دارة السادة الأشراف

مرحبا بك عزيزي الزائر
ندعوك أن تدخل المنتدى معنا
وإن لم يكن لديك حساب بعد
نتشرف بدعوتك لإنشائه
ونتشرف بدعوتك لزيارة الموقع الرسمي لدارة السادة الأشراف على الرابط :
www.dartalashraf.com


انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

دارة السادة الأشراف

مرحبا بك عزيزي الزائر
ندعوك أن تدخل المنتدى معنا
وإن لم يكن لديك حساب بعد
نتشرف بدعوتك لإنشائه
ونتشرف بدعوتك لزيارة الموقع الرسمي لدارة السادة الأشراف على الرابط :
www.dartalashraf.com

دارة السادة الأشراف

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

أنساب , مشجرات , مخطوطات , وثائق , صور , تاريخ , تراجم , تعارف , دراسات وأبحاث , مواضيع متنوعة

Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 79880579.th
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 78778160
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 16476868
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 23846992
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 83744915
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 58918085
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 99905655
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 16590839.th
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Resizedk
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 20438121565191555713566

2 مشترك

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الثلاثاء 16 يونيو - 16:35

    تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :

    بسم الله الرحمن الرحيم



    انا النهردة جايبلكم موضوع روعة
    اجمل موضوع تقروه فى حياتكم علشان طبعا مافيش احسن من القرأن الكريم


    انا جايبة تفسير القرأن الكريم لابن كثير بس تفسير السور عامة مش تفسير الايات وموضوع هيفدنا كلنا وكمان هو موضوع مختصر اوىى بالنسبة لكتاب التفسير نفسه يارب يعجبكم وربنا يعلم انا تعبت فى التوبيك ده اد ايه انا كنت متوقعة انه ينزل على 100 مرة بس لقت الموضوع بقى اكتر من كدة بكتير بس الحمد لله اهو الموضوع خلص ويارب يفدكم جميعا ان شاء الله



    اى حد عايز تفسير اى سورة يدخل على التوبيك وهيلاقى ترتبها زى القرأن بالظبط



    سورة الفاتحة
    ** بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
    يقال لها الفاتحة أي فاتحة الكتاب خطاً وبها تفتتح القراءة في الصلوات, ويقال لها أيضاً أم الكتاب عند الجمهور, ذكره أنس, والحسن وابن سيرين كرها تسميتها بذلك, قال الحسن وابن سيرين إنما ذلك اللوح المحفوظ, وقال الحسن الاَيات المحكمات هن أم الكتاب ولذا كرها أيضاً أن يقال لها أم القرآن وقد ثبت في الصحيح عند الترمذي وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحمد لله رب العالمين أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني والقرآن العظيم» ويقال لها (الحمد) ويقال لها (الصلاة) لقوله صلى الله عليه وسلم عن ربه «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله: حمدني عبدي» الحديث. فسميت الفاتحة صلاة لأنها شرط فيها ويقال لها (الشفاء) لما رواه الدارمي عن أبي سعيد مرفوعاً «فاتحة الكتاب شفاء من كل سم» ويقال لها (الرقية) لحديث أبي سعيد في الصحيح حين رقى بها الرجل السليم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «وما يدريك أنها رقية» ؟ وروى الشعبي عن ابن عباس أن سماها (أساس القرآن) قال: وأساسها بسم الله الرحمن الرحيم وسماها سفيان بن عيينه (بالواقية) وسماها يحيى بن أبي كثير (الكافية) لأنها تكفي عما عداها ولا يكفي ما سواها عنها كما جاء في بعض الأحاديث المرسلة «أم القرآن عوض من غيرها وليس من غيرها عوض منها» ويقال لها سورة الصلاة والكنز, ذكرهما الزمخشري في كشافه.
    وهي مكية قاله ابن عباس وقتادة وأبو العالية, وقيل مدنية قاله أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري ويقال نزلت مرتين: مرة بمكة ومرة بالمدينة, والأول أشبه لقوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني} والله تعالى أعلم. وحكى أبو الليث السمرقندي أن نصفها نزل بمكة ونصفها الاَخر نزل بالمدينة وهو غريب جداً, نقله القرطبي عنه وهي سبع آيات بلا خلاف, وقال عمرو بن عبيد ثمان, وقال حسين الجعفي ستة, وهذان القولان ***ان وإنما اختلفوا في البسملة هل هي آية مستقلة من أولها كما هو عند جمهور قراء الكوفة وقول جماعة من الصحابة والتابعين وخلق من الخلف أو بعض آية أو لا تعد من أولها بالكلية كما هو قول أهل المدينة من القراء والفقهاء على ثلاثة أقوال كما سيأتي تقريرها في موضعه إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
    قالوا وكلماتها خمس وعشرون كلمة وحروفها مائة وثلاثة عشر حرفاً. قال البخاري في أول كتاب التفسير وسميت أم الكتاب لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف ويبدأ بقراءتها في الصلاة, وقيل: إنما سميت بذلك لرجوع معاني القرآن كله إلى ما تضمنته. قال ابن جرير: والعرب تسمي كل جامع أمرأو مقدم لأمر إذا كانت له توابع تتبعه هو لها إمام جامع: أمّاً, فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ أم الرأس ويسمون لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها أمّاً, واستشهد بقول ذي الرمة.
    على رأسه أم لنا نقتدي بهاجماع أمور ليس نعصي لها أمراً
    ـ يعني الرمح ـ قال وسميت مكة أم القرى لتقدمها أمام جميعها وجمعها ما سواها وقيل لأن الأرض دحيت منها. ويقال لها أيضاً: الفاتحة لأنها تفتتح بها القراءة وافتتحت الصحابة بها كتابة المصحف الإمام وصح تسميتها بالسبع المثاني قالوا لأنها تثنى في الصلاة فتقرأ في كل ركعة وإن كان للمثاني معنى آخر كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
    قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا ابن أبي ذئب وهاشم بن هاشم عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أم القرآن: «هي أم القرآن وهي السبع المثاني وهي القرآن العظيم» ثم رواه عن إسماعيل بن عمر عن ابن أبي ذئب به وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: حدثني يونس بن عبد الأعلى أنبأنا ابن وهب أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب وهي السبع المثاني» وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في تفسيره حدثنا أحمد بن محمد بن زياد حدثنا محمد بن غالب بن حارث, حدثنا إسحاق بن عبد الواحد الموصلي, حدثنا المعافى بن عمران عن عبد الحميد بن جعفر عن نوح بن أبي بلال عن المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحمد لله رب العالمين سبع آيات: بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن, وهي السبع المثاني والقرآن العظيم, وهي أم الكتاب, وفاتحة الكتاب» وقد رواه الدارقطني أيضاً عن أبي هريرة أنهم فسروا قوله تعالى {سبعاً من المثاني} بالفاتحة وأن البسملة هي الاَية السابعة منها وسيأتي تمام هذا عند البسملة. وقد روى الأعمش عن إبراهيم قال: قيل لابن مسعود: لمَ لم تكتب الفاتحة في مصحفك ؟ فقال: لو كتبتها لكتبتها في أول كل سورة, قال أبو بكر بن أبي داود يعني حيث يقرأ في الصلاة, قال: واكتفيت بحفظ المسلمين لها عن كتابتها وقد قيل: إن الفاتحة أول شيء أنزل من القرآن كما ورد في حديث رواه البيهقي في دلائل النبوة ونقله الباقلاني أحد أقوال ثلاثة وقيل: {ياأيها المدثر} كما في حديث جابر في الصحيح وقيل: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} وهذ هو الصحيح كما سيأتي تقريره في موضعه والله المستعان.
    ذكر ما ورد في فضل الفاتحة
    قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة حدثني خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال: كنت أصلي فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه حتى صليت, قال: فأتيته فقال: «مامنعك أن تأتيني» ؟ قال قلت: يا رسول الله إني كنت أصلي قال: ألم يقل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} ثم قال: «لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قيل أن تخرج من المسجد» قال: فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول الله إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قال: «نعم {الحمد لله رب العالمين} هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» وهكذا رواه البخاري عن مسدد وعلي بن المديني, كلاهما عن يحيى بن سعيد القطان به, ورواه في موضع آخر من التفسير, وأبو داوود والنسائي وابن ماجه من طرق عن شعبة به, ورواه الواقدي عن محمد بن معاذ الأنصاري عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى عن أبي بن كعب فذكر نحوه. وقد وقع في الموطأ للإمام مالك بن أنس رحمه الله ما ينبغي التنبيه عليه فإنه رواه مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي أن أبا سعيد مولى ابن عامر بن كريز أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب وهو يصلي في المسجد فلما فرغ من صلاته لحقه قال فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على يدي وهو يريد أن يخرج من باب المسجد ثم قال صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن لا تخرج من باب المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها» قال أبي رضي الله عنه, فجعلت أبطى في المشي رجاء ذلك ثم قلت: يا رسول الله ما السورة التي وعدتني ؟ قال: «كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة ؟ قال فقرأت عليه {الحمد لله رب العالمين} حتى أتيت على آخرها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هي هذه السورة وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيت» فأبو سعيد هذا ليس بأبي سعيد بن المعلى كما اعتقده ابن الأثير في جامع الأصول ومن تبعه فإن ابن المعلى صحابي أنصاري وهذا تابعي من موالي خزاعة وذاك الحديث متصل صحيح, وهذا ظاهره منقطع إن لم يكن سمعه أبو سعيد هذا من أبي بن كعب فإن كان قد سمعه منه فهو على شرط مسلم والله أعلم. على أنه قد روي عن أبي بن كعب من غير وجه


    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:49

    وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة, حدثنا يحيى بن المغيرة, حدثنا جرير عن أشعث عن جعفر عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} قال: ثمانية صفوف من الملائكة قال: وروي عن الشعبي وعكرمة والضحاك وابن جريج مثل ذلك, وكذا روى السدي عن أبي مالك عن ابن عباس: ثمانية صفوف, وكذا روى العوفي عنه, وقال الضحاك عن ابن عباس: الكروبيون ثمانية أجزاء كل جزء منهم بعدة الإنس والجن والشياطين والملائكة. وقوله تعالى: {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} أي تعرضون على عالم السر والنجوى الذي لا يخفى عليه شيء من أموركم بل هو عالم بالظواهر والسرائر والضمائر, ولهذا قال تعالى: {لا تخفى منكم خافية} وقد قال ابن أبي الدنيا: أخبرنا إسحاق بن إسماعيل, أخبرنا سفيان بن عيينة عن جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا, فإنه أخف عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم وتزينوا للعرض الأكبر {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية}.
    وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا علي بن رفاعة عن الحسن عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات, فأما عرضتان فجدال ومعاذير, وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله» ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع به وقد رواه الترمذي عن أبي كريب عن علي بن علي بن الحسن عن أبي هريرة به, وقد روى ابن جرير عن مجاهد بن موسى عن يزيد بن سليمان بن حيان عن مروان الأصغر عن أبي وائل عن عبد الله قال: يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات: عرضتان معاذير وخصومات, والعرضة الثالثة تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله, ورواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلاً مثله.


    ** فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ * إِنّي ظَنَنتُ أَنّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رّاضِيَةٍ * فِي جَنّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيّامِ الْخَالِيَةِ
    يخبر تعالى عن سعادة من يؤتى كتابه يوم القيامة بيمينه وفرحه بذلك, وأنه من شدة فرحه يقول لكل من لقيه {هاؤم اقرءوا كتابيه} أي خذوا اقرءا كتابيه لأنه يعلم أن الذي فيه خير وحسنات محضة, لأنه ممن بدل الله سيئاته حسنات. قال عبد الرحمن بن زيد: معنى {هاؤم اقرءوا كتابيه} أي هااقرءوا كتابيه وؤم زائدة كذا قال, والظاهر أنها بمعنى هاكم.
    وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا بشر بن مطر الواسطي, حدثنا يزيد بن هارون, أخبرنا عاصم الأحول عن أبي عثمان قال: المؤمن يعطى كتابه بيمينه في ستر من الله فيقرأ سيئاته, فكلما قرأ سيئة تغير لونه حتى يمر بحسناته فيقرؤها فيرجع إليه لونه, ثم ينظر فإذا سيئاته قد بدلت حسنات, قال: فعند ذلك يقول: هاؤم اقرءوا كتابيه. وحدثنا أبي, حدثنا إبراهيم بن الوليد بن سلمة, حدثنا روح بن عبادة, حدثنا موسى بن عبيدة, أخبرني عبد الله بن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة قال: إن الله يوقف عبده يوم القيامة فيبدي أي يظهر سيئاته في ظهر صحيفته فيقول له أنت عملت هذا, فيقول نعم أي رب, فيقول له إني لم أفضحك به وإني قد غفرت لك فيقول عند ذلك هاؤم اقرءوا كتابيه {إني ظننت أني ملاق حسابيه} حين نجا من فضيحته يوم القيامة
    وقد تقدم في الصحيح حديث ابن عمر حين سئل عن النجوى فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يدني الله العبد يوم القيامة فيقرره بذنوبه كلها حتى إذا رأى أنه قد هلك قال الله تعالى إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم, ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه, وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين» وقوله تعالى: {إني ظننت أني ملاق حسابيه} أي قد كنت موقناً في الدنيا أن هذا اليوم كائن لا محالة كما قال تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم} قال الله تعالى: {فهو في عيشة راضية} أي مرضية {في جنة عالية} أي رفيعة قصورها, حسان حورها, نعيمة دورها, دائم حبورها.
    قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو عتبة الحسن بن علي بن مسلم السكوني, حدثنا إسماعيل بن عياش عن سعيد بن يوسف عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلام الأسود قال: سمعت أبا أمامة قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل يتزاور أهل الجنة ؟ قال «نعم إنه ليهبط أهل الدرجة العليا إلى أهل الدرجة السفلى فيحيونهم ويسلمون عليهم, ولا يستطيع أهل الدرجة السفلى يصعدون إلى الأعلين تقصر بهم أعمالهم». وقد ثبت في الصحيح «إن الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض». وقوله تعالى: {قطوفها دانية} قال البراء بن عازب: أي قريبة يتناولها أحدهم وهو نائم على سريره, وكذا قال غير واحد.
    قال الطبراني عن عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن عطاء بن يسار عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل أحد الجنة إلا بجواز: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله لفلان بن فلان أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية» وكذا رواه الضياء في صفة الجنة من طريق سعدان بن سعيد عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي, عن سلمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يعطى المؤمن جوازاً على الصراط: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لفلان أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية» وقوله تعالى: {كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية} أي يقال لهم ذلك تفضلاً عليهم وامتناناً وإنعاماً وإحساناً, وإلا فقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اعملوا وسددوا وقاربوا واعلموا أن أحداً منكم لن يدخله عمله الجنة» قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل».


    ** وَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَلَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَآ أَغْنَىَ عَنّي مَالِيَهْ * هّلَكَ عَنّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلّوهُ * ثُمّ الْجَحِيمَ صَلّوهُ * ثُمّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ الْعَظِيمِ * وَلاَ يَحُضّ عَلَىَ طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ * وَلاَ طَعَامٌ إِلاّ مِنْ غِسْلِينٍ * لاّ يَأْكُلُهُ إِلاّ الْخَاطِئُونَ
    وهذا إخبار عن حال الأشقياء إذا أعطي أحدهم كتابه في العرصات بشماله, فحينئذ يندم غاية الندم {فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه * ولم أدر ما حسابيه * يا ليتها كانت القاضية} قال الضحاك: يعني موتة لاحياة بعدها, وكذا قال محمد بن كعب والربيع والسدي, وقال قتادة: تمنى الموت ولم يكن شيء في الدنيا أكره إليه منه {ما أغنى عني ماليه * هلك عني سلطانيه} أي لم يدفع عني مالي ولا جاهي عذاب الله وبأسه, بل خلص الأمر إلي وحدي فلا معين لي ولا مجير, فعندها يقول الله عز وجل: {خذوه فغلوه * ثم الجحيم صلوه} أي يأمر الزبانية أن تأخذه عنفاً من المحشر فتغله أي تضع الأغلال في عنقه ثم تورده إلى جهنم فتصليه إياها أي تغمره فيها. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو خالد عن عمرو بن قيس عن المنهال بن عمرو قال: إذا قال الله تعالى خذوه ابتدره سبعون ألف ملك, إن الملك منهم ليقول هكذا فيلقي سبعين ألفاً في النار. وروى ابن أبي الدنيا في الأهوال أنه يبتدره أربعمائة ألف ولا يبقى شيء إلا دقه, فيقول: ما لي ولك ؟ فيقول: إن الرب عليك غضبان فكل شيء غضبان عليك, وقال الفضيل بن عياض: إذا قال الرب عز وجل خذوه فغلوه ابتدره سبعون ألف ملك أيهم يجعل الغل في عنقه {ثم الجحيم صلوه} أي اغمروه فيها.
    وقوله تعالى: {ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه} قال كعب الأحبار: كل حلقة منها قدر حديد الدنيا, وقال العوفي عن ابن عباس وابن جريج: بذراع الملك, وقال ابن جريج: قال ابن عباس {فاسلكوه} تدخل في أسته ثم تخرج من فيه ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود حين يشوى. وقال العوفي عن ابن عباس: يسلك في دبره حتى يخرج من منخريه حتى لا يقوم على رجليه. وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق, أخبرنا عبد الله, أخبرنا سعيد بن يزيد عن أبي السمح عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن رصاصة مثل هذه ـ وأشار إلى جمجمة ـ أرسلت من السماء إلى الأرض, وهي مسيرة خمسمائة سنة, لبلغت الأرض قبل الليل ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن تبلغ قعرها أو أصلها» وأخرجه الترمذي عن سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك به, وقال: هذا حديث حسن.
    وقوله تعالى: {إنه كان لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحض على طعام المسكين} أي لا يقوم بحق الله عليه من طاعته وعبادته ولا ينفع خلقه ويؤدي حقهم, فإن لله على العباد أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً, وللعباد بعضهم على بعض حق الإحسان والمعاونة على البر والتقوى, ولهذا أمر الله بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة, وقبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» وقوله تعالى: {فليس له اليوم ههنا حميم * ولا طعام إلا من غسلين * لا يأكله إلا الخاطئون} أي ليس له اليوم من ينقذه من عذاب الله تعالى لا حميم وهو القريب, ولا شفيع يطاع, ولا طعام له ههنا إلا من غسلين, قال قتادة: هو شر طعام أهل النار. وقال الربيع والضحاك: هو شجرة في جهنم, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا منصور بن أبي مزاحم, حدثنا أبو سعيد المؤدب عن خصيف عن مجاهد عن ابن عباس قال: ما أدري ما الغسلين ولكني أظنه الزقوم. وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس قال: الغسلين الدم والماء يسيل من لحومهم. وقال علي بن أبي طلحة عنه: الغسلين صديد أهل النار.

    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:50

    ** فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ * إِنّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مّا تَذَكّرُونَ * تَنزِيلٌ مّن رّبّ الْعَالَمِينَ
    يقول تعالى مقسماً لخلقه بما يشاهدونه من آياته في مخلوقاته الدالة على كماله في أسمائه وصفاته, وما غاب عنهم مما لا يشاهدونه من المغيبات عنهم: إن القرآن كلامه ووحيه وتنزيله على عبده ورسوله الذي اصطفاه لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة فقال تعالى: {فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون * إنه لقول رسول كريم} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم, أضافه إليه على معنى التبليغ, لأن الرسول من شأنه أن يبلغ عن المرسل ولهذا أضافه في سورة التكوير إلى الرسول الملكي {إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين} وهذا جبريل عليه السلام, ثم قال تعالى: {وما صاحبكم بمجنون} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم {ولقد رآه بالأفق المبين} يعني أن محمداً رأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها {وما هو على الغيب بضنين} أي بمتهم.
    {وما هو بقول شيطان رجيم} وهكذا قال ههنا {وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون} فأضافه الله تارة إلى قول الرسول الملكي وتارة إلى الرسول البشري, لأن كلاً منهما مبلغ عن الله ما استأمنه عليه من وحيه وكلامه, ولهذا قال تعالى: {تنزيل من رب العالمين} قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة, حدثنا صفوان, حدثنا شريح بن عبيد قال: قال عمر بن الخطاب: خرجت أتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أسلم, فوجدته قد سبقني إلى المسجد فقمت خلفه فاستفتح سورة الحاقة, فجعلت أعجب من تأليف القرآن قال: فقلت هذا والله شاعر كما قالت قريش, قال: فقرأ {إنه لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون} قال: فقلت كاهن, قال: فقرأ {ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين * ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين} إلى آخر السورة قال: فوقع الإسلام في قلبي كل موضع, فهذا من جملة الأسباب التي جعلها الله تعالى مؤثرة في هداية عمر بن الخطاب رضي الله عنه, كما أوردنا كيفية إسلامه في سيرته المفردة, ولله الحمد والمنة.


    ** وَلَوْ تَقَوّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ * لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُمْ مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ * وَإِنّهُ لَتَذْكِرَةٌ لّلْمُتّقِينَ * وَإِنّا لَنَعْلَمُ أَنّ مِنكُمْ مّكَذّبِينَ * وَإِنّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ * وَإِنّهُ لَحَقّ الْيَقِينِ * فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ
    يقول تعالى: {ولو تقول علينا} أي محمد صلى الله عليه وسلم لو كان كما يزعمون مفترياً علينا فزاد في الرسالة أو نقص منها, أو قال شيئاً من عنده فنسبه إلينا وليس كذلك لعاجلناه بالعقوبة, ولهذا قال تعالى: {لأخذنا منه باليمين} قيل: معناه لانتقمنا منه باليمين لأنها أشد في البطش, وقيل لأخذنا منه بيمينه {ثم لقطعنا منه الوتين} قال ابن عباس: وهو نياط القلب وهو العرق الذي القلب معلق فيه, وكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير والحكم وقتادة والضحاك, ومسلم البطين وأبو صخر حميد بن زياد, وقال محمد بن كعب هو القلب ومراقه وما يليه. وقوله تعالى: {فما منكم من أحد عنه حاجزين} أي فما يقدر أحد منكم أن يحجز بيننا وبينه إذا أردنا به شيئاً من ذلك. والمعنى في هذا بل هو صادق بار راشد لأن الله عز وجل مقرر له ما يبلغه عنه ومؤيد له بالمعجزات الباهرات والدلالات القاطعات.
    ثم قال تعالى: {وإنه لتذكرة للمتقين} يعني القرآن كما قال تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى} ثم قال تعالى: {وإنا لنعلم أن منكم مكذبين} أي مع هذا البيان والوضوح سيوجد منكم من يكذب بالقرآن. ثم قال تعالى: {وإنه لحسرة على الكافرين} قال ابن جرير: وإن التكذيب لحسرة على الكافرين يوم القيامة. وحكاه عن قتادة بمثله, وروى ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك {وإنه لحسرة على الكافرين} يقول لندامة, ويحتمل عود الضمير على القرآن, أي وإن القرآن والإيمان به لحسرة في نفس الأمر على الكافرين كما قال تعالى: {كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به} وقال تعالى: {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} ولهذا قال ههنا {وإنه لحق اليقين} أي الخبر الصادق الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ولا ريب, ثم قال تعالى: {فسبح باسم ربك العظيم} أي الذي أنزل هذا القرآن العظيم. آخر تفسير سورة الحاقة ولله الحمد والمنة)

    تمت سورة الحاقة
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:50

    سورة المعارج
    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

    ** سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مّنَ اللّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً * إِنّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً
    {سأل سائل بعذاب واقع} فيه تضمين دل عليه حرف الباء كأنه مقدر استعجل سائل بعذاب واقع كقوله تعالى: {ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده} أي وعذابه واقع لا محالة. قال النسائي: حدثنا بشر بن خالد, حدثنا أبو أسامة حدثنا سفيان عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {سأل سائل بعذاب واقع} قال النضر بن الحارث بن كلدة وقال العوفي عن ابن عباس {سأل سائل بعذاب واقع} قال: «ذلك سؤال الكفار عن عذاب الله» وهو واقع بهم, وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {سأل سائل} دعا داع بعذاب واقع يقع في الاَخرة قال وهو قولهم {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} وقال ابن زيد وغيره {سأل سائل بعذاب واقع} أي واد في جهنم يسيل يوم القيامة بالعذاب وهذا القول ضعيف بعيد عن المراد, والصحيح الأول لدلالة السياق عليه.
    وقوله تعالى: {واقع للكافرين} أي مرصد معد للكافرين, وقال ابن عباس: واقع جاء {ليس له دافع} أي لا دافع له إذا أراد الله كونه ولهذا قال تعالى: {من الله ذي المعارج} قال الثوري عن الأعمش عن رجل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {ذي المعارج} قال: ذو الدرجات, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ذي المعارج يعني العلو والفواضل, وقال مجاهد: ذي المعارج معارج السماء, وقال قتادة: ذي الفواضل والنعم. وقوله تعالى: {تعرج الملائكة والروح إليه} قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة تعرج تصعد, وأما الروح فقال أبو صالح: هم خلق من خلق الله يشبهون الناس وليسوا ناساً, قلت ويحتمل أن يكون المراد به جبريل ويكون من باب عطف الخاص على العام, ويحتمل أن يكون اسم جنس لأرواح بني آدم فإنها إذا قبضت يصعد بها إلى السماء كما دل عليه حديث البراء, وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث المنهال عن زاذان عن البراء مرفوعاً الحديث بطوله في قبض الروح الطيبة قال فيه: «فلا يزال يصعد بها من سماء إلى سماء حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله» والله أعلم بصحته, فقد تكلم في بعض رواته ولكنه مشهور, وله شاهد في حديث أبي هريرة فيما تقدم من رواية الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من طريق ابن أبي ذئب, عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عنه, وهذا إسناد رجاله على شرط الجماعة, وقد بسطنا لفظه عند قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاَخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء}.
    وقوله تعالى: {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} فيه أربعة أقوال: ]أحدها[ أن المراد بذلك مسافة ما بين العرش العظيم إلى أسفل السافلين, وهو قرار الأرض السابعة وذلك مسيرة خمسين ألف سنة, هذا ارتفاع العرش عن المركز الذي في وسط الأرض السابعة, وكذلك اتساع العرش من قطر إلى قطر مسيرة خمسين ألف سنة, وإنه من ياقوتة حمراء كما ذكره ابن أبي شيبة في كتاب صفة العرش. وقد قال ابن أبي حاتم عند هذه الاَية: حدثنا أحمد بن سلمة حدثنا إسحاق بن إبراهيم, أخبرنا حكام عن عمر بن معروف عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى: {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} قال: منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق السموات خمسين ألف سنة {وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} يعني بذلك حين ينزل الأمر من السماء إلى الأرض, ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد, فذلك مقداره ألف سنة لأن ما بين السماء والأرض مقدار مسيرة خمسمائة عام وقد رواه ابن جرير عن ابن حميد عن حكام بن سالم عن عمرو بن معروف عن ليث عن مجاهد قوله, لم يذكر ابن عباس وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا إسحاق بن منصور, حدثنا نوح المؤدب عن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس قال: غلظ كل أرض خمسمائة عام, وبين كل أرض إلى أرض خمسمائة عام, فذلك سبعة آلاف عام, وغلظ كل سماء خمسمائة عام وبين السماء إلى السماء خمسمائة عام, فذلك أربعة ألف عام, وبين السماء السابعة وبين العرش مسيرة ستة وثلاثين ألف عام, فذلك قوله تعالى: {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة}.
    (القول الثاني) أن المراد بذلك مدة بقاء الدنيا منذ خلق الله هذا العالم إلى قيام الساعة, قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, أخبرنا إبراهيم بن موسى, أخبرنا ابن أبي زائدة عن ابن جريج عن مجاهد في قوله تعالى: {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} قال: الدنيا عمرها خمسون ألف سنة, وذلك عمرها يوم سماها الله عز وجل يوماً {تعرج الملائكة والروح إليه في يوم} قال: اليوم الدنيا, وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن الحكم بن أبان عن عكرمة {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} قال: الدنيا من أولها إلى آخرها مقدار خمسين ألف سنة لا يدري أحد كم مضى ولا كم بقي إلا الله عز وجل.
    (القول الثالث) أنه اليوم الفاصل بين الدنيا والاَخرة وهو قول غريب جداً. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان, حدثنا بهلول بن المورق, حدثنا موسى بن عبيدة, أخبرني محمد بن كعب {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} قال: هو يوم الفصل بين الدنيا والاَخرة.
    (القول الرابع) أن المراد بذلك يوم القيامة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي, حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} قال: يوم القيامة وإسناده صحيح ورواه الثوري عن سماك بن حرب عن عكرمة في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة يوم القيامة وكذا قال الضحاك وابن زيد. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} قال: هو يوم القيامة جعله الله تعالى على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة وقد وردت أحاديث في معنى ذلك. قال الإمام أحمد: حدثنا الحسن بن موسى, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} ما أطول هذا اليوم, فقال رسول الله: «والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا» ورواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن دراج به, إلا أن دراجاً وشيخه أبا الهيثم ضعيفان والله أعلم.
    وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن قتادة عن أبي عمر العداني قال: كنت عند أبي هريرة فمر رجل من بني عامر بن صعصعة فقيل له هذا أكثر عامري مالاً, فقال أبو هريرة, ردوه إلي فردوه فقال: نبئت أنك ذو مال كثير. فقال العامري: إي والله إن لي لمائة حمراً ومائة أدماً حتى عد من ألوان الإبل وأفنان الرقيق ورباط الخيل, فقال أبو هريرة: إياك وأخفاف الإبل وأظلاف النعم, يردد ذلك عليه حتى جعل لون العامري يتغير فقال: ما ذاك يا أبا هريرة ؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كانت له إبل لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها» قلنا: يا رسول الله ما نجدتها ورسلها ؟ قال: «في عسرها ويسرها فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره, ثم يبطح لها بقاع قرقر فتطؤه بأخفافها فإذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة, حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله, وإذا كانت له بقر لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها, فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره, ثم يبطح لها بقاع قرقر فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها وتنطحه كل ذات قرن بقرنها, ليس فيها عقصاء ولا عضباء, إذا جاوزته أخراها أعيدها عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله, وإذا كانت له غنم لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأسمنه وآشره حتى يبطح لها بقاع قرقر فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها وتنطحه كل ذات قرن بقرنها, ليس فيها عقصاء ولا عضباء إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة, حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله» فقال العامري: وما حق الإبل يا أبا هريرة ؟ قال: أن تعطي الكريمة وتمنح وتفقر الظهر وتسقي الإبل وتطرق الفحل وقد رواه أبو داود من حديث شعبة والنسائي من حديث سعيد بن أبي عروبة كلاهما عن قتادة به.
    (طريق أخرى لهذا الحديث) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو كامل, حدثنا حماد عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه إلا جعل صفائح يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جبهته وجنبه وظهره, حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون, ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار» وذكر بقية الحديث في الغنم والإبل كما تقدم, وفيه: «الخيل لثلاثة: لرجل أجر, ولرجل ستر, وعلى رجل وزر» إلى آخره ورواه مسلم في صحيحه بتمامه منفرداً به دون البخاري من حديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة وموضع استقصاء طرقه وألفاظه في كتاب الزكاة من كتاب الأحكام, والغرض من إيراده ههنا قوله: «حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة» وقد روى ابن جرير عن يعقوب عن ابن علية وعبد الوهاب عن أيوب عن ابن أبي مليكة قال: سأل رجل ابن عباس عن قوله {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} فقال: ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة قال فاتهمه, فقال: إنما سألتك لتحدثني, قال, هما يومان ذكرهما الله, والله أعلم بهما وأكره أن أقول في كتاب الله بما لا أعلم.

    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:51

    وقوله تعالى: {فاصبر صبراجميلاً} أي اصبر يا محمد على تكذيب قومك لك واستعجالهم العذاب استبعاداً لوقوعه كقوله: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق} ولهذا قال: {إنهم يرونه بعيداً} أي وقوع العذاب. وقيام الساعة يراه الكفرة بعيد الوقوع بمعنى مستحيل الوقوع {ونراه قريباً} أي المؤمنون يعتقدون كونه قريباً, , وإن كان له أمد لا يعلمه إلا الله عز وجل, لكن كل ما هوآت فهو قريب وواقع لا محالة.


    ** يَوْمَ تَكُونُ السّمَآءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً * يُبَصّرُونَهُمْ يَوَدّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَن فِي الأرْضِ جَمِيعاً ثُمّ يُنجِيهِ * كَلاّ إِنّهَا لَظَىَ * نَزّاعَةً لّلشّوَىَ * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلّىَ * وَجَمَعَ فَأَوْعَىَ
    يقول تعالى العذاب واقع بالكافرين: {يوم تكون السماء كالمهل} قال ابن عباس ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي وغير واحد: أي كدردي الزيت {وتكون الجبال كالعهن} أي كالصوف المنفوش, قاله مجاهد وقتادة و السدي, وهذه الاَية كقوله تعالى: {وتكون الجبال كالعهن المنفوش} وقوله تعالى: {ولا يسأل حميم حميماً يبصرونهم} أي لا يسأل القريب قريبه عن حاله وهو يراه في أسوأ الأحوال فتشغله نفسه عن غيره, قال العوفي عن ابن عباس: يعرف بعضهم بعضاً ويتعارفون بينهم ثم يفر بعضهم من بعض بعد ذلك يقول الله تعالى: {لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه} وهذه الاَية الكريمة كقوله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً إن وعد الله حق} وكقوله تعالى: {وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى} وكقوله تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} وكقوله تعالى: {يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه} وقوله تعالى: {يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه * وصاحبته وأخيه * وفصيلته التي تؤويه * ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه * كلا} أي لا يقبل منه فداء ولو جاء بأهل الأرض وبأعز ما يجده من المال ولو بملء الأرض ذهباً, أو من ولده الذي كان في الدنيا حشاشة كبده يود يوم القيامة إذا رأى الأهوال أن يفتدي من عذاب الله به ولا يقبل منه.
    قال مجاهد والسدي {فصيلته} قبيلته وعشيرته, وقال عكرمة: فخذه الذي هومنهم, وقال أشهب عن مالك: فصيلته: أمه, وقوله تعالى: {إنها لظى} يصف النار وشدة حرها {نزاعة للشوى} قال ابن عباس ومجاهد: جلدة الرأس, وقال العوفي عن ابن عباس {نزاعة الشوى} الجلود والهام, وقال مجاهد: ما دون العظم من اللحم, وقال سعيد بن جبير: للعصب والعقب. وقال أبو صالح {نزاعة للشوى} يعني أطراف اليدين والرجلين, وقال أيضاً {نزاعة للشوى} لحم الساقين, وقال الحسن البصري وثابت البناني {نزاعة للشوى} أي مكارم وجهه, وقال الحسن أيضاً: تحرق كل شيء فيه ويبقى فؤاده يصيح. وقال قتادة {نزاعة للشوى} أي نزاعة لهامته ومكارم وجهه وخلقه وأطرافه. وقال الضحاك: تبري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك منه شيئاً, وقال ابن زيد: الشوى الاَراب العظام, فقوله نزاعة قال: تقطع عظامهم ثم تبدل جلودهم وخلقهم.
    وقوله تعالى: {تدعو من أدبر وتولى * وجمع فأوعى} أي تدعو النار إليها أبناءها الذين خلقهم الله لها, وقدر لهم أنهم في الدار الدنيا يعملون عملها, فتدعوهم يوم القيامة بلسان اطلق ذلق ثم تلتقطهم من بين أهل المحشر كما يلتقط الطير الحب, وذلك أنهم كما قال الله عز وجل: كانوا ممن أدبر وتولى أي كذب بقلبه وترك العمل بجوارحه {وجمع فأوعى} أي جمع المال بعضه على بعض فأوعاه أي أوكاه ومنع حق الله منه من الواجب عليه في النفقات ومن إخراج الزكاة, وقد ورد في الحديث «لا توعي فيوعي الله عليك» وكان عبد الله بن عكيم لا يربط له كيساً ويقول: سمعت الله يقول: {وجمع فأوعى} وقال الحسن البصري: يا ابن آدم سمعت وعيد الله ثم أوعيت الدنيا. وقال قتادة في قوله: {وجمع فأوعى} قال: كان جموعاً قموماً للخبيث.


    ** إِنّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسّهُ الشّرّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاّ الْمُصَلّينَ * الّذِينَ هُمْ عَلَىَ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ * وَالّذِينَ فِيَ أَمْوَالِهِمْ حَقّ مّعْلُومٌ * لّلسّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالّذِينَ يُصَدّقُونَ بِيَوْمِ الدّينِ * وَالّذِينَ هُم مّنْ عَذَابِ رَبّهِم مّشْفِقُونَ * إِنّ عَذَابَ رَبّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاّ عَلَىَ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَأِنّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَىَ وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ * وَالّذِينَ هُمْ عَلَىَ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَـَئِكَ فِي جَنّاتٍ مّكْرَمُونَ
    يقول تعالى مخبراً عن الإنسان وما هو مجبول عليه من الأخلاق الدنيئة {إن الإنسان خلق هلوعاً} ثم فسره بقوله: {إذا مسه الشر جزوعاً} أي إذا مسه الضر فزع وجزع وانخلع قلبه من شدة الرعب, وأيس أن يحصل له بعد ذلك خير {وإذا مسه الخير منوعاً} أي إذا حصلت له نعمة من الله بخل بها على غيره, ومنع حق الله تعالى فيها. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن, حدثنا موسى بن علي بن رباح, سمعت أبي يحدث عن عبد العزيز بن مروان بن الحكم قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شر ما في رجل: شح هالع وجبن خالع» ورواه أبو داود عن عبد الله بن الجراح عن أبي عبد الرحمن المقري به وليس لعبد العزيز عنده سواه ثم قال تعالى: {إلا المصلين} أي الإنسان من حيث هو متصف بصفات الذم, إلا من عصمه الله ووفقه وهداه إلى الخير ويسر له أسبابه وهم المصلون.
    {الذين هم على صلاتهم دائمون} قيل: معناه يحافظون على أوقاتها وواجباتها, قاله ابن مسعود ومسروق وإبراهيم النخعي, وقيل: المراد بالدوام ههنا السكون والخشوع كقوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} قاله عقبة بن عامر: ومنه الماء الدائم وهو الساكن الراكد, وهذا يدل على وجوب الطمأنينة في الصلاة فإن الذي لا يطمئن في ركوعه وسجوده ليس بدائم على صلاته, لأنه لم يسكن فيها ولم يدم بل ينقرها نقر الغراب فلا يفلح في صلاته, وقيل: المراد بذلك الذين إذا عملوا عملاً داوموا عليه وأثبتوه كما جاء في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل» وفي لفظ «ما دام عليه صاحبه» قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً داوم عليه, وفي لفظ أثبته, وقال قتادة في قوله تعالى: {الذين هم على صلاتهم دائمون} ذكر لنا أن دانيال عليه السلام نعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقال: يصلون صلاة لو صلاّها قوم نوح ما غرقوا, أو قوم عاد ما أرسلت عليهم الريح العقيم, أو ثمود ما أخذتهم الصيحة, فعليكم بالصلاة فإنها خلق للمؤمنين حسن.
    وقوله تعالى: {والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم} أي في أموالهم نصيب مقرر لذوي الحاجات, وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الذاريات. وقوله تعالى: {والذين يصدقون بيوم الدين} أي يوقنون بالمعاد والحساب والجزاء فهم يعملون عمل من يرجو الثواب ويخاف العقاب. ولهذا قال تعالى: {والذين هم من عذاب ربهم مشفقون} أي خائفون وجلون {إن عذاب ربهم غير مأمون} أي لا يأمنه أحد ممن عقل عن الله أمره إلا بأمان من الله تبارك وتعالى. وقوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون} أي يكفونها عن الحرام ويمنعونها أن توضع في غير ما أذن الله فيه ولهذا قال تعالى: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} أي من الإماء {فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} وقد تقدم تفسير هذا في أول سورة {قد أفلح المؤمنون} بما أغنى عن إعادته ههنا. وقوله تعالى: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} أي إذا اؤتمنوا لم يخونوا, وإذا عاهدوا لم يغدروا, وهذه صفات المؤمنين وضدها صفات المنافقين كما ورد في الحديث الصحيح «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان» وفي رواية «إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر, وإذا خاصم فجر» وقوله تعالى: {والذين هم بشهاداتهم قائمون} أي محافظون عليها لا يزيدون فيها ولا ينقصون منها ولا يكتمونها {ومن يكتمها فإنه آثم قلبه}.
    ثم قال تعالى: {والذين هم على صلاتهم يحافظون} أي على مواقيتها وأركانها وواجباتها ومستحباتها, فافتتح الكلام بذكر الصلاة واختتمه بذكرها فدل على الاعتناء بها والتنويه بشرفها كما تقدم في أول سورة {قد أفلح المؤمنون} سواء ولهذا قال هناك: {أولئك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون} وقال ههنا: {أولئك في جنات مكرمون} أي مكرمون بأنواع الملاذ والمسار.


    ** فَمَالِ الّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ عِزِينَ * أَيَطْمَعُ كُلّ امْرِىءٍ مّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنّةَ نَعِيمٍ * كَلاّ إِنّا خَلَقْنَاهُم مّمّا يَعْلَمُونَ * فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنّا لَقَادِرُونَ * عَلَىَ أَن نّبَدّلَ خَيْراً مّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتّىَ يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الّذِي يُوعَدُونَ * يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنّهُمْ إِلَىَ نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ
    يقول تعالى منكراً على الكفار الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهم مشاهدون له ولما أرسله الله به من الهدى وما أيده الله به من المعجزات الباهرات, ثم هم مع هذاكله فارون منه متفرقون عنه, شاردون يميناً وشمالاً فرقاً فرقاً, وشيعاً شيعاً, كما قال تعالى: {فما لهم عن التذكرة معرضين * كأنهم حمر مستنفرة * فرت من قسورة} الاَية. وهذه مثلها فإنه قال تعالى: {فما للذين كفروا قبلك مهطعين} أي فما لهؤلاء الكفار الذين عندك يا محمد مهطعين أي مسرعين نافرين منك, كما قال الحسن البصري: مهطعين أي منطلقين {عن اليمين وعن الشمال عزين} واحدها عزة أي متفرقين, وهو حال من مهطعين أي في حال تفرقهم واختلافهم كما قال الإمام أحمد في أهل الأهواء فهم مخالفون للكتاب مختلفون في الكتاب متفقون على مخالفة الكتاب وقال العوفي عن ابن عباس {فما للذين كفروا قبلك مهطعين}, قال قبلك ينظرون {عن اليمين وعن الشمال عزين} قال: العزين العصب من الناس عن يمين وشمال معرضين يستهزئون به, وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا أبو عامر, حدثنا قرة عن الحسن في قوله: {عن اليمين وعن الشمال عزين} أي متفرقين يأخذون يميناً وشمالاً يقولون: ما قال هذا الرجل ؟
    وقال قتادة {مهطعين} عامدين {عن اليمين وعن الشمال عزين} أي فرقاً حول النبي صلى الله عليه وسلم لا يرغبون في كتاب الله ولا في نبيه صلى الله عليه وسلم وقال الثوري وشعبة وعبثر بن القاسم وعيسى بن يونس ومحمد بن فضيل ووكيع ويحيى القطان وأبو معاوية, كلهم عن الأعمش, عن المسيب بن رافع, عن تميم بن طرفة, عن جابر بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهم حلق فقال: «ما لي أراكم عزين ؟» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن جرير من حديث الأعمش به, وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا مؤمل, حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم حلق فقال: «ما لي أراكم عزين ؟» وهذا إسناده جيد ولم أره في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه.
    وقوله تعالى: {أيطمع كل امرىء منهم أن يدخل جنة نعيم * كلا} أي: أيطمع هؤلاء والحالة هذه من فرارهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفارهم عن الحق أن يدخلوا جنات النعيم ؟ كلا بل مأواهم جهنم. ثم قال تعالى مقرراً لوقوع المعاد والعذاب بهم الذي أنكروا كونه واستبعدوا وجوده مستدلاً عليهم بالبداءة التي الإعادة أهون منها, وهم معترفون بها, فقال تعالى: {إنا خلقناهم مما يعلمون} أي من المني الضعيف, كما قال تعالى: {ألم نخلقكم من ماء مهين} وقال: {فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب * إنه على رجعه لقادر * يوم تبلى السرائر * فما له من قوة ولا ناصر} ثم قال تعالى: {فلا أقسم برب المشارق والمغارب} أي الذي خلق السموات والأرض وجعل مشرقاً ومغرباً وسخر الكواكب تبدو من مشارقها وتغيب في مغاربها. وتقدير الكلام ليس الأمر كما تزعمون أن لا معاد ولا حساب ولا بعث ولا نشور, بل كل ذلك واقع وكائن لا محالة, ولهذا أتى بلا في ابتداء القسم ليدل على أن المقسم عليه نفي, وهو مضمون الكلام وهو الرد على زعمهم الفاسد في نفي يوم القيامة. وقد شاهدوا من عظيم قدرة الله تعالى ما هو أبلغ من إقامة القيامة, وهو خلق السموات والأرض وتسخير ما فيهما من المخلوقات من الحيوانات والجمادات وسائر صنوف الموجودات, ولهذا قال تعالى: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.
    وقال تعالى: {أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى ؟ بلى إنه على كل شيء قدير} وقال تعالى في الاَية الأخرى: {أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ؟ بلى وهو الخلاق العليم * إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} وقال ههنا: {فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيراً منهم} أي يوم القيامة نعيدهم بأبدان خير من هذه فإن قدرته صالحة لذلك {وما نحن بمسبوقين} أي بعاجزين كما قال تعالى: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه * بلى قادرين على أن نسوي بنانه} وقال تعالى: {نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون} واختار ابن جرير {على أن نبدل خيراً منهم} أي: أمة تطيعنا ولا تعصينا وجعلها كقوله: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} والمعنى الأول أظهر لدلالة الاَيات الأخر عليه والله سبحانه وتعالى أعلم.
    ثم قال تعالى: {فذرهم} أي يا محمد {يخوضوا ويلعبوا} أي دعهم في تكذيبهم وكفرهم وعنادهم {حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون} أي فسيعلمون غب ذلك ويذوقون وباله {يوم يخرجون من الأجداث سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون} أي: يقومون من القبور إذا دعاهم الرب تبارك وتعالى لموقف الحساب ينهضون سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون, قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: إلى علم يسعون, وقال أبو العالية ويحيى بن أبي كثير إلى غاية يسعون إليها, وقد قرأ الجمهور إلى نصب بفتح النون وإسكان الصاد وهو مصدر بمعنى المنصوب, وقرأ الحسن البصري نصب بضم النون والصاد وهو الصنم أي كأنهم في إسراعهم إلى الموقف كما كانوا في الدنيا يهرولون إلى النصب إذا عاينوه, يوفضون يبتدرون أيهم يستلمه أول. وهذا مروي عن مجاهد ويحيى بن أبي كثير ومسلم البطين وقتادة والضحاك والربيع بن أنس وأبي صالح وعاصم بن بهدلة وابن زيد وغيرهم, وقوله تعالى: {خاشعة أبصارهم} أي خاضعة {ترهقهم ذلة} أي في مقابلة ما استكبروا في الدنيا عن الطاعة {ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون}. آخر تفسير سورة سأل سائل, ولله الحمد والمنة.

    تمت سورة المعارج
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:55

    سورة نوح
    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

    ** إِنّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىَ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَقَوْمِ إِنّي لَكُمْ نَذِيرٌ مّبِينٌ * أَنِ اعبُدُواْ اللّهَ وَاتّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخّرْكُمْ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى إِنّ أَجَلَ اللّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
    يقول تعالى مخبراً عن نوح عليه السلام أنه أرسله إلى قومه آمراً له أن ينذرهم بأس الله قبل حلوله بهم, فإن تابوا وأنابوا رفع عنهم. ولهذا قال تعالى. {أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم * قال يا قوم إني لكم نذير مبين} أي بين النذارة ظاهر الأمر واضحه, {أن اعبدوا الله واتقوه}, أي اتركوا محارمه واجتنبوا مآثمه {وأطيعون} فيما آمركم به وأنهاكم عنه {يغفر لكم من ذنوبكم} أي إذا فعلتم ما آمركم به وصدقتم ما أرسلت به إليكم غفر الله لكم ذنوبكم, ومن ههنا قيل إنها زائدة ولكن القول بزيادتها في الإثبات قليل, ومنه قول بعض العرب: قد كان من مطر, وقيل إنها بمعنى عن تقديره يصفح لكم عن ذنوبكم, واختاره ابن جرير: وقيل: إنها للتبعيض, أي يغفر لكم الذنوب العظيمة التي وعدكم على ارتكابكم إياها الانتقام {ويؤخركم إلى أجل مسمى} أي يمد في أعماركم ويدرأ عنكم العذاب الذي إن لم تجتنبوا ما نهاكم عنه أوقعه بكم, وقد يستدل بهذه الاَية من يقول إن الطاعة والبر وصلة الرحم يزاد بها في العمر حقيقة كما ورد به الحديث: «صلة الرحم تزيد في العمر» وقوله تعالى: {إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون} أي بادروا بالطاعة قبل حلول النقمة فإنه إذا أمر تعالى بكون ذلك لا يرد ولا يمانع, فإنه العظيم الذي قد قهر كل شيء, العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات.


    ** قَالَ رَبّ إِنّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيَ إِلاّ فِرَاراً * وَإِنّي كُلّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوَاْ أَصَابِعَهُمْ فِيَ آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً * ثُمّ إِنّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمّ إِنّيَ أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبّكُمْ إِنّهُ كَانَ غَفّاراً * يُرْسِلِ السّمَآءَ عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لّكُمْ جَنّاتٍ وَيَجْعَل لّكُمْ أَنْهَاراً * مّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً * أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ اللّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنّ نُوراً وَجَعَلَ الشّمْسَ سِرَاجاً * وَاللّهُ أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرْضِ نَبَاتاً * ثُمّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً * وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِسَاطاً * لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً
    يخبر تعالى عن عبده ورسوله نوح عليه السلام أنه اشتكى إلى ربه عز وجل ما لقي من قومه, وما صبر عليهم في تلك المدة الطويلة التي هي ألف سنة إلا خمسين عاماً, وما بين لقومه ووضح لهم ودعاهم إلى الرشد والسبيل الأقوم, فقال : {رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً} أي لم أترك دعاءهم في ليل ولا نهار امتثالاً لأمرك وابتغاء لطاعتك {فلم يزدهم دعائي إلا فراراً} أي كلما دعوتهم ليقتربوا من الحق فروا منه وحادوا عنه {وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم} أي سدوا آذانهم لئلا يسمعوا ما أدعوهم إليه كما)أخبر تعالى عن كفار قريش: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} {واستغشوا ثيابهم} قال ابن جرير عن ابن عباس: تنكروا له لئلا يعرفهم. وقال سعيد بن جبير والسدي: غطوا رؤوسهم لئلا يسمعوا ما يقول {وأصروا} أي استمروا على ما هم فيه من الشرك والكفر العظيم الفظيع {واستكبروا استكباراً} أي واستنكفوا عن اتباع الحق والانقياد له {ثم إني دعوتهم جهاراً} أي جهرة بين الناس {ثم إني أعلنت لهم} أي كلاماً ظاهراً بصوت عال {وأسررت لهم إسراراً} أي فيما بيني وبينهم, فنوع عليهم الدعوة لتكون أنجع فيهم.
    {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً} أي ارجعوا إليه وارجعوا عما أنتم فيه وتوبوا إليه من قريب فإنه من تاب إليه تاب عليه, ولو كانت ذنوبه مهما كانت في الكفر والشرك, ولهذا قال: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً * يرسل السماء عليكم مدراراً} أي متواصلة الأمطار, ولهذا تستحب قراءة هذه السورة في صلاة الاستسقاء لأجل هذه الاَية, وهكذا روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه صعد المنبر ليستسقي فلم يزد على الاستغفار وقراءة الاَيات في الاستغفار ومنها هذه الاَية {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً * يرسل السماء عليكم مدراراً} ثم قال: لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر. وقال ابن عباس وغيره: يتبع بعضه بعضاً. وقوله تعالى: {ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً} أي إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه كثر الرزق عليكم أسقاكم من بركات السماء, وأنبت لكم من بركات الأرض وأنبت لكم الزرع, وأدر لكم الضرع وأمدكم بأموال وبنين أي أعطاكم الأموال والأولاد وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار وخللها بالأنهار الجارية بينها, هذا مقام الدعوة بالترغيب, ثم عدل بهم إلى دعوتهم بالترهيب فقال: {ما لكم لا ترجون لله وقاراً ؟} أي عظمة, قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك, وقال ابن عباس: لا تعظمون الله حق عظمتة أي لا تخافون من بأسه ونقمته {وقد خلقكم أطواراً} قيل معناه من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة, قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة ويحيى بن رافع والسدي وابن زيد.
    وقوله تعالى: {ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقاً ؟} أي واحدة فوق واحدة وهل هذا يتلقى من جهة السمع فقط ؟ أوهو من الأمور المدركة بالحس مما علم من التسيير والكسوفات, فإن الكواكب السبعة السيارة يكسف بعضها بعضاً فأدناها القمر في السماء الدنيا, وهو يكسف ما فوقه, وعطارد في الثانية, والزهرة في الثالثة, والشمس في الرابعة, والمريخ في الخامسة, والمشتري في السادسة, وزحل في السابعة, وأما بقية الكواكب وهي الثوابت ففي فلك ثامن يسمونه فلك الثوابت, والمتشرعون منهم يقولون هو الكرسي, والفلك التاسع وهو الأطلس والأثير عندهم الذي حركته على خلاف حركة سائر الأفلاك, وذلك أن حركته مبدأ الحركات وهي من المغرب إلى المشرق, وسائر الأفلاك عكسه من المشرق إلى المغرب ومعها يدور سائر الكواكب تبعاً ولكن للسيارة حركة معاكسة لحركة أفلاكها فإنها تسير من المغرب إلى المشرق, وكل يقطع فلكه بحسبه, فالقمر يقطع فلكه في كل شهر مرة, والشمس في كل سنة مرة, وزحل في كل ثلاثين سنة مرة, وذلك بحسب اتساع أفلاكها وإن كانت حركة الجميع في السرعة متناسبة, هذا ملخص ما يقولونه في هذا المقام على اختلاف بينهم في مواضع كثيرة لسنا بصدد بيانها وإنما المقصود أن الله سبحانه وتعالى: {خلق سبع سموات طباقاً * وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً} أي فاوت بينهما في الاستنارة فجعل كلاً منهما أنموذجاً على حدة ليعرف الليل والنهار بمطلع الشمس ومغيبها, وقدر للقمر منازل وبروجاً وفاوت نوره فتارة يزداد حتى يتناهى ثم يشرع في النقص حتى يستتر ليدل على مضي الشهور والأعوام, كما قال تعالى: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الاَيات لقوم يعلمون}.
    وقوله تعالى: {والله أنبتكم من الأرض نباتاً} هذا اسم مصدر والإتيان به ههنا أحسن {ثم يعيدكم فيها} أي إذا متم {ويخرجكم إخراجاً} أي يوم القيامة يعيدكم كما بدأكم أول مرة {والله جعل لكم الأرض بساطاً} أي بسطها ومهدها وقررها وثبتها بالجبال الراسيات الشم الشامخات {لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً} أي خلقها لكم لتستقروا عليها وتسلكوا فيها أين شئتم من نواحيها وأرجائها وأقطارها, وكل هذا مما ينبههم به نوح عليه السلام على قدرة الله وعظمته في خلق السموات والأرض ونعمه عليهم فيما جعل لهم من المنافع السماوية والأرضية, فهو الخالق الرزاق جعل السماء بناء والأرض مهاداً وأوسع على خلقه من رزقه, فهو الذي يجب أن يعبد ويوحد ولا يشرك به أحد لأنه لا نظير له ولا عديل ولا ند ولا كفء, ولا صاحبة ولا ولد ولا وزير ولا مشير بل هو العلي الكبير

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:55

    ** قَالَ نُوحٌ رّبّ إِنّهُمْ عَصَوْنِي وَاتّبَعُواْ مَن لّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاّ خَسَاراً * وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبّاراً * وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْ أَضَلّواْ كَثِيراً وَلاَ تَزِدِ الظّالِمِينَ إِلاّ ضَلاَلاً
    يقول تعالى مخبراً عن نوح عليه السلام إنه أنهى إليه, وهو العليم الذي لا يعزب عنه شيء, أنه من البيان المتقدم ذكره والدعوة المتنوعة المشتملة على الترغيب تارة والترهيب أخرى أنهم عصوه وخالفوه وكذبوه, واتبعوا أبناء الدنيا ممن غفل عن أمر الله ومتع بمال وأولاد وهي في نفس الأمر استدراج وإنظار لا إكرام ولهذا قال: {واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً} قرىء وولده بالضم وبالفتح وكلاهما متقارب. وقوله تعالى: {ومكروا مكراً كباراً} قال مجاهد: كباراً أي عظيماً, وقال ابن زيد: كباراً أي كبيراً والعرب تقول أمر عجيب وعجاب وعجّاب, ورجل حسان وحسّان وجمال وجمّال بالتخفيف والتشديد بمعنى واحد, والمعنى في قوله تعالى: {ومكروا مكراً كباراً} أي بأتباعهم في تسويلهم لهم أنهم على الحق والهدى كما يقولون لهم يوم القيامة {بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً} ولهذا قال ههنا: {ومكروا مكراً كباراً * وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً} وهذه أسماء أصنامهم التي كانوا يعبدونها من دون الله.
    قال البخاري: حدثنا إبراهيم, حدثنا هشام عن ابن جريج, وقال عطاء عن ابن عباس: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد: أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل, وأما سواع فكانت لهذيل, وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ, وأما يعوق فكانت لهمدان, وأما نسر فكانت لحمير لاَل ذي كلاع وهي أسماء رجال صالحين من قوم نوح عليه السلام, فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت, وكذا روي عن عكرمة والضحاك وقتادة وابن إسحاق نحو هذا, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هذه أصنام كانت تعبد في زمن نوح. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس {ولا يغوث ويعوق ونسراً} قال: كانوا قوماً صالحين بين آدم ونوح وكان لهم أتباع يقتدون بهم, فلما ماتواقال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم, فصوروهم فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم.
    وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة شيث عليه السلام من طريق إسحاق بن بشر قال: أخبرني جويبر ومقاتل عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال: ولد لاَدم عليه السلام أربعون ولداً, عشرون غلاماً وعشرون جارية, فكان ممن عاش منهم هابيل وقابيل وصالح وعبد الرحمن الذي سماه عبد الحارث, وود وكان ود يقال له شيث ويقال له هبة الله, وكان إخوته قد سودوه, وولد له سواع ويغوث ويعوق ونسر. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو عمرو الدوري, حدثني أبو إسماعيل المؤدب عن عبد الله بن مسلم بن هرمز عن أبي حزرة عن عروة بن الزبير قال: اشتكى آدم عليه السلام وعنده بنوه ود ويغوث وسواع ونسر قال وكان ود أكبرهم وأبرهم به وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور, حدثنا الحسن بن موسى, حدثنا يعقوب عن أبي المطهر قال: ذكرواعند أبي جعفر وهو قائم يصلي يزيد بن المهلب, قال: فلما انفتل من صلاته قال: ذكرتم يزيد بن المهلب أما إنه قتل في أول أرض عبد فيها غير الله, قال: ثم ذكروا رجلاً مسلماً وكان محبباً في قومه فلما مات اعتكفوا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه, فلما رأى إبليس جزعهم عليه تشبه في صورة إنسان, ثم قال إني أرى جزعكم على هذا الرجل فهل لكم أن أصور لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه ؟ قالوا نعم, فصور لهم مثله, قال: ووضعوه في ناديهم وجعلوا يذكرونه, فلما رأى ما بهم من ذكره قال: هل لكم أن أجعل في منزل كل رجل منكم تمثالاً مثله فيكون له في بيته فتذكرونه ؟ قالوا: نعم, قال: فمثل لكل أهل بيت تمثالاً مثله, فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به, قال: وأدرك أبناؤهم فجعلوا يرون ما يصنعون به, قال: وتناسلوا ودرس أمر ذكرهم إياه حتى اتخذه إلهاً يعبدونه من دون الله أولاد أولادهم, فكان أول ما عبد من دون الله: الصنم الذي سموه وداً.
    وقوله تعالى: {وقد أضلوا كثيراً} يعني الأصنام التي اتخذوها أضلوا بها خلقاً كثيراً, فإنه استمرت عبادتها في القرون إلى زماننا هذا في العرب والعجم وسائر صنوف بني آدم, وقد قال الخليل عليه السلام في دعائه {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام * رب إنهن أضللن كثيراً من الناس} وقوله تعالى: {ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً} دعاء منه على قومه لتمردهم وكفرهم وعنادهم كما دعا موسى على فرعون وملئه في قوله: {ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} وقد استجاب الله لكل من النبيين في قومه وأغرق أمته بتكذيبهم لما جاءهم به.


    ** مّمّا خَطِيَئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مّن دُونِ اللّهِ أَنصَاراً * وَقَالَ نُوحٌ رّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيّاراً * إِنّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوَاْ إِلاّ فَاجِراً كَفّاراً * رّبّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ الظّالِمِينَ إِلاّ تَبَاراً
    يقول تعالى: {مما خطيئاتهم} وقرىء خطاياهم {أغرقوا} أي من كثرة ذنوبهم وعتوهم وإصرارهم على كفرهم ومخالفتهم رسولهم {أغرقوا فأدخلوا ناراً} أي نقلوا من تيار البحار إلى حرارة النار {فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً} أي لم يكن لهم معين ولا مغيث ولا مجير ينقذهم من عذاب الله كقوله تعالى: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} {وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً} أي لا تترك على وجه الأرض منهم أحداً ولا دياراً وهذه من صيغ تأكيد النفي, قال الضحاك: دياراً واحداً, وقال السدي: الديار الذي يسكن الدار, فاستجاب الله له فأهلك جميع من على وجه الأرض من الكافرين حتى ولد نوح لصلبه الذي اعتزل عن أبيه, وقال: {سآوي إلى جبل يعصمني من الماء, قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين} وقال ابن أبي حاتم: قرأ علي يونس بن عبد الأعلى, أخبرنا ابن وهب, أخبرني شبيب بن سعيد عن أبي الجوزاء عن ابن عباس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو رحم الله من قوم نوح أحداً لرحم امرأة لما رأت الماء حملت ولدها ثم صعدت الجبل, فلما بلغها الماء صعدت به منكبها فلما بلغ الماء منكبها وضعت ولدها على رأسها, فلما بلغ الماء رأسها رفعت ولدها بيدها, فلو رحم الله منهم أحداً لرحم هذه المرأة» هذا حديث غريب ورجاله ثقات, ونجى الله أصحاب السفينة الذين آمنوا مع نوح عليه السلام وهم الذين أمره الله بحملهم معه.
    وقوله تعالى: {إنك إن تذرهم يضلوا عبادك} أي إنك إن أبقيت منهم أحداً أضلوا عبادك, أي الذين تخلقهم بعدهم {ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً} أي فاجراً في الأعمال كافر القلب وذلك لخبرته بهم ومكثه بين أظهرهم ألف سنة إلا خمسين عاماً, ثم قال: {رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً} قال الضحاك: يعني مسجدي, ولا مانع من حمل الاَية على ظاهرها وهو أنه دعا لكل من دخل منزله وهو مؤمن, وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن, حدثنا حيوة أنبأنا سالم ين غيلان أن الوليد بن قيس, أخبره أنه سمع أبا سعيد الخدري أو عن أبي الهيثم, عن أبي سعيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تصحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي» ورواه أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن المبارك عن حيوة بن شريح به, ثم قال الترمذي: إنما نعرفه من هذا الوجه. وقوله تعالى: {وللمؤمنين والمؤمنات} دعاء لجميع المؤمنين والمؤمنات وذلك يعم الأحياء منهم والأموات, ولهذا يستحب مثل هذا الدعاء اقتداء بنوح عليه السلام وبما جاء في الاَثار والأدعية المشهورة المشروعة, وقوله تعالى: {ولا تزد الظالمين إلا تباراً} قال السدي: إلا هلاكاً, وقال مجاهد: إلا خساراً أي في الدنيا والاَخرة. آخر تفسير سورة نوح عليه السلام ولله الحمد والمنة.

    تمت سورة نوح
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:56

    سورة الجن
    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

    ** قُلْ أُوحِيَ إِلَيّ أَنّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ الْجِنّ فَقَالُوَاْ إِنّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِيَ إِلَى الرّشْدِ فَآمَنّا بِهِ وَلَن نّشرِكَ بِرَبّنَآ أَحَداً * وَأَنّهُ تَعَالَىَ جَدّ رَبّنَا مَا اتّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً * وَأَنّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللّهِ شَطَطاً * وَأَنّا ظَنَنّآ أَن لّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنّ عَلَى اللّهِ كَذِباً * وَأَنّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الْجِنّ فَزَادوهُمْ رَهَقاً * وَأَنّهُمْ ظَنّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لّن يَبْعَثَ اللّهُ أَحَداً
    يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر قومه أن الجن استمعوا القرآن, فآمنوا به وصدقوه وانقادوا له, فقال تعالى: {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً * يهدي إلى الرشد} أي إلى السداد والنجاح {فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً} وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن} وقد قدمنا الأحاديث الواردة في ذلك بما أغنى عن إعادته ههنا.
    وقوله تعالى: {وأنه تعالى جد ربنا} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {جد ربنا} أي فعله وأمره وقدرته. وقال الضحاك عن ابن عباس: جد الله آلاؤه وقدرته ونعمته على خلقه, وروي عن مجاهد وعكرمة: جلال ربنا, وقال قتادة: تعالى جلاله وعظمته وأمره, وقال السدي: تعالى أمر ربنا: وعن أبي الدرداء ومجاهد أيضاً وابن جريج: تعالى ذكره وقال سعيد بن جبير: {تعالى جد ربنا} أي تعالى ربنا, فأما ما رواه ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرى, حدثنا سفيان عن عمرو, عن عطاء, عن ابن عباس, قال: الجد أب ولو علمت الجن أن في الإنس جداً ما قالوا تعالى جد ربنا, فهذا إسناد جيد ولكن لست أفهم ما معنى هذا الكلام ولعله قد سقط شيء والله أعلم.
    وقوله تعالى: {ما اتخذ صاحبة ولا ولداً} أي تعالى عن اتخاذ الصاحبة والأولاد, أي قالت الجن: تنزه الرب جل جلاله حين أسلموا وآمنوا بالقرآن عن اتخاذ الصاحبة والولد ثم قالوا {وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططاً} قال مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي {سفيهنا} يعنون إبليس {شططاً} قال السدي عن أبي مالك: {شططاً} أي جوراً, وقال ابن زيد: أي ظلماً كبيراً ويحتمل أن يكون المراد بقولهم سفيهنا اسم جنس لكل من زعم أن لله صاحبة أو ولداً, ولهذا قالوا {وأنه كان يقول سفيهنا} أي قبل إسلامه {على الله شططاً} أي باطلاً وزوراً, ولهذا قالوا {وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً} أي ما حسبنا أن الإنس والجن يتمالؤون على الكذب على الله تعالى في نسبة الصاحبة والولد إليه, فلما سمعنا هذا القرآن وآمنا به علمنا أنهم كانوا يكذبون على الله في ذلك.
    وقوله تعالى: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً} أي كنا نرى أن لنا فضلاً على الإنس لأنهم كانوا يعوذون بنا إذا نزلوا وادياً أو مكاناً موحشاً من البراري وغيرها, كما كانت عادة العرب في جاهليتها يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان أن يصيبهم بشيء يسوؤهم, كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل كبير وذمامه وخفارته, فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم زادوهم رهقاً أي خوفاً وإرهاباً وذعراً حتى بقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذاً بهم, كما قال قتادة {فزادوهم رهقاً} أي إثماً وازدادت الجن عليهم جراءة. وقال السدي: كان الرجل يخرج بأهله فيأتي الأرض فينزلها فيقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من الجن أن أضر أنا فيه أو مالي أو ولدي أو ماشيتي, قال قتادة: فإذا عاذ بهم من دون الله رهقتهم الجن الأذى عند ذلك.
    وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا فروة بن أبي المغراء الكندي, حدثنا القاسم بن مالك ـ يعني المزني ـ عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبيه عن كردم بن أبي السائب الأنصاري قال: خرجت مع أبي من المدينة في حاجة وذلك أول ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة, فآوانا المبيت إلى راعي غنم, فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملاً من الغنم فوثب الراعي فقال: يا عامر الوادي جارك, فنادى مناد لا نراه يقول: يا سرحان أرسله. فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة. وأنزل الله تعالى على رسوله بمكة {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً} ثم قال: وروي عن عبيد بن عمير ومجاهد وأبي العالية والحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي نحوه وقد يكون هذا الذئب الذي أخذ الحمل, وهو ولد الشاة, كان جنياً حتى يرهب الإنسي ويخاف منه, ثم رده عليه لما استجار به ليضله ويهينه ويخرجه عن دينه والله أعلم. وقوله تعالى: {وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً} أي لن يبعث الله بعد هذه المدة رسولاً, قاله الكلبي وابن جرير.


    ** وَأَنّا لَمَسْنَا السّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنّا كُنّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الاَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رّصَداً * وَأَنّا لاَ نَدْرِيَ أَشَرّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبّهُمْ رَشَداً
    يخبر تعالى عن الجن حين بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن, وكان من حفظه له أن السماء ملئت حرساً شديداً وحفت من سائر أرجائها, وطردت الشياطين عن مقاعدها التي كانت تقعد فيها قبل ذلك لئلا يسترقوا شيئاً من القرآن, فيلقوه على ألسنة الكهنة فيلتبس الأمر ويختلط ولا يدرى من الصادق, وهذا من لطف الله تعالى بخلقه, ورحمته بعباده, وحفظه لكتابه العزيز, ولهذا قال الجن {وأنا كنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً * وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الاَن يجد له شهاباً رصداً} أي من يروم أن يسترق السمع يجد له شهاباً مرصداً له لا يتخطاه ولا يتعداه بل يمحقه اليوم ويهلكه. {وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً} أي ما ندري هذا الأمر الذي قد حدث في السماء, لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً, وهذا من أدبهم في العبارة حيث أسندوا الشر إلى غير فاعل والخير أضافوه إلى الله عز وجل.
    وقد ورد في الصحيح «والشر ليس إليك» وقد كانت الكواكب يرمى بها قبل ذلك, ولكن ليس بكثير بل في الأحيان بعد الأحيان, كما في حديث ابن عباس: بينما نحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رمي بنجم فاستنار فقال: «ما كنتم تقولون في هذا ؟» فقلنا: كنا نقول يولد عظيم, يموت عظيم فقال: «ليس كذلك, ولكن الله إذا قضى الأمر في السماء» وذكر تمام الحديث وقد أوردناه في سورة سبأ بتمامه, وهذا هو السبب الذي حملهم على تطلب السبب في ذلك فأخذوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها, فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بأصحابه في الصلاة, فعرفوا أن هذا هو الذي حفظت من أجله السماء, فآمن من آمن منهم وتمرد في طغيانه من بقي كما تقدم حديث ابن عباس في ذلك عند قوله في سورة الأحقاف: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن} الاَية.
    ولا شك أنه لما حدث هذا الأمر, وهو كثرة الشهب في السماء والرمي بها, هال ذلك الإنس والجن وانزعجوا له وارتاعوا لذلك, وظنوا أن ذلك لخراب العالم, كما قال السدي: لم تكن السماء تحرس إلا أن يكون في الأرض نبي أو دين لله ظاهر, فكانت الشياطين قبل محمد صلى الله عليه وسلم قد اتخذت المقاعد في السماء الدنيا, يستمعون ما يحدث في السماء من أمر, فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم نبياً رسولاً رجموا ليلة من الليالي ففزع لذلك أهل الطائف فقالوا: هلك أهل السماء لما رأوا من شدة النار في السماء واختلاف الشهب, فجعلوا يعتقون أرقاءهم ويسيبون مواشيهم, فقال لهم عبد ياليل بن عمير: ويحكم يا معشر أهل الطائف أمسكوا عن أموالكم وانظروا إلى معالم النجوم, فإن رأيتموها مستقرة في أمكنتها فلم يهلك أهل السماء, إنما هذا من أجل ابن أبي كبشة يعني محمداً صلى الله عليه وسلم, وإن نظرتم فلم تروها فقد هلك أهل السماء, فنظروا فرأوها فكفوا عن أقوالهم وفزعت الشياطين في تلك الليلة, فأتوا إبليس فحدثوه بالذي كان من أمرهم فقال: ائتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها, فأتوه فشم فقال: صاحبكم بمكة, فبعث سبعة نفر من جن نصيبين فقدموا مكة فوجدوا نبي الله صلى الله عليه وسلم قائماً يصلي في المسجد الحرام يقرأ القرآن, فدنوا منه حرصاً على القرآن حتى كادت كلاكلهم تصيبه, ثم أسلموا فأنزل الله تعالى أمرهم على رسوله صلى الله عليه وسلم, وقد ذكرنا هذا الفصل مستقصى في أول البعث من (كتاب السيرة) المطول, والله أعلم, ولله الحمد والمنة.

    ** وَأَنّا مِنّا الصّالِحُونَ وَمِنّا دُونَ ذَلِكَ كُنّا طَرَآئِقَ قِدَداً * وَأَنّا ظَنَنّآ أَن لّن نّعْجِزَ اللّهَ فِي الأرْضِ وَلَن نّعْجِزَهُ هَرَباً * وَأَنّا لَمّا سَمِعْنَا الْهُدَىَ آمَنّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً * وَأَنّا مِنّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـَئِكَ تَحَرّوْاْ رَشَداً * وَأَمّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنّمَ حَطَباً * وَأَلّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُم مّآءً غَدَقاً * لّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً
    يقول تعالى مخبراً عن الجن أنهم قالوا مخبرين عن أنفسهم {وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك} أي غير ذلك {كنا طرائق قدداً} أي طرائق متعددة مختلفة وآراء متفرقة, قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد {كنا طرائق قدداً} أي منا المؤمن ومنا الكافر. وقال أحمد بن سليمان النجاد في أماليه: حدثنا أسلم بن سهل بحشل, حدثنا علي بن الحسن بن سليمان وهو أبو الشعثاء الحضرمي شيخ مسلم, حدثنا أبو معاوية قال: سمعت الأعمش يقول تروح إلينا جني فقلت له: ما أحب الطعام إليكم ؟ فقال الأرز, قال: فأتيناهم به فجعلت أرى اللقم ترفع ولا أرى أحداً, فقلت فيكم من هذه الأهواء التي فينا ؟ قال: نعم فقلت فما الرافضة فيكم ؟ قال: شرنا. عرضت هذا الإسناد على شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزني فقال هذا إسناد صحيح إلى الأعمش, وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة العباس بن أحمد الدمشقي قال: سمعت بعض الجن وأنا في منزل لي بالليل ينشد:
    قلوب براها الحب حتى تعلقتمذاهبها في كل غرب وشارق
    تهيم بحب الله والله ربهامعلقة بالله دون الخلائق

    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:57

    وقوله تعالى: {وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هرباً} أي نعلم أن قدرة الله حاكمة علينا وأنا لا نعجزه في الأرض, ولو أمعنا في الهرب فإنه علينا قادر لا يعجزه أحد منا {وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به} يفتخرون بذلك وهو مفخر لهم وشرف رفيع وصفة حسنة, وقولهم {فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً} قال ابن عباس وقتادة وغيرهما: فلا يخاف أن ينقص من حسناته أو يحمل عليه غير سيئاته كما قال تعالى: {فلا يخاف ظلماً ولا هضماً} {وأنّا منا المسلمون ومنا القاسطون} أي منا المسلم ومنا القاسط, وهو الجائر عن الحق الناكب عنه, بخلاف المقسط فإنه العادل {فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً} أي طلبوا لأنفسهم النجاة {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً} أي وقوداً تسعر بهم.
    وقوله تعالى: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً * لنفتنهم فيه} اختلف المفسرون في معنى هذا على قولين: (أحدهما) وأن لو استقام القاسطون على طريقة الإسلام وعدلوا إليها واستمروا عليها {لأسقيناهم ماء غدقاً} أي كثيراً, والمراد بذلك سعة الرزق, كقوله تعالى: {ولو أنهم أقاموا التوارة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} وكقوله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} وعلى هذا يكون معنى قوله: {لنفتنهم فيه} أي لنختبرهم, كما قال مالك عن زيد بن أسلم: لنفتنهم لنبتليهم من يستمر على الهداية ممن يرتد إلى الغواية.
    (ذكر من قال بهذا القول) قال العوفي عن ابن عباس: {وأن لو استقاموا على الطريقة} يعني بالاستقامة الطاعة, وقال مجاهد {وأن لو استقاموا على الطريقة} قال: الإسلام وكذا قال سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وعطاء والسدي ومحمد بن كعب القرظي, وقال قتادة {وأن لو استقاموا على الطريقة} يقول: لو آمنوا كلهم لأوسعنا عليهم من الدنيا وقال مجاهد: {وأن لو استقاموا على الطريقة} أي: طريقة الحق, وكذا قال الضحاك واستشهد على ذلك بالاَيتين اللتين ذكرناهما, وكل هؤلاء أو أكثرهم قالوا في قوله: {لنفتنهم فيه} أي لنبتليهم به. وقال مقاتل: نزلت في كفار قريش حين منعوا المطر سبع سنين.
    (والقول الثاني) {وأن لو استقاموا على الطريقة} الضلال {لأسقيناهم ماء غدقاً} أي لأوسعنا عليهم الرزق استدراجاً, كما قال تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} وكقوله: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون} وهذا قول أبي مجلز لاحق بن حميد, فإنه قال في قوله تعالى: {وأن لو استقاموا على الطريقة} أي طريقة الضلالة, رواه ابن جرير وابن أبي حاتم, وحكاه البغوي عن الربيع بن أنس وزيد بن أسلم والكلبي وابن كيسان وله اتجاه, ويتأيد بقوله لنفتنهم فيه. وقوله: {ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذاباً صعداً} أي عذاباً مشقاً شديداً موجعاً مؤلماً, قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة وابن زيد: {عذاباً صعداً} أي مشقة لا راحة معها, وعن ابن عباس: جبل في جهنم, وعن سعيد بن جبير: بئر فيها.

    ** وَأَنّ الْمَسَاجِدَ لِلّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللّهِ أَحَداً * وَأَنّهُ لّمَا قَامَ عَبْدُ اللّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً * قُلْ إِنّمَآ أَدْعُو رَبّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً * قُلْ إِنّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً * قُلْ إِنّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً * إِلاّ بَلاَغاً مّنَ اللّهِ وَرِسَالاَتِهِ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنّ لَهُ نَارَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً * حَتّىَ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلّ عَدَداً
    يقول تعالى آمراً عباده أن يوحدوه في محال عبادته ولا يدعى معه أحد ولا يشرك به, كما قال قتادة في قوله تعالى: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً} قال: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله, فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يوحدوه وحده. وقال ابن أبي حاتم: ذكر علي بن الحسين, حدثنا إسماعيل بن بنت السدي, أخبرنا رجل سماه عن السدي, عن أبي مالك أو أبي صالح, عن ابن عباس في قوله: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً} قال: لم يكن يوم نزلت هذه الاَية في الأرض مسجد إلا المسجد الحرام ومسجد إيليا بيت المقدس. وقال الأعمش: قالت الجن: يا رسول الله ائذن لنا فنشهد معك الصلوات في مسجدك, فأنزل الله تعالى: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً} يقول: صلوا لا تخالطوا الناس. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا مهران, حدثنا سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد عن محمود عن سعيد بن جبير {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً} قال: قالت الجن لنبي الله صلى الله عليه وسلم كيف لنا أن نأتي المسجد ونحن ناؤون ؟ أي بعيدون عنك, وكيف نشهد الصلاة ونحن ناؤون عنك ؟ فنزلت {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً}.
    وقال سفيان عن خصيف عن عكرمة: نزلت في المساجد كلها, وقال سعيد بن جبير: نزلت في أعضاء السجود, أي هي لله فلا تسجدوا بها لغيره. وذكروا عند هذا القول الحديث الصحيح من رواية عبد الله بن طاوس عن أبيه, عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة ـ أشار بيده إلى أنفه ـ واليدين والركبتين وأطراف القدمين», وقوله تعالى: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً} قال العوفي عن ابن عابس يقول لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه يتلو القرآن ودنوا منه, فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول فجعل يقرئه {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن} يستمعون القرآن هذا قول, وهو مروي عن الزبير بن العوام رضي الله عنه, وقال ابن جرير: حدثني محمد بن معمر, حدثنا أبو مسلم عن أبي عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال الجن لقومهم: {لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً} قال: لما رأوه يصلي وأصحابه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده, قال: عجبوا من طواعية أصحابه له قال: فقالوا لقومهم {لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً} وهذا قول ثان وهو مروي عن سعيد بن جبير أيضاً, وقال الحسن: لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا إله إلا الله ويدعو الناس إلى ربهم كادت العرب تلبد عليه جميعاً.
    وقال قتادة في قوله: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً} قال: تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه, فأبى الله إلا أن ينصره ويمضيه ويظهره على من ناوأه, وهذا قول ثالث وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقول ابن زيد, وهو اختيار ابن جرير وهو الأظهر لقوله بعده: {قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحداً} أي قال لهم الرسول لما آذوه وخالفوه وكذبوه وتظاهروا عليه ليبطلوا ما جاء به من الحق واجتمعوا على عداوته {إنما أدعوا ربي} أي إنما أعبد ربي وحده لا شريك له وأستجير به وأتوكل عليه {ولا أشرك به أحداً وقوله تعالى: {قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً} أي إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي وعبد من عباد الله ليس إلي من الأمر شيء في هدايتكم ولا غوايتكم, بل المرجع في ذلك كله إلى الله عز وجل, ثم أخبر عن نفسه أيضاً أنه لا يجيره من الله أحد أي لو عصيته فإنه لا يقدر أحد على إنقاذي من عذابه {ولن أجد من دونه)ملتحداً} قال مجاهد وقتادة والسدي: لا ملجأ. وقال قتادة أيضاً {قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً} أي لا نصير ولا ملجأ وفي رواية: لا ولي ولا موئل.
    وقوله تعالى: {إلا بلاغاً من الله ورسالاته} قال بعضهم هو مستثنى من قوله: {قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً إلا بلاغاً} ويحتمل أن يكون استثناء من قوله: {لن يجيرني من الله أحد} أي لا يجيرني منه ويخلصني إلا إبلاغي الرسالة التي أوجب أداءها علي, كما قال تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} وقوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً} أي أناأبلغكم رسالة الله فمن يعص بعد ذلك فله جزاءً على ذلك نار جهنم, خالدين فيها أبداً أي لا محيد لهم عنها ولا خروج لهم منها. وقوله تعالى: {حتى إذ رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقل عدداً} أي حتى إذا رأى هؤلاء المشركون من الجن والإنس ما يوعدون يوم القيامة, فسيعلمون يومئذمن أضعف ناصراً وأقل عدداً, هم أم المؤمنون الموحدون لله تعالى, أي بل المشركون لا ناصر لهم بالكلية وهم أقل عدداً من جنود الله عز وجل.

    ** قُلْ إِنْ أَدْرِيَ أَقَرِيبٌ مّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّيَ أَمَداً * عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىَ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضَىَ مِن رّسُولٍ فَإِنّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىَ كُلّ شَيْءٍ عَدَداً
    يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس إنه لا علم له بوقت الساعة ولا يدري أقريب وقتها أم بعيد {قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمداً} أي مدة طويلة, وفي هذه الاَية الكريمة دليل على أن الحديث الذي يتداوله كثير من الجهلة من أنه عليه الصلاة والسلام لا يؤلف تحت الأرض كذب لا أصل له, ولم نره في شيء من الكتب, وقد كان صلى الله عليه وسلم يسأل عن وقت الساعة فلا يجيب عنها, ولما تبدى له جبريل في صورة أعرابي كان فيما سأله أن قال: يا محمد فأخبرني عن الساعة ؟ قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» ولما ناداه ذلك الأعرابي بصوت جهوري فقال: يا محمد متى الساعة ؟ قال: «ويحك إنها كائنة فما أعددت لها ؟» قال: أما إني لم أعد لها كثير صلاة ولا صيام ولكني أحب الله ورسوله قال: «فأنت مع من أحببت» قال أنس: فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث.
    وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن مضاء, حدثنا محمد بن حمير, حدثني أبو بكر بن أبي مريم عن عطاء بن أبي رباح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى, والذي نفسي بيده إنما توعدون لاَت». وقد قال أبو داود في آخر كتاب الملاحم: حدثنا موسى بن سهل, حدثنا حجاج بن إبراهيم, حدثنا ابن وهب, حدثني معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير عن أبيه عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن تعجز الله هذه الأمة من نصف يوم» انفرد به أبو داود ثم قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عثمان, حدثنا أبو المغيرة, حدثني صفوان عن شريح بن عبيد عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني لأرجو أن لا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم» قيل لسعد: وكم نصف يوم ؟ قال: خمسمائة عام. انفرد به أبو داود.
    وقوله تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً * إلا من ارتضى من رسول} هذه كقوله تعالى: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} وهكذا قال ههنا إنه يعلم الغيب والشهادة وأنه لا يطلع أحد من خلقه على شيء من علمه إلا مما أطلعه تعالى عليه, ولهذا قال: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً * إلا من ارتضى من رسول} وهذا يعم الرسول الملكي والبشري. ثم قال تعالى: {فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً} أي يخصه بمزيد معقبات من الملائكة يحفظونه من أمر الله ويساوقونه على ما معه من وحي الله, ولهذا قال: {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً} وقد اختلف المفسرون في الضمير الذي في قوله: {ليعلم} إلى من يعود ؟ فقيل إنه عائد على النبي صلى الله عليه وسلم, وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب القمي عن جعفر عن سعيد بن جبير في قوله: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً} قال: أربعة حفظة من الملائكة مع جبريل {ليعلم} محمد صلى الله عليه وسلم {أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً} ورواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي به. وهكذا رواه الضحاك والسدي ويزيد بن أبي حبيب.
    وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم} قال: ليعلم نبي الله أن الرسل قد بلّغت عن الله وأن الملائكة حفظتها ودفعت عنها, وكذا رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة واختاره ابن جرير, وقيل غير ذلك كما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله: {إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً} قال: هي معقبات من الملائكة يحفظون النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان حتى يتبين الذي أرسل به إليهم, وذلك حين يقول ليعلم أهل الشرك أن قد أبلغوا رسالات ربهم. وكذا قال ابن أبي نجيح عن مجاهد {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم} قال: ليعلم من كذب الرسل أن قد أبلغوا رسالات ربهم, وفي هذا نظر. وقال البغوي: قرأ يعقوب {ليعلم} بالضم أي ليعلم الناس أن الرسل قد أبلغوا. ويحتمل أن يكون الضمير عائداً إلى الله عز وجل, وهو قول حكاه ابن الجوزي في زاد المسير, ويكون المعنى في ذلك أنه يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته ويحفظ ما ينزله إليهم من الوحي ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم, ويكون ذلك كقوله تعالى: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه} وكقوله تعالى: {وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين} إلى أمثال ذلك من العلم بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعاً لا محالة, ولهذا قال بعد هذا {وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً}. آخر تفسير سورة الجن, ولله الحمد والمنة.

    تمت سورة الجن
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:58

    سورة المزمل
    قال الحافظ أبو بكر بن عمرو بن عبد الخالق البزار: حدثنا محمد بن موسى القطان الواسطي, حدثنا معلى بن عبد الرحمن, حدثنا شريك عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال: اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا: سموا هذا الرجل اسماً يصد الناس عنه, فقالوا: كاهن. قالوا: ليس بكاهن. قالوا: مجنون. قالوا: ليس بمجنون. قالوا: ساحر. قالوا: ليس بساحر, فتفرق المشركون على ذلك فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فتزمل في ثيابه وتدثر فيها. فأتاه جبريل عليه السلام فقال: {يا أيها المزمل} {يا أيها المدثر} ثم قال البزار: معلى بن عبد الرحمن قد حدث عنه جماعة من أهل العلم واحتملوا حديثه لكنه تفرد بأحاديث لا يتابع عليها.

    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** يَأَيّهَا الْمُزّمّلُ * قُمِ الْلّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً * نّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنّ نَاشِئَةَ اللّيْلِ هِيَ أَشَدّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنّ لَكَ فِي النّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ وَتَبَتّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً * رّبّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ فَاتّخِذْهُ وَكِيلاً
    يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يترك التزمل وهو التغطي في الليل وينهض إلى القيام لربه عز وجل كما قال تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون} وكذلك كان صلى الله عليه وسلم ممتثلاً ما أمره الله تعالى به من قيام الليل, وقد كان واجباً عليه وحده كما قال تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} وههنا بيّن له مقدار ما يقوم فقال تعالى: {يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلاً} قال ابن عباس والضحاك والسدي {يا أيها المزمل} يعني يا أيها النائم. وقال قتادة: المزمل في ثيابه. وقال إبراهيم النخعي: نزلت وهو متزمل بقطيفة, وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس {يا أيها المزمل} قال: يا محمد زملت القرآن وقوله تعالى: {نصفه} بدل من الليل {أو انقص منه قليلاً * أو زد عليه} أي أمرناك أن تقوم نصف الليل بزيادة قليلة أو نقصان قليل لاحرج عليك في ذلك.
    وقوله تعالى: {ورتل القرآن ترتيلاً} أي اقرأه على تمهل فإنه يكون عوناً على فهم القرآن وتدبره. وكذلك كان يقرأ صلوات الله وسلامه عليه, قالت عائشة رضي الله عنها: كان يقرأ السورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها. وفي صحيح البخاري عن أنس أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كانت مداً ثم قرأ {بسم الله الرحمن الرحيم} يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم. وقال ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة رضي الله عنها أنها سئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان يقطع قراءته آية آية {بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين} رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن عاصم عن ذر عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقال لقارىء القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث سفيان الثوري به, وقال الترمذي: حسن صحيح.
    وقد قدمنا في أول التفسير الأحاديث الدالة على استحباب الترتيل وتحسين الصوت بالقراءة كما جاء في الحديث «زينوا القرآن بأصواتكم» و «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» و «لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود» يعني أبا موسى, فقال أبو موسى: لو كنت أعلم أنك كنت تسمع قراءتي لحبرته لك تحبيراً: وعن ابن مسعود أنه قال: لا تنثروه نثر الرمل ولا تهذوه هذّ الشعر, قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة, رواه البغوي. وقال البخاري: حدثنا آدم, حدثنا شعبة حدثنا عمرو بن مرة: سمعت أبا وائل قال: جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة. فقال هذاً كهذ الشعر لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن, فذكر عشرين سورة من المفصل سورتين في ركعة. وقوله تعالى: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} قال الحسن وقتادة: أي العمل به وقيل: ثقيل وقت نزوله من عظمته, كما قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي فكادت ترض فخذي.
    وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة, حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عمرو بن الوليد عن عبد الله بن عمرو قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله هل تحس بالوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك فما من مرة يوحى إلي إلا ظننت أن نفسي تقبض» تفرد به أحمد. وفي أول صحيح البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي ؟ فقال: «أحياناً يأتي في مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال, وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول» قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي صلى الله عليه وسلم في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً, هذا لفظه. وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود, أخبرنا عبد الرحمن عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن كان ليوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته فتضرب بجرانها, وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى, حدثنا ابن ثور عن معمر عن هشام بن عروة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها, فما تستطيع أن تحرك حتى يسرى عنه وهذا مرسل, الجران هو باطن العنق, واختار ابن جرير أنه ثقيل من الوجهين معاً, كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, كما ثقل في الدنيا ثقل يوم القيامة في الموازين.
    وقوله تعالى: {إن ناشئة الليل هي أشد وطأً وأقوم قيلاً} قال أبو إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: نشأ, قام بالحبشية, وقال عمر وابن عباس وابن الزبير: الليل كله ناشئة, وكذا قال مجاهد وغير واحد, يقال نشأ إذا قام من الليل وفي رواية عن مجاهد: بعد العشاء, وكذا قال أبو مجلز وقتادة وسالم وأبو حازم ومحمد بن المنكدر: والغرض أن ناشئة الليل هي ساعاته وأوقاته وكل ساعة منه تسمى ناشئة وهي الاَنات, والمقصود أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب واللسان وأجمع على التلاوة, ولهذا قال تعالى: {هي أشد وطأً وأقوم قيلاً} أي أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار, لأنه وقت انتشار الناس ولغط الأصوات وأوقات المعاش, وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري, حدثنا أبو أسامة, حدثنا الأعمش أن أنس بن مالك قرأ هذه الاَية {إن ناشئة الليل هي أشد وطأً وأصوب قيلاً} فقال له رجل: إنما نقرؤها وأقوم قيلاً, فقال له: إن أصوب وأقوم وأهيأ وأشباه هذا واحد.
    ولهذا قال تعالى: {إن لك في النهار سبحاً طويلاً} قال ابن عباس وعكرمة وعطاء بن أبي مسلم: الفراغ والنوم, وقال أبو العالية ومجاهد وأبو مالك والضحاك والحسن وقتادة والربيع بن أنس وسفيان الثوري: فراغاً طويلاً. وقال قتادة: فراغاً وبغية ومتقلباً. وقال السدي {سبحاً طويلاً} تطوعاً كثيراً. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {إن لك في النهار سبحاً طويلاً} قال: لحوائجك فأفرغ لدينك الليل, قال وهذا حين كانت صلاة الليل فريضة ثم إن الله تبارك وتعالى منّ على عباده فخففها ووضعها وقرأ {قم الليل إلا قليلاً} إلى آخر الاَية ثم قرأ {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه ـ حتى بلغ ـ فاقرؤوا ما تيسر منه} وقال تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} وهذا الذي قاله كما قاله.
    والدليل عليه ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال: حدثنا يحيى, حدثنا سعيد وهو ابن أبي عروبة عن قتادة عن زرارة بن أوفى, عن سعيد بن هشام أنه طلق امرأته ثم ارتحل إلى المدينة ليبيع عقاراً له بها, ويجعله في الكراع والسلاح ثم يجاهد الروم حتى يموت, فلقي رهطاً من قومه فحدثوه أن رهطاً من قومه ستة أرادوا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أليس لكم فيّ أسوة حسنة ؟» فنهاهم عن ذلك فأشهدهم على رجعتها, ثم رجع إلينا فأخبرنا أنه أتى ابن عباس فسأله عن الوتر فقال: ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال نعم, قال: ائت عائشة فسلها ثم ارجع إليّ فأخبرني بردها عليك. قال: فأتيت على حكيم بن أفلح فاستلحقته إليها فقال: ما أنا بقاربها إني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئاً فأبت فيها إلا مضياً, فأقسمت عليه فجاء معي فدخلنا عليها فقالت: حكيم وعرفته قال: نعم. قالت: من هذا الذي معك ؟ قال: سعيد بن هشام. قالت: من هشام ؟ قال: ابن عامر. قالت: فترحمت عليه وقالت: نعم المرء كان عامراً. قلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: ألست تقرأ القرآن ؟ قلت: بلى. قالت: فإن خلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن, فهممت أن أقوم ثم بدا لي قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم, قلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: ألست تقرأ هذه السورة {يا أيها المزمل} ؟ قلت: بلى. قالت: فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة, فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم, وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهراً, ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة فصار قيام الليل تطوعاً من بعد فريضة.

    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:58

    فهممت أن أقوم ثم بدا لي وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله لما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ثم يتوضأ ثم يصلي ثمان ركعات ولا يجلس فيهن إلا عند الثامنة, فيجلس ويذكر ربه تعالى ويدعو ثم ينهض وما يسلم, ثم يقول ليصلي التاسعة ثم يقعد فيذكر الله وحده ثم يدعوه ثم يسلم تسليماً يسمعنا, ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم, فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني, فلما أسن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه اللحم أوتر بسبع ثم صلى ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم فتلك تسع يا بني, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها, وكان إذا شغله عن قيام الليل نوم أو وجع أومرض صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة, ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة حتى أصبح ولا صام شهراً كاملاً غير رمضان. فأتيت ابن عباس فحدثته بحديثها فقال: صدقت أما لو كنت أدخل عليها لأتيتها حتى تشافهني مشافهة, هكذا رواه الإمام أحمد بتمامه وقد أخرجه مسلم في صحيحه من حديث قتادة بنحوه.
    (طريق أخرى عن عائشة رضي الله عنها في هذا المعنى) قال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا زيد بن الحباب, وحدثنا ابن حميد, حدثنا مهران قالا جميعاً, واللفظ لابن وكيع عن موسى بن عبيدة, حدثني محمد بن طحلاء عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيراً يصلي عليه من الليل فتسامع الناس به فاجتمعوا فخرج كالمغضب, وكان بهم رحيماً, فخشي أن يكتب عليهم قيام الليل فقال: «أيها الناس اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل وخير الأعمال ما ديم عليه» ونزل القرآن {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً * نصفه أو انقص منه قليلاً * أو زد عليه} حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق, فمكثوا بذلك ثمانية أشهر فرأى الله ما يبتغون من رضوانه فرحمهم فردهم إلى الفريضة وترك قيام الليل. ورواه ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف, والحديث في الصحيح بدون زيادة نزول هذه السورة وهذا السياق قد يوهم أن نزول هذه السورة بالمدينة وليس كذلك, وإنما هي مكية وقوله في هذا السياق إن بين نزول أولها وآخرها ثمانية أشهر غريب, فقد تقدم في رواية أحمد أنه كان بينهما سنة.
    وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو أسامة عن مسعر عن سماك الحنفي, سمعت ابن عباس يقول: أول ما نزل أول المزمل كانوا يقومون نحواً من قيامهم في شهر رمضان, وكان بين أولها وآخرها قريب من سنة, وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن أبي أسامة به, وقال الثوري ومحمد بن بشر العبدي, كلاهماعن مسعر عن سماك عن ابن عباس كان بينهما سنة, وروى ابن جرير عن أبي كريب عن وكيع عن إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس مثله.
    وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا مهران عن سفيان عن قيس بن وهب عن أبي عبد الرحمن قال: لما نزلت {يا أيها المزمل} قاموا حولاً حتى ورمت أقدامهم و سوقهم حتى نزلت {فاقرءوا ما تيسر منه} قال: فاستراح الناس. وكذا قال الحسن البصري والسدي. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري, حدثنا معاذ بن هشام, حدثنا أبي عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعيد بن هشام قال: فقلت يعني لعائشة أخبرينا عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: ألست تقرأ {يا أيها المزمل} قلت بلى, قالت: فإنها كانت قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى انتفخت أقدامهم وحبس آخرها في السماء ستة عشر شهراً ثم نزل, وقال معمر عن قتادة {قم الليل إلا قليلاً} قاموا حولاً أو حولين حتى انتفخت سوقهم وأقدامهم, فأنزل الله تخفيفها بعد في آخر السورة. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب القمي عن جعفر عن سعيد هو ابن جبير قال: لما أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم {يا أيها المزمل} قال: مكث النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره, وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه فأنزل الله تعالى عليه بعد عشر سنين {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك ـ إلى قوله ـ وأقيموا الصلاة} فخفف الله تعالى عنهم بعد عشر سنين, ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن عمرو بن رافع عن يعقوب القمي به.
    وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {قم الليل إلا قليلاً * نصفه أو انقص منه قليلاً} فشق ذلك على المؤمنين ثم خفف الله تعالى عنهم ورحمهم فأنزل بعد هذا {علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله ـ إلى قوله تعالى ـ فاقرءوا ما تيسر منه} فوسع الله تعالى وله الحمد ولم يضيق, وقوله تعالى: {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً} أي أكثر من ذكره وانقطع إليه وتفرغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك وما تحتاج إليه من أمور دنياك كما قال تعالى: {فإذا فرغت فانصب} أي إذا فرغت من أشغالك فانصب في طاعته وعبادته لتكون فارغ البال, قاله ابن زيد بمعناه أو قريب منه, قال ابن عباس ومجاهد وأبو صالح وعطية والضحاك والسدي {وتبتل إليه تبتيلاً} أي أخلص له العبادة, وقال الحسن: اجتهد وأبتل إليه نفسك. وقال ابن جرير: يقال للعابد متبتل, ومنه الحديث المروي: نهى عن التبتل يعني الانقطاع إلى العبادة وترك التزوج. وقوله تعالى: {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً} أي هو المالك المتصرف في المشارق والمغارب الذي لا إله إلا هو, وكما أفردته بالعبادة فأفرده بالتوكل فاتخذه وكيلاً كما قال تعالى في الاَية الأخرى: {فاعبده وتوكل عليه} وكقوله: {إياك نعبد وإياك نستعين} وآيات كثيرة في هذا المعنى فيها الأمر بإفراد العبادة والطاعة لله وتخصيصه بالتوكل عليه.


    ** وَاصْبِرْ عَلَىَ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً * وَذَرْنِي وَالْمُكَذّبِينَ أُوْلِي النّعْمَةِ وَمَهّلْهُمْ قَلِيلاً * إِنّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً * يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مّهِيلاً * إِنّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىَ فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَىَ فِرْعَوْنُ الرّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً * فَكَيْفَ تَتّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً * السّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً
    يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يقوله من كذبه من سفهاء قومه, وأن يهجرهم هجراً جميلاً وهو الذي لا عتاب معه ثم قال له متهدداً لكفار قومه ومتوعداً, وهو العظيم الذي لا يقوم لغضبه شيء {وذرني والمكذبين أولي النعمة} أي دعني والمكذبين المترفين أصحاب الأموال فإنهم على الطاعة أقدر من غيرهم وهم يطالبون من الحقوق بما ليس عند غيرهم {ومهلهم قليلاً} أي رويداً كما قال تعالى: {نمتعهم قليلاً ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ}, ولهذا قال ههنا: {إن لدينا أنكالاً} وهي القيود, قاله ابن عباس وعكرمة وطاوس ومحمد بن كعب وعبد الله بن بريدة وأبو عمران الجوني وأبو مجلز والضحاك وحماد بن أبي سليمان وقتادة والسدي وابن المبارك والثوري وغير واحد {وجحيماً} وهي السعير المضطرمة {وطعاماً ذا غصة} قال ابن عباس: ينشب في الحلق فلا يدخل ولا يخرج {وعذاباً أليماً * يوم ترجف الأرض والجبال} أي تزلزل {وكانت الجبال كثيباً مهيلاً} أي تصير ككثبان الرمل بعد ما كانت حجارة صماء ثم إنها تنسف نسفاً فلا يبقى منها شيء إلا ذهب حتى تصير الأرض قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً أي وادياً ولا أمناً أي رابية, ومعناه لا شيء ينخفض ولا شيء يرتفع, ثم قال تعالى مخاطباً لكفار قريش والمراد سائر الناس: {إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم} أي بأعمالكم {كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً * فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذاً وبيلاً} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي والثوري {أخذاً وبيلاً} أي شديداً أي فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول فيصيبكم ما أصاب فرعون حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر كما قال تعالى: {فأخذه الله نكال الاَخرة والأولى} وأنتم أولى بالهلاك والدمار إن كذبتم رسولكم, لأن رسولكم أشرف وأعظم من موسى بن عمران, ويروى عن ابن عباس ومجاهد.
    وقوله تعالى: {فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً} يحتمل أن يكون يوماً معمولاً لتتقون كما حكاه ابن جرير عن قراءة ابن مسعود فكيف تخافون أيها الناس يوماً يجعل الولدان شيباً إن كفرتم بالله ولم تصدقوا به ؟ ويحتمل أن يكون معمولاً لكفرتم فعلى الأول كيف يحصل لكم أمان من يوم هذا الفزع العظيم إن كفرتم, وعلى الثاني كيف يحصل لكم تقوى إن كفرتم يوم القيامة وجحدتموه, وكلاهما معنى حسن, ولكن الأول أولى والله أعلم. ومعنى قوله {يوماً يجعل الولدان شيباً} أي من شدة أهواله وزلازله وبلابله, وذلك حين يقول الله تعالى لاَدم ابعث بعث النار فيقول من كم. فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة. قال الطبراني: حدثنا يحيى بن أيوب العلاف حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا نافع بن يزيد, حدثنا عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ {يوماً يجعل الولدان شيباً} قال: «ذلك يوم القيامة وذلك يوم يقول الله لاَدم قم فابعث من ذريتك بعثاً إلى النار, قال من كم يا رب ؟ قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون وينجو واحد» فاشتد ذلك على المسلمين وعرف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال حين أبصر ذلك في وجوههم «إن بني آدم كثير, وإن يأجوج ومأجوج من ولد آدم, وإنه لا يموت منهم رجل حتى ينتشر لصلبه ألف رجل ففيهم وفي أشباههم جُنة لكم» هذا حديث غريب وقد تقدم في أول سورة الحج ذكر هذه الأحاديث. وقوله تعالى: {السماء منفطر به} قال الحسن وقتادة أي بسببه من شدته وهوله, ومنهم من يعيد الضمير على الله تعالى: وروي عن ابن عباس ومجاهد وليس بقوي لأنهلم يجر له ذكر ههنا, وقوله تعالى: {كان وعده مفعولاً} أي كان وعد هذا اليوم مفعولاً أي واقعاً لا محالة وكائناً لا محيد عنه.


    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 19:59

    ** إِنّ هَـَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتّخَذَ إِلَىَ رَبّهِ سَبِيلاً * إِنّ رَبّكَ يَعْلَمُ أَنّكَ تَقُومُ أَدْنَىَ مِن ثُلُثَيِ الْلّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مّنَ الّذِينَ مَعَكَ وَاللّهُ يُقَدّرُ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ عَلِمَ أَلّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مّرْضَىَ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ وَأَقْرِضُواُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدّمُواْ لأنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ
    يقول تعالى: {إن هذه} أي السورة {تذكرة} أي يتذكر بها أولو الألباب, ولهذا قال تعالى: {فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً} أي ممن شاء الله تعالى هدايته كما قيده في السورة الأخرى {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} ثم قال تعالى: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك} أي تارة هكذا وتارة هكذا وذلك كله من غير قصد منكم ولكن لا تقدرون على المواظبة على ما أمركم به من قيام الليل لأنه يشق عليكم, ولهذا قال: {والله يقدّر الليل والنهار} أي تارة يعتدلان وتارة يأخذ هذا من هذا وهذا من هذا {علم أن لن تحصوه} أي الفرض الذي أوجبه عليكم {فاقرءوا ما تيسر من القرآن} أي من غير تحديد بوقت أي ولكن قوموا من الليل ما تيسر, وعبر عن الصلاة بالقراءة كما قال في سورة سبحان {ولا تجهر بصلاتك} أي بقراءتك {ولا تخافت بها} وقد استدل أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله بهذه الاَية وهي قوله: {فاقرءوا ما تيسر من القرآن} على أنه لا يجب تعين قراءة الفاتحة في الصلاة بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن ولو بآية, أجزأه واعتضدوا بحديث المسيء صلاته الذي في الصحيحين «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» وقد أجابهم الجمهور بحديث عبادة بن الصامت وهو في الصحيحين أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب», وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج فهي خداج غير تمام» وفي صحيح ابن خزيمة عن أبي هريرة مرفوعاً «لا تجزىء صلاة من لم يقرأ بأم القرآن».
    وقوله تعالى: {علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله} أي علم أن سيكون من هذه الأمة ذوو أعذار في ترك قيام الليل من مرضى لا يستطيعون ذلك, ومسافرين في الأرض يبتغون من فضل الله في المكاسب والمتاجر, وآخرين مشغولين بما هو الأهم في حقهم من الغزو في سبيل الله, وهذه الاَية بل السورة كلها مكية ولم يكن القتال شرع بعد, فهي من أكبر دلائل النبوة لأنه من باب الإخبار بالمغيبات المستقبلة, ولهذا قال تعالى: {فاقرءوا ما تيسر منه} أي قوموا بما تيسر عليكم منه. قال ابن جرير: حدثنا يعقوب, حدثنا ابن علية عن أبي رجاء محمد, قال: قلت للحسن: يا أبا سعيد ما تقول في رجل قد استظهر القرآن كله عن ظهر قلبه ولا يقوم به إنما يصلي المكتوبة, قال يتوسد القرآن لعن الله ذاك, قال الله تعالى للعبد الصالح {وإنه لذو علم لما علمناه} {وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم} قلت: يا أبا سعيد, قال الله تعالى: {فاقرءوا ما تيسر من القرآن} قال نعم ولو خمس آيات, وهذا ظاهر من مذهب الحسن البصري أنه كان يرى حقاً واجباً على حملة القرآن أن يقوموا ولو بشيء منه في الليل, ولهذا جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل نام حتى أصبح, فقال: «ذاك رجل بال الشيطان في أذنه» فقيل معناه نام عن المكتوبة, وقيل عن قيام الليل: وفي السنن «أوتروا يا أهل القرآن» وفي الحديث الاَخر «من لم يوتر فليس منا» وأغرب من هذا ما حكي عن أبي بكر بن عبد العزيز من الحنابلة من إيجابه قيام شهر رمضان, فالله أعلم.
    وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن سعيد فرقد الحدرد حدثنا أبو محمد بن يوسف الزبيدي, حدثنا عبد الرحمن عن محمد بن عبد الله بن طاوس من ولد طاوس, عن أبيه عن طاوس, عن ابن عباس, عن النبي صلى الله عليه وسلم {فاقرءوا ما تيسر منه} قال: «مائة آية» وهذا حديث غريب جداً لم أره إلا في معجم الطبراني رحمه الله تعالى. وقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} أي أقيموا صلاتكم الواجبة عليكم وآتوا الزكاة المفروضة, وهذا يدل لمن قال إن فرض الزكاة نزل بمكة لكن مقادير النصب والمخرج لم تبين إلا بالمدينة والله أعلم. وقد قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد من السلف: إن هذه الاَية نسخت الذي كان الله قد أوجبه على المسلمين أولاً من قيام الليل, واختلفوا في المدة التي بينهما على أقوال كما تقدم, وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لذلك الرجل: «خمس صلوات في اليوم والليلة» قال: هل علي غيرها ؟ قال: «لا إلا أن تطوع».
    وقوله تعالى: {وأقرضوا الله قرضاً حسناً} يعني من الصدقات, فإن الله يجازي على ذلك أحسن الجزاء وأوفره, كما قال تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة} وقوله تعالى: {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً} أي جميع ما تقدموه بين أيديكم فهو لكم حاصل وهو خير مما أبقيتموه لأنفسكم في الدنيا. وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو خيثمة حدثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن الحارث بن سويد قال: قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه ؟» قالوا: يا رسول الله ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه قال: «اعلموا ما تقولون» قالوا: ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله ؟ قال: «إنما مال أحدكم ما قدم ومال وارثه ما أخر» ورواه البخاري من حديث حفص بن غياث والنسائي من طريق أبي معاوية كلاهما عن الأعمش به, ثم قال تعالى: {واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} أي أكثروا من ذكره واستغفاره في أموركم كلها فإنه غفور رحيم لمن استغفره, آخر تفسير سورة المزمل, ولله الحمد والمنة.

    تمت سورة المزمل
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:00

    سورة المدثر
    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

    ** يَأَيّهَا الْمُدّثّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبّكَ فَكَبّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ * وَالرّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبّكَ فَاصْبِرْ * فَإِذَا نُقِرَ فِي النّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ
    ثبت ,في صحيح البخاري من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر أنه كان يقول: أول شيء نزل من القرآن {يا أيها المدثر} وخالفه الجمهور فذهبوا إلى أن أول القرآن نزولاً قوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} كما سيأتي ذلك هنالك إن شاء الله تعالى. قال البخاري: حدثنا يحيى, حدثنا وكيع عن علي بن المبارك, عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن فقال: {يا أيها المدثر} قلت: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثل ما قلت لي فقال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت, فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً, ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً, ونظرت أمامي فلم أر شيئاً ونظرت خلفي فلم أر شيئاً, فرفعت رأسي فرأيت شيئاً, فأتيت خديجة فقلت دثروني وصبوا عليّ ماء بارداً ـ قال ـ فدثروني وصبوا علي ماء بارداً ـ قال ـ فنزلت {يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر}» هكذا ساقه من هذا الوجه. وقد رواه مسلم من طريق عقيل عن ابن شهاب عن أبي سلمة قال: أخبرني جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه: «فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري قبل السماء, فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض فجثثت منه حتى هويت إلى الأرض, فجئت إلى أهلي فقلت: زملوني زملوني فزملوني, فأنزل الله تعالى {يا أيها المدثر * قم فأنذر ـ إلى ـ فاهجر} قال أبو سلمة: والرجز الأوثان ـ ثم حمي الوحي وتتابع» هذا لفظ البخاري, وهذا السياق هو المحفوظ وهو يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا لقوله: «فإذا الملك الذي جاءني بحراء» وهو جبريل حين أتاه بقوله: {اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم} ثم إنه حصل بعد هذا فترة ثم نزل الملك بعد هذا.
    ووجه الجمع أن أول شيء نزل بعد فترة الوحي هذه السورة, كما قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج, حدثنا ليث, حدثنا عقيل عن ابن شهاب قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول: أخبرني جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ثم فتر الوحي عني فترة فبينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء, فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني قاعد على كرسي بين السماء والأرض فجثيت منه فرقاً حتى هويت إلى الأرض, فجئت أهلي فقلت لهم زملوني زملوني فزملوني, فأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر} ثم حمي الوحي وتتابع» أخرجاه من حديث الزهري به. وقال الطبراني: حدثنا محمد بن علي بن شعيب السمسار, حدثنا الحسن بن بشر البجلي, حدثنا المعافى بن عمران عن إبراهيم بن يزيد: سمعت ابن أبي مليكة يقول سمعت ابن عباس يقول: إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاماً, فلما أكلوا منه قال: ما تقولون في هذا الرجل ؟ فقال بعضهم: ساحر, وقال بعضهم ليس بساحر, وقال بعضهم كاهن, وقال بعضهم ليس بكاهن, وقال بعضهم: شاعر, وقال بعضهم: ليس بشاعر, وقال بعضهم: بل سحر يؤثر, فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر, فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحزن وقنع رأسه وتدثر, فأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر} وقوله تعالى: {قم فأنذر} أي شمر عن ساق العزم وأنذر الناس, وبهذا حصل الإرسال كما حصل بالأول النبوة.
    {وربك فكبر} أي عظم. وقوله تعالى: {وثيابك فطهر} قال الأجلح الكندي عن عكرمة, عن ابن عباس أنه أتاه رجل فسأله عن هذه الاَية {وثيابك فطهر} قال: لا تلبسها على معصية ولا على غدرة. ثم قال: أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي:
    فإني بحمد الله لا ثوب فاجرلبست ولا من غدرة أتقنع
    وقال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في الاَية {وثيابك فطهر} قال: في كلام العرب نقي الثياب وفي رواية بهذا الإسناد فطهر من الذنوب, وكذا قال إبراهيم والشعبي وعطاء, وقال الثوري عن رجل عن عطاء عن ابن عباس في هذه الاَية {وثيابك فطهر} قال: من الإثم, وكذا قال إبراهيم النخعي وقال مجاهد {وثيابك فطهر} قال: نفسك ليس ثيابك, وفي رواية عنه {وثيابك فطهر} أي عملك فأصلح, وكذا قال أبو رزين, وقال في رواية أخرى {وثيابك فطهر} أي لست بكاهن ولا ساحر فأعرض عما قالوا. وقال قتادة {وثيابك فطهر} أي طهرها من المعاصي, وكانت العرب تسمي الرجل إذا نكث ولم يف بعهد الله إنه لدنس الثياب, وإذا وفى وأصلح إنه لمطهر الثياب, وقال عكرمة والضحاك: لا تلبسها على معصية. وقال الشاعر:
    إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضهفكل رداء يرتديه جميل
    وقال العوفي عن ابن عباس {وثيابك فطهر} يعني لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب غير طائب, ويقال: لا تلبس ثيابك على معصية, وقال محمد بن سيرين {وثيابك فطهر} أي اغسلها بالماء, وقال ابن زيد: وكان المشركون لا يتطهرون فأمره الله أن يتطهر وأن يطهر ثيابه, وهذا القول اختاره ابن جرير, وقد تشمل الاَية جميع ذلك مع طهارة القلب, فإن العرب تطلق الثياب عليه كما قال امرؤ القيس:
    أفاطم مهلاً بعض هذا التدللوإن كنت قد أزمعت هجري فأجمليوإن تك قد ساءتك مني خليقةفسلي ثيابي من ثيابك تنسل
    وقال سعيد بن جبير {وثيابك فطهر} وقلبك ونيتك فطهر, وقال محمد بن كعب القرظي والحسن البصري: وخلقك فحسن, وقوله تعالى: {والرجز فاهجر} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: والرجز وهو الأصنام فاهجر, وكذا قال مجاهد وعكرمة وقتادة والزهري وابن زيد: إنها الأوثان, وقال إبراهيم والضحاك {والرجز فاهجر} أي اترك المعصية, وعلى كل تقدير فلا يلزم تلبسه بشيء من ذلك كقوله تعالى: {يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين} {وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين}. وقوله تعالى: {ولا تمنن تستكثر} قال ابن عباس: لا تعط العطية تلتمس أكثر منها, وكذا قال عكرمة ومجاهد وعطاء وطاوس وأبو الأحوص وإبراهيم النخعي والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم, وروي عن ابن مسعود أنه قرأ {ولا تمنن أن تستكثر} وقال الحسن البصري: لا تمنن بعملك على ربك تستكثره وكذا قال الربيع بن أنس واختاره ابن جرير, وقال خصيف عن مجاهد في قوله تعالى: {ولا تمنن تستكثر} قال: لا تضعف أن تستكثر من الخير, قال: تمنن في كلام العرب تضعف, وقال ابن زيد: لا تمنن بالنبوة على الناس تستكثرهم بها تأخذ عليه عوضاً من الدنيا. فهذه أربعة أقوال والأظهر القول الأول, والله أعلم.
    وقوله تعالى: {ولربك فاصبر} أي اجعل صبرك على أذاهم لوجه ربك عز وجل قاله مجاهد. وقال إبراهيم النخعي: اصبر عطيتك لله عز وجل. وقوله تعالى: {فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير} قال ابن عباس ومجاهد والشعبي وزيد بن أسلم والحسن وقتادة والضحاك والربيع بن أنس والسدي وابن زيد {الناقور} الصور, قال مجاهد: وهو كهيئة القرن. وقال ابن أبي حاتم: حدثناأبو سعيد الأشج, حدثنا أسباط بن محمد عن مطرف عن عطية العوفي عن ابن عباس {فإذا نقر في الناقور} فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ ؟» فقال: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال: «قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا»وهكذا رواه الإمام أحمد عن أسباط به, ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن ابن فضيل وأسباط كلاهما عن مطرف به, ورواه من طريق أخرى عن العوفي عن ابن عباس به.
    وقوله تعالى: {فذلك يومئذ يوم عسير} أي شديد {على الكافرين غير يسير} أي غير سهل عليهم كما قال تعالى: {يقول الكافرون هذا يوم عَسِر}, وقد روينا عن زرارة بن أوفى قاضي البصرة أنه صلى بهم الصبح, فقرأ هذه السورة فلما وصل إلى قوله تعالى: {فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير} شهق شهقة ثم خرّ ميتاً رحمه الله تعالى.


    ** ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مّمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهّدتّ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاّ إِنّهُ كان لاَيَاتِنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنّهُ فَكّرَ وَقَدّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ * ثُمّ قُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ * ثُمّ نَظَرَ * ثُمّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَـَذَآ إِلاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَـَذَآ إِلاّ قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ * لَوّاحَةٌ لّلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ
    يقول تعالى متوعداً لهذا الخبيث الذي أنعم الله عليه بنعم الدنيا فكفر بأنعم الله وبدلها كفراً وقابلها بالجحود بآيات الله والافتراء عليها, وجعلها من قول البشر وقد عدد الله عليه نعمه حيث قال تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيداً} أي خرج من بطن أمه وحده لا مال له ولا ولد ثم رزقه الله تعالى: {مالاً ممدوداً} أي واسعاً كثيراً قيل ألف دينار وقيل مائه ألف دينار, وقيل أرضاً يستغلها, وقيل غير ذلك وجعل له {بنين شهوداً} قال مجاهد لا يغيبون أي حضوراً عنده لا يسافرون بالتجارات بل مواليهم وأجراؤهم يتولون ذلك عنهم: وهم قعود عند أبيهم يتمتع بهم ويتملى بهم, وكانوا فيما ذكره السدي وأبو مالك وعاصم بن عمر بن قتادة ثلاثة عشر, وقال ابن عباس ومجاهد كانوا عشرة وهذا أبلغ في النعمة وهو إقامتهم عنده {ومهدت له تمهيداً} أي مكنته من صنوف المال والأثاث وغير ذلك.
    {ثم يطمع أن أزيد * كلا إنه كان لاَياتنا عنيداً} أي معانداً وهو الكفر على نعمه بعد العلم قال الله تعالى: {سأرهقه صعوداً} قال الإمام أحمد: حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً, قبل أن يبلغ قعره, والصعود جبل من نار يتصعد فيه الكافر سبعين خريفاً, ثم يهوي به كذلك فيه أبداً» وقد رواه الترمذي عن عبد بن حميد عن الحسن بن موسى الأشيب به, ثم قال غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة عن دراج, كذا قال, وقد رواه ابن جرير عن يونس عن عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن دراج وفيه غرابة ونكارة.

    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:00

    وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة وعلي بن عبد الرحمن المعروف بعلان المقري قال: حدثنا منجاب, أخبرنا شريك عن عمار الدهني عن عطية العوفي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم {سأرهقه صعوداً} قال: «هو جبل في النار من نار يكلف أن يصعده فإذا وضع يده ذابت وإذا رفعها عادت, فإذا وضع رجله ذابت وإذا رفعها عادت» ورواه البزار وابن جرير من حديث شريك به. وقال قتادة عن ابن عباس: صعوداً صخرة في جهنم يسحب عليها الكافر على وجهه. وقال السدي: صعوداً صخرة ملساء في جهنم يكلف أن يصعدها وقال مجاهد {سأرهقه صعوداً} أي مشقة من العذاب, وقال قتادة: عذاباً لا راحة فيه, واختاره ابن جرير. وقوله تعالى: {إنه فكر وقدر} أي إنما أرهقناه صعوداً أي قربناه من العذاب الشاق لبعده عن الإيمان لأنه فكر وقدر أي تروى ماذا يقول في القرآن حين سئل عن القرآن ففكر ماذا يختلق من المقال {وقدر} أي تروى {فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر} دعاء عليه {ثم نظر} أي أعاد النظرة والتروي {ثم عبس} أي قبض بين عينيه وقطب {وبسر} أي كلح وكره ومنه قول توبة بن الحمير:
    وقد رابني منها صدود رأيتهوإعراضها عن حاجتي وبسورها
    وقوله: {ثم أدبر واستكبر} أي صرف عن الحق ورجع القهقهرى مستكبراً عن الانقياد للقرآن {فقال إن هذا إلا سحر يؤثر} أي هذا سحر ينقله محمد عن غيره ممن قبله ويحكيه عنهم, ولهذا قال: {إن هذا إلا قول البشر} أي ليس بكلام الله, وهذا المذكور في هذا السياق هو الوليد بن المغيرة المخزومي أحد رؤساء قريش لعنه الله, وكان من خبره في هذا ما رواه العوفي عن ابن عباس قال دخل الوليد بن المغيرة على أبي بكر بن أبي قحافة فسأله عن القرآن, فلما أخبره خرج على قريش فقال يا عجباً لما يقول ابن أبي كبشة, فو الله ما هو بشعر ولا بسحر ولا بهذي من الجنون, وإن قوله لمن كلام الله فلما سمع بذلك النفر من قريش ائتمروا وقالوا: والله لئن صبأ الوليد لتصبو قريش, فلما سمع بذلك أبو جهل بن هشام قال: أنا والله أكفيكم شأنه فانطلق حتى دخل عليه بيته, فقال للوليد: ألم تر إلى قومك قد جمعوا لك الصدقة ؟ فقال: ألست أكثرهم مالاً وولداً ؟ فقال أبو جهل: يتحدثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قحافة لتصيب من طعامه, فقال الوليد: أقد تحدث به عشيرتي ؟ فلا والله لا أقرب ابن أبي قحافة ولاعمر ولا ابن أبي كبشة, وما قوله إلا سحر يؤثر فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم {ذرني ومن خلقت وحيداً ـ إلى قوله ـ لا تبقي ولا تذر} وقال قتادة: زعموا أنه قال: والله لقد نظرت فيما قال الرجل فإذا هو ليس بشعر وإن له لحلاوة, وإنه عليه لطلاوة, وإن ليعلو وما يعلى عليه وما أشك أنه سحر فأنزل الله: {فقتل كيف قدر} الاَية.
    {ثم عبس وبسر} قبض ما بين عينيه وكلح, وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى, حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن عباد بن منصور عن عكرمة أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن, فكأنه رق له, فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام فأتاه فقال أي عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً. قال: لِمَ ؟ قال يعطونكه فإنك أتيت محمداً تتعرض لما قبله, قال قد علمت قريش أني أكثرهم مالاً, قال: فقل فيه قولاً يعلم قومك أنك منكر لما قال وأنك كاره له, قال فماذا أقول فيه, فو الله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن, والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا, والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة, وإنه ليحطم ما تحته وإنه ليعلو وما يعلى, وقال والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه, قال فدعني حتى أتفكر فيه, فلما فكر قال: إنْ هذا إلا سحر يؤثره عن غيره, فنزلت: {ذرني ومن خلقت وحيداً ـ حتى بلغ ـ تسعة عشر} وقد ذكر محمد بن إسحاق وغير واحد نحواً من هذا, وقد زعم السدي أنهم لما اجتمعوا في دار الندوة ليجمعوا رأيهم على قول يقولونه فيه قبل أن يقدم عليهم وفود العرب للحج ليصدوهم عنه, فقال قائلون: شاعر وقال آخرون: ساحر وقال آخرون: كاهن وقال آخرون: مجنون كما قال تعالى: {انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا} كل هذا والوليد يفكر فيما يقوله فيه, ففكر وقدر ونظر وعبس وبسر, فقال: إنْ هذا إلا سحر يؤثر إنْ هذا إلا قول البشر, قال الله تعالى: {سأصليه سقر} أي سأغمره فيها من جميع جهاته, ثم قال تعالى: {وما أدراك ما سقر} وهذا تهويل لأمرها وتفخيم, ثم فسر ذلك بقوله تعالى: {لا تبقي ولا تذر} أي تأكل لحومهم وعروقهم وعصبهم وجلودهم ثم تبدل غير ذلك, وهم في ذلك لا يموتون ولا يحيون, قاله ابن بريدة وأبو سنان وغيرهم.
    وقوله تعالى: {لواحة للبشر} قال مجاهد أي للجلد, وقال أبو رزين: تلفح الجلد لفحة فتدعه أسود من الليل, وقال زيد بن أسلم: تلوح أجسادهم عليها. وقال قتادة: {لواحة للبشر} أي حراقة للجلد وقال ابن عباس: تحرق بشرة الإنسان. وقوله تعالى: {عليها تسعة عشر} أي من مقدمي الزبانية عظيم خلقهم غليظ خلقهم.
    وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا إبراهيم بن موسى, حدثنا ابن أبي زائدة, أخبرني حارث عن عامر عن البراء في قوله تعالى: {عليها تسعة عشر} قال: إن رهطاً من اليهود سألوا رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم فقال: الله ورسوله أعلم, فجاء الرجل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى عليه ساعتئذ {عليها تسعة عشر} فأخبر أصحابه وقال: «ادعهم أما إني سائلهم عن تربة الجنة إن أتوني, أما إنها درمكة بيضاء» فجاؤوه فسألوه عن خزنة جهنم فأهوى بأصابع كفيه مرتين وأمسك الإبهام في الثانية ثم قال: «أخبروني عن تربة الجنة» فقالوا: أخبرهم يا ابن سلام, فقال: كأنها خبزة بيضاء: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إن الخبز إنما يكون من الدرمك» هكذا وقع عند ابن أبي حاتم عن البراء والمشهور عن جابر بن عبد الله كما قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده حدثنا منده, حدثنا أحمد بن عبدة, أخبرنا سفيان ويحيى بن حكيم, حدثنا سفيان عن مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد غلب أصحابك اليوم. فقال: «بأي شيء ؟» قال: سألتهم يهود هل أعلمكم نبيكم عدة خزنة أهل النار ؟ قالوا: لا نعلم حتى نسأل نبينا صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفغلب قوم يسألون عما لا يعلمون فقالوا لا نعلم حتى نسأل نبينا صلى الله عليه وسلم ؟ علي بأعداء الله لكنهم قد سألوا نبيهم أن يريهم الله جهرة» فأرسل إليهم فدعاهم قالوا: يا أبا القاسم كم عدة خزنة أهل النار ؟ قال: «هكذا» وطبق كفيه ثم طبق كفيه مرتين وعقد واحدة وقال لأصحابه: «إن سئلتم عن تربة الجنة فهي الدرمك» فلما سألوه فأخبرهم بعدة خزنة أهل النار قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تربة الجنة ؟» فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا: خبزة يا أبا القاسم. فقال: «الخبز من الدرمك» وهكذا رواه الترمذي عند هذه الاَية عن ابن أبي عمر عن سفيان به, وقال هو والبزار لا يعرف إلا من حديث مجالد, وقد رواه الإمام أحمد عن علي بن المديني عن سفيان بنقصه الدرمك فقط.


    ** وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النّارِ إِلاّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدّتَهُمْ إِلاّ فِتْنَةً لّلّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الّذِينَ آمَنُوَاْ إِيمَاناً وَلاَ يَرْتَابَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللّهُ بِهَـَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلّ اللّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاّ ذِكْرَىَ لِلْبَشَرِ * كَلاّ وَالْقَمَرِ * وَاللّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ * إِنّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيراً لّلْبَشَرِ * لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدّمَ أَوْ يَتَأَخّرَ
    يقول تعالى: {وما جعلنا أصحاب النار} أي خزانها {إلا ملائكة} زبانية غلاظاً شداداً, وذلك رد على مشركي قريش حين ذكروا عدد الخزنة فقال أبو جهل: يا معشر قريش أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم, فقال الله تعالى: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة} أي شديدي الخلق لا يقاومون ولا يغالبون, وقد قيل إن أبا الأشدين واسمه كلدة بن أسيد بن خلف قال: يا معشر قريش اكفوني منهم اثنين وأنا أكفيكم منهم سبعة عشر إعجاباً منه بنفسه, وكان قد بلغ من القوة فيما يزعمون أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة لينزعوه من تحت قدميه فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه, قال السهيلي وهو الذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصارعته, وقال إن صرعتني آمنت بك, فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم مراراً فلم يؤمن, قال وقد نسب ابن إسحاق خبر المصارعة إلى ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب. (قلت): ولا منافاة بين ما ذكراه والله أعلم.
    وقوله تعالى: {وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا} أي إنما ذكرنا عدتهم أنهم تسعة عشر اختباراً منا للناس {ليستيقن الذين أوتوا الكتاب} أي يعلمون أن هذا الرسول حق فإنه نطق بمطابقة ما بأيديهم من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء قبله {ويزداد الذين آمنوا إيماناً} أي إلى إيمانهم أي بما يشهدون من صدق إخبار نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم {ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض} أي من المنافقين {والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلاً} أي يقولون ما الحكمة في ذكر هذا ههنا ؟ قال الله تعالى: {كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء} أي من مثل هذا وأشباهه يتأكد الإيمان في قلوب أقوام ويتزلزل عند آخرين, وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة.
    وقوله تعالى: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} أي ما يعلم عددهم وكثرتهم إلا هو تعالى لئلا يتوهم متوهم أنهم تسعة عشر فقط, كما قد قاله طائفة من أهل الضلالة والجهالة ومن الفلاسفة اليونانيين ومن شايعهم من الملتين الذين سمعوا هذه الاَية فأرادوا تنزيلها على العقول العشرة والنفوس التسعة التي اخترعوا دعواها وعجزوا عن إقامة الدلالة على مقتضاها, فأفهموا صدر هذه الاَية وقد كفروا بآخرها وهو قوله: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} وقد ثبت في حديث الإسراء المروي في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صفة البيت المعمور الذي في السماء السابعة: «فإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم». وقال الإمام أحمد: حدثنا أسود, حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن مورق عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أصبع إلا عليه ملك ساجد, لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولا تلذذتم بالنساء على الفرشات ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى» فقال أبو ذر: والله لوددت أني شجرة تعضد, ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث إسرائيل, وقال الترمذي حديث حسن غريب, ويروى عن أبي ذر موقوفاً, وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا خير بن عرفة المصري, حدثنا عروة بن مروان الرقي, حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم بن مالك عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما في السموات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم أو ملك ساجد أو ملك راكع, فإذا كان يوم القيامة قالوا جميعاً سبحانك ما عبدناك حق عبادتك إلا أنا لم نشرك بك شيئاً». وقال محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة: حدثنا عمرو بن زرارة, أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد عن قتادة عن صفوان بن محرز عن حكيم بن حزام قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إذ قال لهم: «هل تسمعون ما أسمع ؟» قالوا: ما نسمع من شيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسمع أطيط السماء وما تلام أن تئط. ما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك راكع أو ساجد».

    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:01

    وقال أيضاً: حدثنا محمد بن عبد الله بن قهذاذ, حدثنا أبو معاذ الفضل بن خالد النحوي, حدثنا عبيد بن سليمان الباهلي سمعت الضحاك بن مزاحم يحدث عن مسروق بن الأجدع عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما في السماء الدنيا موضع قدم إلا وعليه ملك ساجد أو قائم وذلك قول الملائكة: {وما منا إلا له مقام معلوم * وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون}» وهذا مرفوع غريب جداً ثم رواه عن محمود بن آدم عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود أنه قال: إن من السموات سماء ما فيها موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدماه قائم ثم قرأ {وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون}.
    ثم قال: حدثنا أحمد بن سيار, حدثنا أبو جعفر بن محمد بن خالد الدمشقي المعروف بابن أمه, حدثنا المغيرة بن عمر بن عطية من بني عمرو بن عوف, حدثني سليمان بن أيوب عن سالم بن عوف, حدثني عطاء بن زيد بن مسعود من بني الحبلى, حدثني سليمان بن عمرو بن الربيع من بني سالم, حدثني عبد الرحمن بن العلاء من بني ساعدة عن أبيه العلاء بن سعد وقد شهد الفتح وما بعده, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يوماً لجلسائه: «هل تسمعون ما أسمع ؟» قالوا: وما تسمع يا رسول الله ؟ قال «أطت السماء وحق لها أن تئط إنه ليس فيها موضع قدم إلا وعليه ملك قائم أو راكع أو ساجد وقالت الملائكة {وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون} وهذا إسناد غريب جداً.
    ثم قال: حدثنا إسحاق بن محمد بن إسماعيل الفروي, حدثنا عبد الملك بن قدامة عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه عن عبد الله بن عمر أن عمر جاء والصلاة قائمة ونفر ثلاثة جلوس أحدهم أبو جحش الليثي, فقال: قوموا فصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقام اثنان وأبى أبو جحش أن يقوم وقال لا أقوم حتى يأتي رجل أقوى مني ذراعين وأشد مني بطشاً, فيصرعني ثم يدسّ وجهي في التراب, قال عمر فصرعته ودسست وجهه في التراب, فأتى عثمان بن عفان فحجزني عنه فخرج عمر مغضباً حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما رأيك يا أبا حفص ؟» فذكر له ما كان منه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن رضي عمر رحمه, والله على ذلك لوددت أنك جئتني برأس الخبيث» فقام عمر فوجه نحوه فلما أبعد ناداه فقال: «اجلس حتى أخبرك بغناء الرب تبارك وتعالى عن صلاة أبي جحش وإن لله تعالى في السماء الدنيا ملائكة خشوعاً لا يرفعون رؤوسهم حتى تقوم الساعة, فإذا قامت رفعوا رؤوسهم ثم قالوا ربنا ما عبدناك حق عبادتك وإن لله في السماء الثانية ملائكة سجوداً لا يرفعون رؤوسهم حتى تقوم الساعة فإذا قامت الساعة رفعوا رؤوسهم وقالوا سبحانك ربنا ما عبدناك حق عبادتك».
    فقال له عمر: وما يقولون يا رسول الله ؟ فقال: «أما أهل السماء الدنيا فيقولون سبحان ذي الملك والملكوت, وأما أهل السماء الثانية فيقولون سبحان ذي العزة والجبروت, وأما أهل السماء الثالثة فيقولون سبحان الحي الذي لا يموت, فقلها يا عمر في صلاتك, فقال عمر: يا رسول الله فكيف بالذي كنت علمتني وأمرتني أن أقوله في صلاتي ؟ فقال: «قل هذا مرة وهذا مرة» وكان الذي أمره به أن يقوله: «أعوذ بعفوك من عقابك, وأعوذ برضاك من سخطك, وأعوذ بك منك جل وجهك» هذا حديث غريب جداً بل منكر نكارة شديدة, وإسحاق الفروي روى عنه البخاري, وذكره ابن حبان في الثقات وضعفه أبو داود والنسائي والعقيلي والدار قطني, وقال أبو حاتم الرازي: كان صدوقاً إلا أنه ذهب بصره فربما لقن وكتبه صحيحة, وقال مرة هو مضطرب وشيخه عبد الملك بن قدامة أبو قتادة الجمحي تكلم فيه أيضاً, والعجب من الإمام محمد بن نصر كيف رواه ولم يتكلم عليه, ولا عرف بحاله, ولا تعرض لضعف بعض رجاله, غير أنه رواه من وجه آخر عن سعيد بن جبير مرسلاً بنحوه ومن طريق أخرى عن الحسن البصري مرسلاً قريباً منه, ثم قال محمد بن نصر: حدثنا محمد بن عبد الله بن قهذاذ, أخبرنا النضر, أخبرنا عباد بن منصور قال: سمعت عدي بن أرطاة وهو يخطبنا على منبر المدائن قال سمعت رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن لله تعالى ملائكة ترعد فرائصهم من خيفته ما منهم ملك تقطر منه دمعة من عينه إلا وقعت على ملك يصلي, وإن منهم ملائكة سجوداً منذ خلق الله السموات والأرض لم يرفعوا رؤوسهم ولا يرفعونها إلى يوم القيامة, وإن منهم ملائكة ركوعاً لم يرفعوا رؤوسهم منذ خلق الله السموات والأرض ولا يرفعونها إلى يوم القيامة, فإذا رفعوا رؤوسهم نظروا إلى وجه الله عز وجل قالوا سبحانك ما عبدناك حق عبادتك» وهذا إسناد لا بأس به.
    وقوله تعالى: {وما هي إلا ذكرى للبشر} قال مجاهد وغير واحد: {وما هي} أي النار التي وصفت {إلا ذكرى للبشر} ثم قال تعالى: {كلا والقمر * والليل إذ أدبر} أي ولى {والصبح إذا أسفر} أي أشرق {إنها لإحدى الكبر} أي العظائم يعني النار, قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وغير واحد من السلف {نذيراً للبشر * لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر} أي لمن شاء أن يقبل النذارة ويهتدي للحق أو يتأخر عنها ويولي ويردها.


    ** كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنّا نَخُوضُ مَعَ الُخَآئِضِينَ * وَكُنّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدّينِ * حَتّىَ أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ التّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنّهُمْ حُمُرٌ مّسْتَنفِرَةٌ * فَرّتْ مِن قَسْوَرَةٍ * بَلْ يُرِيدُ كُلّ امْرِىءٍ مّنْهُمْ أَن يُؤْتَىَ صُحُفاً مّنَشّرَةً * كَلاّ بَل لاّ يَخَافُونَ الاَخِرَةَ * كَلاّ إِنّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ هُوَ أَهْلُ التّقْوَىَ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ
    يقول تعالى مخبراً أن {كل نفس بما كسبت رهينة} أي معتقلة بعملها يوم القيامة قاله ابن عباس وغيره {إلا أصحاب اليمين} فإنهم {في جنات يتساءلون عن المجرمين} أي يسألون المجرمين وهم في الغرفات وأولئك في الدركات قائلين لهم: {ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين} أي ما عبدنا الله ولا أحسنا إلى خلقه من جنسنا {وكنا نخوض مع الخائضين} أي نتكلم فيما لا نعلم. وقال قتادة: كلما غوى غاوٍ غوينا معه {وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين} يعني الموت كقوله تعالى: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما هو ـ يعني عثمان بن مظعون ـ فقد جاءه اليقين من ربه» قال الله تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} أي من كان متصفاً بمثل هذه الصفات فإنه لا تنفعه يوم القيامة شفاعة شافع فيه لأن الشفاعة إنما تنجع إذا كان المحل قابلاً, فأما من وافى الله كافراً يوم القيامة فإنه له النار لا محالة خالداً فيها, ثم قال تعالى: {فما لهم عن التذكرة معرضين} أي فما لهؤلاء الكفرة الذين قبلك مما تدعوهم إليه وتذكرهم به معرضين {كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة} أي كأنهم في نفارهم عن الحق وإعراضهم عنه حمر من حمر الوحش إذا فرت ممن يريد صيدها من أسد, قاله أبو هريرة وابن عباس في رواية عنه وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن, أو رام, وهو رواية عن ابن عباس وهو قول الجمهور. وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس: الأسد بالعربية, ويقال له بالحبشية قسورة, وبالفارسية شير, وبالنبطية أوبا.
    وقوله تعالى: {بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفاً منشرة} أي بل يريد كل واحد من هؤلاء المشركين أن ينزل عليه كتاب كما أنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم, قاله مجاهد وغيره, كقوله تعالى: {وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله, الله أعلم حيث يجعل رسالته} وفي رواية عن قتادة: يريدون أن يؤتوا براءة بغير عمل, فقوله تعالى: {كلا بل لا يخافون الاَخرة} أي إنما أفسدهم عدم إيمانهم بها وتكذيبهم بوقوعها.
    ثم قال تعالى: {كلا إنه تذكرة} أي حقاً إن القرآن تذكرة {فمن شاء ذكره وما يذكرون إلا أن يشاء الله} كقوله: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله}. وقوله تعالى: {هو أهل التقوى وأهل المغفرة} أي هو أهل أن يخاف منه وهو أهل أن يغفر ذنب من تاب إليه وأناب. قاله قتادة. وقال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب, أخبرني سهيل أخو حزم, حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاَية {هو أهل التقوى وأهل المغفرة} وقال «قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله فمن اتقى أن يجعل معي إلهاً كان أهلاً أن أغفر له» ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث زيد بن الحباب, والنسائي من حديث المعافى بن عمران, كلاهما عن سهيل بن عبد الله القطعي به, وقال الترمذي: حسن غريب وسهيل ليس بالقوي, ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن هدبة بن خالد عن سهيل به, وهكذا رواه أبو يعلى والبزار والبغوي وغيرهم من حديث سهيل القطعي به. آخر تفسير سورة المدثر, ولله الحمد والمنة.

    تمت سورة المدثر
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:03

    --------------------------------------------------------------------------------

    سورة القيامة
    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

    ** لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلاَ أُقْسِمُ بِالنّفْسِ اللّوّامَةِ * أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلّن نّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَىَ قَادِرِينَ عَلَىَ أَن نّسَوّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ * فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرّ * كَلاّ لاَ وَزَرَ * إِلَىَ رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرّ * يُنَبّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدّمَ وَأَخّرَ * بَلِ الإِنسَانُ عَلَىَ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىَ مَعَاذِيرَهُ
    قد تقدم غير مرة أن المقسم عليه إذا كان منتفياً جاز الإتيان بلا قبل القسم لتأكيد النفي. والمقسم عليه ههنا هو إثبات المعاد والرد على ما يزعمه الجهلة من العباد ومن عدم بعث الأجساد, ولهذا قال تعالى: {لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة} قال الحسن: أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة, وقال قتادة: بل أقسم بهما جميعاً, هكذا حكاه ابن أبي حاتم: وقد حكى ابن جرير عن الحسن والأعرج أنهما قرءا {لأقسم بيوم القيامة} وهذا يوجه قول الحسن لأنه أثبت القسم بيوم القيامة ونفى القسم بالنفس اللوامة, والصحيح أنه أقسم بهما جميعاً كما قاله قتادة رحمه الله, وهو المروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير, واختاره ابن جرير, فأما يوم القيامة فمعروف وأما النفس اللوامة فقال قرة بن خالد عن الحسن البصري في هذه الاَية: إن المؤمن والله ما نراه إلا يلوم نفسه. ما أردت بكلمتي, ما أردت بأكلتي, ما أردت بحديث نفسي, وإن الفاجر يمضي قدماً ما يعاتب نفسه, وقال جويبر: بلغنا عن الحسن أنه قال في قوله: {ولا أقسم بالنفس اللوامة} قال: ليس أحد من أهل السموات والأرضين إلا يلوم نفسه يوم القيامة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم عن إسرائيل عن سماك أنه سأل عكرمة عن قوله: {ولا أقسم بالنفس اللوامة} قال: يلوم على الخير والشر لو فعلت كذا وكذا, ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن وكيع عن إسرائيل به, وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا مؤمل, حدثنا سفيان عن ابن جريج عن الحسن بن مسلم عن سعيد بن جبير في قوله: {ولا أقسم بالنفس اللوامة} قال: تلوم على الخير والشر, ثم رواه من وجه آخر عن سعيد أنه سأل ابن عباس عن ذلك فقال: هي النفس اللؤوم, وقال علي بن أبي نجيح عن مجاهد تندم على ما فات وتلوم عليه, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: اللوامة المذمومة, وقال قتادة {اللوامة} الفاجرة. وقال ابن جرير: وكل هذه الأقوال متقاربة بالمعنى والأشبه بظاهر التنزيل أنها التي تلوم صاحبها على الخير والشر وتندم على ما فات.
    وقوله تعالى: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه} أي يوم القيامة أيظن أنا لا نقدر على إعادة عظامه وجمعها من أماكنها المتفرقة {بلى قادرين على أن نسوي بنانه} وقال سعيد بن جبير والعوفي عن ابن عباس: أن نجعله خفاً أو حافراً, وكذا قال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك وابن جرير, ووجهه ابن جرير بأنه تعالى لو شاء لجعل ذلك في الدنيا, والظاهر من الاَية أن قوله تعالى: {قادرين} حال من قوله تعالى: {نجمع} أي أيظن الإنسان أنا لا نجمع عظامه ؟ بل سنجمعها قادرين على أن نسوي بنانه أي قدرتنا صالحة لجمعها, ولو شئنا بعثناه أزيد مما كان فنجعل بنانه وهي أطراف أصابعه مستوية, وهذا معنى قول ابن قتيبة والزجاج. وقوله: {بل يريد الإنسان ليفجر أمامه} قال سعيد عن ابن عباس: يعني يمضي قدماً, وقال العوفي عن ابن عباس {ليفجر أمامه} يعني الأمل, يقول الإنسان أعمل ثم أتوب قبل يوم القيامة, ويقال: هو الكفر بالحق بين يدي القيامة. وقال مجاهد {ليفجر أمامه} ليمضي أمامه راكباً رأسه, وقال الحسن: لا يُلقى ابن آدم إلا تنزع نفسه إلى معصية الله قدماً قدماً إلا من عصمه الله تعالى, وروي عن عكرمة وسعيد بن جبير والضحاك والسدي وغير واحد من السلف: هو الذي يعجل الذنوب ويسوف التوبة, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هو الكافر يكذب بيوم الحساب, وكذا قال ابن زيد وهذا هو الأظهر من المراد, ولهذا قال بعده {يسأل أيان يوم القيامة ؟} أي يقول متى يكون يوم القيامة وإنما سؤاله سؤال استبعاد لوقوعه وتكذيب لوجوده كما قال تعالى: {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين * قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون}.
    وقال تعالى ههنا: {فإذا برق البصر} قرأ أبو عمرو بن العلاء برق بكسر الراء أي حار, وهذا الذي قاله شبيه بقوله تعالى: {لا يرتد إليهم طرفهم} أي بل ينظرون من الفزع هكذا وهكذا لا يستقر لهم بصر على شيء من شدة الرعب, وقرأ آخرون برق بالفتح وهو قريب في المعنى من الأول, والمقصود أن الأبصار تنبهر يوم القيامة وتخشع وتحار وتذل من شدة الأهوال ومن عظم ما تشاهده يوم القيامة من الأمور. وقوله تعالى: {وخسف القمر} أي ذهب ضوؤه {وجمع الشمس والقمر} قال مجاهد: كورا, وقرأ ابن زيد عند تفسير هذه الاَية {إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت} وروي عن ابن مسعود أنه قرأ {وجمع بين الشمس والقمر}. وقوله تعالى: {يقول الإنسان يومئذ أين المفر} أي إذا عاين ابن آدم هذه الأهوال يوم القيامة حينئذ يريد أن يفر ويقول أين المفر أي هل من ملجأ أو موئل, قال الله تعالى: {كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر} قال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف: أي لا نجاة, وهذه الاَية كقوله تعالى: {مالكم من ملجأ يومئذ ومالكم من نكير} أي ليس لكم مكان تتنكرون فيه, وكذا قال ههنا: {لا وزر} أي ليس لكم مكان تعتصمون فيه, ولهذا قال: {إلى ربك يومئذ المستقر} أي المرجع والمصير.
    ثم قال تعالى: {ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر} أي يخبر بجميع أعماله قديمها وحديثها, أولها وآخرها, صغيرها وكبيرها, كما قال تعالى: {ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً} وهكذا قال ههنا: {بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره} أي هو شهيد على نفسه عالم بما فعله ولو اعتذر وأنكر, وكما قال تعالى: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {بل الإنسان على نفسه بصيرة} يقول: سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه. وقال قتادة: شاهد على نفسه وفي رواية قال: إذا شئت والله رأيته بصيراً بعيوب الناس وذنوبهم غافلاً عن ذنوبه. وكان يقال: إن في الإنجيل مكتوباً يا ابن آدم تبصر القذاة في عين أخيك وتترك الجِذْل في عينك لا تبصره!.
    وقال مجاهد: {ولو ألقى معاذيره} ولو جادل عنها فهو بصير عليها. وقال قتادة {ولو ألقى معاذيره} ولو اعتذر يومئذ بباطل لا يقبل منه. وقال السدي {ولو ألقى معاذيره} حجته. وكذا قال ابن زيد والحسن البصري وغيرهم واختاره ابن جرير. وقال قتادة عن زرارة عن ابن عباس {ولو ألقى معاذيره} يقول: لو ألقى ثيابه. وقال الضحاك: ولو ألقى ستوره وأهل اليمن يسمون الستر العذار. والصحيح قول مجاهد وأصحابه كقوله تعالى: {يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون} وقال العوفي عن ابن عباس {ولو ألقى معاذيره} هي الاعتذار ألم تسمع أنه قال {لا ينفع الظالمين معذرتهم} وقال {وألقوا إلى الله يومئذ السلم} {فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء} وقولهم {والله ربنا ما كنا مشركين}.


    ** لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمّ إِنّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ * كَلاّ بَلْ تُحِبّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الاَخِرَةَ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نّاضِرَةٌ * إِلَىَ رَبّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ
    هذا تعليم من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في كيفية تلقيه الوحي من الملك, فإنه كان يبادر إلى أخذه ويسابق الملك في قراءته, فأمره الله عز وجل إذا جاءه الملك بالوحي أن يستمع له وتكفل الله له أن يجمعه في صدره وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه عليه, وأن يبينه له ويفسره ويوضحه. فالحالة الأولى جمعه في صدره والثانية تلاوته والثالثة تفسيره وإيضاح معناه. ولهذا قال تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به} أي بالقرآن كما قال تعالى: {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علماً} ثم قال تعالى: {إن علينا جمعه} أي في صدرك {وقرآنه} أي أن تقرأه {فإذا قرأناه} أي إذا تلاه عليك الملك عن الله تعالى: {فاتبع قرآنه} أي فاستمع له ثم اقرأه كما أقرأك {ثم إن علينا بيانه} أي بعد حفظه وتلاوته نبينه لك ونوضحه ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن عن أبي عوانة عن موسى بن أبي عائشة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة فكان يحرك شفتيه قال: فقال لي ابن عباس: أنا أحرك شفتي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرك شفتيه, وقال لي سعيد: وأنا أحرك شفتي كما رأيت ابن عباس يحرك شفتيه, فأنزل الله عز وجل {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه} قال: جمعه في صدرك ثم تقرأه {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} أي فاستمع له وأنصت {ثم إن علينا بيانه} فكان بعد ذلك إذا انطلق جبريل قرأه كما أقرأه. وقد رواه البخاري ومسلم من غير وجه عن موسى بن أبي عائشة به. ولفظ البخاري فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عز وجل.
    وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو يحيى التيمي, حدثنا موسى بن أبي عائشة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يلقى منه شدة, وكان إذا نزل عليه عرف في تحريكه شفتيه يتلقى أوله ويحرك به شفتيه, خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره فأنزل الله تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به} وهكذا قال الشعبي والحسن البصري وقتادة ومجاهد والضحاك وغير واحد: إن هذه الاَية نزلت في ذلك. وقد روى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس {لا تحرك به لسانك لتعجل به} قال: كان لا يفتر من القراءة مخافة أن ينساه فقال الله تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه} أن نجمعه لك {وقرآنه} أن نقرئك فلا تنسى, وقال ابن عباس وعطية العوفي {ثم إن علينا بيانه} تبيين حلاله وحرامه وكذا قال قتادة. وقوله تعالى: {كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الاَخرة} أي إنما يحملهم على التكذيب بيوم القيامة ومخالفة ما أنزله الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم من الوحي الحق والقرآن العظيم, أنهم إنما همتهم إلى الدار الدنيا العاجلة وهم لاهون متشاغلون عن الاَخرة. ثم قال تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة} من النضارة أي حسنة بهية مشرقة مسرورة {إلى ربها ناظرة} أي تراه عياناً كما رواه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه «إنكم سترون ربكم عياناً». وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الاَخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث لا يمكن دفعها ولا منعها, لحديث أبي سعيد وأبي هريرة وهما في الصحيحين أنا ناساً قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال: «هل تضارون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب ؟» قالوا: لا, قال: «فإنكم ترون ربكم كذلك».

    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:04

    وفي الصحيحين عن جرير قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال: «إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر! فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها فافعلوا» وفي الصحيحين عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما, وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما, وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى الله عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن}. وفي أفراد مسلم عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة ـ قال ـ يقول الله تعالى: تريدون شيئاً أزيدكم ؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا! ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار! قال: فيكشف الحجاب, فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم وهي الزيادة» ثم تلا هذه الاَية {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} وفي أفراد مسلم عن جابر في حديثه «إن الله يتجلى للمؤمنين يضحك» يعني في عرصات القيامة ففي هذه الأحاديث أن المؤمنين ينظرون إلى ربهم عز وجل في العرصات وفي روضات الجنات, وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا عبد الملك بن أبحر, حدثنا ثوير بن أبي فاخته عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لينظر في ملكه ألفي سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه, ينظر إلى أزواجه وخدمه, وإن أفضلهم منزلة لينظر في وجه الله كل يوم مرتين» ورواه الترمذي عن عبد بن حميد عن شبابة عن إسرائيل عن ثوير قال: سمعت ابن عمر فذكره, قال: ورواه عبد الملك بن أبحر عن نوير عن مجاهد عن ابن عمر, وكذلك رواه الثوري عن نوير عن مجاهد عن ابن عمر ولم يرفعه, ولولا خشية الإطالة لأوردنا الأحاديث بطرقها وألفاظها من الصحاح والحسان والمسانيد والسنن, ولكن ذكرنا ذلك مفرقاً في مواضع من هذا التفسير وبالله التوفيق.
    وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام, وهداة الأنام, ومن تأول ذلك بأن المراد بإلى مفرد الاَلاء وهي النعم كما قال الثوري عن منصور عن مجاهد {إلى ربها ناظرة} قال: تنتظر الثواب من ربها, رواه ابن جرير من غير وجه عن مجاهد وكذا قال أبو صالح أيضاً فقد أبعد هذا القائل النجعة وأبطل فيما ذهب إليه, وأين هو من قوله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ؟} قال الشافعي رحمه الله تعالى: ما حجب الكفار إلا وقد علم أن الأبرار يرونه عز وجل ثم قد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما دل عليه سياق الاَية الكريمة وهي قوله تعالى: {إلى ربها ناظرة} قال ابن جرير: حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري, حدثنا آدم, حدثنا المبارك عن الحسن {وجوه يومئذ ناضرة} قال حسنة {إلى ربها ناظرة} قال: تنظر إلى الخالق وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق.
    .


    ** كَلاّ إِذَا بَلَغَتِ التّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنّ أَنّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفّتِ السّاقُ بِالسّاقِ * إِلَىَ رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلاَ صَدّقَ وَلاَ صَلّىَ * وَلَـَكِن كَذّبَ وَتَوَلّىَ * ثُمّ ذَهَبَ إِلَىَ أَهْلِهِ يَتَمَطّىَ * أَوْلَىَ لَكَ فَأَوْلَىَ * ثُمّ أَوْلَىَ لَكَ فَأَوْلَىَ * أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مّنِيّ يُمْنَىَ * ثُمّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّىَ * فَجَعَلَ مِنْهُ الزّوْجَيْنِ الذّكَرَ وَالاُنثَىَ * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىَ أَن يُحْيِـيَ الْمَوْتَىَ
    يخبر تعالى عن حالة الاحتضار وما عنده من الأهوال ثبتنا الله هنالك بالقول الثابت فقال تعالى: {كلا إذا بلغت التراقي} إن جعلنا كلا رادعة فمعناها لست يا ابن آدم هناك تكذب بما أخبرت به بل صار ذلك عندك عياناً, وإن جعلناها بمعنى حقاً فظاهر, أي حقاً إذا بلغت التراقي أي انتزعت روحك من جسدك وبلغت تراقيك, والتراقي جمع ترقوة وهي العظام التي بين ثغرة النحر والعاتق, كقوله تعالى: {فلولا إذا بلغت الحلقوم, وأنتم حينئذ تنظرون, ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين, ترجعونها, إن كنتم صادقين} وهكذا قال ههنا: {كلا إذا بلغت التراقي} ويذكر ههنا حديث بشر بن حجاج الذي تقدم في سورة يس. والتراقي جمع ترقوة وهي قريبة من الحلقوم {وقيل من راق ؟} قال عكرمة عن ابن عباس: أي من راق يرقى, وكذا قال أبو قلابة: {وقيل من راق} أي من طبيب شاف, وكذا قال قتادة والضحاك وابن زيد, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا نصر بن علي, حدثنا روح بن المسيب أبو رجاء الكلبي, حدثنا عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس {وقيل من راق} قيل من يرقى بروحه ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب ؟ فعلى هذا يكون من كلام الملائكة.
    وبهذا الإسناد عن ابن عباس في قوله: {والتفت الساق بالساق} قال: التفت عليه الدنيا والاَخرة, وكذا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {والتفت الساق بالساق} يقول آخر يوم من أيام الدنيا أول يوم من أيام الاَخرة فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحمه الله. وقال عكرمة: {والتفت الساق بالساق} الأمر العظيم بالأمر العظيم, وقال مجاهد: بلاء ببلاء, وقال الحسن البصري في قوله تعالى: {والتفت الساق بالساق} هما ساقاك إذا التفتا, وفي رواية عنه ماتت رجلاه فلم تحملاه وقد كان عليهما جوالاً, وكذا قال السدي عن أبي مالك, وفي رواية عن الحسن: هو لفهما في الكفن, وقال الضحاك: {والتفت الساق بالساق} اجتمع عليه أمران: الناس يجهزون جسده والملائكة يجهزون روحه. وقوله تعالى: {إلى ربك يومئذ المساق} أي المرجع والمآب وذلك أن الروح ترفع إلى السموات, فيقول الله عز وجل: ردوا عبدي إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى, كما ورد في حديث البراء الطويل. وقد قال الله تعالى: {وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون * ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين}.
    وقوله جل وعلا: {فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى} هذا إخبار عن الكافر الذي كان في الدار الدنيا مكذباً للحق بقلبه متولياً عن العمل بقالبه, فلا خير فيه باطناً ولا ظاهراً, ولهذا قال تعالى: {فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى} أي جذلان أشراً بطراً كسلان لا همة له ولا عمل, كما قال تعالى: {وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين} وقال تعالى: {إنه كان في أهله مسروراً إنه ظن أن لن يحور} أي يرجع {بلى إن ربه كان به بصيراً} وقال الضحاك عن ابن عباس {ثم ذهب إلى أهله يتمطى} أي يختال: وقال قتادة وزيد بن أسلم: يتبختر. قال الله تعالى: {أولى لك فأولى * ثم أولى لك فأولى} وهذا تهديد ووعيد أكيد من الله تعالى للكافر به المتبختر في مشيه أي يحق لك أن تمشي هكذا وقد كفرت بخالقك وبارئك كما يقال في مثل هذا على سبيل التهكم والتهديد, كقوله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} وكقوله تعالى: {كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون} وكقوله تعالى: {فاعبدوا ما شئتم من دونه} وكقوله جل جلاله: {اعملوا ما شئتم} إلى غير ذلك. وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي, حدثنا عبد الرحمن يعني ابن مهدي عن إسرائيل عن موسى بن أبي عائشة قال: سألت سعيد بن جبير قلت {أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى} قال: قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جهل ثم نزل به القرآن.
    وقال أبو عبد الرحمن النسائي: حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا أبو النعمان, حدثنا أبو عوانة (ح) وحدثنا أبو داود, حدثنا محمد بن سليمان, حدثنا أبو عوانة عن موسى بن أبي عائشة عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: {أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى} ؟ قال: قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل ثم أنزله الله عز وجل, قال ابن أبي حاتم: وحدثنا أبي, حدثنا هشام بن خالد, حدثنا شعيب عن إسحاق, حدثنا سعيد عن قتادة قوله: {أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى} وعيد على أثر وعيد كما تسمعون, وزعموا أن عدو الله أبا جهل أخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم بمجامع ثيابه ثم قال: «أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى» فقال عدو الله أبو جهل: أتوعدني يا محمد ؟ والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئاً وإني لأعز من مشى بين جبليها. وقوله تعالى: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} قال السدي: يعني لا يبعث. وقال مجاهد والشافعي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني لا يؤمر ولا ينهى, والظاهر أن الاَية تعم الحالين أي ليس يترك في هذه الدنيا مهملاً لا يؤمر ولا ينهى, ولا يترك في قبره سدى لا يبعث بل هو مأمور منهي في الدنيا محشور إلى الله في الدار الاَخرة, والمقصود هنا إثبات المعاد والرد على من أنكره من أهل الزيغ والجهل والعناد, ولهذا قال تعالى مستدلاً على الإعادة بالبداءة فقال تعالى: {ألم يك نطفة من مني يمنى} أي أما كان الإنسان نطفة ضعيفة من ماء مهين. يمنى: يراق من الأصلاب في الأرحام.
    {ثم كان علقة فخلق فسوى} أي فصار علقة ثم مضغة ثم شكل ونفخ فيه الروح فصار خلقاً سوياً سليم الأعضاء ذكراً أو أنثى بإذن الله وتقديره. ولهذا قال تعالى: {فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى} ثم قال تعالى: {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} أي أما هذا الذي أنشأ هذا الخلق السوي من هذه النطفة الضعيفة بقادر على أن يعيده كما بدأه وتناول القدرة للإعادة إما بطريق الأولى بالنسبة إلى البداءة وإما مساوية على القولين في قوله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} والأول أشهر كما تقدم في سورة الروم بيانه وتقريره والله أعلم.
    قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح, حدثنا شبابة عن شعبة, عن موسى بن أبي عائشة عن آخر أنه كان فوق سطح يقرأ ويرفع صوته بالقرآن, فإذا قرأ {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} قال: سبحانك اللهم فبلى, فسئل عن ذلك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك. وقال أبو داود رحمه الله حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن موسى بن أبي عائشة قال: كان رجل يصلي فوق بيته فكان إذا قرأ {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} قال سبحانك فبلى, فسألوه عن ذلك فقال: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم, تفرد به أبو داود ولم يسم هذا الصحابي ولا يضر ذلك.
    وقال أبو داود أيضاً: حدثنا عبد الله بن محمد الزهري, حدثنا سفيان, حدثني إسماعيل بن أمية, سمعت أعرابياً يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ منكم بالتين والزيتون فانتهى إلى آخرها {أليس الله بأحكم الحاكمين} فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين, ومن قرأ {لا أقسم بيوم القيامة} فانتهى إلى قوله {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} فليقل بلى, ومن قرأ {والمرسلات} فبلغ {فبأي حديث بعده يؤمنون} فليقل «آمنا بالله» ورواه أحمد عن سفيان بن عيينة ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر, عن سفيان بن عيينة به وقد رواه شعبة عن إسماعيل بن أمية قال: قلت له من حدثك ؟ قال: رجل صدق عن أبي هريرة. وقال ابن جرير: حدثنا بشر, حدثنا يزيد, حدثنا سعيد عن قتادة قوله تعالى: {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال «سبحانك وبلى» ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي, حدثنا أبو أحمد الزبيري, حدثنا سفيان عن أبي إسحاق, عن مسلم البطين, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, أنه مر بهذه الاَية {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ؟} قال: سبحانك فبلى. آخر تفسير سورة القيامة و لله الحمد والمنة.

    تمت سورة القيامة
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:05

    سورة الإنسان
    قد تقدم في صحيح مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة {ألم تنزيل} السجدة و {هل أتى على الإنسان ؟} وقال عبد الله بن وهب: أخبرنا ابن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه السورة {هل أتى على الإنسان حين من الدهر ؟} وقد أنزلت عليه وعنده رجل أسود, فلما بلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخرج نفس صاحبكم ـ أو قال أخيكم ـ الشوق إلى الجنة» مرسل غريب.
    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** هَلْ أَتَىَ عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مّنَ الدّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مّذْكُوراً * إِنّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنّا هَدَيْنَاهُ السّبِيلَ إِمّا شَاكِراً وَإِمّا كَفُوراً
    يقول تعالى مخبراً عن الإنسان أنه أوجده بعد أن لم يكن شيئاً يذكر لحقارته وضعفه فقال تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاًمذكوراً ؟} ثم بين ذلك فقال جل جلاله: {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج} أي أخلاط, والمشج والمشيج: الشيء المختلط بعضه في بعض, قال ابن عباس في قوله تعالى: {من نطفة أمشاج} يعني ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا واختلطا, ثم ينتقل بعد من طور إلى طور وحال إلى حال ولون إلى لون, وهكذا قال عكرمة ومجاهد والحسن والربيع بن أنس: الأمشاج هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة.
    وقوله تعالى: {نبتليه} أي نختبره كقوله جل جلاله: {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} {فجعلناه سميعاً بصيراً} أي جعلنا له سمعاً وبصراً يتمكن بهما من الطاعة والمعصية.
    وقوله جل وعلا: {إنا هديناه السبيل} أي بيناه له ووضحناه وبصرناه به كقوله جل وعلا: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} وكقوله جل وعلا: {وهديناه النجدين} أي بينا له طريق الخير وطريق الشر, وهذا قول عكرمة وعطية وابن زيد ومجاهد في المشهور عنه والجمهور. وروي عن مجاهد وأبي صالح والضحاك والسدي أنهم قالوا في قوله تعالى: {إنا هديناه السبيل} يعني خروجه من الرحم, وهذا قول غريب والصحيح المشهور الأول. وقوله تعالى: {إما شاكراً وإما كفوراً} منصوب على الحال من الهاء في قوله: {إنا هديناه السبيل} تقديره فهو في ذلك إما شقي وإما سعيد, كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو فبائع نفسه فموبقها أو معتقها».
    وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن ابن خثيم عن عبد الرحمن بن سابط عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة: «أعاذك الله من إمارة السفهاء» قال: وما إمارة السفهاء ؟ قال: «أمراء يكونون من بعدي لا يهتدون بهداي, ولا يستنون بسنتي فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا مني ولست منهم ولا يردون على حوضي, ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم وسيردون على حوضي. يا كعب بن عجرة, الصوم جنة والصدقة تطفى الخطيئة, والصلاة قربات ـ أو قال برهان ـ يا كعب بن عجرة إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت, النار أولى به, يا كعب, الناس غاديان فمبتاع نفسه فمعتقها, وبائع نفسه فموبقها» ورواه عن غياث بن وهب عن عبد الله بن عثمان بن خثيم به. وقد تقدم في سورة الروم عند قوله جل جلاله {فطرة الله التي فطر الناس عليها} من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإذا أعرب عنه لسانه فإما شاكراً وإما كفوراً».
    وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر, حدثنا عبد الله بن جعفر عن عثمان بن محمد عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من خارج يخرج إلا ببابه رايتان: راية بيد ملك وراية بيد شيطان, فإن خرج لما يحب الله اتبعه الملك برايته, فلم يزل تحت راية الملك حتى يرجع إلى بيته, وإن خرج لما يسخط الله اتبعه الشيطان برايته فلم يزل تحت راية الشيطان حتى يرجع إلى بيته».


    ** إِنّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً * إِنّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللّهِ يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً * يُوفُونَ بِالنّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلَىَ حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً * إِنّا نَخَافُ مِن رّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللّهُ شَرّ ذَلِكَ الْيَومِ وَلَقّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنّةً وَحَرِيراً
    يخبر تعالى عما أرصده للكافرين من خلقه به من السلاسل والأغلال والسعير, وهو اللهب والحريق في نار جهنم كما قال تعالى: {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون * في الحميم ثم في النار يسجرون} ولما ذكر ما أعده لهؤلاء الأشقياء من السعير قال بعده: {إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً} وقد علم ما في الكافور من التبريد والرائحة الطيبة مع ما يضاف إلى ذلك من اللذاذة في الجنة. قال الحسن: برد الكافور في طيب الزنجبيل ولهذا قال: {عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً} أي هذا الذي مزج لهؤلاء الأبرار من الكافور هو عين يشرب بها المقربون من عباد الله صرفاً بلا مزج ويروون بها, ولهذا ضمن يشرب معنى يروى حتى عداه بالباء ونصب عيناً على التمييز, قال بعضهم: هذا الشراب في طيبه كالكافور, وقال بعضهم: هو من عين كافور, وقال بعضهم: يجوز أن يكون منصوباً بيشرب حكى هذه الأقوال الثلاثة ابن جرير. وقوله تعالى: {يفجرونها تفجيراً} أي يتصرفون فيها حيث شاؤوا وأين شاؤوا من قصورهم ودورهم ومجالسهم ومحالهم, والتفجير هو الإنباع كما قال تعالى: {وقالوا لن نؤمن حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً} وقال {وفجرنا خلالهما نهراً}.
    وقال مجاهد: {يفجرونها تفجيراً} يقودونها حيث شاؤوا وكذا قال عكرمة وقتادة, وقال الثوري يصرفونها حيث شاؤوا, وقوله تعالى: {يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً} أي يتعبدون لله فيما أوجبه عليهم من فعل الطاعات الواجبة بأصل الشرع وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر. قال الإمام مالك عن طلحة بن عبد الملك الأيلي عن القاسم بن مالك عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» رواه البخاري من حديث مالك. ويتركون المحرمات التي نهاهم عنها خيفة من سوء الحساب يوم المعاد وهو اليوم الذي شره مستطير أي منتشر عام على الناس إلا من رحم الله, قال ابن عباس: فاشياً, وقال قتادة: استطار والله شر ذلك اليوم حتى ملأ السموات والأرض, وقال ابن جرير: ومنه قولهم: استطار الصدع في الزجاجة واستطال, ومنه قول الأعشى:
    فبانت وقد أسأت في الفؤاد صدعاً على نأيها مستطيراً
    يعني ممتداً فاشياً. وقوله تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه} قيل على حب الله تعالى, وجعلوا الضمير عائداً إلى الله عز وجل لدلالة السياق عليه, والأظهر أن الضمير عائد على الطعام أي ويطعمون الطعام في حال محبتهم وش*****هم له, قاله مجاهد ومقاتل واختاره ابن جرير كقوله تعالى: {وآتى المال على حبه} وكقوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وروى البيهقي من طريق الأعمش عن نافع قال: مرض ابن عمر فاشتهى عنباً أول ما جاء العنب فأرسلت صفية, يعني امرأته, فاشترت عنقوداً بدرهم فاتبع الرسول سائل فلما دخل به قال السائل: السائل. فقال ابن عمر: أعطوه إياه فأعطوه إياه, فأرسلت بدرهم آخر فاشترت عنقوداً فاتبع الرسول السائل, فلما دخل قال السائل: السائل. فقال ابن عمر: أعطوه إياه فأعطوه إياه, فأرسلت صفية إلى السائل فقالت والله إن عدت لا تصيب منه خيراً أبداً, ثم أرسلت بدرهم آخر فاشترت به. وفي الصحيح «أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر» أي في حال محبتك للمال وحرصك عليه وحاجتك إليه, ولهذا قال تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً} أما المسكين واليتيم فقد تقدم بيانهما وصفتهما, وأما الأسير فقال سعيد بن جبير والحسن والضحاك: الأسير من أهل القبلة, وقال ابن عباس: كان أسراؤهم يومئذ مشركين, ويشهد لهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى, فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء, وقال عكرمة: هم العبيد, واختاره ابن جرير لعموم الاَية للمسلم والمشرك, وهكذا قال سعيد بن جبير وعطاء والحسن وقتادة, وقد وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإحسان إلى الأرقاء في غير ما حديث, وحتى أنه كان آخر ما أوصى أن جعل يقول: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» قال مجاهد: هو المحبوس, أي يطعمون الطعام لهؤلاء وهم يشتهونه ويحبونه قائلين بلسان الحال {إنما نطعمكم لوجه الله} أي رجاء ثواب الله ورضاه {لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً} أي لا نطلب منكم مجازاة تكافئوننا بها ولا أن تشكرونا عند الناس.
    قال مجاهد وسعيد بن جبير: أما والله ما قالوه بألسنتهم ولكن علم الله به من قلوبهم, فأثنى عليهم به. ليرغب في ذلك راغب {إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً} أي إنما نفعل هذا لعل الله أن يرحمنا ويتلقانا بلطفه في اليوم العبوس القمطرير. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: عبوساً ضيقاً, قمطريراً طويلاً, وقال عكرمة وغيره عنه في قوله {يوماً عبوساً قمطريراً} قال: يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران. وقال مجاهد {عبوساً} العابس الشفتين {قمطريراً} قال: يقبض الوجه بالبسور. وقال سعيد بن جبير وقتادة: تعبس فيه الوجوه من الهول, قمطريراً تقليص الجبين وما بين العينين من الهول. وقال ابن زيد, العبوس الشر, والقمطرير الشديد, وأوضح العبارات, وأجلاها, وأحلاها, وأعلاها وأولاها قول ابن عباس رضي الله عنه, قال ابن جرير: والقمطرير هو الشديد يقال: هو يوم قمطرير ويوم قماطر ويوم عصيب وعصبصب, وقد اقمطر اليوم يقمطر اقمطراراً, وذلك أشد الأيام وأطولها في البلاء والشدة ومنه قول بعضهم:
    بني عمنا هل تذكرون بلاءنا عليكم إذا ما كان يوم قماطر
    قال الله تعالى: {فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسروراً} وهذا من باب التجانس البليغ {فوقاهم الله شر ذلك اليوم} أي آمنهم مما خافوا منه {ولقاهم نضرة} أي في وجوههم {وسروراً} أي في قلوبهم, قاله الحسن البصري وقتادة وأبو العالية والربيع بن أنس, وهذه كقوله تعالى: {وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة} وذلك أن القلب إذا سر استنار الوجه, قال كعب بن مالك في حديثه الطويل. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سراستنار وجهه حتى كأنه فلقة قمر, وقالت عائشة رضي لله عنها: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم مسروراً تبرق أسارير وجهه الحديث. وقوله تعالى: {وجزاهم بما صبروا} أي بسبب صبرهم أعطاهم ونولهم وبوأهم جنة وحريراً أي منزلاً رحباً وعيشاً رغيداً ولباساً حسناً. وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة هشام بن سليمان الداراني قال: قرىء على أبي سليمان الداراني سورة {هل أتى على الإنسان ؟} فلما بلغ القارىء إلى قوله تعالى: {وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً} قال: بما صبروا على ترك الشهوات في الدنيا ثم أنشد يقول:
    كم قتيل بشهوة وأسيرأف من مشتهى خلاف الجميل
    شهوات الإنسان تورثه الذلوتلقيه في البلاء الطويل

    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:06

    مّتّكِئِينَ فِيهَا عَلَىَ الأرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مّن فِضّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ * قَوَارِيرَاْ مِن فِضّةٍ قَدّرُوهَا تَقْدِيراً * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمّىَ سَلْسَبِيلاً * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مّخَلّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مّنثُوراً * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلّوَاْ أَسَاوِرَ مِن فِضّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً * إِنّ هَـَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مّشْكُوراً
    يخبر تعالى عن أهل الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم وما أسبغ عليهم من الفضل العميم فقال تعالى: {متكئين فيها على الأرائك} وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الصافات, وذكر الخلاف في الاتكاء هل هو الاضطجاع أو التمرفق أو التربع أو التمكن في الجلوس, وأن الأرائك هي السرر تحت الحجال. وقوله تعالى: {لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً} أي ليس عندهم حر مزعج ولا برد مؤلم بل هي مزاج واحد دائم سرمدي لا يبغون عنها حولا {ودانية عليهم ظلالها} أي قريبة إليهم أغصانها {وذللت قطوفها تذليلاً} أي متى تعاطاه دنا القطف إليه وتدلى من أعلى غصنه كأنه سامع طائع كما قال تعالى في الاَية الأخرى: {وجنى الجنتين دان} وقال جل وعلا: {قطوفها دانية} قال محاهد: {وذللت قطوفها تذليلاً} إن قام ارتفعت معه بقدر, وإن قعد تذللت له حتى ينالها, وإن اضطجع تذللت له حتى ينالهافذلك قوله تعالى : {تذليلاً} وقال قتادة: لا يرد أيديهم عنها شوك ولا بعد, وقال مجاهد أرض الجنة من ورق وترابها من المسك, وأصول شجرها من ذهب وفضة, وأفنانها من اللؤلؤ الرطب وال***جد والياقوت والورق والثمر بين ذلك, فمن أكل منها قائماً لم تؤذه, ومن أكل منها قاعداً لم تؤذه, ومن أكل منها مضطجعاً لم تؤذه.
    وقوله جلت عظمته: {ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب} أي يطوف عليهم الخدم بأواني الطعام وهي من فضة وأكواب الشراب وهي الكيزان التي لا عرى لها ولا خراطيم, وقوله {قوارير قوارير من فضة} فالأول منصوب بخبر كان أي كانت قوارير, والثاني منصوب إما على البدلية أو تمييز لأنه بينه بقوله جل وعلا: {قوارير من فضة}
    قال ابن عباس ومجاهد والحسن البصري وغير واحد: بياض الفضة في صفاء الزجاج والقوارير لا تكون إلا من زجاج, فهذه الأكواب هي من فضة وهي مع هذا شفافة يرى ما في باطنها من ظاهرها, وهذا مما لا نظير له في الدنيا, قال ابن المبارك عن إسماعيل عن رجل عن ابن عباس: ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة. رواه ابن أبي حاتم: وقوله تعالى: {قدروها تقديراً} أي على قدر ريهم لا تزيد عنه ولا تنقص بل هي معدة لذلك مقدرة حسب ري صاحبها, وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي صالح وقتادة وابن أبزى, وعبد الله بن عبيد الله بن عمير والشعبي وابن زيد, وقاله ابن جرير وغير واحد, وهذا أبلغ في الاعتناء والشرف والكرامة, وقال العوفي عن ابن عباس {قدروها تقديراً} قدرت للكف وهكذا قال الربيع بن أنس, وقال الضحاك, على قدر كف الخادم, وهذا لا ينافي القول الأول فإنها مقدرة في القدر والري.
    وقوله تعالى: {ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً} أي ويسقون يعني الأبرار أيضاً في هذه الأكواب {كأساً} أي خمراً {كان مزاجها زنجبيلاً} فتارة يمزج لهم الشراب بالكافور وهو بارد, وتارة بالزنجبيل وهو حار ليعتدل الأمر, وهؤلاء يمزج لهم من هذا تارة ومن هذا تارة, وأما المقربون فإنهم يشربون من كل منهما صرفاً كما قال قتادة وغير واحد: وقد تقدم قوله جل وعلا {عيناً يشرب بها عباد الله} وقال ههنا: {عيناً فيها تسمى سلسبيلاً} أي الزنجبيل عين في الجنة تسمى سلسبيلاً, وقال عكرمة: اسم عين في الجنة, وقال مجاهد: سميت بذلك لسلاسة سيلها وحدة جريها, وقال قتادة: {عيناً فيها تسمى سلسبيلاً} عين سلسة مستقيد ماؤها, وحكى ابن جرير عن بعضهم أنها سميت بذلك لسلاستها في الحلق واختار هو أنها تعم ذلك كله وهو كما قال.
    وقوله تعالى: {ويطوف عليهم ولدان مخلدون * إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً} أي يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان الجنة {مخلدون} أي على حالة واحدة مخلدون عليها لا يتغيرون عنها لا تزيد أعمارهم عن تلك السن, ومن فسرهم بأنهم مخرصون في آذانهم الأقرطة فإنما عبر عن المعنى بذلك, لأن الصغير هو الذي يليق له ذلك دون الكبير. وقوله تعالى: {إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً} أي إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة وكثرتهم وصباحة وجوههم وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً, ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن. وقال قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو: ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليه ألف خادم كل خادم على عمل ما عليه صاحبه.
    وقوله جل وعلا: {وإذا رأيت} أي وإذا رأيت يا محمد {ثم} أي هناك يعني في الجنة ونعيمها وسعتها وارتفاعها وما فيها من الحبرة والسرور {رأيت نعيماً وملكاً كبيراً} أي مملكة لله هناك عظيمة وسلطاناً باهراً. وثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لاَخر أهل النار خروجاً منها وآخر أهل الجنة دخولاً إليها: إن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها. وقد قدمنا في الحديث المروي من طريق ثوير بن أبي فاختة عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألف سنة ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه» فإذا كان هذا عطاؤه تعالى لأدنى من يكون في الجنة فما ظنك بما هو أعلى منزلة وأحظى عنده تعالى ؟ وقد روى الطبراني ههنا حديثاً غريباً جداً فقال: حدثنا علي بن عبد العزيز, حدثنا محمد بن عمار الموصلي, حدثنا عقبة بن سالم عن أيوب بن عتبة عن عطاء عن ابن عمر قال: جاء رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سل واستفهم» فقال: يا رسول الله فضلتم علينا بالصور والألوان والنبوة, أفرأيت إن آمنت بما آمنت به وعملت بما عملت به إني لكائن معك في الجنة ؟ قال: «نعم والذي نفسي بيده إنه ليرى بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلا الله كان له بها عهد عند الله, ومن قال سبحان الله وبحمده كتب له مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة» فقال رجل: كيف نهلك بعد هذا يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وضع على جبل لأثقله فتقوم النعمة أو نعم الله فتكاد تستنفد ذلك كله إلا أن يتغمده الله برحمته» ونزلت هذه السورة {هل أتى على الإنسان حين من الدهر ـ إلى قوله ـ ملكاً كبيراً} فقال الحبشي: وإن عيني لترى ما ترى عيناك في الجنة قال «نعم» فاستبكى حتى فاضت نفسه. قال ابن عمر: ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه في حفرته بيده.
    وقوله جل جلاله: {عاليهم ثياب سندس وإستبرق} أي لباس أهل الجنة فيها الحرير ومنه سندس وهو رفيع الحرير كالقمصان ونحوها مما يلي أبدانهم, والإستبرق منه ما فيه بريق ولمعان وهو مما يلي الظاهر كما هو المعهود في اللباس {وحلوا أساور من فضة} وهذه صفة الأبرار, وأما المقربون فكما قال تعالى: {يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير} ولما ذكر تعالى زينة الظاهر بالحرير والحلي قال بعده: {وسقاهم ربهم شراباً طهوراً} أي طهر بواطنهم من الحسد والحقد والغل والأذى وسائر الأخلاق الرديئة, كما روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إذا انتهى أهل الجنة إلى باب الجنة وجدوا هناك عينين, فكأنما ألهموا ذلك فشربوا من إحداهما فأذهب الله ما في بطونهم من أذى, ثم اغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم, فأخبر سبحانه وتعالى بحالهم الظاهر وجمالهم الباطن. وقوله تعالى: {إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكوراً} أي يقال لهم ذلك تكريماً لهم وإحساناً إليهم كما قال تعالى: {كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية} وكقوله تعالى: {ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون} وقوله تعالى: {وكان سعيكم مشكوراً} أي جزاكم الله تعالى على القليل بالكثير.


    ** إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلاً * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * وَمِنَ اللّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً * إِنّ هَـَؤُلاَءِ يُحِبّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً * نّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً * إِنّ هَـَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتّخَذَ إِلَىَ رَبّهِ سَبِيلاً * وَمَا تَشَآءُونَ إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً * يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظّالِمِينَ أَعَدّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
    يقول تعالى ممتناً على رسوله صلى الله عليه وسلم بما أنزله عليه من القرآن العظيم تنزيلاً: {فاصبر لحكم ربك} أي كما أكرمتك بما أنزلت عليك فاصبر على قضائه وقدره واعلم أنه سيدبرك بحسن تدبيره {ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً} أي لا تطع الكافرين والمنافقين إن أرادوا صدك عما أنزل إليك بل بلغ ما أنزل إليك من ربك وتوكل على الله فإن الله يعصمك من الناس, فالاَثم هو الفاجر في أفعاله والكفور هو الكافر قلبه {واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً} أي أول النهار وآخره {ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاً} كقوله تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} وكقوله تعالى: {يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلاً * أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً} ثم قال تعالى منكراً على الكفار ومن أشبههم في حب الدنيا والإقبال عليها والانصباب إليها وترك الدار الاَخرة وراء ظهورهم {إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً} يعني يوم القيامة ثم قال تعالى: {نحن خلقناهم وشددنا أسرهم} قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: يعني خلقهم {وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلاً} أي وإذا شئنا بعثناهم يوم القيامة وبدلناهم فأعدناهم خلقاً جديداً, وهذا استدلال بالبداءة على الرجعة. وقال ابن زيد وابن جرير {وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلاً} أي وإذا شئنا أتينا بقوم آخرين غيرهم كقوله تعالى: {إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديراً} وكقوله تعالى: {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز}.
    ثم قال تعالى: {إن هذه تذكرة} يعني هذه السورة تذكرة {فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً} أي طريقاً ومسلكاً أي من شاء اهتدى بالقرآن كقوله تعالى: {وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الاَخر} الاَية, ثم قال تعالى: {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} أي لا يقدر أحد أن يهدي نفسه ولا يدخل في الإيمان ولا يجر لنفسه نفعاً {إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} أي عليم بمن يستحق الهداية فييسرها له ويقيض له أسبابها, ومن يستحق الغواية فيصرفه عن الهدى. وله الحكمة البالغة, والحجة الدامغة, ولهذا قال تعالى: {إن الله كان عليماً حكيماً} ثم قال: {يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذاباً أليماً} أي يهدي من يشاء ويضل من يشاء فمن يهده فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. آخر تفسير سورة الإنسان, و لله الحمد والمنة.

    تمت سورة الانسان
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:07

    سورة المرسلات
    قال البخاري: حدثنا عمر بن حفص بن غياث, حدثنا أبي حدثنا الأعمش, حدثني إبراهيم عن الأسود عن عبد الله ـ هو ابن مسعود ـ رضي الله عنه قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار بمنى إذ نزلت عليه {والمرسلات} فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وإن فاه لرطب بها إذ وثبت علينا حية, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اقتلوها» فابتدرناها فذهبت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وقيت شركم كما وقيتم شرها» وأخرجه مسلم أيضاً من طريق الأعمش, وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن أمه أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفاً, وفي رواية مالك عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس أن أم الفضل سمعته يقرأ {والمرسلات عرفاً} فقالت: يا بني أذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لاَخر ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب. أخرجاه في الصحيحين من طريق مالك به.
    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** وَالْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً * والنّاشِرَاتِ نَشْراً * فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً * عُذْراً أَوْ نُذْراً * إِنّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ * فَإِذَا النّجُومُ طُمِسَتْ * وَإِذَا السّمَآءُ فُرِجَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ * وَإِذَا الرّسُلُ أُقّتَتْ * لأيّ يَوْمٍ أُجّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ
    قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا زكريا بن سهل المروزي, حدثنا علي بن الحسن بن شقيق, حدثنا الحسين بن واقد, حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة {والمرسلات عرفاً} قال: الملائكة, وروي عن مسروق وأبي الضحى ومجاهد في إحدى الروايات والسدي والربيع بن أنس مثل ذلك وروي عن أبي صالح أنه قال: هي الرسل, وفي رواية عنه أنها الملائكة, وهكذا قال أبو صالح في العاصفات والناشرات والفارقات والملقيات أنها الملائكة. وقال الثوري عن سلمة بن كهيل عن مسلم البطين عن أبي العبيدين قال: سألت ابن مسعود عن المرسلات عرفاً قال: الريح, وكذا قال في {العاصفات عصفاً والناشرات نشراً} إنها الريح, وكذا قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح في رواية عنه وتوقف ابن جرير في {والمرسلات عرفاً} هل هي الملائكة إذا أرسلت بالعرف أو كعرف الفرس يتبع بعضهم بعضاً, أو هي الرياح إذا هبت شيئاً فشيئاً ؟ وقطع بأن العاصفات عصفاً الرياح كما قاله ابن مسعود ومن تابعه, وممن قال ذلك في العاصفات عصفاً أيضاً علي بن أبي طالب والسدي وتوقف في الناشرات نشراً هل هي الملائكة أو الريح كما تقدم ؟ وعن أبي صالح أن الناشرات نشراً هي المطر, والأظهر أن المرسلات هي الرياح كما قال تعالى: {وأرسلنا الرياح لواقح} وقال تعالى: {وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته} وهكذا العاصفات هي الرياح, يقال عصفت الرياح إذا هبت بتصويت, وكذا الناشرات هي الرياح التي تنشر السحاب في آفاق السماء كما يشاء الرب عز وجل.
    وقوله تعالى: {فالفارقات فرقاً, فالملقيات ذكراً, عذرا أو نذراً} يعني الملائكة. قاله ابن مسعود وابن عباس ومسروق ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس والسدي والثوري, ولا خلاف ههنا فإنها تنزل بأمر الله على الرسل تفرق بين الحق والباطل, والهدى والغي, والحلال والحرام, وتلقي إلى الرسل وحياً فيه إعذار إلى الخلق وإنذار لهم عقاب الله إن خالفوا أمره. وقوله تعالى: {إنما توعدون لواقع} هذا هو المقسم عليه بهذه الأقسام أي ما وعدتم به من قيام الساعة والنفخ في الصور وبعث الأجساد وجمع الأولين والاَخرين في صعيد واحد ومجازاة كل عامل بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر, إن هذا كله لواقع أي لكائن لامحالة. ثم قال تعالى: {فإذا النجوم طمست} أي ذهب ضوؤها كقوله تعالى: {وإذا النجوم انكدرت} وكقوله تعالى: {وإذا الكواكب انتثرت} {وإذا السماء فرجت} أي انفطرت وانشقت وتدلت أرجاؤها ووهت أطرافها.
    {وإذا الجبال نسفت} أي ذهب بها فلا يبقى لها عين ولا أثر كقوله تعالى: {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً} الاَية. وقال تعالى: {ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً} وقوله تعالى: {وإذا الرسل أقتت} قال العوفي عن ابن عباس: جمعت. وقال ابن زيد: وهذه كقوله تعالى: {يوم يجمع الله الرسل} وقال مجاهد: {أقتت} أجلت. وقال الثوري عن منصور عن إبراهيم {أقتت} أوعدت وكأنه يجعلها كقوله تعالى: {وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون}. ثم قال تعالى: {لأي يوم أجلت ليوم الفصل * وما أدراك ما يوم الفصل * ويل يومئذٍ للمكذبين} يقول تعالى لأي يوم أجلت الرسل وأرجىء أمرها حتى تقوم الساعة كما قال تعالى: {فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام * يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار} وهو يوم الفصل كما قال تعالى: {ليوم الفصل} ثم قال تعالى معظماً لشأنه: {وما أدراك ما يوم الفصل * ويل يومئذٍ للمكذبين} أي ويل لهم من عذاب الله غداً وقد قدمنا في الحديث أن ويل واد في جهنم ولا يصح.


    ** أَلَمْ نُهْلِكِ الأوّلِينَ * ثُمّ نُتْبِعُهُمُ الاَخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ * أَلَمْ نَخْلُقكّم مّن مّآءٍ مّهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مّكِينٍ * إِلَىَ قَدَرٍ مّعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَآءً وَأَمْواتاً * وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مّآءً فُرَاتاً * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ
    يقول تعالى: {ألم نهلك الأولين} يعني من المكذبين للرسل المخالفين لما جاؤوهم به {ثم نتبعهم الاَخرين} أي ممن أشبههم ولهذا قال تعالى: {كذلك نفعل بالمجرمين * ويل يومئذ للمكذبين} قاله ابن جرير. ثم قال تعالى ممتناً على خلقه ومحتجاً على الإعادة بالبداءة: {ألم نخلقكم من ماء مهين} أي ضعيف حقير بالنسبة إلى قدرة الباري عز وجل كما تقدم في سورة يس في حديث بشر بن جحاش «ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه ؟» {فجعلناه في قرار مكين} يعني جمعناه في الرحم وهو قرار الماء من الرجل والمرأة والرحم معد لذلك حافظ لما أودع فيه من الماء. وقوله تعالى: {إلى قدر معلوم} يعني إلى مدة معينة من ستة أشهر أو تسعة أشهر, ولهذا قال تعالى: {فقدرنا فنعم القادرون * ويل يومئذ للمكذبين} ثم قال تعالى: {ألم نجعل الأرض كفاتاً * أحياء وأمواتاً} قال ابن عباس: كفاتاً كنا وقال مجاهد: يكفت الميت فلا يرى منه شيء وقال الشعبي بطنها لأمواتكم وظهرها لأحيائكم وكذا قال مجاهد وقتادة {وجعلنا فيها رواسي شامخات} يعني الجبال أرسى بها الأرض لئلا تميد وتضطرب {وأسقيناكم ماء فراتاً} أي عذباً زلالاً من السحاب أو مما أنبعه من عيون الأرض {ويل يومئذ للمكذبين} أي ويل لمن تأمل هذه المخلوقات الدالة على عظمة خالقها ثم بعد هذا يستمر على تكذيبه وكفره.


    ** انطَلِقُوَاْ إِلَىَ مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ * انطَلِقُوَاْ إِلَىَ ظِلّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ * لاّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللّهَبِ * إِنّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ * هَـَذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ * هَـَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوّلِينَ * فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ
    يقول تعالى مخبراً عن الكفار المكذبين بالمعاد والجزاء والجنة والنار أنهم يقال لهم يوم القيامة: {انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون * انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب} يعني لهب النار إذا ارتفع وصعد معه دخان فمن شدته وقوته أن له ثلاث شعب {لا ظليل ولا يغني من اللهب } أي ظل الدخان المقابل للهب لا ظليل هو في نفسه, ولا يغني من اللهب يعني ولا يقيهم حر اللهب. وقوله تعالى: {إنها ترمي بشرر كالقصر} أي يتطاير الشرر من لهبها كالقصر, قال ابن مسعود: كالحصون, وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم وغيرهم: يعني أصول الشجر {كأنه جمالة صفر} أي كالإبل السود, قاله مجاهد والحسن وقتادة والضحاك واختاره ابن جرير, وعن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير: {جمالة صفر} يعني حبال السفن, وعنه أعني ابن عباس: {جمالة صفر} قطع نحاس, وقال البخاري: حدثنا عمرو بن علي,حدثنا يحيى أنبأنا سفيان عن عبد الرحمن بن عابس قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما {إنها ترمي بشرر كالقصر} قال: كنا نعمد إلى الخشبة ثلاثة أذرع وفوق ذلك فنرفعه للبناء فنسميه القصر {كأنه جمالة صفر} حبال السفن تجمع حتى تكون كأوساط الرجال {ويل يومئذ للمكذبين} ثم قال تعالى: {هذا يوم لا ينطقون} أي لا يتكلمون {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} أي لا يقدرون على الكلام ولا يؤذن لهم فيه ليعتذروا بل قد قامت عليهم الحجة ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون, وعرصات القيامة حالات, والرب تعالى يخبر عن هذه الحالة تارة وعن هذه الحالة تارة, ليدل على شدة الأهوال والزلازل يومئذ, ولهذا يقول بعد كل فصل من هذا الكلام: {ويل يومئذ للمكذبين}.
    وقوله تعالى: {هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين * فإن كان لكم كيد فكيدون} وهذه مخاطبة من الخالق تعالى لعباده يقول لهم: {هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين} يعني أنه جمعهم بقدرته في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر. وقوله تعالى: {فإن كان لكم كيد فكيدون} تهديد شديد ووعيد أكيد أي إن قدرتم على أن تتخلصوا من قبضتي وتنجوا من حكمي فافعلوا فإنكم لا تقدرون على ذلك كما قال تعالى: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان} وقد قال تعالى: {ولا تضرونه شيئاً} وفي الحديث: «يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني».
    وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن المنذر الطريقي الأودي, حدثنا محمد بن فضيل, حدثنا حصين بن عبد الرحمن عن حسان بن أبي المخارق, عن أبي عبد الله الجدلي قال: أتيت بيت المقدس فإذا عبادة بن الصامت وعبد الله بن عمرو وكعب الأحبار يتحدثون في بيت المقدس فقال عبادة: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والاَخرين في صعيد واحد ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي, ويقول الله: {هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين * فإن كان لكم كيد فكيدون} اليوم لا ينجو مني جبار عنيد, ولا شيطان مريد, فقال عبد الله بن عمرو: فإنا نحدث يومئذ أنها تخرج عنق من النار فتنطلق, حتى إذا كانت بين ظهراني الناس نادت: أيها الناس إني بعثت إلى ثلاثة أنا أعرف بهم من الأب بولده ومن الأخ بأخيه لا يغيبهم عني وزر ولا تخفيهم عني خافية, الذي جعل مع الله إلهاً آخر, وكل جبار عنيد وكل شيطان مريد, فتنطوي عليهم فتقذف بهم في النار قبل الحساب بأربعين سنة.


    ** إِنّ الْمُتّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمّا يَشْتَهُونَ * كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيـَئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ * كُلُواْ وَتَمَتّعُواْ قَلِيلاً إِنّكُمْ مّجْرِمُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ * وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ * فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ
    يقول تعالى مخبراً عن عباده المتقين الذين عبدوه بأداء الواجبات, وترك المحرمات, أنهم يوم القيامة يكونون في جنات وعيون أي بخلاف ما أولئك الأشقياء فيه من ظلل اليحموم وهو الدخان الأسود المنتن, وقوله تعالى: {وفواكه ممايشتهون} أي ومن سائر أنواع الثمار مهما طلبوا وجدوا {كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون} أي يقال لهم ذلك على سبيل الإحسان إليهم ثم قال تعالى مخبراً خبراً مستأنفاً: {إنا كذلك نجزي المحسنين} أي هذا جزاؤنا لمن أحسن العمل {ويل يومئذ للمكذبين}. وقوله تعالى: {كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون} خطاب للمكذبين بيوم الدين وأمرهم أمر تهديد ووعيد فقال تعالى: {كلوا وتمتعوا قليلاً} أي مدة قليلة قريبة قصيرة {إنكم مجرمون} أي ثم تساقون إلى نار جهنم التي تقدم ذكرها {ويل يومئذ للمكذبين} كما قال تعالى: {نمتعهم قليلاً ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ} : وقال تعالى: {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون} وقوله تعالى: {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} أي إذاأمر هؤلاء الجهلة من الكفار أن يكونوا من المصلين مع الجماعة امتنعوا من ذلك واستكبرواعنه, ولهذا قال تعالى: {ويل يومئذ للمكذبين} ثم قال تعالى: {فبأي حديث بعده يؤمنون ؟}.
    قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثناابن أبي عمر حدثنا سفيان عن إسماعيل بن أمية: سمعت رجلاً أعرابياً بدوياً يقول: سمعت أبا هريرة يرويه إذا قرأ والمرسلات عرفاً ـ فقرأ ـ فبأي حديث بعده يؤمنون ؟ فليقل آمنت بالله وبما أنزل. وقد تقدم هذا الحديث في سورة القيامة. آخر تفسير سورة المرسلات, ولله الحمد والمنة, وبه التوفيق والعصمة.

    تمت سورة المرسلات
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:07

    سورة النبأ
    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

    ** عَمّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النّبَإِ الْعَظِيمِ * الّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلاّ سَيَعْلَمُونَ * ثُمّ كَلاّ سَيَعْلَمُونَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً * وَجَعَلْنَا اللّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النّهَارَ مَعَاشاً * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً * وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهّاجاً * وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجّاجاً * لّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً * وَجَنّاتٍ أَلْفَافاً
    يقول تعالى منكراً على المشركين في تساؤلهم عن يوم القيامة إنكاراً لوقوعها {عم يتساءلون عن النبأ العظيم} أي عن أي شيء يتساءلون عن أمر القيامة وهو النبأ العظيم, يعني الخبر الهائل المفظع الباهر, قال قتادة وابن زيد: النبأ العظيم البعث بعد الموت وقال مجاهد: هو القرآن. والأظهر الأول لقوله: {الذي هم فيه مختلفون} يعني الناس فيه على قولين مؤمن به وكافر, ثم قال تعالى متوعداً لمنكري القيامة: {كلا سيعلمون * ثم كلا سيعلمون} وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد. ثم شرع تبارك وتعالى يبين قدرته العظيمة على خلق الأشياء الغريبة والأمور العجيبة الدالة على قدرته على ما يشاء من أمر المعاد وغيره فقال: {ألم نجعل الأرض مهاداً} أي ممهدة للخلائق ذلولاً لهم قارة ساكنة ثابتة {والجبال أوتاداً} أي جعلها لها أوتاداً أرساها بها وثبتها وقررها حتى سكنت ولم تضطرب بمن عليها. ثم قال تعالى: {وخلقناكم أزواجاً} يعني ذكراً وأنثى يتمتع كل منهما بالاَخر ويحصل التناسل بذلك كقوله: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} وقوله تعالى: {وجعلنا نومكم سباتاً} أي قطعاً للحركة لتحصل الراحة من كثرة الترداد والسعي في المعايش في عرض النهار وقد تقدم مثل هذه الاَية في سورة الفرقان {وجعلنا الليل لباساً} أي يغشى الناس ظلامه وسواده كما قال: {والليل إذا يغشاها} وقال الشاعر:
    فلما لبسن الليل أوحين نصبتله من حذا آذانها وهو جانح
    وقال قتادة في قوله تعالى: {وجعلنا الليل لباساً} أي سكناً, وقوله تعالى: {وجعلنا النهار معاشاً} أي جعلناه مشرقاً نيراً مضيئاً ليتمكن الناس من التصرف فيه والذهاب والمجيء للمعاش والتكسب والتجارات وغير ذلك. وقوله تعالى: {وبنينا فوقكم سبعاً شداداً} يعني السموات السبع في اتساعها وارتفاعها وإحكامها وإتقانها وتزيينها بالكواكب الثوابت والسيارات ولهذا قال تعالى: {وجعلنا سراجاً وهاجاً} يعني الشمس المنيرة على جميع العالم التي يتوهج ضوؤها لأهل الأرض كلهم. وقوله تعالى: {وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً} قال العوفي عن ابن عباس: المعصرات الريح, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد حدثنا أبو داود الحفري عن سفيان عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبيرعن ابن عباس {وأنزلنا من المعصرات} قال: الرياح, وكذا قال عكرمة ومجاهد وقتادة ومقاتل والكلبي وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن إنها الرياح, ومعنى هذا القول أنها تستدر المطر من السحاب, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس من المعصرات أي من السحاب, وكذا قال عكرمة أيضاً وأبو العالية والضحاك والحسن والربيع بن أنس والثوري واختاره ابن جرير, وقال الفراء: هي السحاب التي تتحلب بالمطر ولم تمطر بعد, كما يقال امرأة معصر إذا دنا حيضها ولم تحض. وعن الحسن وقتادة: من المعصرات يعني السموات وهذا قول غريب, والأظهر أن المراد بالمعصرات السحاب كما قال تعالى: {الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفاً فترى الودق يخرج من خلاله} أي من بينه.
    وقوله جل وعلا: {ماء ثجاجاً} قال مجاهد وقتادة والربيع بن أنس: ثجاجاً منصباً وقال الثوري: متتابعاً وقال ابن زيد: كثيراً, وقال ابن جرير ولا يعرف في كلام العرب في صفة الكثرة الثج وإنما الثج الصب المتتابع ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل الحج العج والثج» يعني صب دماء البدن هكذا قال, قلت وفي حديث المستحاضة حين قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنعت لك الكرسف» يعني أن تحتشي بالقطن فقالت: يا رسول الله هو أكثر من ذلك إنما أثج ثجاً, وهذا فيه دلالة على استعمال الثج في الصب المتتابع الكثير, والله أعلم. وقوله تعالى: {لنخرج به حباً ونباتاً وجنات ألفافاً} أي لنخرج بهذا الماء الكثير الطيب النافع المبارك {حباً} يدخر للأناسي والأنعام {ونباتاً} أي خضراً يؤكل رطباً {وجنات} أي بساتين وحدائق من ثمرات متنوعة وألوان مختلفة وطعوم وروائح متفاوتة وإن كان ذلك في بقعة واحدة من الأرض مجتمعاً ولهذا قال وجنات ألفافاً, قال ابن عباس وغيره: ألفافاً مجتمعة, وهذه كقوله تعالى: {وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لاَيات لقوم يعقلون}.


    ** إِنّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً * يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً * وَفُتِحَتِ السّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً * وَسُيّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً * إِنّ جَهَنّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لّلطّاغِينَ مَآباً * لاّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً * لاّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً * إِلاّ حَمِيماً وَغَسّاقاً * جَزَآءً وِفَاقاً * إِنّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً * وَكَذّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذّاباً * وَكُلّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً * فَذُوقُواْ فَلَن نّزِيدَكُمْ إِلاّ عَذَاباً
    يقول تعالى مخبراً عن يوم الفصل وهو يوم القيامة أنه مؤقت بأجل معدود لا يزاد عليه ولا ينقص منه ولا يعلم وقته على التعيين إلا الله عز وجل كما قال تعالى: {وما نؤخره إلا لأجل معدود} {يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً} قال مجاهد: زمراً زمراً, قال ابن جرير: يعني تأتي كل أمة مع رسولها, وكقوله تعالى: {يوم ندعو كل أناس بإمامهم} وقال البخاري {يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً} حدثنا محمد, حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بين النفختين أربعون» قالوا: أربعون يوماً ؟ قال «أبيت» قالوا: أربعون شهراً ؟ قال «أبيت» قالوا: أربعون سنة ؟ قال «أبيت» قال «ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظماً واحداً وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة».
    {وفتحت السماء فكانت أبواباً} أي طرقاً ومسالك لنزول الملائكة {وسيرت الجبال فكانت سراباً} كقوله تعالى: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب} وكقوله تعالى: {وتكون الجبال كالعهن المنفوش} وقال ههنا: {فكانت سراباً} أي يخيل إلى الناظر أنها شيء وليست بشيء وبعد هذا تذهب بالكلية فلا عين ولا أثر, كما قال تعالى: {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً * فيذرها قاعاً صفصفاً * لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً}, وقال تعالى: {ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة} وقوله تعالى: {إن جهنم كانت مرصاداً} أي مرصدة معدة {للطاغين} وهم المردة العصاة المخالفون للرسل {مآباً} أي مرجعاً ومنقلباً ومصيراً ونزلاً. وقال الحسن وقتادة في قوله تعالى: {إن جهنم كانت مرصاداً} يعني أنه لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز بالنار فإن كان معه جواز نجا وإلا احتبس, وقال سفيان الثوري: عليها ثلاث قناطر.
    وقوله تعالى: {لا بثين فيها أحقاباً} أي ماكثين فيها أحقاباً وهي جمع حقب وهو المدة من الزمان, وقد اختلفوا في مقداره فقال ابن جرير عن ابن حميد عن مهران عن سفيان الثوري عن عمار الدهني عن سالم بن أبي الجعد قال: قال علي بن أبي طالب لهلال الهجري: ما تجدون الحقب في كتاب الله المنزل ؟ قال: نجده ثمانين سنة كل سنة اثنا عشر شهراً كل شهر ثلاثون يوماً كل يوم ألف سنة, وهكذا روي عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وابن عباس وسعيد بن جبير وعمرو بن ميمون والحسن وقتادة والربيع بن أنس والضحاك, وعن الحسن والسدي أيضاً سبعون سنة كذلك, وعن عبد الله بن عمرو: الحقب أربعون سنة كل يوم منها كألف سنة مما تعدون,رواهما ابن أبي حاتم.
    وقال بشير بن كعب: ذكر لي أن الحقب الواحد ثلثمائة سنة, كل سنة اثنا عشر شهراً, كل سنة ثلثمائة وستون يوماً كل يوم منها كألف سنة, رواه ابن جرير وابن أبي حاتم, ثم قال ابن أبي حاتم: ذكر عن عمرو بن علي بن أبي بكر الأسفيدي, حدثنا مروان بن معاوية الفزاري عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {لا بثين فيها أحقاباً} قال: فالحقب شهر, الشهر ثلاثون يوماً والسنة اثنا عشر شهراً, والسنة ثلثمائة وستون يوما, كل يوم منها ألف سنة مما تعدون, فالحقب ثلاثون ألف ألف سنة, وهذا حديث منكر جداً, والقاسم هو والراوي عنه وهو جعفر بن الزبير كلاهما متروك. وقال البزار: حدثنا محمد بن مرداس, حدثنا سليمان بن مسلم أبو العلاء قال: سألت سليمان التيمي: هل يخرج من النار أحد ؟ فقال: حدثني نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والله لا يخرج من النار أحد حتى يمكث فيها أحقاباً» قال: والحقب بضع وثمانون سنة كل سنة ثلثمائة وستون يوماً مما تعدون, ثم قال: سليمان بن مسلم بصري مشهور, وقال السدي {لا بثين فيها أحقاباً} سبعمائة حقب, كل حقب سبعون سنة, كل سنة ثلثمائة وستون يوماً, كل يوم كألف سنة مما تعدون, وقد قال مقاتل بن حيان: إن هذه الاَية منسوخة بقوله تعالى: {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً}.
    وقال خالد بن معدان: هذه الاَية وقوله تعالى: {إلا ما شاء ربك} في أهل التوحيد رواهما ابن جرير ثم قال: ويحتمل أن يكون قوله تعالى: {لابثين فيها أحقاباً} متعلقاً بقوله تعالى: {لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً} ثم يحدث الله لهم بعد ذلك عذاباً من شكل آخر ونوع آخر ثم قال: والصحيح أنها لا انقضاء لها كما قال قتادة والربيع بن أنس, وقد قال قبل ذلك: حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي, حدثنا عمرو بن أبي سلمة عن زهير عن سالم: سمعت الحسن يسأل عن قوله تعالى: {لابثين فيها أحقاباً} قال: أما الأحقاب فليس لها عدة إلا الخلود في النار, ولكن ذكروا أن الحقب سبعون سنة كل يوم منها كألف سنة مما تعدون, وقال سعيد عن قتادة: قال الله تعالى: {لابثين فيها أحقاباً} وهو ما لا انقطاع له وكلما مضى حقب جاء حقب بعده. وذكر لنا أن الحقب ثمانون سنة وقال الربيع بن أنس {لا بثين فيها أحقاباً} لا يعلم عدة هذه الأحقاب إلا الله عز وجل, وذكر لنا أن الحقب الواحد ثمانون سنة, والسنة ثلثمائة وستون يوماً, وكل يوم كألف سنة مما تعدون, رواهما أيضاً ابن جرير.

    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:07

    وقوله تعالى: {لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً} أي لا يجدون في جهنم برداً لقلوبهم ولا شراباً طيباً يتغذون به ولهذا قال تعالى: {إلا حميماً وغساقاً} قال أبو العالية: استثنى من البرد الحميم ومن الشراب الغساق, وكذا قال الربيع بن أنس, فأما الحميم فهو الحار الذي قد انتهى حره وحموّه والغساق هو ما اجتمع من صديد أهل النار وعرقهم ودموعهم وجروحهم فهو بارد لا يستطاع من برده ولا يواجه من نتنه, وقد قدمنا الكلام على الغساق في سورة ص بما أغنى عن إعادته ـ أجارنا الله من ذلك بمنه وكرمه ـ قال ابن جرير وقيل المراد بقوله: {لا يذوقون فيها برداً} يعني النوم كما قال الكندي:
    بردت مراشفها علي فصدنيعنها وعن قبلاتها البرد
    يعني بالبرد النعاس والنوم. هكذا ذكره ولم يعزه إلى أحد. وقد رواه ابن أبي حاتم من طريق السدي عن مرة الطيب ونقله عن مجاهد أيضاً. وحكاه البغوي عن أبي عبيدة والكسائي أيضاً. وقوله تعالى: {جزاء وفاقاً} أي هذا الذي صاروا إليه من هذه العقوبة وفق أعمالهم الفاسدة التي كانوا يعملونها في الدنيا, قاله مجاهد وقتادة وغير واحد. ثم قال تعالى: {إنهم كانوا لا يرجون حساباً} أي لم يكونوا يعتقدون أن ثم داراً يجازون فيها ويحاسبون {وكذبوا بآياتنا كذاباً} أي وكانوا يكذبون بحجج الله ودلائله على خلقه التي أنزلها على رسله, فيقابلونها بالتكذيب والمعاندة. وقوله: {كذاباً} أي تكذيباً, وهو مصدر من غير الفعل, قالوا: وقد سمع أعرابي يستفتي الفراء على المروة: الحلق أحب إليك أو القصار ؟ وأنشد بعضهم:
    لقد طال ما ثبطتني عن صحابتيوعن حوج قصارها من شفائيا
    وقوله تعالى: {وكل شي أحصيناه كتاباً} أي وقد علمنا أعمال العباد كلهم وكتبناها عليهم وسنجزيهم على ذلك إن خيراً فخير وإن شراً فشر, وقوله تعالى: {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً} أي يقال لأهل النار: ذوقوا ما أنتم فيه فلن نزيدكم إلا عذاباً من جنسه وآخر من شكله أزواج, قال قتادة عن أبي أيوب الأزدي عن عبد الله بن عمرو قال: لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه الاَية {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً} قال: فهم في مزيد من العذاب أبداً, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن محمد بن مصعب الصوري, حدثنا خالد بن عبد الرحمن, حدثنا جسر بن فرقد عن الحسن قال: سألت أبا برزة الأسلمي عن أشد آية في كتاب الله على أهل النار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً} قال: «أهلك القوم بمعاصيهم الله عز وجل» جسر بن فرقد ضعيف الحديث بالكلية.


    ** إِنّ لِلْمُتّقِينَ مَفَازاً * حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً * وَكَأْساً دِهَاقاً * لاّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذّاباً * جَزَآءً مّن رّبّكَ عَطَآءً حِسَاباً
    يقول تعالى مخبراً عن السعداء وما أعد لهم تعالى من الكرامة والنعيم المقيم فقال تعالى: {إن للمتقين مفازاً} قال ابن عباس والضحاك: متنزهاً. وقال مجاهد وقتادة: فازوا فنجوا من النار. والأظهر ههنا قول ابن عباس لأنه قال بعده {حدائق} والحدائق البساتين من النخيل وغيرها {وأعناباً وكواعب أتراباً} أي وحوراً كواعب, قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد {كواعب} أي نواهد, يعنون أن ثديهن نواهد لم يتدلين لأنهن أبكار عرب أتراب أي في سن واحد كما تقدم بيانه في سورة الواقعة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد الرحمن الدستكي, حدثني أبي عن أبي سفيان عبد الرحمن بن عبد الله بن تيم, حدثنا عطية بن سليمان أبو الغيث عن أبي عبد الرحمن القاسم بن أبي القاسم الدمشقي عن أبي أمامة أنه سمعه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن قمص أهل الجنة لتبدو من رضوان الله وإن السحابة لتمر بهم فتناديهم يا أهل الجنة ماذا تريدون أن أمطركم ؟ حتى إنها لتمطرهم الكواعب الأتراب» وقوله تعالى: {وكأساً دهاقاً} قال ابن عباس: مملوءة ومتتابعة. وقال عكرمة: صافية, وقال مجاهد والحسن وقتادة وابن زيد {دهاقاً} الملأى المترعة, وقال مجاهد وسعيد بن جبير هي المتتابعة. وقوله تعالى: {لا يسمعون فيها لغواً ولا كذاباً} كقوله: {لا لغو فيها ولا تأثيم} أي ليس فيها كلام لاغ عار عن الفائدة ولا إثم كذب, بل هي دار السلام وكل ما فيها سالم من النقص وقوله: {جزاءً من ربك عطاء حساباً} أي هذا الذي ذكرناه جازاهم الله به وأعطاهموه بفضله ومنه وإحسانه ورحمته عطاء حساباً أي كافياً وافياً شاملاً كثيراً, تقول العرب: أعطاني فأحسبني أي كفاني ومنه حسبي الله أي الله كافيّ.


    ** رّبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرّحْمَـَنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً * يَوْمَ يَقُومُ الرّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفّاً لاّ يَتَكَلّمُونَ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرّحْمَـَنُ وَقَالَ صَوَاباً * ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقّ فَمَن شَآءَ اتّخَذَ إِلَىَ رَبّهِ مَآباً * إِنّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَلَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً
    يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وأنه رب السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وأنه الرحمن الذي شملت رحمته كل شيء, وقوله تعالى: {لا يملكون منه خطاباً} أي لا يقدر أحد على ابتداء مخاطبته إلا بإذنه كقوله تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} وكقوله تعالى: {يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون} اختلف المفسرون في المراد بالروح ههنا ما هو ؟ على أقوال (أحدها) ما رواه العوفي عن ابن عباس أنهم أرواح بني آدم (الثاني) هم بنو آدم قاله الحسن وقتادة. وقال قتادة: هذا مما كان ابن عباس يكتمه (الثالث) أنهم خلق من خلق الله على صور بني آدم وليسوا بملائكة ولا بشر, وهم يأكلون ويشربون, قاله ابن عباس ومجاهد وأبو صالح والأعمش (الرابع) هو جبريل قاله الشعبي وسعيد بن جبير والضحاك, ويستشهد لهذا القول بقوله عز وجل: {نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين} وقال مقاتل بن حيان: الروح هو أشرف الملائكة وأقرب إلى الرب عز وجل وصاحب الوحي. (الخامس) أنه القرآن, قاله ابن زيد كقوله: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} الاَية. (والسادس) أنه ملك من الملائكة بقدر جميع المخلوقات, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {يوم يقوم الروح} قال: هو ملك عظيم من أعظم الملائكة خلقاً.
    وقال ابن جرير: حدثني محمد بن خلف العسقلاني, حدثنا رواد بن الجراح عن أبي حمزة عن الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود قال: الروح في السماء الرابعة هو أعظم من السموات ومن الجبال ومن الملائكة يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة, يخلق الله تعالى من كل تسبيحة ملكاً من الملائكة يجيء يوم القيامة صفاً وحده وهذا قول غريب جداً. وقد قال الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله بن عرس المصري, حدثنا وهب الله بن روق بن هبيرة, حدثنا بشر بن بكر, حدثنا الأوزاعي, حدثني عطاء عن عبد الله بن عباس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن لله ملكاً لو قيل له التقم السموات السبع والأرضين بلقمة واحدة لفعل. تسبيحه سبحانك حيث كنت» وهذا حديث غريب جداً, وفي رفعه نظر, وقد يكون موقوفاً على ابن عباس, ويكون مما تلقاه من الإسرائيليات, والله أعلم. وتوقف ابن جرير فلم يقطع بواحد من هذه الأقوال كلها والأشبه عندي والله أعلم أنهم بنو آدم.
    وقوله تعالى: {إلا من أذن له الرحمن} كقوله: {يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه} وكما ثبت في الصحيح «ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل» وقوله تعالى: {وقال صواباً} أي حقاً ومن الحق لا إله إلا الله كما قاله أبو صالح وعكرمة, وقوله تعالى: {ذلك اليوم الحق} أي الكائن لا محالة {فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً} أي مرجعاً طريقاً يهتدي إليه ومنهجاً يمر به عليه. وقوله تعالى: {إنا أنذرناكم عذاباً قريباً} يعني يوم القيامة لتأكد وقوعه صار قريباً لأن كل ما هو آت آت {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه} أي يعرض عليه جميع أعماله خيرها وشرها. قديمها وحديثها كقوله تعالى: {ووجدوا ما عملوا حاضراً} وكقوله تعالى: {ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر} {ويقول الكافر ياليتني كنت تراباً} أي يود الكافر يومئذ أنه كان في الدار الدنيا تراباً, ولم يكن خلق ولا خرج إلى الوجود, وذلك حين عاين عذاب الله ونظر إلى أعماله الفاسدة قد سطرت عليه بأيدي الملائكة السفرة الكرام البررة, وقيل إنما يود ذلك حين يحكم الله بين الحيوانات التي كانت في الدنيا فيفصل بينها بحكمه العدل الذي لا يجور, حتى إنه ليقتص للشاة الجماء من القرناء فإذا فرغ من الحكم بينها قال لها: كوني تراباً فتصير تراباً فعند ذلك يقول الكافر {يا ليتني كنت تراباً} أي كنت حيواناً فأرجع إلى التراب, وقد ورد معنى هذا في حديث الصور المشهور, وورد فيه آثار عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وغيرهما. آخر تفسير سورة النبأ. ولله الحمد والمنة. وبه التوفيق والعصمة.

    تمت سورة النبأ
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:09

    سورة النازعات
    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

    ** وَالنّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنّاشِطَاتِ نَشْطاً * وَالسّابِحَاتِ سَبْحاً * فَالسّابِقَاتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبّرَاتِ أَمْراً * يَوْمَ تَرْجُفُ الرّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ * يَقُولُونَ أَإِنّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ * أَإِذَا كُنّا عِظَاماً نّخِرَةً * قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرّةٌ خَاسِرَةٌ * فَإِنّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسّاهِرَةِ
    قال ابن مسعود وابن عباس ومسروق وسعيد بن جبير وأبو صالح وأبو الضحى والسدي {والنازعات غرقاً} الملائكة يعنون حين تنزع أرواح بني آدم, فمنهم من تأخذ روحه بعسر فتغرق في نزعها, ومنهم من تأخذ روحه بسهولة وكأنما حلته من نشاط وهو قوله: {والناشطات نشطاً} قاله ابن عباس, وعن ابن عباس {والنازعات} هي أنفس الكفار تنزع ثم تنشط ثم تغرق في النار رواه ابن أبي حاتم وقال مجاهد {والنازعات غرقاً} الموت, وقال الحسن وقتادة {والنازعات غرقاً * والناشطات نشطاً} هي النجوم, وقال عطاء بن أبي رباح في قوله تعالى: {والنازعات} {والناشطات} هي القسي في القتال والصحيح الأول وعليه الأكثرون. وأما قوله تعالى: {والسابحات سبحاً} فقال ابن مسعود: هي الملائكة, وروي عن علي ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي صالح مثل ذلك, وعن مجاهد {والسابحات سبحاً} الموت, وقال قتادة: هي النجوم, وقال عطاء بن أبي رباح, هي السفن.

    وقوله تعالى: {فالسابقات سبقاً} روي عن علي ومسروق ومجاهد وأبي صالح والحسن البصري يعني الملائكة, قال الحسن: سبقت إلى الإيمان والتصديق به وعن مجاهد: الموت. وقال قتادة: هي النجوم, وقال عطاء: هي الخيل في سبيل الله. وقوله تعالى: {فالمدبرات أمراً} قال علي ومجاهد وعطاء وأبو صالح والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي: هي الملائكة, زاد الحسن: تدبر الأمر من السماء إلى الأرض يعني بأمر ربها عز وجل, ولم يختلفوا في هذا ولم يقطع ابن جرير بالمراد في شيء من ذلك, إلا أنه حكى في المدبرات أمراً أنها الملائكة ولا أثبت ولا نفى. وقوله تعالى: {يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة} قال ابن عباس: هما النفختان الأولى والثانية, وهكذا قال مجاهد والحسن وقتادة والضحاك وغير واحد, وعن مجاهد: أما الأولى وهي قوله جل وعلا: {يوم ترجف الراجفة} فكقوله جلت عظمته: {يوم ترجف الأرض والجبال} والثانية وهي الرادفة فهي كقوله {وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة} وقد قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا سفيان عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جاءت الراجفة تتبعها الرادفة, جاء الموت بما فيه» فقال رجل: يا رسول الله أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك, قال: «إذاً يكفيك الله ما أهمك من دنياك وآخرتك» وقد روى الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سفيان الثوري بإسناده مثله, ولفظ الترمذي وابن أبي حاتم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال: «يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه».
    وقوله تعالى: {قلوب يومئذ واجفة} قال ابن عباس: يعني خائفة, وكذا قال مجاهد وقتادة {أبصارها خاشعة} أي أبصار أصحابها وإنما أضيف إليها للملابسة أي ذليلة حقيرة مما عاينت من الأهوال. وقوله تعالى: {يقولون أئنا لمردودون في الحافرة} يعني مشركي قريش ومن قال بقولهم في إنكار المعاد. يستبعدون وقوع البعث بعد المصير إلى الحافرة وهي القبور, قاله مجاهد, وبعد تمزق أجسادهم وتفتت عظامهم ونخورها, ولهذا قالوا: {أئذا كنا عظاماً نخرة} وقرىء ناخرة وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: أي بالية, قال ابن عباس: وهو العظم إذا بلي ودخلت الريح فيه {قالوا تلك إذاً كرة خاسرة} وعن ابن عباس ومحمد بن كعب وعكرمة وسعيد بن جبير وأبي مالك والسدي وقتادة: الحافرة الحياة بعد الموت, وقال ابن زيد: الحافرة النار, وما أكثر أسماءها! هي النار والجحيم وسقر وجهنم والهاوية والحافرة ولظى والحطمة, وأما قولهم: {تلك إذاً كرة خاسرة} فقال محمد بن كعب: قالت قريش لئن أحيانا الله بعد أن نموت لنخسرن, قال الله تعالى: {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة} أي فإنما هو أمر من الله لا مثنوية فيه ولا تأكيد, فإذا الناس قيام ينظرون وهو أن يأمر الله تعالى إسرافيل فينفخ في الصور نفخة البعث, فإذا الأولون والاَخرون قيام بين يدي الرب عز وجل ينظرون, كما قال تعالى: {وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر} وقال تعالى: {وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب}.
    قال مجاهد: {فإنما هي زجرة واحدة} صيحة واحدة. وقال إبراهيم التيمي: أشد ما يكون الرب عز وجل غضباً على خلقه يوم يبعثهم, وقال الحسن البصري: زجرة من الغضب, وقال أبو مالك والربيع بن أنس: زجرة واحدة هي النفخة الاَخرة. وقوله تعالى: {فإذا هم بالساهرة} قال ابن عباس: الساهرة الأرض كلها, وكذا قال سعيد بن جبير وقتادة وأبو صالح, وقال عكرمة والحسن والضحاك وابن زيد: الساهرة وجه الأرض, وقال مجاهد: كانوا بأسفلها فأخرجوا إلى أعلاها, قال والساهرة المكان المستوي, وقال الثوري: الساهرة أرض الشام, وقال عثمان بن أبي العاتكة: الساهرة أرض بيت المقدس, وقال وهب بن منبه: الساهرة جبل إلى جانب بيت المقدس, وقال قتادة أيضاً: الساهرة جهنم, وهذه أقوال كلها غريبة, والصحيح أنها الأرض وجهها الأعلى.
    وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا حزر بن المبارك الشيخ الصالح, حدثنا بشر بن السري, حدثنا مصعب بن ثابت عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي {فإذا هم بالساهرة} قال: أرض بيضاء عفراء خالية كالخبزة النقي, وقال الربيع بن أنس: {فإذا هم بالساهرة} يقول الله عز وجل: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار} ويقول تعالى: {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً * فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً} وقال تعالى: {ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة} وبرزت الأرض التي عليها الجبال وهي لا تعد من هذه الأرض وهي أرض لم يعمل عليها خطيئة ولم يهرق عليها دم.

    ** هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىَ * إِذْ نَادَاهُ رَبّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَىَ فِرْعَوْنَ إِنّهُ طَغَىَ * فَقُلْ هَل لّكَ إِلَىَ أَن تَزَكّىَ * وَأَهْدِيَكَ إِلَىَ رَبّكَ فَتَخْشَىَ * فَأَرَاهُ الاَيَةَ الْكُبْرَىَ * فَكَذّبَ وَعَصَىَ * ثُمّ أَدْبَرَ يَسْعَىَ * فَحَشَرَ فَنَادَىَ * فَقَالَ أَنَاْ رَبّكُمُ الأعْلَىَ * فَأَخَذَهُ اللّهُ نَكَالَ الاَخِرَةِ وَالاُوْلَىَ * إِنّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يَخْشَىَ
    يخبر تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم عن عبده ورسوله موسى عليه السلام أنه ابتعثه إلى فرعون, وأيده الله بالمعجزات, ومع هذا استمر على كفره وطغيانه حتى أخذه الله أخذ عزيز مقتدر, وكذلك عاقبة من خالفك وكذب بما جئت به, ولهذا قال في آخر القصة: {إن في ذلك لعبرة لمن يخشى} فقوله تعالى: {هل أتاك حديث موسى} أي هل سمعت بخبره {إذ ناداه ربه} أي كلمه نداء {بالواد المقدس} أي المطهر {طوى} وهو اسم الوادي على الصحيح كما تقدم في سورة طه, فقال له: {اذهب إلى فرعون إنه طغى} أي تجبر وتمرد وعتا {فقل هل لك إلى أن تزكى} أي قل له هل لك أن تجيب إلى طريقة ومسلك تزكى به وتسلم وتطيع {وأهديك إلى ربك} أي أدلك إلى عبادة ربك {فتخشى} أي فيصير قلبك خاضعاً له مطيعاً خاشعاً بعدما كان قاسياً خبيثاً بعيداً من الخير {فأراه الاَية الكبرى} يعني فأظهر له موسى مع هذه الدعوة الحق حجة قوية ودليلاً واضحاً على صدق ما جاءه به من عند الله {فكذب وعصى} أي فكذب بالحق وخالف ما أمره به من الطاعة, وحاصله أنه كفر بقلبه فلم ينفعل لموسى بباطنه ولا بظاهره وعلمه بأن ما جاء به حق لا يلزم منه أنه مؤمن به, لأن المعرفة علم القلب والإيمان عمله وهو الانقياد للحق والخضوع له.
    وقوله تعالى: {ثم أدبر يسعى} أي في مقابلة الحق بالباطل وهو جمعه السحرة ليقابلوا ما جاء به موسى عليه السلام من المعجزات الباهرات {فحشر فنادى} أي في قومه {فقال أنا ربكم الأعلى} قال ابن عباس ومجاهد: وهذه الكلمة قالها فرعون بعد قوله ما علمت لكم من إله غيري بأربعين سنة قال الله تعالى: {فأخذه الله نكال الاَخرة والأولى} أي انتقم الله منه انتقاماً جعله به عبرة ونكالاً لأمثاله من المتمردين في الدنيا {ويوم القيامة بئس الرفد المرفود} كما قال تعالى: {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون} وهذا هو الصحيح في معنى الاَية أن المراد بقوله: {نكال الاَخرة والأولى} أي الدنيا والاَخرة, وقيل المراد بذلك كلمتاه الأولى والثانية, وقيل كفره وعصيانه والصحيح الذي لا شك فيه الأول, وقوله: {إن في ذلك لعبرة لمن يخشى} أي لمن يتعظ وينزجر.


    ** أَأَنتُمْ أَشَدّ خَلْقاً أَمِ السّمَآءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعاً لّكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ
    يقول تعالى محتجاً على منكري البعث في إعادة الخلق بعد بدئه: {أأنتم} أيها الناس {أشد خلقاً أم السماء} يعني بل السماء أشد خلقاً منكم, كما قال تعالى: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس} وقال تعالى: {أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم} وقوله تعالى: {بناها} فسره بقوله: {رفع سمكها فسواها} أي جعلها عالية البناء بعيدة الفناء مستوية الأرجاء مكللة بالكواكب في الليلة الظلماء, وقوله تعالى: {وأغطش ليلها وأخرج ضحاها} أي جعل ليلها مظلماً أسود حالكاً ونهارها مضيئاً مشرقاً نيراً واضحاً , وقال ابن عباس: أغطش ليلها أظلمه, وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وجماعة كثيرون {وأخرج ضحاها} أي أنار نهارها. وقوله تعالى: {والأرض بعد ذلك دحاها} فسره بقوله تعالى: {أخرج منها ماءها ومرعاها} وقد تقدم في سورة حم السجدة أن الأرض خلقت قبل خلق السماء ولكن إنما دحيت بعد خلق السماء, بمعنى أنه أخرج ما كان فيها بالقوة إلى الفعل, وهذا معنى قول ابن عباس وغير واحد واختاره ابن جرير. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي, حدثنا عبيد الله يعني ابن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس {دحاها} ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى وشقق فيها الأنهار, وجعل فيها الجبال والرمال والسبل والاَكام, فذلك قوله: {والأرض بعد ذلك دحاها} وقد تقدم تقرير ذلك هنالك.
    وقوله تعالى: {والجبال أرساها} أي قررها وأثبتها وأكدها في أماكنها وهو الحكيم العليم, الرؤوف بخلقه الرحيم. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون, أخبرنا العوام بن حوشب عن سليمان بن أبي سليمان عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما خلق الله الأرض جعلت تميد فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرت فتعجبت الملائكة من خلق الجبال فقالت يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الجبال ؟ قال نعم: الحديد, قالت يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الحديد ؟ قال نعم: النار, قالت يا رب فهل من خلقك شيء أشد من النار, قال: نعم الماء, قالت يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الماء ؟ قال: نعم الريح, قالت يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الريح ؟ قال: نعم, ابن آدم يتصدق بيمينه يخفيها عن شماله» وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن عطاء عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال: لما خلق الله الأرض قمصت وقالت تخلق عليّ آدم وذريته يلقون عليّ نتنهم ويعلون عليّ بالخطايا, فأرساها الله بالجبال فمنها ما ترون ومنها ما لا ترون, وكان أول قرار الأرض كلحم الجزور إذا نحر يختلج لحمه. غريب جداً. وقوله تعالى: {متاعاً لكم ولأنعامكم} أي دحا الأرض فأنبع عيونها, وأظهر مكنونها, وأجرى أنهارها, وأنبت زروعها وأشجارها وثمارها. وثبت جبالها لتستقر بأهلها ويقر قرارها, كل ذلك متاعاً لخلقه ولما يحتاجون إليه من الأنعام التي يأكلونها ويركبونها مدة احتياجهم إليها في هذا الدار, إلى أن ينتهي الأمد وينقضي الأجل.


    ** فَإِذَا جَآءَتِ الطّآمّةُ الْكُبْرَىَ * يَوْمَ يَتَذَكّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَىَ * وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىَ * فَأَمّا مَن طَغَىَ * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا * فَإِنّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىَ * وَأَمّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النّفْسَ عَنِ الْهَوَىَ * فَإِنّ الْجَنّةَ هِيَ الْمَأْوَىَ * يَسْأَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَىَ رَبّكَ مُنتَهَاهَآ * إِنّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا * كَأَنّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوَاْ إِلاّ عَشِيّةً أَوْ ضُحَاهَا
    يقول تعالى: {فإذا جاءت الطامة الكبرى} وهو يوم القيامة, قاله ابن عباس سميت بذلك لأنها تطم على كل أمر هائل مفظع كما قال تعالى: {والساعة أدهى وأمر} {يوم يتذكر الإنسان ما سعى} أي حينئذ يتذكر ابن آدم جميع عمله خيره وشره كما قال تعالى: {يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى} {وبرزت الجحيم لمن يرى} أي أظهرت للناظرين فرآها الناس عياناً {فأما من طغى} أي تمرد وعتا {وآثر الحياة الدنيا} أي قدمها على أمر دينه وأخراه {فإن الجحيم هي المأوى} أي فإن مصيره إلى الجحيم وإن مطعمه من الزقوم ومشربه من الحميم {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى} أي خاف القيام بين يدي الله عز وجل وخاف حكم الله فيه ونهى نفسه عن هواها وردها إلى طاعة مولاها {فإن الجنة هي المأوى} أي منقلبه ومصيره ومرجعه إلى الجنة الفيحاء ثم قال تعالى: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها * فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها} أي ليس علمها إليك ولا إلى أحد من الخلق بل مردها ومرجعها إلى الله عز وجل, فهو الذي يعلم وقتها على التعيين {ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله} وقال ههنا {إلى ربك منتهاها} ولهذا لما سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل».
    وقوله تعالى: {إنما أنت منذر من يخشاها} أي إنما بعثتك لتنذر الناس وتحذرهم من بأس الله وعذابه فمن خشي الله وخاف مقامه ووعيده اتبعك فأفلح وأنجح, والخيبة والخسار على من كذبك وخالفك. وقوله تعالى: {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} أي إذا قاموا من قبورهم إلى المحشر يستقصرون مدة الحياة)الدنيا حتى كأنها عندهم كانت عشية من يوم أو ضحى من يوم, وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} أما عشية فما بين الظهر إلى غروب الشمس {أو ضحاها} ما بين طلوع الشمس إلى نصف النهار, وقال قتادة: وقت الدنيا في أعين القوم حين عاينوا الاَخرة. آخر تفسير سورة النازعات, و لله الحمد والمنة.

    تمت سورة النازعات
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:10

    سورة عبس
    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

    ** عَبَسَ وَتَوَلّىَ * أَن جَآءَهُ الأعْمَىَ * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلّهُ يَزّكّىَ * أَوْ يَذّكّرُ فَتَنفَعَهُ الذّكْرَىَ * أَمّا مَنِ اسْتَغْنَىَ * فَأَنتَ لَهُ تَصَدّىَ * وَمَا عَلَيْكَ أَلاّ يَزّكّىَ * وَأَمّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىَ * وَهُوَ يَخْشَىَ * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهّىَ * كَلاّ إِنّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ * فَي صُحُفٍ مّكَرّمَةٍ * مّرْفُوعَةٍ مّطَهّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ
    ذكر غير واحد من المفسرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوماً يخاطب بعض عظماء قريش وقد طمع في إسلامه, فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابن أم مكتوم وكان ممن أسلم قديماً, فجعل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ويلح عليه, وود النبي صلى الله عليه وسلم أن لوكف ساعته تلك ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل طمعاً ورغبة في هدايته. وعبس في وجه ابن أم مكتوم وأعرض عنه وأقبل على الاَخر فأنزل الله تعالى: {عبس وتولى أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى} أي يحصل له زكاة وطهارة في نفسه {أو يذكر فتنفعه الذكرى} أي يحصل له اتعاظ وانزجار عن المحارم {أما من استغنى فأنت له تصدى} أي أما الغني فأنت تتعرض له لعله يهتدي {وما عليك ألا يزكى} أي ما أنت بمطالب به إذا لم يحصل له زكاة {وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى} أي يقصدك ويؤمك ليهتدي بما تقول له: {فأنت عنه تلهى} أي تتشاغل, ومن ههنا أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يخص بالإنذار أحداً, بل يساوي فيه بين الشريف والضعيف والفقير والغني والسادة والعبيد والرجال والنساء والصغار والكبار, ثم الله تعالى يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة. قال الحافظ أيو يعلى في مسنده: حدثنا محمد بن مهدي, حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس رضي الله عنه في قوله تعالى: {عبس وتولى} جاء ابن أم مكتوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكلم أبي بن خلف فأعرض عنه, فأنزل الله عز وجل {عبس وتولى * أن جاءه الأعمى} فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه.
    قال قتادة: أخبرني أنس بن مالك قال: رأيته يوم القادسية وعليه درع ومعه راية سوداء يعني ابن أم مكتوم, وقال أبو يعلى وابن جرير: حدثنا سعيد بن يحيى الأموي, حدثني أبي قال: هذا ما عرضنا على هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: أنزلت {عبس وتولى} في ابن أم مكتوم الأعمى, أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول أرشدني, قالت وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين, قالت: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ويقبل على الاَخر ويقول: «أترى بما أقول بأساً ؟» فيقول: لا! ففي هذا أنزلت {عبس وتولى} وقد روى الترمذي هذا الحديث عن سعيد بن يحيى الأموي بإسناده مثله, ثم قال: وقد رواه بعضهم عن هشام بن عروة عن أبيه قال: أنزلت عبس وتولى في ابن أم مكتوم ولم يذكر فيه عن عائشة. {قلت} كذلك هو في الموطأ.
    ثم روى ابن جرير وابن أبي حاتم أيضاً من طريق العوفي عن ابن عباس قوله: {عبس وتولى أن جاءه الأعمى} قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب, وكان يتصدى لهم كثيراً ويحرص عليهم أن يؤمنوا فأقبل إليه رجل أعمى يقال له عبد الله بن أم مكتوم يمشي وهو يناجيهم, فجعل عبد الله يستقرىء النبي صلى الله عليه وسلم آية من القرآن, وقال: يا رسول الله علمني مما علمك الله, فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبس في وجهه وتولى وكره كلامه, وأقبل على الاَخرين فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نجواه وأخذ ينقلب إلى أهله أمسك الله بعض بصره وخفق برأسه ثم أنزل الله تعالى: {عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى}.
    فلما نزل فيه ما نزل أكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما حاجتك ؟ هل تريد من شيء ؟ ـ وإذا ذهب من عنده قال ـ هل لك حاجة في شيء ؟» وذلك لما أنزل الله تعالى: {أما من استغنى فأنت له تصدى. وما عليك ألا يزكى} فيه غربة ونكارة, وقد تكلم في إسناده, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي, حدثنا عبد الله بن صالح, حدثنا الليث, حدثني يونس عن ابن شهاب قال: قال سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم» وهو الأعمى الذي أنزل الله تعالى فيه {عبس وتولى * أن جاءه الأعمى} وكان يؤذن مع بلال, قال سالم: وكان رجلاً ضرير البصر فلم يك يؤذن حتى يقول له الناس حين ينظرون إلى بزوغ الفجر أذن. وهكذا ذكر عروة بن الزبير ومجاهد وأبو مالك وقتادة والضحاك وابن زيد وغير واحد من السلف والخلف أنها نزلت في ابن أم مكتوم, والمشهور أن اسمه عبد الله ويقال عمرو, والله أعلم.
    وقوله تعالى: {كلا إنها تذكرة} أي هذه السورة أو الوصية بالمساواة بين الناس في إبلاغ العلم بين شريفهم ووضيعهم وقال قتادة والسدي {كلا إنها تذكرة} يعني القرآن {فمن شاء ذكره} أي فمن شاء ذكر الله تعالى في جميع أموره ويحتمل عود الضمير إلى الوحي لدلالة الكلام عليه.
    وقوله تعالى: {في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة} أي هذه السورة أو العظة وكلاهما متلازم بل جميع القرآن في صحف مكرمة أي معظمة موقرة {مرفوعة} أي عالية القدر {مطهرة} أي من الدنس والزيادة والنقص. وقوله تعالى: {بأيدي سفرة} قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وابن زيد: هي الملائكة. وقال وهب بن منبه: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم , وقال قتادة: هم القراء. وقال ابن جريج عن ابن عباس: السفرة بالنبطية القراء, وقال ابن جرير: والصحيح أن السفرة الملائكة والسفرة يعني بين الله تعالى وبين خلقه ومنه يقال السفير الذي يسعى بين الناس في الصلح والخير كما قال الشاعر:
    وما أدع السفارة بين قوميوما أمشي بغش إن مشيت
    وقال البخاري: سفرة: الملائكة, سفرت أصلحت بينهم وجعلت الملائكة إذا نزلت بوحي الله تعالى وتأديته كالسفير الذي يصلح بين القوم. و قوله تعالى: {كرام بررة} أي خلقهم كريم حسن شريف وأخلاقهم وأفعالهم بارة طاهرة كاملة ومن ههنا ينبغي لحامل القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السداد والرشاد. قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل, حدثنا هشام عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعد بن هشام عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة, والذي يقرؤه وهو عليه شاق, له أجران» أخرجه الجماعة من طريق قتادة به.


    ** قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيّ شَيءٍ خَلَقَهُ * مِن نّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدّرَهُ * ثُمّ السّبِيلَ يَسّرَهُ * ثُمّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ * كَلاّ لَمّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ * فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَىَ طَعَامِهِ * أَنّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً * ثُمّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقّاً * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَآئِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مّتَاعاً لّكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ
    يقول تعالى ذاماً لمن أنكر البعث والنشور من بني آدم {قتل الإنسان ما أكفره} قال الضحاك عن ابن عباس {قتل الإنسان} لعن الإنسان, وكذا قال أبو مالك: وهذا لجنس الإنسان المكذب لكثرة تكذيبه بلا مستند بل بمجرد الاستبعاد وعدم العلم, قال ابن جريج {ما أكفره} أي ما أشد كفره, وقال ابن جرير ويحتمل أن يكون المراد أي شيء جعله كافراً أي ما حمله على التكذيب بالمعاد. وقد حكاه البغوي عن مقاتل والكلبي وقال قتادة {ما أكفره} ما ألعنه, ثم بين تعالى له كيف خلقه من الشيء الحقير وأنه قادر على إعادته كما بدأه فقال تعالى: {من أي شيء خلقه ؟ من نطفة خلقه فقدره} أي قدر أجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد {ثم السبيل يسره} قال العوفي عن ابن عباس: ثم يسر عليه خروجه من بطن أمه, وكذا قال عكرمة والضحاك وأبو صالح وقتادة والسدي واختاره ابن جرير وقال مجاهد: هذه كقوله تعالى: {إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً} أي بيناه له وأوضحناه وسهلنا عليه عمله, وكذا قال الحسن وابن زيد, وهذا هو الأرجح والله أعلم. وقوله تعالى: {ثم أماته فأقبره} أي أنه بعد خلقه له أماته فأقبره أي جعله ذا قبر, والعرب تقول: قبرت الرجل إذا ولى ذلك منه, وأقبره الله, وعضبت قرن الثور وأعضبه الله وبترت ذنب البعير وأبتره الله, وطردت عني فلاناً وأطرده الله, أي جعله طريداً, قال الأعشى:
    لو أسندت ميتاً إلى صدرهاعاش ولم ينقل إلى قابر
    وقوله تعالى: {ثم إذا شاء أنشره} أي بعثه بعد موته ومنه يقال البعث والنشور {ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون}, {وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أصبغ بن الفرج, أخبرنا ابن وهب, أخبرني عمرو بن الحارث أن دراجاً أبا السمح أخبره عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يأكل التراب كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه» قيل: وما هو يا رسول الله ؟ قال: «مثل حبة خردل منه تنشؤون» وهذا الحديث ثابت في الصحيحين من رواية الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة بدون هذه الزيادة ولفظه «كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب».
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:11

    وقوله تعالى: {كلا لما يقض ما أمره} قال ابن جرير: يقول جل ثناؤه كلا ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان الكافر من أنه قد أدى حق الله عليه في نفسه وماله {لما يقض ما أمره} يقول: لم يؤدّ ما فرض عليه من الفرائض لربه عز وجل ثم روى هو وابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله تعالى: {كلا لما يقض ما أمره} قال: لا يقضي أحداً أبداً كل ما افترض عليه, وحكاه البغوي عن الحسن البصري بنحو من هذا, ولم أجد للمتقدمين فيه كلاماً سوى هذا, والذي يقع لي في معنى ذلك, والله أعلم, أن المعنى {ثم إذا شاء أنشره} أي بعثه {كلا لما يقض ما أمره} أي لا يفعله الاَن حتى تنقضي المدة ويفرغ القدر من بني آدم ممن كتب الله أن سيوجد منهم ويخرج إلى الدنيا, وقد أمر به تعالى كوناً وقدراً فإذا تناهى ذلك عند الله أنشر الله الخلائق وأعادهم كما بدأهم وقد روى ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه قال: قال عزير عليه السلام قال الملك الذي جاءني فإن القبور هي بطن الأرض, وإن الأرض هي أم الخلق فإذا خلق الله ما أراد أن يخلق وتمت هذه القبور التي مد الله لها انقطعت الدنيا ومات من عليها ولفظت الأرض ما في جوفها وأخرجت القبور ما فيها, وهذا شبيه بما قلناه من معنى الاَية, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
    وقوله تعالى: {فلينظر الإنسان إلى طعامه } فيه امتنان وفيه استدلال بإحياء النبات من الأرض الهامدة على إحياء الأجسام بعد ما كانت عظاماً بالية وتراباً متمزقاً {أنا صببنا الماء صباً} أي أنزلناه من السماء على الأرض {ثم شققنا الأرض شقاً} أي أسكناه فيها فدخل في تخومها وتخلل في أجزاء الحب المودع فيها فنبت وارتفع وظهر على وجه الأرض {فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً} فالحب كل ما يذكر من الحبوب والعنب معروف والقضب هو الفصفصة التي تأكلها الدواب رطبة, ويقال لها القت أيضاً, وقال ذلك ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي, وقال الحسن البصري: القضب العلف {وزيتوناً} وهو معروف وهو أدم وعصيره أدم ويستصبح به ويدهن به {ونخلاً} يؤكل بلحاً وبسراً ورطباً وتمراً ونيئاً ومطبوخاً ويعتصر منه رب وخل {وحدائق غلباً} أي بساتين, قال الحسن وقتادة: غلباً نخل غلاظ كرام, وقال ابن عباس ومجاهد: كل ما التف واجتمع. وقال ابن عباس أيضاً: غلبا الشجر الذي يستظل به, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وحدائق غلباً} أي طوال, وقال عكرمة: غلباً أي غلاظ الأوساط. وفي رواية غلاظ الرقاب, ألم تر إلى الرجل إذا كان غليظ الرقبة قيل: والله إنه لأغلب, رواه ابن أبي حاتم وأنشد ابن جرير للفرذدق:
    عوى فأثأر أغلب ضيغمياًفويل ابن المراغة ما استثار
    وقوله تعالى: {وفاكهة وأباً} أما الفاكهة فكل ما يتفكه به من الثمار, قال ابن عباس: الفاكهة كل ما أكل رطباً, والأب, ما أنبتت الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس, وفي رواية عنه: هو الحشيش للبهائم.
    وقال مجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك: الأب الكلأ , وعن مجاهد والحسن وقتادة وابن زيد: الأب للبهائم كالفاكهة لبني آدم, وعن عطاء : كل شيء نبت على وجه الأرض فهو أب. وقال الضحاك: كل شيء أنبتته الأرض سوى الفاكهة فهو الأب.
    وقال ابن إدريس عن عاصم بن كليب عن أبيه عن ابن عباس: الأب نبت الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس. ورواه ابن جرير من ثلاث طرق عن ابن إدريس ثم قال: حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا: حدثنا ابن إدريس, حدثنا عبد الملك عن سعيد بن جبير قال: عدّ ابن عباس وقال: الأب ما أنبتت الأرض للأنعام وهذا لفظ حديث أبي كريب. وقال أبو السائب في حديثه. ما أنبتت الأرض مما يأكل الناس وتأكل الأنعام, وقال العوفي عن ابن عباس: الأب الكلأ والمرعى, وكذا قال مجاهد والحسن وقتادة وابن زيد وغير واحد. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا محمد بن يزيد, حدثنا العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي قال: سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن قوله تعالى: {وفاكهة وأباً} فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن قلت في كتاب الله ما لا أعلم, وهذا منقطع بين إبراهيم التيمي والصديق رضي الله عنه. فأما ما رواه ابن جرير حيث قال: حدثنا ابن بشار, حدثنا ابن أبي عدي, حدثنا حميد عن أنس قال: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه {عبس وتولى} فلما أتى على هذه الاَية {وفاكهة وأبا} قال: قد عرفنا الفاكهة فما الأب ؟ فقال: لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا لهو التكلف فهو إسناد صحيح, وقد رواه غير واحد عن أنس به, وهذا محمول على أنه أراد أن يعرف شكله وجنسه وعينه وإلا فهو وكل من قرأ هذه الاَية يعلم أنه من نبات الأرض لقوله: {فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلباً وفاكهة وأباً} وقوله تعالى: {متاعاً لكم ولأنعامكم} أي عيشة لكم ولأنعامكم في هذه الدار إلى يوم القيامة.


    ** فَإِذَا جَآءَتِ الصّآخّةُ * يَوْمَ يَفِرّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ * لِكُلّ امْرِىءٍ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَـَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ
    قال ابن عباس: الصاخة اسم من أسماء يوم القيامة عظمه الله وحذره عباده, وقال ابن جرير: لعله اسم للنفخة في الصور وقال البغوي: الصاخة يعني صيحة يوم القيامة, سميت بذلك لأنها تصخ الأسماع أي تبالغ في إسماعها حتى تكاد تصمها {يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه} أي يراهم ويفر منهم ويبتعد منهم لأن الهول عظيم والخطب جليل. قال عكرمة: يلقى الرجل زوجته فيقول لها: يا هذه أي بعل كنت لك ؟ فتقول: نعم البعل كنت وتثني بخير ما استطاعت فيقول لها: فإني أطلب إليك اليوم حسنة واحدة تهبينها لي لعلي أنجو مما ترين, فتقول له: ما أيسر ما طلبت ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئاً أتخوف مثل الذي تخاف. قال: وإن الرجل ليلقى ابنه فيتعلق به فيقول: يا بني أي والد كنت لك ؟ فيثني بخير. فيقول له: يا بني إني احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك لعلي أنجو بها مما ترى. فيقول ولده: يا أبت ما أيسر ما طلبت ولكني أتخوف مثل الذي تتخوف فلا أستطيع أن أعطيك شيئاً, يقول الله تعالى: {يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه}. وفي الحديث الصحيح في أمر الشفاعة أنه إذا طلب إلى كل من أولي العزم أن يشفع عند الله في الخلائق يقول: نفسي نفسي لا أسألك اليوم إلا نفسي, حتى إن عيسى ابن مريم يقول لا أسأله اليوم إلا نفسي لا أسأله مريم التي ولدتني, ولهذا قال تعالى: {يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه} قال قتادة: الأحب فالأحب والأقرب فالأقرب من هول ذلك اليوم.
    وقوله تعالى: {لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه} أي هو في شغل شاغل عن غيره, قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار بن الحارث, حدثنا الوليد بن صالح, حدثنا ثابت أبو زيد العباداني عن هلال بن خباب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تحشرون حفاة عراة مشاة غرلاً» قال: فقالت زوجته يا رسول الله ننظر أو يرى بعضنا عورة بعض ؟ قال: «لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه ـ أو قال: ما أشغله عن النظر ـ».
    وقد رواه النسائي منفرداً به عن أبي داود عن عارم عن ثابت بن يزيد وهو أبو زيد الأحول البصري أحد الثقات عن هلال بن خباب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. وقد رواه الترمذي عن عبد بن حميد عن محمد بن الفضل عن ثابت بن يزيد عن هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تحشرون حفاة عراة غرلاً» فقالت امرأة: أيبصر أو يرى بعضنا عورة بعض ؟ قال: «يا فلانة لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه» ثم قال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح, وقد روى من غير وجه عن ابن عباس رضي الله عنهما, وقال النسائي: أخبرني عمرو بن عثمان, حدثنا بقية, حدثنا الزبيدي, أخبرني الزهري عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يبعث الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً» فقالت عائشة: يا رسول الله فكيف بالعورات ؟ فقال: «لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه» انفرد به النسائي من هذا الوجه, ثم قال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا أزهر بن حاتم, حدثنا الفضل بن موسى عن عائذ بن شريح عن أنس بن مالك قال: سألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي, إني سائلتك عن حديث فتخبرني أنت به قال: «إن كان عندي منه علم» قالت: يا نبي الله كيف يحشر الرجال ؟ قال «حفاة عراة» ثم انتظرت ساعة فقالت: يا رسول الله كيف يحشر النساء ؟ قال: كذلك حفاة عراة» قالت: واسوأتاه من يوم القيامة قال: «وعن أي ذلك تسألين إنه قد نزل علي آية لا يضرك كان عليك ثياب أو لا يكون».
    قالت: أية آية هي يا نبي الله ؟ قال: {لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه} وقال البغوي في تفسيره: أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي أنبأنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أخبرني الحسين بن عبد الله, حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن, حدثنا محمد بن عبد العزيز, حدثنا ابن أبي أويس, حدثنا أبي عن محمد بن أبي عياش, عن عطاء بن يسار, عن سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يبعث الناس حفاة عراة غرلاً قد ألجمهم العرق وبلغ شحوم الاَذان, فقلت يا رسول الله: واسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض ؟ فقال: «قد شغل الناس لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه» هذا حديث غريب من هذا الوجه جداً وهكذا رواه ابن جرير عن أبي عمار الحسين بن حريث المروزي عن الفضل بن موسى به ولكن قال أبو حاتم الرازي عائذ بن شريح ضعيف وفي حديثه ضعف, وقوله تعالى: {وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة} أي يكون الناس هنالك فريقين وجوه مسفرة أي مستنيرة {ضاحكة مستبشرة} أي مسروة فرحة من السرور في قلوبهم قد ظهر البشر على وجوههم وهؤلاء هم أهل الجنة {ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة} أي يعلوها ويغشاها قترة أي سواد, قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا سهل بن عثمان العسكري حدثنا أبو علي محمد مولى جعفر بن محمد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يلجم الكافر العرق ثم تقع الغبرة على وجوههم» قال فهو قوله تعالى: {ووجوه يومئذ عليها غبرة} وقال ابن عباس {ترهقها قترة} أي يغشاها سواد الوجوه وقوله تعالى: {أولئك هم الكفرة الفجرة} أي الكفرة قلوبهم الفجرة في أعمالهم كما قال تعالى: {ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً}. آخر تفسير سورة عبس ولله الحمد والمنة.

    تمت سورة عبس
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:11

    سورة التكوير
    قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا عبد الله بن بحير القاص أن عبد الرحمن بن يزيد الصنعاني أخبره أنه سمع ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ {إذا الشمس كورت} و {إذا السماء انفطرت} و {إذا السماء انشقت} وهكذا رواه الترمذي عن العباس بن عبد العظيم العنبري عن عبد الرزاق به.

    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** إِذَا الشّمْسُ كُوّرَتْ * وَإِذَا النّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجّرَتْ * وَإِذَا النّفُوسُ زُوّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السّمَآءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعّرَتْ * وَإِذَا الْجَنّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مّآ أَحْضَرَتْ
    قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {إذا الشمس كورت} يعني أظلمت. وقال العوفي عنه: ذهبت. وقال مجاهد: اضمحلت وذهبت, وكذا قال الضحاك وقال قتادة: ذهب ضوؤها, وقال سعيد بن جبير: كورت غورت. وقال الربيع بن خثيم: كورت يعني رمي بها, وقال أبو صالح: كورت ألقيت, وعنه أيضاً: نكست, وقال زيد بن أسلم: تقع في الأرض قال ابن جرير: والصواب من القول عندنا في ذلك أن التكوير جمع الشيء بعضه على بعض, ومنه تكوير العمامة وجمع الثياب بعضها إلى بعض, فمعنى قوله تعالى: {كورت} جمع بعضها إلى بعض ثم لفت فرمي بها, وإذا فعل بها ذلك ذهب ضوؤها وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج وعمرو بن عبد الله الأودي حدثنا أبو أسامة عن مجالد عن شيخ من بجيلة عن ابن عباس {إذا الشمس كورت} قال يكور الله الشمس والقمر والنجوم يوم القيامة في البحر, ويبعث الله ريحاً دبوراً فتضرمها ناراً, وكذا قال عامر الشعبي, ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو صالح حدثني معاوية بن صالح عن ابن يزيد بن أبي مريم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قول الله {إذا الشمس كورت} قال: «كورت في جهنم».
    وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده حدثنا موسى بن محمد بن حبان حدثنا درست بن زياد حدثنا يزيد الرقاشي حدثنا أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشمس والقمر نوران عقيران في النار» هذا حديث ضعيف لأن يزيد الرقاشي ضعيف, والذي رواه البخاري في الصحيح بدون هذه الزيادة, ثم قال البخاري حدثنا مسدد حدثنا عبد العزيز بن المختار حدثنا عبد الله الداناج حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الشمس والقمر يكوران يوم القيامة» انفرد به البخاري, وهذا لفظه وإنما أخرجه في كتاب بدء الخلق وكان جديراً أن يذكره ههنا أو يكرره كما هي عادته في أمثاله, وقد رواه البزار فجود إيراده فقال: حدثنا إبراهيم بن زياد البغدادي حدثنا يونس بن محمد حدثنا عبد العزيز بن المختار عن عبد الله الداناج قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن خالد بن عبد الله القسري في هذا المسجد مسجد الكوفة, وجاء الحسن فجلس إليه فحدث قال حدثنا أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشمس والقمر نوران في النار عقيران يوم القيامة», فقال الحسن: وما ذنبهما ؟ فقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: ـ أحسبه قال ـ وما ذنبهما. ثم قال لا يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه ولم يرو عبد الله الداناج عن أبي سلمة سوى هذا الحديث.
    وقوله تعالى: {وإذا النجوم انكدرت} أي انتثرت كما قال تعالى: {وإذا الكواكب انتثرت} وأصل الانكدار الانصباب. قال الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: ست آيات قبل يوم القيامة, بينا الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت واختلطت ففزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن, واختلطت الدواب والطير والوحوش فماجوا بعضهم في بعض {وإذا الوحوش حشرت} قال: اختلطت {وإذا العشار عطلت} قال: أهملها أهلها {وإذا البحار سجرت} قال: قالت الجن نحن نأتيكم بالخبر, قال فانطلقوا إلى البحر فإذا هو نار تتأجج, قال فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى وإلى السماء السابعة العليا, قال فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم. رواه ابن جرير وهذا لفظه وابن أبي حاتم ببعضه, وهكذا قال مجاهد والربيع بن خثيم والحسن البصري وأبو صالح وحماد بن أبي سليمان والضحاك في قوله جلا وعلا: {وإذا النجوم انكدرت} أي تناثرت, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {وإذا النجوم انكدرت} أي تغيرت. وقال يزيد بن أبي مريم عن النبي صلى الله عليه وسلم: {وإذا النجوم انكدرت} قال «انكدرت في جهنم وكل من عبد من دون الله فهو في جهنم إلا ما كان من عيسى وأمه ولو رضيا أن يعبدا لدخلاها» رواه ابن أبي حاتم بالإسناد المتقدم.
    وقوله تعالى: {وإذا الجبال سيرت} أي زالت عن أماكنها ونسفت فتركت الأرض قاعاً صفصفا وقوله: {وإذا العشار عطلت} قال عكرمة ومجاهد: عشار الإبل, قال مجاهد: عطلت تركت وسيبت وقال أبي بن كعب والضحاك, أهملها أهلها, وقال الربيع بن خثيم: لم تحلب ولم تصر تخلى منها أربابها, وقال الضحاك: تركت لا راعي لها والمعنى في هذا كله متقارب, والمقصود أن العشار من الإبل وهي خيارها والحوامل منها التي قد وصلت في حملها إلى الشهر العاشر ـ واحدتها عشراء ولا يزال ذلك اسمها حتى تضع ـ قد اشتغل الناس عنها وعن كفالتها والانتفاع بها بعد ما كانوا أرغب شيء فيها بما دهمهم من الأمر العظيم المفظع الهائل, وهو أمر يوم القيامة وانعقاد أسبابها ووقوع مقدماتها وقيل بل يكون ذلك يوم القيامة يراها أصحابها كذلك لا سبيل لهم إليها, وقد قيل في العشار إنها السحاب تعطل عن المسير بين السماء والأرض لخراب الدنيا وقيل إنها الأرض التي تعشر, وقيل إنها الديار التي كانت تسكن تعطلت لذهاب أهلها. حكى هذه الأقوال كلها الإمام أبو عبد الله القرطبي في كتابه التذكرة ورجح أنها الإبل وعزاه إلى أكثر الناس. {قلت}: لا يعرف عن السلف والأئمة سواه والله أعلم.
    وقوله تعالى: {وإذا الوحوش حشرت} أي جمعت كما قال تعالى: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} قال ابن عباس: يحشر كل شيء حتى الذباب رواه ابن أبي حاتم, وكذا قال الربيع بن خثيم والسدي وغير واحد, وكذا قال قتادة في تفسير هذه الاَية إن هذه الخلائق موافية فيقضي الله فيها ما يشاء, وقال عكرمة حشرها موتها وقال ابن جرير: حدثني علي بن مسلم الطوسي حدثنا عباد بن العوام حدثنا حصين عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {وإذا الوحوش حشرت} قال حشر البهائم موتها, وحشر كل شيء الموت غير الجن والإنس فإنهما يوقفان يوم القيامة, حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن سفيان عن أبيه عن أبي يعلى عن الربيع بن خثيم {وإذا الوحوش حشرت} قال أتى عليها أمر الله, قال سفيان قال أبي فذكرته لعكرمة فقال قال ابن عباس حشرها موتها, وقد تقدم عن أبي بن كعب أنه قال {وإذا الوحوش حشرت} اختلطت قال ابن جرير والأولى قول من قال حشرت جمعت قال الله تعالى: {والطير محشورة} أي مجموعة.

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:12

    وقوله تعالى: {وإذ البحار سجرت} قال ابن جرير حدثنا يعقوب حدثنا ابن علية عن داود عن سعيد بن المسيب قال: قال علي رضي الله عنه لرجل من اليهود أين جهنم ؟ قال البحر فقال ما أراه إلا صادقاً والبحر المسجور {وإذا البحار سجرت} وقال ابن عباس وغير واحد يرسل الله عليها الرياح الدبور فتسعرها وتصير ناراً تأجج, وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله تعالى: {والبحر المسجور} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد حدثنا أبو طاهر حدثني عبد الجبار بن سليمان أبو سليمان النفاط ـ شيخ صالح يشبه مالك بن أنس ـ عن معاوية بن سعيد قال: إن هذا البحر بركة ـ يعني بحر الروم, وسط الأرض والأنهار كلها تصب فيه والبحر الكبير يصب فيه, وأسفله آبار مطبقة بالنحاس, فإذا كان يوم القيامة أسجر وهذا أثر غريب عجيب وفي سنن أبي داود «لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز فإن تحت البحر ناراً وتحت النار بحراً» الحديث. وقد تقدم الكلام عليه في سورة فاطر. وقال مجاهد والحسن بن مسلم: سجرت أوقدت وقال الحسن: يبست وقال الضحاك وقتادة: غاض ماؤها فذهب فلم يبق فيها قطرة, وقال الضحاك أيضاً: سجرت فجرت, وقال السدي: فتحت وصيرت, وقال الربيع بن خثيم: سجرت فاضت.
    وقوله تعالى: {وإذا النفوس زوجت} أي جمع كل شكل إلى نظيره كقوله تعالى: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن الصباح البزار حدثنا الوليد بن أبي ثور عن سماك عن النعمان بن بشير أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{وإذا النفوس زوجت} ـ قال ـ الضرباء كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله» وذلك بأن الله عز وجل يقول: {وكنتم أزواجاً ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة, وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة, والسابقون السابقون} قال هم الضرباء, ثم رواه ابن أبي حاتم من طرق أخر عن سماك بن حرب عن النعمان بن بشير أن عمر بن الخطاب خطب الناس فقرأ {وإذا النفوس زوجت} فقال: تزوجها أن تؤلف كل شيعة إلى شيعتهم, وفي رواية هما الرجلان يعملان العمل فيدخلان به الجنة أو النار, وفي رواية عن النعمان قال: سئل عمر عن قوله تعالى: {وإذا النفوس زوجت} قال: يقرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح ويقرن بين الرجل السوء مع الرجل السوء في النار فذلك تزويج الأنفس وفي رواية عن النعمان أن عمر قال للناس: ما تقولون في تفسير هذه الاَية {وإذا النفوس زوجت} ؟ فسكتوا. قال: ولكن أعلمه هو الرجل يزوج نظيره من أهل الجنة, والرجل يزوج نظيره من أهل النار ثم قرأ {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: {وإذا النفوس زوجت} قال ذلك حين يكون الناس أزواجاً ثلاثة, وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد {وإذا النفوس زوجت} قال, والأمثال من الناس جمع بينهم, وكذا قال الربيع بن خثيم والحسن وقتادة واختاره ابن جرير وهو الصحيح.
    (قول آخر) في قوله تعالى: {وإذا النفوس زوجت} قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد, حدثنا أحمد بن عبد الرحمن, حدثني أبي عن أبيه عن أشعث بن سرار عن جعفر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: يسيل واد من أصل العرش من ماء فيما بين الصيحتين ومقدار ما بينهما أربعون عاماً, فينبت منه كل خلق بلي من الإنسان أو طير أو دابة, ولو مر عليهم مار قد عرفهم قبل ذلك لعرفهم على وجه الأرض قد نبتوا, ثم ترسل الأرواح فتزوج الأجساد فذلك قول الله تعالى: {وإذا النفوس زوجت} وكذا قال أبو العالية وعكرمة وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري أيضاً في قوله تعالى: {وإذا النفوس زوجت} أي زوجت بالأبدان. وقيل: زوج المؤمنون بالحور العين وزوج الكافرون بالشياطين حكاه القرطبي في التذكرة.
    وقوله تعالى: {وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت} هكذا قراءة الجمهور سئلت. والموءودة هي التي كان أهل الجاهلية يدسونها في التراب كراهية البنات, فيوم القيامة تسأل الموءودة على أي ذنب قتلت ليكون ذلك تهديداً لقاتلها, فإنه إذا سئل المظلوم فما ظن الظالم إذاً ؟ وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وإذا الموءودة سئلت} أي سألت. وكذا قال أبو الضحى: سألت أي طالبت بدمها. وعن السدي وقتادة مثله.
    وقد وردت أحاديث تتعلق بالموءودة فقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد. حدثنا سعيد بن أبي أيوب, حدثني أبو الأسود وهو محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة عن عائشة عن جذامة بنت وهب أخت عكاشة قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس وهو يقول: «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم ولا يضر أولادهم ذلك شيئاً» ثم سألوه عن العزل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الوأد الخفي وهو الموءودة سئلت» ورواه مسلم من حديث أبي عبد الرحمن المقري وهو عبد الله بن يزيد عن سعيد بن أبي أيوب. ورواه أيضاً ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يحيى بن إسحاق السيلحيني عن يحيى بن أيوب, ورواه مسلم أيضاً وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث مالك بن أنس ثلاثتهم عن أبي الأسود به.
    وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن أبي عدي عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن سلمة بن يزيد الجعفي قال: انطلقت أنا وأخي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله إن أمنا مليكة كانت تصل الرحم وتقري الضيف وتفعل, هلكت في الجاهلية فهل ذلك نافعها شيئاً ؟ قال: «لا» قلنا: فإنها كانت وأدت أختاً لنا في الجاهلية فهل ذلك نافعها شيئاً ؟ قال «الوائدة والموءودة في النار إلا أن يدرك الوائدة الإسلام فيعفو الله عنها» ورواه النسائي من حديث داود ابن أبي هند به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي, حدثنا أبو أحمد الزبيري, حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن علقمة وأبي الأحوص عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الوائدة والموءودة في النار» وقال أحمد أيضاً حدثنا إسحاق الأزرق, أخبرنا عوف, حدثتني حسناء ابنة معاوية الصريمية عن عمها قال: قلت يا رسول الله من في الجنة ؟ قال: «النبي في الجنة والشهيد في الجنة والمولود في الجنة والموءودة في الجنة». وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا مسلم بن إبراهيم, حدثنا قرة قال: سمعت الحسن يقول: قيل يا رسول الله من في الجنة ؟ قال: «الموءودة في الجنة» هذا حديث مرسل من مراسيل الحسن ومنهم من قبله. وقال ابن أبي حاتم: حدثني أبو عبد الله الظهراني, حدثنا حفص بن عمر العدني, حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة قال: قال ابن عباس: أطفال المشركين في الجنة فمن زعم أنهم في النار فقد كذب يقول الله تعالى: {وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت} قال ابن عباس: هي المدفونة. وقال عبد الرزاق: أخبرنا إسرائيل عن سماك بن حرب عن النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب في قوله تعالى: {وإذا الموءودة سئلت} قال: جاء قيس بن عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني وأدت بناتٍ لي في الجاهلية قال: «أعتق عن كل واحدة منهن رقبة» قال: يا رسول الله إني صاحب إبل قال: «فانحر عن كل واحدة منهن بدنة» قال الحافظ أبو بكر البزار: خولف فيه عبد الرزاق ولم يكتبه إلا عن الحسين بن مهدي عنه, وقد رواه ابن أبي حاتم فقال: أخبرنا أبو عبد الله الظهراني فيما كتب إلي قال: حدثنا عبد الرزاق فذكره بإسناده مثله, إلا أنه قال وأدت ثمان بنات لي في الجاهلية وقال في آخره «فأهد إن شئت عن كل واحدة بدنة» ثم قال: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا قيس بن الربيع عن الأغر بن الصباح عن خليفة بن حصين قال: قدم قيس بن عاصم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني وأدت اثنتي عشرة ابنة لي في الجاهلية أو ثلاث عشرة قال: «أعتق عددهن نسماً» قال: فأعتق عددهن نسما, فلما كان في العام المقبل جاء بمائة ناقة فقال: يا رسول الله هذه صدقة قومي على أثر ما صنعت بالمسلمين قال علي بن أبي طالب: فكنا نريحها ونسميها القيسية.
    وقوله تعالى: {وإذا الصحف نشرت} قال الضحاك: أعطي كل إنسان صحيفته بيمينه أو بشماله, وقال قتادة: يا ابن آدم تملى فيها ثم تطوى ثم تنشر عليك يوم القيامة فلينظر رجل ماذا يملي في صحيفته.
    وقوله تعالى: {وإذا السماء كشطت} قال مجاهد: اجتذبت. وقال السدي: كشفت. وقال الضحاك: تنكشط فتذهب. وقوله تعالى: {وإذا الجحيم سعرت} قال السدي: أحميت, وقال قتادة: أوقدت قال: وإنما يسعرها غضب الله وخطايا بني آدم. وقوله تعالى: {وإذا الجنة أزلفت} قال الضحاك وأبو مالك وقتادة والربيع بن خثيم: أي قربت إلى أهلها وقوله تعالى: {علمت نفس ما أحضرت} هذا هو الجواب أي إذا وقعت هذه الأمور حينئذ تعلم كل نفس ما عملت وأحضر ذلك لها كما قال تعالى: {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً} وقال تعالى: {ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبدة حدثنا ابن المبارك, حدثنا محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: لما نزلت {إذا الشمس كورت} قال عمر: لما بلغ {علمت نفس ما أحضرت} قال: لهذا أجرى الحديث.


    ** فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنّسِ * الْجَوَارِ الْكُنّسِ * وَاللّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصّبْحِ إِذَا تَنَفّسَ * إِنّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مّطَاعٍ ثَمّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالاُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رّجِيمٍ * فَأيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ * لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَآءُونَ إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ رَبّ الْعَالَمِينَ
    روى مسلم في صحيحه والنسائي في تفسيره عند هذه الاَية من حديث مسعر بن كدام عن الوليد بن سريع عن عمرو بن حريث قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم الصبح فسمعته يقرأ {فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس * والليل إذا عسعس * والصبح إذا تنفس} ورواه النسائي عن بندار عن غندر عن شعبة عن الحجاج بن عاصم عن أبي الأسود عن عمرو بن حريث به نحوه, قال ابن أبي حاتم وابن جرير من طريق الثوري عن أبي إسحاق عن رجل من مراد عن علي {فلا أقسم بالخنس, الجوار الكنس} قال: هي النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل. وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن سماك بن حرب, سمعت خالد بن عرعرة, سمعت علياً وسئل عن لا أقسم بالخنس الجوار الكنس فقال: هي النجوم تخنس بالنهار وتكنس بالليل. وحدثنا أبو كريب, حدثنا وكيع عن إسرائيل عن سماك عن خالد عن علي قال: هي النجوم, وهذا إسناد جيد صحيح إلى خالد بن عرعرة وهو السهمي الكوفي. قال أبو حاتم الرازي: روى عن علي وروى عنه سماك والقاسم بن عوف الشيباني ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً فالله أعلم, وروى يونس عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي: أنها النجوم, رواه ابن أبي حاتم. وكذا روي عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي وغيرهم أنها النجوم.

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:12

    وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا هوذة بن خليفة حدثنا عوف عن بكر بن عبد الله في قوله تعالى: {فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس} قال: هي النجوم الدراري التي تجري تستقبل المشرق, وقال بعض الأئمة, إنما قيل للنجوم الخنس أي في حال طلوعها ثم هي جوار في فلكها وفي حال غيبوبتها يقال لها كنس, من قول العرب أوى الظبي إلى كناسه إذا تغيب فيه. وقال الأعمش عن إبراهيم قال: قال عبد الله فلا أقسم بالخنس قال بقر الوحش, وكذا قال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة عن عبد الله فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ما هي يا عمرو ؟ قلت البقر قال وأنا أرى ذلك, وكذا روى يونس عن أبي إسحاق عن أبيه وقال أبو داود الطيالسي عن عمرو عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس الجوار الكنس قال البقر تكنس إلى الظل وكذا قال سعيد بن جبير, وقال العوفي عن ابن عباس هي الظباء, وكذا قال سعيد أيضاً ومجاهد والضحاك, وقال أبو الشعثاء جابر بن زيد هي الظباء والبقر, وقال ابن جرير حدثنا يعقوب حدثنا هشيم أخبرنا مغيرة عن إبراهيم ومجاهد أنهما تذاكرا هذه الاَية {فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس} فقال إبراهيم لمجاهد قل فيها بما سمعت, قال: فقال مجاهد كنا نسمع فيها شيئاً وناس يقولون إنها النجوم, قال: فقال إبراهيم قل فيها بما سمعت, قال: فقال مجاهد كنا نسمع أنها بقر الوحش حين تكنس في حجرتها, فقال إبراهيم إنهم يكذبون على عليّ, هذا كما رووا عن علي أنه ضمن الأسفل الأعلى والأعلى الأسفل, وتوقف ابن جرير في المراد بقوله: {الخنس الجوار الكنس} هل هو النجوم أو الظباء وبقر الوحش قال ويحتمل أن يكون الجميع مراداً.
    وقوله تعالى: {والليل إذا عسعس} فيه قولان أحدهما إقباله بظلامه وقال مجاهد أظلم وقال سعيد بن جبير إذا نشأ, وقال الحسن البصري إذا غشي الناس, وكذا قال عطية العوفي وقال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس {إذا عسعس} إذا أدبر, وكذا قال مجاهد وقتادة والضحاك وكذا قال زيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن {إذا عسعس} أي إذا ذهب فتولى.
    وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البحتري سمع أبا عبد الرحمن السلمي قال: خرج علينا علي رضي الله عنه حين ثوب المثوب بصلاة الصبح فقال: أين السائلون عن الوتر {والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس ؟} هذا حين أدبر حسن. وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله: {إذا عسعس} إذا أدبر قال لقوله {والصبح إذا تنفس} أي أضاء, واستشهد بقول الشاعر أيضاً:
    حتى إذا الصبح له تنفساوانجاب عنها ليلها وعسعسا
    أي أدبر, وعندي أن المراد بقوله {إذا عسعس} إذا أقبل وإن كان يصح استعماله في الإدبار أيضاً لكن الإقبال ههنا أنسب, كأنه أقسم بالليل وظلامه إذا أقبل وبالفجر وضيائه إذا أشرق كما قال تعالى: {والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى} وقال تعالى: {والضحى والليل إذا سجى} وقال تعالى: {فالق الإصباح وجعل الليل سكناً} وغير ذلك من الاَيات, وقال كثير من علماء الأصول: إن لفظة عسعس تستعمل في الإقبال والإدبار على وجه الاشتراك, فعلى هذا يصح أن يراد كل منهما والله أعلم. وقال ابن جرير: وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب يزعم أن عسعس دنا من أوله وأظلم, وقال الفراء: كان أبو البلاد النحوي ينشد بيتاً.
    عسعس حتى لو يشا أدنىكان له من ضوئه مقبس
    يريد لو يشاء إذ دنا أدغم الذال في الدال, قال الفراء وكانوا يزعمون أن هذا البيت مصنوع وقوله تعالى: {والصبح إذا تنفس} قال الضحاك: إذا طلع, وقال قتادة, إذ أضاء وأقبل, وقال سعيد بن جبير: إذا نشأ, وهو المروي عن علي رضي الله عنه. وقال ابن جرير: يعني ضوء النهار إذا أقبل وتبين. وقوله تعالى: {إنه لقول رسول كريم} يعني إن هذا القرآن لتبليغ رسول كريم أي ملك شريف حسن الخلق بهي المنظر وهو جبريل عليه الصلاة والسلام, قاله ابن عباس والشعبي وميمون بن مهران والحسن وقتادة والربيع بن أنس والضحاك وغيرهم {ذي قوة} كقوله تعالى: {علمه شديد القوى * ذو مرة} أي شديد الخلق شديد البطش والفعل {عند ذي العرش مكين} أي له مكانة عند الله عز وجل ومنزلة رفيعة, قال أبو صالح في قوله تعالى: {عند ذي العرش مكين} قال جبريل يدخل في سبعين حجاباً من نور بغير إذن {مطاع ثم} أي له وجاهة وهو مسموع القول مطاع في الملأ الأعلى قال قتادة {مطاع ثم} أي في السموات يعني ليس هو من أفناد الملائكة بل هو من السادة والأشراف معتنى به انتخب لهذه الرسالة العظيمة.
    وقوله تعالى: {أمين} صفة لجبريل بالأمانة, وهذا عظيم جداً أن الرب عز وجل يزكي عبده ورسوله الملكي جبريل كما زكى عبده ورسوله البشري محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {وما صاحبكم بمجنون} قال الشعبي وميمون بن مهران وأبو صالح ومن تقدم ذكرهم: المراد بقوله: {وما صاحبكم بمجنون} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم, وقوله تعالى: {ولقد رآه بالأفق المبين} يعني ولقد رأى محمد جبريل الذي يأتيه بالرسالة عن الله عز وجل على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح {بالأفق المبين} أي البين وهي الرؤية الأولى التي كانت بالبطحاء وهي المذكورة في قوله: {علمه شديد القوى. ذو مرة فاستوى. وهو بالأفق الأعلى. ثم دنا فتدلى. فكان قاب قوسين أو أدنى. فأوحى إلى عبده ما أوحى} كما تقدم تفسير ذلك وتقريره, والدليل عليه أن المراد بذلك جبريل عليه السلام, والظاهر والله أعلم أن هذه السورة نزلت قبل ليلة الإسراء لأنه لم يذكر فيها إلا هذه الرؤيا وهي الأولى, وأما الثانية وهي المذكورة في قوله تعالى: {ولقد رآه نزلة أخرى. عند سدرة المنتهى. عندها جنة المأوى. إذ يغشى السدرة ما يغشى} فتلك إنما ذكرت في سورة النجم وقد نزلت بعد سورة الإسراء.
    وقوله تعالى: {وما هو على الغيب بضنين} أي وما محمد على ما أنزله الله إليه بظنين أي بمتهم. ومنهم من قرأ ذلك بالضاد أي ببخيل بل يبذله لكل أحد. قال سفيان بن عيينة: ظنين وضنين سواء أي ما هو بكاذب وما هو بفاجر. والظنين المتهم والضنين البخيل. وقال قتادة: كان القرآن غيباً فأنزله الله على محمد فما ضن به على الناس بل نشره وبلغه وبذله لكل من أراده, وكذا قال عكرمة وابن زيد وغير واحد واختار ابن جرير قراءة الضاد {قلت}: وكلاهما متواتر ومعناه صحيح كما تقدم, وقوله تعالى: {وما هو بقول شيطان رجيم} أي وما هذا القرآن بقول شيطان رجيم أي لا يقدر على حمله ولا ينبغي له كما قال تعالى: {وما تنزلت به الشياطين. وما ينبغي لهم وما يستطيعون. إنهم عن السمع لمعزولون}, وقوله تعالى: {فأين تذهبون ؟} أي فأين تذهب عقولكم في تكذيبكم بهذا القرآن مع ظهوره ووضوحه وبيان كونه حقاً من عند الله عز وجل كما قال الصديق رضي الله عنه لوفد بني حنيفة حين قدموا مسلمين وأمرهم فتلوا عليه شيئاً من قرآن مسيلمة الكذاب الذي هو في غاية الهذيان والركاكة فقال: ويحكم أين تذهب عقولكم ؟ والله إن هذا الكلام لم يخرج من إل, أي من إله, وقال قتادة {فأين تذهبون} أي عن كتاب الله وعن طاعته.
    وقوله تعالى: {إن هو إلا ذكر للعالمين} أي هذا القرآن ذكر لجميع الناس يتذكرون به ويتعظون {لمن شاء منكم أن يستقيم} أي من أراد الهداية فعليه بهذا القرآن فإنه منجاة له وهداية, ولا هداية فيما سواه {وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} أي ليست المشيئة موكولة إليكم فمن شاء اهتدى ومن شاء ضل, بل ذلك كله تابع لمشيئة الله تعالى رب العالمين. قال سفيان الثوري عن سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى: لما نزلت هذه الاَية {لمن شاء منكم أن يستقيم} قل أبو جهل: الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم فأنزل الله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين}. آخر تفسير سورة التكوير. و لله الحمد والمنة.

    تمت سورة التكوير
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:13

    سورة الانفطار
    قال النسائي: أخبرنا محمد بن قدامة حدثنا جرير عن الأعمش عن محارب بن دثار عن جابر قال: قام معاذ فصلى العشاء الاَخرة فطول فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفتان أنت يا معاذ ؟ أين كنت عن سبح اسم ربك الأعلى, والضحى, وإذا السماء انفطرت» وأصل الحديث مخرج في الصحيحين ولكن ذكر {إذا السماء انفطرت} في إفراد النسائي. وقد تقدم من رواية عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سره أن ينظر إلى القيامة رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت, وإذا السماء انفطرت, وإذا السماء انشقت».

    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** إِذَا السّمَآءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مّا قَدّمَتْ وَأَخّرَتْ * يَأَيّهَا الإِنسَانُ مَا غَرّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ * الّذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ فَعَدَلَكَ * فِيَ أَىّ صُورَةٍ مّا شَآءَ رَكّبَكَ * كَلاّ بَلْ تُكَذّبُونَ بِالدّينِ * وَإِنّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ
    يقول تعالى: {إذا السماء انفطرت} أي انشقت كما قال تعالى: {السماء منفطر به} {وإذا الكواكب انتثرت} أي تساقطت {وإذا البحار فجرت} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: فجر الله بعضها في بعض. وقال الحسن: فجر الله بعضها في بعض فذهب ماؤها, وقال قتادة: اختلط عذبها بمالحها.
    وقال الكلبي: ملئت {وإذا القبور بعثرت} قال ابن عباس: بحثت, وقال السدي: تبعثر تحرك فيخرج من فيها {علمت نفس ما قدمت وأخرت} أي إذا كان هذا حصل هذا. وقوله تعالى: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ؟} هذا تهديد لا كما يتوهمه بعض الناس من أنه إرشاد إلى الجواب حيث قال الكريم حتى يقول قائلهم غره كرمه, بل المعنى في هذه الاَية: ما غرك يا ابن آدم بربك الكريم أي العظيم حتى أقدمت على معصيته وقابلته بما لا يليق. كما جاء في الحديث «يقول الله تعالى يوم القيامة يا ابن آدم ما غرك بي ؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين ؟».
    قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان أن عمر سمع رجلاً يقرأ {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ؟} فقال عمر: الجهل. وقال أيضاً: حدثنا عمر بن شيبة, حدثنا أبو خلف, حدثنا يحيى البكاء, سمعت ابن عمر يقول وقرأ هذه الاَية {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم} قال ابن عمر: غره والله جهله, قال: وروي عن ابن عباس والربيع بن خثيم والحسن مثل ذلك وقال قتادة: {ما غرك بربك الكريم} شيء, ما غر ابن آدم غير هذا العدو الشيطان. وقال الفضيل بن عياض: لو قال لي ما غرك بي لقلت: ستورك المرخاة. وقال أبو بكر الوراق: لو قال لي ما غرك بربك الكريم لقلت: غرني كرم الكريم. قال البغوي: وقال بعض أهل الإشارة: إنما قال بربك الكريم دون سائر أسمائه وصفاته كأنه لقنه الإجابة وهذا الذي تخيله هذا القائل ليس بطائل لأنه إنما أتى باسمه الكريم لينبه على أنه لا ينبغي أن يقابل الكريم بالأفعال القبيحة وأعمال الفجور, وقد حكى البغوي عن الكلبي ومقاتل أنهما قالا: نزلت هذه الاَية في الأسود بن شريق ضرب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعاقب في الحالة الراهنة فأنزل الله تعالى: {ما غرك بربك الكريم ؟}.
    وقوله تعالى: {الذي خلقك فسواك فعدلك} أي ما غرك بالرب الكريم {الذي خلقك فسواك فعدلك} أي جعلك سوياً مستقيماً معتدل القامة منتصبها في أحسن الهيئات والأشكال. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر, حدثنا جرير, حدثني عبد الرحمن بن ميسرة عن جبير بن نفير, عن بشر بن جحاش القرشي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق يوماً في كفه فوضع عليها أصبعه ثم قال: «قال الله عز وجل: يا ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه ؟ حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد, فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق وأنى أوان الصدقة ؟» وكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة, عن يزيد بن هارون, عن جرير بن عثمان به. قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي وتابعه يحيى بن حمزة عن ثور بن يزيد عن عبد الرحمن بن ميسرة.
    وقوله تعالى: {في أي صورة ما شاء ركبك} قال مجاهد: في أي شبه أب أو أم أوخال أو عم. وقال ابن جرير: حدثني محمد بن سنان القزاز, حدثنا مطهر بن الهيثم, حدثنا موسى بن علي بن رباح, حدثني أبي عن جدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «ما ولد لك ؟» قال: يا رسول الله ما عسى أن يولد لي إما غلام وإما جارية. قال «فمن يشبه ؟» قال: يا رسول الله من عسى أن يشبه إما أباه وإما أمه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم عندها: «مه لا تقولن هكذا إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله تعالى كل نسب بينها وبين آدم ؟ أما قرأت هذه الاَية في كتاب الله تعالى في أي صورة ما شاء ركبك» قال: شكلك.
    وهكذا رواه ابن أبي حاتم والطبراني من حديث مطهر بن الهيثم به, وهذا الحديث لو صح لكان فيصلاً في هذه الاَية ولكن إسناده ليس بالثابت, لأن مطهر بن الهيثم قال فيه أبو سعيد بن يونس كان متروك الحديث, وقال ابن حبان, يروي عن موسى بن علي وغيره ما لا يشبه حديث الأثبات, ولكن في الصحيحين عن أبي هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاماً أسود, قال «هل لك من إبل ؟» قال نعم, قال: «فما ألوانها» قال: حمر, قال: «فهل فيها من أورق» قال: نعم, قال: «فأنى أتاها ذلك» قال: عسى أن يكون نزعة عرق. قال: «وهذا عسى أن يكون نزعة عرق». وقد قال عكرمة في قوله تعالى: {في أي صورة ما شاء ركبك} إن شاء في صورة قرد وإن شاء في صورة خنزير, وكذا قال أبو صالح {في أي صورة ما شاء ركبك} إن شاء في صورة كلب وإن شاء في صورة حمار وإن شاء في صورة خنزير. وقال قتادة: {في أي صورة ما شاء ركبك} قال: قادر والله ربنا على ذلك, ومعنى هذا القول عند هؤلاء أن الله عز وجل قادر على خلق النطفة على شكل قبيح من الحيوانات المنكرة الخلق, ولكن بقدرته ولطفه وحلمه يخلقه على شكل حسن مستقيم معتدل تام حسن المنظر والهيئة.
    وقوله تعالى: {كلا بل تكذبون بالدين} أي إنما يحملكم على مواجهة الكريم ومقابلته بالمعاصي تكذيب في قلوبكم بالمعاد والجزاء والحساب. وقوله تعالى: {وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون} يعني وإن عليكم لملائكة حفظة كراماً فلا تقابلوهم بالقبائح فإنهم يكتبون عليكم جميع أعمالكم. قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا وكيع حدثنا سفيان ومسعر عن علقمة بن مرثد عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى حالتين الجنابة والغائط, فإذا اغتسل أحدكم فليستتر بحرم حائط أو ببعيره أو ليستره أخوه». وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار فوصله بلفظ آخر فقال: حدثنا محمد بن عثمان بن كرامة حدثنا عبيد الله بن موسى عن حفص بن سليمان عن علقمة بن مرثد عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ينهاكم عن التعري فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند ثلاث حالات: الغائط والجنابة والغسل, فإذا اغتسل أحدكم بالعراء فليستتر بثوبه أو بجرم حائط أو ببعيره» ثم قال حفص بن سليمان: لين الحديث وقد روي عنه واحتمل حديثه, وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا زياد بن أيوب حدثنا مبشّر بن إسماعيل الحلبي حدثنا تمام بن نجيح عن الحسن يعني البصري عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من حافظين يرفعان إلى الله عز وجل ما حفظا في يوم فيرى في أول الصحيفة وفي آخرها استغفاراً إلا قال الله تعالى قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة» ثم قال تفرد به تمام بن نجيح وهو صالح الحديث (قلت): وثقه ابن معين وضعفه البخاري وأبو زرعة وابن أبي حاتم والنسائي وابن عدي ورماه ابن حبان بالوضع وقال الإمام أحمد لا أعرف حقيقة أمره. وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا إسحاق بن سليمان البغدادي المعروف بالقلوسي حدثنا بيان بن حمران حدثنا سلام عن منصور بن زاذان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله ملائكة يعرفون بني آدم ـ وأحسبه قال: ويعرفون أعمالهم ـ فإذا نظروا إلى عبد يعمل بطاعة الله ذكروه بينهم وسموه وقالوا أفلح الليلة فلان, نجا الليلة فلان, وإذا نظروا إلى عبد يعمل بمعصية الله ذكروه بينهم وسموه وقالوا هلك الليلة فلان», ثم قال البزار: سلام هذا أحسبه سلام المدائني وهو لين الحديث.


    ** إِنّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنّ الْفُجّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدّينِ * وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدّينِ * ثُمّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدّينِ * يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ
    يخبر تعالى عما يصير الأبرار إليه من النعيم, وهم الذين أطاعوا الله عز وجل ولم يقابلوه بالمعاصي, وقد روى ابن عساكر في ترجمة موسى بن محمد عن هشام بن عمار عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق عن عبيد الله عن محارب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما سماهم الله الأبرار لأنهم بروا الاَباء والأبناء» ثم ذكر ما يصير إليه الفجار من الجحيم والعذاب المقيم ولهذا قال: {يصلونها يوم الدين} أي يوم الحساب والجزاء والقيامة {وماهم عنها بغائبين} أي لا يغيبون عن العذاب ساعة واحدة ولا يخفف عنهم من عذابها ولا يجابون إلى ما يسألون من الموت أو الراحة ولو يوماً واحداً, وقوله تعالى: {وما أدراك ما يوم الدين} تعظيم لشأن يوم القيامة ثم أكده بقوله تعالى: {ثم ما أدراك ما يوم الدين} ثم فسره بقوله: {يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً} أي لا يقدر أحد على نفع أحد ولا خلاصه مما هو فيه إلا أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى, ونذكر ههنا حديث «يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار لا أملك لكم من الله شيئاً» وقد تقدم في آخر تفسير سورة الشعراء ولهذا قال: {والأمر يومئذ لله} كقوله {لمن الملك اليوم ؟ لله الواحد القهار} وكقوله: {الملك يومئذ الحق للرحمن} وكقوله: {مالك يوم الدين} قال قتادة {يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله} والأمر والله اليوم لله, ولكنه لا ينازعه فيه يومئذ أحد. آخر تفسير سورة الانفطار, و لله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة.

    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:13

    سورة المطففين
    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
    ** وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ * الّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنّ أُوْلَـَئِكَ أَنّهُمْ مّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ
    قال النسائي وابن ماجه: أخبرنا محمد بن عقيل, زاد ابن ماجه وعبد الرحمن بن بشر قالا: حدثنا علي بن الحسين بن واقد, حدثني أبي عن يزيد وهو ابن أبي سعيد النحوي مولى قريش عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً فأنزل الله تعالى: {ويل للمطففين} فحسنوا الكيل بعد ذلك. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا جعفر بن النضر بن حماد, حدثنا محمد بن عبيد عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث عن هلال بن طلق قال: بينما أنا أسير مع ابن عمر فقلت: من أحسن الناس هيئة وأوفاهم كيلاً أهل مكة أو أهل المدينة قال: حق لهم, أما سمعت الله تعالى يقول: {ويل للمطففين} وقال ابن جرير: حدثنا أبو السائب, حدثنا ابن فضيل عن ضرار عن عبد الله المكتب عن رجل عن عبد الله قال: قال له رجل: يا أبا عبد الرحمن إن أهل المدينة ليوفون الكيل, قال: وما يمنعهم أن يوفوا الكيل وقد قال الله تعالى: {ويل للمطففين ـ حتى بلغ ـ يوم يقوم الناس لرب العالمين} والمراد بالتطفيف ههنا البخس في المكيال والميزان إما بالإزدياد إن اقتضى من الناس وإما بالنقصان إن قضاهم, ولهذا فسر تعالى المطففين الذين وعدهم بالخسار والهلاك وهو الويل بقوله تعالى: {الذين إذا اكتالوا على الناس} أي من الناس {يستوفون} أي يأخذون حقهم بالوافي والزائد {وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} أي ينقصون, والأحسن أن يجعل كالوا ووزنوا متعدياً ويكون هم في محل نصب, ومنهم من يجعلها ضميراً مؤكداً للمستتر في قوله كالوا ووزنوا ويحذف المفعول لدلالة الكلام عليه, وكلاهما متقارب.
    وقد أمر الله تعالى بالوفاء في الكيل والميزان فقال تعالى: {وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم * ذلك خير وأحسن تأويلاً} وقال تعالى: {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها} وقال تعالى: {وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان} وأهلك الله قوم شعيب ودمرهم على ما كانوا يبخسون الناس في الميزان والمكيال ثم قال تعالى: متوعداً لهم: {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم ؟} أي ما يخاف أولئك من البعث والقيام بين يدي من يعلم السرائر والضمائر في يوم عظيم الهول كثير الفزع جليل الخطب, من خسر فيه أدخل ناراً حامية ؟ وقوله تعالى: {يوم يقوم الناس لرب العالمين} أي يقومون حفاة عراة غرلاً في موقف صعب حرج ضيق ضنك على المجرم ويغشاهم من أمر الله تعالى ما تعجز القوى والحواس عنه.
    قال الإمام مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يوم يقوم الناس لرب العالمين حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه» رواه البخاري من حديث مالك وعبد الله بن عون كلاهما عن نافع به,ورواه مسلم من الطريقين أيضاً, وكذلك رواه أيوب بن يحيى وصالح بن كيسان وعبد الله وعبيد الله ابنا عمر ومحمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر به. ولفظ الإمام أحمد: حدثنا يزيد, أخبرنا ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يوم يقوم الناس لرب العالمين لعظمة الرحمن عز وجل يوم القيامة حتى إن العرق ليلجم الرجال إلى أنصاف آذانهم».
    (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن إسحاق, حدثنا ابن المبارك عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر, حدثني سليم بن عامر, حدثني المقداد يعني ابن الأسودالكندي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين ـ قال ـ فتصهرهم الشمس فيكونون في العرق كقدر أعمالهم, منهم من يأخذه إلى عقبيه ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه, ومنهم من يأخذه إلى حقويه, ومنهم من يلجمه إلجاماً» رواه مسلم عن الحكم بن موسى عن يحيى بن حمزة والترمذي عن سويد عن ابن المبارك, كلاهما عن ابن جابر به.
    (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا الحسن بن سوار, حدثنا الليث بن سعد عن معاوية بن صالح أن أبا عبد الرحمن حدثه عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تدنو الشمس يوم القيامة على قدر ميل ويزاد في حرها كذا كذا, تغلي منها الهوام كما تغلي القدور يعرقون فيها على قدر خطاياهم, منهم من يبلغ إلى كعبيه ومنهم من يبلغ إلى ساقيه, ومنهم من يبلغ إلى وسطه, ومنهم من يلجمه العرق». انفرد به أحمد.
    (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة, حدثنا أبو عشانة حيي بن يؤمن أنه سمع عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تدنو الشمس من الأرض فيعرق الناس فمن الناس من يبلغ عرقه عقبيه ومنهم من يبلغ إلى نصف الساق, ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه ومنهم من يبلغ العجز ومنهم من يبلغ الخاصرة, ومنهم من يبلغ منكبيه, ومنهم من يبلغ وسط فيه ـ وأشار بيده فألجمها فاه, رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير بيده هكذا ومنهم من يغطيه عرقه» وضرب بيده إشارة, انفرد به أحمد, وفي حديث أنهم يقومون سبعين سنة لا يتكلمون, وقيل يقومون ثلاثمائة سنة, وقيل يقومون أربعين ألف سنة ويقضي بينهم في مقدار عشرة آلاف سنة كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً «في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة».
    وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو عون الزيادي, أخبرنا عبد السلام بن عجلان, سمعت أبا يزيد المدني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبشير الغفاري: «كيف أنت صانع في يوم يقوم الناس فيه ثلاثمائة سنة لرب العالمين من أيام الدنيا لا يأتيهم فيه خبر من السماء ولا يؤمر فيهم بأمر ؟» قال بشير: المستعان الله, قال «فإذا أويت إلى فراشك فتعوذ بالله من كرب يوم القيامة وسوء الحساب» ورواه ابن جرير من طريق عبد السلام به. وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله من ضيق المقام يوم القيامة. وعن ابن مسعود يقومون أربعين سنة رافعي رؤوسهم إلى السماء لا يكلمهم أحد قد ألجم العرق برهم وفاجرهم. وعن ابن عمر: يقومون مائة سنة رواهما ابن جرير. وفي سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه من حديث زيد بن الحباب عن معاوية بن صالح عن أزهر بن سعيد الحواري عن عاصم بن حميد عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح قيام الليل: يكبر عشراً ويحمد عشراً, ويسبح عشراً ويستغفر عشراً ويقول: «اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني» ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة.


    ** كَلاّ إِنّ كِتَابَ الْفُجّارِ لَفِي سِجّينٍ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ * كِتَابٌ مّرْقُومٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ * الّذِينَ يُكَذّبُونَ بِيَوْمِ الدّينِ * وَمَا يُكَذّبُ بِهِ إِلاّ كُلّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ * كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ مّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * كَلاّ إِنّهُمْ عَن رّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لّمَحْجُوبُونَ * ثُمّ إِنّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ * ثُمّ يُقَالُ هَـَذَا الّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ يقول تعالى حقاً {إن كتاب الفجار لفي سجين} أي أن مصيرهم ومأواهم لفي سجين فعيل من السجن وهو الضيق, كما يقال: فسيق وشريب وخمير وسكير ونحو ذلك, ولهذا عظم أمره فقال تعالى: {وما أدراك ما سجين ؟} أي هو أمر عظيم وسجن مقيم وعذاب أليم, ثم قد قال قائلون: هي تحت الأرض السابعة, وقد تقدم في حديث البراء بن عازب في حديثه الطويل: يقول الله عز وجل في روح الكافر اكتبوا كتابه في سجين. وسجين هي تحت الأرض السابعة, وقيل: صخرة تحت الأرض السابعة خضراء, وقيل بئر في جهنم, وقد ورى ابن جرير في ذلك حديثاً غريباً منكراً لا يصح فقال: حدثنا إسحاق بن وهب الواسطي, حدثنا مسعود بن موسى بن مسكان الواسطي, حدثنا نصر بن خزيمة الواسطي عن شعيب بن صفوان عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الفلق جب في جهنم مغطى وأما سجين فمفتوح» والصحيح أن سجيناً مأخوذ من السجن وهو الضيق, فإن المخلوقات كل ما تسافل منها ضاق وكل ما تعالى منها اتسع, فإن الأفلاك السبعة كل واحد منها أوسع وأعلى من الذي دونه, وكذلك الأرضون كل واحدة أوسع من التي دونها حتى ينتهي السفول المطلق والمحل الأضيق إلى المركز في وسط الأرض السابعة, ولما كان مصير الفجار إلى جهنم وهي أسفل السافلين كما قال تعالى: {ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وقال ههنا: {كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وماأدراك ما سجين} وهو يجمع الضيق والسفول كما قال تعالى: {وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين دعوا هنالك ثبوراً}.
    وقوله تعالى: {كتاب مرقوم} ليس تفسيراً لقوله {وما أدراك ما سجين} وإنما هو تفسير لما كتب لهم من المصير إلى سجين أي مرقوم مكتوب مفروغ منه لا يزاد فيه أحد ولا ينقص منه أحد. قاله محمد بن كعب القرظي ثم قال تعالى: {ويل يومئذ للمكذبين} أي إذا صاروا يوم القيامة إلى ما أوعدهم الله من السجن والعذاب المهين, وقد تقدم الكلام على قوله ويل بما أغنى عن إعادته وأن المراد من ذلك الهلاك والدمار كما يقال: ويل لفلان, وكما جاء في المسند والسنن من رواية بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك الناس ويل له ويل له» ثم قال تعالى مفسراً للمكذبين الفجار الكفرة: {الذين يكذبون بيوم الدين} أي لا يصدقون بوقوعه ولا يعتقدون كونه ويستبعدون أمره, قال الله تعالى: {وما يكذب به إلا كل معتد أثيم} أي معتد في أفعاله من تعاطي الحرام والمجاوزة في تناول المباح والأثيم في أقواله إن حدث كذب, وإن وعد أخلف, وإن خاصم فجر.
    وقوله تعالى: {إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} أي إذا سمع كلام الله تعالى من الرسول يكذب به ويظن به ظن السوء فيعتقد أنه مفتعل مجموع من كتب الأوائل, كما قال تعالى: {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم ؟ قالوا أساطير الأولين} وقال تعالى: {وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً} قال الله تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} أي ليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا إن هذا القرآن أساطير الأولين, بل هو كلام الله ووحيه وتنزيله على رسوله صلى الله عليه وسلم, وإنما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الرين الذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذنوب والخطايا, ولهذا قال تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}.

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:14

    والرين يعتري قلوب الكافرين, والغيم للأبرار والغين للمقربين, وقد روى ابن جرير والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه, فإن تاب منها صقل قلبه وإن زاد زادت, فذلك قول الله تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} وقال الترمذي: حسن صحيح, ولفظ النسائي «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة سوداء, فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه, فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه فهو الران الذي قال الله تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}.
    وقال أحمد: حدثنا صفوان بن عيسى, أخبرنا ابن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه, فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه فإن زاد زادت حتى تعلو قلبه, وذاك الران الذي ذكر الله في القرآن {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}». وقال الحسن البصري: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب فيموت, وكذا قال مجاهد بن جبير وقتادة وابن زيد وغيرهم. وقوله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} أي لهم يوم القيامة منزل ونزل سجين ثم هم يوم القيامة مع ذلك محجوبون عن رؤية ربهم وخالقهم, قال الإمام أبو عبد الله الشافعي: وفي هذه الاَية دليل على أن المؤمنين يرونه عز وجل يومئذ وهذا الذي قاله الإمام الشافعي رحمه الله في غاية الحسن وهو استدلال بمفهوم هذه الاَية.
    كما دل عليه منطوق قوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم عز وجل في الدار الاَخرة رؤية بالأبصار في عرصات القيامة وفي روضات الجنات الفاخرة. وقد قال ابن جرير: حدثنا أبو معمر المقري, حدثنا عبد الوارث بن سعيد عن عمرو بن عبيد عن الحسن في قوله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} قال: يكشف الحجاب فينظر إليه المؤمنون والكافرون ثم يحجب عنه الكافرون وينظر إليه المؤمنون كل يوم غدوة وعشية أو كلاماً هذا معناه, وقوله تعالى: {ثم إنهم لصالوا الجحيم} أي ثم هم مع هذا الحرمان عن رؤية الرحمن من أهل النيران {ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون} أي يقال لهم ذلك على وجه التقريع والتوبيخ والتصغير والتحقير.


    ** كَلاّ إِنّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلّيّينَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلّيّونَ * كِتَابٌ مّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرّبُونَ * إِنّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأرَآئِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رّحِيقٍ مّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرّبُونَ
    يقول تعالى: حقاً {إن كتاب الأبرار} وهم بخلاف الفجار {لفي عليين} أي مصيرهم إلى عليين وهو بخلاف سجين. قال الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف قال: سأل ابن عباس كعباً وأنا حاضر عن سجين قال: هي الأرض السابعة وفيها أرواح الكفار, وسأله عن عليين فقال: هي السماء السابعة وفيها أرواح المؤمنين, وهكذا قال غير واحد: إنها السماء السابعة, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين} يعني الجنة. وفي رواية العوفي عنه أعمالهم في السماء عند الله وكذا قال الضحاك, وقال قتادة: عليون ساق العرش اليمنى, وقال غيره: عليون عند سدرة المنتهى, والظاهر أن عليين مأخوذ من العلو, وكلما علا الشيء وارتفع عظم واتسع, ولهذا قال تعالى معظماً أمره ومفخماً شأنه {وما أدراك ما عليون} ثم قال تعالى مؤكداً لما كتب لهم {كتاب مرقوم يشهده المقربون} وهم الملائكة قاله قتادة, وقال العوفي عن ابن عباس: يشهده من كل سماء مقربوها.
    ثم قال تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم} أي يوم القيامة هم في نعيم مقيم وجنات فيها فضل عميم {على الأرائك} وهي السرر تحت الحجال ينظرون قيل: معناه ينظرون في ملكهم وما أعطاهم الله من الخير والفضل الذي لا ينقضي ولا يبيد وقيل: معناه {على الأرائك ينظرون} إلى الله عز وجل, وهذا مقابل لما وصف به أولئك الفجار {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} فذكر عن هؤلاء أنهم يباحون النظر إلى الله عز وجل وهم على سررهم وفرشهم, كما تقدم في حديث ابن عمر «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه, وإن أعلاهم لمن ينظر إلى الله في اليوم مرتين» وقوله: {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} أي تعرف إذا نظرت إليهم في وجوههم نضرة النعيم أي صفة الترافة والحشمة والسرور والدعة والرياسة مما هم فيه من النعيم العظيم.
    وقوله تعالى: {يسقون من رحيق مختوم} أي يسقون من خمر من الجنة, والرحيق من أسماء الخمر, قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وابن زيد, قال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا زهير عن سعد أبي المجاهد الطائي عن عطية بن سعد العوفي عن أبي سعيد الخدري أراه قد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيما مؤمن سقى مؤمناً شربة ماء على ظمأ سقاه الله تعالى يوم القيامة من الرحيق المختوم, وأيما مؤمن أطعم مؤمناً على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة, وأيما مؤمن كسا مؤمناً ثوباً على عري كساه الله من خضر الجنة» وقال ابن مسعود في قوله: {ختامه مسك} أي خلطه مسك, وقال العوفي عن ابن عباس: طيب الله لهم الخمر فكان آخر شيء جعل فيها مسك ختم بمسك, وكذا قال قتادة والضحاك, وقال إبراهيم والحسن ختامه مسك أي عاقبته مسك.
    وقال ابن جرير حدثنا ابن حميد, حدثنا يحيى بن وضاح, حدثنا أبو حمزة عن جابر عن عبد الرحمن بن سابط, عن أبي الدرداء {ختامه مسك} قال: شراب أبيض مثل الفضة يختمون به شرابهم, ولو أن رجلاً من أهل الدنيا أدخل أصبعه فيه ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلا وجد طيبها, وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد {ختامه مسك} قال: طيبه مسك. وقوله تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} أي وفي مثل هذا الحال فليتفاخر المتفاخرون وليتباهى ويكاثر ويستبق إلى مثله المستبقون, كقوله تعالى: {لمثل هذا فليعمل العاملون}, وقوله تعالى: {ومزاجه من تسنيم} أي: ومزاج هذا الرحيق الموصوف من تسنيم أي من شراب يقال له تسنيم, وهو أشرف شراب أهل الجنة وأعلاه, قاله أبو صالح والضحاك, ولهذا قال: {عيناً يشرب بها المقربون} أي يشربها المقربون صرفاً وتمزج لأصحاب اليمين مزجاً, قاله ابن مسعود وابن عباس ومسروق وقتادة وغيرهم.


    ** إِنّ الّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوَاْ إِلَىَ أَهْلِهِمْ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوَاْ إِنّ هَـَؤُلاَءِ لَضَالّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوّبَ الْكُفّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
    يخبر تعالى عن المجرمين أنهم كانوا في الدار الدنيا يضحكون من المؤمنين, أي يستهزئون بهم ويحتقرونهم, وإذا مروا بالمؤمنين يتغامزون عليهم, أي محتقرين لهم {وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين} أي وإذا انقلب أي رجع هؤلاء المجرمون إلى منازلهم انقلبوا إليها فاكهين أي مهما طلبوا وجدوا, ومع هذا ما شكروا نعمة الله عليهم بل اشتغلوا بالقوم المؤمنين يحقرونهم ويحسدونهم {وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون} أي لكونهم على غير دينهم.
    قال الله تعالى: {وما أرسلوا عليهم حافظين} أي وما بعث هؤلاء المجرمون حافظين على هؤلاء المؤمنين ما يصدر منهم من أعمالهم وأقوالهم ولا كلفوا بهم ؟ فلم اشتغلوا بهم وجعلوهم نصب أعينهم, كما قال تعالى: {قال اخسئوا فيها ولا تكلمون * إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين. فاتخذتموهم سخرياً حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون} ولهذا قال ههنا {فاليوم} يعني يوم القيامة {الذين آمنوا من الكفار يضحكون} أي في مقابلة ما ضحك بهم أولئك {على الأرائك ينظرون} أي إلى الله عز وجل في مقابلة من زعم فيهم أنهم ضالون ليسوا بضالين بل هم من أولياء الله المقربين ينظرون إلى ربهم في دار كرامته. وقوله تعالى: {هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ؟} أي هل جوزي الكفار على ما كانوا يقابلون به المؤمنين من الاستهزاء والتنقيص أم لا, يعني قد جوزوا أوفر الجزاء وأتمه وأكمله. آخر تفسير سورة المطففين, و لله الحمد والمنة.

    تمت سورة المطففين
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:14

    سورة الانشقاق
    قال مالك عن عبد الله بن يزيد عن أبي سلمة أن أبا هريرة قرأ بهم {إذا السماء انشقت} فسجد فيها, فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها, رواه مسلم والنسائي من طريق مالك به. وقال البخاري: حدثنا أبو النعمان, حدثنا معتمر عن أبيه عن بكر عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ {إذا السماء انشقت} فسجد, فقلت له. فقال: سجدت خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه, ورواه أيضاً عن مسدد عن معتمر به. ثم رواه عن مسدد عن يزيد بن زريع عن التيمي عن بكر عن أبي رافع فذكره. وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من طرق عن سليمان بن طرخان التيمي به, وقد رواه مسلم وأهل السنن من حديث سفيان بن عيينة, زاد النسائي وسفيان الثوري كلاهما عن أيوب بن موسى عن عطاء بن ميناء عن أبي هريرة, قال: سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في {إذا السماء انشقت} و {اقرأ باسم ربك الذي خلق}.

    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** إِذَا السّمَآءُ انشَقّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا وَحُقّتْ * وَإِذَا الأرْضُ مُدّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا وَحُقّتْ * يَأَيّهَا الإِنسَانُ إِنّكَ كَادِحٌ إِلَىَ رَبّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ * فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَىَ أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَىَ سَعِيراً * إِنّهُ كَانَ فِيَ أَهْلِهِ مَسْرُوراً * إِنّهُ ظَنّ أَن لّن يَحُورَ * بَلَىَ إِنّ رَبّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً
    يقول تعالى: {إذا السماء انشقت} وذلك يوم القيامة {وأذنت لربها} أي: استمعت لربها وأطاعت أمره فيما أمرها به من الانشقاق وذلك يوم القيامة {وحقت} أي وحق لها أن تطيع أمره لأنه العظيم الذي لا يمانع ولا يغالب بل قد قهر كل شيء وذل له كل شيء, ثم قال: {وإذا الأرض مدت} أي: بسطت وفرشت ووسعت.
    قال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى, حدثنا ابن ثور عن معمر عن الزهري, عن علي بن الحسين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مد الأديم حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه فأكون أول من يدعى وجبريل عن يمين الرحمن والله ما رآه قبلها, فأقول يا رب إن هذا أخبرني أنك أرسلته إلي فيقول الله عز وجل صدق ثم أشفع, فأقول: يا رب عبادك عبدوك في أطراف الأرض ـ قال ـ وهو المقام المحمود». وقوله تعالى: {وألقت ما فيها وتخلت} أي ألقت ما في بطنها من الأموات وتخلت منهم, قاله مجاهد وسعيد وقتادة {وأذنت لربها وحقت} كما تقدم.
    وقوله: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً} أي إنك ساع إلى ربك سعياً وعامل عملاً {فملاقيه} ثم إنك ستلقى ما عملت من خير أوشر. ويشهد لذلك ما رواه أبو داود الطيالسي عن الحسن بن أبي جعفر عن أبي الزبير عن جابر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال جبريل يا محمد عش ما شئت فإنك ميت وأحبب ما شئت فإنك مفارقه, واعمل ما شئت فإنك ملاقيه» ومن الناس من يعيد الضمير على قوله ربك أي فملاق ربك, ومعناه فيجازيك بعملك ويكافئك على سعيك, وعلى هذا فكلا القولين متلازم, قال العوفي عن ابن عباس {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً} يقول: تعمل عملاً تلقى الله به خيراً كان أو شراً.
    وقال قتادة: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً} إن كدحك يا ابن آدم لضعيف فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فليفعل ولا قوة إلا بالله ثم قال تعالى: {فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً} أي سهلاً بلا تعسير أي لا يحقق عليه جميع دقائق أعماله فإن من حوسب كذلك هلك لا محالة. وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل, أخبرنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نوقش الحساب عذب» قالت فقلت: أفليس قال الله تعالى: {فسوف يحاسب حساباً يسيراً} قال: «ليس ذاك بالحساب ولكن ذلك العرض من نوقش الحساب يوم القيامة عذب» وهكذا رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير من حديث أيوب السختياني به.
    وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا روح بن عبادة, حدثنا أبو عامر الخزاز عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا معذباً» فقلت: أليس الله يقول {فسوف يحاسب حساباً يسيرا ؟} قال: «ذاك العرض إنه من نوقش الحساب عذب» وقال بيده على إصبعه كأن ينكت, وقد رواه أيضاً عن عمرو بن علي عن ابن أبي عدي عن أبي يونس القشيري, عن ابن أبي مليكة عن القاسم عن عائشة فذكر الحديث, أخرجاه من طريق أبي يونس القشيري واسمه حاتم بن أبي صغيرة به. قال ابن جرير: حدثنا نصر بن علي الجهضمي, حدثنا مسلم عن الحريش بن الخريت أخي الزبير عن ابن أبي مليكة عن عائشة, قالت: من نوقش الحساب ـ أو من حوسب ـ عذب. قال: ثم قالت: إنما الحساب اليسير عرض على الله تعالى وهو يراهم. وقال أحمد: حدثنا إسماعيل, حدثنا محمد بن إسحاق, حدثني عبد الواحد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير عن عباد بن عبد الله بن الزبير, عن عائشة, قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: «اللهم حاسبني حساباً يسيرا» فلما انصرف قلت يا رسول الله ما الحساب اليسير ؟ قال: «أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه إنه من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك» صحيح على شرط مسلم.
    وقوله تعالى: {وينقلب إلى أهله مسروراً} أي ويرجع إلى أهله في الجنة: قاله قتادة والضحاك: مسروراً أي فرحاً مغتبطاً بما أعطاه الله عز وجل. وقد روى الطبراني عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنكم تعملون أعمالاً لا تعرف ويوشك الغائب أن يثوب إلى أهله فمسرور أو مكظوم, وقوله تعالى: {وأما من أوتي كتابه وراء ظهره} أي بشماله من وراء ظهره تثنى يده إلى ورائه ويعطى كتابه بها كذلك {فسوف يدعو ثبوراً} أي خساراً وهلاكاً {ويصلى سعيراً * إنه كان في أهله مسرورا} أي فرحاً لا يفكر في العواقب ولا يخاف مما أمامه, فأعقبه ذلك الفرح اليسير الحزن الطويل {إنه ظن أن لن يحور} أي كان يعتقد أنه لا يرجع إلى الله ولا يعيده بعد موته, قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما, والحور هو الرجوع قال الله: {بلى إن ربه كان به بصيراً} يعني بلى سيعيده الله كما بدأه ويجازيه على أعماله خيرها وشرها فإنه كان به بصيراً أي عليماً خبيراً.


    ** فَلاَ أُقْسِمُ بِالشّفَقِ * وَاللّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتّسَقَ * لَتَرْكَبُنّ طَبَقاً عَن طَبقٍ * فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ * بَلِ الّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذّبُونَ * وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ * فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلاّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
    روي عن علي وابن عباس وعبادة بن الصامت وأبي هريرة وشداد بن أوس وابن عمر ومحمد بن علي بن الحسين ومكحول وبكر بن عبد الله المزني وبكير بن الأشج ومالك وابن أبي ذئب وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون أنهم قالوا: الشفق الحمرة, وقال عبد الرزاق عن معمر عن ابن خثيم عن ابن لبيبة عن أبي هريرة قال: الشفق البياض, فالشفق هو حمرة الأفق إما قبل طلوع الشمس كما قاله مجاهد وإما بعد غروبها كما هو معروف عند أهل اللغة قال الخليل بن أحمد الشفق الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الاَخرة فإذا ذهب قيل غاب الشفق وقال الجوهري: الشفق بقية ضوء الشمس وحمرتها في أول الليل إلى قريب من العتمة, وكذا قال عكرمة الشفق الذي يكون بين المغرب والعشاء.

    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:15

    وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وقت المغرب ما لم يغب الشفق» ففي هذا كله دليل على أن الشفق هو كما قاله الجوهري والخليل. ولكن صح عن مجاهد أنه قال في هذه الاَية: {فلا أقسم بالشفق} هو النهار كله وفي رواية عنه أيضاً أنه قال الشفق الشمس رواهما ابن أبي حاتم, وإنما حمله على هذا قرنه بقوله تعالى: {والليل وما وسق} أي جمع كأنه أقسم بالضياء والظلام وقال ابن جرير: أقسم الله بالنهار مدبراً وبالليل مقبلاً. وقال ابن جرير: وقال آخرون: الشفق اسم للحمرة والبياض وقالوا هو من الأضداد. قال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة: {وما وسق} وما جمع, قال قتادة: وما جمع من نجم ودابة, واستشهد ابن عباس بقول الشاعر:
    * مستوسقات لو يجدن سائقاً *
    وقد قال عكرمة: {والليل وما وسق} يقول ما ساق من ظلمة إذا كان الليل ذهب كل شيء إلى مأواه, وقوله تعالى: {والقمر إذا اتسق} قال ابن عباس: إذا اجتمع واستوى, وكذا قال عكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير ومسروق وأبو صالح والضحاك وابن زيد {والقمر إذا اتسق} إذا استوى. وقال الحسن: إذا اجتمع إذا امتلأ, وقال قتادة إذا استدار ومعنى كلامهم أنه إذا تكامل نوره وأبدر جعله مقابلاً لليل وما وسق, وقوله تعالى: {لتركبن طبقاً عن طبق} قال البخاري: أخبرنا سعيد بن النضر أخبرنا هشيم أخبرنا أبو بشر عن مجاهد قال: قال ابن عباس {لتركبن طبقاً عن طبق} حالاً بعد حال قال هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم, هكذا رواه البخاري بهذا اللفظ. وهو محتمل أن يكون ابن عباس أسند هذا التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم كأنه قال سمعت هذا من نبيكم صلى الله عليه وسلم فيكون قوله نبيكم مرفوعاً على الفاعلية من قال, وهو الأظهر, والله أعلم كما قال أنس: لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم.
    وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشيم أخبرنا أبو بشر عن مجاهد أن ابن عباس كان يقول: {لتركبن طبقاً عن طبق} قال يعني نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول حالاً بعد حال, وهذا لفظه, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {طبقاً عن طبق} حالاً بعد حال. وكذا قال عكرمة ومرة الطيب ومجاهد والحسن والضحاك ومسروق وأبو صالح ويحتمل أن يكون المراد {لتركبن طبقاً عن طبق} حالاً بعد حال, قال هذا يعني المراد بهذا نبيكم صلى الله عليه وسلم فيكون مرفوعاً على أن هذا, ونبيكم يكونان مبتدأ وخبراً والله أعلم, ولعل هذا قد يكون هو المتبادر إلى كثير من الرواة كما قال أبو داود الطيالسي وغندر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {لتركبن طبقاً عن طبق} قال: محمد صلى الله عليه وسلم ويؤيد هذا المعنى قراءة عمر وابن مسعود وابن عباس وعامة أهل مكة والكوفة لتركبن بفتح التاء والباء.
    وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة عن إسماعيل عن الشعبي {لتركبن طبقاً عن طبق} قال: لتركبن يا محمد سماء بعد سماء. وهكذا روي عن ابن مسعود ومسروق وأبي العالية {طبقاً عن طبق} سماء بعد سماء (قلت): يعنون ليلة الإسراء. وقال أبو إسحاق والسدي عن رجل عن ابن عباس {طبقاً عن طبق} منزلاً على منزل, وكذا رواه العوفي عن ابن عباس مثله وزاد ويقال أمراً بعد أمر وحالاً بعد حال, وقال السدي نفسه {لتركبن طبقاً عن طبق} أعمال من قبلكم منزلاً بعد منزل (قلت): كأنه أراد معنى الحديث الصحيح «لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى قال «فمن ؟» وهذا محتمل.
    وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا صدقة حدثنا ابن جابر أنه سمع مكحولاً يقول في قول الله {لتركبن طبقاً عن طبق} قال في كل عشرين سنة تحدثون أمراً لم تكونوا عليه, وقال الأعمش حدثنا إبراهيم قال: قال عبد الله: {لتركبن طبقاً عن طبق}. قال السماء تتشقق ثم تحمر ثم تكون لوناً بعد لون وقال الثوري عن قيس بن وهب عن مرة عن ابن مسعود: {لتركبن طبقاً عن طبق} قال السماء مرة كالدهان ومرة تنشق, وروى البزار من طريق جابر الجعفي عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود {لتركبن طبقاً عن طبق} يا محمد يعني حالاً بعد حال, ثم قال ورواه جابر عن مجاهد عن ابن عباس وقال سعيد بن جبير {لتركبن طبقاً عن طبق} قال قوم كانوا في الدنيا خسيس أمرهم فارتفعوا في الاَخرة, وآخرون كانوا أشرافاً في الدنيا فاتضعوا في الاَخرة. وقال عكرمة {طبقاً عن طبق} حالاً بعد حال فطيماً بعد ما كان رضيعاً, وشيخاً بعد ما كان شاباً, وقال الحسن البصري {طبقاً عن طبق} يقول حالاً بعد حال, رخاء بعد شدة, وشدة بعد رخاء, وغنى بعد فقر, وفقراً بعد غنى, وصحة بعد سقم, وسقماً بعد صحة.
    وقال ابن أبي حاتم ذكر عن عبد الله بن زاهر حدثني أبي عن عمرو بن شمر عن جابر هو الجعفي عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن ابن آدم لفي غفلة مما خلق له إن الله تعالى إذا أراد خلقه قال للملك اكتب رزقه اكتب أجله اكتب أثره. اكتب شقياً أو سعيداً. ثم يرتفع ذلك الملك ويبعث الله إليه ملكاً آخر فيحفظه حتى يدرك, ثم يرتفع ذلك الملك ثم يوكل الله به ملكين يكتبان حسناته وسيئاته, فإذا حضره الموت ارتفع ذانك الملكان وجاءه ملك الموت فقبض روحه, فإذا دخل قبره رد الروح في جسده ثم ارتفع ملك الموت وجاء ملكا القبر فامتحناه ثم يرتفعان, فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات فانتشطا كتاباً معقوداً في عنقه ثم حضرا معه واحداً سائقاً وآخر شهيداً, ثم قال الله تعالى: {لقد كنت في غفلة من هذا}» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لتركبن طبقاً عن طبق} قال: «حالاً بعد حال» ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن قدامكم لأمراً عظيماً لا تقدرونه فاستعينوا بالله العظيم» هذا حديث منكر وإسناده فيه ضعفاء ولكن معناه صحيح, والله سبحانه وتعالى أعلم.
    ثم قال ابن جرير بعد ما حكى أقوال الناس في هذه الاَية من القراء والمفسرين: والصواب من التأويل قول من قال لتركبن أنت يا محمد حالاً بعد حال وأمراً بعد أمر من الشدائد, والمراد بذلك وإن كان الخطاب موجهاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع الناس وأنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأحواله أهوالاً, وقوله تعالى: {فما لهم لا يؤمنون وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون} أي فماذا يمنعهم من الإيمان بالله ورسوله واليوم الاَخر ومالهم إذا قرئت عليهم آيات الله وكلامه وهو هذا القرآن لا يسجدون إعظاماً وإكراماً واحتراماً ؟ وقوله تعالى: {بل الذين كفروا يكذبون} أي من سجيتهم التكذيب والعناد والمخالفة للحق {والله أعلم بما يوعون} قال مجاهد وقتادة: يكتمون في صدورهم {فبشرهم بعذاب أليم} أي فأخبرهم يا محمد بأن الله عز وجل قد أعد لهم عذاباً أليماً.
    وقوله تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} هذا استثناء منقطع يعني لكن الذين آمنوا أي بقلوبهم وعملوا الصالحات أي بجوارحهم {لهم أجر} أي في الدار الاَخرة {غير ممنون} قال ابن عباس غير منقوص, وقال مجاهد والضحاك غير محسوب وحاصل قولهما أنه غير مقطوع كما قال تعالى: {عطاء غير مجذوذ} وقال السدي قال بعضهم غير ممنون غير منقوص, وقال بعضهم غير ممنون عليهم, وهذا القول الأخير عن بعضهم قد أنكره غير واحد, فإن الله عز وجل له المنة على أهل الجنة في كل حال وآن ولحظة, وإنما دخلوها بفضله ورحمته لا بأعمالهم فله عليهم المنة دائماً سرمداً والحمد لله وحده أبداً, ولهذا يلهمون تسبيحه وتحميده كما يلهمون النفس, وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين. آخر تفسير سورة الانشقاق. و لله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة.

    تمت سورة الانشقاق
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:15

    سورة البروج
    قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد حدثنا زريق بن أبي سلمى حدثنا أبو المهزم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العشاء الاَخرة بـ {السماء ذات البروج} {والسماء والطارق} وقال أحمد حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا حماد بن عباد السدوسي سمعت أبا المهزم يحدث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يقرأ بالسموات في العشاء, تفرد به أحمد.

    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** وَالسّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الاُخْدُودِ * النّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَىَ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الّذِي لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنّ الّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ
    يقسم تعالى بالسماء وبروجها وهي النجوم العظام كما تقدم بيان ذلك في قوله تعالى: {تبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً} قال ابن عباس ومجاهد والضحاك والحسن وقتادة والسدي: البروج النجوم وعن مجاهد أيضاً: البروج التي فيها الحرس. وقال يحيى بن رافع:البروج قصور في السماء, وقال المنهال بن عمرو {والسماء ذات البروج} الخلق الحسن, واختار ابن جرير أنها منازل الشمس والقمر وهي اثنا عشر برجاً, تسير الشمس في كل واحد منها شهراً ويسير القمر في كل واحد منها يومين وثلثاً, فذلك ثمانية وعشرون منزلة ويستمر ليلتين.
    وقوله تعالى: {واليوم الموعود وشاهد ومشهود} اختلف المفسرون في ذلك وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الله بن محمد بن عمرو الغزي, حدثنا عبيد الله يعني ابن موسى, حدثنا موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد بن صفوان بن أوس الأنصاري, عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{واليوم الموعود} يوم القيامة {وشاهد} يوم الجمعة وما طلعت شمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة, وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إياه, ولا يستعيذ فيها من شر إلا أعاذه {ومشهود} يوم عرفة» وهكذا روى هذا الحديث ابن خزيمة من طرق عن موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف الحديث وقد روي موقوفاً على أبي هريرة وهو أشبه.
    وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد, حدثنا شعبة, سمعت علي بن زيد ويونس بن عبيد يحدثان عن عمار مولى بني هاشم عن أبي هريرة, أما علي فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأما يونس فلم يعد أبا هريرة أنه قال في هذه الاَية {وشاهد ومشهود} قال يعني الشاهد يوم الجمعة ويوم مشهود يوم القيامة, وقال أحمد أيضاً: حدثنامحمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن يونس, سمعت عماراً مولى بني هاشم يحدث عن أبي هريرة أنه قال في هذه الاَية {وشاهد ومشهود} قال: الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة والموعود)يوم القيامة. وقد روي عن أبي هريرة أنه قال: اليوم الموعود يوم القيامة, وكذلك قال الحسن وقتادة وابن زيد ولم أرهم يختلفون في ذلك ولله الحمد, ثم قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عوف حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش, حدثني أبي, حدثنا ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اليوم الموعود يوم القيامة وإن الشاهد يوم الجمعة وإن المشهود يوم عرفة ويوم الجمعة ذخره الله لنا».
    ثم قال ابن جرير: حدثنا سهل بن موسى الرازي, حدثنا ابن أبي فديك عن ابن حرملة عن سعيد بن المسيب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن سيد الأيام يوم الجمعة وهو الشاهد والمشهود يوم عرفة». وهذا مرسل من مراسيل سعيد بن المسيب, ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا وكيع عن شعبة عن علي بن زيد عن يوسف المكي عن ابن عباس قال: الشاهد هو محمد صلى الله عليه وسلم والمشهود يوم القيامة, ثم قرأ {ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود} وحدثنا ابن حميد: حدثنا جرير عن مغيرة عن شباك قال: سأل رجل الحسن بن علي عن {وشاهد ومشهود} قال: سألت أحداً قبلي ؟ قال: نعم, سألت ابن عمر وابن الزبير فقالا: يوم الذبح ويوم الجمعة, فقال: لا, ولكن الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم, ثم قرأ {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} والمشهود يوم القيامة ثم قرأ {ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود}.
    وهكذا قال الحسن البصري وقال سفيان الثوري عن ابن حرملة عن سعيد بن المسيب: ومشهود يوم القيامة, وقال مجاهد وعكرمة والضحاك: الشاهد ابن آدم, والمشهود يوم القيامة. وعن عكرمة أيضاً:الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم والمشهود يوم الجمعة,وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الشاهد الله والمشهود يوم القيامة, وقال ابن أبي حاتم. حدثنا أبي, حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين, حدثنا سفيان عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس {وشاهد ومشهود} قال: الشاهد الإنسان والمشهود يوم الجمعة, هكذا رواه ابن أبي حاتم.
    وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا مهران عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس {وشاهد ومشهود} الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم القيامة, وبه عن سفيان الثوري عن مغيرة عن إبراهيم قال: يوم الذبح ويوم عرفة يعني الشاهد والمشهود, قال ابن جرير وقال آخرون: المشهود يوم الجمعة, ورووا في ذلك ما حدثنا أحمد بن عبد الرحمن: حدثني عمي عبد الله بن وهب, أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أيمن عن عبادة بن نسي عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة» وعن سعيد بن جبير الشاهد الله, وتلا {وكفى بالله شهيداً} والمشهود نحن, حكاه البغوي, وقال الأكثرون على أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة
    وقوله تعالى: {قتل أصحاب الأخدود} أي لعن أصحاب الأخدود وجمعه أخاديد وهي الحفر في الأرض, وهذا خبر عن قوم من الكفار عمدوا إلى من عندهم من المؤمنين بالله عز وجل, فقهروهم وأرادوهم أن يرجعوا عن دينهم, فأبوا عليهم فحفروا لهم في الأرض أخدوداً وأججوا فيه ناراً وأعدوا لها وقوداً يسعرونها به, ثم أرادوهم فلم يقبلوا منهم فقذفوهم فيها ولهذا قال تعالى: {قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود} أي مشاهدون لمايفعل بأولئك المؤمنين. قال الله تعالى: {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} أي وما كان لهم عندهم ذنب إلا إيمانهم بالله العزيز الذي لا يضام من لاذ بجنابه المنيع الحميد في جميع أقواله وأفعاله وشرعه وقدره, وإن كان قد قدر على عباده هؤلاء هذا الذي وقع بهم بأيدي الكفار به فهو العزيز الحميد وإن خفي سبب ذلك على كثير من الناس.
    ثم قال تعالى: {الذي له ملك السموات والأرض} من تمام الصفة أنه المالك لجميع السموات والأرض وما فيهما وما بينهما {والله على كل شيء شهيد} أي لا يغيب عنه شيء في جميع السموات والأرض ولا تخفى عليه خافية. وقد اختلف أهل التفسير في أهل هذه القصة من هم ؟ فعن علي أنهم أهل فارس حين أراد ملكهم تحليل تزويج المحارم, فامتنع عليهم علماؤهم فعمد إلى حفر أخدود فقذف فيه من أنكر عليه منهم واستمر فيهم تحليل المحارم إلى اليوم. وعنه أنهم كانوا قوماً باليمن اقتتل مؤمنوهم ومشركوهم, فغلب مؤمنوهم على كفارهم ثم اقتتلوا فغلب الكفار المؤمنين فخدوا لهم الأخاديد وأحرقوهم فيها, وعنه أنهم كانوا من أهل الحبشة واحدهم حبشي, وقال العوفي عن ابن عباس {قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود} قال: ناس من بني إسرائيل خدوا أخدوداً في الأرض ثم أوقدوا فيه ناراً ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالاً ونساء فعرضوا عليها, وزعموا أنه دانيال وأصحابه وهكذا قال الضحاك بن مزاحم وقيل غير ذلك.
    وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له ساحر فلما كبر الساحر قال للملك إني قد كبر سني وحضر أجلي, فادفع إلي غلاماً لأعلمه الساحر فدفع إليه غلاماً فكان يعلمه الساحر, وكان بين السحر وبين الملك راهب فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه, وكان إذا أتى الساحر ضربه وقال ما حبسك وإذا أتى أهله ضربوه وقالوا ما حبسك, فشكا ذلك إلى الراهب فقال إذا أراد الساحر أن يضربك فقل حبسني أهلي, وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل حبسني الساحر, قال فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة عظيمة فظيعة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا. فقال اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر السحر, قال فأخذ حجراً فقال اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس, ورماها فقتلها ومضى الناس فأخبر الراهب بذلك فقال أي بني أنت أفضل مني وإنك ستبتلى, فإن ابتليت فلا تدل علي, فكان الغلام يبرىء الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم, وكان للملك جليس فعمي فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة فقال اشفني ولك ما ههنا أجمع, فقال ما أنا أشفي أحداً إنما يشفي الله عز وجل, فإن آمنت به دعوت الله فشفاك فآمن فدعا الله فشفاه.
    ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس فقال له الملك يا فلان من رد عليك بصرك ؟ فقال ربي: فقال أنا قال لا, ربي وربك الله, قال ولك رب غيري ؟ قال نعم ربي وربك الله فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام, فبعث إليه فقال أي بني بلغ من سحرك أن تبرىء الأكمه والأبرص وهذه الأدواء! قال ما أشفي أحداً إنما يشفي الله عز وجل, قال أنا ؟ قال لا. قال أولك رب غيري ؟ قال ربي وربك الله, فأخذه أيضاً بالعذاب فلم يزل به حتى دل على الراهب فأتى بالراهب فقال ارجع عن دينك فأبى, فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه, وقال للأعمى: ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الأرض. وقال للغلام: ارجع عن دينك فأبى فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا وقال إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه من فوقه, فذهبوا به فلما علوا به الجبل قال: اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون, وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك فقال ما فعل أصحابك ؟ فقال كفانيهم الله تعالى فبعث به مع نفر في قرقور فقال إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فغرقوه في البحر فلججوا به البحر فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت فغرقوا أجمعون.
    وجاء الغلام حتى دخل على الملك فقال ما فعل أصحابك ؟ فقال كفانيهم الله تعالى ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني وإلا فإنك لا تستطيع قتلي, قال وما هو ؟ قال تجمع الناس في صعيد واحد ثم تصلبني على جذع وتأخذ سهماً من كنانتي, ثم قل: باسم الله رب الغلام فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. ففعل ووضع السهم في كبد قوسه ثم رماه وقال: باسم الله رب الغلام, فوقع السهم في صدغه, فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات, فقال الناس: آمنا برب الغلام. فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر ؟ فقد والله نزل بك قد آمن الناس كلهم, فأمر بأفواه السكك, فخدت فيها الأخاديد وأضرمت فيها النيران, وقال: من رجع عن دينه فدعوه وإلا فأقحموه فيها, قال فكانوا يتعادون فيها ويتدافعون فجاءت امرأة بابن لها ترضعه, فكأنها تقاعست أن تقع في النار فقال الصبي: اصبري يا أماه فإنك على الحق».
    وهكذا رواه مسلم في آخر الصحيح عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة به نحوه, ورواه النسائي عن أحمد بن سلمان عن عفان عن حماد بن سلمة ومن طريق حماد بن زيد كلاهما عن ثابت به واختصروا أوله, وقد جوده الإمام أبو عيسى الترمذي فرواه في تفسير هذه السورة عن محمود بن غيلان وعبد بن حميد ـ المعنى واحد ـ قالا: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر همس والهمس في بعض قولهم تحريك شفتيه كأنه يتكلم فقيل له إنك يا رسول الله إذا صليت العصر همست, قال: «إن نبياً من الأنبياء كان أعجب بأمته فقال: من يقوم لهؤلاء. فأوحى الله إليه أن خيرهم بين أن أنتقم منهم, وبين أن أسلط عليهم عدوهم, فاختاروا النقمة, فسلط الله عليهم الموت فمات منهم في يوم سبعون ألفاً» قال: وكان إذا حدث بهذا الحديث, حدث بهذا الحديث الاَخر قال: كان ملك من الملوك وكان لذلك الملك كاهن يتكهن له, فقال الكاهن: انظروا لي غلاماً فهماً أو قال: فطناً لقناً فأعلمه علمي هذا, فذكر القصة بتمامها, وقال في آخره: يقول الله عز وجل: {قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود ـ حتى بلغ ـ العزيز الحميد}.
    قال: فأما الغلام فإنه دفن, فيذكر أنه أخرج في زمان عمر بن الخطاب وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل, ثم قال الترمذي: حسن غريب, وهذا السياق ليس فيه صراحة, أن سياق هذه القصة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي: فيحتمل أن يكون من كلام صهيب الرومي, فإنه كان عنده علم من أخبار النصارى والله أعلم. وقد أورد محمد بن إسحاق بن يسار هذه القصة في السيرة بسياق آخر فيها مخالفة لما تقدم فقال: حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي, وحدثني أيضاً بعض أهل نجران عن أهلها أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان, وكان في قرية من قراها قريباً من نجران ـ ونجران هي القرية العظمى التي إليها جماع أهل تلك البلاد ـ ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر, فلما نزلها فيمون ولم يسموه لي بالاسم الذي سماه ابن منبه, قالوا: نزلها رجل فابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي فيها الساحر, وجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر.
    فبعث التامر ابنه عبد الله بن التامر مع غلمان أهل نجران, فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من عبادته وصلاته فجعل يجلس إليه ويسمع منه حتى أسلم فوحد الله وعبده, وجعل يسأله عن شرائع الإسلام حتى إذا فقه فيه جعل يسأله عن الاسم الأعظم, وكان يعلمه فكتمه إياه وقال له: يا ابن أخي إنك لن تحمله أخشى ضعفك عنه, والتامر أبو عبد الله لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان, فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن به عنه, وتخوف ضعفه فيه عمد إلى أقداح فجمعها ثم لم يبق لله اسماً يعلمه إلا كتبه في قدح لكل اسم قدح, حتى إذا حصاها أوقد ناراً ثم جعل يقذفها فيها قدحاً, حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذف فيها بقدحه, فوثب القدح حتى خرج منها لم يضره شيء, فأخذه, ثم أتى به صاحبه فأخبره أنه قد علم الاسم الأعظم الذي قد كتبه, فقال: وما هو ؟ قال: هو كذا وكذا, قال: وكيف علمته ؟ فأخبره بما صنع فقال أي ابن أخي قد أصبته فأمسك على نفسك, وما أظن أن تفعل.
    فجعل عبد الله بن التامر إذا دخل نجران لم يلق أحداً به ضر إلا قال له: يا عبد الله أتوحد الله وتدخل في ديني, وأدعو الله لك فيعافيك مما أنت فيه من البلاء ؟ فيقول نعم, فيوحد الله ويسلم, فيدعو الله له, فيشفى حتى لم يبق بنجران أحد به ضر إلا أتاه, فاتبعه على أمره ودعا له, فعوفي حتى رفع شأنه إلى ملك نجران, فدعاه فقال له: أفسدت علي أهل قريتي وخالفت ديني ودين آبائي لأمثلن بك, قال: لا تقدر على ذلك, قال: فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح على رأسه فيقع إلى الأرض ما به بأس, وجعل يبعث به إلى مياه نجران بحور لا يلقى فيها شيء إلا هلك فيلقى به فيها, فيخرج ليس به بأس, فلما غلبه قال له عبد الله بن التامر: إنك والله لا تقدر على قتلي حتى تؤمن بما آمنت به وتوحد الله, فإنك إن فعلت سلطت علي فقتلتني, قال: فوحد الله ذلك الملك وشهد شهادة عبد الله بن التامر, ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله, وهلك الملك مكانه واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن التامر, وكان على ما جاء به عيسى ابن مريم عليه السلام من الإنجيل وحكمه, ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث, فمن هنالك كان أصل دين النصرانية بنجران.
    قال ابن إسحاق: فهذا حديث محمد بن كعب القرظي وبعض أهل نجران عن عبد الله بن التامر فالله أعلم أي ذلك كان, قال فسار إليهم ذو نواس بجنده فدعاهم إلى اليهودية وخيرهم بين ذلك أو القتل فاختاروا القتل, فخد الأخدود فحرق بالنار وقتل بالسيف, ومثل بهم حتى قتل منهم قريباً من عشرين ألفاً, ففي ذي نواس وجنده أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم: {قتل أصحاب الأخدود, النار ذات الوقود, إذ هم عليها قعود, وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود, وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد, الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد} هكذا ذكر محمد بن إسحاق في السيرة أن الذي قتل أصحاب الأخدود هو ذو نواس واسمه زرعة, ويسمى في زمان مملكته بيوسف, وهو ابن بيان أسعد أبي كريب وهو تبع الذي غزا المدينة وكسى الكعبة واستصحب معه حبرين من يهود المدينة, فكان تهود من تهود من أهل اليمن على يديهما كما ذكره ابن إسحاق مبسوطاً, فقتل ذو نواس في غداة واحدة في الأخدود عشرين ألفاً ولم ينج منهم سوى رجل واحد يقال له دوس ذو ثعلبان, ذهب فارساً وطردوا وراءه فلم يقدروا عليه فذهب إلى قيصر ملك الشام فكتب إلى النجاشي ملك الحبشة, فأرسل معه جيشاً من نصارى الحبشة يقدمهم أرياط وأبرهة فاستنقذوا اليمن من أيدي اليهود, وذهب ذو نواس هارباً فلجج في البحر فغرق, واستمر ملك الحبشة في أيدي النصارى سبعين سنة, ثم استنقذه سيف بن ذي يزن الحميري من أيدي النصارى لما استجاش بكسرى ملك الفرس, فأرسل معه من في السجون فكانوا قريباً من سبعمائة, ففتح بهم اليمن ورجع الملك إلى حمير, وسنذكر طرفاً من ذلك إن شاء الله في تفسير سورة {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل}.

    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:16

    وقال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه حدث أن رجلاً من أهل نجران كان في زمان عمر بن الخطاب حفر خربة من خرب نجران لبعض حاجته, فوجد عبد الله بن التامر تحت دفن فيها قاعداً واضعاً يده على ضربة في رأسه ممسكاً عليها بيده, فإذا أخذت يده عنها تفجرت دماً, وإذا أرسلت يده ردت عليها فأمسكت دمها وفي يده خاتم مكتوب فيه ربي الله, فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب يخبره بأمره فكتب عمر إليهم أن أقروه على حاله وردوا عليه الدفن الذي كان عليه ففعلوا.
    وقد قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا رحمه الله: حدثنا أبو بلال الأشعري, حدثنا إبراهيم بن محمد عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب, حدثني بعض أهل العلم أن أبا موسى لما افتتح أصبهان وجد حائطاً من حيطان المدينة قد سقط, فبناه فسقط ثم بناه فسقط, فقيل له: إن تحته رجلاً صالحاً, فحفر الأساس فوجد فيه رجلاً قائماً معه سيف فيه مكتوب: أنا الحارث بن مضاض نقمت على أصحاب الأخدود, فاستخرجه أبو موسى وبنى الحائط فثبت. (قلت): هو الحارث بن مضاض بن عمرو بن مضاض بن عمرو الجرهمي, أحد ملوك جرهم الذين ولوا أمر الكعبة بعد ولد ثابت بن إسماعيل بن إبراهيم, وولد الحارث هذا هو عمرو بن الحارث بن مضاض هو آخر ملوك جرهم بمكة لما أخرجتهم خزاعة وأجلوهم إلى اليمن, وهو القائل في شعره الذي قال ابن هشام إنه أول شعر قالته العرب:
    كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفاأنيس ولم يسمر بمكة سامربلى نحن كنا أهلها فأبادناصروف الليالي والجدود العواثر
    وهذا يقتضي أن هذه القصة كانت قديماً بعد زمان إسماعيل عليه السلام بقرب من خمسمائة سنة أو نحوها, وما ذكره ابن إسحاق يقتضي أن قصتهم كانت في زمن الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما من الله السلام وهو أشبه, والله أعلم. وقد يحتمل أن ذلك قد وقع في العالم كثيراً كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو اليمان, أخبرنا صفوان عن عبد الرحمن بن جبير قال: كانت الأخدود في اليمن زمان تبع وفي القسطنطينية زمان قسطنطين حين صرف النصارى قبلتهم عن دين المسيح والتوحيد, فاتخذوا أتوناً وألقي فيه النصارى الذين كانوا على دين المسيح والتوحيد, وفي العراق في أرض بابل بختنصر الذي صنع الصنم وأمر الناس أن يسجدوا له, فامتنع دانيال وصاحباه عزريا وميشائيل فأوقد لهم أتوناً وألقى فيه الحطب والنار ثم ألقاهما فيه, فجعلها الله تعالى عليهما برداً وسلاماً وأنقذهما منها وألقى فيها الذين بغوا عليه, وهم تسعة رهط فأكلتهم النار.
    وقال أسباط عن السدي في قوله تعالى: {قتل أصحاب الأخدود} قال: كانت الأخدود ثلاثة: خد بالعراق, وخد بالشام, وخد باليمن. رواه ابن أبي حاتم, وعن مقاتل قال: كانت الأخدود ثلاثة: واحد بنجران باليمن والأخرى بالشام والأخرى بفارس حرقوا بالنار, أما التي بالشام فهو انطنانوس الرومي, وأما التي بفارس فهو بختنصر, وأما التي بأرض العرب فهو يوسف ذو نواس, فأما التي بفارس والشام فلم ينزل الله تعالى فيهما قرآنا وأنزل في التي كانت بنجران, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي, حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه, عن الربيع هو ابن أنس في قوله تعالى: {قتل أصحاب الأخدود} قال: سمعنا أنهم كانوا قوماً في زمان الفترة, فلما رأوا ما وقع في الناس من الفتنة والشر وصاروا أحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون, اعتزلوا إلى قرية سكنوها وأقاموا على عبادة الله مخلصين له الدين حنفاء, ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة, فكان هذا أمرهم حتى سمع بهم جبار من الجبارين وحدث حديثهم فأرسل إليهم فأمرهم أن يعبدوا الأوثان التي اتخذوا, وأنهم أبوا عليه كلهم وقالوا لا نعبد إلا الله وحده لا شريك له, فقال لهم: إن لم تعبدوا هذه الاَلهة التي عبدت فإني قاتلكم, فأبوا عليه فخد أخدوداً من نار وقال لهم الجبار ووقفهم عليها: اختاروا هذه أو الذي نحن فيه, فقالوا: هذه أحب إلينا, وفيهم نساء وذرية ففزعت الذرية, فقالوا لهم أي آباؤهم لا نار من بعد اليوم فوقعوا فيها, فقبضت أرواحهم من قبل أن يمسهم حرها وخرجت النار من مكانها فأحاطت بالجبارين فأحرقهم الله بهاففي ذلك أنزل الله عز وجل: {قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود * وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد * الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد} ورواه ابن جرير: حدثت عن عمار عن عبد الله بن أبي جعفر به نحوه.
    وقوله تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} أي حرقوا, قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن أبزى {ثم لم يتوبوا} أي لم يقلعوا عما فعلوا ويندموا على ما أسلفوا {فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق} وذلك أن الجزاء من جنس العمل, قال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة.


    ** إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ * إِنّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ * إِنّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعّالٌ لّمَا يُرِيدُ * هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الّذِينَ كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ * وَاللّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مّحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مّحْفُوظٍ
    يخبر تعالى عن عباده المؤمنين أن {لهم جنات تجري من تحتها الأنهار} بخلاف ما أعد لأعدائه من الحريق والجحيم, ولهذا قال: {ذلك الفوز الكبير} ثم قال تعالى: {إن بطش ربك لشديد} أي إن بطشه وانتقامه من أعدائه الذين كذبوا رسله وخالفوا أمره لشديد عظيم قوي, فإنه تعالى ذو القوة المتين الذي ما شاء كان كما يشاء في مثل لمح البصر أو هو أقرب, ولهذا قال تعالى: {إنه هو يبدىء ويعيد} أي من قوته وقدرته التامة يبدىء الخلق ويعيده كما بدأه بلا ممانع ولا مدافع {وهو الغفور الودود} أي يغفر ذنب من تاب إليه وخضع لديه ولو كان الذنب من أي شيء كان, والودود قال ابن عباس وغيره: هو الحبيب {ذو العرش} أي صاحب العرش العظيم العالي على جميع الخلائق, والمجيد فيه قراءتان: الرفع على أنه صفة للرب عز وجل, والجر على أنه صفة للعرش وكلاهما معنى صحيح {فعال لما يريد} أي مهما أراد فعله لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل لعظمته وقهره وحكمته وعدله كما روينا عن أبي بكر الصديق أنه قيل له وهو في مرض الموت: هل نظر إليك الطبيب ؟ قال: نعم. قالوا فما قال لك ؟ قال: قال لي إني فعال لما أريد.
    وقوله تعالى: {هل أتاك حديث الجنود * فرعون وثمود} أي هل بلغك ما أحل الله بهم من البأس وأنزل عليهم من النقمة التي لم يردها عنهم أحد ؟ وهذا تقرير لقوله تعالى: {إن بطش ربك لشديد} أي إذا أخذ الظالم أخذه أخذاً أليماً شديداً أخذ عزيز مقتدر قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة تقرأ {هل أتاك حديث الجنود} فقام يستمع فقال: «نعم قد جاءني» وقوله تعالى: {بل الذين كفروا في تكذيب} أي هم في شك وريب وكفر وعناد {والله من ورائهم محيط} أي هو قادر عليهم قاهر لا يفوتونه ولا يعجزونه {بل هو قرآن مجيد} أي عظيم كريم {في لوح محفوظ} أي هو في الملأ الأعلى محفوظ من الزيادة والنقص والتحريف والتبديل.
    قال ابن جرير: حدثنا عمرو بن علي, حدثنا قرة بن سليمان, حدثنا حرب بن سريج, حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك في قوله تعالى: {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} قال: إن اللوح المحفوظ الذي ذكر الله {بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ} في جبهة إسرافيل. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو صالح, حدثنا معاوية بن صالح أن أبا الأعبس هو عبد الرحمن بن سلمان قال: ما من شيء قضى الله: القرآن, فما قبله وما بعده إلا وهو في اللوح المحفوظ, واللوح المحفوظ بين عيني إسرافيل لا يؤذن له بالنظر فيه, وقال الحسن البصري: إن هذا القرآن المجيد عند الله في لوح محفوظ ينزل منه ما يشاء على من يشاء من خلقه, وقد روى البغوي من طريق إسحاق بن بشر: أخبرني مقاتل وابن جريج عن مجاهد عن ابن عباس قال: إن في صدر اللوح لا إله إلا الله وحده, دينه الإسلام ومحمد عبده ورسوله, فمن آمن بالله وصدق بوعده واتبع رسله أدخله الجنة, قال: واللوح لوح من درة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض, وعرضه ما بين المشرق والمغرب, وحافتاه من الدر والياقوت, ودفتاه ياقوتة حمراء, وقلمه نور, وكلامه معقود بالعرش, وأصله في حجر ملك.
    وقال مقاتل: اللوح المحفوظ عن يمين العرش, وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة, حدثنا منجاب بن الحارث, حدثنا إبراهيم بن يوسف, حدثنا زياد بن عبد الله عن ليث عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى خلق لوحاً محفوظاً من درة بيضاء صفحاتهامن ياقوتة حمراء, قلمه نور وكتابه نور, لله فيه في كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة, يخلق ويرزق ويميت ويحيي ويعز ويذل ويفعل ما يشاء» آخر تفسير سورة البروج, ولله الحمد والمنة.

    تمت سورة البروج
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:16

    سورة الطارق
    قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن محمد قال عبد الله وسمعته أنا منه, حدثنا مروان بن معاوية الفزاري عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي عن عبد الرحمن بن خالد بن أبي جبل العدواني, عن أبيه أنه أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشرق ثقيف وهو قائم على قوس أو عصى حين أتاهم يبتغي عندهم النصر فسمعته يقول: «والسماء والطارق» حتى ختمها قال: فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك, ثم قرأتها في الإسلام قال: فدعتني ثقيف فقالوا: ماذا سمعت من هذا الرجل ؟ فقرأتها عليهم فقال من معهم من قريش, نحن أعلم بصاحبنا لو كنا نعلم ما يقول حقاً لاتبعناه, وقال النسائي: حدثنا عمرو بن منصور, حدثنا أبو نعيم عن مسعر عن محارب بن دثار عن جابر قال: صلى معاذ المغرب فقرأ البقرة والنساء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفتان أنت يا معاذ! ما كان يكفيك أن تقرأ بالسماء والطارق والشمس وضحاها ونحوها ؟».

    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** وَالسّمَآءِ وَالطّارِقِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطّارِقُ * النّجْمُ الثّاقِبُ * إِن كُلّ نَفْسٍ لّمّا عَلَيْهَا حَافِظٌ * فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ * إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ * فَمَا لَهُ مِن قُوّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ
    يقسم تبارك وتعالى بالسماء وما جعل فيها من الكواكب النيرة ولهذا قال تعالى: {والسماء الطارق} ثم قال: {وما أدراك ما الطارق} ثم فسره بقوله: {النجم الثاقب} قال قتادة وغيره: إنما سمي النجم طارقاً لأنه إنما يرى بالليل ويختفي بالنهار, ويؤيده ما جاء في الحديث الصحيح نهى أن يطرق الرجل أهله طروقاً أي يأتيهم فجأة بالليل, وفي الحديث الاَخر المشتمل على الدعاء «إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن». وقوله تعالى: {الثاقب} قال ابن عباس: المضيء وقال السدي: يثقب الشياطين إذا أرسل عليها, وقال عكرمة: هو مضيء ومحرق للشيطان.
    وقوله تعالى: {إن كل نفس لما عليها حافظ} أي كل نفس عليها من الله حافظ يحرسها من الاَفات كما قال تعالى: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله}. وقوله تعالى: {فلينظر الإنسان مم خلق ؟} تنبيه للإنسان على ضعف أصله الذي خلق منه وإرشاد له إلى الاعتراف بالمعاد, لأن من قدر على البداءة فهو قادر على الإعادة بطريق الأولى كما قال تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} وقوله تعالى: {خلق من ماء دافق} يعني المني يخرج دفقاً من الرجل والمرأة, فيتولد منهما الولد, بإذن الله عز وجل, ولهذا قال: {يخرج من بين الصلب والترائب} يعني صلب الرجل وترائب المرأة وهو صدرها. وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس {يخرج من بين الصلب والترائب } صلب الرجل وترائب المرأة أصفر رقيق لا يكون الولد إلا منهما, وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والسدي وغيرهم, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو أسامة عن مسعر, سمعت الحكم ذكر عن ابن عباس {يخرج من بين الصلب والترائب} قال: هذه الترائب, ووضع يده على صدره.
    وقال الضحاك وعطية عن ابن عباس: تريبة المرأة موضع القلاده, وكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الترائب بين ثدييها, وعن مجاهد: الترائب ما بين المنكبين إلى الصدر, وعنه أيضاً: الترائب أسفل من التراقي, وقال سفيان الثوري: فوق الثديين, وعن سعيد بن جبير: الترائب أربعة أضلاع من هذا الجانب الأسفل وعن الضحاك: الترائب بين الثديين والرجلين والعينين, وقال الليث بن سعد عن معمر بن أبي حبيبة المدني أنه بلغه في قول الله عز وجل: {يخرج من بين الصلب والترائب} قال: هو عصارة القلب من هناك يكون الولد, وعن قتادة {يخرج من بين الصلب والترائب} من بين صلبه ونحره.
    وقوله تعالى: {إنه على رجعه لقادر} فيه قولان (أحدهما) على رجع هذا الماء الدافق, إلى مقره الذي خرج منه لقادر على ذلك. قاله مجاهد وعكرمة وغيرهما. (والقول الثاني) إنه على رجع هذا الإنسان المخلوق من ماء دافق أي إعادته وبعثه إلى الدار الاَخرة لقادر لأن من قدر على البداءة قدر على الإعادة, وقد ذكر الله عز وجل هذا الدليل في القرآن في غير ما موضع, وهذا القول قال به الضحاك واختاره ابن جرير ولهذا قال تعالى: {يوم تبلى السرائر} أي يوم القيامة تبلى فيه السرائر أي تظهر وتبدو ويبقى السر علانية والمكنون مشهوراً, وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يرفع لكل غادر لواء عند استه يقال هذه غدرة فلان بن فلان» وقوله تعالى: {فما له} أي الإنسان يوم القيامة {من قوة} أي في نفسه {ولا ناصر} أي من خارج منه أي لا يقدر على أن ينقذ نفسه من عذاب الله ولا يستطيع له أحد ذلك.


    ** وَالسّمَآءِ ذَاتِ الرّجْعِ * وَالأرْضِ ذَاتِ الصّدْعِ * إِنّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هوَ بِالْهَزْلِ * إِنّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً
    قال ابن عباس: الرجع المطر, وعنه: هو السحاب فيه المطر, وعنه {والسماء ذات الرجع} تمطر ثم تمطر, وقال قتادة: ترجع رزق العباد كل عام ولولا ذلك لهلكوا وهلكت مواشيهم, وقال ابن زيد: ترجع نجومها وشمسها وقمرها يأتين من ههنا {والأرض ذات الصدع} قال ابن عباس: هو انصداعها عن النبات, وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة وأبو مالك والضحاك والحسن وقتادة والسدي وغير واحد. وقوله تعالى: {إنه لقول فصل} قال ابن عباس: حق, وكذا قال قتادة, وقال آخر: حكم عدل {وما هو بالهزل} أي بل هو جد حق, ثم أخبر عن الكافرين بأنهم يكذبون به ويصدون عن سبيله فقال: {إنهم يكيدون كيداً} أي يمكرون بالناس في دعوتهم إلى خلاف القرآن, ثم قال تعالى: {فمهل الكافرين} أي أنظرهم ولا تستعجل لهم {أمهلهم رويداً} أي قليلاً أي وسترى ماذا أحل بهم من العذاب والنكال والعقوبة والهلاك كما قال تعالى: {نمتعهم قليلاً ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ} آخر تفسير سورة الطارق, ولله الحمد والمنة.

    تمت سورة الطارق
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:17

    سورة الأعلى
    والدليل على ذلك ما رواه البخاري: حدثنا عبدان, أخبرني أبي عن شعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال: أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم, فجعلا يقرئاننا القرآن ثم جاء عمار وبلال وسعد, ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم, فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون: هذا رسول الله قد جاء فما جاء حتى قرأت {سبح اسم ربك الأعلى} في سور مثلها. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا إسرائيل عن ثوير بن أبي فاختة عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذه السورة {سبح اسم ربك الأعلى} تفرد به أحمد. وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: «هلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى, والشمس وضحاها والليل إذا يغشى» وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه عن حبيب بن سالم عن أبيه عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في العيدين بسبح اسم ربكالأعلى وهل أتاك حديث الغاشية وإن وافق يوم الجمعة قرأهما جميعاً.
    هكذا وقع في مسند الإمام أحمد إسناد هذا الحديث, وقد رواه مسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث أبي عوانة وجرير وشعبة, ثلاثتهم عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه عن حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير به, قال الترمذي: وكذا رواه الثوري ومسعر عن إبراهيم, قال ورواه سفيان بن عيينة عن إبراهيم عن أبيه عن حبيب بن سالم عن أبيه عن النعمان, ولا يعرف لحبيب رواية عن أبيه, وقد رواه ابن ماجه عن محمد بن الصباح عن سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن المنتشر عن أبيه عن حبيب بن سالم عن النعمان به, كما رواه الجماعة فالله أعلم, ولفظ مسلم وأهل السنن: كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية, وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما, وقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي بن كعب وعبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن أبزى وعائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر بسبح اسم ربك الأعلى وقل يا أيها الكافرون, وقل هو الله أحد, زادت عائشة والمعوذتين. وهكذا روي الحديث من طريق جابر وأبي أمامة صدي بن عجلان وعبد الله بن مسعود وعمران بن حصين, وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم, ولولا خشية الإطالة لأوردنا ما تيسر لنا من أسانيد ذلك ومتونه, ولكن في الإرشاد بهذا الاختصار كفاية والله أعلم.

    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعْلَىَ * الّذِي خَلَقَ فَسَوّىَ * وَالّذِي قَدّرَ فَهَدَىَ * وَالّذِيَ أَخْرَجَ الْمَرْعَىَ * فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَىَ * سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىَ * إِلاّ مَا شَآءَ اللّهُ إِنّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىَ * وَنُيَسّرُكَ لِلْيُسْرَىَ * فَذَكّرْ إِن نّفَعَتِ الذّكْرَىَ * سَيَذّكّرُ مَن يَخْشَىَ * وَيَتَجَنّبُهَا الأشْقَى * الّذِى يَصْلَى النّارَ الْكُبْرَىَ * ثُمّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا
    قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن حدثنا موسى يعني ابن أيوب الغافقي, حدثنا عمي إياس بن عامر سمعت عقبة بن عامر الجهني: لما نزلت {فسبح باسم ربك العظيم} قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في ركوعكم» فلما نزلت {سبح اسم ربك الأعلى} قال: «اجعلوها في سجودكم» ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث ابن المبارك عن موسى بن أيوب به. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ {سبح اسم ربك الأعلى} قال: «سبحان ربي الأعلى» وهكذا رواه أبو داود عن زهير بن حرب عن وكيع به قال وخولف فيه وكيع رواه أبو وكيع وشعبة عن أبي إسحاق عن سعيد عن ابن عباس موقوفاً. وقال الثوري عن السدي عن عبد خير قال: سمعت علياً قرأ {سبح اسم ربك الأعلى} فقال: سبحان ربي الأعلى.
    وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا حكام عن عنبسة عن أبي إسحاق الهمداني أن ابن عباس كان إذا قرأ {سبح اسم ربك الأعلى} يقول: سبحان ربي الأعلى, وإذا قرأ {لا أقسم بيوم القيامة} فأتى على آخرها {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} يقول: سبحانك وبلى, وقال قتادة {سبح اسم ربك الأعلى} ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال: سبحان ربي الأعلى, وقوله تعالى: {الذي خلق فسوى} أي خلق الخليقة وسوى كل مخلوق في أحسن الهيئات. وقوله تعالى: {والذي قدر فهدى} قال مجاهد: هدى الإنسان للشقاوة والسعادة وهدى الأنعام لمراتعها وهذه الاَية كقوله تعالى إخباراً عن موسى أنه قال لفرعون: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} أي قدر قدراً وهدى الخلائق إليه, كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» وقوله تعالى: {والذي أخرج المرعى} أي من جميع صنوف النباتات والزروع {فجعله غثاء أحوى} قال ابن عباس: هشيماً متغيراً, وعن مجاهد وقتادة وابن زيد نحوه.
    قال ابن جرير: وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يرى أن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم, وأن معنى الكلام والذي أخرج المرعى, أحوى: أخضر إلى السواد فجعله غثاء بعد ذلك, ثم قال ابن جرير: وهذا وإن كان محتملاً إلا أنه غير صواب لمخالفته أقوال أهل التأويل, وقوله تعالى: {سنقرئك} أي يا محمد {فلا تنسى} وهذا إخبار من الله تعالى ووعد منه له. بأنه سيقرئه قراءة لا ينساها {إلا ما شاء الله} وهذا اختيار ابن جرير. وقال قتادة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينسى شيئاً إلا ما شاء الله: وقيل: المراد بقوله: {فلا تنسى} طلب, وجعل معنى الاستثناء على هذا ما يقع من النسخ أي لا تنسى ما نقرئك إلا ما شاء الله رفعه فلا عليك أن تتركه. وقوله تعالى: {إنه يعلم الجهر وما يخفى} أي يعلم ما يجهر به العباد وما يخفونه من أقوالهم وأفعالهم لا يخفى عليه من ذلك شيء.
    وقوله تعالى: {ونيسرك لليسرى} أي نسهل عليك أفعال الخير وأقواله ونشرع لك شرعاً سهلاً سمحاً مستقيماً عدلاً لا اعوجاج فيه ولا حرج ولا عسر. وقوله تعالى: {فذكر إن نفعت الذكرى} أي ذكر حيث تنفع التذكرة, ومن ههنا يؤخذ الأدب في نشر العلم فلا يضعه عند غير أهله كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم, وقال: حدث الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذّب الله ورسوله, وقوله تعالى: {سيذكر من يخشى} أي سيتعظ بما تبلغه يا محمد من قلبه يخشى الله ويعلم أنه ملاقيه {ويتجنبها الأشقى * الذي يصلى النار الكبرى * ثم لا يموت فيها ولا يحيى} أي لا يموت فيستريح ولا يحيى حياة تنفعه بل هي مضرة عليه, لأن بسببها يشعر ما يعاقب به من أليم العذاب وأنواع النكال. قال الإمام أحمد: حدثنا ابن أبي عدي عن سليمان يعني التيمي عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أهل النار الذين هم أهلها لا يموتون ولا يحيون وأما أناس يريد الله بهم الرحمة فيميتهم في النار فيدخل عليهم الشفعاء فيأخذ الرجل أنصاره فينبتهم ـ أو قال ـ ينبتون ـ في نهر الحيا ـ أو قال الحياة ـ أو قال الحيوان ـ أو قال نهر الجنة ـ فينبتون نبات الحبة في حميل السيل» قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما ترون الشجرة تكون خضراء ثم تكون صفراء ثم تكون خضراء ؟ قال: فقال بعضهم: كأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالبادية.
    وقال أحمد أيضاً: حدثنا إسماعيل, حدثنا سعيد بن يزيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن أناس ـ أو كما قال ـ تصيبهم النار بذنوبهم ـ أو قال بخطاياهم ـ فيميتهم إماتة حتى إذا صاروا فحماً أذن في الشفاعة, فجيء بهم ضبائر ضبائر فنبتوا على أنهار الجنة فيقال: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم, فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل» قال: فقال رجل من القوم حينئذ: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالبادية, ورواه مسلم من حديث بشر بن المفضل وشعبة كلاهما عن أبي سلمة سعيد بن يزيد به مثله, ورواه أحمد أيضاً عن يزيد عن سعيد بن إياس الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل النار الذين لا يريد الله إخراجهم لا يموتون فيها ولا يحيون, وإن أهل النار الذين يريد الله إخراجهم يميتهم فيها إماتة حتى يصيروا فحماً, ثم يخرجون ضبائر فيلقون على أنهار الجنة فيرش عليهم من أنهار الجنة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل». وقد قال الله تعالى إخباراً عن أهل النار: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون} وقال تعالى: {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها} إلى غير ذلك من الاَيات في هذا المعنى.


    ** قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكّىَ * وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلّىَ * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا * وَالاَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ * إِنّ هَـَذَا لَفِي الصّحُفِ الاُولَىَ * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىَ
    يقول تعالى: {قد أفلح من تزكى} أي طهر نفسه من الأخلاق الرذيلة وتابع ما أنزل الله على الرسول صلوات الله وسلامه عليه {وذكر اسم ربه فصلى} أي أقام الصلاة في أوقاتها ابتغاء رضوان الله وطاعة لأمر الله وامتثالاً لشرع الله. وقد قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عباد بن أحمد العزرمي, حدثنا عمي محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عطاء بن السائب, عن عبد الرحمن بن سابط عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قد أفلح من تزكى} قال: «من شهد أن لا إله إلا الله وخلع الأنداد وشهد أني رسول الله» {وذكر اسم ربه فصلى} قال: «هي الصلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بها» ثم قال: لا يروى عن جابر إلا من هذا الوجه, وكذا قال ابن عباس: إن المراد بذلك الصلوات الخمس, واختاره ابن جرير.
    وقال ابن جرير: حدثني عمرو بن عبد الحميد الاَملي, حدثنا مروان بن معاوية عن أبي خلدة قال: دخلت على أبي العالية فقال لي: إذا غدوت غداً إلى العيد فمر بي, قال: فمررت به فقال: هل طعمت شيئاً ؟ قلت: نعم. قال: أفضت على نفسك من الماء ؟ قلت: نعم. قال: فأخبرني ما فعلت زكاتك! قلت: قد وجهتها قال: إنما أردتك لهذا ثم قرأ {قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى} وقال: إن أهل المدينة لا يرون صدقة أفضل منها ومن سقاية الماء (قلت): وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أنه كان يأمر الناس بإخراج صدقة الفطر ويتلو هذه الاَية {قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى} وقال أبو الأحوص: إذا أتى أحدكم سائل وهو يريد الصلاة فليقدم بين يدي صلاته فإن الله تعالى يقول: {قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى} وقال قتادة في هذه الاَية {قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى} زكى ماله وأرضى خالقه.

    ثم قال تعالى: {بل تؤثرون الحياة الدنيا} أي تقدمونها على أمر الاَخرة وتبدونها على ما فيه نفعكم وصلاحكم في معاشكم ومعادكم {والاَخرة خير وأبقى} أي ثواب الله في الدار الاَخرة خير من الدنيا وأبقى, فإن الدنيا دنية فانية والاَخرة شريفة باقية, فكيف يؤثر عاقل ما يفنى على ما يبقى ويهتم بما يزول عنه قريباً ويترك الاهتمام بدار البقاء والخلد. قال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد, حدثنا ذويد عن أبي إسحاق عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدنيا دار من لا دار له, ومال من لا مال له, ولها يجمع من لا عقل له» وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا يحيى بن واضح, حدثنا أبو حمزة عن عطاء عن عرفجة الثقفي قال استقرأت ابن مسعود {سبح اسم ربك الأعلى ـ فلما بلغ ـ بل تؤثرون الحياة الدنيا} ترك القراءة وأقبل على أصحابه وقال: آثرنا الدنيا على الاَخرة, فسكت القوم فقال: آثرنا الدنيا لأنا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها, وزويت عنا الاَخرة فاخترنا هذا العاجل وتركنا الاَجل, وهذا منه على وجه التواضع والهضم أو هو إخبار عن الجنس من حيث هو والله أعلم.
    وقد قال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي, حدثنا إسماعيل بن جعفر, أخبرني عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن عبد الله عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب دنياه أضر بآخرته, ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى» تفرد به أحمد, وقد رواه أيضاً عن أبي سلمة الخزاعي عن الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو به مثله سواء, وقوله تعالى: {إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى} قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا نصر بن علي, حدثنا معتمر بن سليمان عن أبيه عن عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت {إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى} قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كان كل هذا ـ أو كان هذا ـ في صحف إبراهيم وموسى» ثم قال: لا نعلم أسند الثقات عن عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس غير هذا, وحديثاً آخر رواه مثل هذا.

    وقال النسائي أخبرنا زكريا بن يحيى, أخبرنا نصر بن علي, حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه, عن عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت {سبح اسم ربك الأعلى} قال: كلها في صحف إبراهيم وموسى, ولما نزلت {وإبراهيم الذي وفى} قال: وفّى إبراهيم {ألا تزر وازرة وزر أخرى} يعني أن هذه الاَية كقوله تعالى في سورة النجم {أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى * ألا تزر وازرة وزر أخرى. وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى. ثم يجزاه الجزاء الأوفى. وأن إلى ربك المنتهى} الاَيات إلى آخرهن, وهكذا قال عكرمة فيما رواه ابن جرير عن ابن حميد عن مهران عن سفيان الثوري عن أبيه عن عكرمة في قوله تعالى: {إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى} يقول: الاَيات التي في سبح اسم ربك الأعلى, وقال أبو العالية: قصة هذه السورة في الصحف الأولى, واختار ابن جرير أن المراد بقوله: إن هذا إشارة إلى قوله: {قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى * بل تؤثرون الحياة الدنيا * والاَخرة خير وأبقى} ثم قال تعالى: {إن هذا} أي مضمون هذا الكلام {لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى} وهذا الذي اختاره حسن قوي, وقد روي عن قتادة وابن زيد نحوه, والله أعلم, آخر تفسير سورة سبح, ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة.

    تمت سورة الاعلى
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:17

    سورة الغاشية
    قد تقدم عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بسبح اسم ربك الأعلى والغاشية في صلاة العيد ويوم الجمعة وقال الإمام مالك عن ضمرة بن سعيد عن عبيد الله بن عبد الله أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير: بم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة مع سورة الجمعة ؟ قال: هل أتاك حديث الغاشية. ورواه أبو داود عن القعنبي والنسائي عن قتيبة كلاهما عن مالك به, ورواه مسلم وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة عن ضمرة بن سعيد به.

    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نّاصِبَةٌ * تَصْلَىَ نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَىَ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاّ مِن ضَرِيعٍ * لاّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ
    الغاشية: من أسماء يوم القيامة. قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد لأنها تغشى الناس وتعمهم, وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة تقرأ {هل أتاك حديث الغاشية} فقام يستمع ويقول: «نعم قد جاءني» وقوله تعالى: {وجوه يومئذ خاشعة} أي ذليلة قاله قتادة, وقال ابن عباس: تخشع ولا ينفعها عملها. وقوله تعالى: {عاملة ناصبة} أي قد عملت عملاً كثيراً ونصبت فيه وصليت يوم القيامة ناراً حامية. قال الحافظ أبو بكر البرقاني: حدثنا إبراهيم بن محمد المزكّي, حدثنا محمد بن إسحاق السراج, حدثنا هارون بن عبد الله, حدثنا سيار, حدثنا جعفر قال: سمعت أبا عمران الجوني يقول: مر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بدير راهب, قال فناداه يا راهب, فأشرف قال فجعل عمر ينظر إليه ويبكي, فقيل له: يا أمير المؤمنين ما يبكيك من هذا ؟ قال: ذكرت قول الله عز وجل في كتابه: {عاملة ناصبة * تصلى ناراً حامية} فذاك الذي أبكاني.
    وقال البخاري: قال ابن عباس {عاملة ناصبة} النصارى, وعن عكرمة والسدي عاملة في الدنيا بالمعاصي وناصبة في النار بالعذاب والإهلاك, قال ابن عباس والحسن وقتادة {تصلى ناراً حامية} أي حارة شديدة الحر {تسقى من عين آنية} أي قد انتهى حرها وغليانها, قاله ابن عباس ومجاهد والحسن والسدي. وقوله تعالى: {ليس لهم طعام إلا من ضريع} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: شجر من النار, وقال سعيد بن جبير: هو الزقوم, وعنه أنها الحجارة, وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وأبو الجوزاء وقتادة: هو الشبرق, قال قتادة: قريش تسميه في الربيع الشبرق وفي الصيف الضريع, قال عكرمة: وهو شجرة ذات شوك لاطئة بالأرض. وقال البخاري: قال مجاهد: الضريع نبت يقال له الشبرق يسميه أهل الحجاز الضريع إذا يبس وهو سم, وقال معمر عن قتادة {ليس لهم طعام إلا من ضريع} هو الشبرق إذا يبس سمي الضريع, وقال سعيد عن قتادة {ليس لهم طعام إلا من ضريع} من شر الطعام وأبشعه وأخبثه, وقوله تعالى: {لا يسمن ولا يغني من جوع} يعني لا يحصل به مقصود ولا يندفع به محذور.


    ** وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نّاعِمَةٌ * لّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنّةٍ عَالِيَةٍ * لاّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مّرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مّوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيّ مَبْثُوثَةٌ
    لما ذكر حال الأشقياء ثنى بذكر السعداء فقال: {وجوه يومئذ} أي يوم القيامة {ناعمة} أي يعرف النعيم فيها وإنما حصل لها ذلك بسعيها, وقال سفيان {لسعيها راضية} قد رضيت عملها. وقوله تعالى: {في جنة عالية} أي رفيعة بهية في الغرفات آمنون {لا تسمع فيها لاغية} أي لا تسمع في الجنة التي هم فيها كلمة لغو كما قال تعالى: {لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً} وقال تعالى: {لا لغو فيها ولا تأثيم} وقال تعالى: {لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماً} {فيها عين جارية} أي سارحة وهذه نكرة في سياق الإثبات, وليس المراد بها عيناً واحدة وإنما هذا جنس يعني فيها عيون جاريات. وقال ابن أبي حاتم: قرىء على الربيع بن سليمان, حدثنا أسد بن موسى, حدثنا ابن ثوبان عن عطاء بن قرة عن عبد الله بن ضمرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنهار الجنة تفجر من تحت تلال ـ أو من تحت جبال ـ المسك» {فيها سرر مرفوعة} أي عالية ناعمة كثيرة الفرش مرتفعة السمك عليها الحور العين, قالوا فإذا أراد ولي الله أن يجلس على تلك السرر العالية تواضعت له {وأكواب موضوعة} يعني أواني الشرب معدة مرصدة لمن أرادها من أربابها.
    {ونمارق مصفوفة} قال ابن عباس: النمارق الوسائد, وكذا قال عكرمة وقتادة والضحاك والسدي والثوري وغيرهم, وقوله تعالى: {وزرابي مبثوثة} قال ابن عباس الزرابي البسط, وكذا قال الضحاك وغير واحد, ومعنى مبثوثة أي ههنا وههنا لمن أراد الجلوس عليها, وذكر ههنا هذا الحديث الذي رواه أبو بكر بن أبي داود, حدثنا عمرو بن عثمان, حدثنا أبي عن محمد بن مهاجر عن الضحاك المعافري عن سليمان بن موسى, حدثني كريب أنه سمع أسامة بن زيد يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا هل من مشمر للجنة فإن الجنة لا خطر لها, وهي ورب الكعبة نور يتلألأ, وريحانة تهتز, وقصر مشيد, ونهر مطرد, وثمرة نضيجة, وزوجة حسناء جميلة, وحلل كثيرة, ومقام في أبد في دار سليمة, وفاكهة وخضرة, وحبرة ونعمة, في محلة عالية بهية ؟» قالوا: نعم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن المشمرون لها, قال: «قولوا إن شاء الله» قال القوم: إن شاء الله, ورواه ابن ماجه عن العباس بن عثمان الدمشقي عن الوليد بن مسلم عن محمد بن مهاجر به.
    أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَىَ الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكّرْ إِنّمَآ أَنتَ مُذَكّرٌ * لّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ * إِلاّ مَن تَوَلّىَ وَكَفَرَ * فَيْعَذّبُهُ اللّهُ الْعَذَابَ الأكْبَرَ * إِنّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ * ثُمّ إِنّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ
    يقول تعالى آمراً عباده بالنظر في مخلوقاته الدالة على قدرته وعظمته: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ؟} فإنها خلق عجيب وتركيبها غريب, فإنها في غاية القوة والشدة وهي مع ذلك تلين للحمل الثقيل وتنقاد للقائد الضعيف وتؤكل وينتفع بوبرها ويشرب لبنها, ونبهوا بذلك لأن العرب غالب دوابهم كانت الإبل, وكان شريح القاضي يقول اخرجوا بنا حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت! أي كيف رفعها الله عز وجل عن الأرض هذا الرفع العظيم, كما قال تعالى: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج} {وإلى الجبال كيف نصبت} أي جعلت منصوبة فإنها ثابتة راسية لئلا تميد الأرض بأهلها, وجعل فيها ما جعل من المنافع والمعادن {وإلى الأرض كيف سطحت!} أي كيف بسطت ومدت ومهدت, فنبه البدوي على الاستدلال بما يشاهده من بعيره الذي هو راكب عليه والسماء التي فوق رأسه, والجبل الذي تجاهه والأرض التي تحته على قدرة خالق ذلك وصانعه وأنه الرب العظيم الخالق المالك المتصرف, وأنه الإله الذي لا يستحق العبادة سواه, وهكذا أقسم ضمام في سؤاله على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا هاشم بن القاسم, حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس, قال: كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء, فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع.
    فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد إنه أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك, قال: «صدق» قال: فمن خلق السماء ؟» قال: «الله» قال: فمن خلق الأرض ؟ قال: «الله» قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل ؟ قال: «الله» قال: فبالذي خلق السماء والأرض ونصب هذه الجبال آلله أرسلك ؟ قال: «نعم» قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا ؟ قال: «صدق» قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال: «نعم» قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة أموالنا ؟ قال «صدق» قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال: «نعم» قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلاً. قال: «صدق» قال: ثم ولى فقال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن شيئاً ولا أنقص منهن شيئاً ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن صدق ليدخلن الجنة».
    وقد رواه مسلم عن عمرو النقاد عن أبي النضر هاشم بن القاسم به, وعلقه البخاري ورواه الترمذي والنسائي من حديث الليث بن سعد عن سعيد المقبري عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس به بطوله وقال في آخره: وأنبأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر, وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا إسحاق حدثنا عبد الله بن جعفر, حدثني عبد الله بن دينار, عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما كان يحدث عن امرأة في الجاهلية على رأس جبل معها ابن صغير لها ترعى غنماً, فقال لها ابنها: يا أمه من خلقك ؟ قالت: الله. قال: فمن خلق أبي ؟ قالت: الله. قال: فمن خلقني ؟ قالت: الله, قال: فمن خلق السماء ؟ قالت: الله, قال: فمن خلق الأرض ؟ قالت: الله. قال: فمن خلق الجبل ؟ قالت: الله. قال: فمن خلق هذه الغنم ؟ قالت: الله, قال: فإني لأسمع لله شأناً وألقى نفسه من الجبل فتقطع. قال ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يحدثنا هذا. قال ابن دينار: كان ابن عمر كثيراً ما يحدثنا بهذا, في إسناده ضعف وعبد الله بن جعفر هذا هو المديني ضعفه ولده الإمام علي بن المديني وغيره.
    وقوله تعالى: {فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر} أي فذكر يا محمد الناس بما أرسلت به إليهم {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} ولهذا قال: {لست عليهم بمصيطر} قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: {لست عليهم بجبار} أي لست تخلق الإيمان في قلوبهم, وقال ابن زيد: لست بالذي تكرههم على الإيمان, قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي الزبير عن جابر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل» ثم قرأ: {فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر} وهكذا رواه مسلم في كتاب الإيمان والترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما من حديث سفيان بن سعيد الثوري به بهذه الزيادة, وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من رواية أبي هريرة بدون ذكر هذه الاَية.
    وقوله تعالى: {إلا من تولى وكفر} أي تولى عن العمل بأركانه وكفر بالحق بجنانه ولسانه, وهذه كقوله تعالى: {فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى} ولهذا قال: {فيعذبه الله العذاب الأكبر} قال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة, حدثنا ليث عن سعيد بن أبي هلال عن علي بن خالد أن أبا أمامة الباهلي مر على خالد بن يزيد بن معاوية, فسأله عن ألين كلمة سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا كلكم يدخل الجنة إلا من شرد على الله شراد البعير على أهله», تفرد بإخراجه الإمام أحمد, وعلي بن خالد هذا ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه ولم يزد على ما ههنا, روى عن أبي أمامة وعنه سعيد بن أبي هلال, وقوله تعالى: {إن إلينا إيابهم} أي: مرجعهم ومنقلبهم {ثم إن علينا حسابهم} أي نحن نحاسبهم على أعمالهم ونجازيهم بها إن خيراً فخير وإن شراً فشر. آخر تفسير سورة الغاشية, ولله الحمد والمنة.

    تمت سورة الغاشية
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:18

    سورة الفجر
    قال النسائي: أنبأنا عبد الوهاب بن الحكم أخبرني يحيى بن سعيد عن سليمان عن محارب بن دثار وأبي صالح عن جابر قال: صلى معاذ صلاة, فجاء رجل فصلى معه, فطول فصلى في ناحية المسجد ثم انصرف, فبلغ ذلك معاذاً فقال منافق, فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل الفتى فقال: يا رسول الله: جئت أصلي معه فطول علي, فانصرفت وصليت في ناحية المسجد, فعلفت ناقتي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفتان يا معاذ ؟ أين أنت من سبح اسم ربك الأعلى ـ والشمس وضحاها ـ والفجر ـ والليل إذا يغشى».

    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ * وَالشّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لّذِى حِجْرٍ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ * وَثَمُودَ الّذِينَ جَابُواْ الصّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوْتَادِ * الّذِينَ طَغَوْاْ فِي الْبِلاَدِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبّ عَلَيْهِمْ رَبّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنّ رَبّكَ لَبِالْمِرْصَادِ
    أما الفجر فمعروف وهوالصبح, قاله علي وابن عباس وعكرمة ومجاهد والسدي, وعن مسروق ومحمد بن كعب: المراد به فجر يوم النحر خاصة, وهو خاتمة الليالي العشر, وقيل المراد بذلك الصلاة التي تفعل عنده كما قاله عكرمة, وقيل المراد به جميع النهار, وهو رواية عن ابن عباس, والليالي العشر المراد بها عشر ذي الحجة كما قاله ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف, وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس مرفوعاً «ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام» يعني عشر ذي الحجة قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء» وقيل: المراد بذلك العشر الأول من المحرم, حكاه أبو جعفر بن جرير ولم يعزه إلى أحد, وقد روى أبو كدينة عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس {وليال عشر} قال: هو العشر الأول من رمضان, والصحيح القول الأول. قال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب, حدثنا عياش بن عقبة, حدثني خير بن نعيم عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العشر عشر الأضحى, والوتر يوم عرفة, والشفع يوم النحر», ورواه النسائي عن محمد بن رافع وعبدة بن عبد الله, وكل منهما عن زيد بن الحباب به ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث زيد بن الحباب به, وهذا إسناد رجاله لا بأس بهم وعندي أن المتن في رفعه نكارة والله أعلم.
    وقوله تعالى: {والشفع والوتر} قد تقدم في هذا الحديث أن الوتر يوم عرفة لكونه التاسع, وأن الشفع يوم النحر لكونه العاشر, وقاله ابن عباس وعكرمة والضحاك أيضاً (قول ثان) وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثني عقبة بن خالد عن واصل بن السائب قال: سألت عطاء عن قوله تعالى: {والشفع والوتر} قلت: صلاتنا وترنا هذا ؟ قال: لا ولكن الشفع يوم عرفة والوتر ليلة الأضحى (قول ثالث) قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عامر بن إبراهيم الأصبهاني, حدثني أبي عن النعمان, يعني ابن عبد السلام, عن أبي سعيد بن عوف, حدثني بمكة قال: سمعت عبد الله بن الزبير يخطب الناس, فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن الشفع والوتر, فقال: الشفع قول الله تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه} والوتر قوله تعالى: {ومن تأخر فلا إثم عليه} وقال ابن جريج: أخبرني محمد بن المرتفع أنه سمع ابن الزبير يقول: الشفع أوسط أيام التشريق والوتر آخر أيام التشريق, وفي الصحيحين من رواية أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر».
    (قول رابع) قال الحسن البصري وزيد بن أسلم: الخلق كلهم شفع ووتر أقسم تعالى بخلقه, وهو رواية عن مجاهد والمشهور عنه الأول, وقال العوفي عن ابن عباس {والشفع والوتر} قال: الله وتر واحد, وأنتم شفع, ويقال الشفع صلاة الغداة والوتر صلاة المغرب.
    (قول خامس) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد {والشفع والوتر} قال: الشفع الزوج, والوتر: الله عز وجل. وقال أبو عبد الله عن مجاهد: الله الوتر وخلقه الشفع الذكر والأنثى وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله: {والشفع والوتر} كل شيء خلقه الله شفع. السماء والأرض والبر والبحر والجن والإنس والشمس والقمر ونحو هذا, ونحا مجاهد في هذا ما ذكروه في قوله تعالى: {ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون} أي لتعلموا أن خالق الأزواج واحد (قول سادس) قال قتادة عن الحسن والشفع والوتر هو العدد منه شفع ومنه وتر.
    (قول سابع في الاَية الكريمة) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من طريق ابن جريج ثم قال ابن جرير: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر يؤيد القول الذي ذكرنا عن أبي الزبير, حدثني عبد الله بن أبي زياد القطواني, حدثنا زيد بن الحباب أخبرني عياش بن عقبة, حدثني خير بن نعيم عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله قال: «الشفع اليومان والوتر اليوم الثالث» هكذا ورد هذا الخبر بهذا اللفظ, وهو مخالف لما تقدم من اللفظ في رواية أحمد والنسائي وابن أبي حاتم وما رواه هو أيضاً والله أعلم. قال أبو العالية والربيع بن أنس وغيرهما: هي الصلاة منها شفع كالرباعية والثنائية, ومنها وتر كالمغرب فإنها ثلاث وهي وتر النهار, وكذلك صلاة الوتر في آخر التهجد من الليل. وقد قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن عمران بن حصين {والشفع والوتر} قال هي الصلاة المكتوبة منها شفع ومنها وتر وهذا منقطع وموقوف ولفظه خاص بالمكتوبة وقد روي متصلاً مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه عام.
    قال الإمام أحمد: حدثنا أبو داود هو الطيالسي, حدثنا همام عن قتادة عن عمران بن عصام أن شيخاً حدثه من أهل البصرة, عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الشفع والوتر فقال: «هي الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر» هكذا وقع في المسند, وكذا رواه ابن جرير عن بندار عن عفان وعن أبي كريب عن عبيد الله بن موسى وكلاهما عن همام, وهو ابن يحيى, عن قتادة عن عمران بن عصام, عن شيخ عن عمران بن حصين, وكذا رواه أبو عيسى الترمذي عن عمرو بن علي عن ابن مهدي وأبي داود, كلاهما عن همام عن قتادة عن عمران بن عصام عن رجل من أهل البصرة, عن عمران بن حصين به, ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من حديث قتادة,)وقد رواه خالد بن قيس أيضاً عن قتادة, وقد روي عن عمران بن عصام عن عمران نفسه والله أعلم.

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:18

    قلت): ورواه ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي, حدثنا يزيد بن هارون, أخبرنا همام عن قتادة عن عمران بن عصام الضبعي شيخ من أهل البصرة عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم, فذكره, هكذا رأيته في تفسيره فجعل الشيخ البصري هو عمران بن عصام. وهكذا رواه ابن جرير: أخبرنا نصر بن علي, حدثني أبي, حدثني خالد بن قيس عن قتادة عن عمران بن عصام عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشفع والوتر قال: «هي الصلاة منها شفع ومنها وتر» فأسقط ذكر الشيخ المبهم, وتفرد به عمران بن عصام الضبعي أبو عمارة البصري إمام مسجد بني ضبيعة. وهو والد أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي, روى عنه قتادة وابنه أبو جمرة والمثنى بن سعيد وأبو التياح يزيد بن حميد, وذكره ابن حبان في كتاب الثقات, وذكره خليفة بن خياط في التابعين من أهل البصرة,وكان شريفاً نبيلاً حظياً عند الحجاج بن يوسف, ثم قتله يوم الزاوية سنة ثلاث وثمانين لخروجه مع ابن الأشعث, وليس له عند الترمذي سوى هذا الحديث الواحد, وعندي أن وقفه على عمران بن حصين أشبه والله أعلم, ولم يجزم ابن جرير بشيء من هذه الأقوال في الشفع والوتر.
    وقوله تعالى: {والليل إذا يسر} قال العوفي عن ابن عباس: أي إذا ذهب, وقال عبد الله بن الزبير {والليل إذا يسر} حتى يذهب بعضه بعضاً, وقال مجاهد وأبو العالية وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم وابن زيد {والليل إذا يسر} إذا سار, وهذا يمكن حمله على ما قال ابن عباس أي ذهب, ويحتمل أن يكون المراد إذا سار أي أقبل, وقد يقال إن هذا أنسب لأنه في مقابلة قوله: {والفجر} فإن الفجر هو إقبال النهار وإدبار الليل, فإذا حمل قوله: {والليل إذا يسر} على إقباله كان قسماً بإقبال الليل وإدبار النهار وبالعكس كقوله: {والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس} وكذا قال الضحاك {والليل إذا يسر} أي يجري, وقال عكرمة {والليل إذا يسر} يعني ليلة جمع ليلة المزدلفة. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
    ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عصام, حدثنا أبو عامر عن كثير بن عبد الله بن عمرو قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول في قوله: {والليل إذا يسر} قال: اسر يا سار ولا تبيتن إلا بجمع, وقوله تعالى: {هل في ذلك قسم لذي حجر} أي لذي عقل ولب ودين وحجا, وإنما سمي العقل حجراً لأنه يمنع الإنسان من تعاطي ما لا يليق به من الأفعال والأقوال, ومنه حجر البيت لأنه يمنع الطائف من اللصوق بجداره الشامي, ومنه حجر اليمامة, وحجر الحاكم على فلان إذا منعه التصرف {ويقولون حجراً محجوراً} كل هذا من قبيل واحد, ومعنى متقارب, وهذا القسم هو بأوقات العبادة وبنفس العبادة من حج وصلاة وغير ذلك من أنواع القرب التي يتقرب بها إليه عباده المتقون المطيعون له, الخائفون منه المتواضعون لديه الخاضعون لوجهه الكريم, ولما ذكر هؤلاء وعبادتهم وطاعتهم قال بعده: {ألم تر كيف فعل ربك بعاد ؟} وهؤلاء كانوا متمردين عتاة جبارين خارجين عن طاعته مكذبين لرسله جاحدين لكتبه, فذكر تعالى كيف أهلكهم ودمرهم وجعلهم أحاديث وعبراً فقال: {ألم تر كيف فعل ربك بعاد* إرم ذات العماد ؟} وهؤلاء عاد الأولى وهم ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح, قاله ابن إسحاق, وهم الذين بعث الله فيهم رسوله هوداً عليه السلام فكذبوه وخالفوه, فأنجاه الله من بين أظهرهم ومن آمن معه منهم وأهلكهم {بريح صرصر عاتية, سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية} وقد ذكر الله قصتهم في القرآن في غير ما موضع ليعتبر بمصرعهم المؤمنون, فقوله تعالى: {إرم ذات العماد} عطف بيان زيادة تعريف بهم.
    وقوله تعالى: {ذات العماد} لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشعر التي ترفع بالأعمدة الشداد وقد كانوا أشد الناس في زمانهم خلقة وأقواهم بطشاً, ولهذا ذكرهم هود بتلك النعمة وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة ربهم الذي خلقهم فقال: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين} وقال تعالى: {فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة ؟ أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة} وقال ههنا: {التي لم يخلق مثلها في البلاد} أي القبيلة التي لم يخلق مثلها في بلادهم لقوتهم وشدتهم وعظم تركيبهم. قال مجاهد: إرم, أمة قديمة يعني عاداً الأولى, قال قتادة بن دعامة والسدي: إن إرم بيت مملكة عاد, وهذا قول حسن جيد وقوي, وقال مجاهد وقتادة والكلبي في قوله: {ذات العماد} كانوا أهل عمد لا يقيمون, وقال العوفي عن ابن عباس: إنما قيل لهم ذات العماد لطولهم, واختار الأول ابن جرير ورد الثاني فأصاب.
    وقوله تعالى: {التي لم يخلق مثلها في البلاد} أعاد ابن زيد الضمير على العماد لارتفاعها وقال: بنوا عمداً بالأحقاف لم يخلق مثلها في البلاد, وأما قتادة وابن جرير فأعاد الضمير على القبيلة أي لم يخلق مثل تلك القبيلة في البلاد يعني في زمانهم, وهذا القول هو الصواب, وقول ابن زيد ومن ذهب مذهبه ضعيف لأنه لو كان المراد ذلك لقال التي لم يعمل مثلها في البلاد وإنما قال: {لم يخلق مثلها في البلاد} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو صالح كاتب الليث, حدثني معاوية بن صالح عمن حدثه عن المقدام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر إرم ذات العماد فقال: «كان الرجل منهم يأتي على الصخرة فيحملها على الحي فيهلكهم» ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا أبو الطاهر, حدثنا أنس بن عياض, عن ثور بن زيد الديلي قال: قرأت كتاباً وقد سمى حيث قرأه أنا شداد بن عاد وأنا الذي رفعت العماد وأنا الذي شددت بذراعي نظر واحد وأنا الذي كنزت كنزاً على سبعة أذرع لا يخرجه إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم (قلت): فعلى كل قول سواء كانت العماد أبنية بنوها أو أعمدة بيوتهم للبدو أو سلاحاً يقاتلون به أو طول واحد منهم, فهم قبيلة وأمة من الأمم, وهم المذكورون في القرآن في غير ما موضع المقرونون بثمود كما ههنا, والله أعلم.
    ومن زعم أن المراد بقوله: {إرم ذات العماد} مدينة إما دمشق كما روي عن سعيد بن المسيب وعكرمة, أو إسكندرية كما روي عن القرظي أو غيرهما ففيه نظر, فإنه كيف يلتئم الكلام على هذا {ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد} إن جعل ذلك بدلاً أو عطف بيان, فإنه لا يتسق الكلام حينئذ, ثم المراد إنما هو الإخبار عن إهلاك القبيلة المسماة بعاد وما أحل الله بهم من بأسه الذي لا يرد, لا أن المراد الإخبار عن مدينة أو إقليم.
    وإنما نبهت على ذلك لئلا يغتر بكثير مما ذكره جماعة من المفسرين عند هذه الاَية من ذكر مدينة يقال لها: إرم ذات العماد, مبنية بلبن الذهب والفضة قصورها ودورها وبساتينها, وأن حصباءها لاَلىءوجواهر وترابها بنادق المسك وأنهارها سارحة وثمارها ساقطة, ودورها لا أنيس بها وسورها وأبوابها تصفر ليس بها داع ولا مجيب, وأنها تتنقل فتارة تكون بأرض الشام وتارة باليمن وتارة بالعراق وتارة بغير ذلك من البلاد, فإن هذا كله من خرافات الإسرائيليين من وضع بعض زنادقتهم ليختبروا بذلك عقول الجهلة من الناس أن تصدقهم في جميع ذلك.
    وذكر الثعلبي وغيره أن رجلاً من الأعراب وهو عبد الله بن قلابة في زمان معاوية ذهب في طلب أباعر له شردت, فبينما هو يتيه في ابتغائها إذ اطلع على مدينة عظيمة لها سور وأبواب, فدخلها فوجد فيها قريباً مما ذكرناه من صفات المدينة الذهبية التي تقدم ذكرها, وأنه رجع فأخبر الناس فذهبوا معه إلى المكان الذي قال فلم يروا شيئاً. وقد ذكر ابن أبي حاتم قصة إرم ذات العماد ههنا مطولة جداً فهذه الحكاية ليس يصح إسنادها, ولو صح إلى ذلك الأعرابي فقد يكون اختلق ذلك أو أنه أصابه نوع من الهوس والخبال, فاعتقد أن ذلك له حقيقة في الخارج وليس كذلك, وهذا مما يقطع بعدم صحته, وهذا قريب مما يخبر به كثير من الجهلة والطامعين والمتحيلين من وجود مطالب تحت الأرض, فيها قناطير الذهب والفضة وألوان الجواهر واليواقيت واللاَلىء والإكسير الكبير, لكن عليها موانع تمنع من الوصول إليها والأخذ منها, فيحتالون على أموال الأغنياء والضعفة والسفهاء فيأكلونها بالباطل في صرفها في بخاخير وعقاقير ونحو ذلك من الهذيانات ويطنزون بهم, والذي يجزم به أن في الأرض دفائن جاهلية وإسلامية وكنوزاً كثيرة من ظفر بشيء منها أمكنه تحويله, فأما على الصفة التي زعموها فكذب وافتراء وبهت ولم يصح في ذلك شيء مما يقولون إلا عن نقلهم أو نقل من أخذ عنهم والله سبحانه وتعالى الهادي للصواب.
    وقول ابن جرير يحتمل أن يكون المراد بقوله: {إرم ذات العماد} قبيلة أو بلدة كانت عاد تسكنها فلذلك لم تصرف, فيه نظر لأن المراد من السياق إنما هو الإخبار عن القبيلة, ولهذا قال بعده: {وثمود الذين جابوا الصخر بالواد} يعني يقطعون الصخر بالوادي, قال ابن عباس ينحتونها ويخرقونها, وكذا قال مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد ومنه يقال مجتابي النمار إذا خرقوها, واجتاب الثوب إذا فتحه ومنه الجيب أيضاً وقال الله تعالى: {وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين}, و أنشد ابن جرير وابن أبي حاتم ههنا قول الشاعر:
    ألا كل شيء ما خلا الله بائدكما باد حي من شنيف وماردهم ضربوا في كل صماء صعدةبأيد شداد أيدات السواعد
    وقال ابن إسحاق: كانوا عرباً وكان منزلهم بوادي القرى, وقد ذكرنا قصة عاد مستقصاة في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته. وقوله تعالى: {وفرعون ذي الأوتاد} قال العوفي عن ابن عباس: الأوتاد الجنود الذين يشدون له أمره, ويقال كان فرعون يوتد أيديهم وأرجلهم في أوتاد من حديد يعلقهم بها, وكذا قال مجاهد: كان يوتد الناس بالأوتاد, وهكذا قال سعيد بن جبير والحسن والسدي. قال السدي: كان يربط الرجل في كل قائمة من قوائمه في وتد ثم يرسل عليه صخرة عظيمة فيشدخه, وقال قتادة: بلغنا أنه كان له مظال وملاعب يلعب له تحتها من أوتاد وحبال, وقال ثابت البناني عن أبي رافع: قيل لفرعون ذي الأوتاد لأنه ضرب لامرأته أربعة أوتاد, ثم جعل على ظهرها رحى عظيمة حتى ماتت.
    وقوله تعالى: {الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد} أي تمردوا وعتوا وعاثوا في الأرض بالإفساد والأذية للناس {فصب عليهم ربك سوط عذاب} أي أنزل عليهم رجزاً من السماء وأحل بهم عقوبة, لا يردها عن القوم المجرمين.
    وقوله تعالى: {إن ربك لبالمرصاد} قال ابن عباس: يسمع ويرى يعني يرصد خلقه فيما يعملون ويجازي كلاً بسعيه في الدنيا والأخرى, وسيعرض الخلائق كلهم عليه فيحكم فيهم بعدله ويقابل كلا بما يستحقه, وهو المنزه عن الظلم والجور. وقد ذكر ابن أبي حاتم ههنا حديثاً غريباً جداً وفي إسناده نظر وفي صحته, فقال: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن أبي الحواري, حدثنا يونس الحذاء, عن أبي حمزة البيساني, عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معاذ إن المؤمن لدى الحق أسير, يا معاذ إن المؤمن لا يسكن روعه ولا يأمن اضطرابه حتى يخلف جسر جهنم خلف ظهره, يا معاذ إن المؤمن قيده القرآن عن كثير من شهواته وعن أن يهلك فيها هو بإذن الله عز وجل فالقرآن دليله, والخوف محجته, والشوق مطيته, والصلاة كهفه, والصوم جنته, والصدقة فكاكه, والصدق أميره, والحياء وزيره, وربه عز وجل من وراء ذلك كله بالمرصاد».

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:19

    قال ابن أبي حاتم: يونس الحذاء وأبو حمزة مجهولان وأبو حمزة عن معاذ مرسل. ولو كان عن أبي حمزة لكان حسناً أي لو كان من كلامه لكان حسناً, ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا صفوان بن صالح حدثنا الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو عن أيفع عن ابن عبد الكلاعي أنه سمعه وهو يعظ الناس يقول: إن لجهنم سبع قناطر قال: والصراط عليهن, قال: فيحبس الخلائق عند القنطرة الأولى فيقول {قفوهم إنهم مسؤولون} قال: فيحاسبون على الصلاة ويسألون عنها, قال: فيهلك فيها من هلك وينجو من نجا, فإذا بلغوا القنطرة الثانية حوسبوا على الأمانة كيف أدوها وكيف خانوها, قال: فيهلك من هلك وينجو من نجا, فإذا بلغوا القنطرة الثالثة سئلوا عن الرحم كيف وصلوها وكيف قطعوها, قال: فيهلك من هلك وينجو من نجا, قال: والرحم يومئذ متدلية إلى الهوى في جهنم تقول: اللهم من وصلني فصله, ومن قطعني فاقطعه, قال: وهي التي يقول الله عز وجل: {إن ربك لبالمرصاد} هكذا أورد هذا الأثر ولم يذكر تمامه.


    ** فَأَمّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعّمَهُ فَيَقُولُ رَبّيَ أَكْرَمَنِ * وَأَمّآ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبّيَ أَهَانَنِ * كَلاّ بَل لاّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلاَ تَحَاضّونَ عَلَىَ طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التّرَاثَ أَكْلاً لّمّاً * وَتُحِبّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً
    يقول تعالى منكراً على الإنسان في اعتقاده إذا وسع الله تعالى عليه في الرزق ليختبره في ذلك, فيعتقد أن ذلك من الله إكرام له وليس كذلك بل هو ابتلاء وامتحان كما قال تعالى: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون} وكذلك في الجانب الاَخر إذا ابتلاه وامتحنه وضيق عليه في الرزق يعتقد أن ذلك من الله إهانة له, كما قال الله تعالى: {كلا} أي ليس الأمر كما زعم لا في هذا ولا في هذا, فإن الله تعالى يعطي المال من يحب ومن لا يحب, ويضيق على من يحب ومن لا يحب, وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين: إذا كان غنياً بأن يشكر الله على ذلك وإذا كان فقيراً بأن يصبر, وقوله تعالى: {بل لا تكرمون اليتيم} فيه أمر بالإكرام له كما جاء في الحديث الذي رواه عبد الله بن المبارك عن سعيد بن أبي أيوب عن يحيى بن أبي سليمان عن يزيد بن أبي عتاب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه, وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه ـ ثم قال بأصبعه ـ أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا».
    وقال أبو داود: حدثنا محمد بن الصباح بن سفيان, أخبرنا عبد العزيز يعني ابن أبي حازم, حدثني أبي عن سهل يعني ابن سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة» وقرن بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام, {ولا تحاضون على طعام المسكين} يعني لا يأمرون بالإحسان إلى الفقراء والمساكين ويحث بعضهم على بعض في ذلك {وتأكلون التراث} يعني الميراث {أكلاً لماً} أي من أي جهة حصل لهم ذلك من حلال أو حرام {وتحبون المال حباً جماً} أي كثيراً, زاد بعضهم فاحشاً.


    ** كَلاّ إِذَا دُكّتِ الأرْضُ دَكّاً دَكّاً * وَجَآءَ رَبّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِيَءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكّرُ الإِنسَانُ وَأَنّىَ لَهُ الذّكْرَىَ * يَقُولُ يَلَيْتَنِي قَدّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لاّ يُعَذّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ * يَأَيّتُهَا النّفْسُ الْمُطْمَئِنّةُ * ارْجِعِي إِلَىَ رَبّكِ رَاضِيَةً مّرْضِيّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنّتِي
    يخبر تعالى عما يقع يوم القيامة من الأهوال العظيمة, فقال تعالى: {كلا} أي حقاً {إذا دكت الأرض دكاً دكاً} أي وطئت ومهدت وسويت الأرض والجبال وقام الخلائق من قبورهم لربهم {وجاء ربك} يعني لفصل القضاء بين خلقه وذلك بعدما يستشفعون إليه بسيد ولد آدم على الإطلاق محمد صلوات الله عليه وسلامه عليه, بعدما يسألون أولي العزم من الرسل واحداً بعد واحد, فكلهم يقول: لست بصاحب ذاكم حتى تنتهي النوبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: «أنا لها أنا لها» فيذهب فيشفع عند الله تعالى في أن يأتي لفصل القضاء, فيشفعه الله تعالى في ذلك.
    وهي أول الشفاعات وهي المقام المحمود كما تقدم بيانه في سورة سبحان, فيجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء كما يشاء, والملائكة يجيئون بين يديه صفوفاً صفوفاً.
    وقوله تعالى: {وجيء يومئذ بجهنم} قال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا عمر بن حفص بن غياث, حدثنا أبي عن العلاء بن خالد الكاهلي عن شقيق عن عبد الله هو ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألفاً ملك يجرونها» وهكذا رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن عمر بن حفص به. ورواه أيضاً عن عبد بن حميد عن أبي عامر عن سفيان الثوري عن العلاء بن خالد عن شقيق بن سلمة, وهو أبو وائل, عن عبد الله بن مسعود قوله ولم يرفعه, وكذا رواه ابن جرير عن الحسن بن عرفة عن مروان بن معاوية الفزاري عن العلاء بن خالد عن شقيق عن عبد الله قوله. وقوله تعالى: {يومئذ يتذكر الإنسان} أي عمله وما كان أسلفه في قديم دهره وحديثه {وأنى له الذكرى} أي وكيف تنفعه الذكرى {يقول يا ليتني قدمت لحياتي} يعني يندم على ما كان سلف منه من المعاصي إن كان عاصياً ويود لو كان ازداد من الطاعات إن كان طائعاً كما قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا علي بن إسحاق, حدثنا عبد الله يعني ابن المبارك, حدثنا ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن محمد بن أبي عميرة, وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: لو أن عبداً خرّ على وجهه من يوم ولد إلى أن يموت هرماً في طاعة الله لحقره يوم القيامة, ولودّ أنه رد إلى الدنيا كيما يزداد من الأجر والثواب.
    قال الله تعالى: {فيومئذ لا يعذب عذابه أحد} أي ليس أحد أشد عذاباً من تعذيب الله من عصاه {ولا يوثق وثاقه أحد} أي وليس أحد أشد قبضاً ووثقاً من الزبانية لمن كفر بربهم عز وجل, وهذا في حق المجرمين من الخلائق والظالمين, فأما النفس الزكية المطمئنة وهي الساكنة الثابتة الدائرة مع الحق فيقال لها: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك} أي إلى جواره وثوابه وما أعد لعباده في جنته {راضية} أي في نفسها {مرضية} أي قد رضيت عن الله ورضي عنها وأرضاها {فادخلي في عبادي} أي في جملتهم {وادخلي جنتي} وهذا يقال لها عند الاحتضار وفي يوم القيامة أيضاً, كما أن الملائكة يبشرون المؤمن عند احتضاره وعند قيامه من قبره, فكذلك ههنا.
    ثم اختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الاَية, فروى الضحاك عن ابن عباس: نزلت في عثمان بن عفان, وعن بريدة بن الحصيب: نزلت في حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه. وقال العوفي عن ابن عباس: يقال للأرواح المطمئنة يوم القيامة {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك} يعني صاحبك وهو بدنها الذي كانت تعمره في الدنيا {راضية مرضية} وروي عنه أنه كان يقرؤها {فادخلي في عبدي وادخلي جنتي} وكذا قال عكرمة والكلبي, واختاره ابن جرير وهو غريب, والظاهر الأول لقوله تعالى: {ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق} {وأن مردنا إلى الله} أي إلى حكمه والوقوف بين يديه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي, حدثني أبي عن أبيه عن أشعث عن جعفر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية} قال: نزلت وأبو بكر جالس فقال: يا رسول الله ما أحسن هذا, فقال: «أما إنه سيقال لك هذا» ثم قال: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا ابن يمان عن أشعث عن سعيد بن جبير قال: قرأت عند النبيصلى الله عليه وسلم {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية} فقال أبو بكر ر ضي الله عنه إن هذا لحسن, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أما إن الملك سيقول لك هذا عند الموت» وكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن ابن يمان به وهذا مرسل حسن.
    ثم قال ابن أبي حاتم وحدثنا الحسن بن عرفة حدثنا مروان بن شجاع الجزري عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: مات ابن عباس بالطائف فجاء طير لم ير على خلقته فدخل نعشه ثم لم ير خارجاً منه فلما دفن تليت هذه الاَية على شفير القبر لا يدري من تلاها {يا أيتهاالنفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي} ورواه الطبراني عن عبد الله بن أحمد عن أبيه عن مروان بن شجاع عن سالم بن عجلان الأفطس به فذكره. وقد ذكر الحافظ محمد بن المنذر الهروي المعروف بشكر في كتاب العجائب بسنده عن قُباث بن رزين أبي هاشم قال: أسرت في بلاد الروم فجمعنا الملك وعرض علينا دينه على أن من امتنع ضربت عنقه فارتد ثلاثة وجاء الرابع فامتنع فضربت عنقه وألقي رأسه في نهر هناك فرسب في الماء ثم طفا على وجه الماء ونظر إلى أولئك الثلاثة فقال: يا فلان ويا فلان ويا فلان يناديهم بأسمائهم قال الله تعالى في كتابه: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي} ثم غاص في الماء, قال فكادت النصارى أن يسلموا ووقع سرير الملك ورجع أولئك الثلاثة إلى الإسلام قال وجاء الفداء من عند الخليفة أبي جعفر المنصور فخلصنا.
    وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة رواحة بنت أبي عمرو الأوزاعي عن أبيها حدثني سليمان بن حبيب المحاربي حدثني أبو أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: «قل اللهم إني أسألك نفساً بك مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك» ثم روى عن أبي سليمان بن وبر أنه قال: حديث رواحة هذا واحد أمه, آخر تفسير سورة الفجر, ولله الحمد والمنة.

    تمت سورة الفجر
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:20

    --------------------------------------------------------------------------------

    سورة البلد
    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
    ** لاَ أُقْسِمُ بِهَـَذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلّ بِهَـَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَن لّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لّبَداً * أَيَحْسَبُ أَن لّمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَل لّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النّجْدَينِ
    هذا قسم من الله تبارك وتعالى بمكة أم القرى في حال كون الساكن فيها حالاً لينبه على عظمة قدرها في حال إحرام أهلها, قال خصيف عن مجاهد {لا أقسم بهذا البلد} لا رد عليهم. أقسم بهذا البلد. وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس {لا أقسم بهذا البلد} يعني مكة {وأنت حل بهذا البلد} قال أنت با محمد يحل لك أن تُقابَل به, وكذا روي عن سعيد بن جبير وأبي صالح وعطية والضحاك وقتادة والسدي وابن زيد, وقال مجاهد ما أصبت فيه فهو حلال لك, وقال قتادة: {وأنت حل بهذا البلد} قال: أنت به من غير حرج ولا إثم, وقال الحسن البصري أحلها الله له ساعة من نهار, وهذا المعنى الذي قالوه ورد به الحديث المتفق على صحته. «إن هذا البلد حرم الله يوم خلق السموات والأرض, فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شجره ولا يختلى خلاه, وإنما أحلت لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس, ألا فليبلغ الشاهد الغائب» وفي لفظ آخر: «فإن أحد ترخص بقتال رسول الله فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم».
    وقوله تعالى: {ووالد وما ولد} قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا ابن عطية عن شريك عن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {ووالد وما ولد} الوالد الذي يلد وما ولد العاقر الذي لا يولد له, ورواه ابن أبي حاتم من حديث شريك وهو ابن عبد الله القاضي به, وقال عكرمة الوالد العاقر وما ولد الذي يلد رواه ابن أبي حاتم. وقال مجاهد وأبو صالح وقتادة والضحاك وسفيان الثوري وسعيد بن حبير والسدي والحسن البصري وخصيف وشرحبيل بن سعد وغيرهم: يعني بالوالد آدم وما ولد ولده, وهذا الذي ذهب إليه مجاهد وأصحابه حسن قوي, لأنه تعالى لما أقسم بأم القرى وهي أم المساكن أقسم بعده بالساكن وهو آدم أبو البشر وولده, وقال أبو عمران الجوني: هو إبراهيم وذريته, رواه ابن جرير وابن أبي حاتم, واختار ابن جرير أنه عام في كل والد وولده وهو محتمل أيضاً.
    وقوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في كبد} روي عن ابن مسعود وابن عباس وعكرمة ومجاهد وإبراهيم النخعي وخيثمة والضحاك وغيرهم يعني منتصباً, زاد ابن عباس في رواية عنه منتصباً في بطن أمه, والكبد الاستواء والاستقامة, ومعنى هذا القول لقد خلقناه سوياً مستقيماً كقوله تعالى: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسوّاك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك} وكقوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} وقال ابن ابي نجيح وجريج وعطاء عن ابن عباس: في كبد قال في شدة خلق ألم تر إليه وذكر مولده ونبات أسنانه, وقال مجاهد {في كبد} نطفة ثم علقة ثم مضغة يتكبد في الخلق, قال مجاهد: وهو كقوله تعالى: {حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً} وأرضعته كرهاً ومعيشته كره فهو يكابد ذلك, وقال سعيد بن جبير {لقد خلقنا الإنسان في كبد} في شدة وطلب معيشه, وقال عكرمة: في شدة وطول, وقال قتادة: في مشقة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عصام حدثنا أبو عاصم أخبرنا عبد الحميد بن جعفر سمعت محمد بن علي أبا جعفر الباقر سأل رجلاً من الأنصار عن قول الله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في كبد} قال: في قيامه واعتداله فلم ينكر عليه أبو جعفر, وروي من طريق أبي مودود سمعت الحسن قرأ هذه ا لاَية {لقد خلقنا الإنسان في كبد} قال: يكابد أمراً من أمر الدنيا وأمراً من أمر الاَخرة, وفي رواية: يكابد مضايق الدنيا وشدائد الاَخرة, وقال ابن زيد: {لقد خلقنا الإنسان في كبد} قال: آدم خلق في السماء فسمي ذلك الكبد, واختار ابن جرير أن المراد بذلك مكابدة الأمور ومشاقها.
    وقوله تعالى: {أيحسب أن لن يقدر عليه أحد} قال الحسن البصري: يعني {أيحسب أن لن يقدر عليه أحد} يأخذ ماله. وقال قتادة {أيحسب أن لن يقدر عليه أحد} قال: ابن آدم يظن أن لن يسأل عن هذا المال من أين اكتسبه, وأين أنفقه, وقال السدي {أيحسب أن لن يقدر عليه أحد} قال الله عز وجل, وقوله تعالى: {يقول أهلكت مالاً لبداً} أي يقول ابن آدم أنفقت مالاً لبداً أي كثيراً قاله مجاهد والحسن وقتادة والسدي وغيرهم {أيحسب أن لم يره أحد} قال مجاهد أي أيحسب أن لم يره الله عز وجل وكذا قال غيره من السلف: وقوله تعالى: {ألم نجعل له عينين} أي يبصر بهما {ولساناً} أي ينطق به فيعبر عما في ضميره {وشفتين} يستعين بهما على الكلام وأكل الطعام وجمالاً لوجهه وفمه.
    وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي الربيع الدمشقي عن مكحول قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى يا ابن آدم قد أنعمت عليك نعماً عظاماً لا تحصي عددها ولا تطيق شكرها, وإن مما أنعمت عليك أن جعلت لك عينين تنظر بهما وجعلت لهما غطاء, فانظر بعينيك إلى ما أحللت لك, وإن رأيت ما حرمت عليك فأطبق عليهما غطاءهما, وجعلت لك لساناً وجعلت له غلافاً فانطق بماأمرتك وأحللت لك, فإن عرض عليك ما حرمت عليك فأغلق عليك لسانك. وجعلت لك فرجاً وجعلت لك ستراً, فأصب بفرجك ما أحللت لك, فإن عرض عليك ماحرمت عليك فأرخ عليك سترك, ابن آدم إنك لا تحمل سخطي ولا تطيق انتقامي». {وهديناه النجدين} الطريقين قال سفيان الثوري عن عاصم عن زرعن عبد الله هو ابن مسعود {وهديناه النجدين} قال: الخير والشر, وكذا روي عن علي وابن عباس ومجاهد وعكرمة وأبي وائل وأبي صالح ومحمد بن كعب والضحاك وعطاء الخراساني في آخرين,وقال عبد الله بن وهب: أخبرني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن سنان بن سعد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هما نجدان فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير» تفرد به سنان بن سعد, ويقال سعد بن سنان, وقد وثقه ابن معين, وقال الإمام أحمد والنسائي والجوزجاني منكر الحديث,وقال أحمد: تركت حديثه لاضطرابه , وروى خمسة عشر حديثاً منكرة كلها ما أعرف منها حديثاً واحداً يشبه حديثه حديث الحسن ـ يعني البصري ـ لا يشبه حديث أنس. وقال ابن جرير: حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن أبي رجاء قال: سمعت الحسن يقول {وهديناه النجدين} قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «يا أيها الناس إنهما النجدان نجد الخير ونجد الشر, فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير» وكذا رواه حبيب بن الشهيد ومعمر ويونس بن عبيد وأبو وهب عن الحسن مرسلاً, وهكذا أرسله قتادة وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا عيسى بن عفان عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى: {وهديناه النجدين} قال الثديين, وروي عن الربيع بن خثيم وقتادة وأبي حازم مثل ذلك, ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن وكيع عن عيسى بن عقال به ثم قال: والصواب القول الأول, ونظير هذه الاَية قوله تعالى: {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً * إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً}.


    ** فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمّ كَانَ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ * أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَالّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مّؤْصَدَةُ
    قال ابن جرير: حدثني عمر بن إسماعيل بن مجالد, حدثنا عبد الله بن إدريس عن أبيه عن أبي عطية عن ابن عمر في قوله تعالى: {فلا اقتحم} أي دخل {العقبة} قال: جبل في جهنم. وقال كعب الأحبار: {فلا اقتحم العقبة} هو سبعون درجة في جهنم وقال الحسن البصري: {فلا اقتحم العقبة} قال عقبة في جهنم, وقال قتادة: إنها عقبة قحمة شديدة فاقتحموها بطاعة الله تعالى. وقال قتادة: {وما أدراك ما العقبة ؟} ثم أخبر تعالى عن اقتحامها فقال {فك رقبة أو إطعام} وقال ابن زيد {فلا اقتحم العقبة} أي أفلا سلك الطريق التي فيها النجاة والخير ثم بينهما فقال تعالى: {وما أدراك ما العقبة * فك رقبة أو إطعام} قرىء فك رقبة بالإضافة, وقرىء على أنه فعل وفيه ضمير الفاعل والرقبة مفعوله, وكلتا القراءتين معناهما متقارب. قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إبراهيم, حدثنا عبد الله يعني ابن سعيد بن أبي هند عن إسماعيل بن أبي حكيم, مولى آل الزبير عن سعيد بن مرجانة أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب ـ أي عضوٍ ـ منها إرباً منه من النار حتى إنه ليعتق باليد اليد وبالرجل الرجل وبالفرج الفرج».
    فقال علي بن الحسين: أنت سمعت هذا من أبي هريرة ؟ فقال سعيد: نعم. فقال علي بن الحسين لغلام له أفره غلمانه: ادع مطرفاً, فلما قام بين يديه قال: اذهب فأنت حر لوجه الله, وقد رواه البخاري, ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن سعيد بن مرجانة به, وعند مسلم أن هذا الغلام الذي أعتقه علي بن الحسين زين العابدين كان قد أعطي فيه عشرة آلاف درهم, وقال قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن أبي نجيح قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أيّما مسلم أعتق رجلاً مسلماً فإن الله جاعل وفاء كل عظم من عظامه عظماً من عظامه محرراً من النار, وأيما امرأة أعتقت امرأة مسلمة فإن الله جاعل وفاء كل عظم من عظامها عظماً من عظامها من النار» رواه ابن جرير هكذا وأبو نجيح هذا هو عمر بن عبسة السلمي رضي الله عنه.
    قال الإمام أحمد: حدثنا حيوة بن شريح, حدثنا بقيه حدثني بجير بن سعد عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة عن عمرو بن عبسة أنه حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من بنى مسجداً ليذكر الله فيه بنى الله له بيتاً في الجنة. ومن أعتق نفساً مسلمة كانت فديته من جهنم, ومن شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة».
    (طريق أخرى) قال أحمد: حدثنا الحكم بن نافع, حدثنا جرير عن سليم بن عامر أن شرحبيل بن السمط قال لعمرو بن عبسة: حدثنا حديثاً ليس فيه تزيد ولا نسيان. قال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أعتق رقبة مسلمة كانت فكاكه من النار عضواً بعضو, ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة, ومن رمى بسهم فبلغ فأصاب أو أخطأ كان كمعتق رقبة من بني إسماعيل» وروى أبو داود والنسائي بعضه.
    (طريق أخرى) قال أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم, حدثنا الفرج, حدثنا لقمان عن أبي أمامة عن عمرو بن عبسة, قال السلمي: قلت له: حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه انتقاص ولا وهم, قال سمعته يقول: «من ولد له ثلاثة أولاد في الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا الحنث أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم, ومن شاب شيبة فيسبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة, ومن رمى بسهم في سبيل الله بلغ به العدو أصاب أو أخطأ كان له عتق رقبة, ومن أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منه عضواً منه من النار, ومن أنفق زوجين في سبيل الله فإن للجنة ثمانية أبواب يدخله الله من أي باب شاء منها» وهذه أسانيد جيدة قوية, ولله الحمد.
    (حديث آخر) قال أبو داود: حدثنا عيسى بن محمد الرملي, حدثنا ضمرة عن ابن أبي عبلة عن العريف بن عياش الديلمي, قال: أتينا واثلة بن الأسقع فقلناله: حدثنا حديثاً ليس فيه زيادة ولا نقصان, فغضب وقال: إن أحدكم ليقرأ ومصحفه معلق في بيته فيزيد وينقص, قلنا: إنما أردنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب يعني النار بالقتل فقال: «أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار», وكذا رواه النسائي من حديث إبراهيم بن أبي عبلة, عن العريف بن عياش الديلمي, عن واثلة به.
    (حديث آخر) قال أحمد: حدثنا عبد الصمد, حدثنا هشام عن قتادة عن قيس الجذامي عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أعتق رقبة مسلمة فهو فداؤه من النار», وحدثنا عبد الوهاب الخفاف عن سعيد عن قتادة, قال: ذكر لنا أن قيساً الجذامي حدث عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أعتق رقبة مؤمنة فهي فكاكه من النار» تفرد به أحمد من هذا الوجه.
    (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم وأبو أحمد قالا: حدثنا عيسى بن عبد الرحمن البجلي من بني بجيلة من بني سليم عن طلحة بن مصرف عن عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله علمني عملاً يدخلني الجنة, فقال: «لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة, أعتق النسمة وفك الرقبة» فقال: يا رسول الله أو ليستا بواحدة, قال: «لا إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها, وفك الرقبة أن تعين في عتقها, والمنحة الوكوف, والفيء على ذي الرحم الظالم فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع, واسق الظمآن, وأمر بالمعروف وانه عن المنكر, فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من الخير».
    وقوله تعالى: {أو إطعام في يوم ذي مسغبة} قال ابن عباس: ذي مجاعة, وكذا قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة وغير واحد, والسغب هو الجوع, وقال إبراهيم النخعي: في يوم الطعام فيه عزيز, وقال قتادة: في يوم مشتهى فيه الطعام وقوله تعالى: {يتيماً} أي أطعم في مثل هذا اليوم يتيماً {ذا مقربة} أي ذا قرابة منه, قاله ابن عباس وعكرمة والحسن والضحاك والسدي, كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا يزيد, أخبرنا هشام عن حفصة بنت سيرين عن سلمان بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة» وقد رواه الترمذي والنسائي وهذا إسناد صحيح, وقوله تعالى: {أو مسكيناً ذا متربة} أي فقيراً مدقعاً لاصقاً بالتراب, وهو الدقعاء أيضاً. قال ابن عباس: ذا متربة هو المطروح في الطريق الذي لا بيت له ولا شيء يقيه من التراب, وفي رواية هو الذي لصق بالدقعاء من الفقر والحاجة ليس له شيء, وفي رواية عنه: هو البعيد التربة, قال ابن أبي حاتم: يعني الغريب عن وطنه, وقال عكرمة: هو الفقير المديون المحتاج, وقال سعيد بن جبير, هو الذي لا أحد له, وقال ابن عباس وسعيد وقتادة ومقاتل بن حيان: هو ذو العيال, وكل هذه قريبة المعنى.
    وقوله تعالى: {ثم كان من الذين آمنوا} أي ثم هو مع هذه الأوصاف الجميلة الطاهرة مؤمن بقلبه محتسب ثواب ذلك عند الله عز وجل كما قال تعالى: {ومن أراد الاَخرة وسعى لها سعيهاوهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً} وقال تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن} الاَية. وقوله تعالى: {وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة} أي كان من المؤمنين العاملين صالحاً «المتواصين بالصبر على أذى الناس وعلى الرحمة بهم كما جاء في الحديث الشريف الراحمون يرحمهم الرحمن, ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» وفي الحديث الاَخر «لا يرحم الله من لا يرحم الناس». وقال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن ابن عامر عن عبد الله بن عمرو يرويه قال: «من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا».
    وقوله تعالى {أولئك أصحاب الميمنة} أي المتصفون بهذه الصفات من أصحاب اليمين. ثم قال {والذين كفروابآياتنا هم أصحاب المشأمة} أي أصحاب الشمال {عليهم نار مؤصدة} أي مطبقة عليهم فلا محيد لهم عنها ولا خروج لهم منها! قال أبو هريرة وابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومحمد بن كعب القرظي وعطية العوفي والحسن وقتادة والسدي {مؤصدة} أي مطبقة قال ابن عباس: مغلقة الأبواب, وقال مجاهد: أصد الباب بلغة قريش أي أغلقه وسيأتي في ذلك حديث في سورة {ويل لكل همزة لمزة} وقال الضحاك {مؤصدة} حيط لا باب له, وقال قتادة {مؤصدة} مطبقة فلا ضوء فيها ولا فرج ولا خروج منها آخر الأبد, وقال أبو عمران الجوني إذا كان يوم القيامة أمر الله بكل جبار وكل شيطان وكل من كان يخاف الناس في الدنيا شره, فأوثقوا بالحديد ثم أمر بهم إلى جهنم ثم أوصدوها عليهم أي أطبقوها, قال: فلا والله لا تستقر أقدامهم على قرار أبداً, ولا والله لا ينظرون فيها إلى أديم سماء أبداً, ولا والله لا تلتقي جفون أعينهم على غمض نوم أبداً, ولا والله لا يذوقون فيها بارد شراب أبداً, رواه ابن أبي حاتم. آخر تفسير سورة البلد, ولله الحمد والمنة.

    تمت سورة البلد
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:20

    سورة الشمس
    تقدم حديث جابر الذي في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: «هلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والليل إذا يغشى ؟».

    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** وَالشّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا * وَالنّهَارِ إِذَا جَلاّهَا * وَاللّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسّاهَا
    قال مجاهد {والشمس وضحاها} أي وضوئها. وقال قتادة {وضحاها} النهار كله. قال ابن جرير: والصواب أن يقال: أقسم الله بالشمس ونهارها لأن ضوء الشمس الظاهر هو النهار {والقمر إذا تلاها} قال مجاهد: تبعها, وقال العوفي عن ابن عباس {والقمر إذا تلاها} قال: يتلو النهار, وقال قتادة: إذا تلاها ليلة الهلال إذا سقطت الشمس رؤي الهلال, وقال ابن زيد, هو يتلوها في النصف الأول من الشهر ثم هي تتلوه وهو يتقدمها في النصف الأخير من الشهر, وقال مالك عن زيد بن أسلم: إذا تلاها ليلة القدر. وقوله تعالى: {والنهار إذا جلاها} قال مجاهد: أضاء. وقال قتادة {والنهار إذا جلاها} إذا غشيها النهار, وقال ابن جرير: وكان بعض أهل العربية يتأول ذلك بمعنى والنهار إذا جلا الظلمة لدلالة الكلام عليها.
    (قلت) ولو أن هذا القائل تأول ذلك بمعنى {والنهار إذا جلاها} أي البسيطة لكان أولى ولصح تأويله في قوله تعالى: {والنهار إذا يغشاها} فكان أجود وأقوى, والله أعلم. ولهذا قال مجاهد {والنهار إذا جلاها} إنه كقوله تعالى: {والنهار إذا تجلى} وأما ابن جرير فاختار عود الضمير في ذلك كله على الشمس لجريان ذكرها, وقالوا في قوله تعالى: {والليل إذا يغشاها} يعني إذا يغشى الشمس حين تغيب فتظلم الاَفاق.
    وقال بقية بن الوليد عن صفوان: حدثني يزيد بن ذي حمامة قال: إذا جاء الليل قال الرب جل جلاله غشى عبادي خلقي العظيم فالليل يهابه والذي خلقه أحق أن يهاب. رواه ابن أبي حاتم, وقوله تعالى: {والسماء وما بناها} يحتمل أن تكون ما ههنا مصدرية بمعنى والسماء وبنائها, وهو قول قتادة: ويحتمل أن تكون بمعنى من يعني والسماء وبانيها, وهو قول مجاهد, وكلاهما متلازم والبناء هو الرفع كقوله تعالى: {والسماء بنيناها بأيد ـ أي بقوة ـ وإنا لموسعون * والأرض فرشناها فنعم الماهدون} وهكذا قوله تعالى: {والأرض وما طحاها} قال مجاهد: طحاها دحاها, وقال العوفي عن ابن عباس {وما طحاها} أي خلق فيها. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: طحاها قسمها. وقال مجاهد وقتادة والضحاك والسدي والثوري وأبو صالح وابن زيد {طحاها} بسطها, وهذا أشهر الأقوال وعليه الأكثر من المفسرين, وهو المعروف عند أهل اللغة, قال الجوهري: طحوته مثل دحوته أي بسطته.
    وقوله تعالى: {ونفس وما سواها} أي خلقها سوية مستقيمة على الفطرة القويمة كما قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه, كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟» أخرجاه من رواية أبي هريرة, وفي صحيح مسلم من رواية عياض بن حماد المجاشعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم», وقوله تعالى: {فألهمها فجورها وتقواها} أي فأرشدها إلى فجورها أي بين ذلك لها وهداها إلى ما قدر لها. قال ابن عباس {فألهمها فجورها وتقواها} بين لها الخير والشر, وكذا قال مجاهد وقتادة والضحاك والثوري, وقال سعيد بن جبير: ألهمها الخير والشر, وقال ابن زيد: جعل فيها فجورها وتقواها, وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا صفوان بن عيسى وأبو عاصم النبيل قالا: حدثنا عزرة بن ثابت, حدثني يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الديلي قال: قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل الناس فيه ويتكادحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم وأكدت عليهم الحجة ؟ قلت: بل شيء قضي عليهم, قال: فهل يكون ذلك ظلماً ؟ قال: ففزعت منه فزعاً شديداً قال: قلت له ليس شيء إلا وهو خلقه وملك يده لا يسأل عما يفعل وهم يسألون, قال: سددك الله إنما سألتك لأخبر عقلك, إن رجلاً من مزينة أو جهينة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس فيه ويتكادحون, أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق أم شيء مما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم وأكدت به عليهم الحجة ؟ قال: «بل شيء قد قضي عليهم» قال: ففيم نعمل ؟ قال: «من كان الله خلقه لإحدى المنزلتين يهيئه لها وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: {ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها} رواه أحمد ومسلم من حديث عزرة بن ثابت به.
    وقوله تعالى: {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} يحتمل أن يكون المعنى قد أفلح من زكى نفسه أي بطاعة الله كما قال قتادة: وطهرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل, ويروى نحوه عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وكقوله تعالى: {قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى} {وقد خاب من دساها} أي دسسها أي أخملها ووضع منها بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله عز وجل, وقد يحتمل أن يكون المعنى قد أفلح من زكى الله نفسه, وقد خاب من دسى الله نفسه كما قال العوفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي وأبو زرعة قالا: حدثنا سهل بن عثمان, حدثنا أبو مالك يعني عمرو بن هشام عن جويبر, عن الضحاك عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قول الله عز وجل: {قد أفلح من زكاها} قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفلحت نفس زكاها الله عز وجل» ورواه ابن أبي حاتم من حديث مالك به, وجويبر هذا هو ابن سعيد متروك الحديث, والضحاك لم يلق ابن عباس, وقال الطبراني, حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح, حدثنا أبي, حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بهذه الاَية {ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها} وقف ثم قال: «اللهم آت نفسي تقواها, أنت وليها ومولاها, وخير من زكاها».
    (حديث آخر) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا يعقوب بن حميد المدني, حدثنا عبد الله الأموي, حدثنا معن بن محمد الغفاري عن حنظلة بن علي الأسلمي عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ «{فألهمها فجورها وتقواها}» قال «اللهم آت نفسي تقواها, وزكها أنت خير من زكاها, أنت وليها ومولاها» لم يخرجوه من هذا الوجه, وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن نافع عن ابن عمر عن صالح بن سعيد عن عائشة أنها فقدت النبي صلى الله عليه وسلم من مضجعه فلمسته بيدها فوقعت عليه وهو ساجد وهو يقول «رب أعط نفسي تقواها, وزكها أنت خير من زكاها, أنت وليها ومولاها» تفرد به.
    (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا عبد الواحد بن زياد, حدثنا عاصم الأحول عن عبد الله بن الحارث عن زيد بن أرقم, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل, والهرم والجبن والبخل وعذاب القبر. اللهم آت نفسي تقواها, وزكها أنت خير من زكاها, أنت وليها ومولاها. اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع, ومن نفس لا تشبع. وعلم لا ينفع ودعوة لا يستجاب لها» قال زيد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمناهن ونحن نعلمكموهن, رواه مسلم من حديث أبي معاوية عن عاصم الأحول, عن عبد الله بن الحارث وأبي عثمان النهدي عن زيد بن أرقم به.


    ** كَذّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ * إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ نَاقَةَ اللّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوّاهَا * وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا
    يخبر تعالى عن ثمود أنهم كذبوا رسولهم بسبب ما كانوا عليه من الطغيان والبغي, وقال محمد بن كعب: {بطغواها} أي بأجمعها, والأول أولى, قاله مجاهد وقتادة وغيرهما, فأعقبهم ذلك تكذيباً في قلوبهم بما جاءهم به رسولهم عليه الصلاة والسلام من الهدى واليقين {إذ انبعث أشقاها} أي أشقى القبيلة وهو قدار بن سالف عاقر الناقة, وهو أحيمر ثمود, وهو الذي قال الله تعالى: {فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر} الاَية. وكان هذا الرجل عزيزاً فيهم شريفاً في قومه نسيباً رئيساً مطاعاً, كما قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير, حدثنا هشام عن أبيه عن عبد الله بن زمعة قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الناقة وذكر الذي عقرها فقال: «إذ انبعث أشقاها انبعث لها رجل عارم عزيز منيع في رهطه مثل أبي زمعة» ورواه البخاري في التفسير ومسلم في صفة النار والترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما, وكذا ابن جرير وابن أبي حاتم عن هشام بن عروة به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا إبراهيم بن موسى, حدثنا عيسى بن يونس, حدثنا محمد بن إسحاق, حدثني يزيد بن محمد بن خثيم عن محمد بن كعب القرظي عن محمد بن خثيم أبي يزيد, عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: «ألا أحدثك بأشقى الناس ؟» قال: بلى. قال: «رجلان أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك يا علي على هذا ـ يعني قرنه ـ حتى تبتل منه هذه» يعني لحيته.
    وقوله تعالى: {فقال لهم رسول الله} يعني صالحاً عليه السلام {ناقة الله} أي احذروا ناقة الله أن تمسوها بسوء {وسقياها} أي لا تعتدوا عليها في سقياها فإن لها شرب يوم ولكم شرب يوم معلوم, قال الله تعالى: {فكذبوه فعقروها} أي كذبوه فيما جاءهم به فأعقبهم ذلك أن عقروا الناقة التي أخرجها الله من الصخرة آية لهم وحجة عليهم {فدمدم عليهم ربهم بذنبهم} أي غضب عليهم فدمر عليهم {فسواها} أي فجعل العقوبة نازلة عليهم على السواء قال قتادة: بلغنا أن أحيمر ثمود لم يعقر الناقة حتى بايعه صغيرهم وكبيرهم وأنثاهم, فلما اشترك القوم في عقرها دمدم الله عليهم بذنبهم فسواها. وقوله تعالى: {ولا يخاف} وقرىء فلا يخاف {عقباها} قال ابن عباس: لا يخاف الله من أحد تبعة, وكذا قال مجاهد والحسن وبكر بن عبد الله المزني وغيرهم, وقال الضحاك والسدي: {ولا يخاف عقباها} أي لم يخف الذي عقرها عاقبة ما صنع, والقول الأول أولى لدلالة السياق عليه والله أعلم. آخر تفسير سورة والشمس وضحاها, ولله الحمد والمنة.

    تمت سورة الشمس
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:21

    سورة الليل
    تقدم قوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ: «فهلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى, والشمس وضحاها, والليل إذا يغشى...».

    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** وَالْلّيْلِ إِذَا يَغْشَىَ * وَالنّهَارِ إِذَا تَجَلّىَ * وَمَا خَلَقَ الذّكَرَ وَالاُنثَىَ * إِنّ سَعْيَكُمْ لَشَتّىَ * فَأَمّا مَنْ أَعْطَىَ وَاتّقَىَ * وَصَدّقَ بِالْحُسْنَىَ * فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَىَ * وَأَمّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىَ * وَكَذّبَ بِالْحُسْنَىَ * فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَىَ * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدّىَ
    قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون, حدثنا شعبة عن المغيرة عن إبراهيم, عن علقة أنه قدم الشام, فدخل مسجد دمشق فصلى فيه ركعتين وقال: اللهم ارزقني جليساً صالحاً قال فجلس له أبو الدرداء فقال له أبو الدرداء: ممن أنت ؟ قال: من أهل الكوفة, قال: كيف سمعت ابن أم عبد يقرأ {والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى} قال علقمة: {والذكر والأنثى} فقال أبو الدرداء: لقد سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال هؤلاء حتى شككوني ثم قال ألم يكن فيكم صاحب الوساد وصاحب السر الذي لا يعلمه أحد غيره, والذي أجير من الشيطان على لسان محمد صلى الله عليه وسلم, وقد رواه البخاري ههنا ومسلم من طريق الأعمش عن إبراهيم قال قدم أصحاب عبد الله على أبي الدرداء فطلبهم فوجدهم فقال: أيكم يقرأ عليّ قراءة عبد الله ؟ قالوا كلنا, قال: أيكم أحفظ ؟ فأشاروا إلى علقمة فقال: كيف سمعته يقرأ {والليل إذا يغشى} ـ قال ـ {والذكر والأنثى} قال: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هكذا, وهؤلاء يريدون أن أقرأ {وما خلق الذكر والأنثى} والله لا أتابعهم, هذا لفظ البخاري. وهكذا قرأ ذلك ابن مسعود وأبو الدرداء ورفعه أبو الدرداء, وأما الجمهور فقرأوا ذلك كما هو المثبت في المصحف الإمام العثماني في سائر الاَفاق {وما خلق الذكر والأنثى} فأقسم تعالى بـ {الليل إذا يغشى} أي إذا غشى الخليقة بظلامه {والنهار إذا تجلى} أي بضيائه وإشراقه.
    {وما خلق الذكر والأنثى} كقوله تعالى: {وخلقناكم أزواجاً} وكقوله: {ومن كل شيء خلقنا زوجين} ولما كان القسم بهذه الأشياء المتضادة كان المقسم عليه أيضاً متضاداً, ولهذا قال تعالى: {إن سعيكم لشتى} أي أعمال العباد التي اكتسبوها متضادة أيضاً ومتخالفة فمن فاعل خيراً ومن فاعل شراً. قال الله تعالى: {فأما من أعطى واتقى} أي أعطى ما أمر بإخراجه واتقى الله في أموره {وصدق بالحسنى} أي بالمجازاة على ذلك قاله قتادة, وقال خصيف بالثواب, وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وأبو صالح وزيد بن أسلم {وصدق بالحسنى} أي بالخلف. وقال أبو عبد الرحمن السلمي والضحاك {وصدق بالحسنى} أي بلا إله إلا الله وفي رواية عن عكرمة {وصدق بالحسنى} أي بما أنعم الله عليه, وفي رواية عن زيد بن أسلم {وصدق بالحسنى} قال: الصلاة والزكاة والصوم وقال مرة وصدقة الفطر. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا صفوان بن صالح الدمشقي, حدثنا الوليد بن مسلم, حدثنا زهير بن محمد, حدثني من سمع أبا العالية الرياحي يحدث عن أبي بن كعب قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسنى قال: «الحسنى: الجنة».
    وقوله تعالى: {فسنيسره لليسرى} قال ابن عباس: يعني للخير, وقال زيد بن أسلم: يعني للجنة, وقال بعض السلف: من ثواب الحسنة الحسنة بعدها, ومن جزاء السيئة السيئة بعدها, ولهذا قال تعالى: {وأما من بخل} أي بما عنده {واستغنى} قال عكرمة عن ابن عباس: أي بخل بماله واستغنى عن ربه عز وجل. رواه ابن أبي حاتم {وكذب بالحسنى} أي بالجزاء في الدار الاَخرة {فسنيسره للعسرى} أي لطريق الشر كما قال تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون} والاَيات في هذا المعنى كثيرة دالة على أن الله عز وجل يجازي من قصد الخير بالتوفيق له, ومن قصد الشر بالخذلان, وكل ذلك بقدر مقدر والأحاديث الدالة على هذا المعنى كثيرة.
    (رواية أبي بكر الصديق رضي الله عنه) قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عياش, حدثني العطاف بن خالد, حدثني رجل من أهل البصرة عن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق عن أبيه قال: سمعت أبي يذكر أن أباه سمع أبا بكر وهو يقول: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أنعمل على ما فرغ منه أو على أمر مؤتنف ؟ قال «بل على أمر قد فرغ منه» قال: ففيم العمل يا رسول الله ؟ قال: «كل ميسر لما خلق له».
    (رواية علي رضي الله عنه) قال البخاري: حدثنا أبو نعيم, حدثنا سفيان عن الأعمش عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بقيع الغرقد في جنازة فقال: «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار» فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل ؟ فقال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» ثم قرأ {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى ـ إلى قوله ـ للعسرى} وكذا رواه من طريق شعبة ووكيع عن الأعمش بنحوه. ثم رواه عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن منصور عن سعيد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس, فجعل ينكت بمخصرته ثم قال: «ما منكم من أحد ـ أو ما من نفس منفوسة ـ إلا كتب مكانها من الجنة والنار وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة» فقال رجل: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل ؟ فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى أهل السعادة, ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير إلى أهل الشقاء ؟ فقال: «أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة, وأما أهل الشقاء فييسرون إلى عمل أهل الشقاء, ثم قرأ {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى} وقد أخرجه بقية الجماعة من طرق عن سعيد بن عبيدة به.
    (رواية عبد الله بن عمر) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن, حدثنا شعبة عن عاصم بن عبيد الله قال سمعت سالم بن عبد الله يحدث عن ابن عمر قال: قال عمر: يا رسول الله أرأيت ما نعمل فيه أفي أمر قد فرغ أو مبتدأ أو مبتدع ؟ قال: «فيما قد فرغ منه, فاعمل يا ابن الخطاب, فإن كلاً ميسر, أما من كان من أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة وأما من كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء, ورواه الترمذي في القدر عن بندار عن ابن مهدي به, وقال: حسن صحيح.
    (حديث آخر من رواية جابر) قال ابن جرير: حدثني يونس, أخبرنا ابن وهب, أخبرني عمرو بن الحارث عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أنه قال: يا رسول الله أنعمل لأمر قد فرغ منه أو لأمر نستأنفه ؟ فقال: «لأمر قد فرغ منه» فقال سراقة: ففيم العمل إذاً ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل عامل ميسر لعمله» ورواه مسلم عن أبي الظاهر عن ابن وهب به.
    (حديث آخر) قال ابن جرير: حدثني يونس, حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن طلق بن حبيب عن بشير بن كعب العدوي قال: سأل غلامان شابان النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله أنعمل فيما جفت الأقلام وجرت به المقادير أو في شيء يستأنف ؟ فقال: «بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير» قالا: ففيم العمل إذاً ؟ قال: «اعملوا فكل عامل ميسر لعمله الذي خلق له» قالا: فالاَن نجد ونعمل.
    (رواية أبي الدرداء) قال الإمام أحمد: حدثنا هشيم بن خارجة, حدثنا أبو الربيع سليمان بن عتبة السلمي عن يونس بن ميسرة بن حلبس عن أبي إدريس عن أبي الدرداء قال: قالوا يا رسول الله أرأيت ما نعمل أمر قد فرغ منه أم شيء نستأنفه ؟ قال «بل أمر قد فرغ منه» فقالوا: فكيف بالعمل يا رسول الله ؟ قال: «كل امرىء مهيأ لما خلق له» تفرد به أحمد من هذا الوجه.
    (حديث آخر) قال ابن جرير: حدثني الحسن بن سلمة بن أبي كبشة, حدثنا عبد الملك بن عمرو, حدثنا عباد بن راشد عن قتادة, حدثني خليد العصري عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم غربت فيه شمسه إلا وبجنبتيها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين: اللهم أعط منفقاً خلفاً وأعط ممسكاً تلفاً» وأنزل الله في ذلك القرآن {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى} ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن ابن أبي كبشة بإسناده مثله.
    (حديث آخر) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبد الله الطهراني, حدثنا حفص بن عمر العدني, حدثني الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلاً كان له نخيل, ومنها نخلة فرعها في دار رجل صالح فقير ذي عيال, فإذا جاء الرجل فدخل داره فيأخذ التمرة من نخلته فتسقط التمرة, فيأخذها صبيان الرجل الفقير, فينزل من نخلته فينزع التمرة من أيديهم, وإن أدخل أحدهم التمرة في فمه أدخل أصبعه في حلق الغلام ونزع الثمرة من حلقه, فشكا ذلك الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما هو فيه من صاحب النخلة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «اذهب» ولقي النبي صلى الله عليه وسلم صاحب النخلة فقال له: «أعطني نخلتك التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة» فقال له: لقد أعطيت ولكن يعجبني ثمرها وإن لي لنخلاً كثيراً ما فيها نخلة أعجب إلي ثمرة من ثمرها, فذهب النبي صلى الله عليه وسلم فتبعه رجل كان يسمع الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صاحب النخلة فقال الرجل: يا رسول الله إن أنا أخذت النخلة فصارت لي النخلة فأعطيتك إياها أتعطيني ما أعطيته بها نخلة في الجنة ؟ قال: «نعم».
    ثم إن الرجل لقي صاحب النخلة ولكلاهما نخل, فقال له: أخبرك أن محمداً أعطاني بنخلتي المائلة في دار فلان نخلة في الجنة, فقلت له قد أعطيت ولكن يعجبني ثمرها, فسكت عنه الرجل فقال له: أراك إذاً بعتها, قال لا إلا أن أعطى بها شيئاً ولا أظنني أعطاه, قال: وما مناك ؟ قال: أربعون نخلة, فقال الرجل: لقد جئت بأمر عظيم, نخلتك تطلب بها أربعين نخلة ؟ ثم سكتا وأنشآ في كلام آخر, ثم قال: أنا أعطيتك أربعين نخلة, فقال: أَشهِد لي إن كنت صادقاً, فأمر بأناس فدعاهم فقال: اشهدوا إني قد أعطيته من نخلي أربعين نخلة بنخلته التي فرعها في دار فلان بن فلان, ثم قال: ما تقول ؟ فقال صاحب النخلة: قد رضيت, ثم قال بعد ليس بيني وبينك بيع لم نفترق, فقال له: قد أقالك الله ولست بأحمق حين أعطيتك أربعين نخلة بنخلتك المائلة, فقال صاحب النخلة: قد رضيت على أن تعطيني الأربعين على ما أريد, قال: تعطينيها على ساق, ثم مكث ساعة ثم قال: هي لك على ساق, وأوقف له شهوداً وعد له أربعين نخلة على ساق, فتفرقا, فذهب الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن النخلة المائلة في دار فلان قد صارت لي فهي لك, فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرجل صاحب الدار فقال له «النخلة لك ولعيالك» قال عكرمة: قال ابن عباس فأنزل الله عز وجل: {والليل إذا يغشى ـ إلى قوله ـ فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى} إلى آخر السورة, هكذا رواه ابن أبي حاتم وهو حديث غريب جداً.
    قال ابن جرير: وذكر أن هذه الاَية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه: حدثنا هارون بن إدريس الأصم, حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي, حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه, عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: كان أبو بكر رضي الله عنه يعتق على الإسلام بمكة, فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن, فقال له أبوه: أي بني أراك تعتق أناساً ضعفاء فلو أنك تعتق رجالاً جلداء يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك, فقال: أي أبت إنما أريد ـ أظنه قال ـ ما عند الله, قال: فحدثني بعض أهل بيتي أن هذه الاَية أنزلت فيه {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى}. وقوله تعالى: {وما يغني عنه ماله إذا تردى} قال مجاهد: أي إذا مات وقال أبو صالح ومالك عن زيد بن أسلم: إذا تردى في النار.


    ** إِنّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىَ * وَإِنّ لَنَا لَلاَخِرَةَ وَالاُولَىَ * فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظّىَ * لاَ يَصْلاَهَآ إِلاّ الأشْقَى * الّذِي كَذّبَ وَتَوَلّىَ * وَسَيُجَنّبُهَا الأتْقَى * الّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكّىَ * وَمَا لأحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تُجْزَىَ * إِلاّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبّهِ الأعْلَىَ * وَلَسَوْفَ يَرْضَىَ
    قال قتادة: {إن علينا للهدى} أي نبين الحلال والحرام, وقال غيره: من سلك طريق الهدى وصل إلى الله وجعله كقوله تعالى: {وعلى الله قصد السبيل} حكاه ابن جرير, وقوله تعالى: {وإن لنا للاَخرة والأولى} أي الجميع ملكنا وأنا المتصرف فيهما وقوله تعالى: {فأنذرتكم ناراً تلظى} قال مجاهد: أي توهج. قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن سماك بن حرب, سمعت النعمان بن بشير يخطب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: «أنذرتكم النار» حتى لو أن رجلاً كان بالسوق لسمعه من مقامي هذا, قال: حتى وقعت خميصة كانت على عاتقه عند رجليه. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثني شعبة, حدثني أبو إسحاق, سمعت النعمان بن بشير يخطب ويقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة رجل توضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه». رواه البخاري.
    وقال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا أبو أسامة عن الأعمش عن أبي إسحاق عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهون أهل النار عذاباً من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل, ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً وإنه لأهونهم عذاباً». وقوله تعالى: {لا يصلاها إلا الأشقى} أي لا يدخلها دخولاً يحيط به من جميع جوانبه إلا الأشقى ثم فسره فقال: {الذي كذب} أي بقلبه {وتولى} أي عن العمل بجوارحه وأركانه.
    قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا عبد ربه بن سعيد عن المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل النار إلا شقي» قيل: ومن الشقي ؟ قال: «الذي لا يعمل بطاعة ولا يترك لله معصية».
    وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس وسريج قالا: حدثنا فليح عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي تدخل الجنة يوم القيامة إلا من أبى» قالوا: ومن يأبى يا رسول الله ؟ قال: «من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى» رواه البخاري عن محمد بن سنان عن فليح به.
    وقوله تعالى: {وسيجنبها الأتقى} أي وسيزحزح عن النار التقي النقي ثم فسره بقوله: {الذي يؤتي ماله يتزكى} أي يصرف ماله في طاعة ربه ليزكي نفسه وماله وما وهبه الله من دين ودنيا {وما لأحد عنده من نعمة تجزى} أي ليس بذله ماله في مكافأة من أسدى إليه معروفاً, فهو يعطي في مقابلة ذلك وإنما دفعه ذلك {ابتغاء وجه ربه الأعلى} أي طمعاً في أن يحصل له رؤيته في الدار الاَخرة في روضات الجنات قال الله تعالى{ولسوف يرضى} أي ولسوف يرضى من اتصف بهذه الصفات, وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الاَيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه, حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك, ولا شك أنه داخل فيها وأولى الأمة بعمومها فإن لفظها العموم, وهو قوله تعالى: {وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى} ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة, فإنه كان صديقاً تقياً كريماً جواداً بذالاً لأمواله في طاعة مولاه ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكم من دراهم ودنانير بذلها ابتغاء وجه ربه الكريم, ولم يكن لأحد من الناس عنده منة يحتاج إلى أن يكافئه بها, ولكن كان فضله وإحسانه على السادات والرؤساء من سائر القبائل, ولهذا قال له عروة بن مسعود وهو سيد ثقيف يوم صلح الحديبية: أما والله لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك, وكان الصديق قد أغلظ له في المقالة, فإن كان هذا حاله مع سادات العرب ورؤساء القبائل فكيف بمن عداهم, ولهذا قال تعالى: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى}. وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أنفق زوجين في سبيل الله دعته خزنة الجنة يا عبد الله هذا خير» فقال أبو بكر: يا رسول الله ما على من يدعى منها ضرورة فهل يدعى منها كلها أحد ؟ قال: «نعم وأرجو أن تكون منهم» , آخر تفسير سورة الليل ولله الحمد والمنة.

    تمت سورة الليل
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:21

    سورة الضحى
    روينا من طريق أبي الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بزة المقرىء قال: قرأت على عكرمة بن سليمان, وأخبرني أنه قرأ على إسماعيل بن قسطنطين وشبل بن عباد, فلما بلغت والضحى قالا لي: كبر حتى تختم مع خاتمة كل سورة فإنا قرأنا على ابن كثير فأمرنا بذلك وأخبرنا أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك. وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس فأمره بذلك, وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أبي بن كعب فأمره بذلك وأخبره أبي أنه قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بذلك, فهذه سنة تفرد بها أبوالحسن أحمد بن محمد بن عبد الله البزي من ولد القاسم بن أبي بزة, وكان إماماً في القراءات, فأما في الحديث فقد ضعفه أبو حاتم الرازي وقال: لا أحدث عنه, وكذلك أبو جعفر العقيلي قال: هو منكر الحديث, لكن حكى الشيخ شهاب الدين أبو شامة في شرح الشاطبية عن الشافعي أنه سمع رجلاً يكبر هذا التكبير في الصلاة فقال: أحسنت وأصبت السنة, وهذا يقتضي صحة هذا الحديث, ثم اختلف القراء في موضع هذا التكبير وكيفيته فقال بعضهم: يكبر من آخر والليل إذا يغشى, وقال آخرون: من آخر والضحى, وكيفية التكبير عند بعضهم أن يقول الله أكبر ويقتصر, ومنهم من يقول الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر. وذكر القراء في مناسبة التكبير من أول سورة الضحى أنه لما تأخر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتر تلك المدة ثم جاء الملك فأوحى إليه {والضحى والليل إذا سجى} السورة بتمامها كبر فرحاً وسروراً, ولم يرو ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف, فالله أعلم.
    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** وَالضّحَىَ * وَاللّيْلِ إِذَا سَجَىَ * مَا وَدّعَكَ رَبّكَ وَمَا قَلَىَ * وَلَلاَخِرَةُ خَيْرٌ لّكَ مِنَ الاُولَىَ * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبّكَ فَتَرْضَىَ * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىَ * وَوَجَدَكَ ضَآلاّ فَهَدَىَ * وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَىَ * فَأَمّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ * وَأَمّا السّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ * وَأَمّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ
    قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم, حدثنا سفيان عن الأسود بن قيس قال سمعت جندباً يقول: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين, فأتت امرأة فقالت يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك, فأنزل الله عز وجل: {والضحى والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى} رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير من طرق عن الأسود بن قيس عن جندب, هو ابن عبد الله البجلي, ثم العلقي به وفي رواية سفيان بن عيينة عن الأسود بن قيس سمع جندباً قال أبطأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المشركون ودع محمداً ربه, فأنزل الله تعالى: {والضحى والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج وعمرو بن عبد الله الأودي قالا حدثنا أبو أسامة حدثني سفيان, حدثني الأسود بن قيس أنه سمع جندباً يقول رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر في أصبعه فقال: «هل أنت إلا أصبع دميت, وفي سبيل الله ما لقيت ؟».
    قال فمكث ليلتين أو ثلاثاً لا يقوم, فقالت له امرأة ما أرى شيطانك إلا قد تركك فنزلت {والضحى والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى} والسياق لأبي سعيد, قيل: إن هذه المرأة هي أم جميل امرأة أبي لهب, وذكر أن أصبعه عليه السلام دميت, وقوله هذا الكلام الذي اتفق أنه موزون ثابت في الصحيحين ولكن الغريب ههنا جعله سبباً لتركه القيام ونزول هذه السورة. فأما ما رواه ابن جرير حدثنا ابن أبي الشوارب, حدثنا عبد الواحد بن زياد, حدثنا سليمان الشيباني عن عبد الله بن شداد أن خديجة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أرى ربك إلا قد قلاك, فأنزل الله {والضحى والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى} وقال أيضاً: حدثنا أبو كريب, حدثنا وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه قال أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فجزع جزعاً شديداً فقالت خديجة إني أرى ربك قد قلاك مما نرى من جزعك, قال فنزلت {والضحى والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى} إلى آخرها فإنه حديث مرسل من هذين الوجهين ولعل ذكر خديجة ليس محفوظاً أو قالته على وجه التأسف والحزن, والله أعلم.
    {وللاَخرة خير لك من الأولى} أي وللدار الاَخرة خير لك من هذه الدار, ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا وأعظمهم لها إطراحاً كما هو معلوم بالضرورة من سيرته, ولما خير عليه السلام في آخر عمره بين الخلد في الدنيا إلى آخرها ثم الجنة وبين الصيرورة إلى الله عز وجل, اختار ما عند الله على هذه الدنيا الدنية, قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, حدثنا المسعودي عن عمرو بن مرة عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن عبد الله هو ابن مسعود قال: اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فأثر في جنبه, فلما استيقظ جعلت أمسح جنبه وقلت: يا رسول الله ألا آذنتنا حتى نبسط لك على الحصير شيئاً ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مالي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظل تحت شجرة ثم راح وتركها» ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث المسعودي به وقال الترمذي حسن صحيح.
    وقوله تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} أي في الدار الاَخرة يعطيه حتى يرضيه في أمته, وفيما أعده له من الكرامة, ومن جملته نهر الكوثر الذي حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف وطينه مسك أذفر كما سيأتي, وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر المخزومي عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه قال: عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو مفتوح على أمته من بعده كنزاً كنزاً فسر بذلك, فأنزل الله {ولسوف يعطيك ربك فترضى} فأعطاه في الجنة ألف ألف قصر في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم, رواه ابن جرير من طريقه, وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس ومثل هذا ما يقال إلا عن توقيف, وقال السدي عن ابن عباس من رضاء محمد صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار, رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وقال الحسن: يعني بذلك الشفاعة, وهكذا قال أبو جعفر الباقر وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا معاوية بن هشام عن علي بن صالح عن يزيد بن أبي زياد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا أهل بيت اختار الله لنا الاَخرة على الدنيا, ولسوف يعطيك ربك فترضى».
    ثم قال تعالى يعدد نعمه على عبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه: {ألم يجدك يتيماً فآوى} وذلك أن أباه توفي وهو حمل في بطن أمه, وقيل بعد أن ولد عليه السلام ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب وله من العمر ست سنين, ثم كان في كفالة جده عبد المطلب إلى أن توفي وله من العمر ثمان سنين, فكفله عمه أبو طالب, ثم لم يزل يحوطه وينصره ويرفع من قدره ويوقره ويكف عنه أذى قومه بعد أن ابتعثه الله على رأس أربعين سنة من عمره, هذا وأبو طالب على دين قومه من عبادة الأوثان, وكل ذلك بقدر الله وحسن تدبيره إلى أن توفي أبو طالب قبل الهجرة بقليل, فأقدم عليه سفهاء قريش وجهالهم فاختار الله له الهجرة من بين أظهرهم إلى بلد الأنصار من الأوس والخزرج, كما أجرى الله سنته على الوجه الأتم الأكمل, فلما وصل إليهم آووه ونصروه وحاطوه وقاتلوا بين يديه رضي الله عنهم أجمعين, وكل هذا من حفظ الله له وكلاءته وعنايته به.
    وقوله تعالى: {ووجدك ضالاً فهدى} كقوله: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا} الاَية. ومنهم من قال إن المراد بهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم ضل في شعاب مكة وهو صغير ثم رجع, وقيل إنه ضل وهو مع عمه في طريق الشام, وكان راكباً ناقة في الليل, فجاء إبليس فعدل بها عن الطريق, فجاء جبريل فنفخ إبليس نفخة ذهب منها إلى الحبشة, ثم عدل بالراحلة إلى الطريق حكاهما البغوي, وقوله تعالى: {ووجدك عائلاً فأغنى} أي كنت فقيراً ذا عيال فأغناك الله عمن سواه فجمع له بين مقامي الفقير الصابر والغني الشاكر صلوات الله وسلامه عليه. وقال قتادة في قوله: {ألم يجدك يتيماً فآوى, ووجدك ضالاً فهدى, ووجدك عائلاً فأغنى} قال: كانت هذه منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعثه الله عز وجل. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وفي الصحيحين من طريق عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العَرَض ولكن الغنى غنى النفس» وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه».
    ثم قال تعالى: {فأما اليتيم فلا تقهر} أي كما كنت يتيماً فآواك الله فلا تقهر اليتيم أي لا تذله وتنهره وتهنه ولكن أحسن إليه وتلطف به, قال قتادة: كن لليتيم كالأب الرحيم {وأما السائل فلا تنهر} أي وكما كنت ضالا فهداك الله فلا تنهر السائل في العلم المسترشد قال ابن إسحاق: {وأما السائل فلا تنهر} أي وكما كنت ضالاً فهداك الله فلا تنهر السائل في العلم المسترشد. قال ابن إسحاق {وأما السائل فلا تنهر} أي فلا تكن جباراً ولا متكبراً ولا فحاشاً ولافظاً على الضعفاء من عباد الله, وقال قتادة يعني رد المسكين برحمة ولين {وأما بنعمة ربك فحدث} أي وكما كنت عائلاً فقيراً فأغناك الله فحدث بنعمة الله عليك كما جاء في الدعاء المأثور النبوي: «واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها عليك قابليها وأتمها علينا» وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب, حدثنا ابن علية, حدثنا سعيد بن إياس الجريري عن أبي نضرة قال: كان المسلمون يرون أن من شكر النعم أن يحدث بها.
    وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا منصور بن أبي مزاحم, حدثنا الجراح بن مليح عن أبي عبد الرحمن عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر: «من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير, ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله, والتحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر, والجماعة رحمة والفرقة عذاب» وإسناده ضعيف وفي الصحيحين عن أنس أن المهاجرين قالوا يا رسول الله ذهب الأنصار بالأجر كله, قال: «لاما دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم». وقال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم, حدثنا الربيع بن مسلم عن محمد بن زياد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس» ورواه الترمذي عن أحمد بن محمد عن ابن المبارك عن الربيع بن مسلم وقال صحيح.
    وقال أبو داود: حدثنا عبد الله بن الجراح, حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أبلى بلاء فذكره فقد شكره, ومن كتمه فقد كفره» تفرد به أبو داود. وقال أبو داود: حدثنا مسدد, حدثنا بشر, حدثنا عمارة بن غزية, حدثني رجل من قومي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أعطي عطاء فوجد فليجز به, فإن لم يجد فليثن به فمن أثنى به فقد شكره ومن كتمه فقد كفره» قال أبو داود: ورواه يحيى بن أيوب عن عمارة بن غزية عن شرحبيل عن جابر كرهوه فلم يسموه, تفرد به أبو داود, وقال مجاهد: يعني النبوة التي أعطاك ربك وفي رواية عنه القرآن, وقال ليث عن رجل عن الحسن بن علي {وأما بنعمة ربك فحدث} قال: ما عملت من خير فحدث إخوانك, وقال محمد بن إسحاق, ما جاءك من الله من نعمة وكرامة من النبوة فحدث بها واذكرها وادع إليها, قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ما أنعم به عليه من النبوة سراً إلى من يطمئن إليه من أهله, وافترضت عليه الصلاة فصلى.

    تمت سورة الضحى
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:21

    تفسير سورة الشرح
    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
    ** أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الّذِيَ أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَىَ رَبّكَ فَارْغَبْ
    يقول تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} يعني أما شرحنا لك صدرك أي نورناه وجعلناه فسيحاً رحيباً واسعاً كقوله: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} وكما شرح الله صدره كذلك جعل شرعه فسيحاً واسعاً سمحاً سهلاً لا حرج فيه ولا إصر ولا ضيق وقيل: المراد بقوله: {ألم نشرح لك صدرك} شرح صدره ليلة الإسراء كما تقدم من رواية مالك بن صعصعة, وقد أورده الترمذي ههنا, وهذا وإن كان واقعاً ليلة الإسراء كما رواه مالك بن صعصعة, ولكن لا منافاة فإن من جملة شرح صدره الذي فعل بصدره ليلة الإسراء وما نشأ عنه من الشرح المعنوي أيضاً, فالله أعلم.
    قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى البزاز, حدثنا يونس بن محمد, حدثنا معاذ بن محمد بن معاذ بن محمد بن أبي بن كعب, حدثني أبو محمد بن معاذ عن معاذ عن محمد عن أبي بن كعب أن أبا هريرة كان جريئاً على أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء لا يسأله عنها غيره فقال: يا رسول الله ما أول ما رأيت من أمر النبوة ؟ فاستوى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً وقال «لقد سألت يا أبا هريرة, إني لفي الصحراء ابن عشر سنين وأشهر وإذا بكلام فوق رأسي وإذا رجل يقول لرجل أهو هو ؟ قال نعم فاستقبلاني بوجوه لم أرها قط وأرواح لم أجدها من خلق قط, وثياب لم أرها على أحد قط فأقبلا إلي يمشيان حتى أخذ كل واحد منهما بعضدي لا أجد لأحدهما مساً, فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه فأضجعاني بلا قصر ولا هصر, فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره فهوى أحدهما إلى صدري ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع, فقال له: أخرج الغل والحسد, فأخرج شيئاً كهيئة العلقة ثم نبذها فطرحها, فقال له أدخل الرأفة والرحمة فإذا مثل الذي أخرج شبه الفضة ثم هز إبهام رجلي اليمنى فقال: أغد واسلم, فرجعت بها أعدو رقة على الصغير ورحمة للكبير».
    وقوله تعالى: {ووضعنا عنك وزرك} بمعنى {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} {الذي أنقض ظهرك} الإنقاض الصوت, وقال غير واحد من السلف في قوله: {الذي أنقض ظهرك} أي أثقلك حمله, وقوله تعالى: {ورفعنا لك ذكرك} قال مجاهد: لا أذكر إلا ذكرت معي أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله, وقال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والاَخرة فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وقال ابن جرير: حدثني يونس, أخبرنا ابن وهب, أخبرنا عمرو بن الحارث عن دراج, عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أتاني جبريل فقال: إن ربي وربك يقول كيف رفعت ذكرك ؟ قال: الله أعلم, قال: إذا ذكرت ذكرت معي» وكذا رواه ابن أبي حاتم عن يونس عن عبد الأعلى به. ورواه أبو يعلى من طريق ابن لهيعة عن دراج. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا أبو عمر الحوضي, حدثنا حماد بن زيد, حدثنا عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سألت ربي مسألة وددت أني لم أسأله, قلت قد كان قبلي أنبياء منهم من سخرت له الريح ومنهم من يحيي الموتى, قال: يا محمد ألم أجدك يتيماً فآويتك ؟ قلت: بلى يا رب, قال: ألم أجدك ضالاً فهديتك ؟ قلت: بلى يا رب, قال: ألم أجدك عائلاً فأغنيتك ؟ قلت: بلى يا رب, قال ألم أشرح لك صدرك ؟ ألم أرفع لك ذكرك ؟ قلت: بلى يا رب» وقال أبو نعيم في دلائل النبوة: حدثنا أبو أحمد الغطريفي, حدثنا موسى بن سهل الجويني, حدثنا أحمد بن القاسم بن بهزان الهيتي: حدثنا نصر بن حماد عن عثمان بن عطاء عن الزهري عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما فرغت مما أمرني الله به من أمر السموات والأرض قلت يا رب إنه لم يكن نبي قبلي إلا وقد كرمته جعلت إبراهيم خليلاً وموسى كليماً, وسخرت لداود الجبال, ولسليمان الريح والشياطين, وأحييت لعيسى الموتى فما جعلت لي ؟ قال أو ليس قد أعطيتك أفضل من ذلك كله أني لا أذكر إلا ذكرت معي وجعلت صدور أمتك أناجيل يقرؤون القرآن ظاهراً ولم أعطها أمة, وأعطيتك كنزاً من كنوز عرشي لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» وحكى البغوي عن ابن عباس ومجاهد أن المراد بذلك الأذان يعني ذكره فيه وأورد من شعر حسان بن ثابت:
    أغر عليه للنبوة خاتممن الله من نور يلوح ويشهدوضم الإله اسم النبي إلى اسمهإذا قال في الخمس المؤذن أشهدوشق له من اسمه ليجلهفذو العرش محمود وهذا محمد
    وقال آخرون: رفع الله ذكره في الأولين والاَخرين ونوه به حين أخذ الميثاق على جميع النبيين أن يؤمنوا به, وأن يأمروا أممهم بالإيمان به, ثم شهد ذكره في أمته فلا يذكر الله إلا ذكر معه, وما أحسن ما قال الصرصري رحمه الله:
    لا يصح الأذان في الفرض إلاباسمه العذب في الفم المرضي
    وقال أيضاً:
    ألم تر أنا لا يصح أذانناولا فرضنا إن لم نكرره فيهما
    وقوله تعالى: {فإن مع العسر يسراً * إن مع العسر يسراً} أخبر تعالى أن مع العسر يوجد اليسر ثم أكد هذا الخبر. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا محمود بن غيلان, حدثنا حميد بن حماد بن أبي خوار أبو الجهم, حدثنا عائذ بن شريح قال: سمعت أنس بن مالك يقول كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً وحياله حجر, فقال: لو جاء العسر فدخل هذا الحجر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه» فأنزل الله عز وجل: {فإن مع العسر يسراً * إن مع العسر يسراً} ورواه أبو بكر البزار في مسنده عن محمد بن معمر, عن حميد بن حماد ولفظه: «لو جاء العسر حتى يدخل هذا الحجر لجاء اليسر حتى يخرجه» ثم قال: {فإن مع العسر يسراً} ثم قال البزار: لا نعلم رواه عن أنس إلا عائذ بن شريح.
    (قلت) وقد قال فيه أبو حاتم الرازي: في حديثه ضعف, ولكن رواه شعبة عن معاوية بن قرة عن رجل عن عبد الله بن مسعود موقوفاً. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح, حدثنا أبو قطن, حدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال: كانوا يقولون لا يغلب عسر واحد يسرين اثنين.
    وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى, حدثنا ابن ثور عن معمر عن الحسن, قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً مسروراً فرحاً وهو يضحك وهو يقول: «لن يغلب عسر يسرين, لن يغلب عسر يسرين, فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً» وكذا رواه من حديث عوف الأعرابي ويونس بن عبيد عن الحسن مرسلاً. وقال سعيد عن قتادة: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر أصحابه بهذه الاَية فقال: «لن يغلب عسر يسرين» ومعنى هذا أن العسر معرّف في الحالتين فهو مفرد واليسر منكر, فتعدد ولهذا قال: «لن يغلب عسر يسرين» يعني قوله: {فإن مع العسر يسراً * إن مع العسر يسراً} فالعسر الأول عين الثاني واليسر تعدد. وقال الحسن بن سفيان: حدثنا يزيد بن صالح, حدثنا خارجة عن عباد بن كثير عن أبي الزناد عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نزلت المعونة من السماء على قدر المؤونة, ونزل الصبر على قدر المصيبة» ومما يروى عن الشافعي أنه قال:
    صبراً جميلاً ما أقرب الفرجامن راقب الله في الأمور نجامن صدق الله لم ينله أذىومن رجاه يكون حيث رجا
    وقال ابن دريد: أنشدني أبو حاتم السجستاني:
    إذا اشتملت على اليأس القلوبوضاق لما به الصدر الرحيبوأوطأت المكاره واطمأنتوأرست في أماكنها الخطوبولم تر لانكشاف الضر وجهاولا أغنى بحيلته الأريبأتاك على قنوط منك غوثيمن به اللطيف المستجيبوكل الحادثات إذا تناهتفموصول بها الفرج القريب
    وقال آخر:
    ولرب نازلة يضيق بها الفتىذرعاً وعند الله منها المخرجكملت فلما استحكمت حلقاتهافرجت وكان يظنها لا تفرج
    وقوله تعالى: {فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب} أي إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها فانصب إلى العبادة وقم إليها نشيطاً فارغ البال وأخلص لربك النية والرغبة, ومن هذا القبيل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: «لا صلاة بحضرة الطعام ولا وهو يدافعه الأخبثان» وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدأوا بالعشاء» قال مجاهد في هذه الاَية: إذا فرغت من أمر الدنيا فقمت إلى الصلاة فانصب لربك, وفي رواية عنه: إذا قمت إلى الصلاة فانصب في حاجتك, وعن ابن مسعود: إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل, وعن ابن عياض نحوه, وفي رواية عن ابن مسعود: {فانصب * وإلى ربك فارغب} بعد فراغك من الصلاة وأنت جالس. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: فإذا فرغت فانصب, يعني في الدعاء, وقال زيد بن أسلم والضحاك: {فإذا فرغت} أي من الجهاد {فانصب} أي في العبادة {وإلى ربك فارغب} وقال الثوري: اجعل نيتك ورغبتك إلى الله عز وجل. آخر تفسير سورة ألم نشرح, ولله الحمد والمنة.

    تمت سورة الشرح
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:22

    سورة التين
    قال مالك وشعبة عن عدي بن ثابت, عن البراء بن عازب: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في سفره في إحدى الركعتين بالتين والزيتون فما سمعت أحداً أحسن صوتاً أو قراءة منه, أخرجه الجماعة في كتبهم.
    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** وَالتّينِ وَالزّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَـَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِيَ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بِالدّينِ * أَلَيْسَ اللّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ
    اختلف المفسرون ههنا على أقوال كثيرة فقيل المراد بالتين مسجد دمشق, وقيل: هي نفسها, وقيل الجبل الذي عندها, وقال القرطبي: هو مسجد أصحاب الكهف, وروى العوفي عن ابن عباس أنه مسجد نوح الذي على الجودي, وقال مجاهد: هو تينكم هذا {والزيتون} قال كعب الأحبار وقتادة وابن زيد وغيرهم: هو مسجد بيت المقدس. وقال مجاهد وعكرمة: هو هذا الزيتون الذي تعصرون {وطور سينين} قال كعب الأحبار وغير واحد: هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام, {وهذا البلد الأمين} يعني مكة, قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وإبراهيم النخعي وابن زيد وكعب الأحبار ولا خلاف في ذلك, وقال بعض الأئمة: هذه محال ثلاثة بعث الله في كل واحد منها نبياً مرسلاً من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار:
    (فالأول) محلة التين والزيتون وهي بيت المقدس التي بعث الله فيها عيسى ابن مريم عليه السلام. (والثاني) طور سينين, وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى بن عمران. (والثالث) مكة, وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمناً, وهو الذي أرسل فيه محمداً صلى الله عليه وسلم, قالوا: وفي آخر التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة: جاء الله من طور سيناء ـ يعني الذي كلم الله عليه موسى بن عمران ـ وأشرق من ساعير ـ يعني جبل بيت المقدس الذي بعث الله منه عيسى ـ واستعلن من جبال فاران ـ يعني جبال مكة التي أرسل الله منها محمداً صلى الله عليه وسلم فذكرهم مخبراً عنهم على الترتيب الوجودي بحسب ترتيبهم في الزمان, ولهذا أقسم بالأشرف ثم الأشرف منه ثم بالأشرف منهما.
    وقوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} هذا هو المقسم عليه, وهو أنه تعالى خلق الإنسان في أحسن صورة وشكل منتصب القامة سوي الأعضاء حسنها {ثم رددناه أسفل سافلين} أي إلى النار, قاله مجاهد وأبو العالية والحسن وابن زيد وغيرهم, ثم بعد هذا الحسن والنضارة مصيرهم إلى النار إن لم يطع الله ويتبع الرسل لهذا قال: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وقال بعضهم {ثم رددناه أسفل سافلين} أي إلى أرذل العمر, وروي هذا عن ابن عباس وعكرمة حتى قال عكرمة: من جمع القرآن لم يرد إلى أرذل العمر, واختار ذلك ابن جرير, ولو كان هذا هو المراد لما حسن استثناء المؤمنين من ذلك لأن الهرم قد يصيب بعضهم, وإنما المراد ما ذكرناه كقوله تعالى: {والعصر إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وقوله: {فلهم أجر غير ممنون} أي غير مقطوع كما تقدم.
    ثم قال: {فما يكذبك} أي يا ابن آدم {بعد بالدين} أي بالجزاء في المعاد, ولقد علمت البداءة وعرفت أن من قدر على البداءة فهو قادر على الرجعة بطريق الأولى, فأي شيء يحملك على التكذيب بالمعاد وقد عرفت هذا ؟ قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن منصور قال: قلت لمجاهد {فما يكذبك بعد بالدين} عنى به النبي صلى الله عليه وسلم قال: معاذ الله, عنى به الإنسان وهكذا قال عكرمة وغيره. وقوله تعالى: {أليس الله بأحكم الحاكمين} أي أما هو أحكم الحاكمين الذي لا يجور ولا يظلم أحداً, ومن عدله أن يقيم القيامة فينتصف للمظلوم في الدنيا ممن ظلمه. وقد قدمنا في حديث أبي هريرة مرفوعاً «فإذا قرأ أحدكم والتين والزيتون فأتى على آخرها {أليس الله بأحكم الحاكمين} فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين» آخر تفسير سورة التين والزيتون ولله الحمد والمنة.

    تمت سورة التين
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:22

    سورة العلق
    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
    ** اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبّكَ الأكْرَمُ * الّذِى عَلّمَ بِالْقَلَمِ * عَلّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ
    قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم, فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح, ثم حبب إليه الخلاء فكان يأتي حراء فيتحنث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك, ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فاجأه الوحي وهو في غار حراء فجاءه الملك فيه فقال اقرأ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقلت ما أنا بقارىء ـ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ, فقلت: ما أنا بقارىء, فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ, فقلت ما أنا بقارىء, فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال {اقرأ باسم ربك الذي خلق ـ حتى بلغ ـ ما لم يعلم} قال: فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال: «زمّلوني زملوني» فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال: «يا خديجة مالي ؟» وأخبرها الخبر وقال: «قد خشيت على نفسي».
    فقالت له: كلا أبشر فو الله لا يخزيك الله أبداً, إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكَلّ وتقري الضيف, وتعين على نوائب الحق, ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي وهو ابن عم خديجة أخي أبيها, وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العربي, وكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب, وكان شيخاً كبيراً قد عمي فقالت خديجة: أي ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال ورقة: ابن أخي ما ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رأى فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى, ليتني فيها جذعاً ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو مخرجي هم ؟» فقال ورقة: نعم لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.
    ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا, حزناً غدا منه مراراً كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال, فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقاً, فيسكن بذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع, فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري, وقد تكلمنا على هذا الحديث من جهة سنده ومتنه ومعانيه في أول شرحنا للبخاري مستقصى, فمن أراده فهو هناك محرر ولله الحمد والمنة, فأول شيء نزل من القرآن هذه الاَيات الكريمات المباركات, وهن أول رحمة رحم الله بها العباد)وأول نعمة أنعم الله بها عليهم, وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة, وأن من كرمه تعالى أن علم الإنسان مالم يعلم, فشرفه وكرمه بالعلم وهو القدر الذي امتاز به أبو البشرية آدم على الملائكة, والعلم تارة يكون في الأذهان, وتارة يكون في اللسان, وتارة يكون في الكتابة بالبنان ذهني ولفظي ورسمي والرسمي يستلزمهما من غير عكس, فلهذا قال: {اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم * علم الإنسان مالم يعلم} وفي الأثر: قيدوا العلم بالكتابة, وفيه أيضاً: من عمل بما علم ورثه الله علم مالم يكن يعلم.


    ** كَلاّ إِنّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىَ * أَن رّآهُ اسْتَغْنَىَ * إِنّ إِلَىَ رَبّكَ الرّجْعَىَ * أَرَأَيْتَ الّذِي يَنْهَىَ * عَبْداً إِذَا صَلّىَ * أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَىَ الْهُدَىَ * أَوْ أَمَرَ بِالتّقْوَىَ * أَرَأَيْتَ إِن كَذّبَ وَتَوَلّىَ * أَلَمْ يَعْلَم بِأَنّ اللّهَ يَرَىَ * كَلاّ لَئِن لّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُو الزّبَانِيَةَ * كَلاّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب
    يخبر تعالى عن الإنسان أنه ذو فرح وأشر وبطر وطغيان إذا رأى نفسه قد استغنى وكثر ماله, ثم تهدده وتوعده ووعظه فقال: {إن إلى ربك الرجعى} أي إلى الله المصير والمرجع وسيحاسبك على مالك من أين جمعته وفيم صرفته. قال ابن أبي حاتم: حدثنا زيد بن إسماعيل الصائغ, حدثنا جعفر بن عون حدثنا أبو عميس عن عون قال: قال عبد الله: منهومان لا يشبعان صاحب العلم وصاحب الدنيا ولا يستويان, فأما صاحب العلم فيزداد رضى الرحمن وأما صاحب الدنيا فيتمادى في الطغيان قال ثم قرأ عبد الله {إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى} وقال للاَخر {إنما يخشى الله من عباده العلماء} وقد روي هذا مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم «منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا».
    ثم قال تعالى: {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى} نزلت في أبي جهل لعنه الله, توعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصلاة عند البيت فوعظه تعالى بالتي هي أحسن أولاً فقال: {أرأيت إن كان على الهدى} أي فما ظنك إن كان هذا الذي تنهاه على الطريق المستقيمة في فعله أو أمر بالتقوى وأنت تزجره وتتوعده على صلاته, ولهذا قال: {ألم يعلم بأن الله يرى ؟} أي أما علم هذا الناهي لهذا المهتدي أن الله يراه ويسمع كلامه. وسيجازيه على فعله أتم الجزاء. ثم قال تعالى متوعداً ومتهدداً: {كلا لئن لم ينته} أي لئن لم يرجع عما هو فيه من الشقاق والعناد {لنسفعاً بالناصية} أي لنسمنها سواداً يوم القيامة ثم قال: {ناصية كاذبة خاطئة} يعني ناصية أبي جهل كاذبة في مقالها خاطئة في أفعالها {فليدع ناديه} أي قومه وعشيرته أي ليدعهم يستنصر بهم {سندع الزبانية} وهم ملائكة العذاب حتى يعلم من يغلب أحزبنا أو حزبه ؟.
    قال البخاري: حدثنا يحيى حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال أبو جهل لئن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه, فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لئن فعل لأخذته الملائكة» ثم قال تابعه عمرو بن خالد عن عبيد الله يعني ابن عمرو عن عبد الكريم. وكذا رواه الترمذي والنسائي في تفسيرهما من طريق عبد الرزاق به. وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن زكريا بن عدي عن عبيد الله بن عمرو به, وروى أحمد والترمذي والنسائي وابن جرير وهذا لفظه من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام فمر به أبو جهل بن هشام, فقال يا محمد ألم أنهك عن هذا ؟ وتوعده فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهره, فقال يا محمد بأي شيء تهددني ؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادي نادياً فأنزل الله {فليدع ناديه * سندع الزبانية} وقال ابن عباس: لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته. وقال الترمذي: حسن صحيح.
    وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا إسماعيل بن يزيد أبو يزيد, حدثنا فرات عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال أبو جهل لئن رأيت رسول الله يصلي عند الكعبة لاَتينه حتى أطأ على عنقه قال: فقال: «لو فعل لأخذته الملائكة عياناً, ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار, ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالاً ولا أهلاً» وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا ابن حميد, حدثنا يحيى بن واضح, أخبرنا يونس بن أبي إسحاق عن الوليد بن العيزار عن ابن عباس قال: قال أبو جهل لئن عاد محمد يصلي عند المقام لأقتلنه, فأنزل الله عز وجل {اقرأ باسم ربك الذي خلق} حتى بلغ هذه الاَية {لنسفعاً بالناصية, ناصية كاذبة خاطئة, فليدع ناديه, سندع الزبانية} فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فصلى, فقيل: ما يمنعك ؟ قال: قد اسود ما بيني وبينه من الكتائب, قال ابن عباس: والله لو تحرك لأخذته الملائكة والناس ينظرون إليه.
    وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى, حدثنا المعتمر عن أبيه, حدثنا نعيم بن أبي هند عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم ؟ قالوا: نعم, قال: فقال واللات والعزى لئن رأيته يصلي كذلك لأطأن على رقبته, ولأعفرن وجهه في التراب, فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته, قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه, قال فقيل له: مالك ؟ فقال: إن بيني وبينه خندقاً من نار, وهولاً وأجنحة قال: فقال رسول الله: «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً» قال: وأنزل الله لا أدري في حديث أبي هريرة أم لا {كلا إن الإنسان ليطغى} إلى آخر السورة, وقد رواه أحمد بن حنبل ومسلم والنسائي وابن أبي حاتم من حديث معتمر بن سليمان به.
    وقوله تعالى: {كلا لا تطعه} يعني يا محمد لا تطعه فيما ينهاك عنه من المداومة على العبادة وكثرتها, وصل حيث شئت, ولا تباله فإن الله حافظك وناصرك وهو يعصمك من الناس {واسجد واقترب} كما ثبت في الصحيح عند مسلم من طريق عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن عمارة بن غزية, عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء» وتقدم أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسجد في {إذا السماء انشقت} و {اقرأ باسم ربك الذي خلق} آخر تفسير سورة اقرأ, ولله الحمد والمنة, وبه التوفيق والعصمة.

    تمت سورة العلق
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:23

    سورة القدر
    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

    ** إِنّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ * سَلاَمٌ هِيَ حَتّىَ مَطْلَعِ الْفَجْرِ
    يخبر تعالى أنه أنزل القرآن ليلة القدر, وهي الليلة المباركة التي قال الله عز وجل {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} قال ابن عباس وغيره: أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا, ثم نزل مفصلاً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قال تعالى معظماً لشأن ليلة القدر التي اختصها بإنزال القرآن العظيم فيها فقال: {وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر}.
    قال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الاَية: حدثنا محمود بن غيلان, حدثنا أبو داود الطيالسي, حدثنا القاسم بن الفضل الحداني عن يوسف بن سعد قال: قام رجل إلى الحسن بن علي بعدما بايع معاوية فقال: سودت وجوه المؤمنين, أو يا مسود وجوه المؤمنين, فقال: لا تؤنبني رحمك الله, فإن النبي صلى الله عليه وسلم أري بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت {إنا أعطيناك الكوثر} يا محمد, يعني نهراً في الجنة ونزلت {إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر} يملكها بعدك بنو أمية يا محمد, قال القاسم: فعددنا فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوماً ولا تنقص. ثم قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث القاسم بن الفضل, وقد قيل عن القاسم بن الفضل عن يوسف بن مازن والقاسم بن الفضل الحداني هو ثقة وثقه يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي قال: وشيخه يوسف بن سعد, ويقال يوسف بن مازن رجل مجهول ولا يعرف هذا الحديث على هذا اللفظ إلا من هذا الوجه.
    وقد روى هذا الحديث الحاكم في مستدركه من طريق القاسم بن الفضل عن يوسف بن مازن به, وقول الترمذي: إن يوسف هذا مجهول فيه نظر, فإنه قد روى عنه جماعة, منهم حماد بن سلمة وخالد الحذاء و يونس بن عبيد, وقال فيه يحيى بن معين: هو مشهور, وفي رواية عن ابن معين قال: هو ثقة. ورواه ابن جرير من طريق القاسم بن الفضل عن يوسف بن مازن كذا قال وهذا يقتضي اضطراباً في هذا الحديث والله أعلم, ثم هذا الحديث على كل تقدير منكر جداً, قال شيخنا الإمام الحافظ الحجة أبو الحجاج المزي: هو حديث منكر.
    (قلت) وقول القاسم بن الفضل الحداني إنه حسب مدة بني أمية فوجدها ألف شهر لا تزيد يوماً ولا تنقص ليس بصحيح, فإن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه استقل بالملك حين سلم إليه الحسن بن علي الإمرة سنة أربعين, واجتمعت البيعة لمعاوية وسمي ذلك عام الجماعة ثم استمروا فيها متتابعين بالشام وغيرها لم تخرج عنهم إلا مدة دولة عبد الله بن الزبير في الحرمين, والأهواز وبعض البلاد قريباً من تسع سنين, لكن لم تزل يدهم عن الإمرة بالكلية, بل عن بعض البلاد إلى أن استلبهم بنو العباس الخلافة في سنة اثنتين وثلاثين ومائة, فيكون مجموع مدتهم اثنتين وتسعين سنة وذلك أزيد من ألف شهر, فإن الألف شهر عبارة عن ثلاثة وثمانين سنة وأربعة أشهر, وكأن القاسم بن الفضل أسقط من مدتهم أيام ابن الزبير وعلى هذا فيقارب ما قاله الصحة في الحساب والله أعلم.
    ومما يدل على ضعف هذا الحديث أنه سيق لذم دولة بني أمية, ولو أريد ذلك لم يكن بهذا السياق, فإن تفضيل ليلة القدر على أيامهم لا يدل على ذم أيامهم, فإن ليلة القدر شريفة جداً والسورة الكريمة إنما جاءت لمدح ليلة القدر, فكيف تمدح بتفضيلها على أيام بني أمية التي هي مذمومة بمقتضى هذا الحديث, وهل هذا إلا كما قال القائل:
    ألم تر أن السيف ينقص قدرهإذا قيل إن السيف أمضى من العصا
    وقال آخر:
    إذا أنت فضلت امرأ ذا براعةعلى ناقص كان المديح من النقص
    ثم الذي يفهم من الاَية أن الألف شهر المذكورة في الاَية هي أيام بني أمية والسورة مكية, فكيف يحال على ألف شهر هي دولة بني أمية, ولا يدل عليها لفظ الاَية ولا معناها, والمنبر إنما صنع بالمدينة بعد مدة من الهجرة فهذا كله مما يدل على ضعف الحديث ونكارته والله أعلم وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا إبراهيم بن موسى, أخبرنا مسلم يعني ابن خالد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم, ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر قال: فعجب المسلمون من ذلك قال: فأنزل الله عز وجل {إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر} التي لبس ذلك الرجل السلاح في سبيل الله ألف شهر.
    وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا حكام بن مسلم عن المثنى بن الصباح, عن مجاهد قال: كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ثم يجاهد العدو بالنهار حتى يمسي, ففعل ذلك ألف شهر, فأنزل الله هذه الاَية {ليلة القدر خير من ألف شهر} قيام تلك الليلة خير من عمل ذلك الرجل. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا يونس أخبرنا ابن وهب, حدثني مسلمة بن علي عن علي بن عروة قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله ثمانين عاماً, لم يعصوه طرفة عين فذكر أيوب وزكريا وحزقيل بن العجوز ويوشع بن نون, قال: فعجب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك فأتاه جبريل فقال: يا محمد عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوه طرفة عين, فقد أنزل الله خيراً من ذلك فقرأ عليه {إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ماليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر} هذا أفضل مما عجبت أنت وأمتك, قال: فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه.
    وقال سفيان الثوري: بلغني عن مجاهد ليلة القدر خير من ألف شهر قال: عملها وصيامها وقيامها خير من ألف شهر, رواه ابن جرير وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا إبراهيم بن موسى, أخبرنا ابن أبي زائدة عن ابن جريج عن مجاهد: ليلة القدر خير من ألف شهر ليس في تلك الشهور ليلة القدر, وهكذا قال قتادة بن دعامة والشافعي وغير واحد وقال عمرو بن قيس الملائي: عمل فيها خير من عمل ألف شهر, وهذا القول بأنها أفضل من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر هو اختيار ابن جرير, وهو الصواب لا ما عداه وهو كقوله صلى الله عليه وسلم: «رباط ليلة في سبيل الله خير من ألف ليلة فيما سواه من المنازل» رواه أحمد وكما جاء في قاصد الجمعة بهيئة حسنة, ونية صالحة أنه يكتب له عمل سنة أجر صيامها وقيامها إلى غير ذلك من المعاني المشابهة لذلك.
    وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم, حدثنا أيوب عن أبي قلابة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما حضر رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك افترض الله عليكم صيامه, تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه الشياطن, فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم» ورواه النسائي من حديث أيوب به. ولما كانت ليلة القدر تعدل عبادتها عبادة ألف شهر ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه». وقوله تعالى: {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر} أي يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها, والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة كما يتنزلون عند تلاوة القرآن, ويحيطون بحلق الذكر, ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيماً له, وأما الروح فقيل المراد به ههنا جبريل عليه السلام, فيكون من باب عطف الخاص على العام, وقيل هم ضرب من الملائكة كما تقدم في سورة النبأ والله أعلم.
    وقوله تعالى: {من كل أمر} قال مجاهد: سلام هي من كل أمر, وقال سعيد بن منصور: حدثنا عيسى بن يونس, حدثنا الأعمش عن مجاهد في قوله: {سلام هي} قال: هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً أو يعمل فيها أذى, وقال قتادة وغيره: تقضى فيها الأمور وتقدر الاَجال والأرزاق كما قال تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} وقوله تعالى: {سلام هي حتى مطلع الفجر} قال سعيد بن منصور: حدثنا هشيم عن أبي إسحاق عن الشعبي في قوله تعالى: {من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر} قال تسليم الملائكة ليلة القدر على أهل المساجد حتى يطلع الفجر, وروى ابن جرير عن ابن عباس أنه كان يقرأ (من كل امرىء سلام هي حتى مطلع الفجر) وروى البيهقي في كتابه فضائل الأوقات عن علي أثراً غريباً في نزول الملائكة ومرورهم على المصلين ليلة القدر وحصول البركة للمصلين, وروى ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار أثراً غريباً عجيباً مطولاً جداً, في تنزل الملائكة من سدرة المنتهى صحبة جبريل عليه السلام إلى الأرض ودعائهم للمؤمنين والمؤمنات.
    وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا عمران يعني القطان عن قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر: «إنها ليلة سابعة أو تاسعة وعشرين وإن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى». وقال الأعمش عن المنهال عن عبد الرحمن بن أبي ليلى في قوله: {من كل أمر سلام} قال: لا يحدث فيها أمر. وقال قتادة وابن زيد في قوله: {سلام هي} يعني هي خير كلها ليس فيها شر إلى مطلع الفجر, ويؤيد هذا ما رواه الإمام أحمد: حدثنا حيوة بن شريح, حدثنا بقية, حدثني بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليلة القدر في العشر البواقي, من قامهن ابتغاء حسبتهن فإن الله يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهي ليلة وتر: تسع أو سبع أو خامسة أو ثالثة أو آخر ليلة».
    وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أمارة ليلة القدر أنها صافية بلجة كأن فيها قمراً ساطعاً ساكنة ساجية لا برد فيها ولا حر, ولا يحل لكوكب يرمى به فيها حتى تصبح, وإن أمارتها أن الشمس صبيحتها تخرج مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر ولا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ» وهذا إسناد حسن, وفي المتن غرابة وفي بعض ألفاظه نكارة. وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا زمعة عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر «ليلة سمحة طلقة بلجة لا حارة ولا باردة وتصبح شمس صبيحتها ضعيفة حمراء» وروى ابن أبي عاصم النبيل بإسناده عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني رأيت ليلة القدر فأنسيتها وهي في العشر الأواخر من لياليها وهي طلقة بلجة لا حارة ولا باردة كأن فيها قمراً لا يخرج شيطانها حتى يضيء فجرها».
    (فصل) اختلف العلماء هل كانت ليلة القدر في الأمم السالفة أو هي من خصائص هذه الأمة ؟ على قولين: قال أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري: حدثنا مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل الذي بلغ غيرهم في طول العمر, فأعطاه الله ليلة القدر خيراً من ألف شهر. وقد أسند من وجه آخر, وهذا الذي قاله مالك يقتضي تخصيص هذه الأمة بليلة القدر, وقد نقله صاحب العدة أحد أئمة الشافعية عن جمهور العلماء فالله أعلم, وحكى الخطابي عليه الإجماع ونقله الراضي جازماً به عن المذهب, والذي دل عليه الحديث أنها كانت في الأمم الماضين كما هي في أمتنا.
    قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا يحيى بن سعيد عن عكرمة بن عمار, حدثني أبو زميل سماك الحنفي, حدثني مالك بن مرثد بن عبد الله, حدثني مرثد قال: سألت أبا ذر قلت: كيف سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر ؟ قال: أنا كنت أسأل الناس عنها قلت: يا رسول الله, أخبرني عن ليلة القدر أفي رمضان هي أو في غيره ؟ قال: «بل هي في رمضان» قلت: تكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبضوا رفعت أم هي إلى يوم القيامة ؟ قال: «بل هي إلى يوم القيامة» قلت: في أي رمضان هي ؟ قال: «التمسوها في العشر الأول والعشر الاَخر» ثم حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدث ثم اهتبلت غفلته قلت: في أي العشرين هي ؟ قال: «ابتغوها في العشر الأواخر, لا تسألني عن شيء بعدها».
    ثم حدث رسول الله ثم اهتبلت غفلته فقلت: يا رسول الله أقسمت عليك بحقي عليك لما أخبرتني في أي العشر هي ؟ فغضب عليّ غضباً لم يغضب مثله منذ صحبته وقال: «التمسوها في السبع الأواخر, لا تسألني عن شيئاً بعدها» ورواه النسائي عن الفلاس عن يحيى بن سعيد القطان به, ففيه دلالة على ما ذكرناه وفيه أنها تكون باقية إلى يوم القيامة في كل سنة بعد النبي صلى الله عليه وسلم, لا كما زعمه بعض طوائف الشيعة من رفعها بالكلية على ما فهموه من الحديث الذي سنورده بعد من قوله عليه السلام «فرفعت وعسى أن يكون خيراً لكم» لأن المراد رفع علم وقتها عيناً. وفيه دلالة على أن ليلة القدر يختص وقوعها بشهر رمضان من بين سائر الشهور, لا كما روي عن ابن مسعود ومن تابعه من علماء أهل الكوفة من أنها توجد في جميع السنة وترتجى في جميع الشهور على السواء.
    وقد ترجم أبو داود في سننه على هذا فقال: «باب بيان أن ليلة القدر في كل رمضان» حدثنا حميد بن زنجويه السامي, أخبرنا سعيد بن أبي مريم, حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير, حدثني موسى بن عقبة عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عمر قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أسمع عن ليلة القدر فقال: «هي في كل رمضان», وهذا إسناد رجاله ثقات, إلا أن أبا داود قال رواه شعبة وسفيان عن أبي إسحاق فأوقفاه, وقد حكي عن أبي حنيفة رحمه الله رواية أنها ترتجى في كل شهر رمضان وهو وجه حكاه الغزالي واستغربه الرافعي جداً.
    (فصل) ثم قد قيل إنها تكون في أول ليلة من شهر رمضان, يحكى هذا عن أبي رزين, وقيل إنها تقع ليلة سبع عشرة, وروى فيه أبو داود حديثاً مرفوعاً عن ابن مسعود, وروى موقوفاً عليه وعلى زيد بن أرقم وعثمان بن أبي العاص وهو قول عن محمد بن إدريس الشافعي ويحكى عن الحسن البصري, ووجهوه بأنها ليلة بدر وكانت ليلة جمعة هي السابعة عشرة من شهر رمضان, وفي صبيحتها كانت وقعة بدر وهي اليوم الذي قال الله تعالى فيه: {يوم الفرقان}. وقيل ليلة تسع عشرة يحكى عن علي وابن مسعود أيضاً رضي الله عنهما, وقيل ليلة إحدى وعشرين لحديث أبي سعيد الخدري قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في العشر الأول من رمضان واعتكفنا معه فأتاه جبريل فقال:إن الذي تطلب أمامك, فاعتكف العشر الأوسط فاعتكفنا معه, فأتاه جبريل فقال: الذي تطلب أمامك ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً صبيحة عشرين من رمضان فقال: «من كان اعتكف معي فليرجع فإني رأيت ليلة القدر وإني أنسيتها وإنها في العشر الأواخر في وتر وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء».
    وكان سقف المسجد جريداً من النخل وما نرى في السماء شيئاً, فجاءت قزعة فمطرنا, فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديق رؤياه, وفي لفظ في صبح إحدى وعشرين, أخرجاه في الصحيحين. قال الشافعي: وهذا الحديث أصح الروايات, وقيل ليلة ثلاث وعشرين لحديث عبد الله بن أنيس في صحيح مسلم, وهو قريب السياق من رواية أبي سعيد فالله أعلم, وقيل ليلة أربع وعشرين, قال أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة عن الجويري عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليلة القدر ليلة أربع وعشرين» إسناد رجاله ثقات. وقال أحمد: حدثنا موسى بن داود, حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن الصنابحي عن بلال قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليلة القدر ليلة أربع وعشرين» ابن لهيعة ضعيف, وقد خالفه ما رواه البخاري عن أصبغ عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب, عن أبي الخير عن أبي عبد الله الصنابحي قال: أخبرني بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها أولى السبع من العشر الأواخر فهذا الموقوف أصح والله أعلم.
    وهكذا روي عن ابن مسعود وابن عباس وجابر والحسن وقتادة وعبد الله بن وهب أنها ليلة أربع وعشرين, وقد تقدم في سورة البقرة حديث واثلة بن الأسقع مرفوعاً: «إن القرآن أنزل ليلة أربع وعشرين» وقيل تكون ليلة خمس وعشرين لما رواه البخاري عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة تبقى» فسره كثيرون بليالي الأوتار وهو أظهر وأشهر, وحمله آخرون على الأشفاع كما رواه مسلم عن أبي سعيد أنه حمله على ذلك والله أعلم, وقيل إنها تكون ليلة سبع وعشرين لما رواه مسلم في صحيحه عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها ليلة سبع وعشرين.
    وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان سمعت عبدة وعاصماً عن زر سألت أبي بن كعب قلت أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول من يقم الحول يصب ليلة القدر, قال يرحمه الله لقد علم أنها في شهر رمضان وأنها ليلة سبع وعشرين, ثم حلف, قلت وكيف تعلمون ذلك ؟ قال بالعلامة أو بالاَية التي أخبرنا بها, تطلع ذلك اليوم لا شعاع لها يعني الشمس, وقد رواه مسلم من طريق سفيان بن عيينة وشعبة والأوزاعي عن عبدة عن زر عن أبي فذكره وفيه فقال: والله الذي لا إله إلاهو إنها لفي رمضان يحلف ما يستثني, ووالله إني لأعلم أي ليلة القدر هي التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها هي ليلة سبع وعشرين, وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحتها بيضاء لا شعاع لها, وفي الباب عن معاوية وابن عمر وابن عباس وغيرهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها ليلة سبع وعشرين, وهو قول طائفة من السلف وهو الجادة من مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وهو رواية عن أبي حنيفة أيضاً وقد حكي عن بعض السلف أنه حاول استخراج كونها ليلة سبع وعشرين من القرآن من قوله: {هي} لأنها الكلمة السابعة و العشرون من السورة فالله أعلم.

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:23

    وقد قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري أخبرنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن قتادة وعاصم أنهما سمعا عكرمة يقول: قال ابن عباس دعا عمر بن الخطاب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسألهم عن ليلة القدر, فأجمعوا أنها في العشر الأواخر, قال ابن عباس فقلت لعمر إني لأعلم ـ أو إني لأظن ـ أي ليلة القدر هي فقال عمر: وأي ليلة هي ؟ فقلت سابعة تمضي ـ أو سابعة تبقى ـ من العشر الأواخر فقال عمر: من أين علمت ذلك ؟ قال ابن عباس فقلت خلق الله سبع سموات وسبع أرضين وسبعة أيام, وإن الشهر يدور على سبع وخلق الإنسان من سبع, ويأكل من سبع ويسجد على سبع, والطواف بالبيت سبع ورمي الجمار سبع لأشياء ذكرها, فقال عمر لقد فطنت لأمر ما فطنا له, وكان قتادة يزيد عن ابن عباس في قوله ويأكل من سبع, قال هو قول الله تعالى: {فأنبتنا فيها حباً وعنباً} الاَية. وهذا إسناد جيد قوي ومتن غريب جداً فا لله أعلم.
    وقيل إنها تكون في ليلة تسع وعشرين. وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم, حدثنا سعيد بن سلمة, حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل عن عمر بن عبد الرحمن عن عبادة بن الصامت أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في رمضان التمسوها في العشر الأواخر فإنها في وتر إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين أو سبع وعشرين أو تسع وعشرين أو في آخر ليلة» وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود وهو أبو داود الطيالسي, حدثنا عمران القطان عن قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر: «إنها في ليلة سابعة أو تاسعة وعشرين وإن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى» تفرد به أحمد وإسناده لا بأس به, وقيل إنها تكون في آخر ليلة لما تقدم من هذا الحديث آنفاً, ولما رواه الترمذي والنسائي من حديث عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في تسع يبقين أوسبع يبقين أو خمس يبقين أو ثلاث يبقين أو آخر ليلة يعني التمسوا ليلة القدر» وقال الترمذي: حسن صحيح, وفي المسند من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر «إنها آخر ليلة».
    (فصل) قال الشافعي في هذه الروايات: صدرت من النبي صلى الله عليه وسلم جواباً للسائل إذا قيل له أنلتمس ليلة القدر في الليلة الفلانية ؟ يقول «نعم» وإنما ليلة القدر معينة لا تنتقل. نقله الترمذي عنه بمعناه وروي عن أبي قلابة أنه قال: ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر وهذا الذي حكاه عن أبي قلابة نص عليه مالك والثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور والمزني وأبو بكر بن خزيمة وغيرهم, وهو محكي عن الشافعي نقله القاضي عنه وهو الأشبه والله أعلم. وقد يستأنس لهذا القول بما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر من رمضان, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر» وفيهما أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان» ولفظه للبخاري.
    ويحتج للشافعي أنها لا تنتقل وأنها معينة من الشهر بما رواه البخاري في صحيحه عن عبادة بن الصامت قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين فقال: «خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت وعسى أن يكون خيراً لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» وجه الدلالة منه أنها لو لم تكن معينة مستمرة التعيين لما حصل لهم العلم بعينها في كل سنة, إذ لو كانت تنتقل لما علموا تعيينها إلا ذلك العام فقط, اللهم إلا أن يقال إنه إنما خرج ليعلمهم بها تلك السنة فقط وقوله: «فتلاحى فلان وفلان فرفعت» فيه اسئناس لما يقال إن المماراة تقطع الفائدة والعلم النافع كما جاء في الحديث «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» وقوله «فرفعت» أي رفع علم تعيينها لكم لا أنها رفعت بالكلية من الوجود كما يقوله جهلة الشيعة لأنه قد قال بعد هذا: «فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة».
    وقوله: «وعسى أن يكون خيراً لكم» يعني عدم تعيينها لكم فإنها إذا كانت مبهمة اجتهد طلابها في ابتغائها في جميع محال رجائها, فكان أكثر للعبادة بخلاف ما إذا علموا عينها فإنها كانت الهمم تتقاصر على قيامها فقط, وإنما اقتضت الحكمة إبهامها لتعم العبادة جميع الشهر في ابتغائها, ويكون الاجتهاد في العشر الأخير أكثر, ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل, ثم اعتكف أزواجه من بعده, أخرجاه من حديث عائشة. ولهما عن ابن عمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان, وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر أخرجاه, ولمسلم عنها: وقيل المراد بذلك اعتزال النساء ويحتمل أن يكون كناية عن الأمرين لما رواه الإمام أحمد: حدثنا سريج, حدثنا أبو معشر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بقي عشر من رمضان شد مئزره واعتزل نساءه انفرد به أحمد.
    وقد حكي عن مالك رحمه الله أن في جميع ليالي العشر تطلب ليلة القدر على السواء لا يترجح منها ليلة على أخرى رأيته في شرح الرافعي رحمه الله, والمستحب الإكثار من الدعاء في جميع الأوقات وفي شهر رمضان أكثر, وفي العشر الأخير منه ثم في أوتاره أكثر والمستحب أن يكثر من هذا الدعاء: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني, لما رواه الإمام أحمد: حدثنا يزيد هو ابن هارون, حدثنا الجريري وهو سعيد بن إياس عن عبد الله بن بريدة أن عائشة قالت: يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر فما أدعو ؟ قال: «قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» وقد رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من طريق كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة القدر ما أقول فيها ؟ قال «قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» وهذا لفظ الترمذي ثم قال هذا حديث حسن صحيح وأخرجه الحاكم في مستدركه وقال هذا صحيح على شرط الشيخين, ورواه النسائي أيضاً من طريق سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها ؟ قال: «قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني».
    (ذكر أثر غريب ونبأ عجيب يتعلق بليلة القدر) رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم عند تفسير هذه السورة الكريمة فقال: حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن أبي زياد القطواني, حدثنا سيار بن حاتم حدثنا موسى بن سعيد يعني الراسبي عن هلال بن أبي جبلة, عن أبي عبد السلام عن أبيه عن كعب أنه قال: إن سدرة المنتهى على حد السماء السابعة مما يلي الجنة فهي على حد هواء الدنيا وهواء الاَخرة, علوها في الجنة وعروقها وأغصانها من تحت الكرسي, فيها ملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله عز وجل, يعبدون الله عز وجل على أغصانها في كل موضع شعرة منها ملك ومقام جبريل عليه السلام في وسطها فينادي الله جبريل أن ينزل في كل ليلة القدر مع الملائكة الذين يسكنون سدرة المنتهى وليس فيهم ملك إلا قد أعطي الرأفة والرحمة للمؤمنين, فينزلون مع جبريل في ليلة القدر حين تغرب الشمس, فلا تبقى بقعة في ليلة القدر إلا وعليها ملك إما ساجد وإما قائم يدعو للمؤمنين والمؤمنات, إلا أن تكون كنيسة أو بيعة أو بيت نار أو وثن أو بعض أماكنكم التي تطرحون فيها الخبث, أو بيت فيه سكران أو بيت فيه مسكر أو بيت فيه وثن منصوب, أو بيت فيه جرس معلق أو مبولة أو مكان فيه كساحة البيت, فلا يزالون ليلتهم تلك يدعون للمؤمنين والمؤمنات وجبريل لا يدع أحداً من المؤمنين إلا صافحه, وعلامة ذلك من اقشعر جلده ورق قلبه ودمعت عيناه فإن ذلك من مصافحة جبريل.
    وذكر كعب أن من قال في ليلة القدر: لا إله إلا الله ثلاث مرات غفر الله له بواحدة ونجاه من النار بواحدة وأدخله الجنة بواحدة, فقلنا لكعب الأحبار يا أبا إسحاق صادقاً, فقال كعب الأحبار: وهل يقول لا إله إلا الله في ليلة القدر إلا كل صادق ؟ والذي نفسي بيده إن ليلة القدر لتثقل على الكافر والمنافق حتى كأنها على ظهره جبل, فلا تزال الملائكة هكذا حتى يطلع الفجر, فأول من يصعد جبريل حتى يكون في وجه الأفق الأعلى من الشمس فيبسط جناحيه وله جناحان أخضران لا ينشرهما إلا في تلك الساعة, فتصير الشمس لا شعاع لها ثم يدعو ملكاً ملكاً فيصعد فيجتمع نور الملائكة ونور جناحي جبريل, فلا تزال الشمس يومها ذلك متحيرة, فيقيم جبريل ومن معه بين الأرض وبين السماء الدنيا يومهم ذلك في دعاء ورحمة واستغفار للمؤمنين والمؤمنات ولمن صام رمضان إيماناً واحتساباً, ودعا لمن حدث نفسه إن عاش إلى قابل صام رمضان لله, فإذا أمسوا دخلوا إلى)السماء الدنيا فيجلسون حلقاً حلقاً فتجتمع إليهم ملائكة سماء الدنيا, فيسألونهم عن رجل رجل وعن امرأة امرأة, فيحدثونهم حتى يقولوا ما فعل فلان وكيف وجدتموه العام ؟
    فيقولون: وجدنا فلاناً عام أول في هذه الليلة متعبداً, ووجدناه العام مبتدعاً, ووجدنا فلاناً مبتدعاً ووجدناه العام عابداً, قال: فيكفون عن الاستغفار لذلك ويقبلون على الاستغفار لهذا, ويقولون: وجدنا فلاناً وفلاناً يذكران الله ووجدنا فلاناً راكعاً وفلاناً ساجداً, ووجدناه تالياً لكتاب الله, قال: فهم كذلك يومهم وليلتهم حتى يصعدون إلى السماء الثانية, ففي كل سماء يوم وليلة حتى ينتهوا مكانهم من سدرة المنتهى: فتقول لهم سدرة المنتهى, يا سكاني حدثوني عن الناس وسموهم لي, فإن لي عليكم حقاً, وإني أحب من أحب الله, فذكر كعب الأحبار أنهم يعدون لها ويحكون لها الرجل والمرأة بأسمائهم وأسماء آبائهم, ثم تقبل الجنة على السدرة فتقول: أخبريني بما أخبرك سكانك من الملائكة فتخبرها.
    قال: فتقول الجنة رحمة الله على فلان ورحمة الله على فلانة, اللهم عجلهم إلي فيبلغ جبريل مكانه قبلهم, فيلهمه الله فيقول: وجدت فلاناً ساجداً فاغفر له, فيغفر له, فيسمع جبريل جميع حملة العرش فيقولون: رحمة الله على فلان ورحمة الله على فلانة ومغفرته لفلان, ويقول: يا رب وجدت عبدك فلاناً الذي وجدته عام أول على السنة والعبادة, ووجدته العام قد أحدث حدثاً وتولى عما أمر به فيقول الله: يا جبريل إن تاب فأعتبني قبل أن يموت بثلاث ساعات غفرت له. فيقول جبريل لك الحمد إلهي أنت أرحم من جميع خلقك وأنت أرحم بعبادك من عبادك بأنفسهم, قال: فيرتج العرش وما حوله والحجب والسموات ومن فيهن تقول الحمد لله الرحيم. قال وذكر كعب أنه من صام رمضان وهو يحدث نفسه إذا أفطر بعد رمضان أن لا يعصي الله, دخل الجنة بغير مسألة ولا حساب, آخر تفسير سورة ليلة القدر. ولله الحمد والمنة.

    تمت سورة القدر
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الأحد 21 يونيو - 20:24

    سورة البينة
    قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا حماد هو ابن سلمة, أخبرنا علي هو ابن زيد عن عمار بن أبي عمار قال: سمعت أبا حبة البدري وهو مالك بن عمرو بن ثابت الأنصاري قال: لما نزلت {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} إلى آخرها قال جبريل: يا رسول الله إن ربك يأمرك أن تقرئها أبياً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي «إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة» قال أبي: وقد ذكرت ثم يا رسول الله ؟ قال «نعم» قال: فبكى أبي.
    (حديث آخر) وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة, سمعت قتادة يحدث أن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} قال: وسماني لك ؟ قال «نعم» فبكى ورواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من حديث شعبة به.
    (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا مؤمل, حدثنا سفيان, حدثنا أسلم المنقري عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن أبي بن كعب قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أمرت أن أقرأ عليك سورة كذا وكذا» قلت: يا رسول الله وقد ذكرت هناك ؟ قال «نعم» فقلت له: يا أبا المنذر ففرحت بذلك. قال: وما يمنعني والله يقول: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون} قال مؤمل: قلت لسفيان القراءة في الحديث ؟ قال: نعم. تفرد به من هذا الوجه.
    (طريق أخرى) قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا: حدثنا شعبة عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن ـ قال فقرأ ـ {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} ـ قال فقرأ فيها ـ ولو أن ابن آدم سأل وادياً من مال فأعطيه لسأل ثانياً, ولو سأل ثانياً فأعطيه لسأل ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب, ويتوب الله على من تاب. وإن ذلك الدين عند الله الحنيفية غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية ومن يفعل خيراً فلن يكفره» ورواه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي عن شعبة به وقال: حسن صحيح.
    (طريق أخرى) قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن خليد الحلبي, حدثنا محمد بن عيسى الطباع, حدثنا معاذ بن محمد بن معاذ بن أبي بن كعب عن أبيه عن جده عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا المنذر إني أمرت أن أعرض عليك القرآن» قال: بالله آمنت وعلى يدك أسلمت ومنك تعلمت, قال: فرد النبي صلى الله عليه وسلم القول, قال: فقال: يا رسول الله أذكرت هناك ؟ قال: «نعم باسمك ونسبك في الملأ الأعلى» قال: فاقرأ إذاً يا رسول الله, هذا غريب من هذا الوجه, والثابت ما تقدم وإنما قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة تثبيتاً له وزيادة لإيمانه, فإنه كما رواه أحمد والنسائي من طريق أنس عنه, ورواه أحمد وأبو داود من حديث سليمان بن صرد عنه, ورواه أحمد عن عفان عن حماد عن حميد عن أنس عن عبادة بن الصامت عنه, ورواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله بن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه ـ كان قد أنكر على إنسان وهو عبد الله بن مسعود قراءة شيء من القرآن على خلاف ما أقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستقرأهما وقال لكل منهما «أصبت» قال أبي: فأخذني من الشك ولا إذ كنت في الجاهلية, فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره, قال أبي: ففضت عرقاً وكأنما أنظر إلى الله فرقاً, وأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جبريل أتاه فقال: إن الله يأمرك أن تقرىء أمتك القرآن على حرف. فقلت: أسأل الله معافاته ومغفرته فقال: على حرفين» فلم يزل حتى قال: «إن الله يأمرك أن تقرى أمتك القرآن على سبعة أحرف», كما قدمنا ذكر هذا الحديث بطرقه ولفظه في أول التفسير, فلما نزلت هذه السورة وفيها {رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة * فيها كتب قيمة} قرأها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة إبلاغ وتثبيت وإنذار, لا قراءة تعلم واستذكار والله أعلم.
    وهذا كما أن عمر بن الخطاب لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية عن تلك الأسئلة وكان فيما قال أو لم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به, قال: «بلى أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا» قال: لا. قال: «فإنك آتيه ومطوف به» فلما رجعوا من الحديبية وأنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم سورة الفتح دعا عمر بن الخطاب فقرأها عليه وفيها قوله: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} الاَية كما تقدم.
    وروى الحافظ أبو نعيم في كتابه أسماء الصحابة من طريق محمد بن إسماعيل الجعفري المدني حدثنا عبد الله بن سلمة بن أسلم عن ابن شهاب عن إسماعيل بن أبي حكيم المدني, حدثني فضيل: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله ليسمع قراءة {لم يكن الذين كفروا} فيقول أبشر عبدي فوعزتي لأمكنن لك في الجنة حتى ترضى» حديث غريب جداً, وقد رواه الحافظ أبو موسى المديني وابن الأثير من طريق الزهري عن إسماعيل بن أبي حكيم عن نظير المزني ـ أو المدني ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يسمع قراءة {لم يكن الذين كفروا}, ويقول أبشر عبدي, فوعزتي لا أنساك على حال من أحوال الدنيا والاَخرة ولأمكنن لك في الجنة حتى ترضى».

    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** لَمْ يَكُنِ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكّينَ حَتّىَ تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَةُ * رَسُولٌ مّنَ اللّهِ يَتْلُو صُحُفاً مّطَهّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيّمَةٌ * وَمَا تَفَرّقَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيّنَةُ * وَمَآ أُمِرُوَاْ إِلاّ لِيَعْبُدُواْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصّلاَةَ وَيُؤْتُواْ الزّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَةِ
    أما أهل الكتاب فهم اليهود والنصارى والمشركون عبدة الأوثان والنيران من العرب ومن العجم, وقال مجاهد: لم يكونوا {منفكين} يعني منتهين حتى يتبين لهم الحق وهكذا قال قتادة {حتى تأتيهم البينة} أي هذا القرآن, ولهذا قال تعالى: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة}. ثم فسر البينة بقوله: {رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وما يتلوه من القرآن العظيم الذي هو مكتتب في الملأ الأعلى في صحف مطهرة, كقوله: {في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة * بأيدي سفرة * كرام بررة}, وقوله تعالى: {فيها كتب قيمة} قال ابن جرير: أي في الصحف المطهرة كتب من الله قيمة عادلة مستقيمة ليس فيها خطأ لأنها من عند الله عز وجل.
    قال قتادة: {رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة} يذكر القرآن بأحسن الذكر, ويثني عليه بأحسن الثناء, وقال ابن زيد {فيها كتب قيمة} مستقيمة معتدلة, وقوله تعالى: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} كقوله: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوامن بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} يعني بذلك أهل الكتب المنزلة على الأمم قبلنا, بعد ما أقام الله عليهم الحجج والبينات تفرقوا واختلفوا في الذي أراده الله من كتبهم واختلفوا اختلافاً كثيراً, كما جاء في الحديث المروي من طرق: «إن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة, وإن النصارى اختلفوا على ثنتين وسبعين فرقة, وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» قالوا: من هم يا رسول الله ؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي».
    وقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} كقوله: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} ولهذا قال: {حنفاء} أي متحنفين عن الشرك إلى التوحيد كقوله: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدو الله واجتنبوا الطاغوت} وقد تقدم تقرير الحنيف في سورة الأنعام بما أغنى عن إعادته ههنا {ويقيموا الصلاة} وهي أشرف عبادات البدن {ويؤتوا الزكاة} وهي الإحسان إلى الفقراء والمحاويج {وذلك دين القيمة} أي الملة القائمة العادلة أو الأمة المستقيمة المعتدلة, وقد استدل كثير من الأئمة كالزهري والشافعي بهذه الاَية الكريمة أن الأعمال داخلة في الإيمان, ولهذا قال: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة}.


    ** إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَوْلَـَئِكَ هُمْ شَرّ الْبَرِيّةِ * إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أُوْلَـَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ * جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رّضِىَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبّهُ
    يخبر تعالى عن مآل الفجار من أهل الكتاب والمشركين المخالفين لكتب الله المنزلة وأنبياء الله المرسلة أنهم يوم القيامة في نار جهنم خالدين فيها أي ماكثين لا يحولون عنها ولا يزولون {أولئك هم شر البرية} أي شر الخليقة التي برأها الله وذرأها ثم أخبر تعالى عن حال الأبرار الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا الصالحات بأبدانهم بأنهم خير البرية, وقد استدل بهذه الاَية أبو هريرة وطائفة من العلماء على تفضيل المؤمنين من البرية على الملائكة لقوله: {أولئك هم خير البرية} ثم قال تعالى: {جزاؤهم عند ربهم} أي يوم القيامة {جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً} أي بلا انفصال ولا انقضاء ولا فراغ {رضي الله عنهم ورضوا عنه} ومقام رضاه عنهم أعلى مما أوتوه من النعيم المقيم {ورضوا عنه} فيما منحهم من الفضل العميم.
    وقوله تعالى: {ذلك لمن خشي ربه} أي هذا الجزاء حاصل لمن خشي الله واتقاه حق تقواه, وعبده كأنه يراه وعلم أنه إن لم يره فإنه يراه. وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى, حدثنا أبو معشر عن أبي وهب مولى أبي هريرة, عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بخير البرية ؟» قالوا بلى يا رسول الله. قال: «رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله كلما كانت هيعة استوى عليه. ألا أخبركم بخير البرية ؟» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «رجل في ثلة من غنمه يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة. ألا أخبركم بشر البرية ؟» قالوا: بلى قال: «الذي يسأل بالله ولا يعطي به». آخر تفسير سورة لم يكن, ولله الحمد والمنة.

    تمت سورة البينة

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد 24 نوفمبر - 10:52