فيه ولا صلة ولا صدقة {معتد} أي فيما ينفقه ويصرفه يتجاوز فيه الحد. وقال قتادة: معتد في منطقه وسيره وأمره {مريب} أي شاك في أمره مريب لمن نظر في أمره {الذي جعل مع الله إلهاً آخر} أي أشرك بالله فعبد معه غيره {فألقياه في العذاب الشديد} وقد تقدم في الحديث أن عنقاً من النار يبرز للخلائق فينادي بصوت يسمع الخلائق: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد, ومن جعل مع الله إلهاً آخر, وبالمصورين, ثم تنطوي عليهم, قال الإمام أحمد: حدثنا معاوية هو ابن هشام, حدثنا شيبان عن فراس عن عطية عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يخرج عنق من النار يتكلم يقول وكلت اليوم بثلاثة: بكل جبار عنيد, ومن جعل مع الله إلهاً آخر, ومن قتل نفساً بغير نفس فتنطوي عليهم فتقذفهم في غمرات جهنم}.
    ** يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مّزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنّةُ لِلْمُتّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَـَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلّ أَوّابٍ حَفِيظٍ * مّنْ خَشِيَ الرّحْمَـَنَ بِالْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مّنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ * لَهُم مّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ
    يخبر تعالى أنه يقول لجهنم يوم القيامة: هل امتلأت ؟ وذلك أنه تبارك وعدها أن سيملؤها من الجنة والناس أجمعين, فهو سبحانه وتعالى يأمر بمن يأمر به إليها ويلقى وهي تقول: هل من مزيد أي هل بقي شيء تزيدوني ؟ هذا هو الظاهر في سياق الاَية وعليه تدل الأحاديث. قال البخاري عند تفسير هذه الاَية: حدثنا عبد الله بن أبي الأسود, حدثني حرمي بن عمارة, حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يلقى في النار وتقول هل من مزيد ؟» حتى يضع قدمه قتقول: قط قط» وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد ؟ حتى يضع رب العزة قدمه فيها فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط وعزتك وكرمك, ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشىء الله لها خلقاً آخر فيسكنهم الله تعالى في فضول الجنة» ثم رواه مسلم من حديث قتادة بنحوه, ورواه أبان العطار وسليمان التيمي عن قتادة بنحوه.
    (حديث آخر) قال البخاري: حدثنا محمد بن موسى القطان, حدثنا أبو سفيان الحميري سعيد بن يحيى بن مهدي, حدثنا عوف عن محمد عن أبي هريرة رضي الله عنه, رفعه وأكثر ما كان يوقفه أبو سفيان: «يقال لجهنم هل امتلأت, وتقول هل من مزيد فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول قط قط» ورواه أبو أيوب وهشام بن حسان عن محمد بن سيرين به.
    (طريق أخرى) قال البخاري: وحدثنا عبد الله بن محمد, حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن همام بن منبه, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين, وقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم. قال الله عز وجل للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي , وقال للنار إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها, فأما النار فلا تمتلىء حتى يضع رجله فيها فتقول قط قط فهنالك تمتلىء وينزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحداً, وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشىء لها خلقاً آخر».
    (حديث آخر) قال مسلم في صحيحه. حدثنا عثمان بن أبي شيبة, حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احتجت الجنة والنار فقالت النار: فيّ الجبارون والمتكبرون, وقالت الجنة فيّ ضعفاء الناس ومساكينهم فقضى بينهما فقال للجنة إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي, وقال للنار إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها» انفرد به مسلم دون البخاري من هذا الوجه والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد رواه الإمام أحمد من طريق أخرى عن أبي سعيد رضي الله عنه بأبسط من هذا السياق فقال: حدثنا حسن وروح قالا: حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب, عن عبيد الله بن عتبة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «افتخرت الجنة والنار فقالت النار يا رب يدخلني الجبابرة والمتكبرون والملوك والأشراف, وقالت الجنة أي رب يدخلني الضعفاء والفقراء والمساكين فيقول الله تبارك وتعالى للنار أنت عذابي أصيب بك من أشاء, وقال للجنة أنت رحمتي وسعت كل شيء ولكل واحدة منكما ملؤها فيلقى في النار أهلها فتقول هل من مزيد, قال ويلقى فيها وتقول هل من مزيد, ويلقى فيها وتقول هل من مزيد, حتى يأتيها عز وجل فيضع قدمه عليها فتنزوي وتقول قدني قدني, وأما الجنة فيبقى فيها ما شاء تعالى أن يبقى فينشىء الله سبحانه وتعالى لها خلقاً ما يشاء».
    (حديث آخر) وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثني عقبة بن مكرم, حدثنا يونس, حدثنا عبد الغفار بن القاسم عن عدي بن ثابت, عن زر بن حبيش, عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يعرفني الله تعالى نفسه يوم القيامة, فأسجد سجدة يرضى بها عني ثم أمدحه مدحة يرضى بها عني, ثم يؤذن لي في الكلام, ثم تمر أمتي على الصراط مضروب بين ظهراني جهنم, فيمرون أسرع من الطرف والسهم وأسرع من أجود الخيل, حتى يخرج الرجل منها يحبو وهي الأعمال, وجهنم تسأل المزيد حتى يضع فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط وأنا على الحوض» قيل: وما الحوض يا رسول الله ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إن شرابه أبيض من اللبن وأحلى من العسل, وأبرد من الثلج. وأطيب ريحاً من المسك, وآنيته أكثر من عدد النجوم لا يشرب منه إنسان فيظمأ أبداً ولا يصرف فيروى أبداً» وهذا القول هو اختيار ابن جرير.
    وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو يحيى الحمامي عن نصر الجزار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما {يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد} قال: ما امتلأت قال تقول وهل من مكان يزاد في, وكذا رواه الحاكم بن أبان عن عكرمة {وتقول هل من مزيد} وهل في مدخل واحد قد امتلأت. قال الوليد بن مسلم عن يزيد بن أبي مريم أنه سمع مجاهداً يقول: لا يزال يقذف فيها حتى تقول امتلأت فتقول: هل من مزيد, وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو هذا فعند هؤلاء أن قوله تعالى: {هل امتلأت} إنما هو بعدما يضع عليهاقدمه فتنزوي وتقول حينئذ هل بقي في مزيد يسع شيئاً ؟ قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: وذلك حين لا يبقى فيها موضع يسع إبرة, والله أعلم.
    وقوله تعالى: {وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد} قال قتادة وأبو مالك والسدي {وأزلفت} أدنيت وقربت من المتقين {غير بعيد} وذلك يوم القيامة, وليس ببعيد لأنه واقع لا محالة وكل ما هو آت قريب {هذا ما توعدون لكل أواب} أي راجع تائب مقلع {حفيظ} أي يحفظ العهد فلا ينقضه ولا ينكثه, وقال عبيد بن عمرو: الأواب الحفيظ الذي لا يجلس مجلساً فيقوم حتى يستغفر الله عز وجل {من خشي الرحمن بالغيب} أي من خاف الله في سره حيث لا يراه أحد إلا الله عز وجل كقوله صلى الله عليه وسلم: «ورجل ذكر الله تعالى خالياً, ففاضت عيناه» {وجاء بقلب منيب} أي ولقي الله عز وجل يوم القيامة بقلب منيب سليم إليه خاضع لديه {ادخلوها} أي الجنة {بسلام} قال قتادة سلموا من عذاب الله عز وجل, وسلم عليهم ملائكة الله, وقوله سبحانه وتعالى: {ذلك يوم الخلود} أي يخلدون في الجنة فلا يموتون أبداً, ولا يظعنون أبداً ولا يبغون عنها حولاً, وقوله جلت عظمته: {لهم ما يشاءون فيها} أي مهما اختاروا وجدوا من أي أصناف الملاذ طلبوا أحضر لهم. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا عمر بن عثمان, حدثنا بقية عن يحيى بن سعيد عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة قال: من المزيد أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول: ماذا تريدون فأمطره لكم ؟ فلا يدعون بشيء إلا أمطرتهم, قال كثير: لئن أشهدني الله تعالى ذلك لأقولن أمطرينا جواري مزينات.
    وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «إنك لتشتهي الطير في الجنة فيخر بين يديك مشوياً» وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا معاذ بن هشام, حدثني أبي عن عامر الأحول عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة» ورواه الترمذي وابن ماجه عن بندار عن معاذ بن هشام به. وقال الترمذي حسن غريب وزاد: كما اشتهى, وقوله تعالى: {ولدينا مزيد} كقوله عز وجل: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} وقد تقدم في صحيح مسلم عن صهيب بن سنان الرومي أنها النظر إلى وجه الله الكريم. وقد روى البزار وابن أبي حاتم من حديث شريك القاضي عن عثمان بن عمير أبي اليقظان عن أنس بن مالك رضي الله عنه في قوله عز وجل: {ولدينا مزيد} قال: يظهر لهم الرب عز وجل في كل جمعة, وقد رواه الإمام أبو عبد الله الشافعي مرفوعاً فقال في مسنده: أخبرنا إبراهيم بن محمد, حدثني موسى بن عبيدة, حدثني أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة عن عبد الله بن عمير أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: أتى جبرائيل عليه الصلاة والسلام بمرآة بيضاء فيها نكتة إلى رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذه ؟» فقال: هذه الجمعة فضلت بها أنت وأمتك, فالناس لكم فيها تبع اليهود والنصارى ولكم فيها خير, ولكم فيها ساعة لا يوافقها مؤمن, يدعو الله تعالى فيها بخير إلا استجيب له وهو عندنا يوم المزيد.
    وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة, حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل في الجنة ليتكىء في الجنة سبعين سنة قبل أن يتحول, ثم تأتيه امرأة تضرب على منكبه فينظر وجهه في خدها أصفى من المرآة, وإن أدنى لؤلؤة عليها تضيء ما بين المشرق والمغرب فتسلم عليه فيرد السلام فيسألها من أنت ؟ فتقول أنا من المزيد وإنه ليكون عليها سبعون حلة أدناها مثل النعمان من طوبى فينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك, وإن عليها من التيجان إن أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب» وهكذا رواه عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن دراج به.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:09

    ** وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقّبُواْ فِي الْبِلاَدِ هَلْ مِن مّحِيصٍ * إِنّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىَ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ وَمَا مَسّنَا مِن لّغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَىَ مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللّيْلِ فَسَبّحْهُ وَأَدْبَارَ السّجُودِ
    يقول تعالى: وكم أهلكنا قبل هؤلاء المكذبين {من قرن هم أشد منهم بطشاً} أي كانوا أكثر منهم وأشد قوة وأثاروا الأرض وعمروهاأكثر مما عمروها ولهذا قال تعالى ههنا: {فنقبوا في البلاد هل من محيص} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أثروا فيها. وقال مجاهد {فنقبوا في البلاد} ضربوا في الأرض وقال قتادة: فساروا في البلاد أي ساروا فيها يبتغون الأرزاق والمتاجر والمكاسب أكثر مما طفتم بها, ويقال لمن طوف في البلاد نقب فيها, قال امرؤ القيس:
    لقد نقبت في الاَفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب
    وقوله تعالى: {هل من محيص} أي هل من مفر كان لهم من قضاء الله وقدره وهل نفعهم ما جمعوه ورد عنهم عذاب الله إذ جاءهم لما كذبوا الرسل فأنتم أيضاً لا مفر لكم ولا محيد ولا مناص ولا محيص. وقوله عز وجل: {إن في ذلك لذكرى} أي لعبرة {لمن كان له قلب} أي لب يعي به وقال مجاهد: عقل {أو ألقى السمع وهو شهيد} أي استمع الكلام فوعاه وتعقله بعقله وتفهمه بلبه, وقال مجاهد: {أو ألقى السمع} يعني لا يحدث نفسه في هذا بقلب, وقال الضحاك: العرب تقول ألقى فلان سمعه إذا استمع بأذنيه, وهو شاهد بقلب غير غائب, وهكذا قال الثوري وغير واحد. وقوله سبحانه وتعالى: {ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} فيه تقرير للمعاد لأن من قدر على خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن قادر على أن يحيي الموتى بطريق الأولى والأحرى, وقال قتادة: قالت اليهود ـ عليهم لعائن الله ـ خلق الله السموات والأرض في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت, وهم يسمونه يوم الراحة فأنزل الله تعالى تكذيبهم فيما قالوه وتأولوه {وما مسنا من لغوب} أي من إعياء ولا تعب ولا نصب, كما قال تبارك وتعالى في الاَية الأخرى: {أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بل إنه على كل شيء قدير} وكما قال عز وجل: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس} وقال تعالى: {أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها ؟}.
    وقوله عز وجل: {فاصبر على ما يقولون} يعني المكذبين اصبر عليهم واهجرهم هجراً جميلاً {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} وكانت الصلاة المفروضة قبل الإسراء ثنتين قبل طلوع الشمس في وقت الفجر وقبل الغروب في وقت العصر, وقيام الليل كان واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أمته حولاً ثم نسخ في حق الأمة وجوبه ثم بعد ذلك نسخ الله تعالى ذلك كله ليلة الإسراء بخمس صلوات, ولكن منهن صلاة الصبح والعصر فهما قبل طلوع الشمس وقبل الغروب. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: «أما إنكم ستعرضون على ربكم فترونه كما ترون هذا القمر لا تضامون فيه, فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا» ثم قرأ {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} ورواه البخاري ومسلم وبقية الجماعة من حديث إسماعيل به.
    وقوله تعالى: {ومن الليل فسبحه} أي فصل له كقوله: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} {وأدبار السجود} قال ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: هو التسبيح بعد الصلاة. ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: جاء فقراء المهاجرين فقالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وما ذاك ؟» قالوا: يصلون كما نصلي, ويصومون كما نصوم, ويتصدقون ولا نتصدق, ويعتقون ولا نعتق. قال صلى الله عليه وسلم: «أفلا أعلمكم شيئاً إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من فعل مثل ما فعلتم ؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين» قال: فقالوا يا رسول الله سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله. فقال صلى الله عليه وسلم: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» والقول الثاني أن المراد بقوله تعالى: {وأدبار السجود} هما الركعتان بعد المغرب وروي ذلك عن عمر وعلي وابنه الحسن وابن عباس وأبي هريرة وأبي أمامة رضي الله عنهم وبه يقول مجاهد وعكرمة والشعبي والنخعي والحسن وقتادة وغيرهم.
    ** وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصّيْحَةَ بِالْحَقّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنّا نَحْنُ نُحْيِـي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقّقُ الأرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّارٍ فَذَكّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ
    يقول تعالى: {واستمع} يا محمد {يوم يناد المناد من مكان قريب} قال قتادة: قال كعب الأحبار يأمر الله تعالى ملكاً أن ينادي على صخرة بيت المقدس أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة, إن الله تعالى يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء {يوم يسمعون الصيحة بالحق} يعني النفخة في الصور التي تأتي بالحق الذي كان أكثرهم فيه يمترون {ذلك يوم الخروج} أي من الأجداث {إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير} أي هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وإليه مصير الخلائق كلهم, فيجازي كلاّ بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر. وقوله تعالى: {يوم تشقق الأرض عنهم سراعاً} وذلك أن الله عز وجل ينزل مطراً من السماء ينبت به أجساد الخلائق كلها في قبورها, كما ينبت الحب في الثرى بالماء, فإذا تكاملت الأجساد أمر الله تعالى إسرافيل فينفخ في الصور وقد أودعت الأرواح في ثقب في الصور فإذا نفخ إسرافيل فيه خرجت الأرواح تتوهج بين السماء والأرض, فيقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره فترجع كل روح إلى جسدها, فتدب فيه كما يدب السم في اللديغ وتنشق الأرض عنهم فيقومون إلى موقف الحساب سراعاً مبادرين إلى أمر الله عز وجل {مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر} وقال تعالى: {يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً} وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من تنشق عنه الأرض», وقوله عز وجل: {ذلك حشر علينا يسير} أي تلك إعادة سهلة علينا, يسيرة لدينا كما قال جل جلاله: {وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر}.
    وقال سبحانه وتعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير} وقوله جل وعلا: {نحن أعلم بما يقولون} أي نحن علمنا محيط بما يقول لك المشركون من التكذيب فلا يهولنك ذلك كقوله: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون * فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين * واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}. وقوله تبارك وتعالى: {وما أنت عليهم بجبار} أي ولست بالذي تجبر هؤلاء على الهدى, وليس ذلك مماكلفت به. وقال مجاهد وقتادة والضحاك {وما أنت عليهم بجبار} أي لا تتجبر عليهم, والقول الأول أولى, ولو أراد ما قالوه لقال: ولا تكن جباراً عليهم, وإنما قال: {وما أنت عليهم بجبار} بمعنى وما أنت بمجبرهم على الإيمان إنما أنت مبلغ, وقال الفراء: سمعت العرب تقول جبر فلان فلاناً على كذا أجبره, ثم قال عز وجل: {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} أي بلغ أنت رسالة ربك فإنمايتذكر من يخاف الله ووعيده ويرجو وعده, كقوله تعالى: {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} وقوله جل جلاله: {فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر} {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} ولهذا قال تعالى ههنا: {وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} كان قتادة يقول: اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ويرجو موعودك يابار يارحيم.
    آخر تفسير سورة ق والحمد لله وحده وحسبنا الله ونعم الوكيل


    تمت سورة ق

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:09

    سورة الذاريات
    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
    ** وَالذّارِيَاتِ ذَرْواً * فَالْحَامِلاَتِ وِقْراً * فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً * فَالْمُقَسّمَاتِ أَمْراً * إِنّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنّ الدّينَ لَوَاقِعٌ * وَالسّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ * إِنّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مّخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ * قُتِلَ الْخَرّاصُونَ * الّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ * يَسْأَلُونَ أَيّانَ يَوْمُ الدّينِ * يَوْمَ هُمْ عَلَى النّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَـَذَا الّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ
    قال شعبة بن الحجاج عن سماك عن خالد بن عرعرة أنه سمع علياً رضي الله عنه, وشعبة أيضاً عن القاسم بن أبي بزة عن أبي الطفيل أنه سمع علياً رضي الله عنه, وثبت أيضاً من غير وجه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه, أنه صعد منبر الكوفة فقال: لا تسألوني عن آية في كتاب الله تعالى, ولا عن سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنبأتكم بذلك, فقام إليه ابن الكواء, فقال: يا أمير المؤمنين ما معنى قوله تعالى: {والذاريات ذرواً} قال علي رضي الله عنه, الريح, قال: {فالحاملات وقراً} قال رضي الله عنه: السحاب, قال: {فالجاريات يسراً} قال رضي الله عنه: السفن, قال: {فالمقسمات أمراً} قال رضي الله عنه الملائكة.
    وقد روي في ذلك حديث مرفوع, فقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إبراهيم بن هانىء, حدثنا سعيد بن سلام العطار, حدثنا أبو بكر بن أبي سبرة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب, قال: جاء صبيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين, فأخبرني عن الذاريات ذرواً, فقال رضي الله عنه: هي الرياح, ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ماقلته. قال: فأخبرني عن المقسمات أمراً, قال رضي الله عنه هي الملائكة, ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ماقلته, قال: فأخبرني عن الجاريات يسراً, قال رضي الله عنه: هي السفن, ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ماقلته. ثم أمر بضربه فضرب مائة وجعل في بيت, فلما برأ دعا به فضربه مائة أخرى وحمله على قتب وكتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: امنع الناس من مجالسته, فلم يزل كذلك حتى أتى أبا موسى رضي الله عنه, فحلف بالأيمان المغلظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئاً, فكتب في ذلك إلى عمر رضي الله عنه, فكتب عمر: ما إخاله إلا قد صدق فخل بينه وبين مجالسة الناس. قال أبو بكر البزار: فأبو بكر بن أبي سبرة لين, وسعيد بن سلام ليس من أصحاب الحديث. قلت: فهذا الحديث ضعيف رفعه وأقرب ما فيه أنه موقوف على عمر رضي الله عنه, فإن قصة صبيغ بن عسل مشهورة مع عمر رضي الله عنه, وإنما ضربه لأنه ظهر له من أمره فيما يسأل تعنتاً وعناداً, والله أعلم. وقد ذكر الحافظ ابن عساكر هذه القصة في ترجمة صبيغ مطولة, وهكذا فسرها ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم, ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي وغير واحد, ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم غير ذلك, وقد قيل إن المراد بالذاريات الريح كما تقدم,وبالحاملات وقراً السحاب كما تقدم, لأنها تحمل الماء كما قال زيد بن عمرو بن نفيل:
    وأسلمت نفسي لمن أسلمتله المزن تحمل عذباً زلالا
    فأما الجاريات يسراً فالمشهور عن الجمهور كما تقدم أنها السفن, تجري ميسرة في الماء جرياً سهلاً, وقال بعضهم: هي النجوم تجري يسراً في أفلاكها ليكون ذلك ترقياً من الأدنى إلى الأعلى إلى ما هو أعلى منه, فالرياح فوقها السحاب, والنجوم فوق كذلك, والمقسمات أمراً الملائكة فوق ذلك تنزل بأوامر الله الشرعية والكونية, وهذا قسم من الله عز وجل على وقوع المعاد, ولهذا قال تعالى: {إنما توعدون لصادق} أي لخبر صدق {وإن الدين} وهو الحساب {لواقع} أي لكائن لا محالة.
    ثم قال تعالى: {والسماء ذات الحبك} قال ابن عباس رضي الله عنهما: ذات الجمال والبهاء والحسن والاستواء, وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو مالك وأبو صالح والسدي وقتادة وعطية العوفي والربيع بن أنس وغيرهم. وقال الضحاك والمنهال بن عمرو وغيرهما مثل تجعد الماء والرمل والزرع, إذا ضربته الريح فينسج بعضه بعضاً طرائق طرائق, فذلك الحبك. قال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابن علية, حدثنا أيوب عن أبي قلابة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن من ورائكم الكذاب المضل, وإن رأسه من ورائه حبك حبك» يعني بالحبك الجعودة: وعن أبي صالح: ذات الحبك الشدة وقال خصيف: ذات الحبك ذات الصفاقة. وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: ذات الحبك حبكت بالنجوم, وقال قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن عمرو البكالي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما {والسماء ذات الحبك} يعني السماء السابعة, وكأنه والله أعلم أراد بذلك السماء التي فيها الكواكب الثابتة, وهي عند كثير من علماء الهيئة في الفلك الثامن الذي فوق السابع, والله أعلم.
    وكل هذه الأقوال ترجع إلى شيء واحد وهو الحسن والبهاء كما قال ابن عباس رضي الله عنهما, فإنها من حسنها مرتفعة شفافة صفيقة شديدة البناء متسعة الأرجاء أنيقة البهاء, مكللة بالنجوم الثوابت والسيارات موشحة بالشمس والقمر والكواكب الزهرات وقوله تعالى: {إنكم لفي قول مختلف} أي إنكم أيها المشركون المكذبون للرسل لفي قول مختلف مضطرب لا يلتئم ولا يجتمع, وقال قتادة: إنكم لفي قول مختلف ما بين مصدق بالقرآن ومكذب به. {يؤفك عنك من أفك} أي إنما يروج على من هو ضال في نفسه, لأنه قول باطل إنما ينقاد له ويضل بسببه, ويؤفك عنه من هو مأفوك ضال غمر لافهم له كما قال تعالى: {فإنكم وما تعبدون ماأنتم عليه بفاتنين * إلا من هو صال الجحيم} قال ابن عباس رضي الله عنهما والسدي {يؤفك عنه من أفك} يضل عنه من ضل. وقال مجاهد {يؤفك عنه من أفك} يؤفن عنه من أفن, وقال الحسن البصري: يصرف عن هذا القرآن من كذب به. وقوله تعالى: {قتل الخراصون} قال مجاهد: الكذابون, قال: وهي مثل التي في عبس {قتل الإنسان ماأكفره} والخراصون الذين يقولون لا نبعث ولا يوقنون. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما {قتل الخراصون} أي لعن المرتابون. وهكذا كان معاذ رضي الله عنه يقول في خطبته. هلك المرتابون. وقال قتادة: الخراصون أهل الغرة والظنون. وقوله تبارك وتعالى: {الذين هم في غمرة ساهون} قال ابن عباس رضي الله عنهما وغير واحد في الكفر والشك غافلون لاهون {يسألون أيان يوم الدين} وإنما يقولون هذا تكذيباً وعناداً وشكاً واستبعاداً, قال الله تعالى: {يوم هم على النار يفتنون} قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغير واحد يفتنون يعذبون. قال مجاهد كما يفتن الذهب على النار, وقال جماعة آخرون كمجاهد أيضاً وعكرمة وإبراهيم النخعي وزيد بن أسلم وسفيان الثوري: يفتنون يحرقون {ذوقوا فتنتكم} قال مجاهد: حريقكم, وقال غيره: عذابكم {هذا الذي كنتم به تستعجلون} أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً وتحقيراً وتصغيراً, والله أعلم.


    ** إِنّ الْمُتّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبّهُمْ إِنّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلاً مّن اللّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِيَ أَمْوَالِهِمْ حَقّ لّلسّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ * وَفِيَ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * وَفِي السّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبّ السّمَآءِ وَالأرْضِ إِنّهُ لَحَقّ مّثْلَ مَآ أَنّكُمْ تَنطِقُونَ
    يقول تعالى مخبراً عن المتقين لله عز وجل أنهم يوم معادهم يكونون في جنات وعيون بخلاف ما أولئك الأشقياء فيه من العذاب والنكال والحريق والأغلال. وقوله تعالى: {آخذين ما آتاهم ربهم} قال ابن جرير: أي عاملين بما آتاهم الله من الفرائض {إنهم كانوا قبل ذلك محسنين} أي قبل أن يفرض عليهم الفرائض كانوا محسنين في الأعمال أيضاً, ثم روي عن ابن حميد حدثنا مهران عن سفيان عن أبي عمر عن مسلم البطين, عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {آخذين ماآتاهم ربهم} قال: من الفرائض {إنهم كانوا قبل ذلك محسنين} قبل الفرائض يعملون, وهذا الإسناد ضعيف ولا يصح عن ابن عباس رضي الله عنهما.
    وقد رواه عثمان بن أبي شيبة عن معاوية بن هشام عن سفيان, عن أبي عمر البزار عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره, والذي فسر به ابن جرير فيه نظر, لأن قوله تبارك وتعالى آخذين حال من قوله في جنات وعيون, فالمتقون في حال كونهم في الجنات والعيون آخذين ماآتاهم ربهم, أي من النعيم والسرور والغبطة, وقوله عز وجل: {إنهم كانوا قبل ذلك} أي في الدار الدنيا {محسنين} كقوله جل جلاله: {كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية} ثم إنه تعالى بين إحسانهم في العمل فقال جل وعلا: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون} اختلف المفسرون في ذلك على قولين: (أحدهما) أن {ما} نافية تقديره كانوا قليلاً من الليل لا يهجعونه, قال ابن عباس رضي الله عنهما: لم تكن تمضي عليهم ليلة إلا يأخذون منها ولو شيئاً, وقال قتادة عن مطرف بن عبد الله: قل ليلة لا تأتي عليهم إلا يصلون فيها لله عز وجل, إما من أولها وإما من أوسطها. وقال مجاهد: قل ما يرقدون ليلة حتى الصباح لا يتهجدون, وكذا قال قتادة, وقال أنس بن مالك رضي الله عنه وأبو العالية: كانوا يصلون بين المغرب والعشاء. وقال أبو جعفر الباقر كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة, (والقول الثاني) أن {ما} مصدرية تقديره كانوا قليلاً من الليل هجوعهم ونومهم, واختاره ابن جرير.
    وقال الحسن البصري {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون} كابدوا قيام الليل فلا ينامون من الليل إلا أقله, ونشطوا فمدوا إلى السحر حتى كان الاستغفار بسحر, وقال قتادة: قال الأحنف بن قيس {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون} كانوا لا ينامون إلا قليلاً ثم يقول: لست من أهل هذه الاَية. وقال الحسن البصري: كان الأحنف بن قيس يقول عرضت عملي على عمل أهل الجنة, فإذا قوم قد باينونا بوناً بعيداً, إذا قوم لا نبلغ أعمالهم كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون, وعرضت عملي على عمل أهل النار, فإذا قوم لا خير فيهم مكذبون بكتاب الله وبرسل الله, مكذبون بالبعث بعد الموت, فقد وجدت من خيرنا منزلة قوماً خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: قال رجل من بني تميم لأبي: يا أبا أسامة صفة لا أجدها فينا ذكر الله تعالى قوماً فقال: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون} ونحن والله قليلاً من الليل ما نقوم, فقال له أبي رضي الله عنه: طوبى لمن رقد إذا نعس واتقى الله إذا استيقظ. وقال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه, فكنت فيمن انجفل, فلما رأيت وجهه صلى الله عليه وسلم عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب, فكان أول ما سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: «يا أيها الناس أطعموا الطعام, وصلوا الأرحام, وأفشوا السلام, وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام».
    وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا ابن لهيعة حدثني حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها» فقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: لمن هي يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لمن ألان الكلام, وأطعم الطعام, وبات لله قائماً والناس نيام» وقال معمر في قوله تعالى: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون} كان الزهري والحسن يقولان كانوا كثيراً من الليل ما يصلون, وقال ابن عباس رضي الله عنهما وإبراهيم النخعي {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون} ما ينامون. وقال الضحاك {إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلاً} ثم ابتدأ فقال: {من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون} وهذا القول فيه بعد وتعسف.

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:10

    ** هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مّنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَىَ أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرّةٍ فَصَكّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبّكِ إِنّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ
    هذه القصة قد تقدمت في سورة هود والحجر أيضاً فقوله: {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين} أي الذين أرصد لهم الكرامة, وقد ذهب الإمام أحمد وطائفة من العلماء إلى وجوب الضيافة للنزيل, وقد وردت السنة بذلك كما هو ظاهر التنزيل. وقوله تعالى: {قالوا سلاماً قال سلام} الرفع أقوى وأثبت من النصب, فرده أفضل من التسليم ولهذا قال تعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} فالخليل اختار الأفضل, وقوله تعالى: {قوم منكرون} وذلك أن الملائكة وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل قدموا عليه في صورة شبان حسان عليهم مهابة عظيمة ولهذا قال: {قوم منكرون} وقوله عز وجل: {فراغ إلى أهله} أي انسل خفية في سرعة {فجاء بعجل سمين} أي من خيار ماله, وفي الاَية الأخرى: {فما لبث أن جاء بعجل حنيذ} أي مشوي على الرضف {فقربه إليهم} أي أدناه منهم {قال ألا تأكلون ؟} تلطف في العبارة وعرض حسن, وهذه الاَية انتظمت آداب الضيافة فإنه جاء بطعام من حيث لا يشعرون بسرعة, ولم يمتن عليهم أولاً فقال: نأتيكم بطعام بل جاء به بسرعة وخفاء, وأتى بأفضل ما وجد من ماله, وهو عجل فتي سمين مشوي, فقربه إليهم لم يضعه وقال اقتربوا, بل وضعه بين أيديهم ولم يأمرهم أمراً يشق على سامعه بصيغة الجزم بل قال: {ألا تأكلون} على سبيل العرض والتلطف, كما يقول القائل اليوم إن رأيت أن تتفضل وتحسن وتتصدق فافعل.
    وقوله تعالى: {فأوجس منهم خيفة} هذا محال على ما تقدم في القصة في السورة الأخرى وهي قوله تعالى: {فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا: لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت} أي استبشرت بهلاكهم لتمردهم وعتوهم على الله تعالى, فعند ذلك بشرتها الملائكة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب {قالت يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً ؟ إن هذا لشيء عجيب * قالوا أتعجبين من أمر الله ؟ رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد} ولهذا قال الله سبحانه وتعالى ههنا: {وبشروه بغلام عليم} فالبشارة له هي بشارة لها. لأن الولد منهما فكل منهما بشر به. وقوله تعالى: {فأقبلت امرأته في صرة} أي في صرخة عظيمة ورنة, قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة وأبو صالح والضحاك وزيد بن أسلم والثوري والسدي وهي قولها {يا ويلتا} {فصكت وجهها} أي ضربت بيدها على جبينها قاله مجاهد وابن سابط, وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لطمت أي تعجباً كما تتعجب النساء من الأمر الغريب {وقالت عجوز عقيم} أي كيف ألد وأنا عجوز وقد كنت في حال الصبا عقيماً لا أحبل ؟ {قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم} أي عليم بما تستحقون من الكرامة حكيم في أقواله وأفعاله.


    ** قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوَاْ إِنّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىَ قَوْمٍ مّجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن طِينٍ * مّسَوّمَةً عِندَ رَبّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ الْمُسْلِمِينَ * وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً لّلّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الألِيمَ
    قال الله تعالى مخبراً عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط * إن إبراهيم لحليم أواه منيب * يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم)آتيهم عذاب غير مردود} وقال ههنا: {قال فما خطبكم أيها المرسلون} أي ما شأنكم وفيم جئتم {قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين} يعنون قوم لوط {لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة} أي معلمة {عند ربك للمسرفين} أي مكتتبة عنده بأسمائهم كل حجر عليه اسم صاحبه, فقال في سورة العنكبوت: {قال إن فيها لوطاً, قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين} وقال تعالى ههنا: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين} وهم لوط وأهل بيته إلا امرأته {فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} احتج بهذه من ذهب إلى رأي المعتزلة ممن لا يفرق بين مسمى الإيمان والإسلام, لأنه أطلق عليهم المؤمنين والمسلمين, وهذا الاستدلال ضعيف لأن هؤلاء كانوا قوماً مؤمنين, وعندنا أن كل مؤمن مسلم ولا ينعكس فاتفق الاسمان ههنا لخصوصية الحال, ولا يلزم ذلك في كل حال, وقوله تعالى: {وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم} أي جعلناها عبرة لما أنزلنا بهم من العذاب والنكال وحجارة السجيل, وجعلنا محلتهم بحيرة منتنة خبيثة, ففي ذلك عبرة للمؤمنين {الذين يخافون العذاب الأليم}


    ** وَفِي مُوسَىَ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىَ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مّبِينٍ * فَتَوَلّىَ بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمّ وَهُوَ مُلِيمٌ * وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاّ جَعَلَتْهُ كَالرّمِيمِ * وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتّعُواْ حَتّىَ حِينٍ * فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ * فَمَا اسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ * وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ
    يقول تعالى: {وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين} أي بدليل باهر وحجة قاطعة {فتولى بركنه} أي فأعرض فرعون عما جاءه به موسى من الحق المبين استكباراً وعناداً. وقال مجاهد: تعزز بأصحابه, وقال قتادة: غلب عدو الله على قومه, وقال ابن زيد {فتولى بركنه} أي بجموعه التي معه ثم قرأ {لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد} والمعنى الأول قوي كقوله تعالى: {ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله} أي معرض عن الحق مستكبر {وقال ساحر أو مجنون} أي لا يخلو أمرك فيما جئتني به من أن تكون ساحراً أو مجنوناً قال الله تعالى: {فأخذناه وجنوده فنبذناهم} أي ألقيناهم {في اليم} وهو البحر {وهو مليم} أي وهو ملوم كافر جاحد فاجر معاند.
    ثم قال عز وجل {وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم} أي المفسدة التي لا تنتج شيئاً قاله الضحاك وقتادة وغيرهما ولهذا قال تعالى: {ما تذر من شيء أتت عليه} أي مما تفسده الريح {إلا جعلته كالرميم} أي كالشيء الهالك البالي, وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب, حدثنا عمي عبد الله بن وهب, حدثني عبد الله يعني ابن عياش الغساني, حدثني عبد الله بن سليمان عن دراج عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الريح مسخرة من الثانية ـ يعني من الأرض الثانية ـ, فلما أراد الله تعالى أن يهلك عاداً أمر خازن الريح أن يرسل عليهم ريحا تهلك عاداً قال أي رب أرسل عليهم الريح قدر منخر الثور ؟ قال له الجبار تبارك وتعالى لا إذاً تطفأ الأرض ومن عليها ولكن أرسل عليهم بقدر خاتم فهي التي قال الله عز وجل في كتابه: {ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم} هذا الحديث رفعه منكر والأقرب أن يكون موقوفاً على عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما من زاملتيه اللتين أصابهما يوم اليرموك, والله أعلم. قال سعيد بن المسيب وغيره في قوله تعالى: {إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم} قالوا: هي الجنوب. وقد ثبت في الصحيح من رواية شعبة عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» {وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين} قال ابن جرير: يعني إلى وقت فناء آجالكم. والظاهر أن هذه كقوله تعالى: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون} وهكذا قال ههنا: {وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون} وذلك أنهم انتظروا العذاب ثلاثة أيام فجاءهم في صبيحة اليوم الرابع بكرة النهار {فما استطاعوا من قيام} أي من هرب ولا نهوض {وما كانوا منتصرين} أي لا يقدرون على أن ينتصروا مما هم فيه. وقوله عز وجل: {وقوم نوح من قبل} أي وأهلكنا قوم نوح من قبل هؤلاء {إنهم كانوا قوماً فاسقين} وكل هذه القصص قد تقدمت مبسوطة في أماكن كثيرة من سور متعددة, والله أعلم.
    ** وَالسّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنّا لَمُوسِعُونَ * وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ * وَمِن كُلّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ * فَفِرّوَاْ إِلَى اللّهِ إِنّي لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مّبِينٌ * وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ اللّهِ إِلَـَهاً آخَرَ إِنّي لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مّبِينٌ
    يقول تعالى منبهاً على خلق العالم العلوي والسفلي {والسماء بنيناها} أي جعلناها سقفاً محفوظا رفيعاً {بأيد} أي بقوة, قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والثوري وغير واحد {وإنا لموسعون} أي قد وسعنا أرجاءها فرفعناها بغير عمد حتى استقلت كما هي {والأرض فرشناها} أي جعلناها فراشاً للمخلوقات {فنعم الماهدون} أي وجعلناها مهداً لأهلها {ومن كل شيء خلقنا زوجين} أي جميع المخلوقات أزواج سماء وأرض وليل ونهار, وشمس وقمر وبر وبحر وضياء وظلام, وإيمان وكفر وموت وحياة وشقاء وسعادة وجنة ونار, حتى الحيوانات والنباتات, ولهذا قال تعالى: {لعلكم تذكرون} أي لتعلموا أن الخالق واحد لا شريك له {ففروا إلى الله} أي الجأوا إليه واعتمدوا في أموركم عليه {إني لكم منه نذير مبين * ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر} أي لا تشركوا به شيئاً {إني لكم منه نذير مبين}.


    ** كَذَلِكَ مَآ أَتَى الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مّن رّسُولٍ إِلاّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * فَتَوَلّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ * وَذَكّرْ فَإِنّ الذّكْرَىَ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ * مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنّ اللّهَ هُوَ الرّزّاقُ ذُو الْقُوّةِ الْمَتِينُ * فَإِنّ لِلّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ * فَوَيْلٌ لّلّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الّذِي يُوعَدُونَ
    يقول تعالى مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم وكما قال لك هؤلاء المشركون قال المكذبون الأولون لرسلهم: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحرٌ أو مجنون} قال الله عز وجل: {أتواصوا به ؟} أي أوصى بعضهم بعضاً بهذه المقالة {بل هم قوم طاغون} أي لكن هم قوم طغاة تشابهت قلوبهم, فقال متأخرهم كما قال متقدمهم. قال الله تعالى: {فتول عنهم} أي فأعرض عنهم يامحمد {فما أنت بملوم} يعني فما نلومك على ذلك {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} أي إنما تنتفع بها القلوب المؤمنة, ثم قال جل جلاله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} أي إنما خلقتهم لاَمرهم بعبادتي لا لا حتياجي إليهم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {إلا ليعبدون} أي إلا ليقروا بعبادتي طوعاً أو كرهاً. وهذا اختيار ابن جرير وقال ابن جريج: إلا ليعرفون, وقال الربيع بن أنس {إلا ليعبدون} أي إلا للعبادة, وقال السدي: من العبادة ما ينفع ومنها ما لا ينفع {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله} هذا منهم عبادة وليس ينفعهم مع الشرك, وقال الضحاك: المراد بذلك المؤمنون.
    وقوله تعالى: {ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم وأبو سعيد قالا: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد, عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم {إني لأنا الرزاق ذو القوة المتين} ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث إسرائيل, وقال الترمذي: حسن صحيح. ومعنى الاَية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء, ومن عصاه عذبه أشد العذاب. وأخبر أنه غير محتاج إليهم بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم. فهو خالقهم ورازقهم. قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبد الله, حدثنا عمران ـ يعني ابن زائدة بن نشيط عن أبيه عن أبي خالد ـ هو الوالبي ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى ـ «ياابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك, وإلا تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك» ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث عمران بن زائدة, وقال الترمذي: حسن غريب.
    وقد روى الإمام أحمد عن وكيع وأبي معاوية عن الأعمش عن سلام بن شرحبيل: سمعت حبة وسواء ابني خالد يقولان: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعمل عملاً أو يبني بناء, قال أبو معاوية: يصلح شيئاً, فأعناه عليه فلما فرغ دعا لنا وقال: «لا تيأسا من الرزق ما تهزهزت رؤوسكما فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشرة ثم يعطيه الله ويرزقه». وقد ورد في بعض الكتب الإلهية: يقول الله تعالى: ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب, وتكفلت برزقك فلا تتعب فاطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء, وأنا أحب إليك من كل شيء. وقوله تعالى: {فإن للذين ظلموا ذنوباً} أي نصيباً من العذاب {مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون} أي فلا يستعجلون ذلك فإنه واقع لا محالة {فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون} يعني يوم القيامة. آخر تفسير سورة الذاريات ولله الحمد والمنة


    تمت سورة الذاريات
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:10

    سورة الطور
    قال مالك عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور, فما سمعت أحداً أحسن صوتاً أو قراءة منه, أخرجاه من طريق مالك. وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف, أخبرنا مالك عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة قالت: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي فقال: «طوفي من وراء الناس وأنت راكبة» فطفت ورسول الله يصلي إلى جنب البيت يقرأ بالطور وكتاب مسطور

    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** وَالطّورِ * وَكِتَابٍ مّسْطُورٍ * فِي رَقّ مّنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ * مّا لَهُ مِن دَافِعٍ * يَوْمَ تَمُورُ السّمَآءُ مَوْراً * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً * فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ * الّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ * يَوْمَ يُدَعّونَ إِلَىَ نَارِ جَهَنّمَ دَعّا * هَـَذِهِ النّارُ الّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَـَذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوَاْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
    يقسم تعالى بمخلوقاته الدالة على قدرته العظيمة أن عذابه واقع بأعدائه, وأنه لا دافع له عنهم, فالطور هو الجبل الذي يكون فيه أشجار مثل الذي كلم الله عليه موسى وأرسل منه عيسى, وما لم يكن فيه شجر لا يسمى طوراً إنما يقال له جبل {وكتاب مسطور} قيل: هو اللوح المحفوظ, وقيل: الكتب المنزلة المكتوبة التي تقرأ على الناس جهاراً ولهذا قال: {في رق منشور * والبيت المعمور} ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء بعد مجاوزته إلى السماء السابعة: «ثم رفع بي إلى البيت المعمور, وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفاً لا يعودون إليه آخر ما عليهم» يعني يتعبدون فيه ويطوفون به كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم, كذلك ذاك البيت المعمور هو كعبة أهل السماء السابعة, ولهذا وجد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مسنداً ظهره إلى البيت المعمور, لأنه باني الكعبة الأرضية, والجزاء من جنس العمل, وهو بحيال الكعبة, وفي كل سماء بيت يتعبد فيه أهلها ويصلون إليه والذي في السماء الدنيا يقال له بيت العزة, والله أعلم.
    وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا هشام بن عمار, حدثنا الوليد بن مسلم, حدثنا روح بن جناح عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «في السماء السابعة بيت يقال له المعمور بحيال الكعبة, وفي السماء الرابعة نهر يقال له الحيوان يدخله جبريل كل يوم فينغمس فيه انغماسة, ثم يخرج فينتفض انتفاضة, يخر عنه سبعون ألف قطرة, يخلق الله من كل قطرة ملكاً يؤمرون أن يأتوا البيت المعمور, فيصلوا فيه فيفعلون ثم يخرجون فلا يعودون إليه أبداً, ويولى عليهم أحدهم يؤمر أن يقف بهم من السماء موقفاً يسبحون الله فيه إلى أن تقوم الساعة,» هذا حديث غريب جداً, تفرد به روح بن جناح هذا وهو القرشي الأموي مولاهم أبو سعد الدمشقي, وقد أنكر عليه هذا الحديث جماعة من الحفاظ, منهم الجوزجاني والعقيلي والحاكم أبو عبد الله النيسابوري وغيرهم, قال الحاكم: لا أصل له من حديث أبي هريرة ولا سعيد ولا الزهري. وقال ابن جرير: حدثنا هناد بن السري, حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة, أن رجلاً قال لعلي: ما البيت المعمور ؟ قال: بيت في السماء يقال له الضراح, وهو بحيال الكعبة من فوقها, حرمته في السماء كحرمة البيت في الأرض, يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون فيه أبداً, وكذا رواه شعبة وسفيان الثوري عن سماك, وعندهما أن ابن الكواء هو السائل عن ذلك ثم رواه ابن جرير عن أبي كريب عن طلق بن غنام, عن زائدة عن عاصم عن علي بن ربيعة قال: سأل ابن الكواء علياً عن البيت المعمور قال: مسجد في السماء يقال له الضراح, يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون فيه أبداً. ورواه من حديث أبي الطفيل عن علي بمثله وقال العوفي عن ابن عباس: هو بيت حذاء العرش تعمره الملائكة, يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون إليه. وكذا قال عكرمة ومجاهد وغير واحد من السلف.
    وقال قتادة والربيع بن أنس والسدي: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه: «هل تدرون ما البيت المعمور ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإنه مسجد في السماء بحيال الكعبة لو خر لخر عليها, يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم» وزعم الضحاك أنه يعمره طائفة من الملائكة يقال لهم الجن من قبيلة إبليس, فالله أعلم. وقوله تعالى: {والسقف المرفوع} قال سفيان الثوري وشعبة وأبو الأحوص عن سماك عن خالد بن عرعرة عن علي {والسقف المرفوع} يعني السماء. قال سفيان ثم تلا {وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آياتها معرضون} وكذا قال مجاهد وقتادة والسدي وابن جريج وابن زيد واختاره ابن جرير: وقال الربيع بن أنس: هو العرش, يعني أنه سقف لجميع المخلوقات, وله اتجاه وهو مراد مع غيره كما قاله الجمهور.
    وقوله تعالى: {والبحر المسجور} قال الربيع بن أنس: هو الماء الذي تحت العرش الذي ينزل الله منه المطر, الذي تحيا به الأجساد في قبورها يوم معادها, وقال الجمهور: هو هذا البحر, واختلف في معنى قوله المسجور فقال بعضهم: المراد أنه يوقد يوم القيامة ناراً كقوله: {وإذا البحار سجرت} أي أضرمت فتصير ناراً تتأجج محيطة بأهل الموقف. ورواه سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب. وروي عن ابن عباس وبه يقول سعيد بن جبير ومجاهد وعبد الله بن عبيد بن عمير وغيرهم. وقال العلاء بن بدر: إنما سمي البحر المسجور لأنه لا يشرب منه ماء ولا يسقى به زرع وكذلك البحار يوم القيامة. كذا رواه عنه ابن أبي حاتم. وعن سعيد بن جبير {والبحر المسجور} يعني المرسل, وقال قتادة: المسجور المملوء, اختاره ابن جرير ووجهه بأنه ليس موقداً اليوم فهو مملوء. وقيل: المراد به الفارغ.
    قال الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء عن ذي الرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {والبحر المسجور} قال: الفارغ خرجت أمة تستسقي فرجعت فقالت: إن الحوض مسجور يعني فارغاً. رواه ابن مردويه في مسانيد الشعراء. وقيل: المراد بالمسجور الممنوع المكفوف عن الأرض لئلا يغمرها فيغرق أهلها قاله علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وبه يقول السدي وغيره, وعليه يدل الحديث الذي رواه الإمام أحمد, رحمه الله, في مسنده فإنه قال: حدثنا يزيد, حدثنا العوام, حدثني شيخ كان مرابطاً بالساحل قال: لقيت أبا صالح مولى عمر بن الخطاب فقال: حدثنا عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات, يستأذن الله تعالى أن ينفضخ عليهم, فيكفه الله عز وجل».
    وقال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي: حدثنا الحسن بن سفيان عن إسحاق بن راهويه عن يزيد, وهو ابن هارون, عن العوام بن حوشب, حدثني شيخ مرابط قال: خرجت ليلة لمحرسي لم يخرج أحد من الحرس غيري, فأتيت الميناء فصعدت فجعل يخيل إلي أن البحر يشرف يحاذي رؤوس الجبال, فعل ذلك مراراً وأنا مستيقظ, فلقيت أبا صالح فقال: حدثنا عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من ليلة إلا والبحر يشرف ثلاث مرات يستأذن الله تعالى أن ينفضخ عليهم, فيكفه الله عز وجل» فيه رجل مبهم لم يسم.
    وقوله تعالى: {إن عذاب ربك لواقع} هذا هو المقسم عليه أي لواقع بالكافرين كما قال في الاَية الأخرى: {ما له من دافع} أي ليس له دافع يدفعه عنهم إذا أراد الله بهم ذلك. قال الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا أبي, حدثنا موسى بن داود عن صالح المري عن جعفر بن زيد العبدي قال: خرج عمر يعس في المدينة ذات ليلة, فمر بدار رجل من المسلمين فوافقه قائماً يصلي فوقف يستمع قراءته فقرأ {والطور ـ حتى إذا بلغ ـ إن عذاب ربك لواقع * ما له من دافع} قال: قسم ورب الكعبة حق, فنزل عن حماره واستند إلى حائط فمكث ملياً ثم رجع إلى منزله, فمكث شهراً يعوده الناس لا يدرون ما مرضه رضي الله عنه وقال الإمام أبو عبيد في فضائل القرآن: حدثنا محمد بن صالح, حدثنا هشام بن حسان عن الحسن أن عمر قرأ {إن عذاب ربك لواقع * ما له من دافع} فربا لها ربوة عيد منها عشرين يوماً. وقوله تعالى: {يوم تمور السماء موراً} قال ابن عباس وقتادة: تتحرك تحريكاً. وعن ابن عباس: هو تشققها. وقال مجاهد: تدور دوراً وقال الضحاك: استدارتها وتحركها لأمر الله وموج بعضها في بعض. وهذا اختيار ابن جرير أنه التحرك في استدارة. قال: وأنشد أبو عبيدة معمر بن المثنى بيت الأعشى فقال:
    كأن مشيتها من بيت جارتهامور السحابة لا ريث ولا عجل
    {وتسير الجبال سيراً} أي تذهب فتصير هباء منبثاً وتنسف نسفاً {فويل يومئذ للمكذبين} أي ويل لهم ذلك اليوم من عذاب الله ونكاله بهم وعقابه لهم {الذين هم في خوض يلعبون} أي هم في الدنيا يخوضون في الباطل ويتخذون دينهم هزواً ولعباً {يوم يدعون} أي يدفعون ويساقون {إلى نار جهنم دعا} وقال مجاهد والشعبي ومحمد بن كعب والضحاك والسدي والثوري: يدفعون فيها دفعاً {هذه النار التي كنتم بها تكذبون} أي تقول لهم الزبانية ذلك تقريعاً وتوبيخاً {أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون * اصلوها} أي ادخلوها دخول من تغمره من جميع جهاته {فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم} أي سواء صبرتم على عذابها ونكالها أم لم تصبروا لا محيد لكم عنها ولا خلاص لكم منها {وإنما تجوزن ما كنتم تعملون} أي ولا يظلم الله أحداً بل يجازي كلاً بعمله.


    ** إِنّ الْمُتّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتّكِئِينَ عَلَىَ سُرُرٍ مّصْفُوفَةٍ وَزَوّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ
    أخبر الله تعالى عن حال السعداء فقال {إن المتقين في جنات ونعيم} وذلك بضد ما أولئك فيه من العذاب والنكال {فاكهين بما آتاهم ربهم} أي يتفكهون بما آتاهم الله من النعيم من أصناف الملاذ من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب وغير ذلك {ووقاهم ربهم عذاب الجحيم} أي وقد نجاهم من عذاب النار, وتلك نعمة مستقلة بذاتها على حدتها مع ما أضيف إليها من دخول الجنة التي فيها من السرور ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقوله تعالى: {كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون} كقوله تعالى: {كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية} أي هذا بذاك تفضلاً منه وإحساناً. وقوله تعالى: {متكئين على سرر مصفوفة} قال الثوري عن حصين عن مجاهد عن ابن عباس السرر في الحجال, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو اليمان, حدثنا صفوان بن عمرو أنه سمع الهيثم بن مالك الطائي يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل ليتكىء المتكأ مقدار أربعين سنة ما يتحول عنه ولا يمله, يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه». وحدثنا أبي, أخبرنا هدبة بن خالد عن سليمان بن المغيرة عن ثابت قال: بلغنا أن الرجل ليتكىء في الجنة سبعين سنة عنده من أزواجه وخدمه, وما أعطاه الله من الكرامة والنعيم, فإذا حانت منه نظرة فإذا أزواج له لم يكن رآهن قبل ذلك, فيقلن قد آن لك أن تجعل لنا منك نصيباً, ومعنى {مصفوفه} أي وجوه بعضهم إلى بعض كقوله {على سرر متقابلين} {وزوجناهم بحور عين} أي وجعلنا لهم قرينات صالحات وزوجات حساناً من الحور العين, وقال مجاهد {وزوجناهم} أنكحناهم بحور عين, وقد تقدم وصفهن في غير موضع بما أغنى عن إعادته ههنا.

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:11

    ** وَالّذِينَ آمَنُواْ وَاتّبَعَتْهُمْ ذُرّيّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَيْءٍ كُلّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ * وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مّمّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لّهُمْ كَأَنّهُمْ لُؤْلُؤٌ مّكْنُونٌ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ * قَالُوَاْ إِنّا كُنّا قَبْلُ فِيَ أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنّ اللّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السّمُومِ * إِنّا كُنّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنّهُ هُوَ الْبَرّ الرّحِيمُ
    يخبر تعالى عن فضله وكرمه وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه, أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان يلحقهم بآبائهم في المنزلة, وإن لم يبلغوا عملهم لتقر أعين الاَباء بالأبناء عندهم في منازلهم, فيجمع بينهم على أحسن الوجوه بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل, ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته للتساوي بينه وبين ذاك, ولهذا قال: {ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء} قال الثوري عن عمر بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه, ثم قرأ {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء} ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سفيان الثوري به, وكذا رواه ابن جرير من حديث شعبة عن عمرو بن مرة به, ورواه البزار عن سهل بن بحر عن الحسن بن حماد الوراق, عن قيس بن الربيع عن عمرو بن مرة عن سعيد عن ابن عباس مرفوعاً, فذكره ثم قال وقد رواه الثوري عن عمرو بن مرة عن سعيد عن ابن عباس موقوفاً, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا العباس بن الوليد بن يزيد البيروتي, أخبرني محمد بن شعيب, أخبرني شيبان, أخبرني ليث عن حبيب بن أبي ثابت الأسدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} قال: هم ذرية المؤمن يموتون على الإيمان, فإن كانت منازل آبائهم أرفع من منازلهم ألحقوا بآبائهم, ولم ينقصوا من أعمالهم التي عملوها شيئاً. وقال الحافظ الطبراني: حدثنا الحسين بن إسحاق التستري, حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن غزوان, حدثنا شريك عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, أظنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده, فيقال إنهم لم يبلغوا درجتك, فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به} وقرأ ابن عباس {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان} الاَية.
    ** فَذَكّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نّتَرَبّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبّصُواْ فَإِنّي مَعَكُمْ مّنَ الْمُتَرَبّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَـَذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوّلَهُ بَل لاّ يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ
    يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يبلغ رسالته إلى عباده, وأن يذكرهم بما أنزل الله عليه, ثم نفى عنه ما يرميه به أهل البهتان والفجور فقال: {فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون} أي لست بحمد الله بكاهن كما تقوله الجهلة من كفار قريش, والكاهن الذي يأتيه الرئي من الجان بالكلمة يتلقاها من خبر السماء {ولا مجنون} وهو الذي يتخبطه الشيطان من المس. ثم قال تعالى منكراً عليهم في قولهم في الرسول صلى الله عليه وسلم {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ؟} أي قوارع الدهر, والمنون الموت, يقولون ننتظره ونصبر عليه حتى يأتيه الموت فنستريح منه ومن شأنه, قال الله تعالى: {قل تربصوا فإني معكم من المتربصين} أي انتظروا فإني منتظر معكم, وستعلمون لمن تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والاَخرة. قال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن قريشاً لما اجتمعوا في دار الندوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال قائل منهم: احتبسوه في وثاق وتربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء زهير والنابغة إنما هو كأحدهم, فأنزل الله تعالى ذلك من قولهم {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ؟}.
    ثم قال تعالى: {أم تأمرهم أحلامهم بهذا} أي عقولهم تأمرهم بهذا الذي يقولونه فيك من الأقاويل الباطلة التي يعلمون في أنفسهم أنها كذب وزور {أم هم قوم طاغون} أي ولكن هم قوم طاغون ضلال معاندون, فهذا هو الذي يحملهم على ما قالوه فيك . وقوله تعالى: {أم يقولون تقوله ؟} أي اختلقه وافتراه من عند نفسه يعنون القرآن, قال الله تعالى: {بل لا يؤمنون} أي كفرهم هو الذي يحملهم على هذه المقالة {فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين} أي إن كانوا صادقين في قولهم تقوله وافتراه, فليأتوا بمثل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن, فإنهم لو اجتمعوا هم وجميع أهل الأرض من الجن والإنس ما جاءوا بمثله, ولا بعشر سور من مثله, ولا بسورة من مثله.


    ** أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُواْ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بَل لاّ يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ * أَمْ لَهُمْ سُلّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مّبِينٍ * أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مّن مّغْرَمٍ مّثْقَلُونَ * أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ * أَمْ لَهُمْ إِلَـَهٌ غَيْرُ اللّهِ سُبْحَانَ اللّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ
    هذا المقام في إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية فقال تعالى: {أم خلقوا من غير شيء ؟ أم هم الخالقون} أي أوجدوا من غير موجد ؟ أم هم أوجدوا أنفسهم, أي لا هذا ولا هذا بل الله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً, قال البخاري: حدثنا الحميدي, حدثنا سفيان قال: حدثني عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الاَية {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السموات والأرض ؟ بل لا يوقنون * أم عندهم خزائن ربك ؟ أم هم المصيطرون ؟} كاد قلبي أن يطير, وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من طرق عن الزهري به. وجبير بن مطعم كان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر في فداء الأسارى, وكان إذ ذاك مشركاً, فكان سماعه هذه الاَية من هذه السورة من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك. ثم قال تعالى: {أم خلقوا السموات والأرض ؟ بل لا يوقنون} أي أهم خلقوا السموات والأرض ؟ وهذا إنكار عليهم في شركهم بالله, وهم يعلمون أنه الخالق وحده لا شريك له, ولكن عدم إيقانهم هو الذي يحملهم على ذلك {أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون ؟} أي أهم يتصرفون في الملك وبيدهم مفاتيح الخزائن {أم هم المصيطرون} أي المحاسبون للخلائق, ليس الأمر كذلك بل الله عز وجل هو المالك المتصرف الفعال لما يريد.
    وقوله تعالى: {أم لهم سلم يستمعون فيه} أي مرقاة إلى الملأ الأعلى {فليأت مستمعهم بسلطان مبين} أي فليأت الذي يستمع لهم بحجة ظاهرة على صحة ما هم فيه من الفعال والمقال, أي وليس لهم سبيل إلى ذلك فليسوا على شيء وليس لهم دليل, ثم قال منكراً عليهم فيما نسبوه إليه من البنات وجعلهم الملائكة إناثاً, واختيارهم لأنفسهم الذكور على الإناث, بحيث إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم, هذا وقد جعلوا الملائكة بنات الله وعبدوهم مع الله فقال: {أم له البنات ولكم البنون} وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد {أم تسألهم أجراً ؟} أي أجرة إبلاغك إياهم رسالة الله, أي لست تسألهم على ذلك شيئاً {فهم من مغرم مثقلون} أي فهم من أدنى شيء يتبرمون منه ويثقلهم ويشق عليهم {أم عندهم الغيب فهم يكتبون} أي ليس الأمر كذلك فإنه لا يعلم أحد من أهل السموات والأرض الغيب إلا الله {أم يريدون كيداً. فالذين كفروا هم المكيدون} يقول تعالى: أم يريد هؤلاء بقولهم هذا في الرسول وفي الدين غرور الناس وكيد الرسول وأصحابه, فكيدهم إنما يرجع وباله على أنفسهم فالذين كفروا هم المكيدون {أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون} وهذا إنكار شديد على المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد مع الله, ثم نزه نفسه الكريمة عما يقولون ويفترون ويشركون فقال: {سبحان الله عما يشركون}.


    ** وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مّرْكُومٌ * فَذَرْهُمْ حَتّىَ يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ * وَإِنّ لِلّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ فَإِنّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللّيْلِ فَسَبّحْهُ وَإِدْبَارَ النّجُومِ
    يقول تعالى مخبراً عن المشركين بالعناد والمكابرة للمحسوس {وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً} أي عليهم يعذبون به لما صدقوا, ولما أيقنوا بل يقولون: هذا سحاب مركوم, أي متراكم, وهذا كقوله تعالى: {ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون}. وقال الله تعالى {فذرهم} أي دعهم يا محمد {حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون} وذلك يوم القيامة {يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئاً} أي لا ينفعهم كيدهم ولا مكرهم الذي استعملوه في الدنيا, لا يجزي عنهم يوم القيامة شيئاً {ولا هم ينصرون}. ثم قال تعالى: {وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك} أي قبل ذلك في الدار الدنيا كقوله تعالى: {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون} ولهذا قال تعالى: {ولكن أكثرهم لا يعلمون} أي نعذبهم في الدنيا ونبتليهم فيها بالمصائب لعلهم يرجعون وينيبون فلا يفهمون ما يراد بهم, بل إذا جلى عنهم مما كانوا فيه, عادوا إلى أسوأ ما كانوا عليه كما جاء في بعض الأحاديث «إن المنافق إذا مرض وعوفي مثله في ذلك كمثل البعير, لا يدري فيما عقلوه ولا فيما أرسلوه» وفي الأثر الإلهي: كم أعصيك ولا تعاقبني ؟ قال الله تعالى: يا عبدي كم أعاقبك وأنت لا تدري ؟ وقوله تعالى: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} أي اصبر على أذاهم ولا تبالهم فإنك بمرأى منا وتحت كلاءتنا والله يعصمك من الناس. وقوله تعالى: {وسبح بحمد ربك حين تقوم} قال الضحاك: أي إلى الصلاة. سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك, وتعالى جدك, ولا إله غيرك.

    وقد روي مثله عن الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهما, وروى مسلم في صحيحه عن عمر أنه كان يقول: هذا في ابتداء الصلاة, ورواه أحمد وأهل السنن عن أبي سعيد وغيره, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك. وقال أبو الجوزاء {وسبح بحمد ربك حين تقوم} أي من نومك من فراشك, واختاره ابن جرير ويتأيد هذا القوم بما رواه الإمام أحمد, حدثنا الوليد بن مسلم, حدثنا الأوزعي, حدثنا عمير بن هانىء, حدثني جنادة بن أبي أمية. حدثنا عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تعارّ من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد, وهو على كل شيء قدير, سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال, رب اغفر لي ـ أو قال ثم دعا ـ استجيب له, فإن عزم فتوضأ ثم صلى قبلت صلاته» وأخرجه البخاري في صحيحه وأهل السنن من حديث الوليد بن مسلم به. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد {وسبح بحمد ربك حين تقوم} قال: من كل مجلس وقال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص {وسبح بحمد ربك حين تقوم} قال إذا أراد الرجل أن يقوم من مجلسه قال: سبحانك اللهم وبحمدك.
    وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو النضر إسحاق بن إبراهيم الدمشقي, حدثنا محمد بن شعيب, أخبرني طلحة بن عمرو الحضرمي عن عطاء بن أبي رباح أنه حدثه عن قول الله تعالى: {وسبح بحمد ربك حين تقوم} يقول حين تقوم من كل مجلس إن كنت أحسنت ازددت خيراً, وإن كنت غير ذلك كان هذا كفارة له, وقد قال عبد الرزاق في جامعه: أخبرنا معمر عن عبد الكريم الجزري, عن أبي عثمان الفقير, أن جبريل علم النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك, أشهد أن لا إله إلا أنت, أستغفرك وأتوب إليك, قال معمر: وسمعت غيره يقول هذا القول كفارة المجالس وهذا مرسل, وقد وردت مسندة من طرق يقوي بعضها بعضاً بذلك, فمن ذلك حديث ابن جريج عن سهيل بن أبي صالح, عن أبيه, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه, فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك, أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك, إلا غفر الله له ما كان في مجلسه ذلك» رواه الترمذي, وهذا لفظه والنسائي في اليوم والليلة من حديث ابن جريج, وقال الترمذي: حسن صحيح, وأخرجه الحاكم في مستدركه, وقال إسناده على شرط مسلم, إلا أن البخاري علله, قلت: علله الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني وغيرهم, ونسبوا الوهم فيه إلى ابن جريج, على أن أبا داود قد رواه في سننه من طريق غير ابن جريج إلى أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه, ورواه أبو داود, واللفظ له والنسائي والحاكم في المستدرك من طريق الحجاج بن دينار عن هاشم, عن أبي العالية عن أبي برزة الأسلمي, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بآخر عمره: إذا أراد أن يقوم من المجلس «سبحانك اللهم وبحمدك, أشهد أن لا إله إلا أنت, أستغفرك وأتوب إليك». فقال رجل: يا رسول الله, إنك لتقول قولاً ما كنت تقوله فيما مضى, قال: «كفارة لما يكون في المجلس» وقد روي مرسلاً عن أبي العالية, فالله أعلم.
    وهكذا رواه النسائي والحاكم من حديث الربيع بن أنس عن أبي العالية عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله سواء, وروي مرسلاً أيضاً فالله أعلم, وكذا رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو أنه قال: «كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات إلا كفر بهن عنه, ولا يقولهن في مجلس خير ومجلس ذكر, إلا ختم له بهن كما يختم بالخاتم: سبحانك اللهم وبحمدك, لا إله إلا أنت, أستغفرك وأتوب إليك» وأخرجه الحاكم من حديث أم المؤمنين عائشة وصححه, ومن رواية جبير بن مطعم, ورواه أبو بكر الإسماعيلي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم, وقد أفردت لذلك جزءاً على حدة بذكر طرقه وألفاظه وعلله, وما يتعلق به ولله الحمد والمنة.
    وقوله تعالى: {ومن الليل فسبحه} أي اذكره واعبده بالتلاوة والصلاة في الليل كما قال تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً}. وقوله تعالى: {وإدبار النجوم} قد تقدم في حديث ابن عباس, أنهما الركعتان اللتان قبيل صلاة الفجر, فإنهما مشروعتان عند إدبار النجوم أي عند جنوحها للغيبوبة. وقد روى ابن سيلان عن أبي هريرة مرفوعاً «لا تدعوها وإن طردتكم الخيل» يعني ركعتي الفجر, رواه أبو داود. ومن هذا الحديث حكي عن بعض أصحاب أحمد القول بوجوبهما, وهو ضعيف لحديث «خمس صلوات في اليوم والليلة» قال: هل علي غيرها قال: «لا إلا أن تطوع» وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر, وفي لفظ لمسلم «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها».
    آخر تفسير سورة الطور ولله الحمد والمنة.

    تمت سورة الطور
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:12

    سورة النجم
    قال البخاري: حدثنا نصر بن علي, أخبرني أبو أحمد ـ يعني الزبيدي ـ حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق, عن الأسود بن يزيد عن عبد الله قال: أول سورة أنزلت فيها سجدة «والنجم» قال: فسجد النبي صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه, إلا رجلاً رأيته أخذ كفاً من تراب فسجد عليه, فرأيته بعد ذلك قتل كافراً وهو أمية بن خلف, وقد رواه البخاري أيضاً في مواضع ومسلم وأبو داود والنسائي من طرق عن أبي إسحاق به, وقوله في الممتنع إنه أمية بن خلف في هذه الرواية مشكل, فإنه قد جاء من غير هذه الطريق أنه عتبة بن ربيعة.

    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** وَالنّجْمِ إِذَا هَوَىَ * مَا ضَلّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىَ * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىَ * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَىَ
    قال الشعبي وغيره: الخالق يقسم بما شاء من خلقه, والمخلوق لا ينبغي له أن يقسم إلا بالخالق, رواه ابن أبي حاتم: واختلف المفسرون في معنى قوله: {والنجم إذا هوى} فقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: يعني بالنجم الثريا إذا سقط مع الفجر, وكذا روي عن ابن عباس وسفيان الثوري واختاره ابن جرير, وزعم السدي أنها الزهرة, وقال الضحاك {والنجم إذا هوى} إذا رمي به الشياطين وهذا القول له اتجاه. وروى الأعمش عن مجاهدفي قوله تعالى: {والنجم إذا هوى} يعني القرآن إذا نزل, وهذه الاَية كقوله تعالى: {فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم * إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون * تنزيل من رب العالمين} وقوله تعالى: {ما ضل صاحبكم وما غوى} هذا هو المقسم عليه, وهو الشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه راشد تابع للحق ليس بضال, وهو الجاهل الذي يسلك على غير طريق بغير علم, والغاوي هو العالم بالحق, العادل عنه قصداً إلى غيره, فنزه الله رسوله وشرعه, عن مشابهة أهل الضلال كالنصارى وطرائق اليهود. وهي علم الشيء وكتمانه, والعمل بخلافه, بل هو صلاة الله وسلامه عليه وما بعثه به من الشرع العظيم في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد, ولهذا قال تعالى: {وما ينطق عن الهوى} أي ما يقول قولاً عن هوى وغرض {إن هو إلا وحي يوحى} أي إنما يقول ما أمر به يبلغه إلى الناس كاملاً موفوراً من غير زيادة ولا نقصان كما رواه الإمام أحمد: حدثنا يزيد, حدثنا جرير بن عثمان عن عبد الرحمن بن ميسرة عن أبي أمامة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليدخلنّ الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيين ـ أو مثل أحد الحيين ـ ربيعة ومضر» فقال رجل: يا رسول الله أو ما ربيعة من مضر ؟ قال: «إنما أقول ما أقول».
    وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله بن الأخنس, أخبرنا الوليد بن عبد الله عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه, فنهتني قريش فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم, ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب. فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق» ورواه أبو داود عن مسدد وأبي بكر بن أبي شيبة, كلاهما عن يحيى بن سعيد القطان به. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أحمد بن منصور, حدثنا عبد الله بن صالح, حدثنا الليث عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أخبرتكم أنه من عند الله فهو الذي لا شك فيه» ثم قال: لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس, حدثنا ليث عن محمد بن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا أقول إلا حقاً قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله ؟ قال: «إني لا أقول إلا حقاً».


    ** عَلّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىَ * ذُو مِرّةٍ فَاسْتَوَىَ * وَهُوَ بِالاُفُقِ الأعْلَىَ * ثُمّ دَنَا فَتَدَلّىَ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىَ * فَأَوْحَىَ إِلَىَ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىَ * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىَ * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىَ مَا يَرَىَ * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىَ * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىَ * عِندَهَا جَنّةُ الْمَأْوَىَ * إِذْ يَغْشَىَ السّدْرَةَ مَا يَغْشَىَ * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىَ * لَقَدْ رَأَىَ مِنْ آيَاتِ رَبّهِ الْكُبْرَىَ
    يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنه علمه الذي جاء به إلى الناس {شديد القوى} وهو جبريل عليه الصلاة والسلام, كما قال تعالى:{إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين} وقال ههنا {ذو مرة} أي ذو قوة, قاله مجاهد والحسن وابن زيد. وقال ابن عباس: ذو منظر حسن, وقال قتادة: ذو خلق طويل حسن. ولا منافاة بين القولين فإنه عليه السلام ذو منظر حسن وقوة شديدة. وقد ورد في الحديث الصحيح من رواية ابن عمر وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي» وقوله تعالى: {فاستوى} يعني جبريل عليه السلام, قاله الحسن ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس {وهو بالأفق الأعلى} يعني جبريل استوى في الأفق الأعلى, قاله عكرمة وغير واحد. قال عكرمة: والأفق الأعلى الذي يأتي منه الصبح. وقال مجاهد هو مطلع الشمس. وقال قتادة: هو الذي يأتي منه النهار, وكذا قال ابن زيد وغيرهم.
    وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا مصرف بن عمرو اليامي أبو القاسم, حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن طلحة بن مصرف, حدثني أبي عن الوليد هو ابن قيس عن إسحاق بن أبي الكهتلة, أظنه ذكره عن عبد الله بن مسعود, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل في صورته إلا مرتين: أما واحدة فإنه سأله أن يراه في صورته فسد الأفق. وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد فذلك قوله: {وهو بالأفق الأعلى} وقد قال ابن جرير ههنا قولاً لم أره لغيره, ولا حكاه هو عن أحد وحاصله أنه ذهب إلى أن المعنى فاستوى أي هذا الشديد القوي ذو المرة هو ومحمد صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى, أي استويا جميعاً بالأفق الأعلى وذلك ليلة الإسراء, كذا قال ولم يوافقه أحد على ذلك, ثم شرع يوجه ما قاله من حيث العربية فقال وهو كقوله: {أئذا كنا تراباً وآباؤنا} فعطف بالاَباء على المكنى في كنا من غير إظهار نحن فكذلك قوله فاستوى وهو, قال وذكر الفراء عن بعض العرب أنه أنشده:
    ألم تر أن النبع يصلب عودهولا يستوي والخروع المتقصف
    وهذا الذي قاله من جهة العربية متجه, ولكن لا يساعده المعنى على ذلك, فإن هذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الإسراء بل قبلها, ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض, فهبط عليه جبريل عليه السلام وتدلى إليه فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها, له ستمائة جناح ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى يعني ليلة الإسراء, وكانت هذه الرؤية الأولى في أوائل البعثة بعدما جاءه جبريل عليه السلام أول مرة, فأوحى الله إليه صدر سورة اقرأ, ثم فتر الوحي فترة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم فيها مراراً ليتردى من رؤوس الجبال. فكلما هم بذلك ناداه جبريل من الهواء, يا محمد أنت رسول الله حقاً وأنا جبريل, فيسكن لذلك جأشه وتقر عينه, وكلما طال عليه الأمر عاد لمثلها حتى تبدى له جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح في صورته التي خلقه الله عليها, له ستمائة جناح قد سد عظم خلقه الأفق, فاقترب منه وأوحى إليه عن الله عز وجل ما أمره به, فعرف عند ذلك عظمة الملك الذي جاءه بالرسالة وجلالة قدره وعلو مكانته عند خالقه الذي بعثه إليه.
    فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده حيث قال: حدثنا سلمة بن شبيب, حدثنا سعيد بن منصور, حدثنا الحارث بن عبيد عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أنا قاعد إذ جاء جبريل عليه السلام فوكز بين كتفي, فقمت إلى شجرة فيها كوكري الطير فقعد في أحدهما وقعدت في الاَخر. فسمت وارتفعت حتى سدت الخافقين, وأنا أقلب طرفي, ولو شئت أن أمس السماء لمسست, فالتفت إلي جبريل كأنه جلس لاطىء فعرفت فضل علمه بالله علي. وفتح لي باب من أبواب السماء ورأيت النور الأعظم, وإذا دون الحجاب رفرفة الدر والياقوت. وأوحي إلي ما شاء الله أن يوحي» ثم قال البزار: «لا يرويه إلا الحارث بن عبيد, وكان رجلاً مشهوراً من أهل البصرة.
    (قلت) الحارث بن عبيد هذا هو أبو قدامة الأيادي أخرج له مسلم في صحيحه إلا أن ابن معين ضعفه, وقال: ليس هو بشيء, وقال الإمام أحمد: مضطرب الحديث. وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن حيان: كثر وهمه فلا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد, فهذا الحديث من غرائب رواياته, فإن فيه نكارة وغرابة ألفاظ وسياقاً عجيباً ولعله منام, والله أعلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج, حدثنا شريك عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله أنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح, كل جناح منها قد سد الأفق, يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم. انفرد به أحمد. وقال أحمد: حدثنا يحيى بن آدم, حدثنا أبو بكر بن عياش عن إدريس بن منبه عن وهب بن منبه عن ابن عباس قال: سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل أن يراه في صورته فقال: ادع ربك, فدعا ربه عز وجل فطلع عليه سواد من قبل المشرق فجعل يرتفع وينتشر, فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم صعق فأتاه فنعشه ومسح البزاق عن شدقه, تفرد به أحمد.
    وقوله تعالى: {فكان قاب قوسين أو أدنى} أي فاقترب جبريل إلى محمد لما هبط عليه إلى الأرض حتى كان بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم قاب قوسين, أي بقدرهما إذا مدا, قاله مجاهد وقتادة وقد قيل إن المراد بذلك بعد ما بين وتر القوس إلى كبدها. وقوله تعالى: {أو أدنى} قد تقدم أن هذه الصيغة تستعمل في اللغة لإثبات المخبر عنه ونفي ما زاد عليه كقوله تعالى: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة} أي ما هي بألين من الحجارة, بل هي مثلها أو تزيد عليها في الشدة والقسوة وكذا قوله: {يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية} وقوله: {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} أي ليسوا أقل منها بل هم مائة ألف حقيقة أو يزيدون عليها. فهذا تحقيق للمخبر به لا شك ولا تردد فإن هذا ممتنع وهكذا ههنا هذه الاَية {فكان قاب قوسين أو أدنى} وهذا الذي قلناه من أن هذا المقترب الداني الذي صار بينه وبين محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إنما هو جبريل عليه السلام, وهو قول أم المؤمنين عائشة وابن مسعود وأبي ذر وأبي هريرة, كما سنورد أحاديثهم قريباً إن شاء الله تعالى.
    وروى مسلم في صحيحه عن ابن عباس أنه قال: رأى محمد ربه بفؤاده مرتين فجعل هذه إحداهما, وجاء في حديث شريك بن أبي نمر عن أنس في حديث الإسراء: ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى, ولهذا قد تكلم كثير من الناس في متن هذه الرواية وذكروا أشياء فيها من الغرابة, فإن صح فهو محمول على وقت آخر وقصة أخرى, لا أنها تفسير لهذه الاَية فإن هذه كانت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض لا ليلة الإسراء, ولهذا قال بعده: {ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى} فهذه هي ليلة الإسراء والأولى كانت في الأرض.

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 6 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:12

    ** أَفَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَالْعُزّىَ * وَمَنَاةَ الثّالِثَةَ الاُخْرَىَ * أَلَكُمُ الذّكَرُ وَلَهُ الاُنْثَىَ * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىَ * إِنْ هِيَ إِلاّ أَسْمَآءٌ سَمّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مّآ أَنَزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتّبِعُونَ إِلاّ الظّنّ وَمَا تَهْوَى الأنفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مّن رّبّهِمُ الْهُدَىَ * أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنّىَ * فَلِلّهِ الاَخِرَةُ والاُولَىَ * وَكَمْ مّن مّلَكٍ فِي السّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىَ
    يقول تعالى مقرعاً للمشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد والأوثان, واتخاذهم البيوت لها مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن عليه السلام {أفرأيتم اللات ؟} وكانت اللات صخرة بيضاء منقوشة وعليها بيت بالطائف, له أستار وسدنة وحوله فناء معظم عند أهل الطائف, وهم ثقيف ومن تابعها, يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش, قال ابن جرير: وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله فقالوا اللات, يعنون مؤنثة منه, تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً, وحكي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس أنهم قرأوا اللات بتشديد التاء وفسروه بأنه كان رجلاً يلت للحجيج في الجاهلية السويق, فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه. وقال البخاري: حدثنا مسلم هو ابن إبراهيم, حدثنا أبو الأشهب, حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {اللات والعزى} قال: كان اللات رجلاً يلت السويق سويق الحجاج, قال ابن جرير: وكذا العزى من العزيز, وكانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة, وهي بين مكة والطائف, وكانت قريش يعظمونها كما قال أبو سفيان يوم أحد: لنا العزى ولا عزى لكم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم».
    وروى البخاري من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف فقال في حلفه واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله, ومن قال لصاحبه تعالَ أقامرك فليتصدق» فهذا محمول على من سبق لسانه في ذلك كما كانت ألسنتهم قد اعتادته في زمن الجاهلية, كما قال النسائي: أخبرنا أحمد بن بكار, وعبد الحميد بن محمد قالا: حدثنا مخلد, حدثنا يونس عن أبيه, حدثني مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: حلفت باللات والعزى, فقال لي أصحابي: بئس ما قلت! قلت هجراً. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: «قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, وانفث عن شمالك ثلاثاً, وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم لا تعد». وأما مناة فكانت بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة, وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها ويهلون منها للحج إلى الكعبة. وروى البخاري عن عائشة نحوه, وقد كان بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر تعظمها العرب كتعظيم الكعبة. غير هذه الثلاثة التي نص عليها في كتابه العزيز, وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أشهر من غيرها.
    قال ابن إسحاق في السيرة: وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة. لها سدنة وحجاب وتهدى لها كما يهدى للكعبة, وتطوف بها كطوافها بها, وتنحر عندها, وهي تعرف فضل الكعبة عليها لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام ومسجده: فكانت لقريش ولبني كنانة العزى بنخلة, وكان سدنتها وحجابها بني شيبان من سليم, حلفاء بني هاشم, قلت: بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فهدمها وجعل يقول:
    يا عزى كفرانك لا سبحانكإني رأيت الله قد أهانك
    وقال النسائي: أخبرنا علي بن المنذر, أخبرنا ابن فضيل, حدثنا الوليد بن جميع عن أبي الطفيل قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة, وكانت بها العزى فأتاها خالد وكانت على ثلاث سمرات, فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها, ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: «ارجع فإنك لم تصنع شيئاً» فرجع خالد, فلما أبصرته السدنة وهم حجبتها أمعنوا في الحيل وهم يقولون: يا عزى, يا عزى, فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها, فغمسها بالسيف حتى قتلها, ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال «تلك العزى!».
    قال ابن إسحاق: وكانت اللات لثقيف بالطائف, وكان سدنتها وحجابها بني معتب. قلت: وقد بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة, وأبا سفيان صخر بن حرب, فهدماها وجعلا مكانها مسجداً بالطائف. قال ابن إسحاق: كانت مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد, فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها أبا سفيان صخر بن حرب فهدمها, ويقال علي بن أبي طالب قال: وكانت ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة, ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة. قلت: وكان يقال لها الكعبة اليمانية, وللكعبة التي بمكة الكعبة الشامية, فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله البجلي فهدمه, قال: وكانت فَلْس لطيء ومن يليها بجبل طيء من سلمى وأجا, قال ابن هشام: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه علي بن أبي طالب فهدمه, واصطفى منه سيفين: الرسوب والمخذْم, فنفله إياهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فهما سيفا علي. قال ابن إسحاق: وكان لحمير وأهل اليمن بيت بصنعاء يقال له ريام, وذكر أنه كان به كلب أسود وأن الحبرين اللذين ذهبا مع تبع استخرجاه وقتلاه وهدما البيت. قال ابن إسحاق: وكانت رضاء بيتاً لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم, ولها يقول المستوغر بن ربيعة بن كعب بن سعد حين هدمها في الإسلام:
    ولقد شددت على رضاء شدةقتركتها قفراً بقاع أسمحا
    قال ابن هشام: إنه عاش ثلاثمائة وثلاثين سنة وهو القائل:
    ولقد سئمت من الحياة وطولهاوعمرت من عدد السنين مئينامائة حدتها بعدها مائتان ليوعمرت من عدد الشهور سنيناهل ما بقي إلا كما قد فاتنايوم يمر وليلة تحدونا
    وقال ابن إسحاق: وكان ذو الكعبات لبكر وتغلب ابني وائل وإياد بسنداد, وله يقول أعشى بن قيس بن ثعلبة:
    بين الخورنق والسدير وبارقوالبيت ذو الكعبات من سنداد
    ولهذا قال تعالى: {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ؟} ثم قال تعالى: {ألكم الذكر وله الأنثى ؟} أي أتجعلون له ولداً وتجعلون ولده أنثى, وتختارون لأنفسكم الذكور, فلو اقتسمتم أنتم ومخلوق مثلكم هذه القسمة لكانت {قسمة ضيزى} أي جوراً باطلة, فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جوراً وسفهاً, وقال تعالى منكراً عليهم فيما ابتدعوه وأحدثوه من الكذب والافتراء والكفر من عبادة الأصنام وتسميتها آلهة: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم} أي من تلقاء أنفسكم {ما أنزل الله بها من سلطان} أي من حجة {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس} أي ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم, وإلا حظ نفوسهم في رياستهم وتعظيم آبائهم الأقدمين. {ولقد جاءهم من ربهم الهدى} أي ولقد أرسل الله إليهم الرسل بالحق المنير والحجة القاطعة, ومع هذا ما اتبعوا ما جاءوهم به ولا انقادوا له.
    ثم قال تعالى: {أم للإنسان ما تمنى} أي ليس كل من تمنى خيراً حصل له {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب} ما كل من زعم أنه مهتد يكون كما قال, ولا كل من ود شيئاً يحصل له. قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى, فإنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته» تفرد به أحمد. وقوله: {فلله الاَخرة والأولى} أي إنما الأمر كله لله مالك الدنيا والاَخرة والمتصرف في الدنيا والاَخرة, فهو الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وقوله تعالى: {وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} كقوله: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين, فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأصنام والأنداد عند الله, وهو تعالى لم يشرع عبادتها ولا أذن فيها, بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه ؟)


    ** إِنّ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ لَيُسَمّونَ الْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ الاُنْثَىَ * وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتّبِعُونَ إِلاّ الظّنّ وَإِنّ الظّنّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقّ شَيْئاً * فَأَعْرِضْ عَن مّن تَوَلّىَ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاّ الْحَيَاةَ الدّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ الْعِلْمِ إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَىَ
    يقول تعالى منكراً على المشركين في تسميتهم الملائكة تسمية الأنثى, وجعلهم لها أنها بنات الله تعالى الله عن ذلك كما قال تعالى: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون} ولهذا قال تعالى: {وما لهم به من علم} أي ليس لهم علم صحيح يُصَدّق ما قالوه, بل هو كذب وزور وافتراء وكفر شنيع.{إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً} أي لا يجدي شيئاً ولا يقوم أبداً مقام الحق, وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث».
    وقوله تعالى: {فأعرض عمن تولى عن ذكرنا} أي أعرض عن الذي أعرض عن الحق واهجره. وقوله: {ولم يرد إلا الحياة الدنيا} أي وإنما أكثر همه ومبلغ علمه الدنيا, فذاك هو غاية ما لا خير فيه, ولهذا قال تعالى: {ذلك مبلغهم من العلم} أي طلب الدنيا والسعي لها هو غاية ما وصلوا إليه. وقد روى الإمام أحمد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدنيا دار من لا دار له, ومال من لا مال له, ولها يجمع من لا عقل له» وفي الدعاء المأثور «اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا, ولا مبلغ عملنا» وقوله تعالى: {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى} أي هو الخالق لجميع المخلوقات والعالم بمصالح عباده, وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء, وذلك كله عن قدرته وعلمه وحكمته وهو العادل الذي لا يجور أبداً لا في شرعه ولا في قدره.
    ** وَلِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ لِيَجْزِيَ الّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى * الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاّ اللّمَمَ إِنّ رَبّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنّةٌ فِي بُطُونِ أُمّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكّوَاْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتّقَىَ
    يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض, وأنه الغني عما سواه الحاكم في خلقه بالعدل وخلق الخلق بالحق {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى} أي يجازي كلاً بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر, ثم فسر المحسنين بأنهم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش, أي لا يتعاطون المحرمات الكبائر وإن وقع منهم بعض الصغائر فإنه يغفر لهم ويستر عليهم كما قال في الاَية الأخرى {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً} وقال ههنا: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} وهذا استثناء منقطع, لأن اللمم من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العين النظر, وزنا اللسان النطق, والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق به.

    يتبع
    .

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد 24 نوفمبر - 10:24