دارة السادة الأشراف

مرحبا بك عزيزي الزائر
ندعوك أن تدخل المنتدى معنا
وإن لم يكن لديك حساب بعد
نتشرف بدعوتك لإنشائه
ونتشرف بدعوتك لزيارة الموقع الرسمي لدارة السادة الأشراف على الرابط :
www.dartalashraf.com


انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

دارة السادة الأشراف

مرحبا بك عزيزي الزائر
ندعوك أن تدخل المنتدى معنا
وإن لم يكن لديك حساب بعد
نتشرف بدعوتك لإنشائه
ونتشرف بدعوتك لزيارة الموقع الرسمي لدارة السادة الأشراف على الرابط :
www.dartalashraf.com

دارة السادة الأشراف

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

أنساب , مشجرات , مخطوطات , وثائق , صور , تاريخ , تراجم , تعارف , دراسات وأبحاث , مواضيع متنوعة

Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 79880579.th
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 78778160
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 16476868
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 23846992
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 83744915
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 58918085
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 99905655
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 16590839.th
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Resizedk
تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 20438121565191555713566

2 مشترك

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الثلاثاء 16 يونيو - 16:35

    تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :

    بسم الله الرحمن الرحيم



    انا النهردة جايبلكم موضوع روعة
    اجمل موضوع تقروه فى حياتكم علشان طبعا مافيش احسن من القرأن الكريم


    انا جايبة تفسير القرأن الكريم لابن كثير بس تفسير السور عامة مش تفسير الايات وموضوع هيفدنا كلنا وكمان هو موضوع مختصر اوىى بالنسبة لكتاب التفسير نفسه يارب يعجبكم وربنا يعلم انا تعبت فى التوبيك ده اد ايه انا كنت متوقعة انه ينزل على 100 مرة بس لقت الموضوع بقى اكتر من كدة بكتير بس الحمد لله اهو الموضوع خلص ويارب يفدكم جميعا ان شاء الله



    اى حد عايز تفسير اى سورة يدخل على التوبيك وهيلاقى ترتبها زى القرأن بالظبط



    سورة الفاتحة
    ** بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
    يقال لها الفاتحة أي فاتحة الكتاب خطاً وبها تفتتح القراءة في الصلوات, ويقال لها أيضاً أم الكتاب عند الجمهور, ذكره أنس, والحسن وابن سيرين كرها تسميتها بذلك, قال الحسن وابن سيرين إنما ذلك اللوح المحفوظ, وقال الحسن الاَيات المحكمات هن أم الكتاب ولذا كرها أيضاً أن يقال لها أم القرآن وقد ثبت في الصحيح عند الترمذي وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحمد لله رب العالمين أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني والقرآن العظيم» ويقال لها (الحمد) ويقال لها (الصلاة) لقوله صلى الله عليه وسلم عن ربه «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله: حمدني عبدي» الحديث. فسميت الفاتحة صلاة لأنها شرط فيها ويقال لها (الشفاء) لما رواه الدارمي عن أبي سعيد مرفوعاً «فاتحة الكتاب شفاء من كل سم» ويقال لها (الرقية) لحديث أبي سعيد في الصحيح حين رقى بها الرجل السليم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «وما يدريك أنها رقية» ؟ وروى الشعبي عن ابن عباس أن سماها (أساس القرآن) قال: وأساسها بسم الله الرحمن الرحيم وسماها سفيان بن عيينه (بالواقية) وسماها يحيى بن أبي كثير (الكافية) لأنها تكفي عما عداها ولا يكفي ما سواها عنها كما جاء في بعض الأحاديث المرسلة «أم القرآن عوض من غيرها وليس من غيرها عوض منها» ويقال لها سورة الصلاة والكنز, ذكرهما الزمخشري في كشافه.
    وهي مكية قاله ابن عباس وقتادة وأبو العالية, وقيل مدنية قاله أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري ويقال نزلت مرتين: مرة بمكة ومرة بالمدينة, والأول أشبه لقوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني} والله تعالى أعلم. وحكى أبو الليث السمرقندي أن نصفها نزل بمكة ونصفها الاَخر نزل بالمدينة وهو غريب جداً, نقله القرطبي عنه وهي سبع آيات بلا خلاف, وقال عمرو بن عبيد ثمان, وقال حسين الجعفي ستة, وهذان القولان ***ان وإنما اختلفوا في البسملة هل هي آية مستقلة من أولها كما هو عند جمهور قراء الكوفة وقول جماعة من الصحابة والتابعين وخلق من الخلف أو بعض آية أو لا تعد من أولها بالكلية كما هو قول أهل المدينة من القراء والفقهاء على ثلاثة أقوال كما سيأتي تقريرها في موضعه إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
    قالوا وكلماتها خمس وعشرون كلمة وحروفها مائة وثلاثة عشر حرفاً. قال البخاري في أول كتاب التفسير وسميت أم الكتاب لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف ويبدأ بقراءتها في الصلاة, وقيل: إنما سميت بذلك لرجوع معاني القرآن كله إلى ما تضمنته. قال ابن جرير: والعرب تسمي كل جامع أمرأو مقدم لأمر إذا كانت له توابع تتبعه هو لها إمام جامع: أمّاً, فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ أم الرأس ويسمون لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها أمّاً, واستشهد بقول ذي الرمة.
    على رأسه أم لنا نقتدي بهاجماع أمور ليس نعصي لها أمراً
    ـ يعني الرمح ـ قال وسميت مكة أم القرى لتقدمها أمام جميعها وجمعها ما سواها وقيل لأن الأرض دحيت منها. ويقال لها أيضاً: الفاتحة لأنها تفتتح بها القراءة وافتتحت الصحابة بها كتابة المصحف الإمام وصح تسميتها بالسبع المثاني قالوا لأنها تثنى في الصلاة فتقرأ في كل ركعة وإن كان للمثاني معنى آخر كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
    قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا ابن أبي ذئب وهاشم بن هاشم عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أم القرآن: «هي أم القرآن وهي السبع المثاني وهي القرآن العظيم» ثم رواه عن إسماعيل بن عمر عن ابن أبي ذئب به وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: حدثني يونس بن عبد الأعلى أنبأنا ابن وهب أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب وهي السبع المثاني» وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في تفسيره حدثنا أحمد بن محمد بن زياد حدثنا محمد بن غالب بن حارث, حدثنا إسحاق بن عبد الواحد الموصلي, حدثنا المعافى بن عمران عن عبد الحميد بن جعفر عن نوح بن أبي بلال عن المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحمد لله رب العالمين سبع آيات: بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن, وهي السبع المثاني والقرآن العظيم, وهي أم الكتاب, وفاتحة الكتاب» وقد رواه الدارقطني أيضاً عن أبي هريرة أنهم فسروا قوله تعالى {سبعاً من المثاني} بالفاتحة وأن البسملة هي الاَية السابعة منها وسيأتي تمام هذا عند البسملة. وقد روى الأعمش عن إبراهيم قال: قيل لابن مسعود: لمَ لم تكتب الفاتحة في مصحفك ؟ فقال: لو كتبتها لكتبتها في أول كل سورة, قال أبو بكر بن أبي داود يعني حيث يقرأ في الصلاة, قال: واكتفيت بحفظ المسلمين لها عن كتابتها وقد قيل: إن الفاتحة أول شيء أنزل من القرآن كما ورد في حديث رواه البيهقي في دلائل النبوة ونقله الباقلاني أحد أقوال ثلاثة وقيل: {ياأيها المدثر} كما في حديث جابر في الصحيح وقيل: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} وهذ هو الصحيح كما سيأتي تقريره في موضعه والله المستعان.
    ذكر ما ورد في فضل الفاتحة
    قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة حدثني خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال: كنت أصلي فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه حتى صليت, قال: فأتيته فقال: «مامنعك أن تأتيني» ؟ قال قلت: يا رسول الله إني كنت أصلي قال: ألم يقل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} ثم قال: «لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قيل أن تخرج من المسجد» قال: فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول الله إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قال: «نعم {الحمد لله رب العالمين} هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» وهكذا رواه البخاري عن مسدد وعلي بن المديني, كلاهما عن يحيى بن سعيد القطان به, ورواه في موضع آخر من التفسير, وأبو داوود والنسائي وابن ماجه من طرق عن شعبة به, ورواه الواقدي عن محمد بن معاذ الأنصاري عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى عن أبي بن كعب فذكر نحوه. وقد وقع في الموطأ للإمام مالك بن أنس رحمه الله ما ينبغي التنبيه عليه فإنه رواه مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي أن أبا سعيد مولى ابن عامر بن كريز أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب وهو يصلي في المسجد فلما فرغ من صلاته لحقه قال فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على يدي وهو يريد أن يخرج من باب المسجد ثم قال صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن لا تخرج من باب المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها» قال أبي رضي الله عنه, فجعلت أبطى في المشي رجاء ذلك ثم قلت: يا رسول الله ما السورة التي وعدتني ؟ قال: «كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة ؟ قال فقرأت عليه {الحمد لله رب العالمين} حتى أتيت على آخرها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هي هذه السورة وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيت» فأبو سعيد هذا ليس بأبي سعيد بن المعلى كما اعتقده ابن الأثير في جامع الأصول ومن تبعه فإن ابن المعلى صحابي أنصاري وهذا تابعي من موالي خزاعة وذاك الحديث متصل صحيح, وهذا ظاهره منقطع إن لم يكن سمعه أبو سعيد هذا من أبي بن كعب فإن كان قد سمعه منه فهو على شرط مسلم والله أعلم. على أنه قد روي عن أبي بن كعب من غير وجه


    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الخميس 18 يونيو - 9:19

    ** قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ أَمّن يَمْلِكُ السّمْعَ والأبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيّتَ مِنَ الْحَيّ وَمَن يُدَبّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمُ الْحَقّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقّ إِلاّ الضّلاَلُ فَأَنّىَ تُصْرَفُونَ * كَذَلِكَ حَقّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ عَلَى الّذِينَ فَسَقُوَاْ أَنّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
    يحتج تعالى على المشركين باعترافهم بوحدانيته وربوبيته على وحدانية إلاهيته فقال تعالى: {قل من يرزقكم من السماء والأرض} أي من ذا الذي ينزل من السماء ماء المطر فيشق الأرض شقاً بقدرته ومشيئته فيخرج منها {حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلباً وفاكهةً وأباً} أإله مع الله ؟ فسيقولون الله {أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه ؟} وقوله: {أمّن يملك السمع والأبصار} أي الذي وهبكم هذه القوة السامعة, والقوة الباصرة, ولو شاء لذهب بها ولسلبكم إياها كقوله تعالى: {قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار} الاَية. وقال: {قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم} الاَية وقوله: {ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي} أي بقدرته العظيمة ومنته العميمة, وقد تقدم ذكر الخلاف في ذلك وأن الاَية عامة لذلك كله وقوله: {ومن يدبر الأمر} أي من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه وهو المتصرف الحاكم الذي لا معقب لحكمه, ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون {يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن} فالملك كله العلوي والسفلي وما فيهما من ملائكة وإنس وجان فقيرون إليه عبيد له خاضعون لديه {فسيقولون الله} أي وهم)يعلمون ذلك ويعترفون به.
    ** وَمَا كَانَ هَـَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَـَكِن تَصْدِيقَ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رّبّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذّبَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظّالِمِينَ * وَمِنهُمْ مّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مّن لاّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ
    هذا بيان لإعجاز القرآن وأنه لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله ولا بعشر سور ولا بسورة من مثله لأنه بفصاحته وبلاغته ووجازته وحلاوته واشتماله على المعاني العزيزة النافعة في الدنيا والاَخرة لا تكون إلا من عند الله الذي لا يشبهه شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وأقواله فكلامه لا يشبه كلام المخلوقين ولهذا قال تعالى: {وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله} أي مثل هذا القرآن لا يكون إلا من عند الله ولا يشبه هذا كلام البشر {ولكن تصديق الذي بين يديه} أي من الكتب المتقدمة ومهيمناً عليه ومُبيناً لما وقع فيها من التحريف والتأويل والتبديل وقوله: {وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين} أي وبيان الأحكام والحلال والحرام بياناً شافياً كافياً حقاً لا مرية فيه من الله رب العالمين كما تقدم في حديث الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وفصل ما بينكم أي خبر عما سلف وعما سيأتي وحكم فيما بين الناس بالشرع الذي يحبه الله ويرضاه. وقوله: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} أي إن ادعيتم وافتريتم وشككتم في أن هذا من عند الله وقلتم كذباً وميناً إن هذا من عند محمد فمحمد بشر مثلكم وقد جاء فيما زعمتم بهذا القرآن فأتوا أنتم بسورة مثله, أي من جنس هذا القرآن واستعينوا على ذلك بكل من قدرتم عليه من إنس وجان.
    ** وَإِن كَذّبُوكَ فَقُل لّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيَئُونَ مِمّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيَءٌ مّمّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْهُمْ مّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصّمّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ * وَمِنهُمْ مّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ * إِنّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النّاسَ شَيْئاً وَلَـَكِنّ النّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
    يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وإن كذبك هؤلاء المشركون فتبرأ منهم ومن عملهم {فقل لي عملي ولكم عملكم} كقوله تعالى: {قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون} إلى آخرها, وقال إبراهيم الخليل وأتباعه لقومهم المشركين {إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله} الاَية, وقوله: {ومنهم من يستمعون إليك} أي يسمعون كلامك الحسن والقرآن العظيم والأحاديث الصحيحة الفصيحة النافعة في القلوب والأديان والأبدان وفي هذا كفاية عظيمة, ولكن ليس ذلك إليك ولا إليهم فإنك لا تقدر على إسماع الأصم وهو الأطرش فكذلك لا تقدر على هداية هؤلاء إلا أن يشاء الله {ومنهم من ينظر إليك} أي ينظرون إليك وإلى ما أعطاك الله من التؤدة والسمت الحسن والخلق العظيم, والدلالة الظاهرة على نبوتك لأولي البصائر والنهى. وهؤلاء ينظرون كما ينظر غيرهم ولا يحصل لهم من الهداية شيء كما يحصل لغيرهم, بل المؤمنون ينظرون إليك بعين الوقار, وهؤلاء الكفار ينظرون إليك بعين الاحتقار {وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزواً} الاَية.
    ثم أخبر تعالى أنه لا يظلم أحداً شيئاً وإن كان قد هدى به من هدى وبصر به من العمى, وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً, وقلوباً غلفاً, وأضل به عن الإيمان آخرين, فهو الحاكم المتصرف في ملكه بما يشاء الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون لعلمه وحكمته وعدله, ولهذا قال تعالى: {إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون} وفي الحديث عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ـ إلى أن قال في آخره ـ يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله, ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» رواه مسلم بطوله.


    ** وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لّمْ يَلْبَثُوَاْ إِلاّ سَاعَةً مّنَ النّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الّذِينَ كَذّبُواْ بِلِقَآءِ اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
    يقول تعالى مذكراً للناس قيام الساعة وحشرهم من أجداثهم إلى عرصات القيامة: {ويوم يحشرهم} الاَية. كقوله: {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار} وكقوله: {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} وقال تعالى: {يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ رزقاً * يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشراً * نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوماً} وقال تعالى: {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة} الاَيتين, وهذا كله دليل على استقصار الحياة الدنيا في الدار الاَخرة كقوله: {قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين ؟ قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادين * قال إن لبثتم إلا قليلاً لو أنكم كنتم تعلمون}, وقوله: {يتعارفون بينهم} أي يعرف الأبناء الاَباء والقرابات بعضهم لبعض كما كانوا في الدنيا ولكن كل مشغول بنفسه {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم} الاَية, وقال تعالى: {ولا يسأل حميم حميماً} الاَيات, وقوله: {قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين} كقوله تعالى: {ويل يومئذ للمكذبين} لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين ولا خسارة أعظم من خسارة من فرق بينه وبين أحبته يوم الحسرة والندامة.

    ** وَإِمّا نُرِيَنّكَ بَعْضَ الّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفّيَنّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَىَ مَا يَفْعَلُونَ * وَلِكُلّ أُمّةٍ رّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
    يقول تعالى مخاطباً لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وإما نرينك بعض الذي نعدهم} أي ننتقم منهم في حياتك لتقر عينك منهم {أو نتوفينك فإلينا مرجعهم} أي مصيرهم ومنقلبهم والله شهيد على أفعالهم بعدك وقد قال الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا أبو بكر الحنفي حدثنا داود بن الجارود عن أبي السليل عن حذيفة بن أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عرضت عليّ أمتي البارحة لدى هذه الحجرة أولها وآخرها» فقال رجل: يارسول الله عرض عليك من خلق فكيف من لم يخلق ؟ فقال: «صوروا لي في الطين حتى أني لأعرف بالإنسان منهم من أحدكم بصاحبه» ورواه عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن عقبة بن مكرم عن يونس بن بكير عن زياد بن المنذر عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد به نحوه. وقوله: {ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم} قال مجاهد: يعني يوم القيامة {قضي بينهم بالقسط} الاَية, كقوله تعالى: {وأشرقت الأرض بنور ربها} الاَية, فكل أمة تعرض على الله بحضرة رسولها وكتاب أعمالها من خير وشر موضوع شاهد عليهم وحفظتهم من الملائكة شهود أيضاً أمة بعد أمة وهذه الأمة الشريفة وإن كانت آخر الأمم في الخلق إلا أنها أول الأمم يوم القيامة يفصل بينهم ويقضي لهم كما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نحن الاَخرون السابقون يوم القيامة, المقضي يفصل لهم قبل الخلائق» فأمته إنما حازت قصب السبق بشرف رسولها صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين.


    ** وَيَقُولُونَ مَتَىَ هَـَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُل لاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاّ مَا شَآءَ اللّهُ لِكُلّ أُمّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ الاَنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ * ثُمّ قِيلَ لِلّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ
    يقول تعالى مخبراً عن كفر هؤلاء المشركين في استعجالهم العذاب وسؤالهم عن وقته قبل التعيين مما لا فائدة لهم فيه كقوله: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق} أي كائنة لا محالة وواقعة وإن لم يعلموا وقتها عيناً, ولهذا أرشد تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إلى جوابهم فقال: {قل لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً} الاَية, أي لا أقول إلا ما علمني ولا أقدر على شيء مما استأثر به إلا أن يطلعني الله عليه فأنا عبده ورسوله إليكم وقد أخبرتكم بمجيء الساعة وأنها كائنة ولم يطلعني على وقتها ولكن {لكل أمة أجل} أي لكل قرن مدة من العمر مقدرة فإذا انقضى أجلهم {فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} كقوله: {ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها} الاَية, ثم أخبر أن عذاب الله سيأتيهم بغتة فقال: {قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً ؟} أي ليلاً أونهاراً {ماذا يستعجل منه المجرمون * أثم إذا ما وقع آمنتم به آلاَن وقد كنتم به تستعجلون} يعني أنهم إذا جاءهم العذاب قالوا {ربنا أبصرنا وسمعنا} الاَية, وقال تعالى: {فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون} {ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد} أي يوم القيامة يقال لهم هذا تبكيتاً وتقريعاً كقوله: {يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً هذه النار التي كنتم بها تكذبون * أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون * اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون}.

    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الخميس 18 يونيو - 9:43

    ** وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبّيَ إِنّهُ لَحَقّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلَوْ أَنّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرّواْ النّدَامَةَ لَمّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
    شا يقول تعالى ويستخبرونك {أحق هو} أي المعاد والقيامة من الأجداث بعد صيرورة الأجسام تراباً {قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين} أي ليس صيرورتكم تراباً بمعجز الله عن إعادتكم كما بدأكم من العدم فـ {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} وهذه الاَية ليس لها نظير في القرآن إلا آيتان أخريان يأمر الله تعالى رسوله أن يقسم به على من أنكر المعاد في سورة سبأ {وقال الذين كفروا لا تأتيناالساعة قل بلى وربي لتأتينكم} وفي التغابن {زعم الذين كفروا أ لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير} ثم أخبر تعالى أنه إذا قامت القيامة يود الكافر لو افتدى من عذاب الله بملء الأرض ذهباً {وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط} أي بالحق {وهم لا يظلمون}.
    ** يَأَيّهَا النّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مّوْعِظَةٌ مّن رّبّكُمْ وَشِفَآءٌ لّمَا فِي الصّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمّا يَجْمَعُونَ
    يقول تعالى ممتناً على خلقه بما أنزله من القرآن العظيم على رسوله الكريم: {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم} أي زاجر عن الفواحش {وشفاء لما في الصدور} أي من الشبه والشكوك وهو إزالة ما فيها من رجس ودنس, وهدى ورحمة أي يحصل به الهداية والرحمة من الله تعالى, وإنما ذلك للمؤمنين به والمصدقين الموقنين بما فيه, كقوله تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً} وقوله: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء} الاَية, وقوله تعالى: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا} أي بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق فليفرحوا, فإنه أولى ما يفرحون به {هو خير مما يجمعون} أي من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية الذاهبة لا محالة, كما قال ابن أبي حاتم في تفسير هذه الاَية, وذكر بسنده عن بقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو, سمعت أيفع بن عبد الكلاعي يقول: لما قدم خراج العراق إلى عمر رضي الله عنه, خرج عمر ومولى له فجعل عمر يعد الإبل فإذا هي أكثر من ذلك, فجعل عمر يقول الحمد لله تعالى, ويقول مولاه هذا والله من فضل الله ورحمته, فقال عمر: كذبت ليس هذا, هو الذي يقول الله تعالى: {قل بفضل الله وبرحمته} الاَية, وهذا مما يجمعون, وقد أسنده الحافظ أبو القاسم الطبراني, فرواه عن أبي زرعة الدمشقي عن حيوة بن شريح عن بقية فذكره.


    ** قُلْ أَرَأَيْتُمْ مّآ أَنزَلَ اللّهُ لَكُمْ مّن رّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنّ الّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ
    قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم: نزلت إنكاراً على المشركين فيماكانوا يحللون ويحرمون من البحائر والسوائب والوصايل, كقوله تعالى: {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً} الاَيات, وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن أبي إسحاق, سمعت أبا الأحوص, وهو عوف بن مالك بن نضلة, يحدث عن أبيه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا رث الهيئة فقال: «هل لك مال ؟ قلت نعم. قال من أي المال ؟ قال قلت من كل المال من الإِبل والرقيق والخيل والغنم, فقال: «إِذا آتاك الله مالاً فلير عليك ـ وقال! هل تنتج إِبلك صحاحاً آذانها فتعمد إلى موسى فتقطع آذانها فتقول هذه بحر, وتشق جلودها وتقول هذه صرم وتحرمها عليك وعلى أهلك» قال نعم قال «فإن ما آتاك الله لك حل, ساعد الله أشد من ساعدك وموسى الله أحدّ من موساك» وذكر تمام الحديث.
    ** أَلآ إِنّ أَوْلِيَآءَ اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَىَ فِي الْحَياةِ الدّنْيَا وَفِي الاَخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
    يخبر تعالى أن أولياءه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون كما فسرهم ربهم, فكل من كان تقياً كان لله ولياً فـ {ـلا خوف عليهم} أي فيمايستقبلونه من أهوال الاَخرة {ولا هم يحزنون} على ما وراءهم في الدنيا, وقال عبد الله بن مسعود وابن عباس وغير واحد من السلف أولياء الله الذين إذا رؤوا ذكر الله, وقد ورد هذا في حديث مرفوع كما قال البزار حدثنا علي بن حرب الرازي حدثنا محمد بن سعيد بن سابق حدثنا يعقوب بن عبد الله الأشعري وهو القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رجل: يا رسول الله من أولياء الله ؟ قال «الذين إِذا رؤوا ذكر الله» ثم قال البزار وقد روي عن سعيد مرسلاً, وقال ابن جرير حدثنا أبو هشام الرفاعي حدثنا أبو فضيل حدثنا أبي عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن عمرو بن جرير البجلي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن من عباد الله عباداً يغبطهم الأنبياء والشهداء» قيل من هم يا رسول الله لعلنا نحبهم ؟ قال: «هم قوم تحابوا في الله من غير أموال ولا أنساب وجوههم نور على منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس» ثم قرأ {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} ثم رواه أيضاً أبو داود من حديث جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن عمرو بن جرير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله وهذا أيضاً إسناد جيد إلا أنه منقطع بين أبي زرعة وعمر بن الخطاب والله أعلم, وفي حديث الإمام أحمد عن أبي النضر عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يأتي من أفناء الناس ونوازع القبائل قوم لم تتصل بينهم أرحام متقاربة تحابوا في الله وتصافوا في الله يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها يفزع الناس ولايفزعون وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون» والحديث مطول.
    ** وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنّ الْعِزّةَ للّهِ جَمِيعاً هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ * أَلآ إِنّ للّهِ مَن فِي السّمَاوَات وَمَنْ فِي الأرْضِ وَمَا يَتّبِعُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَآءَ إِن يَتّبِعُونَ إِلاّ الظّنّ وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ * هُوَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْلّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنّهَارَ مُبْصِراً إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
    يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {ولا يحزنك} قول هؤلاء المشركين واستعن بالله عليهم وتوكل عليه فإن العزة لله جميعاً أي جميعها له ولرسوله وللمؤمنين {هو السميع العليم} أي السميع لأقوال عباده العليم بأحوالهم, ثم أخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض وأن المشركين يعبدون الأصنام وهي لا تملك شيئاً لا ضراً ولا نفعاً ولا دليل لهم على عبادتها, بل إنما يتبعون في ذلك ظنونهم وتخرصهم وكذبهم وإفكهم, ثم أخبر أنه الذي جعل لعباده الليل ليسكنوا فيه, أي يستريحون من نصبهم وكلهم وحركاتهم {والنهار مبصراً} أي مضيئاً لمعاشهم وسعيهم وأسفارهم ومصالحهم {إن في ذلك لاَيات لقوم يسمعون} أي يسمعون هذه الحجج والأدلة فيعتبرون بها ويستدلون على عظمة خالقها ومقدرها ومسيرها.


    ** قَالُواْ اتّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيّ لَهُ مَا فِي السّمَاوَات وَمَا فِي الأرْضِ إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بِهَـَذَآ أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنّ الّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدّنْيَا ثُمّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ
    يقول تعالى منكراً على من ادعى أن له: {ولداً سبحانه هو الغني} أي تقدس عن ذلك هو الغني عن كل ما سواه وكل شيء فقير إليه {له ما في السموات وما في الأرض} أي فكيف يكون له ولد مما خلق وكل شيء مملوك له عبد له {إن عندكم من سلطان بهذا} أي ليس عندكم دليل على ما تقولونه من الكذب والبهتان {أتقولون على الله ما لا تعلمون} إنكار ووعيد أكيد وتهديد شديد كقوله تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إدّا * تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّاً * أن دعوا للرحمن ولداً * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً * إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً * لقد أحصاهم وعدهم عدّاً * وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً} ثم توعد تعالى الكاذبين عليه المفترين ممن زعم أن له ولداً بأنهم لا يفلحون في الدنيا ولا في الاَخرة فأما في الدنيا فإنهم إذا استدرجهم وأملى لهم متعهم قليلاً {ثم يضطرهم إلى عذاب غليظ} كما قال تعالى ههنا: {متاع في الدنيا} أي مدة قريبة {ثم إلينا مرجعهم} أي يوم القيامة {ثم نذيقهم العذاب الشديد} أي الموجع المؤلم {بما كانوا يكفرون} أي بسبب كفرهم وافترائهم وكذبهم على الله فيما ادعوا من الإفك والزور.


    ** وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكّلْتُ فَأَجْمِعُوَاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمّةً ثُمّ اقْضُوَاْ إِلَيّ وَلاَ تُنظِرُونَ * فَإِن تَوَلّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * فَكَذّبُوهُ فَنَجّيْنَاهُ وَمَن مّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ
    يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {واتل عليهم} أي أخبرهم واقصص عليهم أي على كفار مكة الذين يكذبونك ويخالفونك {نبأ نوح} أي خبره مع قومه الذين كذبوه كيف أهلكهم الله ودمرهم بالغرق أجمعين عن آخرهم ليحذر هؤلاء أن يصيبهم من الهلاك والدمار ما أصاب أولئك {إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم} أي عظم عليكم {مقامي} أي فيكم بين أظهركم {وتذكيري} إياكم {بآيات الله} أي بحججه وبراهينه {فعلى الله توكلت} أي فإني لا أبالي ولا أكف عنكم سواء عظم عليكم أو لا {فأجمعوا أمركم وشركاءكم} أي فاجتمعوا أنتم وشركاؤكم الذين تدعون من دون الله من صنم ووثن {ثم لا يكن أمركم عليكم غمة} أي لا تجعلوا أمركم عليكم ملتبساً, بل افصلوا حالكم معي فإن كنتم تزعمون أنكم محقون فاقضوا إلي {ولا تنظرون} أي ولا تؤخروني ساعة واحدة أي مهما قدرتم فافعلوا فإني لا أباليكم ولا أخاف منكم لأنكم لستم على شيء كما قال هود لقومه: {إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم} الاَية.
    .

    يتبع


    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الخميس 18 يونيو - 9:47

    ** ثُمّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَىَ قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَىَ قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ
    يقول تعالى ثم بعثنا من بعد نوح رسلاً إلى قومهم فجاءوهم بالبينات أي بالحجج والأدلة والبراهين على صدق ما جاءوهم به {فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل} أي فما كانت الأمم لتؤمن بما جاءتهم به رسلهم بسبب تكذيبهم إياهم أول ما أرسلوا إليهم كقوله تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم} الاَية وقوله: {كذلك نطبع على قلوب المعتدين} أي كما طبع الله على قلوب هؤلاء فما آمنوا بسبب تكذيبهم المتقدم هكذا يطبع الله على قلوب من أشبههم ممن بعدهم ويختم على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم, والمراد أن الله تعالى أهلك الأمم المكذبة للرسل وأنجى من آمن بهم وذلك من بعد نوح عليه السلام فإن الناس كانوا من قبله من زمان آدم عليه السلام على الإسلام إلى أن أحدث الناس عبادة الأصنام فبعث الله إليهم نوحاً عليه السلام ولهذا يقول له المؤمنون يوم القيامة: أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض. وقال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام, وقال الله تعالى: {وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح} الاَية, وفي هذا إنذار عظيم لمشركي العرب الذين كذبوا سيد الرسل وخاتم الأنبياء والمرسلين فإنه إذا كان قد أصاب من كذب بتلك الرسل ما ذكره الله تعالى من العذاب والنكال فماذا ظن هؤلاء وقد ارتكبوا أكبر من أولئك
    ** وَقَالَ مُوسَىَ يَقَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكّلُوَاْ إِن كُنتُم مّسْلِمِينَ * فَقَالُواْ عَلَىَ اللّهِ تَوَكّلْنَا رَبّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ الظّالِمِينَ * وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
    يقول تعالى مخبراً عن موسى أنه قال لبني إسرائيل: {يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين} أي فإن الله كاف من توكل عليه {أليس الله بكاف عبده} {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} وكثيراً ما يقرن الله تعالى بين العبادة والتوكل كقوله تعالى: {فاعبده وتوكل عليه} {قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا} {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً} وأمر الله تعالى المؤمنين أن يقولوا في كل صلواتهم مرات متعددة {إياك نعبد وإياك نستعين} وقد امتثل بنو إسرائيل ذلك فقالوا: {على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين} أي لا تظفرهم بنا وتسلطهم علينا فيظنوا أنهم إنما سلطوا لأنهم على الحق ونحن على الباطل فيفتنوا بذلك هكذا روي عن أبي مجلز وأبي الضحى, وقال ابن أبي نجيح وغيره عن مجاهد لا تعذبنا بأيدي آل فرعون ولا بعذاب من عندك فيقول قوم فرعون لو كانوا على حق ما عذبوا ولا سلطنا عليهم فيفتنوا بنا وقال عبد الرزاق أنبأنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد {ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين} لا تسلطهم علينا فيفتنونا. وقوله: {ونجنا برحمتك} أي خلصنا برحمة منك وإحسان {من القوم الكافرين} أي الذين كفروا الحق وستروه ونحن قد آمنا بك وتوكلنا عليك.

    ** وَجَاوَزْنَا بِبَنِيَ إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتّىَ إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنّهُ لآ إِلِـَهَ إِلاّ الّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنوَاْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلاَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنّ كَثِيراً مّنَ النّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ
    يذكر تعالى كيفية إغراقه فرعون وجنوده فإن بني إِسرائيل لما خرجوا من مصر بصحبة موسى عليه السلام وهم فيما قيل ستمائة ألف مقاتل سوى الذرية وقد كانوا استعاروا من القُبط حلياً كثيراً فخرجوا به معهم فاشتد حنق فرعون عليهم فأرسل في المدائن حاشرين يجمعون له جنوده من أقاليمه فركب وراءهم في أبهة عظيمة وجيوش هائلة لما يريده الله تعالى بهم ولم يتخلف عنه أحد ممن له دولة وسلطان في سائر مملكته فلحقوهم وقت شروق الشمس {فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إِنا لمدركون} وذلك أنهم لما انتهوا إِلى ساحل البحر وفرعون وراءهم ولم يبق إِلا أن يتقاتل الجمعان وألح أصحاب موسى عليه السلام عليه في السؤال كيف المخلص مما نحن فيه ؟ فيقول: إني أمرت أن أسلك ههنا {كلا إن معي ربي سيهدين} فعند ما ضاق الأمر اتسع فأمره الله تعالى أن يضرب البحر بعصاه فضربه فانفلق البحر فكان كل فرق كالطود العظيم أي كالجبل العظيم وصار اثني عشر طريقاً لكل سبط واحد وأمر الله الريح فنشفت أرضه {فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى} وتخرق الماء بين الطرق كهيئة الشبابيك ليرى كل قوم الاَخرين لئلا يظنوا أنهم هلكوا. وجاوزت بنو إِسرائيل البحر فلما خرج آخرهم منه انتهى فرعون وجنوده إِلى حافته من الناحية الأخرى وهو في مائة ألف أدهم سوى بقية الألوان, فلما رأى ذلك هاله وأحجم وهاب وهمّ بالرجوع وهيهات ولات حين مناص, نفذ القدر, واستجيبت الدعوة.
    وجاء جبريل عليه السلام على فرس وديق حائل فمر إِلى جانب حصان فرعون فحمحم إليها واقتحم جبريل البحر فاقتحم الحصان وراءه ولم يبق فرعون يملك من نفسه شيئاً فتجلد لأمرائه وقال لهم ليس بنو إسرائيل بأحق بالبحر منا فاقتحموا كلهم عن آخرهم وميكائيل في ساقتهم لا يترك منهم أحداً إلا ألحقه بهم, فلما استوسقوا فيه وتكاملوا وهمّ أولهم بالخروج منه أمر الله القدير البحر أن يرتطم عليهم فارتطم عليهم فلم ينج منهم أحد وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم وتراكمت الأمواج فوق فرعون وغشيته سكرات الموت فقال وهو كذلك: {آمنت أنه لا إِله إِلا الذي آمنت به بنو إِسرائيل وأنا من المسلمين} فآمن حيث لا ينفعه الإيمان {فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إِيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون» ولهذا قال الله تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال {آلاَن وقد عصيت قبل} أي أهذا الوقت تقول, وقد عصيت الله قبل هذا فيما بينك وبينه {وكنت من المفسدين} أي في الأرض الذين أضلوا الناس {وجعلناهم أئمة يدعون إِلى النار ويوم القيامة لا ينصرون} وهذا الذي حكى الله تعالى عن فرعون من قوله هذا في حاله ذلك من أسرار الغيب التي أعلم الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما قال فرعون آمنت أنه لا إِله إِلا الذي آمنت به بنو إِسرائيل ـ قال ـ قال لي جبريل: لو رأيتني وقد أخذت من حال البحر فدسسته في فيه مخافة أن تناله الرحمة».
    ** فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقّ مِن رّبّكَ فَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * إِنّ الّذِينَ حَقّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلّ آيَةٍ حَتّىَ يَرَوُاْ الْعَذَابَ الألِيمَ
    قال قتادة بن دعامة: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا أشك ولا أسأل» وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن البصري وهذا فيه تثبيت للأمة وإعلام لهم أن صفة نبيهم صلى الله عليه وسلم موجودة في الكتب المتقدمة التي بأيدي أهل الكتاب كما قال تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل} الاَية, ثم مع هذا العلم الذي يعرفونه من كتبهم كما يعرفون أبناءهم يلبسون ذلك ويحرفونه ويبدلونه ولا يؤمنون به مع قيام الحجة عليهم ولهذا قال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} أي لا يؤمنون إيماناً ينفعهم بل حين لا ينفع نفساً إيمانها ولهذا لما دعا موسى عليه السلام على فرعون وملئه قال {ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} كما قال تعالى: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون} ثم قال تعالى: )

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الخميس 18 يونيو - 10:13

    ** فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَمَتّعْنَاهُمْ إِلَىَ حِينٍ
    يقول تعالى فهلا كانت قرية آمنت بكمالها من الأمم السالفة الذين بعثنا إليهم الرسل بل ما أرسلنا من قبلك يا محمد من رسول إلا كذبه قومه أو أكثرهم كقوله تعالى: {يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون} {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} {وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} وفي الحديث الصحيح «عرض علي الأنبياء فجعل النبي يمر ومعه الفئام من الناس والنبي يمر معه الرجل والنبي معه الرجلان والنبي ليس معه أحد» ثم ذكر كثرة أتباع موسى عليه السلام ثم ذكر كثرة أمته صلوات الله وسلامه عليه كثرة سدت الخافقين الشرقي والغربي, والغرض, أنه لم توجد قرية آمنت بكمالها بنبيهم ممن سلف من القرى إلا قوم يونس وهم أهل نينوى وما كان إيمانهم إلا خوفاً من وصول العذاب الذي أنذرهم به رسولهم بعدما عاينوا أسبابه, وخرج رسولهم من بين أظهرهم فعندما جأروا إلى الله واستغاثوا به وتضرعوا له واستكانوا وأحضروا أطفالهم ودوابهم ومواشيهم وسألوا الله تعالى أن يرفع عنهم العذاب الذي أنذرهم به نبيهم فعندها رحمهم الله وكشف عنهم العذاب وأخروا كما قال تعالى: {إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين} واختلف المفسرون هل كشف عنهم العذاب الأخروي مع الدنيوي أو إنما كشف عنهم في الدنيا فقط ؟ على قولين: (أحدهما) إنما كان ذلك في الحياة الدنيا كما هو مقيد في هذه الاَية.
    ** قُلْ يَأَيّهَا النّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكّ مّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَـَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الّذِي يَتَوَفّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً وَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنّكَ إِذاً مّنَ الظّالِمِينَ * وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ
    يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من صحة ما جئتكم به من الدين الحنيف الذي أوحاه الله إلي فأنا لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله وحده لا شريك له وهو الذي يتوفاكم كما أحياكم ثم إليه مرجعكم فإن كانت آلهتكم التي تدعون من دون الله حقاً فأنا لا أعبدها فادعوها فلتضرني فإنها لا تضر ولا تنفع وإنما الذي بيده الضر والنفع هو الله وحده لا شريك له وأمرت أن أكون من المؤمنين وقوله: {وأن أقم وجهك للدين حنيفاً} الاَية أي أخلص العبادة لله وحده حنيفاً أي منحرفاً عن الشرك ولهذا قال: {ولا تكونن من المشركين} وهو معطوف على قوله: {وأمرت أن أكون من المؤمنين}.
    وقوله {وإن يمسسك الله بضر} الاَية فيه بيان لأن الخير والشر والنفع والضر إنما هو راجع إلى الله تعالى وحده لا يشاركه في ذلك أحد فهو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له, روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة صفوان بن سليم من طريق عبد الله بن وهب أخبرني يحيى بن أيوب عن عيسى بن موسى عن صفوان بن سليم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اطلبوا الخير دهركم كله وتعرضوا لنفحات ربكم, فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده, واسألوه أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم» ثم رواه من طريق الليث عن عيسى بن موسى عن صفوان عن رجل من أشجع عن أبي هريرة مرفوعاً بمثله سواء. وقوله {وهو الغفور الرحيم} أي لمن تاب إليه وتوكل عليه ولو من أي ذنب كان حتى من الشرك به فإنه يتوب عليه.


    ** قُلْ يَأَيّهَا النّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَنُ اهْتَدَىَ فَإِنّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلّ فَإِنّمَا يَضِلّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * وَاتّبِعْ مَا يُوحَىَ إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ
    يقول تعالى أمراً لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس أن الذي جاءهم به من عند الله هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك فيه فمن اهتدى به واتبعه فإنما يعود نفع ذلك الاتباع على نفسه, ومن ضل عنه فإنما يرجع وبال ذلك عليه {وما أنا عليكم بوكيل} أي وما أنا موكل بكم حتى تكونوا مؤمنين وإنما أنا نذير لكم, والهداية على الله تعالى وقوله: {واتبع ما يوحى إليك واصبر} أي تمسك بما أنزل الله عليك وأوحاه إليك واصبر على مخالفة من خالفك من الناس {حتى يحكم الله} أي يفتح بينك وبينهم {وهو خير الحاكمين} أي خير الفاتحين بعدله وحكمته.


    تمت سورة يونس


    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الخميس 18 يونيو - 10:17

    سورة هود
    قال الحافظ أبو يعلى حدثنا خلف بن هشام البزار حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن عكرمة قال: قال أبو بكر: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شيبك ؟ قال «شيبتني هود والواقعة وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت» وقال أبو عيسى الترمذي: حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء حدثنا معاوية بن هشام عن شيبان عن أبي إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول الله قد شبت قال «شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت» وفي رواية «هود وأخواتها» وقال الطبراني حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا حجاج بن الحسن حدثنا سعيد بن سلام حدثنا عمر بن محمد عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شيبتني هود وأخواتها: الواقعة والحاقة وإذا الشمس كورت» وفي رواية «هود وأخواتها» وقد روي من حديث ابن مسعود نحوه فقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في معجمه الكبير: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا أحمد بن طارق الرائشي حدثنا عمرو بن ثابت عن أبي إسحاق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن أبا بكر قال: يا رسول الله ما شيبك ؟ قال: «هود والواقعة». عمرو بن ثابت متروك وأبو إسحاق لم يدرك ابن مسعود والله أعلم.

    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ مِن لّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ اللّهَ إِنّنِي لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبّكُمْ ثُمّ تُوبُوَاْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مّتَاعاً حَسَناً إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى وَيُؤْتِ كُلّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ * إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
    قد تقدم الكلام على حروف الهجاء في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هنا وبالله التوفيق, وأما قوله: {أحكمت آياته ثم فصلت} أي هي محكمة في لفظها مفصلة في معناها فهو كامل صورة ومعنى, هذا معنى ما روي عن مجاهد وقتادة واختاره ابن جرير ومعنى قوله {من لدن حكيم خبير} أي من عند الله الحكيم في أقواله وأحكامه خبير بعواقب الأمور {ألا تعبدوا إلا الله} أي نزل هذا القرآن المحكم المفصل لعبادة الله وحده لا شريك له كقوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقال {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} وقوله {إنني لكم منه نذير وبشير} أي إني لكم نذير من العذاب إن خالفتموه, وبشير بالثواب إن أطعتموه كما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد الصفا فدعا بطون قريش الأقرب ثم الأقرب فاجتمعوا فقال: «يا معشر قريش أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً تصبحكم ألستم مصدقي ؟» فقالوا: ما جربنا عليك كذباً قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» وقوله: {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله} أي وآمركم بالاستغفار من الذنوب السالفة والتوبة منها إلى الله عز وجل فيما تستقبلونه, وأن تستمروا على ذلك {يمتعكم متاعاً حسناً} أي في الدنيا {إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله} أي في الدار الاَخرة قاله قتادة كقوله: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة} الاَية.
    وقد جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد «وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك» وقال ابن جرير: حدثني المسيب بن شريك عن أبي بكر عن سعيد بن جبير عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله: {ويؤت كل ذي فضل فضله} قال من عمل سيئة كتبت عليه سيئة ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات فإن عوقب بالسيئة التي كان عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات, ثم يقول هلك من غلب آحاده على أعشاره, وقوله: {وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير} هذا تهديد شديد لمن تولى عن أوامر الله تعالى وكذب رسله فإن العذاب يناله يوم القيامة لا محالة {إلى الله مرجعكم} أي معادكم يوم القيامة {وهو على كل شيء قدير} أي هو القادر على ما يشاء من إحسانه إلى أوليائه وانتقامه من أعدائه, وإعادة الخلائق يوم القيامة, وهذا مقام الترهيب كما أن الأول مقام ترغيب.

    ** وَهُوَ الّذِي خَلَق السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنّكُمْ مّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنّ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِنْ هَـَذَآ إِلاّ سِحْرٌ مّبِينٌ * وَلَئِنْ أَخّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىَ أُمّةٍ مّعْدُودَةٍ لّيَقُولُنّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
    يخبر تعالى عن قدرته على كل شيء وأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وأن عرشه كان على الماء قبل ذلك كما قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن جامع بن شداد عن صفوان بن محرز عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقبلوا البشرى يا بني تميم» قالوا: قد بشرتنا, فأعطنا, قال: «اقبلوا البشرى يا أهل اليمن قالوا: قد قبلنا. فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان ؟ قال: «كان الله قبل كل شيء, وكان عرشه على الماء, وكتب في اللوح المحفوظ ذكر كل شيء» قال: فأتاني آت فقال: يا عمران انحلت ناقتك من عقالها, قال: فخرجت في إثرها فلا أدري ما كان بعدي, وهذا الحديث مخرج في صحيحي البخاري ومسلم بألفاظ كثيرة فمنها قالوا: جئناك نسألك عن أول هذا الأمر فقال: «كان الله ولم يكن شيء قبله وفي رواية ـ غيره ـ وفي رواية ـ معه ـ وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء, ثم خلق السموات والأرض
    ** وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنّا رَحْمَةً ثُمّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرّآءَ مَسّتْهُ لَيَقُولَنّ ذَهَبَ السّيّئَاتُ عَنّيَ إِنّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلاّ الّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أُوْلَـَئِكَ لَهُمْ مّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
    يخبر تعالى عن الإنسان وما فيه من الصفات الذميمة إلا من رحم الله من عباده المؤمنين أنه إذا أصابته شدة بعد نعمة حصل له يأس وقنوط من الخير بالنسبة إلى المستقبل وكفر وجحود لماضي الحال كأنه لم ير خيراً ولم يرج بعد ذلك فرجاً. وهكذا إن أصابته نعمة بعد نقمة {ليقولن ذهب السيئآت عني} أي يقول: ما ينالني بعد هذا ضيم ولا سوء {إنه لفرح فخور} أي فرح بما في يده بطر فخور على غيره, قال الله تعالى: {إلا الذين صبروا} أي على الشدائد والمكاره {وعملوا الصالحات} أي في الرخاء والعافية {أولئك لهم مغفرة} أي بما يصيبهم من الضراء {وأجر كبير} بما أسلفوه في زمن الرخاء كما جاء في الحديث «والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن هم ولا غم ولا نصب ولا وصب ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عنه بها من خطاياه» وفي الصحيحين «والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له إن أصابته سراء فشكر كان خيراً له, وإن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له, وليس ذلك لأحد غير المؤمن» ولهذا قال الله تعالى: {والعصر إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} وقال تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعاً} الاَيات.
    ** وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أُوْلَـَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىَ رَبّهِمْ وَيَقُولُ الأشْهَادُ هَـَؤُلآءِ الّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىَ رَبّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ * الّذِينَ يَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالاَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * أُولَـَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ * أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلّ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * لاَ جَرَمَ أَنّهُمْ فِي الاَخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ
    يبين تعالى حال المفترين عليه وفضيحتهم في الدار الاَخرة على رؤوس الخلائق من الملائكة والرسل والأنبياء وسائر البشر والجان كما قال الإمام أحمد حدثنا بهز وعفان أخبرنا همام حدثنا قتادة عن صفوان بن محرز قال: كنت آخذاً بيد ابن عمر إذ عرض له رجل قال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة ؟ قال: سمعته يقول: «إن الله عز وجل يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له: أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم» ثم يعطى كتاب حسناته, وأما الكفار والمنافقون فيقول: {الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين} الاَية أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث قتادة به وقوله: {الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً} أي يردون الناس عن اتباع الحق وسلوك طريق الهدى الموصلة إلى الله عز وجل ويجنبونهم الجنة {ويبغونها عوجاً} أي ويريدون أن يكون طريقهم عوجاً غير معتدلة {وهم بالاَخرة هم كافرون} أي جاحدون بها مكذبون بوقوعها وكونها {أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء} أي بل كانوا تحت قهره وغلبته وفي قبضته وسلطانه وهو قادر على الانتقام منهم في الدار الدنيا قبل الاَخرة {إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار}.
    ** قَالَ يَقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيّنَةٍ مّن رّبّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مّنْ عِندِهِ فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ
    يقول تعالى مخبراً عما رد به نوح على قومه في ذلك: {أرأيتم إن كنت على بينة من ربي} أي على يقين وأمر جلي ونبوة صادقة وهي الرحمة العظيمة من الله به وبهم {فعميت عليكم} أي خفيت عليكم فلم تهتدوا إليها ولا عرفتم قدرها بل بادرتم إلى تكذيبها وردها {أنلزمكموها} أي نغضبكم بقبولها وأنتم لها كارهون.


    ** وَيَقَوْمِ لآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى اللّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّهُمْ مّلاَقُو رَبّهِمْ وَلَـَكِنّيَ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ * وَيَقَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتّهُمْ أَفَلاَ تَذَكّرُونَ
    يقول لقومه لا أسألكم على نصحي لكم مالاً: أجرة آخذها منكم إنما أبتغي الأجر من الله عز وجل {وما أنا بطارد الذين آمنوا} كأنهم طلبوا منه أن يطرد المؤمنين عنه احتشاماً ونفاسة منهم أن يجلسوا معهم كما سأل أمثالهم خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم أن يطرد عنهم جماعة من الضعفاء ويجلس معهم مجلساً خاصاً فأنزل الله تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} الاَية وقال تعالى: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ؟ أليس الله بأعلم بالشاكرين} الاَيات.


    .

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الخميس 18 يونيو - 10:40

    ** وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلّذِينَ تَزْدَرِيَ أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْراً اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنّيَ إِذاً لّمِنَ الظّالِمِينَ
    يخبرهم أنه رسول من الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له بإذن الله له في ذلك ولا يسألهم على ذلك أجراً بل هو يدعو من لقيه من شريف ووضيع فمن استجاب له فقد نجا, ويخبرهم أنه لا قدرة له على التصرف في خزائن الله ولا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه وليس هو بملك من الملائكة بل هو بشر مرسل مؤيد بالمعجزات ولا أقول عن هؤلاء الذين تحقرونهم وتزدرونهم إنهم ليس لهم عند الله ثواب على أعمالهم الله أعلم بما في أنفسهم فإن كانوا مؤمنين باطناً كما هو الظاهر من حالهم فلهم جزاء الحسنى ولو قطع لهم أحد بشر بعد ما آمنوا لكان ظالماً قائلاً ما لا علم له به
    ** وَأُوحِيَ إِلَىَ نُوحٍ أَنّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الّذِينَ ظَلَمُوَاْ إِنّهُمْ مّغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلّمَا مَرّ عَلَيْهِ مَلأٌ مّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنّا فَإِنّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مّقِيمٌ
    يخبر تعالى أنه أوحى إلى نوح لما استعجل قومه نقمة الله بهم وعذابه لهم فدعا عليهم نوح دعوته التي قال الله تعالى مخبراً عنه أنه قال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً} {فدعا ربه أني مغلوب فانتصر} فعند ذلك أوحى الله إليه {أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} فلا تحزن عليهم ولا يهمنك أمرهم {واصنع الفلك} يعني السفينة {بأعيننا} أي بمرأى منا {ووحينا} أي تعليمنا لك ما تصنعه {ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} فقال بعض السلف: أمره الله تعالى أن يغرز الخشب ويقطعه وييبسه فكان ذلك في مائة سنة ونجرها في مائة سنة أخرى وقيل في أربعين سنة والله أعلم. وذكر محمد بن إسحاق عن التوراة: أن الله أمره أن يصنعها من خشب الساج وأن يجعل طولها ثمانين ذراعاً وعرضها خمسين ذراعاً وأن يطلي باطنها وظاهرها بالقار وأن يجعل لها جؤجؤاً أزورا يشق الماء, وقال قتادة كان طولها ثلاثمائة ذراع في عرض خمسين وعن الحسن طولها ستمائة ذارع وعرضها ثلثمائة وعنه مع ابن عباس طولها ألف ومائتا ذراع في عرض ستمائة وقيل طولها ألفا ذارع وعرضها مائة ذراع فالله أعلم, قالوا كلهم وكان ارتفاعها في السماء ثلاثين ذراعاً ثلاث طبقات كل طبقة عشرة أذرع فالسفلى للدواب والوحوش والوسطى للإنس والعليا للطيور وكان بابها في عرضها ولها غطاء من فوقها مطبق عليها.
    ** حَتّىَ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التّنّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ
    هذه موعدة من الله تعالى لنوح عليه السلام إذا جاء أمر الله من الأمطار المتتابعة والهتان الذي لا يقلع ولا يفتر, بل هو كما قال تعالى: {ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر * وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر * وحملناه على ذات ألواح ودسر * تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر} وأما قوله {وفار التنور} فعن ابن عباس التنور وجه الأرض, أي صارت الأرض عيوناً تفور حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار صارت تفور ماء وهذا قول جمهور السلف وعلماء الخلف, وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه التنور فلق الصبح وتنوير الفجر, وهو ضياؤه وإشراقه والأول أظهر وقال مجاهد والشعبي: كان هذا التنور بالكوفة, وعن ابن عباس عين بالهند, وعن قتادة عين بالجزيرة يقال لها عين الوردة وهذه أقوال غريبة فحينئذ أمر الله نوحاً عليه السلام أن يحمل معه في السفينة من كل زوجين اثنين من صنوف المخلوقات ذوات الأرواح, قيل وغيرها من النباتات اثنين ذكراً وأنثى فقيل كان أول من أدخل من الطيور الدرة وآخر من أدخل من الحيوانات الحمار فتعلق إبليس بذنبه وجعل يريد أن ينهض فيثقله إبليس وهو متعلق بذنبه فجعل يقول له نوح عليه السلام: مالك ويحك ادخل فينهض ولا يقدر فقال: ادخل وإن كان إبليس معك فدخلا في السفينة, وذكر بعض السلف أنهم لم يستطيعوا أن يحملوا معهم الأسد حتى ألقيت عليه الحمى.
    ** وَقِيلَ يَأَرْضُ ابْلَعِي مَآءَكِ وَيَسَمَآءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَآءُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيّ وَقِيلَ بُعْداً لّلْقَوْمِ الظّالِمِينَ
    يخبر تعالى أنه لما اغرق أهل الأرض كلهم إلا أصحاب السفينة أمر الأرض أن تبلع ماءها الذي نبع منها واجتمع عليها, وأمر السماء أن تقلع عن المطر {وغيض الماء} أي شرع في النقص {وقضي الأمر} أي فرغ من أهل الأرض قاطبة ممن كفر بالله لم يبق منهم ديار {واستوت} السفينة بمن فيها {على الجودي} قال مجاهد: وهو جبل بالجزيرة تشامخت الجبال يومئذ من الغرق وتطاولت وتواضع هو لله عز وجل فلم يغرق وأرسَت عليه سفينة نوح عليه السلام وقال قتادة: استوت عليه شهراً حتى نزلوا منها, قال قتادة: قد أبقى الله سفينة نوح عليه السلام على الجودي من أرض الجزيرة عبرة وآية حتى رآها أوائل هذه الأمة وكم من سفينة قد كانت بعدها فهلكت وصارت رماداً.
    وقال الضحاك: الجودي جبل بالموصل وقال بعضهم: هو الطور, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عمرو بن رافع حدثنا محمد بن عبيد عن توبة بن سالم قال: رأيت زر بن حبيش يصلي في الزاوية حين يدخل من أبواب كندة على يمينك فسألته إنك لكثير الصلاة ههنا يوم الجمعة قال بلغني أن سفينة نوح أرست من ههنا. وقال علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان مع نوح في السفينة ثمانون رجلاً معهم أهلوهم وإنهم كانوا فيها مائة وخمسين يوماً وإن الله وجه السفينة إلى مكة فطافت بالبيت أربعين يوماً ثم وجهها الله إلى الجودي فاستقرت عليه فبعث نوح الغراب ليأتيه بخبر الأرض فذهب فوقع على الجيف فأبطأ عليه فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون فلطخت رجليها بالطين فعرف نوح عليه السلام أن الماء قد نضب فهبط إلى أسفل الجودي فابتنى قرية, وسماها ثمانين فأصبحوا ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة إحدها اللسان العربي, فكان بعضهم لا يفقه كلام بعض فكان نوح عليه السلام يعبر عنهم. وقال كعب الأحبار: إن السفينة طافت ما بين المشرق والمغرب قبل أن تستقر على الجودي, وقال قتادة وغيره: ركبوا في عاشر شهر رجب فساروا مائة وخمسين يوماً واستقرت بهم على الجودي شهراً وكان خروجهم من السفينة في يوم عاشوراء من المحرم, وقد ورد نحو هذا في حديث مرفوع رواه ابن جرير وأنهم صاموا يومهم ذلك والله أعلم
    ** فَإِن تَوَلّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرّونَهُ شَيْئاً إِنّ رَبّي عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ حَفِيظٌ * وَلَمّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجّيْنَا هُوداً وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنّا وَنَجّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتّبَعُوَاْ أَمْرَ كُلّ جَبّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُواْ فِي هَـَذِهِ الدّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلآ إِنّ عَاداً كَفَرُواْ رَبّهُمْ أَلاَ بُعْداً لّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ
    يقول لهم هود: فإن تولوا عما جئتكم به من عبادة الله ربكم وحده لا شريك له فقد قامت عليكم الحجة بإبلاغي إياكم رسالة الله التي بعثني بها {ويستخلف ربي قوماً غيركم} يعبدونه وحده لا يشركون به ولا يبالي بكم فإنكم لا تضرونه بكفركم بل يعود وبال ذلك عليكم {إن ربي على كل شيء حفيظ} أي شاهد وحافظ لأقوال عباده وأفعالهم ويجزيهم عليها إن خيراً فخير وإن شراً فشر {ولما جاء أمرنا} وهو الريح العقيم فأهلكهم الله عن آخرهم ونجى هوداً وأتباعه من عذاب غليظ برحمته تعالى ولطفه {وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم} كفروا بها وعصوا رسل الله وذلك أن من كفر بنبي فقد كفر بجميع الأنبياء لأنه لا فرق بين أحد منهم في وجوب الإيمان به فعاد كفروا بهود فنزل كفرهم منزلة من كفر بجميع الرسل {واتبعوا أمر كل جبار عنيد} تركوا اتباع رسولهم الرشيد ؟ واتبعوا أمر كل جبار عنيد, فلهذا أتبعوا في الدنيا لعنة من الله ومن عباده المؤمنين كلما ذكروا وينادى عليهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد {ألا إِن عاداً كفروا ربهم} الاَية قال السدي: ما بعث نبي بعد عاد إلا لعنوا على لسانه.
    ** فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرّوْعُ وَجَآءَتْهُ الْبُشْرَىَ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوّاهٌ مّنِيبٌ * يإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـَذَآ إِنّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبّكَ وَإِنّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ
    يخبر تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه لما ذهب عنه الروع وهو ما أوجس من الملائكة خيفة حين لم يأكلوا وبشروه بعد ذلك بالولد وأخبروه بهلاك قوم لوط أخذ يقول كما قال سعيد بن جبير في الاَية قال: لما جاءه جبريل ومن معه قالوا له: {إنا مهلكو أهل هذه القرية} قال لهم: أتهلكون قرية فيها ثلثمائة مؤمن ؟ قالوا: لا, قال: أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن ؟ قالوا: لا, قال أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمناً ؟ قالوا: لا, قال ثلاثون ؟ قالوا: لا, حتى بلغ خمسة قالوا: لا, قال: أرأيتكم إن كان فيها رجل مسلم واحد أتهلكونها ؟ قالوا: لا, فقال إبراهيم عليه السلام عند ذلك: {إن فيها لوطاً قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته} الاَية. فسكت عنهم واطمأنت نفسه, وقال قتادة وغيره قريباً من هذا زاد ابن إسحاق أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد ؟ قالوا: لا, قال: فإن كان فيها لوط يدفع به عنهم العذاب قالوا: {نحن أعلم بمن فيها} الاَية, وقوله: {إن إبراهيم لحليم أواه منيب} مدح لإبراهيم بهذه الصفات الجميلة, وقد تقدم تفسيرها, وقوله تعالى: {يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك} الاَية, أي أنه قد نفذ فيهم القضاء وحقت عليهم الكلمة بالهلاك وحلول البأس الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
    ** قَالَ لَوْ أَنّ لِي بِكُمْ قُوّةً أَوْ آوِيَ إِلَىَ رُكْنٍ شَدِيدٍ * قَالُواْ يَلُوطُ إِنّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُوَاْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مّنَ الْلّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاّ امْرَأَتَكَ إِنّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ إِنّ مَوْعِدَهُمُ الصّبْحُ أَلَيْسَ الصّبْحُ بِقَرِيبٍ
    يقول تعالى مخبراً عن نبيه لوط عليه السلام إن لوطاً توعدهم بقوله: {لو أن لي بكم قوة} الاَية أي لكنت نكلت بكم وفعلت بكم الأفاعيل بنفسي وعشيرتي, ولهذا ورد في الحديث من طريق محمد بن عمرو بن علقمة بن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رحمة الله على لوط لقد كان يأوي إِلى ركن شديد ـ يعني الله عز وجل ـ فما بعث الله بعده من نبي إِلا في ثروة من قومه» فعند ذلك أخبرته الملائكة أنهم رسل الله إِليهم وأنهم لا وصول لهم إليه {قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك} وأمروه أن يسري بأهله من آخر الليل وأن يتبع أدبارهم أي يكون ساقة لأهله {ولا يلتفت منكم أحد} أي إِذا سمعت ما نزل بهم ولا تهولنكم تلك الأصوات المزعجة ولكن استمروا ذاهبين {إِلا امرأتك} قال الأكثرون هو استثناء من المثبت وهو قوله: {فأسر بأهلك} تقديره {إِلا امرأتك} وكذلك قرأها ابن مسعود, ونصب هؤلاء امرأتك لأنه من مثبت فوجب نصبه عندهم, وقال آخرون من القراء والنحاة هو استثناء من قوله {ولا يلتفت منكم أحد إِلا امرأتك} فجوزوا الرفع والنصب.
    .

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الخميس 18 يونيو - 10:48

    ** وَيَقَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيّةُ اللّهِ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ
    ينهاهم أولاً عن نقص المكيال والميزان إِذا أعطوا الناس, ثم أمرهم بوفاء الكيل والوزن بالقسط آخذين ومعطين ونهاهم عن العثو في الأرض بالفساد وقد كانوا يقطعون الطريق, وقوله: {بقية الله خير لكم} قال ابن عباس: رزق الله خير لكم وقال الحسن رزق الله خير لكم من بخسكم الناس, وقال الربيع بن أنس وصية الله خير لكم, وقال مجاهد: طاعة الله وقال: قتادة حظكم من الله خير لكم, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الهلاك في العذاب والبقية في الرحمة, وقال أبو جعفر بن جرير {بقية الله خير لكم} أي ما يفضل لكم من الربح بعد وفاء الكيل والميزان خير لكم من أخذ أموال الناس قال وقد روي هذا عن ابن عباس قلت ويشبه قوله تعالى: {قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث} الاَية, وقوله: {وما أنا عليكم بحفيظ} أي برقيب ولا حفيظ أي افعلوا ذلك لله عز وجل لا تفعلوه ليراكم الناس بل لله عز وجل** وَيَقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنّكُمْ شِقَاقِيَ أَن يُصِيبَكُم مّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ * وَاسْتَغْفِرُواْ رَبّكُمْ ثُمّ تُوبُوَاْ إِلَيْهِ إِنّ رَبّي رَحِيمٌ وَدُودٌ
    يقول لهم {وياقوم لا يجرمنكم شقاقي} أي لا تحملنكم عداوتي وبغضي على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر والفساد فيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط من النقمة والعذاب وقال قتادة {وياقوم لا يجرمنكم شقاقي} يقول: لا يحملنكم فراقي, وقال السدي عداوتي, على أن تمادوا في الضلال والكفر فيصيبكم من العذاب ما أصابهم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد ابن عوف الحمصي حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج حدثنا ابن أبي غنية حدثني عبد الملك بن أبي سليمان عن ابن أبي ليلى الكندي قال: كنت مع مولاي أمسك دابته وقد أحاط الناس بعثمان بن عفان إِذ أشرف علينا من داره فقال: {يا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح} يا قوم لا تقتلوني إِنكم إِن قتلتموني كنتم هكذا وشبك بين أصابعه, وقوله: {وما قوم لوط منكم ببعيد} قيل المراد في الزمان, قال قتادة: يعني إنما هلكوا بين أيديكم بالأمس, وقيل في المكان ويحتمل الأمران {واستغفروا ربكم} من سالف الذنوب {ثم توبوا إِليه} فيما تستقبلونه من الأعمال السيئة وقوله: {إِن ربي رحيم ودود} لمن تاب.
    ** قَالُواْ يَشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مّمّا تَقُولُ وَإِنّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ * قَالَ يَقَوْمِ أَرَهْطِيَ أَعَزّ عَلَيْكُم مّنَ اللّهِ وَاتّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنّ رَبّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
    يقولون {ياشعيب ما نفقه} ما نفهم {كثيراً} من قولك {وإِنا لنراك فينا ضعيفاً} قال سعيد بن جبير والثوري وكان ضرير البصر, وقال الثوري كان يقال له خطيب الأنبياء, قال السدي {وإِنا لنراك فينا ضعيفاً} قال: أنت واحد, وقال أبو روق: يعنون ذليلاً لأن عشيرتك ليسوا على دينك {ولولا رهطك لرجمناك} أي قومك لولا معزتهم علينا لرجمناك قيل بالحجارة وقيل لسببناك {وما أنت علينا بعزيز} أي ليس عندنا لك معزة {قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله} يقول: أتتركوني لأجل قومي ولا تتركوني إِعظاماً لجناب الرب تبارك وتعالى أن تنالوا نبيه بمساءة وقد اتخذتم كتاب الله {وراءكم ظهرياً} أي نبذتموه خلفكم لا تطيعونه ولا تعظمونه {إِن ربي بما تعملون محيط} أي هو يعلم جميع أعمالكم وسيجزيكم بها.
    ** وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مّبِينٍ * إِلَىَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتّبَعُوَاْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُواْ فِي هَـَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرّفْدُ الْمَرْفُودُ
    يقول تعالى مخبراً عن إِرسال موسى بآياته ودلالاته الباهرة إِلى فرعون ملك القبط وملئه {فاتبعوا أمر فرعون} أي منهجه ومسلكه وطريقته في الغي {وما أمر فرعون برشيد} أي ليس فيه رشد ولا هدى. وإِنما هو جهل وضلال وكفر وعناد, وكما أنهم اتبعوه في الدنيا وكان مقدمهم ورئيسهم كذلك هو يقدمهم يوم القيامة إلى نار جهنم فأوردهم إِياها وشربوا من حياض رداها, وله في ذلك الحظ الأوفر, من العذاب الأكبر, كما قال تعالى: {فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذاً وبيلاً} وقال تعالى: {فكذب وعصى * ثم أدبر يسعى * فحشر فنادى * فقال أناربكم الأعلى * فأخذه الله نكال الاَخرة والأولى * إِن في ذلك لعبرة لمن يخشى} وقال تعالى: {يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار, وبئس الورد المورود} وكذلك شأن المتبوعين يكونون موفورين في العذاب يوم القيامة كما قال تعالى: {لكل ضعف ولكن لا تعلمون} وقال تعالى إِخباراً عن الكفرة أنهم يقولون في النار: {ربنا إِنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب} الاَية, وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم حدثنا أبو الجهم عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «امرؤ القيس حامل لواء شعراء الجاهلية إلى النار» وقوله: {وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة} الاَية, أي أتبعناهم زيادة على عذاب النار لعنة في الدنيا {ويوم القيامة بئس الرفد المرفود} قال مجاهد: زيدوا لعنة يوم القيامة فتلك لعنتان, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {بئس الرفد المرفود} قال: لعنة الدنيا والاَخرة وكذا قال الضحاك وقتادة وهو كقوله {وجعلناهم أئمة يدعون إِلى النار ويوم القيامة لا ينصرون * وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين} وقال تعالى {النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب}.


    ** ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْقُرَىَ نَقُصّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـَكِن ظَلَمُوَاْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لّمّا جَآءَ أَمْرُ رَبّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ
    لما ذكر تعالى خبر الأنبياء وما جرى لهم مع أممهم وكيف أهلك الكافرين ونجى المؤمنين قال: {ذلك من أنباء القرى} أي أخبارهم {نقصه عليك منها قائم} أي عامر {وحصيد} أي هالك {وما ظلمناهم} أي إِذ أهلكناهم {ولكن ظلموا أنفسهم} بتكذيبهم رسلنا وكفرهم بهم {فما أغنت عنهم آلهتهم} أوثانهم التي يعبدونها ويدعونها {من دون الله من شيء} ما نفعوهم ولا أنقذوهم لما جاء أمر الله بإِهلاكهم {وما زادوهم غير تتبيب} قال مجاهد وقتادة وغيرهما: أي غير تخسير وذلك أن سبب هلاكهم ودمارهم إِنما كان باتباعهم تلك الاَلهة فلهذا خسروا في الدنيا والاَخرة
    ** فَأَمّا الّذِينَ شَقُواْ فَفِي النّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلاّ مَا شَآءَ رَبّكَ إِنّ رَبّكَ فَعّالٌ لّمَا يُرِيدُ
    يقول تعالى {لهم فيها زفير وشهيق} قال ابن عباس الزفير في الحلق والشهيق في الصدر أي تنفسهم زفير وأخذهم النفس شهيق, لما هم فيه من العذاب عياذاً بالله من ذلك {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض} قال الإمام أبو جعفر بن جرير: من عادة العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبداً قالت هذا دائم دوام السموات والأرض, وكذلك يقولون هو باق ما اختلف الليل والنهار, وما سمر أبناء سمير وما لألأت العير بأذنابها يعنون بذلك كله أبداً فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفونه بينهم فقال: {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض} (قلت): ويحتمل أن المراد بما دامت السموات والأرض الجنس لأنه لا بد في عالم الاَخرة من سموات وأرض كما قال تعالى {يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات} ولهذا قال الحسن البصري في قوله: {ما دامت السموات والأرض} قال: يقول: سماء غير هذه السماء وأرض غير هذه فما دامت تلك السماء وتلك الأرض. وقال ابن أبي حاتم ذكر عن سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قوله: {ما دامت السموات والأرض} قال: لكل جنة سماء وأرض, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ما دامت الأرض أرضا والسماء سماء. وقوله {إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} كقوله {النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم} وقد اختلف المفسرون في المراد من هذا الاستثناء على أقوال كثيرة حكاها الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في كتابه زاد المسير, وغيره من علماء التفسير, ونقل كثيراً منها الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله في كتابه واختار هو ما نقله عن خالد بن معدان والضحاك وقتادة وابن سنان ورواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن أيضاً أن الاستثناء عائد على العصاة من أهل التوحيد ممن يخرجهم الله من النار بشفاعة الشافعين, من الملائكة والنبيين والمؤمنين, حتى يشفعون في أصحاب الكبائر ثم تأتي رحمة أرحم الراحمين فتخرج من النار من لم يعمل خيراً قط وقال يوماً من الدهر لا إله إلا الله كما وردت بذلك الأخبار الصحيحة المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمضمون ذلك من حديث أنس وجابر وأبي سعيد وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة ولا يبقى بعد ذلك في النار إلا من وجب عليه الخلود فيها ولا محيد له عنها, وهذا الذي عليه كثير من العلماء قديماً وحديثاً في تفسير هذه الاَية الكريمة. وقد روي في تفسيرها عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وجابر وأبي سعيد من الصحابة, وعن أبي مجلز والشعبي وغيرهما من التابعين, وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وإسحاق بن راهويه وغيرهما من الأئمة في أقوال غريبة وورد حديث غريب في معجم الطبراني الكبير عن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي ولكن سنده ضعيف والله أعلم. وقال قتادة: الله أعلم بثنياه, وقال السدي هي منسوخة بقوله {خالدين فيها أبداً}.

    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الخميس 18 يونيو - 10:51

    ** وَأَمّا الّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلاّ مَا شَآءَ رَبّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ
    يقول تعالى: {وأما الذين سعدوا} وهم أتباع الرسل {ففي الجنة} أي فمأواهم الجنة {خالدين فيها} أي ماكثين فيها أبداً {ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} معنى الاستثناء ههنا أن دوامهم فيما هم فيه من النعيم ليس أمراً واجباً بذاته بل هو موكول إلى مشيئة الله تعالى فله المنة عليهم دائماً ولهذا يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس. وقال الضحاك والحسن البصري هي في حق عصاة الموحدين الذين كانوا في النار ثم أخرجوا منها وعقب ذلك بقوله {عطاء غير مجذوذ} أي غير مقطوع قاله مجاهد وابن عباس وأبو العالية وغير واحد لئلا يتوهم متوهم بعد ذكره المشيئة أن ثم انقطاعاً أو لبساً أو شيئاً بل حتم له بالدوام وعدم الانقطاع كما بين هناك أن عذاب أهل النار في النار دائماً مردود إلى مشيئته وأنه بعدله وحكمته عذبهم ولهذا قال {إن ربك فعال لما يريد} كما قال: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} وهنا طيب القلوب وثبت المقصود بقوله: {عطاء غير مجذوذ} وقد جاء في الصحيحين «يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا)موت, ويا أهل النار خلود فلا موت, وفي الصحيح أيضاً «فيقال يا أهل الجنة إن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبداً وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً».
    ** فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأرْضِ إِلاّ قَلِيلاً مّمّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتّبَعَ الّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىَ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ
    يقول تعالى فهلا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير ينهون عما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات والفساد في الأرض, وقوله: {إلا قليلاً} أي قد وجد منهم من هذا الضرب قليل لم يكونوا كثيراً وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غضبه وفجأة نقمته ولهذا أمر الله تعالى هذه الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر كما قال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} وفي الحديث «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب» ولهذا قال تعالى: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم} وقوله: {واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه} أي استمروا على ما هم عليه من المعاصي والمنكرات ولم يلتفتوا إلى إنكار أولئك حتى فجأهم العذاب {وكانوا مجرمين} ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة لنفسها ولم يأت قرية مصلحة بأسه وعذابه قط حتى يكونوا هم الظالمين كما قال تعالى: {وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم} وقال: {وما ربك بظلام للعبيد}.


    ** وَلَوْ شَآءَ رَبّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاّ مَن رّحِمَ رَبّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ لأمْلأنّ جَهَنّمَ مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ
    يخبر تعالى أنه قادر على جعل الناس كلهم أمة واحدة من إيمان أو كفر كما قال تعالى: {ولو شاء ربك لاَمن من في الأرض كلهم جميعاً} وقوله: {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك} أي ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم, وقال عكرمة: مختلفين في الهدى وقال الحسن البصري: مختلفين في الرزق يسخر بعضهم بعضاً, والمشهور الصحيح الأول. وقوله: {إلا من رحم ربك} أي إلا المرحومين من أتباع الرسل الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين, أخبرتهم به رسل الله إليهم ولم يزل ذلك دأبهم حتى كان النبي وخاتم الرسل والأنبياء فاتبعوه وصدقوه ووازروه ففازوا بسعادة الدنيا والاَخرة لأنهم الفرقة الناجية كما جاء في الحديث المروي في المسانيد والسنن من طرق يشد بعضها بعضاً «إن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن النصارى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة, قالوا: ومن هم يا رسول الله ؟ قال «ما أنا عليه وأصحابي» رواه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة, وقال عطاء: {ولا يزالون مختلفين} يعني اليهود والنصارى والمجوس {إلا من رحم ربك} يعني الحنيفية وقال قتادة أهل رحمة الله أهل الجماعة وإن تفرقت ديارهم وأبدانهم وأهل معصيته أهل فرقة وإن اجتمعت ديارهم وأبدانهم, وقوله: {ولذلك خلقهم} قال الحسن البصري في رواية عنه وللاختلاف خلقهم, وقال مكي بن أبي طلحة عن ابن عباس: خلقهم فريقين كقوله: {فمنهم شقي وسعيد} وقيل للرحمة خلقهم قال ابن وهب أخبرني مسلم بن خالد عن ابن أبي نجيح عن طاوس: أن رجلين اختصما إليه فأكثرا فقال طاوس اختلفتما وأكثرتما فقال أحد الرجلين: لذلك خلقنا فقال طاوس: كذبت فقال أليس الله يقول: {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} قال لم يخلقهم ليختلفوا ولكن خلقهم للجماعة والرحمة كما قال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب, وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة ويرجع معنى هذا القول إلى قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} وقيل بل المراد وللرحمة والاختلاف خلقهم كما قال الحسن البصري في رواية عنه في قوله: {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} قال الناس مختلفون على أديان شتى {إلا من رحم ربك} فمن رحم ربك غير مختلف فقيل له لذلك خلقهم قال خلق هؤلاء لجنته وخلق هؤلاء لناره وخلق لعذابه وكذا قال عطاء بن أبي رباح والأعمش, وقال ابن وهب سألت مالكاً عن قوله تعالى: {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} قال فريق في الجنة وفريق في السعير, وقد اختار هذا القول ابن جرير وأبو عبيد الفراء وعن مالك فيما روينا عنه من التفسير {ولذلك خلقهم} قال للرحمة وقال قوم للاختلاف. وقوله: {وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} يخبر تعالى أنه قد سبق في قضائه وقدره لعلمه التام وحكمته النافذة أن ممن خلقه من يستحق الجنة ومنهم من يستحق النار وأنه لا بد أن يملأ جهنم من هذين الثقلين الجن والإنس وله الحجة البالغة والحكمة التامة, وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اختصمت الجنة والنار فقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين فقال الله عز وجل للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء وقال للنار أنت عذابي أنتقم بك ممن أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها فأما الجنة فلا يزال فيها فضل حتى ينشىء الله لها خلقاً يسكن فضل الجنة وأما النار فلا تزال تقول هل من مزيد حتى يضع عليها رب العزة قدمه فتقول قط قط وعزتك.


    ** وَكُـلاّ نّقُصّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَآءَكَ فِي هَـَذِهِ الْحَقّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىَ لِلْمُؤْمِنِينَ
    يقول تعالى وكل أخبار نقصها عليك من أنباء الرسل المتقدمين من قبلك مع أممهم وكيف جرى لهم من المحاجات والخصومات وما احتمله الأنبياء من التكذيب والأذى وكيف نصر الله حزبه المؤمنين وخذل أعداءه الكافرين. كل هذا مما نثبت به فؤادك أي قلبك يا محمد ليكون لك بمن مضى من إخوانك من المرسلين أسوة, وقوله: {وجاءك في هذه الحق} أي هذه السورة قال ابن عباس ومجاهد وجماعة من السلف, وعن الحسن في رواية عنه وقتادة في هذه الدنيا والصحيح في هذه السورة المشتملة على قصص الأنبياء وكيف أنجاهم الله والمؤمنين بهم وأهلك الكافرين جاءك فيها قصص حق ونبأ صدق وموعظة يرتدع بها الكافرون وذكرى يتذكر بها المؤمنون.


    ** وَقُل لّلّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَىَ مَكَانَتِكُمْ إِنّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوَاْ إِنّا مُنتَظِرُونَ
    يقول تعالى آمراً رسوله أن يقول للذين لا يؤمنون بما جاء به من ربه على وجه التهديد {اعملوا على مكانتكم} أي على طريقتكم ومنهجكم {إنا عاملون} أي على طريقتنا ومنهجنا {وانتظروا إنا منتظرون} أي {فستعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون} وقد أنجز الله لرسوله وعده ونصره وأيده وجعل كلمته هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى والله عزيز حكيم.


    ** وَللّهِ غَيْبُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبّكَ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ
    يخبر تعالى أنه عالم غيب السموات والأرض وأنه إليه المرجع والمآب, وسيؤتي كل عامل عمله يوم الحساب, فله الخلق والأمر, فأمر تعالى بعبادته والتوكل عليه. فإنه كاف من توكل عليه وأناب إليه, وقوله: {وما ربك بغافل عما تعملون} أي ليس يخفى عليه ما عليه مكذبوك يا محمد بل هو عليم بأحوالهم وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء في الدنيا والاخرة وسينصرك وحزبك عليهم في الدارين, وقال ابن جرير حدثنا ابن وكيع حدثنا زيد بن الحباب عن جعفر بن سليمان عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن رباح عن كعب قال: خاتمة التوراة خاتمة هود.آخر تفسير سورة هود عليه السلام ولله الحمد والمنة.


    تمت سورة هود

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الخميس 18 يونيو - 11:02

    سورة يوسف
    روى الثعلبي وغيره من طريق سلام بن سلم, ويقال: سليم المدائني, وهو متروك عن هارون بن كثير, وقد نص على جهالته أبو حاتم, عن زيد بن أسلم, عن أبيه, عن أبي أمامة, عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «علموا أرقاكم سورة يوسف, فإنه أيما مسلم تلاها أو علمها أهله أو ما ملكت يمينه, هون الله عليه سكرات الموت وأعطاه من القوة أن لا يحسد مسلماً», وهذا من هذا الوجه لا يصح لضعف إسناده بالكلية, وقد ساقه الحافظ ابن عساكر متابعاً من طريق القاسم بن الحكم, عن هارون بن كثير به, ومن طريق شبابة عن محمد بن عبد الواحد النضري, عن علي بن زيد بن جدعان, وعن عطاء بن أبي ميمونة, عن زر بن حبيش, عن أبي بن كعب, عن النبي صلى الله عليه وسلم, فذكر نحوه, وهو منكر من سائر طرقه, وروى البيهقي في الدلائل أن طائفة من اليهود حين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو هذه السورة أسلموا لموافقتها ما عندهم, وهو من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.

    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** الَر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لّعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ
    أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة. وقوله: {تلك آيات الكتاب} أي هذه آيات الكتاب, وهو القرآن المبين, أي الواضح الجلي الذي يفصح عن الأشياء المبهمة, ويفسرها ويبينها {إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون} وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس, فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات, على أشرف الرسل بسفارة أشرف الملائكة, وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض, وابتدىء إنزاله في أشرف شهور السنة, وهو رمضان, فكمل من كل الوجوه, ولهذا قال تعالى: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن} بسبب إيحائنا إليك هذا القرآن.
    وقد ورد في سبب نزول هذه الاَية ما رواه ابن جرير: حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي, حدثنا حكام الرازي عن أيوب, عن عمرو هو ابن قيس الملائي, عن ابن عباس قال: قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قصصت علينا ؟ فنزلت {نحن نقص عليك أحسن القصص}, ورواه من وجه آخر عن عمرو بن قيس مرسلاً. وقال أيضاً. حدثنا محمد بن سعيد القطان, حدثنا عمرو بن محمد, أنبأنا خالد الصفار عن عمرو بن قيس, عن عمرو بن مرة, عن مصعب بن سعد, عن أبيه قال: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن. قال: فتلاه عليهم زماناً, فقالوا: يارسول الله لو قصصت علينا ؟ فأنزل الله عز وجل {الر تلك آيات الكتاب المبين} إلى قوله: {لعلكم تعقلون} ثم تلاه عليهم زماناً, فقالوا: يا رسول الله لو حدثتنا, فأنزل الله عز وجل {الله نزل أحسن الحديث} الاَية, وذكر الحديث, ورواه الحاكم من حديث إسحاق بن راهويه عن عمرو بن محمد القرشي المنقري به, وروى ابن جرير بسنده عن المسعودي, عن عون بن عبد الله قال: مل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملة فقالوا: يا رسول الله حدثنا, فأنزل الله {الله نزل أحسن الحديث} ثم ملوا ملة أخرى, فقالوا: يا رسول الله حدثنا فوق الحديث, ودون القرآن يعنون القصص, فأنزل الله عز وجل {الر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون * نحن نقص عليك أحسن القصص} الاَية, فأرادوا الحديث, فدلهم على أحسن الحديث, وأرادوا القصص فدلهم على أحسن القصص.
    ومما يناسب ذكره عند هذه الاَية الكريمة المشتملة على مدح القرآن, وأنه كاف عن كل ما سواه من الكتب ما رواه الإمام أحمد: حدثنا سريج بن النعمان, أنبأنا هشيم, أنبأنا مجالد عن الشعبي, عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب, فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فغضب وقال: «أمتهوّكون فيها يا ابن الخطاب ؟ والذي نفسي بيده, لقد جئتكم بها بيضاء نقية, لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبونه, أو بباطل فتصدقونه, والذي نفسي بيده, لو أن موسى كان حيّاً ما وسعه إلا أن يتبعني». وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أنبأنا سفيان عن جابر, عن الشعبي, عن عبد الله بن ثابت قال: جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني مررت بأخ لي من قريظة, فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك ؟ قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال عبد الله بن ثابت: فقلت له: ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً, وبمحمد رسولاً. قال: فسري عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «والذي نفس محمد بيده, لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم, إنكم حظي من الأمم, وأنا حظكم من النبيين».
    وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا عبد الغفار بن عبد الله بن الزبير, حدثنا علي بن مسعر عن عبد الرحمن بن إسحاق, عن خليفة بن قيس, عن خالد بن عرفطة قال: كنت جالساً عند عمر إذ أتي برجل من عبد القيس مسكنه بالسوس, فقال له عمر: أنت فلان بن فلان العبدي ؟ قال: نعم. قال: وأنت النازل بالسوس ؟ قال: نعم, فضربه بقناة معه, قال: فقال الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين ؟ فقال له عمر: اجلس فجلس, فقرأ عليه {بسم الله الرحمن الرحيم * آلر * تلك آيات الكتاب المبين * إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون * نحن نقص عليك أحسن القصص ـ إلى قوله ـ لمن الغافلين} فقرأها عليه ثلاثاً, وضربه ثلاثاً, فقال له الرجل: ما لي ياأمير المؤمنين ؟ فقال: أنت الذي نسخت كتاب دانيال. قال: مرني بأمرك أتبعه, قال: انطلق فامحه بالحميم والصوف الأبيض ثم لا تقرأه ولا تقرئه أحداً من الناس فلئن بلغني عنك أنك قرأته أو أقرأته أحداً من الناس لأنهكنك عقوبة, ثم قال, له اجلس فجلس بين يديه, فقال: انطلقت أنا فانتسخت كتاباً من أهل الكتاب, ثم جئت به في أديم, فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذا في يدك يا عمر ؟» قال: قلت: يا رسول الله كتاب نسخته لنزداد به علماً إلى علمنا, فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه, ثم نودي بالصلاة جامعة, فقالت الأنصار: أغضب نبيكم الله صلى الله عليه وسلم ؟ السلاح السلاح, فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه, واختصر لي اختصاراً, ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية, فلا تتهوكوا ولا يغرنكم المتهوكون» قال عمر: فقمت فقلت: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً, وبك رسولاً, ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد رواه ابن أبي حاتم في تفسيره مختصراً من حديث عبد الرحمن بن إسحاق به وهذا حديث غريب من هذا الوجه, وعبد الرحمن بن إسحاق هو أبو شيبة الواسطي, وقد ضعفوه وشيخه. قال البخاري: لا يصح حديثه, قلت: وقد روي له شاهد من وجه آخر, فقال الحافظ أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي: أخبرني الحسن بن سفيان, حدثنا يعقوب بن سفيان, حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي, حدثني عمرو بن الحارث, حدثنا عبد الله بن سالم الأشعري عن الزبيدي, حدثنا سليم بن عامر أن جبير بن نفير حدثهم أن رجلين كانا بحمص في خلافة عمر رضي الله عنه, فأرسل إليهما فيمن أرسل من أهل حمص, وكانا قد اكتتبا من اليهود صلاصفة فأخذاها معهما يستفتيان فيها أمير المؤمنين يقولون: إن رضيها لنا أمير المؤمنين ازددنا فيها رغبة, وإن نهانا عنها رفضناها, فلما قدما عليه قالا: إنا بأرض أهل الكتاب, وإنا نسمع منهم كلاماً تقشعر منه جلودنا, أفنأخذ منه أو نترك ؟ فقال: لعلكما كتبتما منه شيئاً ؟ فقالا: لا, قال سأحدثكما: انطلقت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتيت خيبر, فوجدت يهودياً يقول قولاً أعجبني, فقلت: هل أنت مكتبي مما تقول ؟ قال: نعم فأتيت بأديم, فأخذ يملي علي حتى كتبت في الأكرع, فلما رجعت قلت: يا نبي الله وأخبرته. قال «ائتني به» فانطلقت أرغب عن الشيء رجاء أن أكون جئت رسول الله ببعض ما يحب, فلما أتيت به قال: «اجلس اقرأ علي» فقرأت ساعة, ثم نظرت إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإذا هو يتلون, فتحيرت من الفرق, فما استطعت أن أجيز منه حرفا, فلما رأى الذي بي رفعه ثم جعل يتبعه رسماً رسماً فيمحوه بريقه, وهو يقول: «لا تتبعوا هؤلاء فإنهم قد هوكوا وتهوكوا» حتى محا آخره حرفاً حرفاً. قال عمر رضي الله عنه: فلو علمت أنكما كتبتما منه شيئاً جعلتكما نكالاً لهذه الأمة, قالا: والله ما نكتب منه شيئاً أبداً, فخرجا بصلاصفتهما, فحفرا لها, فلم يألوا أن يعمقا ودفناها, فكان آخر العهد منها, وهكذا روى الثوري عن جابر بن يزيد)الجعفى عن الشعبي عن عبد الله بن ثابت الأنصاري عن عمر بن الخطاب بنحوه, وروى أبو داود في المراسيل من حديث أبي قلابة عن عمر نحوه, والله أعلم.


    ** إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأبِيهِ يَأَبتِ إِنّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ
    يقول تعالى: اذكر لقومك يا محمد في قصصك عليهم من قصة يوسف إذ قال لأبيه, وأبوه هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام, كما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار, عن أبيه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» انفرد بإخراجه البخاري, فرواه عن عبد الله بن محمد عن عبد الصمد به, وقال البخاري أيضاً: حدثنا محمد, أنبأنا عبدة عن عبيد الله عن سعيد بن أبي سعيد, عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم, أي الناس أكرم ؟ قال: «أكرمهم عند الله أتقاهم» قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: «فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله» قالوا: ليس عن هذا نسألك, قال: «فعن معادن العرب تسألوني ؟» قالوا: نعم. قال «فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا» ثم قال: تابعه أبو أسامة عن عبيد الله.
    وقال ابن عباس رؤيا الأنبياء وحي, وقد تكلم المفسرون على تعبير هذا المنام أن الأحد عشر كوكباً عبارة عن إخوته, وكانوا أحد عشر رجلاً سواه, والشمس والقمر عبارة عن أمه وأبيه. روي هذا عن ابن عباس والضحاك وقتادة وسفيان الثوري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وقد وقع تفسيرها بعد أربعين سنة, وقيل: ثمانين سنة, وذلك حين رفع أبويه على العرش وهو سريره وإخوته بين يديه {وخرّوا له سجداً وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً} وقد جاء في حديث تسمية هذه الأحد عشر كوكباً, فقال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثني علي بن سعيد الكندي, حدثنا الحكم بن ظهير عن السدي عن عبد الرحمن بن سابط, عن جابر قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من يهود يقال له بستانة اليهودي, فقال له: يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف أنها ساجدة له, ما أسماؤها ؟ قال: فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة فلم يجبه بشيء. ونزل عليه جبريل عليه السلام فأخبره بأسمائها, قال: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فقال: «هل أنت مؤمن إذا أخبرتك بأسمائها ؟» فقال: نعم. قال «جريان, والطارق, والذيال, وذو الكنفات, وقابس, ووثاب, وعمودان, والفيلق, والمصبح, والضروح, وذو الفرغ, والضياء, والنور» فقال اليهودي: إي وا لله إنها لأسماؤها.
    والله اعلم.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الخميس 18 يونيو - 11:21

    ** وَجَآءُوَا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ * قَالُواْ يَأَبَانَا إِنّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لّنَا وَلَوْ كُنّا صَادِقِينَ * وَجَآءُوا عَلَىَ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىَ مَا تَصِفُونَ
    يقول تعالى مخبراً عن الذي اعتمده إخوة يوسف بعد ما ألقوه في غيابة الجب, ثم رجعوا إلى أبيهم في ظلمة الليل يبكون ويظهرون الأسف والجزع على يوسف ويتغممون لأبيهم, وقالوا معتذرين عما وقع فيما زعموا {إنا ذهبنا نستبق} أي نترامى, {وتركنا يوسف عند متاعنا} أي ثيابنا وأمتعتنا, {فأكله الذئب}, وهو الذي كان قد جزع منه وحذر عليه. وقوله: {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} تلطف عظيم في تقرير ما يحاولونه, يقولون: ونحن نعلم أنك لا تصدقنا والحالة هذه لو كنا عندك صادقين, فكيف وأنت تتهمنا في ذلك, لأنك خشيت أن يأكله الذئب, فأكله الذئب, فأنت معذور في تكذيبك لنا لغرابة ما وقع, وعجيب ما اتفق لنا في أمرنا هذا {وجاءوا على قميصه بدم كذب} أي مكذوب مفترى, وهذا من الأفعال التي يؤكدون بها ما تمالئوا عليه من المكيده, وهو أنهم عمدوا إلى سخلة فيما ذكره مجاهد والسدي وغير واحد, فذبحوها ولطخوا ثوب يوسف بدمها, موهمين أن هذا قميصه الذي أكله فيه الذئب, وقد أصابه من دمه, ولكنهم نسوا أن يخرقوه, فلهذا لم يرج هذا الصنيع على نبي الله يعقوب, بل قال لهم معرضاً عن كلامهم إلى ما وقع في نفسه من لبسهم عليه {بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل} أي فسأصبر صبراً جميلاً على هذا الأمر الذي اتفقتم عليه حتى يفرجه الله بعونه ولطفه {والله المستعان على ما تصفون} أي على ما تذكرون من الكذب والمحال.
    وقال الثوري عن سماك, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس {وجاءوا على قميصه بدم كذب} قال: لو أكله السبع لخرق القميص, وكذا قال الشعبي والحسن وقتادة وغير واحد. وقال مجاهد: الصبر الجميل الذي لا جزع فيه. وروى هشيم عن عبد الرحمن بن يحيى, عن حبان بن أبي جبلة, قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: {فصبر جميل} فقال: صبر لا شكوى فيه, وهذا مرسل. وقال عبد الرزاق: قال الثوري, عن بعض أصحابه أنه قال: ثلاث من الصبر: أن لا تحدث بوجعك, ولا بمصيبتك, ولا تزكي نفسك وذكر البخاري ههنا حديث عائشة في الإفك حتى ذكر قولها: والله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون}.


    ** وَجَاءَتْ سَيّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَىَ دَلْوَهُ قَالَ يَبُشْرَىَ هَـَذَا غُلاَمٌ وَأَسَرّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزّاهِدِينَ
    يقول تعالى مخبراً عما جرى ليوسف عليه السلام حين ألقاه إخوته وتركوه في ذلك الجب وحيداً فريداً, فمكث في البئر ثلاثة أيام فيما قاله أبو بكر بن عياش, وقال محمد بن إسحاق: لما ألقاه إخوته جلسوا حول البئر يومهم ذلك, ينظرون ماذا يصنع وما يصنع به, فساق الله له سيارة, فنزلوا قريباً من تلك البئر, وأرسلوا واردهم وهو الذي يتطلب لهم الماء, فلما جاء ذلك البئر وأدلى دلوه فيها, تشبث يوسف عليه السلام فيها فأخرجه واستبشر به, وقال: {يا بشرى هذا غلام}. وقرأ بعض القراء يا بشراي, فزعم السدي أنه اسم رجل, ناداه ذلك الرجل الذي أدلى دلوه معلماً له أنه أصاب غلاماً, وهذا القول من السدي غريب لأنه لم يسبق إلى تفسير هذه القراءة بهذا إلا في رواية عن ابن عباس, والله أعلم, وإنما معنى القراءة على هذا النحو يرجع إلى القراءة الأخرى, ويكون قد أضاف البشرى إلى نفسه وحذف ياء الإضافة, وهو يريدها كما تقول العرب: يا نفس اصبري ويا غلام أقبل, بحذف حرف الإضافة, ويجوز الكسر حينئذ والرفع, وهذا منه, وتفسرها القراءة الأخرى يا بشراي, والله أعلم.
    ** وَرَاوَدَتْهُ الّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نّفْسِهِ وَغَلّقَتِ الأبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنّهُ رَبّيَ أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الظّالِمُونَ
    يخبر تعالى عن امرأة العزيز التي كان يوسف في بيتها بمصر, وقد أوصاها زوجها به وبإكرامه, فراودته عن نفسه, أي حاولته على نفسه ودعته إليها, وذلك انها أحبته حباً شديداً لجماله وحسنه وبهائه, فحملها ذلك على أن تجملت له وغلقت عليه الأبواب ودعته إلى نفسها, {وقالت هيت لك} فامتنع من ذلك أشد الامتناع, و{قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي} وكانوا يطلقون الرب على السيد الكبير, أي إن بعلك ربي أحسن مثواي أي منزلى, وأحسن إلي فلا أقابله بالفاحشة في أهله {إنه لا يفلح الظالمون}, قال ذلك مجاهد والسدي ومحمد بن إسحاق وغيرهم. وقد اختلف القراء في قوله: {هيت لك} فقرأه كثيرون بفتح الهاء وإسكان الياء وفتح التاء, وقال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: معناه أنها تدعوه إلى نفسها. وقال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس: هيت لك, تقول هلم لك, وكذا قال زر بن حبيش وعكرمة والحسن وقتادة. قال عمرو بن عبيد عن الحسن: وهي كلمة بالسريانية, أي عليك. وقال السدي: هيت لك, أي هلم لك, وهي بالقبطية. وقال مجاهد: هي لغة عربية تدعوه بها. وقال البخاري: وقال عكرمة: هيت لك, أي هلم لك بالحورانية. وهكذا ذكره معلقاً.
    ** ثُمّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الاَيَاتِ لَيَسْجُنُنّهُ حَتّىَ حِينٍ
    يقول تعالى: ثم ظهر لهم من المصلحة فيما رأوه أنهم يسجنونه إلى حين, أي إلى مدة, وذلك بعد ما عرفوا براءته وظهرت الاَيات, وهي الأدلة على صدقه في عفته ونزاهته, وكأنهم ـ والله أعلم ـ إنما سجنوه لما شاع الحديث إيهاماً أنه راودها عن نفسها وأنهم سجنوه على ذلك. ولهذا لما طلبه الملك الكبير في آخر المدة امتنع من الخروج حتى تتبين براءته مما نسب إليه من الخيانة. فلما تقرر ذلك, خرج وهو نقي العرض صلوات الله عليه وسلامه. وذكر السدي أنهم إنما سجنوه لئلا يشيع ما كان منها في حقه, ويبرأ عرضه فيفضحها.


    ** وَدَخَلَ مَعَهُ السّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنّيَ أَرَانِيَ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الاَخَرُ إِنّي أَرَانِيَ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطّيْرُ مِنْهُ نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
    قال قتادة: كان أحدهما ساقي الملك, والاَخر خبازه. قال محمد بن إسحاق: كان اسم الذي على الشراب نبوا والاَخر مجلث. قال السدي: كان سبب حبس الملك إياهما أنه توهم أنهما تمالاَ على سمه في طعامه وشرابه, وكان يوسف عليه السلام قد اشتهر في السجن بالجود والأمانة, وصدق الحديث, وحسن السمت, وكثرة العبادة, صلوات الله عليه وسلامه. ومعرفة التعبير والإحسان إلى أهل السجن, وعيادة مرضاهم, والقيام بحقوقهم. ولما دخل هذان الفتيان إلى السجن تآلفا به وأحباه حباً شديداً وقالا له: والله لقد أحببناك حباً زائداً. قال: بارك الله فيكما, إنه ما أحبني أحد إلا دخل عليّ من محبته ضرر, أحبتني عمتي فدخل عليّ الضرر بسببها, وأحبني أبي فأوذيت بسببه, وأحبتني امرأة العزيز فكذلك, فقالا: والله ما نستطيع إلا ذلك, ثم إنهما رأيا مناماً فرأى الساقي أنه يعصر خمراً يعني عنباً, وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود: إني أراني أعصر عنباً.
    ** يَصَاحِبَيِ السّجْنِ أَأَرْبَابٌ مّتّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاّ أَسْمَآءً سَمّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مّآ أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ للّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ إِيّاهُ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
    ثم إنّ يوسف عليه السلام أقبل على الفتيين بالمخاطبة والدعاء لهما إلى عبادة الله وحده لا شريك له, وخلع ما سواه من الأوثان التي يعبدها قومهما, فقال: {أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} أي الذي ذل كل شيء لعز جلاله وعظمة سلطانه, ثم بين لهما أن التي يعبدونها ويسمونها آلهة إنما هو جهل منهم, وتسمية من تلقاء أنفسهم, تلقاها خلفهم عن سلفهم, وليس لذلك مستند من عند الله, ولهذا قال: {ما أنزل الله بها من سلطان} أي حجة ولا برهان, ثم أخبرهم أن الحكم والتصرف والمشيئة والملك كله لله, وقد أمر عباده قاطبة أن لا يعبدوا إلا إياه, ثم قال تعالى: {ذلك الدين القيم} أي هذا الذي أدعوكم إليه من توحيد الله وإخلاص العمل له, هو الدين المستقيم الذي أمر الله به, وأنزل به الحجة والبرهان الذي يحبه ويرضاه {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أي فلهذا كان أكثرهم مشركين, {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين}. وقد قال ابن جرير: إنما عدل بهم يوسف عن تعبير الرؤيا إلى هذا, لأنه عرف أنها ضارة لأحدهما, فأحب أن يشغلهما بغير ذلك لئلا يعاودوه فيها. فعاودوه فأعاد عليهم الموعظة, وفي هذا الذي قاله نظر, لأنه قد وعدهما أولاً بتعبيرها, ولكن جعل سؤالهما له على وجه التعظيم والاحترام وصلة وسبباً إلى دعائهما إلى التوحيد والإسلام, لما رأى في سجيتهما من قبول الخير والإقبال عليه والإنصات إليه, ولهذا لما فرغ من دعوتهما شرع في تعبير رؤياهما من غير تكرار سؤال فقال


    ** يَصَاحِبَيِ السّجْنِ أَمّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبّهُ خَمْراً وَأَمّا الاَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطّيْرُ مِن رّأْسِهِ قُضِيَ الأمْرُ الّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ
    يقول لهما {يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمراً} وهو الذي رأى أنه يعصر خمراً, ولكنه لم يعينه لئلا يحزن ذاك, ولهذا أبهمه في قوله {وأما الاَخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه} وهو في نفس الأمر الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزاً, ثم أعلمهما أن هذا قد فرغ منه, وهو واقع لا محالة, لأن الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت, وقال الثوري: عن عمارة بن القعقاع, عن إبراهيم عن عبد الله قال: لما قالا ما قالا وأخبرهما, قالا: ما رأينا شيئاً, فقال: {قضي الأمر الذي فيه تستفتيان} ورواه محمد بن فضيل عن عمارة, عن إبراهيم, عن علقمة, عن ابن مسعود به, وكذا فسره مجاهد وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم, وحاصله أن من تحلم بباطل, وفسره فإنه يلزم بتأويله, والله تعالى أعلم, وقد ورد في الحديث الشريف الذي رواه الإمام أحمد عن معاوية بن حيدة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر, فإذا عبرت وقعت» وفي مسند أبي يعلى من طريق يزيد الرقاشي, عن أنس مرفوعاً «الرؤيا لأول عابر».

    يتبع


    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الخميس 18 يونيو - 12:03

    ** وَكَذَلِكَ مَكّنّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ يَتَبَوّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلأجْرُ الاَخِرَةِ خَيْرٌ لّلّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتّقُونَ
    يقول تعالى: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض} أي أرض مصر, {يتبوأ منها حيث يشاء} قال السدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يتصرف فيها كيف يشاء. وقال ابن جرير: يتخذ منها منزلاً حيث يشاء بعد الضيق والحبس والإسار, {نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين} أي وما أضعنا صبر يوسف على أذى إخوته وصبره على الحبس بسبب امرأة العزيز, فلهذا أعقبه الله عز وجل السلام والنصر والتأييد, {ولا نضيع أجر المحسنين * ولأجر الاَخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون} يخبر تعالى أن ما ادخره الله تعالى لنبيه يوسف عليه السلام في الدار الاَخرة أعظم وأكثر وأجل مما خوله من التصرف والنفوذ في الدنيا, كقوله في حق سليمان عليه السلام {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب * وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} والغرض أن يوسف عليه السلام ولاه ملك مصر الريان بن الوليد الوزارة في بلاد مصر مكان الذي اشتراه من مصر زوج التي راودته, وأسلم الملك على يدي يوسف عليه السلام, قاله مجاهد.
    وقال محمد بن إسحاق: لما قال يوسف للملك: {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} قال الملك: قد فعلت, فولاه فيما ذكروا عمل اطفير, وعزل اطفير عما كان عليه, يقول الله عز وجل: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين} قال: فذكر لي ـ والله أعلم ـ أن اطفير هلك في تلك الليالي, وأن الملك الريان بن الوليد زوّج يوسف امرأة اطفير راعيل, وأنها حين دخلت عليه قال لها: أليس هذا خيراً مما كنت تريدين ؟ قال: فيزعمون أنها قالت: أيها الصديق لا تلمني, فإني كنت امرأة كما ترى حسناء جميلة ناعمة في ملك ودنيا, وكان صاحبي لا يأتي النساء, وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك على ما رأيت, فيزعمون أنه وجدها عذراء, فأصابها, فولدت له رجلين: أفرائيم بن يوسف, وميشا بن يوسف, وولد لأفرائيم نون والد يوشع بن نون, ورحمة امرأة أيوب عليه السلام, وقال الفضيل بن عياض: وقفت امرأة العزيز على ظهر الطريق حتى مر يوسف, فقالت: الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكاً بطاعته, والملوك عبيداً بمعصيته.


    ** وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * وَلَمّا جَهّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنّيَ أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ * فَإِن لّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ * قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنّا لَفَاعِلُونَ * وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انْقَلَبُوَاْ إِلَىَ أَهْلِهِمْ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ
    ذكر السدي ومحمد بن إسحاق وغيرهما من المفسرين أن السبب الذي أقدم إخوة يوسف بلاد مصر, أن يوسف عليه السلام لما باشر الوزارة بمصر ومضت السبع السنين المخصبة, ثم تلتها السبع السنين المجدبة, وعم القحط بلاد مصر بكمالها, ووصل إلى بلاد كنعان وهي التي فيها يعقوب عليه السلام وأولاده, وحينئذ احتاط يوسف عليه السلام للناس في غلاتهم, وجمعها أحسن جمع, فحصل من ذلك مبلغ عظيم وهدايا متعددة هائلة, وورد عليه الناس من سائر الأقاليم والمعاملات, يمتارون لأنفسهم وعيالهم, فكان لا يعطي الرجل أكثر من حمل بعير في السنة, وكان عليه السلام, لا يشبع نفسه, ولا يأكل هو والملك وجنودهما إلا أكلة واحدة في وسط النهار, حتى يتكفا الناس بما في أيديهم مدة السبع سنين, وكان رحمة من الله على أهل مصر.
    وما ذكره بعض المفسرين من أنه باعهم في السنة الأولى بالأموال, وفي الثانية بالمتاع, وفي الثالثة بكذا, وفي الرابعة بكذا, حتى باعهم بأنفسهم وأولادهم بعد ما تملك عليهم جميع ما يملكون, ثم أعتقهم ورد عليهم أموالهم كلها, الله أعلم بصحة ذلك, وهو من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب, والغرض أنه كان في جملة من ورد للميرة إخوة يوسف عن أمر أبيهم لهم في ذلك, فإنه بلغهم أن عزيز مصر يعطي الناس الطعام بثمنه, فأخذوا معهم بضاعة يعتاضون بها طعاماً, وركبوا عشرة نفر, واحتبس يعقوب عليه السلام عنده ابنه بنيامين شقيق يوسف عليه السلام, وكان أحب ولده إليه بعد يوسف, فلما دخلوا على يوسف وهو جالس في أبهته ورياسته وسيادته, عرفهم حين نظر إليهم, وهم له منكرون أي لا يعرفونه, لأنهم فارقوه وهو صغير حدث, وباعوه للسيارة ولم يدروا أين يذهبون به, ولا كانوا يستشعرون في أنفسهم أن يصير إلى ما صار إليه, فلهذا لم يعرفوه, وأما هو فعرفهم. فذكر السدي وغيره أنه شرع يخاطبهم, فقال لهم كالمنكر عليهم: ما أقدمكم بلادي ؟ فقالوا: أيها العزيز إنا قدمنا للميرة, قال: فلعلكم عيون ؟ قالوا: معاذ الله. قال: فمن أين أنتم ؟ قالوا من بلاد كنعان, وأبونا يعقوب نبي الله. قال: وله أولاد غيركم ؟ قالوا: نعم كنا اثني عشر, فذهب أصغرنا, هلك في البرية وكان أحبنا إلى أبيه, وبقي شقيقه فاحتبسه أبوه ليتسلى به عنه, فأمر بإنزالهم وإكرامهم {ولما جهزهم بجهازهم} أي أوفى لهم كيلهم, وحمل لهم أحمالهم, قال: ائتوني بأخيكم هذا الذي ذكرتم لأعلم صدقكم فيما ذكرتم {ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين ؟} يرغبهم في الرجوع إليه, ثم رهبهم فقال: {فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي} الاَية, أي إن لم تقدموا به معكم في المرة الثانية فليس لكم عندي ميرة, {ولا تقربون * قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون} أي سنحرص على مجيئه إليك بكل ممكن, ولا نبقي مجهوداً لتعلم صدقنا فيما قلناه, وذكر السدي أنه أخذ منهم رهائن حتى يقدموا به معهم, وفي هذا نظر لأنه أحسن إليهم ورغبهم كثيراً, وهذا لحرصه على رجوعهم, {وقال لفتيانه} أي غلمانه {اجعلوا بضاعتهم} أي التي قدموا بها ليمتاروا عوضاً عنها {في رحالهم} أي في أمتعتهم من حيث لا يشعرون, {لعلهم يرجعون} بها, قيل: خشي يوسف عليه السلام أن لا يكون عندهم بضاعة أخرى يرجعون للميرة بها. وقيل: تذمم أن يأخذ من أبيه وإخوته عوضاً عن الطعام, وقيل أراد أن يردهم إذا وجدوها في متاعهم تحرجاً وتورعاً, لأنه يعلم ذلك منهم والله أعلم.

    ** قَالَ بَلْ سَوّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلّىَ عَنْهُمْ وَقَالَ يَأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّىَ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنّمَآ أَشْكُو بَثّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
    قال لهم كما قال لهم حين جاءوا على قميص يوسف بدم كذب {بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل} قال محمد بن إسحاق: لما جاءوا يعقوب وأخبروه بما جرى, اتهمهم فظن أنها كفعلتهم بيوسف, قال: {بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل} وقال بعض الناس: لما كان صنيعهم هذا مرتباً على فعلهم الأول, سحب حكم الأول عليه, وصح قوله: {بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل} ثم ترجى من الله أن يرد عليه أولاده الثلاثة: يوسف وأخاه بنيامين وروبيل الذي أقام بديار مصر ينتظر أمر الله فيه, إما أن يرضى عنه أبوه, فيأمره بالرجوع إليه, وإما أن يأخذ أخاه خفية, ولهذا قال: {عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً إنه هو العليم} أي العليم بحالي, {الحكيم} في أفعاله وقضائه وقدره, {وتولى عنهم وقال يا أسفا على يوسف} أي أعرض عن بنيه, وقال متذكراً حزن يوسف القديم الأول {يا أسفا على يوسف} جدد له حزن الابنين الحزن الدفين, قال عبد الرزاق: أنبأنا الثوري عن سفيان العصفري, عن سعيد بن جبير أنه قال: لم يعط أحد غير هذه الأمة الاسترجاع, ألا تسمعون إلى قول يعقوب عليه السلام {يا أسفا على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم} أي ساكت لا يشكو أمره إلى مخلوق, قاله قتادة وغيره. وقال الضحاك: فهو كظيم كئيب حزين.
    وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي. حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن, عن الأحنف بن قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن داود عليه السلام قال: يا رب إن بني إسرائيل يسألونك بإبراهيم وإسحاق ويعقوب, فاجعلني لهم رابعاً, فأوحى الله تعالى إليه: أن يا داود إن إبراهيم ألقي في النار بسببي فصبر, وتلك بلية لم تنلك, وإن إسحاق بذل مهجة دمه بسببي فصبر, وتلك بلية لم تنلك, وإن يعقوب أخذت منه حبيبه فابيضت عيناه من الحزن فصبر, وتلك بلية لم تنلك». وهذا مرسل وفيه نكارة, فإن الصحيح أن إسماعيل هو الذبيح, ولكن علي بن زيد بن جدعان له, مناكير وغرائب كثيرة, والله أعلم, وأقرب ما في هذا أن الأحنف بن قيس رحمه الله حكاه عن بعض بني إسرائيل ككعب ووهب ونحوهما, والله أعلم, فإن بني إسرائيل ينقلون أن يعقوب كتب إلى يوسف لما احتبس أخاه بسبب السرقة يتلطف له في رد ابنه, ويذكر له أنهم أهل بيت مصابون بالبلاء, فإبراهيم ابتلي بالنار, وإسحاق بالذبح, ويعقوب بفراق يوسف, في حديث طويل لا يصح, والله أعلم, فعند ذلك رق له بنوه, وقالوا له على سبيل الرفق به والشفقة عليه: {تالله تفتؤ تذكر يوسف} أي لا تفارق تذكر يوسف {حتى تكون حرضاً} أي ضعيف القوة {أو تكون من الهالكين} يقولون إن استمر بك هذا الحال خشينا عليك الهلاك والتلف {قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} أي أجابهم عما قالوا بقوله: {إنما أشكو بثي وحزني} أي همي وما أنا فيه {إلى الله} وحده, {وأعلم من الله ما لا تعلمون} أي أرجو منه كل خير, وعن ابن عباس {وأعلم من الله ما لا تعلمون} يعني رؤيا يوسف أنها صدق, وأن الله لا بد أن يظهرها, وقال العوفي عنه في الاَية: أعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأني سوف أسجد له.
    ** قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوَاْ أَإِنّكَ لأنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـَذَا أَخِي قَدْ مَنّ اللّهُ عَلَيْنَآ إِنّهُ مَن يَتّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ
    يقول تعالى مخبراً عن يوسف عليه السلام, أنه لما ذكر له إخوته ما أصابهم من الجهد والضيق وقلة الطعام وعموم الجدب, وتذكر أباه وما هو فيه من الحزن لفقد ولديه مع ما هو فيه من الملك والتصرف والسعة, فعند ذلك أخذته رقة ورأفة ورحمة وشفقة على أبيه وإخوته, وبدره البكاء فتعرف إليهم, فيقال: إنه رفع التاج عن جبهته, وكان فيها شامة, وقال {هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون} يعني كيف فرقوا بينه وبين أخيه {إذ أنتم جاهلون} أي إنما حملكم على هذا الجهل بمقدار هذا الذي ارتكبتموه, كما قال بعض السلف: كل من عصى الله فهو جاهل, وقرأ {ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة} الاَية, والظاهر ـ والله أعلم ـ أن يوسف عليه السلام إنما تعرف إليهم بنفسه بإذن الله تعالى له في ذلك, كما أنه إنما أخفى منهم نفسه في المرتين الأوليين بأمر الله تعالى له في ذلك, والله أعلم ولكن لما ضاق الحال واشتد الأمر, فرج الله تعالى من ذلك الضيق, كما قال تعالى: {فإن مع العسر يسراً إنّ مع العسر يسراً} فعند ذلك قالوا {أئنك لأنت يوسف ؟} وقرأ أبي بن كعب {إنك لأنت يوسف}, وقرأ ابن محيصن {أنت يوسف}, والقراءة المشهورة هي الأولى, لأن الاستفهام يدل على الاستعظام أي أنهم تعجبوا من ذلك أنهم يترددون إليه من سنتين وأكثر وهم لا يعرفونه وهو مع هذا يعرفهم ويكتم نفسه, فلهذا قالوا على سبيل الاستفهام: {أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي}.



    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الخميس 18 يونيو - 12:07

    وقوله: {قد منّ الله علينا} أي بجمعه بيننا بعد التفرقة وبعد المدة {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين * قالوا تالله لقد آثرك الله علينا} الاَية, يقولون معترفين له بالفضل والأثرة عليهم في الخلق والخلق والسعة والملك والتصرف والنبوة أيضاً, على قول من لم يجعلهم أنبياء, وأقروا له بأنهم أساءوا إليه وأخطأوا في حقه {قال لا تثريب عليكم اليوم} يقول: أي لا تأنيب عليكم ولا عتب عليكم اليوم, ولا أعيد عليكم ذنبكم في حقي بعد اليوم, ثم زادهم الدعاء لهم بالمغفرة فقال: {يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} قال السدي: اعتذروا إلى يوسف فقال: {لا تثريب عليكم اليوم} يقول: لا أذكر لكم ذنبكم: وقال ابن إسحاق والثوري {لاتثريب عليكم} أي لا تأنيب عليكم اليوم عندي فيما صنعتم, {يغفر الله لكم} أي يستر الله عليكم فيما فعلتم {وهو أرحم الراحمين}.** فَلَمّا دَخَلُواْ عَلَىَ يُوسُفَ آوَىَ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ اللّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرّواْ لَهُ سُجّدَاً وَقَالَ يَأَبَتِ هَـَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَيَ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نّزغَ الشّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيَ إِنّ رَبّي لَطِيفٌ لّمَا يَشَآءُ إِنّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
    يخبر تعالى عن ورود يعقوب عليه السلام على يوسف عليه السلام, وقدومه بلاد مصر, لما كان يوسف قد تقدم لإخوته أن يأتوه بأهلهم أجمعين, فتحملوا عن آخرهم, وترحلوا من بلاد كنعان قاصدين بلاد مصر, فلما أخبر يوسف عليه السلام باقترابهم, خرج لتلقيهم وأمر الملك أمراءه وأكابر الناس بالخروج مع يوسف لتلقي نبي الله يعقوب عليه السلام, ويقال: إن الملك خرج أيضاً لتلقيه, وهو الأشبه, وقد أشكل قوله: {آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر} على كثير من المفسرين, فقال بعضهم: هذا من المقدم والمؤخر, ومعنى الكلام {وقال اخلوا مصر إن شاء الله آمنين} وآوى إليه أبويه ورفعهما على العرش, ورد ابن جرير هذا, وأجاد في ذلك, ثم اختار ما حكاه عن السدي أن يوسف آوى إليه أبويه لما تلقاهما, ثم لما وصلوا باب البلد قال: {ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين} وفي هذا نظر أيضا, لأن الإيواء إنما يكون في المنزل, كقوله {آوى إليه أخاه} وفي الحديث «من آوى محدثاً» وما المانع أن يكون قال لهم بعدما دخلوا عليه وآواهم إليه: ادخلوا مصر, وضمنه اسكنوا مصر إن شاء الله آمنين, أي مما كنتم فيه من الجهد والقحط, ويقال ـ والله أعلم ـ إن الله تعالى رفع عن أهل مصر بقية السنين المجدبة ببركة قدوم يعقوب عليهم, كما رفع بقية السنين التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل مكة حين قال: «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف» ثم لما تضرعوا إليه واستشفعوا لديه, وأرسلوا أبا سفيان في ذلك, فدعا لهم فرفع عنهم بقية ذلك ببركة دعائه عليه السلام.
    وقوله: {آوى إليه أبويه} قال السدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إنما كان أباه وخالته, وكانت أمه قد ماتت قديماً. وقال محمد بن إسحاق وابن جرير: كان أبوه وأمه يعيشان, قال ابن جرير: ولم يقم دليل على موت أمه, وظاهر القرآن يدل على حياتها, وهذا الذي نصره هو المنصور الذي يدل عليه السياق. وقوله: {ورفع أبويه على العرش} قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: يعني السرير, أي أجلسهما معه على سريره, {وخروا له سجداً} أي سجد له أبواه وإخوته الباقون. وكانوا أحد عشر رجلاً, {وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل} أي التي كان قصها على أبيه من قبل, {إني رأيت أحد عشر كوكباً} الاَية, وقد كان هذا سائغاً في شرائعهم إذا سلموا على الكبير يسجدون له, ولم يزل هذا جائزاً من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه السلام, فحرم هذا في هذه الملة, وجعل السجود مختصاً بجناب الرب سبحانه وتعالى, هذا مضمون قول قتادة وغيره.
    ** ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوَاْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ * وَمَآ أَكْثَرُ النّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ * وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ
    يقول تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم لما قص عليه نبأ إِخوة يوسف, وكيف رفعه الله عليهم, وجعل له العاقبة والنصر والملك والحكم, مع ما أرادوا به من السوء والهلاك والإعدام, هذا وأمثاله يا محمد من أخبار الغيوب السابقة {نوحيه إِليك} ونعلمك به يا محمد لما فيه من العبرة لك, والاتعاظ لمن خالفك {وما كنت لديهم} حاضراً عندهم ولا مشاهداً لهم {إِذ أجمعوا أمرهم} أي على إِلقائه في الجب {وهم يمكرون} به, ولكنا أعلمناك به وحياً إِليك وإِنزالاً عليك, كقوله: {وما كنت لديهم إِذ يلقون أقلامهم} الاَية, وقال تعالى: {وما كنت بجانب الغربي إِذ قضينا إِلى موسى الأمر} الاَية, إِلى قوله: {وما كنت بجانب الطور إِذ نادينا} الاَية, وقال: {وما كنت ثاوياً في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا} الاَية, وقال {ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إِذ يختصمون * إِن يوحى إلي إِلا أنما أنا نذير مبين} يقول تعالى: إِنه رسوله وإِنه قد أطلعه على أنباء ما قد سبق, مما فيه عبرة للناس ونجاة لهم في دينهم ودنياهم, ومع هذا ما آمن أكثر الناس, ولهذا قال: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} وقال: {وإِن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} كقوله: {إِن في ذلك لاَية وما كان أكثرهم مؤمنين} إِلى غير ذلك من الاَيات. وقوله: {وما تسألهم عليه من أجر} أي ما تسألهم يا محمد على هذا النصح والدعاء إِلى الخير والرشد من أجر, أي من جعالة ولا أجرة على ذلك, بل تفعله ابتغاء وجه الله ونصحاً لخلقه {إِن هو إِلا ذكر للعالمين} يتذكرون به ويهتدون وينجون به في الدنيا والاَخرة.


    ** وَكَأَيّن مّن آيَةٍ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَهُمْ مّشْرِكُونَ * أَفَأَمِنُوَاْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مّنْ عَذَابِ اللّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
    يخبر تعالى عن غفلة أكثر الناس عن التفكر في آيات الله ودلائل توحيده بما خلقه الله في السموات والأرض من كواكب زاهرات ثوابت, وسيارات وأفلاك دائرات, والجميع مسخرات, وكم في الأرض من قطع متجاورات, وحدائق وجنات, وجبال راسيات, وبحار زاخرات, وأمواج متلاطمات, وقفار شاسعات, وكم من أحياء وأموات, وحيوان ونبات, وثمرات متشابهة ومختلفات في الطعوم والروائح والألوان والصفات, فسبحان الواحد الأحد, خالق أنواع المخلوقات, المتفرد بالدوام والبقاء والصمدية للأسماء والصفات, وغير ذلك.
    ** حَتّىَ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرّسُلُ وَظَنّوَاْ أَنّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّيَ مَن نّشَآءُ وَلاَ يُرَدّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ
    يذكر تعالى أن نصره ينزل على رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله في أحوج الأوقات إليه, كقوله تعالى: {وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله} الاَية, وفي قوله: {كذبوا} قراءتان إحداهما بالتشديد قد كذبوا, وكذلك كانت عائشة رضي الله عنها تقرؤها, قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت له وهو يسألها عن قول الله تعالى: {حتى إذا استيأس الرسل} قال: قلت: أكذبوا أم كذبوا ؟ قالت عائشة كذبوا. قلت فقد استيقنوا أن قومهم قد كذبوهم فما هو بالظن ؟: قالت: أجل لعمري لقد استيقنوا بذلك, فقلت لها: {وظنوا أنهم قد كذبوا} قالت معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك بربها قلت: فما هذه الاَية ؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم, فطال عليهم البلاء, واستأخر عنهم النصر {حتى إذا استيأس الرسل} ممن كذبهم من قومهم, وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم, جاء نصر الله عند ذلك, حدثنا أبو اليمان, أنبأنا شعبة عن الزهري قال: أخبرنا عروة فقلت لها: لعلها قد كذبوا مخففة ؟ قالت: معاذ الله. انتهى ما ذكره.
    وقال ابن جريج: أخبرني ابن أبي مليكة أن ابن عباس قرأها {وظنوا أنهم قد كذبوا} خفيفة. قال عبد الله هو ابن أبي مليكة ثم قال لي ابن عباس: كانوا بشراً, ثم تلا {حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} قال ابن جريج: وقال لي ابن أبي مليكة, وأخبرني عروة عن عائشة أنها خالفت ذلك وأبته, وقالت: ما وعد الله محمداً صلى الله عليه وسلم من شيء إلا قد علم أنه سيكون حتى مات, ولكنه لم يزل البلاء بالرسل حتى ظنوا أن من معهم من المؤمنين قد كذبوهم. قال ابن أبي مليكة في حديث عروة, كانت عائشة تقرؤها {وظنوا أنهم قد كذبوا} مثقلة من التكذيب. وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا يونس بن عبد الأعلى قراءة, أنبأنا ابن وهب, أخبرني سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد قال: جاء إنسان إلى القاسم بن محمد فقال: إن محمد بن كعب القرظي قرأ هذه الاَية {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا} فقال القاسم: أخبره عني أني سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا} تقول: كذبهم أتباعهم إسناد صحيح أيضاً.
    ** لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاُوْلِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىَ وَلَـَكِن تَصْدِيقَ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
    يقول تعالى: لقد كان في خبر المرسلين مع قومهم, وكيف نجينا المؤمنين وأهلكنا الكافرين {عبرة لأولي الألباب} وهي العقول, {ما كان حديثاً يفترى} أي وما كان لهذا القرآن أن يفترى من دون الله, أي يكذب ويختلق {ولكن تصديق الذي بين يديه} أي: من الكتب المنزلة من السماء وهو يصدق ما فيها من الصحيح, وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير, ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير {وتفصيل كل شيء} من تحليل وتحريم ومحبوب ومكروه, وغير ذلك من الأمر بالطاعات والواجبات والمستحبات, والنهي عن المحرمات وما شاكلها من المكروهات, والإخبار عن الأمور الجلية, وعن الغيوب المستقبلة المجملة والتفصيلية, والإخبار عن الرب تبارك وتعالى وبالأسماء والصفات, وتنزهه عن مماثلة المخلوقات, فلهذا كان {هدى ورحمة لقوم يؤمنون} تهتدي به قلوبهم من الغي إلى الرشاد, ومن الضلال إلى السداد, ويبتغون به الرحمة من رب العباد, في هذه الحياة الدنيا ويوم المعاد, فنسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم في الدنيا والاَخرة, يوم يفوز بالربح المبيضة وجوههم الناضرة, ويرجع المسودّة وجوههم بالصفقة الخاسرة. آخر تفسير سورة يوسف عليه السلام ولله الحمد والمنة وبه المستعان.


    تمت سورة يوسف

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الخميس 18 يونيو - 12:23

    سورة الرعد
    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
    ** الَمَر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ الْحَقّ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ
    أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور, فقد تقدم في أول سورة البقرة, وقدمنا أن كل سورة ابتدئت بهذه الحروف ففيها الانتصار للقرآن وتبيان أن نزوله من عند الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا ريب, ولهذا قال: {تلك آيات الكتاب} أي هذه آيات الكتاب, وهو القرآن, وقيل: التوراة والإنجيل, قاله مجاهد وقتادة, وفيه نظر بل هو بعيد, ثم عطف على ذلك عطف صفات فقال: {والذي أنزل إليك} أي يا محمد {من ربك الحق} خبر تقدم مبتدؤه, وهو قوله: {والذي أنزل إليك من ربك} هذا هو الصحيح المطابق لتفسير مجاهد وقتادة, واختار ابن جرير أن تكون الواو زائدة أو عاطفة صفة على صفة كما قدمنا, واستشهد بقول الشاعر:
    إلى الملك القرم وابن الهماموليث الكتيبة في المزدحم
    وقوله: {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} كقوله: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} أي مع هذا البيان والجلاء والوضوح لا يؤمن أكثرهم لما فيهم من الشقاق والعناد والنفاق)


    ** اللّهُ الّذِي رَفَعَ السّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ وَسَخّرَ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّ يَجْرِي لأجَلٍ مّسَمّـى يُدَبّرُ الأمْرَ يُفَصّلُ الاَيَاتِ لَعَلّكُمْ بِلِقَآءِ رَبّكُمْ تُوقِنُونَ
    يخبر الله تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه أنه الذي بإذنه وأمره رفع السموات بغير عمدٍ, بل بإذنه وأمره وتسخيره رفعها عن الأرض بعداً لا تنال ولا تدرك مداها, فالسماء الدنيا محيطة بجميع الأرض وما حولها من الماء والهواء من جميع نواحيها وجهاتها وأرجائها, مرتفعة عليها من كل جانب على السواء, وبعد ما بينها وبين الأرض من كل ناحية مسيرة خمسمائة عام, وسمكها في نفسها مسيرة خمسمائة عام, ثم السماء الثانية محيطة بالسماء الدنيا وما حوت, وبينهما من بعد المسير خمسمائة عام, وسمكها خمسمائة عام, وهكذا السماء الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة, كما قال تعالى: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} الاَية.
    وفي الحديث «ما السموات السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة, والكرسي في العرش المجيد كتلك الحلقة في تلك الفلاة». وفي رواية «والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل» وجاء عن بعض السف أن بعد ما بين العرش إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة, وبعد ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة, وهو من ياقوتة حمراء. وقوله: {بغير عمد ترونها} روي عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد أنهم قالوا: لها عمد ولكن لا ترى. وقال إياس بن معاوية: السماء على الأرض مثل القبة, يعني بلا عمد, وكذا روي عن قتادة, وهذا هو اللائق بالسياق, والظاهر من قوله تعالى: {ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه} فعلى هذا يكون قوله: {ترونها} تأكيداً لنفي ذلك, أي هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها, وهذا هو الأكمل في القدرة, وفي شعر أمية بن أبي الصلت الذي آمن شعره, وكفر قلبه كما ورد في الحديث, ويروى لزيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه:
    وأنت الذي من فضل منّ ورحمةبعثت إلى موسى رسولاً مناديا
    فقلت له: فاذهب وهارون فادعواإلى الله فرعون الذي كان طاغياً
    وقولا له:
    هل أنت سويت هذهبلا وتد حتى استقلت كما هيا ؟
    وقولا له:
    أأنت رفعت هذهبلا عمد أو فوق ذلك بانيا ؟
    وقولا له:
    هل أنت سويت وسطهامنيراً إذا ما جنك الليل هاديا ؟
    وقولا له: من يرسل الشمس غدوة,فيصبح ما مست من الأرض ضاحيا ؟
    وقولا له: من أنبت الحب في الثرىفيصبح منه العشب يهتز رابيا
    ويخرج منه حبه في رؤوسه ؟ففي ذاك آيات لمن كان واعيا
    وقوله تعالى: {ثم استوى على العرش} تقدم تفسيره في سورة الأعراف وأنه يمر كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل, ولا تمثيل, تعالى الله علواً كبيراً. وقوله: {وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى} قيل: المراد أنهما يجريان إلى انقطاعهما بقيام الساعة, كقوله تعالى: {والشمس تجري لمستقر لها} وقيل: المراد إلى مستقرهما وهو تحت العرش مما يلي بطن الأرض من الجانب الاَخر, فإنهما وسائر الكواكب إذا وصلوا هنالك يكونون أبعد ما يكون عن العرش, لأنه على الصحيح الذي تقوم عليه الأدلة قبة مما يلي العالم من هذا الوجه, وليس بمحيط كسائر الأفلاك, لأن له قوائم وحملة يحملونه, ولا يتصور هذا في الفلك المستدير, وهذا واضح لمن تدبر ما وردت به الاَيات والأحاديث الصحيحة, ولله الحمد والمنة.
    ** اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلّ أُنثَىَ وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ
    يخبر تعالى عن تمام علمه الذي لا يخفى عليه شيء, وأنه محيط بما تحمله الحوامل من كل إناث الحيوانات, كما قال تعالى: {ويعلم ما في الأرحام} أي ما حملت من ذكر أو أنثى, أو حسن أو قبيح, أو شقي أو سعيد, أو طويل العمر أو قصيره, كقوله تعالى: {هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة} الاَية, وقال تعالى: {يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث} أي خلقكم طوراً من بعد طور, كما قال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين} وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن خلق إحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً, ثم يكون علقة مثل ذلك, ثم يكون مضغة مثل ذلك, ثم يبعث الله إليه ملكاً فيؤمر بأربع كلمات, بكتب رزقه, وعمره, وعمله, وشقي أو سعيد». وفي الحديث الاَخر «فيقول الملك أي رب أذكر أم أنثى ؟ أي رب أشقي أم سعيد ؟ فما الرزق ؟ فما الأجل ؟ فيقول الله, ويكتب الملك}.
    وقوله {وما تغيض الأرحام وما تزداد} قال البخاري: حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا معن حدثنا مالك عن عبد الله بن دينار, عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مفاتيح الغيب خمس, لا يعلمهن إلا الله: لا يعلم ما في غد إلا الله, ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله, ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله, ولا تدري نفس بأي أرض تموت, ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله» وقال العوفي عن ابن عباس {وما تغيض الأرحام} يعني السقط,{وما تزداد} يقول: ما زادت الرحم في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماماً, وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر, ومن تحمل تسعة أشهر, ومنهن من تزيد في الحمل, ومنهن من تنقص, فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله تعالى وكل ذلك بعلمه تعالى.
    ** هُوَ الّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىءُ السّحَابَ الثّقَالَ * وَيُسَبّحُ الرّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ
    يخبر تعالى أنه هو الذي يسخر البرق, وهو ما يرى من النور اللامع ساطعاً من خلل السحاب. وروى ابن جرير أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن البرق, فقال: البرق الماء. وقوله: {خوفاً وطمعاً} قال قتادة: خوفاً للمسافر يخاف أذاه ومشقته, وطمعاً للمقيم يرجو بركته ومنفعته ويطمع في رزق الله, {وينشىء السحاب الثقال} أي ويخلقها منشأة جديدة, وهي لكثرة مائها ثقيلة قريبة إلى الأرض قال مجاهد: السحاب الثقال الذي فيه الماء, قال: {ويسبح الرعد بحمده} كقوله: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده}.
    وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, حدثنا إبراهيم بن سعد, أخبرني أبي قال: كنت جالساً إلى جنب حميد بن عبد الرحمن في المسجد, فمر شيخ من بني غفار, فأرسل إليه حميد, فلما أقبل قال: ياابن أخي, وسع فيما بيني وبينك, فإنه قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجاء حتى جلس فيما بيني وبينه, فقال له حميد: ما الحديث الذي حدثتني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال له الشيخ: سمعت عن شيخ من بني غفار أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله ينشىء السحاب فينطق أحسن النطق, ويضحك أحسن الضحك» والمراد ـ والله أعلم ـ أن نطقها الرعد وضحكها البرق. وقال موسى بن عبيدة عن سعد بن إبراهيم قال: يبعث الله الغيث فلا أحسن منه مضحكاً, ولا آنس منه منطقاً, فضحكه البرق, ومنطقه الرعد.
    ** لَهُ دَعْوَةُ الْحَقّ وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاّ كَبَاسِطِ كَفّيْهِ إِلَى الْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ
    قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه {له دعوة الحق} قال: التوحيد, رواه ابن جرير. وقال ابن عباس وقتادة ومالك عن محمد بن المنكدر {له دعوة الحق} لا إله إلا الله {والذين يدعون من دونه} الاَية, أي ومثل الذين يعبدون آلهة غير الله {كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه}. قال علي بن أبي طالب: كمثل الذي يتناول الماء من طرف البئر بيده وهو لا يناله أبداً بيده, فكيف يبلغ فاه ؟ وقال مجاهد {كباسط كفيه} يدعو الماء بلسانه ويشير إليه فلا يأتيه أبداً, وقيل: المراد كقابض يده على الماء, فإنه لا يحكم منه على شي, كما قال الشاعر:
    فإني وإِياكم وشوقاً إليكمكقابض ماء لم تسقه أنامله
    وقال الاَخر:
    فأصبحت مما كان بيني وبينهامن الودّ مثل القابض الماء باليد
    ومعنى هذا الكلام أن الذي يبسط يده إلى الماء إما قابضاً وإما متناولاً له من بعد كما أنه لا ينتفع بالماء الذي لم يصل إلى فيه الذي جعله محلاً للشرب, فكذلك هؤلاء المشركون الذين يعبدون مع الله إلهاً غيره, لا ينتفعون بهم أبداً في الدنيا ولا في الاَخرة, ولهذا قال {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال}.


    ** وَللّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوّ وَالاَصَالِ
    يخبر تعالى عن عظمته وسلطانه, الذي قهر كل شيء, ودان له كل شيء, ولهذا يسجد له كل شيء طوعاً من المؤمنين وكرهاً على الكافرين {وظلالهم بالغدوّ} أي البكر {والاَصال} وهو جمع أصيل, وهو آخر النهار, كقوله تعالى: {أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله} الاَية.



    .

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الخميس 18 يونيو - 12:38

    ** قُلْ مَن رّبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتّخَذْتُمْ مّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَىَ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظّلُمَاتُ وَالنّورُ أَمْ جَعَلُواْ للّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهّارُ
    يقرر تعالى أنه لا إله إلا هو, لأنهم معترفون بأنه هو الذي خلق السموات والأرض, وهو ربها ومدبرها, وهم مع هذا قد اتخذوا من دونه أولياء يعبدونهم, وأولئك الاَلهة لا تملك لأنفسها ولا لعابديها بطريق الأولى نفعاً ولا ضراً, أي لا تحصل لهم منفعة ولا تدفع عنهم مضرة, فهل يستوي من عبد هذه الاَلهة مع الله, ومن عبد الله وحده لا شريك له فهو على نور من ربه ؟ ولهذا قال: {قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم} أي أجعل هؤلاء المشركون مع الله آلهة تناظر الرب وتماثله في الخلق فخلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم فلا يدرون أنها مخلوقة من مخلوق غيره أي ليس الأمر كذلك فإنه لا يشابهه شيء, ولا يماثله ولا ند له ولا عدل له ولا وزير له ولا ولد ولا صاحبة تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وإنما عبد هؤلاء المشركون معه آلهة هم معترفون أنها مخلوقة له, عبيد له, كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك, إلا شريكاً هو لك, تملكه وما ملك, وكما أخبرنا تعالى عنهم في قوله: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} فأنكر تعالى عليهم ذلك حيث اعتقدوا ذلك, وهو تعالى لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} {وكم من ملك في السموات} الاَية, وقال {إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً * لقد أحصاهم وعدهم عداً * وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً} فإذا كان الجميع عبيداً, فلم يعبد بعضهم بعضاً بلا دليل ولا برهان, بل مجرد الرأي والاختراع والابتداع, ثم قد أرسل رسله من أولهم إلى آخرهم, تزجرهم عن ذلك وتنهاهم عن عبادة من سوى الله, فكذبوهم وخالفوهم, فحقت عليهم كلمة العذاب لا محالة {ولا يظلم ربك أحداً}.** كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِيَ أُمّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ لّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الّذِيَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرّحْمَـَنِ قُلْ هُوَ رَبّي لآ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ
    يقول تعالى : وكما أرسلناك يا محمد في هذه الأمة {لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك} أي تبلغهم رسالة الله إليهم, كذلك أرسلنا في الأمم الماضية الكافرة بالله, وقد كذب الرسل من قبلك بهم أسوة, وكما أوقعنا بأسنا ونقمتنا بأولئك, فليحذر هؤلاء من حلول النقم بهم, فإن تكذيبهم لك أشد من تكذيب غيرك من المرسلين, قال الله تعالى: {تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك} الاَية, وقال تعالى: {ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين} أي كيف نصرناهم, وجعلنا العاقبة لهم ولأتباعهم في الدنيا والاَخرة.
    وقوله: {وهم يكفرون بالرحمن} أي هذه الأمة التي بعثناك فيهم يكفرون بالرحمن لا يقرون به, لأنهم كانوا يأنفون من وصف الله بالرحمن الرحيم, ولهذا أنفوا يوم الحديبية أن يكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم, وقالوا: ما ندري ما الرحمن الرحيم, قاله قتادة, والحديث في صحيح البخاري. وقد قال الله تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعو فله الأسماء الحسنى}. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحب الأسماء إلى الله تعالى عبد الله وعبد الرحمن» {قل هو ربي لا إله إلا هو} أي هذا الذي تكفرون به, أنا مؤمن به معترف, مقر له بالربوبية والألوهية, هو ربي لا إله إلا هو {عليه توكلت} أي في جميع أموري, {وإليه متاب} أي إليه أرجع وأنيب, فإنه لا يستحق ذلك أحد سواه
    ** وَلَوْ أَنّ قُرْآناً سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرْضُ أَوْ كُلّمَ بِهِ الْمَوْتَىَ بَل للّهِ الأمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الّذِينَ آمَنُوَاْ أَن لّوْ يَشَآءُ اللّهُ لَهَدَى النّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلّ قَرِيباً مّن دَارِهِمْ حَتّىَ يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ
    يقول تعالى مادحاً للقرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم ومفضلاً له على سائر الكتب المنزلة قبله {ولو أن قرآناً سيرت به الجبال} أي لو كان في الكتب الماضية كتاب تسير به الجبال عن أماكنها, أو تقطع به الأرض وتنشق, أو تكلم به الموتى في قبورهم, لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره, أو بطريق الأولى أن يكون كذلك لما فيه من الإعجاز الذي لا يستطيع الإنسان والجن عن آخرهم إذا اجتمعوا أن يأتوا بمثله, ولا بسورة من مثله, ومع هذا فهؤلاء المشركون كافرون به, جاحدون له {بل لله الأمر جميعاً} أي مرجع الأمور كلها إلى الله عز وجل, ما شاء الله كان, وما لم يشأ لم يكن, ومن يضلل الله فلا هادي له, ومن يهد الله فما له من مضل, وقد يطلق اسم القرآن على كل من الكتب المتقدمة, لأنه مشتق من الجميع.
    ** وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلّذِينَ كَفَرُواْ ثُمّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ
    يقول تعالى مسلياً لرسوله صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه: {ولقد استهزىء برسل من قبلك} أي فلك فيهم أسوة {فأمليت للذين كفروا} أي أنظرتهم وأجلتهم, {ثم أخذتهم} أخذة رابية, فكيف بلغك ما صنعت بهم وعاقبتهم وأمليت لهم, كما قال تعالى: {وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير} وفي الصحيحين «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد}.


    ** أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىَ كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمّوهُمْ أَمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيّنَ لِلّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدّواْ عَنِ السّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
    يقول تعالى: {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} أي حفيظ عليم رقيب على كل نفس منفوسة يعلم ما يعمل العاملون من خير وشر, ولا يخفى عليه خافية {وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه}, وقال تعالى: {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها}, وقال: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين}, وقال: {سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار}, وقال: {يعلم السر وأخفى}, وقال: {وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير} أفمن هو كذلك كالأصنام التي يعبدونها, لا تسمع ولا تبصر, ولا تعقل, ولا تملك نفعاً لأنفسها ولا لعابديها, ولا كشف ضر عنها ولا عن عابديها ؟ وحذف هذا الجواب اكتفاء بدلالة السياق عليه وهو قوله: {وجعلوا لله شركاء} أي عبدوها معه من أصنام وأنداد وأوثان {قل سموهم} أي أعلمونا بهم, واكشفوا عنهم حتى يعرفوا, فإنهم لا حقيقة لهم, ولهذا قال: {أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض} أي لا وجود له, لأنه لو كان له وجود في الأرض لعلمها, لأنه لا تخفى عليه خافية {أم بظاهر من القول} قال مجاهد: بظن من القول. وقال الضحاك وقتادة: بباطل من القول, أي إنما عبدتم هذه الأصنام بظن منكم أنها تنفع وتضر وسميتموها آلهة {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان * إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى, بل زين للذين كفروا مكرهم} قال مجاهد: قولهم أي ما هم عليه من الضلال والدعوة إليه آناء الليل وأطراف النهار كقوله تعالى: {وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم} الاَية, {وصدوا عن السبيل} من قرأها بفتح الصاد معناه أنه لما زين لهم ما هم فيه, وأنه حق دعوا إليه, وصدوا الناس عن اتباع طريق الرسل, ومن قرأها بالضم أي بما زين لهم من صحة ما هم عليه, صدوا به عن سبيل الله, ولهذا قال: {ومن يضلل الله فما له من هاد} كما قال {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً} وقال {إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين}.

    ** وَالّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلآ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ * وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ وَاقٍ
    يقول تعالى: {والذين آتيناهم الكتاب} وهم قائمون بمقتضاه {يفرحون بما أنزل إليك} أي من القرآن لما في كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة به, كما قال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته} الاَية, وقال تعالى: {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا ـ إلى قوله ـ إن كان وعد ربنا لمفعولاً} أي إن كان ما وعدنا الله به في كتبنا من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم لحقاً وصدقاً مفعولاً لا محالة وكائناً, فسبحانه ما أصدق وعده, فله الحمد وحده {ويخرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً}, وقوله {ومن الأحزاب من ينكر بعضه} أي ومن الطوائف من يكذب ببعض ما أنزل إليك. وقال مجاهد {ومن الأحزاب} أي اليهود والنصارى {من ينكر بعضه} أي بعض ما جاءك من الحق, وكذا قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وهذا كما قال تعالى: {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله} الاَية, {قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به} أي إنما بعثت بعبادة الله وحده لا شريك له, كما أرسل الأنبياء من قبلي {إليه أدعو} أي إلى سبيله أدعو الناس {وإليه مآب} أي مرجعي ومصيري.
    وقوله: {وكذلك أنزلناه حكماً عربياً} أي وكما أرسلناقبلك المرسلين, وأنزلنا عليهم الكتب من السماء, كذلك أنزلنا عليك القرآن محكماً معرباً, شرفناك به, وفضلناك على من سواك بهذا الكتاب المبين الواضح الجلي الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}. وقوله: {ولئن اتبعت أهواءهم} أي آراءهم {بعدما جاءك من العلم} أي من الله سبحانه {مالك من الله من وليّ ولا واق} وهذا وعيد لأهل العلم أن يتبعوا سبل أهل الضلالة بعدما صاروا إليه من سلوك السنة النبوية والمحجة المحمدية, على من جاء بها أفضل الصلاة والسلام.


    ** وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرّيّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمّ الْكِتَابِ
    يقول تعالى: وكما أرسلناك يا محمد رسولاً بشرياً, كذلك قد بعثنا المرسلين قبلك بشراً, يأكلون الطعام, ويمشون في الأسواق, ويأتون الزوجات, ويولد لهم, وجعلنا لهم أزواجاً وذرية, وقد قال تعالى لأشرف الرسل وخاتمهم {قل إنماأنا بشر مثلكم يوحى إليّ} وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أما أنا فأصوم وأفطر, وأقوم وأنام, وآكل اللحم, وأتزوج النساء, فمن رغب عن سنتي فليس مني». وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, أنبأنا الحجاج بن أرطاة عن مكحول قال: قال أبو أيوب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من سنن المرسلين: التعطر والنكاح. والسواك, والحناء». وقد رواه أبو عيسى الترمذي عن سفيان بن وكيع عن حفص بن غياث, عن الحجاج, عن مكحول, عن أبي الشمال, عن أبي أيوب فذكره, ثم قال: وهذا أصح من الحديث الذي لم يذكر فيه أبو الشمال.

    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الخميس 18 يونيو - 12:44

    وقوله: {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله} أي لم يكن يأتي قومه بخارق إلا إذا أذن له فيه, ليس ذلك إليه بل إلى الله عز وجل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد, {لكل أجل كتاب} أي لكل مدة مضروبة, كتاب مكتوب بها, وكل شيء عنده بمقدار {ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير} وكان الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: {لكل أجل كتاب} أي لكل كتاب أجل, يعني لكل كتاب أنزله من السماء مدة مضروبة عند الله, ومقدار معين, فلهذا {يمحو الله ما يشاء} منها, {ويثبت} يعني حتى نسخت كلها بالقرآن الذي أنزله الله على رسوله صوات الله وسلامه عليه. وقوله {يمحو الله ما يشاء ويثبت} اختلف المفسرون في ذلك فقال الثوري ووكيع وهشيم عن ابن أبي ليلى, عن المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير! عن ابن عباس: يدبر أمر السنة, فيمحو الله ما يشاء إلا الشقاء والسعادة والحياة والموت, وفي رواية {يمحو الله ما يشاء ويثبت} قال: كل شيء إلا الموت والحياة والشقاء والسعادة, فإنهما قد فرغ منهما.
    وقال مجاهد {يمحو الله ما يشاء ويثبت} إلا الحياة والموت والشقاء والسعادة فإنهما لا يتغيران. وقال منصور: سألت مجاهداً, فقلت: أرأيت دعاء أحدنا يقول: اللهم إن كان اسمي في السعداء فأثبته فيهم, وإن كان في الأشقياء فامحه عنهم, واجعله في السعداء ؟ فقال: حسن: ثم لقيته بعد ذلك بحول أو أكثر, فسألته عن ذلك فقال: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} الاَيتين, قال: يقضي في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو مصيبة, ثم يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء, فأما كتاب السعادة والشقاوة فهو ثابت لا يغير, وقال الأعمش, عن أبي وائل شقيق بن سلمة: إنه كان كثيراً ما يدعو بهذا الدعاء: اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء, فامحه واكتبنا سعداء, وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا, فإنك تمحو ما تشاء وتثبت, وعندك أم الكتاب, رواه ابن جرير, وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا عمرو بن علي حدثنا معاذ بن هشام, حدثنا أبي عن أبي حكيمة عصمة, عن أبي عثمان النهدي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال وهو يطوف بالبيت ويبكي: اللهم إن كنت كتبت علي شقوة أو ذنباً فامحه, فإنك تمحو ما تشاء وتثبت, وعندك أم الكتاب, فاجعله سعادة ومغفرة.
    وقال حماد عن خالد الحذاء, عن أبي قلابة, عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يدعو بهذا الدعاء أيضاً. ورواه شريك عن هلال بن حميد, عن عبد الله بن عكيم, عن ابن مسعود بمثله. وقال ابن جرير: حدثني المثنى, حدثنا حجاج, حدثنا خصاف عن أبي حمزة, عن إبراهيم, أن كعباً قال لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين, لولا آية في كتاب الله لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة. قال: وما هي ؟ قال: قول الله تعالى: {يمحو الله ما يشاء} الاَية, ومعنى هذه الأقوال أن الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها, ويثبت منها ما يشاء, وقد يستأنس لهذا القول بما ورواه الإمام احمد: حدثنا وكيع, وحدثنا سفيان هو الثوري, عن عبد الله بن عيسى, عن عبد الله بن أبي الجعد, عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه, ولا يرد القدر إلا الدعاء, ولا يزيد في العمر إلا البر», ورواه النسائي وابن ماجه من حديث سفيان الثوري به.
    ** وَقَدْ مَكَرَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدّارِ
    يقول تعالى: {وقد مكر الذين من قبلهم} برسلهم, وأرادوا إخراجهم من بلادهم, فمكر الله بهم وجعل العاقبة للمتقين, كقوله: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله, والله خير الماكرين}, وقوله تعالى: {ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا} الاَيتين. وقوله: {يعلم ما تكسب كل نفس} أي أنه تعالى عالم بجميع السرائر والضمائر وسيجزي كل عامل بعمله {وسيعلم الكافر}, والقراءة الأخرى الكفار, {لمن عقبى الدار} أي لمن تكون الدائرة والعاقبة لهم أو لأتباع الرسل, كلا, بل هي لأتباع الرسل في الدنيا والاَخرة, ولله الحمد والمنة.


    ** وَيَقُولُ الّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَىَ بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ
    يقول تعالى: يكذبك هؤلاء الكفار ويقولون: {لست مرسلا} أي ما أرسلك الله {قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم} أي حسبي الله هو الشاهد علي وعليكم. شاهد علي فيما بلغت عنه من الرسالة, وشاهد عليكم أيها المكذبون فيما تفترونه من البهتان, وقوله: {ومن عنده علم الكتاب} قيل: نزلت في عبد الله بن سلام, قاله مجاهد, وهذا القول غريب, لأن هذه الاَية مكية, وعبد الله بن سلام إنما أسلم في أول مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة, والأظهر في هذا ما قاله العوفي عن ابن عباس قال: هم من اليهود والنصارى, وقال قتادة: منهم ابن سلام وسلمان وتميم الداري, وقال مجاهد في رواية عنه: هو الله تعالى, وكان سعيد بن جبير ينكر أن يكون المراد بها عبد الله بن سلام ويقول: هي مكية, وكان يقرؤها {ومن عنده عُلِمَ الكتاب} ويقول: من عند الله, وكذا قرأها مجاهد والحسن البصري.
    وقد روى ابن جرير من حديث هارون الأعور عن الزهري عن سالم, عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها {ومن عنده عُلِمَ الكتاب}, ثم قال: لا أصل له من حديث الزهري عند الثقات, قلت, وقد رواه الحافظ أبو يعلى في مسنده من طريق هارون بن موسى هذا, عن سليمان بن أرقم, وهو ضعيف, عن الزهري عن سالم عن أبيه مرفوعاً كذلك ولا يثبت, والله أعلم, والصحيح في هذا أن {ومن عنده} اسم جنس يشمل علماء أهل الكتاب الذين يجدون صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته في كتبهم المتقدمة من بشارات الأنبياء به, كما قال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل} الاَية: وقال تعالى: {أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} الاَية, وأمثال ذلك مما فيه الإخبار عن علماء بني إسرائيل أنهم يعلمون ذلك من كتبهم المنزلة. وقد ورد في حديث الأحبار عن عبد الله بن سلام بأنه أسلم بمكة قبل الهجرة.
    قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتاب دلائل النبوة وهو كتاب جليل: حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني, حدثنا عبدان بن أحمد, حدثنا محمد بن مصفى, حدثنا الوليد بن مسلم عن محمد بن حمزة يوسف بن عبد الله بن سلام, عن أبيه عن جده عبد الله بن سلام أنه قال لأحبار اليهود: إني أردت أن أحدث بمسجد أبينا إبراهيم وإسماعيل عيداً, فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة, فوافاهم وقد انصرفوا من الحج, فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى والناس حوله, فقام مع الناس, فلما نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنت عبد الله بن سلام ؟» قال قلت: نعم, قال «ادن». قال: فدنوت منه. قال: «أنشدك بالله يا عبد الله بن سلام, أما تجدني في التوراة رسول الله ؟» فقلت له: انعت ربنا, قال: فجاء جبريل حتى وقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: {قل هو الله أحد الله الصمد} إلى آخرها, فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال ابن سلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله, ثم انصرف ابن سلام إلى المدينة, فكتم إسلامه, فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأنا فوق نخلة لي أجذها, فألقيت نفسي, فقالت أمي: لله أنت, لو كان موسى بن عمران ما كان لك أن تلقي نفسك من رأس النخلة, فقلت: والله لأنا أسر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم من موسى بن عمران إذ بعث, وهذا حديث غريب جداً. آخر تفسير سورة الرعد, و لله الحمد والمنة.


    تمت سورة الرعد

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الخميس 18 يونيو - 12:48

    سورة إبراهيم
    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
    ** الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَىَ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَوَيْلٌ لّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الّذِينَ يَسْتَحِبّونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا عَلَى الاَخِرَةِ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَـَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ
    قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور {كتاب أنزلناه إليك} أي هذا كتاب أنزلناإليك يا محمد, وهو القرآن العظيم الذي هو أشرف كتاب أنزله الله من السماء, على أشرف رسول بعثه الله في الأرض إلى جميع أهلها عربهم وعجمهم {لتخرج الناس من الظلمات إلى النور} أي إنما بعثناك يا محمد بهذا الكتاب لتخرج الناس مما هم فيه من الضلال والغي إلى الهدى والرشد, كما قال تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور, والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات} الاَية. وقال تعالى: {هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور} الاَية.
    وقوله: {بإذن ربهم} أي هو الهادي لمن قدر له الهداية على يدي رسوله المبعوث عن أمره يهديهم {إلى صراط العزيز}, أي العزيز الذين لا يمانع ولا يغالب, بل هو القاهر لكل ما سواه, {الحميد} أي المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وأمره ونهيه الصادق في خبره. وقوله: {الله الذي له ما في السموات وما في الأرض} قرأ بعضهم مستأنفاً مرفوعاً وقرأ آخرون على الإتباع صفة للجلالة, كقوله تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض} الاَية. وقوله: {وويل للكافرين من عذاب شديد} أي ويل لهم يوم القيامة إذ خالفوك يا محمد وكذبوك, ثم وصفهم بأنهم يستحبون الحياة الدنيا على الاَخرة, أي يقدمونها ويؤثرونها عليها ويعملون للدنيا, ونسوا الاَخرة وتركوها وراء ظهورهم {ويصدون عن سبيل الله} وهي اتباع الرسل {ويبغونها عوجاً} أي ويحبون أن تكون سبيل الله عوجاً مائلة عائلة, وهي مستقيمة في نفسها لا يضرها من خالفها, ولا من خذلها فهم في ابتغائهم ذلك في جهل وضلال بعيد من الحق, لا يرجى لهم والحالة هذه صلاح.


    ** وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رّسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ فَيُضِلّ اللّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
    هذا من لطفه تعالى بخلقه أنه يرسل إليهم رسلاً منهم بلغاتهم, ليفهموا عنهم ما يريدون, وما أرسلوا به إليهم, كما روى الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن عمر بن ذر قال: قال مجاهد عن أبي ذر: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يبعث الله عز وجل نبياً إلا بلغة قومه». وقوله: {فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء} أي بعد البيان وإقامة الحجة عليهم, يضل الله من يشاء عن وجه الهدى, ويهدي من يشاء إلى الحق {وهو العزيز} الذي ما شاء كان, وما لم يشأ لم يكن, {الحكيم} في أفعاله, فيضل من يستحق الإضلال ويهدي من هو أهل لذلك, وقد كانت هذه سنته في خلقه أنه ما بعث نبياً في أمة إلا أن يكون بلغتهم, فاختص كل نبي بإبلاغ رسالته إلى أمته دون غيرهم, واختص محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بعموم الرسالة إلى سائر الناس, كما ثبت في الصحيحين عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر, وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً, وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي, وأعطيت الشفاعة, وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» وله شواهد من وجوه كثيرة. وقال تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً}.
    ** وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنّـكُمْ مّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنّ فِي مِلّتِنَا فَأَوْحَىَ إِلَيْهِمْ رَبّهُمْ لَنُهْلِكَنّ الظّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنّـكُمُ الأرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلّ جَبّارٍ عَنِيدٍ * مّن وَرَآئِهِ جَهَنّمُ وَيُسْقَىَ مِن مّآءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ
    يخبر تعالى عما توعدت به الأمم الكافرة رسلهم من الإخراج من أرضهم والنفي من بين أظهرهم, كما قال قوم شعيب له ولمن آمن به: {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا} الاَية. وكما قال قوم لوط: {أخرجوا آل لوط من قريتكم} الاَية, وقال تعالى إِخباراً عن مشركي قريش: {وإِن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإِذاً لا يلبثون خلافك إِلا قليلاً}. وقال تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} وكان من صنعه تعالى أنه أظهر رسوله ونصره, وجعل له بسبب خروجه من مكة أنصاراً وأعواناً وجنداً يقاتلون في سبيل الله تعالى, ولم يزل يرقيه تعالى من شيء إلى شيء حتى فتح له مكة التي أخرجته, ومكن له فيها, وأرغم أنوف أعدائه منهم ومن سائر أهل الأرض حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً, وظهرت كلمة الله ودينه على سائر الأديان في مشارق الأرض ومغاربها في أيسر زمان, ولهذا قال تعالى: {فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم} وكما قال: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إِنهم لهم المنصورون وإِن جندنا لهم الغالبون}, وقال تعالى: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إِن الله قوي عزيز}, وقال تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر} الاَية, {وقال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين}, وقال تعالى: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون} وقوله: {ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد} أي وعيدي هذا لمن خاف مقامي بين يدي يوم القيامة وخشي من وعيدي وهو تخويفي وعذابي كما قال تعالى: {فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى} وقال {ولمن خاف مقام ربه جنتان}.
    وقوله: {واستفتحوا} أي استنصرت الرسل ربها على قومها, قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: استفتحت الأمم على أنفسها كما قالوا: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} ويحتمل أن يكون هذا مراداً وهذا مراداً, كما أنهم استفتحوا على أنفسهم يوم بدر واستفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم واستنصر, وقال الله تعالى للمشركين: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم} الاَية, والله أعلم, {وخاب كل جبار عنيد} أي متجبر في نفسه عنيد معاند للحق, كقوله تعالى: {ألقيا في جهنم كل كفار عنيد, مناع للخير معتد مريب, الذي جعل مع الله إلهاً آخر فألقياه في العذاب الشديد} وفي الحديث «إنه يؤتى بجهنم يوم القيامة, فتنادي الخلائق, فتقول: إني وكلت بكل جبار عنيد» الحديث أي خاب وخسر حين اجتهد الأنبياء في الابتهال إلى ربها العزيز المقتدر.
    ** أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحقّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللّهِ بِعَزِيزٍ
    يقول تعالى مخبراً عن قدرته على معاد الأبدان يوم القيامة بأنه خلق السموات والأرض التي هي أكبر من خلق الناس, أفليس الذي قدر على خلق هذه السموات في ارتفاعها واتساعها وعظمتها, وما فيها من الكواكب الثوابت والسيارات, والحركات المختلفات, والاَيات الباهرات, وهذه الأرض بما فيها من مهاد ووهاد وأوتاد, وبراري وصحارى, وقفار وبحار, وأشجار ونبات, وحيوان على اختلاف أصنافها ومنافعها وأشكالها وألوانها {أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى, بلى إنه على كل شيء قدير} وقال تعالى: {أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين * وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم ؟ * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون * أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم * إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون * فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون} وقوله {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز} أي بعظيم ولا ممتنع بل هو سهل عليه إذا خالفتم أمره أن يذهبكم ويأت بآخرين على غير صفتكم كما قال: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد * إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز} وقال: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم * ثم لا يكونوا أمثالكم} وقال: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} وقال: {إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديراً}.
    .

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم الخميس 18 يونيو - 13:32

    ** يُثَبّتُ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفِي الاَخِرَةِ وَيُضِلّ اللّهُ الظّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَآءُ
    قال البخاري: حدثنا أبو الوليد, حدثنا شعبة, أخبرني علقمة بن مرثد قال: سمعت سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله, فذلك قوله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاَخرة}» ورواه مسلم أيضاً وبقية الجماعة كلهم من حديث شعبة به.
    وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن المنهال بن عمرو, عن زاذان عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار, فانتهينا إلى القبر ولما يلحد, فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم, وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير, وفي يده عود ينكت به الأرض, فرفع رأسه فقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر» مرتين أو ثلاثاً, ثم قال: «إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الاَخرة, نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه, كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مدّ البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه, فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ـ قال ـ: فتخرج تسيل, كما تسيل القطرة من في السقاء, فيأخذها, فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط, ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض, فيصعدون بها فلا يمرون بها, يعني على ملأ من الملائكة, إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة ؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا فيستفتحون له, فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها, حتى ينتهى بها إلى السماء السابعة, فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض, فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم, ومنها أخرجهم تارة أخرى قال: فتعاد روحه في جسده, فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك ؟ فيقول: ربي الله, فيقولان له: ما دينك ؟ فيقول: ديني الإسلام, فيقولان له: ما هذا الرجل الذين بعث فيكم ؟ فيقول: هو رسول الله, فيقولان له: وما علمك ؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت, فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة, وألبسوه من الجنة, وافتحوا له باباً إلى الجنة ـ قال ـ: فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره ويأتيه رجل حسن الوجه, حسن الثياب, طيب الريح, فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد, فيقول له: من أنت فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير ؟ فيقول: أنا عملك الصالح, فيقول: رب أقم الساعة رب أقم الساعة, حتى أرجع إلى أهلي ومالي ـ قال ـ: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الاَخرة, نزل إليه ملائكة من السماء سود الوجوه معهم المسوح, فجلسوا منه مد البصر, ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند رأسه, فيقول: أيتها النفس الخبيثة, اخرجي إلى سخط من الله وغضب ـ قال ـ: فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول, فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح, فيخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض, فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة ؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهى بها إلى السماء الدنيا, فيستفتح له فلا يفتح له ـ ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} فيقول الله: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فتطرح روحه طرحاً ـ ثم قرأ {ومن يشرك بالله فكأنما خرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له: من ربك ؟ فيقول: هاه هاه لا أدري, فيقولان له: ما دينك ؟ فيقول: هاه هاه لا أدري, فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول: هاه هاه لا أدري, فينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له باباً إلى النار, فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه, ويأتيه رجل قبيح الوجه, قبيح الثياب, منتن الريح, فيقول: أبشر بالذي يسوؤك, هذا يومك الذي كنت توعد, فيقول: ومن أنت, فوجهك الوجه يجيء بالشر ؟ فيقول: أنا عملك الخبيث, فيقول: رب لا تقم الساعة» ورواه أبو داود من حديث الأعمش والنسائي وابن ماجه من حديث المنهال بن عمرو به.)وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن يونس بن حبيب عن المنهال بن عمرو, عن زاذان عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة, فذكر نحوه, وفيه «فإذا خرجت روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض وكل ملك في السماء, وفتحت أبواب السماء ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله عز وجل أن يعرج بروحه من قبلهم», وفي آخره «ثم يقيض له أعمى أصم أبكم, وفي يده مرزبة لو ضرب بها جبل لكان تراباً, فيضربه ضربة فيصير تراباً, ثم يعيده الله عز وجل كما كان, فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين» قال البراء: ثم يفتح له باب إلى النار ويمهد له من فرش النار, وقال سفيان الثوري عن أبيه, عن خيثمة عن البراء في قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاَخرة} قال عذاب القبر
    ** أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ بَدّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ * وَجَعَلُواْ للّهِ أَندَاداً لّيُضِلّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتّعُواْ فَإِنّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النّارِ
    قال البخاري: قوله {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفراً} ألم تعلم, كقوله: {ألم تر كيف} {ألم تر إلى الذين خرجوا} البوار الهلاك, بار يبور بوراً, {وقوماً بوراً} هالكين. حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا سفيان عن عمرو عن عطاء. سمع ابن عباس {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً} قال: هم كفار أهل مكة, وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الاَية, هو جبلة بن الأيهم والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم, والمشهور الصحيح عن ابن عباس هو القول الأول: وإن كان المعنى يعم جميع الكفار, فإن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ونعمة للناس, فمن قبلها وقام بشكرها دخل الجنة, ومن ردها وكفرها دخل النار, وقد روي عن علي نحو قول ابن عباس الأول.
    وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا مسلم بن إبراهيم, حدثنا شعبة عن القاسم بن أبي بزة, عن أبي الطفيل أن ابن الكواء سأل علياً عن {الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار} قال: هم كفار قريش يوم بدر, حدثنا المنذر بن ***ان, حدثنا يعلى بن عبيد, حدثنا بسام هو الصيرفي عن أبي الطفيل قال: جاء رجل إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين من الذين بدلوا نعمة الله كفراً, وأحلوا قومهم دار البوار ؟ قال: منافقو قريش وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن نفيل قال: قرأت على معقل عن ابن أبي حسين قال: قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: ألا أحد يسألني عن القرآن, فوالله لو أعلم اليوم أحداً أعلم به مني وإن كان من وراء البحار لأتيته, فقام عبد الله بن الكواء فقال: من الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار ؟ قال: مشركو قريش أتتهم نعمة الله الإيمان فبدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار.

    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 8:23

    اللّهُ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقاً لّكُمْ وَسَخّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ * وَسَخّر لَكُمُ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخّرَ لَكُمُ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ * وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ
    يعدد تعالى نعمه على خلقه بأن خلق لهم السموات سقفاً محفوظاً والأرض فرشاً {وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى} ما بين ثمار وزروع مختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح والمنافع. وسخر الفلك بأن جعلها طافية على تيار ماء البحر تجري عليه بأمر الله تعالى, وسخر البحر لحملها ليقطع المسافرون بها من إقليم إلى إقليم آخر لجلب ما هنا إلى هناك, وما هناك إلى هنا, وسخر الأنهار تشق الأرض من قطر إلى قطر رزقاً للعباد من شرب وسقي, وغير ذلك من أنواع المنافع {وسخر لكم الشمس والقمر دائبين} أي يسيران لا يفتران ليلاً ولا نهاراً {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون} {يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر, تبارك الله رب العالمين} فالشمس والقمر يتعاقبان, والليل والنهار يتعارضان, فتارة يأخذ هذا من هذا فيطول, ثم يأخذ الاَخر من هذا فيقصر {يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل. وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار}.
    وقوله {وآتاكم من كل ما سألتموه} يقول هيأ لكم ما تحتاجون إليه في جميع أحوالكم مما تسألونه بحالكم. وقال بعض السلف: من كل ما سألتموه وما لم تسألوه, وقرأ بعضهم {وآتاكم من كل ما سألتموه} وقوله {وإن تعدوانعمة الله لا تحصوها} يخبر تعالى عن عجز العباد عن تعداد النعم فضلاً عن القيام بشكرها, كما قال طلق بن حبيب رحمه الله: إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد, وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد, ولكن أصبحوا تائبين. وأمسوا تائبين, وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم لك الحمد غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا».
    وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث, حدثنا داود بن المحبر حدثنا صالح المري عن جعفر بن زيد العبدي, عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان فيه العمل الصالح, وديوان فيه ذنوبه, وديوان فيه النعم من الله تعالى عليه, فيقول الله تعالى لأصغر نعمه ـ أحسبه قال في ديوان النعم ـ خذي ثمنك من عمله الصالح فتستوعب عمله الصالح كله, ثم تنحى وتقول: وعزتك ما استوفيت وتبقى الذنوب والنعم, فإذا أراد الله أن يرحمه قال: يا عبدي قد ضاعفت لك حسناتك وتجاوزت لك عن سيئاتك ـ أحسبه قال: ووهبت لك نعمي ـ» غريب وسنده ضعيف. وقد روي في الأثر أن داود عليه السلام قال: يا رب كيف أشكرك وشكري لك نعمة منك عليّ ؟ فقال الله تعالى: الاَن شكرتني يا داود, أي حين اعترفت بالتقصير عن أداء شكر المنعم, وقال الإمام الشافعي رحمه الله: الحمد لله الذي لا يؤدى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة حادثة توجب على مؤديها شكره بها, وقال القائل في ذلك:
    لو كل جارحة مني لها لغةتثني عليك بما أوليت من حسن
    لكان ما زاد شكري إذ شكرت بهإليك أبلغ في الإحسان والمنن
    )
    ** فَلاَ تَحْسَبَنّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهّارِ
    يقول تعالى مقرراً لوعده ومؤكداً: {فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله} أي من نصرتهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد, ثم أخبر تعالى أنه ذو عزة لا يمتنع عليه شيء أراده ولا يغالب, وذو انتقام ممن كفر به وجحده {ويل يومئذ للمكذبين}, ولهذا قال: {يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات} أي وعده هذا حاصل يوم تبدل الأرض غير الأرض, وهي هذه على غير الصفة المألوفة المعروفة, كما جاء في الصحيحين من حديث أبي حازم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقيّ ليس فيها معلم لأحد».
    وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عدي عن داود عن الشعبي عن مسروق, عن عائشة أنها قالت: أنا أول الناس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الاَية {يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات} قالت: قلت أين الناس يومئذ يا رسول الله ؟ قال: «على الصراط», رواه مسلم منفرداً به دون البخاري, والترمذي وابن ماجه من حديث داود بن أبي هند به, وقال الترمذي: حسن صحيح, ورواه أحمد أيضاً عن عفان عن وهيب عن داود, عن الشعبي عنها, ولم يذكر مسروقاً. وقال قتادة عن حسان بن بلال المزني عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله: {يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات} قالت: قلت يا رسول الله, فأين الناس يومئذ ؟ قال: «لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من أمتي, ذاك أن الناس على جسر جهنم».
    ** وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مّقَرّنِينَ فِي الأصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىَ وُجُوهَهُمْ النّارُ * لِيَجْزِيَ اللّهُ كُلّ نَفْسٍ مّا كَسَبَتْ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
    يقول تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات} وتبرز الخلائق لديانها, ترى يا محمد يومئذ المجرمين وهم الذين أجرموا بكفرهم وفسادهم {مقرنين} أي بعضهم إلى بعض قد جمع بين النظراء أو الأشكال منهم كل صنف إلى صنف, كما قال تعالى: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} وقال: {وإذا النفوس زوّجت} وقال: {وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين دعوا هنالك ثبوراً} وقال: {والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد} والأصفاد هي القيود, قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والأعمش وعبد الرحمن بن زيد, وهو مشهور في اللغة, قال عمرو بن كلثوم:
    آبوا بالثياب وبالسبايا
    وأبنا بالملوك مصفدينا
    وقوله: {سرابيلهم من قطران} أي ثيابهم التي يلبسونها من قطران, وهو الذي تهنأ به الإبل أي تطلى, قال قتادة: وهو ألصق شيء بالنار. ويقال فيه: قطران بفتح القاف وكسر الطاء وتسكينها, وبكسر القاف وتسكين الطاء, ومنه قول أبي النجم:
    كأن قطراناً إذا تلاهاترمي به الريح إلى مجراها
    وكان ابن عباس يقول: القطران هنا النحاس المذاب, وربما قرأها {سرابيلهم من قطران} أي من نحاس حار قد انتهى حره, وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة. وقوله: {وتغشى وجوههم النار} كقوله: {تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون} وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يحيى بن إسحاق, أنبأنا أبان بن يزيد عن يحيى بن أبي كثير عن زيد عن أبي سلام, عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من أمر الجاهلية لا يتركن: الفخر بالأحساب, والطعن في الأنساب, والاستسقاء بالنجوم, والنياحة على الميت, والنائحة إذا لم تتب قبل موتها, تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب» انفرد بإخراجه مسلم. وفي حديث القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النائحة إذا لم تتب توقف في طريق بين الجنة والنار سرابيلها من قطران وتغشى وجهها النار».
    وقوله: {ليجزي الله كل نفس ما كسبت} أي يوم القيامة كما قال: {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا} الاَية {إن الله سريع الحساب} يحتمل أن يكون كقوله تعالى: {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون} ويحتمل أنه في حال محاسبته لعبده سريع النجاز لأنه يعلم كل شيء, ولا يخفى عليه خافية, وإن جميع الخلق بالنسبة إلى قدرته كالواحد منهم, كقوله تعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} وهذا معنى قول مجاهد {سريع الحساب} إحصاء ويحتمل ان يكون المعنيان مرادين, والله أعلم.


    ** هَـَذَا بَلاَغٌ لّلنّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُوَاْ أَنّمَا هُوَ إِلَـَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذّكّرَ أُوْلُواْ الألْبَابِ
    يقول تعالى هذا القرآن بلاغ للناس كقوله: {لأنذركم به ومن بلغ} أي هو بلاغ لجميع الخلق من إنس وجن كما قال في أول السورة: {الر * كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور} الاَية, {ولينذروا به} أي ليتعظوا به {وليعلموا أنما هو إله واحد} أي يستدلوا بما فيه من الحجج والدلالات على أنه لا إله إلا هو {وليذكر أولو الألباب} أي ذوي العقول.
    آخر تفسير سورة إبراهيم عليه الصلاة والسلام, والحمد لله رب العالمين.


    تمت سورة ابراهيم

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 8:27

    سورة الحجر

    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
    ** الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مّبِينٍ * رّبَمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
    قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور. وقوله تعالى {ربما يود الذين كفروا} الاَية, إخبار عنهم أنهم سيندمون على ما كانوا فيه من الكفر, ويتمنون لو كانوا في الدنيا مسلمين, ونقل السدي في تفسيره بسنده المشهور عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة, أن كفار قريش لما عرضوا على النار تمنوا أن لو كانوا مسلمين. وقيل: إن المراد أن كل كافر يود عند احتضاره أن لو كان مؤمناً. وقيل: هذا إخبار عن يوم القيامة, كقوله تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين} وقال سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل, عن أبي الزعراء, عن عبد الله في قوله: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} قال: هذا في الجهنميين إذا رأوهم يخرجون من النار, وقال ابن جرير: حدثني المثنى, حدثنا مسلم, حدثنا القاسم, حدثنا ابن أبي فروة العبدي أن ابن عباس وأنس بن مالك كانا يتأولان هذه الاَية {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} يتأولانها يوم يحبس الله أهل الخطايا من المسلمين مع المشركين في النار, قال: فيقول لهم المشركون: ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون في الدنيا, قال: فيغضب الله لهم بفضل رحمته فيخرجهم, فذلك حين يقول: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين}.
    ** وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاّ وَلَهَا كِتَابٌ مّعْلُومٌ * مّا تَسْبِقُ مِنْ أُمّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ
    يخبر تعالى أنه ما أهلك قرية إلا بعد قيام الحجة عليها وانتهاء أجلها, وأنه لا يؤخر أمة حان هلاكها عن ميقاتهم ولا يتقدمون عن مدتهم, وهذا تنبيه لأهل مكة وإرشاد لهم إلى الإقلاع عما هم عليه من الشرك والعناد والإلحاد الذي يستحقون به الهلاك.


    ** وَقَالُواْ يَأَيّهَا الّذِي نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنّكَ لَمَجْنُونٌ * لّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصّادِقِينَ * مَا نُنَزّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاّ بِالحَقّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مّنظَرِينَ * إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ
    يخبر تعالى عن كفرهم وعنادهم في قولهم {يا أيها الذي نزل عليه الذكر} أي الذي تدعي ذلك {إنك لمجنون} أي في دعائك إيانا إلى اتباعك وترك ما وجدنا عليه آباءنا {لو ما} أي هلا {تأتينا بالملائكة} أي يشهدون لك بصحة ما جئت به إن كنت من الصادقين, كما قال فرعون {فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين}, {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً * يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجراً محجوراً}, وكذا قال في هذه الاَية: {ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين} وقال مجاهد في قوله: {ما ننزل الملائكة إلا بالحق} بالرسالة والعذاب, ثم قرر تعالى أنه هو الذي أنزل عليه الذكر وهو القرآن, وهو الحافظ له من التغيير والتبديل, ومنهم من أعاد الضمير في قوله تعالى: {له لحافظون} على النبي صلى الله عليه وسلم, كقوله {والله يعصمك من الناس} والمعنى الأول أولى وهو ظاهر السياق.
    ** وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مّعْلُومٍ * وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ * وَإنّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ * وَإِنّ رَبّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
    يخبر تعالى أنه مالك كل شيء وأن كل شيء سهل عليه يسير لديه, وأن عنده خزائن الأشياء من جميع الصنوف {وما ننزله إلا بقدر معلوم} كما يشاء وكما يريد, ولما له في ذلك من الحكمة البالغة والرحمة بعباده لا على جهة الوجوب بل هو كتب على نفسه الرحمة قال يزيد بن أبي زياد عن أبي جحيفة عن عبد الله: ما من عام بأمطر من عام, ولكن الله يقسمه بينهم حيث شاء عاماً ههنا وعاماً ههنا, ثم قرأ {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} الاَية, رواه ابن جرير, وقال أيضاً: حدثنا القاسم, حدثنا هشيم, أخبرنا إسماعيل بن سالم عن الحكم بن عتيبة في قوله: {وما ننزله إلا بقدر معلوم} قال: ما عام بأكثر مطراً من عام ولا أقل, ولكنه يمطر قوم ويحرم آخرون بما كان في البحر, قال: وبلغنا أنه ينزل مع المطر من الملائكة أكثر من عدد ولد إبليس, وولد آدم يحصون كل قطرة حيث تقع وما تنبت.
    ** وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مّسْنُونٍ * وَالْجَآنّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نّارِ السّمُومِ
    قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: المراد بالصلصال ههنا التراب اليابس, والظاهر أنه كقوله تعالى: {خلق الإنسان من صلصال كالفخار, وخلق الجان من مارج من نار} وعن مجاهد أيضاً {الصلصال} المنتن, وتفسير الاَية بالاَية أولى. قوله: {من حمأ مسنون} أي الصلصال من حمأ, وهو الطين. والمسنون: الأملس, كما قال الشاعر:
    ثم خاصرتها إلى القبة الخضـراء تمشي في مرمر مسنون
    أي أملس صقيل, ولهذا روي عن ابن عباس أنه قال: هو التراب الرطب, وعن ابن عباس ومجاهد أيضاً والضحاك: أن الحمأ المسنون هو المنتن. وقيل: المراد بالمسنون ههنا المصبوب. وقوله: {والجان خلقناه من قبل} أي من قبل الإنسان {من نار السموم} قال ابن عباس: هي السموم التي تقتل, وقال بعضهم: السموم بالليل والنهار, ومنهم من يقول: السموم بالليل والحرور بالنهار. وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: دخلت على عمر الأصم أعوده, فقال: ألا أحدثك حديثاً سمعته من عبد الله بن مسعود, يقول هذه السموم جزء من سبعين جزءاً من السموم التي خلق منها الجان, ثم قرأ {والجان خلقناه من قبل من نار السموم} وعن ابن عباس: أن الجان خلق من لهب النار, وفي رواية: من أحسن النار. وعن عمرو بن دينار: من نار الشمس. وقد ورد في الصحيح «خلقت الملائكة من نور, وخلقت الجان من مارج من نار, وخلق آدم مما وصف لكم». والمقصود من الاَية التنبيه على شرف آدم عليه السلام وطيب عنصره وطهارة محتده
    ** وَنَبّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنّا نُبَشّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشّرْتُمُونِي عَلَىَ أَن مّسّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشّرُونَ * قَالُواْ بَشّرْنَاكَ بِالْحَقّ فَلاَ تَكُن مّنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رّحْمَةِ رَبّهِ إِلاّ الضّآلّونَ
    يقول تعالى: وأخبرهم يا محمد عن قصة {ضيف إبراهيم} والضيف يطلق على الواحد والجمع كالزور والسفر, وكيف {دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال إنا منكم وجلون} أي خائفون, وقد ذكر سبب خوفه منهم لما رأى أيديهم لا تصل إلى ما قربه إليهم من الضيافة, وهو العجل السمين الحنيذ {قالوا لا توجل} أي لا تخف {وبشروه بغلام عليم} أي إسحاق عليه السلام كما تقدم في سورة هود ثم {قال} متعجباً من كبره وكبر زوجته ومتحققاً للوعد {أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون} فأجابوه مؤكدين لما بشروه به تحقيقاً وبشارة بعد بشارة {قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين} وقرأ بعضهم القنطين فأجابهم بأنه ليس يقنط, ولكن يرجو من الله الولد, وإن كان قد كبر وأسنت امرأته فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك.


    ** قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُواْ إِنّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىَ قَوْمٍ مّجْرِمِينَ * إِلاّ آلَ لُوطٍ إِنّا لَمُنَجّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاّ امْرَأَتَهُ قَدّرْنَآ إِنّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ
    يقول تعالى إخباراً عن إبراهيم عليه السلام لما ذهب عنه الروع وجاءته البشرى, أنه شرع يسألهم عما جاءوا له, فقالوا: {إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين} يعنون قوم لوط, وأخبروه أنهم سينجون آل لوط من بينهم إلا امرأته فإنها من الهالكين, ولهذا قالوا: {إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين} أي الباقين المهلكين.

    ** فَأَخَذَتْهُمُ الصّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ * إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْمُتَوَسّمِينَ * وَإِنّهَا لَبِسَبِيلٍ مّقِيمٍ * إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ
    يقول تعالى: {فأخذتهم الصيحة} وهي ما جاءهم به من الصوت القاصف عند شروق الشمس وهو طلوعها, وذلك مع رفع بلادهم إلى عنان السماء, ثم قلبها وجعل عاليها سافلها, وإرسال حجارة السجيل عليهم وقد تقدم الكلام على السجيل في هود بما فيه كفاية. وقوله: {إن في ذلك لاَيات للمتوسمين} أي إن آثار هذه النقم الظاهرة على تلك البلاد لمن تأمل ذلك وتوسمه بعين بصره وبصيرته, كما قال مجاهد في قوله: {للمتوسمين} قال: المتفرسين. وعن ابن عباس والضحاك: للناظرين. وقال قتادة: للمعتبرين. وقال مالك عن بعض أهل المدينة {للمتوسمين} للمتأملين. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة, حدثنا محمد بن كثير العبدي عن عمرو بن قيس, عن عطية عن أبي سعيد مرفوعاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا فراسة المؤمن, فإنه ينظر بنور الله» ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم {إن في ذلك لاَيات للمتوسمين} رواه الترمذي: وابن جرير من حديث عمرو بن قيس الملائي عن عطية عن أبي سعيد, وقال الترمذي. لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه.
    وقال ابن جرير أيضاً: حدثني أحمد بن محمد الطوسي, حدثنا الحسن بن محمد, حدثنا الفرات بن السائب, حدثنا ميمون بن مهران عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا فراسة المؤمن, فإن المؤمن ينظر بنور الله» وقال ابن جرير: حدثني أبو شرحبيل الحمصي, حدثنا سليمان بن سلمة, حدثنا المؤمل بن سعيد بن يوسف الرحبي, حدثنا أبو المعلى أسد بن وداعة الطائي, حدثنا وهب بن منبه عن طاوس بن كيسان عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احذروا فراسة المؤمن, فإنه ينظر بنور الله وبتوفيق الله». وقال أيضاً: حدثنا عبد الأعلى بن واصل, حدثنا سعيد بن محمد الجرمي, حدثنا عبد الواحد بن واصل, حدثنا أبو بشر المزلق عن ثابت عن أنس بن مالك قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم», ورواه الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا سهل بن بحر, حدثنا سعيد بن محمد الجرمي, حدثنا أبو بشر يقال له ابن المزلق قال: وكان ثقة, عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم» وقوله: {وإنها لبسبيل مقيم} أي وإن قرية سدوم التي أصابها ما أصابها من القلب الصوري والمعنوي والقذف بالحجارة, حتى صارت بحيرة منتنة خبيثة بطريق مهيع مسالكه مستمرة إلى اليوم, كقوله: {وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون * وإن يونس لمن المرسلين} وقال مجاهد والضحاك {وإنها لبسبيل مقيم} قال: معلم. وقال قتادة: بطريق واضح. وقال قتادة أيضاً: بصقع من الأرض واحد, وقال السدي: بكتاب مبين, يعني كقوله: {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} ولكن ليس المعنى على ما قال ههنا,والله أعلم. وقوله: {إن في ذلك لاَية للمؤمنين} اي إن الذي صنعنا بقوم لوط من الهلاك والدمار وإنجائنا لوطاً وأهله لدلالة واضحة جلية للمؤمنين بالله ورسله.

    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 8:33

    ** وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأيْكَةِ لَظَالِمِينَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنّهُمَا لَبِإِمَامٍ مّبِينٍ
    أصحاب الأيكة هم قوم شعيب, قال الضحاك وقتادة وغيرهما: الأيكة الشجر الملتف, وكان ظلمهم بشركهم بالله وقطعهم الطريق ونقصهم المكيال والميزان, فانتقم الله منهم بالصيحة والرجفة وعذاب يوم الظلة, وقد كانوا قريباً من قوم لوط بعدهم في الزمان, ومسامتين لهم في المكان, ولهذا قال تعالى: {وإنهما لبإمام مبين} أي طريق مبين, قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيره: طريق ظاهر, ولهذا لما أنذر شعيب قومه قال في نذارته إياهم {وما قوم لوط منكم ببعيد}
    ** وَقُلْ إِنّيَ أَنَا النّذِيرُ الْمُبِينُ * كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْآنَ عِضِينَ * فَوَرَبّكَ لَنَسْأَلَنّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
    يأمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس: {إني أنا النذير المبين} البين النذارة, نذير للناس من عذاب أليم أن يحل بهم على تكذيبه كما حل بمن تقدمهم من الأمم المكذبة لرسلها, وما أنزل الله عليهم من العذاب والانتقام. وقوله: {المقتسمين} أي المتحالفين, أي تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم, كقوله تعالى إخباراً عن قوم صالح إنهم {قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله} الاَية, أي نقتلهم ليلاً, قال مجاهد: تقاسموا وتحالفوا {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت} {أولم تكونوا أقسمتم من قبل} الاَية {أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة} فكأنهم كانوا لا يكذبون بشيء من الدنيا إلا أقسموا عليه فسموا مقتسمين, قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: المقتسمون أصحاب صالح الذين تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله. وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني, وإني أنا النذير العريان فالنجاء النجاء, فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا, وكذبه طائفة منهم فأصبحوا مكانهم, فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم, فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق.
    ** فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلـَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُنْ مّنَ السّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبّكَ حَتّىَ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ
    يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بإبلاغ ما بعثه به وبإنفاذه والصدع به, وهو مواجهة المشركين به, كما قال ابن عباس في قوله: {فاصدع بما تؤمر} أي أمضه, وفي رواية {افعل ما تؤمر} وقال مجاهد: هو الجهر بالقرآن في الصلاة. وقال أبو عبيدة عن عبد الله بن مسعود: ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزلت {فاصدع بما تؤمر}, فخرج هو وأصحابه. وقوله: {وأعرض عن المشركين * إنا كفيناك المستهزئين} أي بلغ ما أنزل إليك من ربك, ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوك عن آيات الله {ودّوا لو تدهن فيدهنون} ولا تخفهم فإن لله كافيك إياهم وحافظك منهم, كقوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس}.
    وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يحيى بن محمد بن السكن, حدثناإسحاق بن إدريس, حدثنا عون بن كهمس عن يزيد بن درهم, عن أنس قال: سمعت أنساً يقول في هذه الاَية, {إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر} قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم فغمزه بعضهم فجاء جبريل, أحسبه قال: فغمزهم, فوقع في أجسادهم كهيئة الطعنة فماتوا. قال محمد بن إسحاق: كان عظماء المستهزئين كما حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير خمسة نفر, وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم من بني أسد بن عبد العزى بن قصي الأسود بن المطلب أبي زمعة , كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه, فقال: «اللهم أعم بصره, وأثكله ولده» ومن بني زهرة الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة, ومن بني مخزوم الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم, ومن بني سهم ابن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سعد, ومن خزاعة الحارث بن الطلاطلة بن عمرو بن الحارث بن عبد بن ـ عمرو بن ملكان ـ. فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء أنزل الله تعالى: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين * إنا كفيناك المستهزئين إلى قوله فسوف يعلمون}.
    وقال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير أو غيره من العلماء,أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت , فقام وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه, فمر به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه, فاستسقى بطنه, ومر به الوليد بن المغيرة, فأشار إلى أثر جرحٍ بأسفل كعب رجله, وكان أصابه قبل ذلك بسنتين, وهو يجز إزاره, وذلك أنه مر برجل من خزاعة يريش نبلاً له, فتعلق سهم من نبله بإزاره فخدش رجله ذلك الخدش, وليس بشيء, فانتفض به فقتله, ومر به العاص بن وائل, فأشار إلى أخمص قدمه فخرج على حمار له يريد الطائف, فربض على شبرقة فدخلت في أخمص قدمه فقتلته, ومر به الحارث بن الطلاطلة فأشار إلى رأسه فامتخط قيحاً فقتله.
    قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن رجل, عن ابن عباس قال: كان رأسهم الوليد بن المغيرة وهو الذي جمعهم, وهكذاروي عن سعيد بن جبير وعكرمة نحو سياق محمد بن إسحاق به, عن يزيد عن عروة بطوله, إلا أن سعيداً يقول: الحارث بن غيطلة, وعكرمة يقول الحارث بن قيس. قال الزهري: وصدقا هو الحارث بن قيس, وأمه غيطلة, وكذا روي عن مجاهد ومقسم وقتادة وغير واحد أنهم كانوا خمسة. وقال الشعبي: كانوا سبعة, والمشهور الأول: وقوله: {الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر فسوف يعلمون} تهديد شديد ووعيد أكيد لمن جعل مع لله معبوداً آخر.
    وقوله: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين} أي وإنا لنعلم يا محمد أنك يحصل لك من أذاهم لك ضيق صدر وانقباض فلا يهيدنك ذلك ولا يثنينك عن إبلاغك رسالة الله, وتوكل عليه فإنه كافيك وناصرك عليهم, فاشتغل بذكر الله وتحميده وتسبيحه وعبادته التي هي الصلاة, ولهذا قال: {فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين}. كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, حدثنا معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن كثير بن مرة عن نعيم بن همّار أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى يا ابن آدم لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره» ورواه أبو داود والنسائي من حديث مكحول عن كثير بن مرة بنحوه, ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى.
    وقوله: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} قال البخاري: قال سالم: الموت, وسالم هذا هو سالم بن عبد الله بن عمر, كما قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان, حدثني طارق بن عبد الرحمن عن سالم بن عبد الله {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} قال: الموت, وهكذا قال مجاهد والحسن وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيره, والدليل على ذلك قوله تعالى إخباراً عن أهل النار أنهم قالوا {لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين} وفي الصحيح من حديث الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت, عن أم العلاء امرأة من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على عثمان بن مظعون وقد مات, قالت أم العلاء: رحمة الله عليك أبا السائب, فشهادتي عليك لقد أكرمك الله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك أن الله أكرمه ؟» فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله, فمن ؟ فقال: «أما هو فقد جاءه اليقين, وإني لأرجو له الخير» ويستدل بهذه الاَية الكريمة وهي قوله: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتاً, فيصلي بحسب حاله.
    كما ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صل قائماً, فإن لم تستطع فقاعداً, فإن لم تستطع فعلى جنب» ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة, فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم, وهذا كفر وضلال وجهل, فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته, وما يستحق من التعظيم, وكانوا مع هذا أعبد وأكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة, وإنما المراد باليقين ههنا الموت, كما قدمناه, ولله الحمد والمنة, والحمد لله على الهداية وعليه الاستعانة والتوكل, وهو المسؤول أن يتوفانا على أكمل الأحوال وأحسنها, فإنه جواد كريم.
    آخر تفسير سورة الحجر, والحمد لله رب العالمين.

    تمت سورة الحجر

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 8:39

    سورة النحل
    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
    ** أَتَىَ أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ
    يخبر تعالى عن اقتراب الساعة ودنوها معبراً بصيغة الماضي الدال على التحقيق والوقوع لا محالة, كقوله: {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون}, وقال: {اقتربت الساعة وانشق القمر}. وقوله: {فلا تستعجلوه} أي قرب ما تباعد فلا تستعجلوه, يحتمل أن يعود الضمير على الله, ويحتمل أن يعود على العذاب, وكلاهما متلازم, كما قال تعالى: {ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون * يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} وقد ذهب الضحاك في تفسير هذه الاَية إلى قول عجيب, فقال في قوله: {أتى أمر الله} أي فرائضه وحدوده, وقد رده ابن جرير فقال: لا نعلم أحداً استعجل بالفرائض وبالشرائع قبل وجودها بخلاف العذاب, فإنهم استعجلوه قبل كونه استبعاداً وتكذيباً, قلت: كما قال تعالى: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها, والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق, ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد}.
    وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن يحيى بن آدم, عن أبي بكر بن عياش, عن محمد بن عبد الله مولى المغيرة بن شعبة, عن كعب بن علقمة, عن عبد الرحمن بن حجيرة, عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تطلع عليكم عند الساعة سحابة سوداء من المغرب مثل الترس, فما تزال ترتفع في السماء ثم ينادي مناد فيها: يا أيهاالناس, فيقبل الناس بعضهم على بعض: هل سمعتم, فمنهم من يقول: نعم, ومنهم من يشك, ثم ينادي الثانية: يا أيها الناس, فيقول الناس بعضهم لبعض: هل سمعتم, فيقولون: نعم, ثم ينادي الثالثة: يا أيها الناس أتى أمر الله فلا تستعجلوه» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فو الذي نفسي بيده, إن الرجلين لينشران الثوب فما يطويانه أبداً, وإن الرجل ليمدن حوضه فما يسقي فيه شيئاً ابداً, وإن الرجل ليحلب ناقته فما يشربه أبداً ـ قال ـ ويشتغل الناس» ثم إنه تعالى نزه نفسه عن شركهم به غيره وعبادتهم معه ما سواه من الأوثان والأنداد, تعالى وتقدس علواً كبيراً, وهؤلاء هم المكذبون بالساعة فقال: {سبحانه وتعالى عما يشركون}.


    ** يُنَزّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىَ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوَاْ أَنّهُ لاَ إِلَـَهَ إِلاّ أَنَاْ فَاتّقُونِ
    يقول تعالى: {ينزل الملائكة بالروح} أي الوحي, كقوله: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان, ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا} وقوله: {على من يشاء من عباده} وهم الأنبياء, كما قال تعالى: { الله أعلم حيث يجعل رسالته}, وقال: { الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس} وقال: {يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق * يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم, لله الواحد القهار}. وقوله: {أن أنذروا} أي لينذروا {أنه لا إله إلا أنا فاتقون}أي فاتقوا عقوبتي لمن خالف أمري وعبد غيري.


    ** خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقّ تَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مّبِينٌ
    يخبر تعالى عن خلقه العالم العلوي وهو السموات, والعالم السفلي وهو الأرض بما حوت, وأن ذلك مخلوق بالحق لا للعبث بل { ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى} ثم نزه نفسه عن شرك من عبد معه غيره, وهو المستقل بالخلق وحده لا شريك له, فلهذا يستحق أن يعبد وحده لا شريك له, ثم نبه على خلق جنس الإنسان من نطفة أي مهينة ضعيفة, فلما استقل ودرج إذا هو يخاصم ربه تعالى ويكذبه ويحارب رسله, وهو إنما خلق ليكون عبداً لا ضداً, كقوله تعالى: {وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديراً * ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيراً}. وقوله: {أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين * وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم} وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن بسر بن جحاش قال: بصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في كفه, ثم قال: «يقول الله تعالى: ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك فعدلتك مشيت بين برديك وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت الحلقوم قلت أتصدق, وأنى أوان الصدقة».


    ** وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىَ بَلَدٍ لّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاّ بِشِقّ الأنفُسِ إِنّ رَبّكُمْ لَرَؤُوفٌ رّحِيمٌ
    يمتنّ تعالى على عباده بما خلق لهم من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم, كما فصلها في سورة الأنعام إلى ثمانية أزواج, وبما جعل لهم فيها من المصالح والمنافع من أصوافها وأوبارهاوأشعارها يلبسون ويفترشون, ومن ألبانها يشربون ويأكلون من أولادها, وما لهم فيها من الجمال وهو الزينة, ولهذا قال: {ولكم فيها جمال حين تريحون} وهو وقت رجوعها عشياً من المرعى فإنها تكون أمده خواصر وأعظمه ضروعاً وأعلاه أسنمة {وحين تسرحون} أي غدوة حين تبعثونها إلى المرعى {وتحمل أثقالكم} وهي الأحمال الثقيلة التي تعجزون عن نقلها وحملها {إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس} وذلك في الحج والعمرة والغزو والتجارة وما جرى مجرى ذلك, تستعملونها في أنواع الاستعمال من ركوب وتحميل, كقوله: {وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون}, وقال تعالى: {الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون * ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون * ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون}, ولهذا قال ههنا بعد تعداد هذه النعم {إن ربكم لرءوف رحيم} أي ربكم الذي قيض لكم هذه الأنعام وسخرها لكم, كقوله: {أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون * وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ؟}, وقال: {وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون * لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون} قال ابن عباس: {لكم فيها دفء} أي ثياب, {ومنافع} ما تنتفعون به من الأطعمة والأشربة. وقال عبد الرزاق: أخبرنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة, عن ابن عباس: دفء ومنافع نسل كل دابة. وقال مجاهد: لكم فيها دفء أي لباس ينسج, ومنافع مركب ولحم ولبن. وقال قتادة: دفء ومنافع, يقول: لكم فيها لباس ومنفعة وبلغة, وكذا قال غير واحد من المفسرين بألفاظ متقاربة.
    ** وَالّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوّئَنّهُمْ فِي الدّنْيَا حَسَنَةً وَلأجْرُ الاَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * الّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ
    يخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين في سبيله ابتغاء مرضاته, الذين فارقوا الدار والإخوان والخلان رجاء ثواب الله وجزائه, ويحتمل أن يكون سبب نزولها في مهاجرة الحبشة الذين اشتد أذى قومهم لهم بمكة حتى خرجوا من بين أظهرهم إلى بلاد الحبشة ليتمكنوا من عبادة ربهم, ومن أشرافهم عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم, وجعفر بن أبي طالب ابن عم الرسول, وأبو سلمة بن عبد الأسود في جماعة قريب من ثمانين ما بين رجل وامرأة صديق وصديقة رضي الله عنهم وأرضاهم, وقد فعل فوعدهم تعالى بالمجازاة الحسنة في الدنيا والاَخرة فقال: {لنبوئنهم في الدنيا حسنة} قال ابن عباس والشعبي وقتادة: المدينة, وقيل: الرزق الطيب, قاله مجاهد ولا منافاة بين القولين, فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم فعوضهم الله خيراً منها في الدنيا, فإن من ترك شيئاً لله عوضه الله بما هو خير له منه, وكذلك وقع فإنهم مكن الله لهم في البلاد, وحكمهم على رقاب العباد, وصاروا أمراء حكاماً, وكل منهم للمتقين إماماً, وأخبر أن ثوابه للمهاجرين في الدار الاَخرة أعظم مما أعطاهم في الدنيا, فقال: {ولأجر الاَخرة أكبر} أي مما أعطيناهم في الدنيا {لو كانوا يعلمون} أي لو كان المتخلفون عن الهجرة معهم يعلمون ما ادخر الله لمن أطاعه واتبع رسوله, ولهذا قال هشيم عن العوام عمن حدثه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه, كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه يقول: خذ بارك الله لك فيه, هذا ما وعدك الله في الدنيا, وما ادخر لك في الاَخرة أفضل, ثم قرأ هذه الاَية {لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الاَخرة أكبر لو كانوا يعلمون}. ثم وصفهم تعالى فقال: {الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون} أي صبروا على الأذى من قومهم متوكلين على الله الذي أحسن لهم العاقبة في الدنيا والاَخرة** أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَىَ مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشّمَآئِلِ سُجّداً لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مِن دَآبّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ
    يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه الذي خضع له كل شيء, ودانت له الأشياء والمخلوقات بأسرها: جماداتها وحيواناتها, ومكلفوها من الإنس والجن, والملائكة, فأخبر أن كل ما له ظل يتفيأ ذات اليمين وذات الشمال, أي بكرة وعشياً فإنه ساجد بظله لله تعالى. قال مجاهد: إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله عز وجل, وكذا قال قتادة والضحاك وغيرهم, وقوله {وهم داخرون} أي صاغرون. وقال مجاهد أيضاً: سجود كل شيء فيؤه , وذكر الجبال, قال: سجودها فيؤها. وقال أبو غالب الشيباني: أمواج البحر صلاته, ونزلهم منزلة من يعقل إذ أسند السجود إليهم فقال: {ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة} كما قال: {ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والاَصال}. وقوله: {والملائكة وهم لا يستكبرون} أي تسجد لله أي غير مستكبرين عن عبادته {يخافون ربهم من فوقهم} أي يسجدون خائفين وجلين من الرب جل جلاله {ويفعلون ما يؤمرون} أي مثابرين على طاعته تعالى وامتثال أوامره, وترك زواجره.

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 8:44

    ** وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتّخِذُواْ إِلـَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنّمَا هُوَ إِلـَهٌ وَاحِدٌ فَإيّايَ فَارْهَبُونِ * وَلَهُ مَا فِي الْسّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَهُ الدّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتّقُونَ * وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمّ إِذَا مَسّكُمُ الضّرّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمّ إِذَا كَشَفَ الضّرّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
    يخبر تعالى أنه لا إله إلا هو, وأنه لا ينبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له, فإنه مالك كل شيء وخالقه وربه {وله الدين واصباً} قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وميمون بن مهران والسدي وقتادة وغير واحد: أي دائماً, وعن ابن عباس أيضا: أي واجباً. وقال مجاهد: أي خالصاً له, أي له العبادة وحده ممن في السموات والأرض, كقوله: {أفغير دين الله يبغون * وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون} هذا على قول ابن عباس وعكرمة, فيكون من باب الخبر, وأما على قول مجاهد فإنه يكون من باب الطلب, أي ارهبوا أن تشركوا بي شيئاً وأخلصوا لي الطاعة, كقوله تعالى: {ألا لله الدين الخالص} ثم أخبر أنه مالك النفع والضر, وأن ما بالعباد من رزق ونعمة وعافية ونصر فمن فضله عليهم, وإحسانه إليهم {ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} أي لعلمكم أنه لا يقدر على إزالته إلا هو فإنكم عند الضرورات تلجأون إليه وتسألونه وتلحون في الرغبة إليه مستغيثين به, كقوله تعالى: {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً} وقال ههنا: {ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون * ليكفروا بما آتيناهم} قيل: اللام ههنا لام العاقبة. وقيل : لام التعليل بمعنى قيضنا لهم ذلك ليكفروا أي يستروا ويجحدوا نعم الله عليهم وأنه المسدي إليهم النعم, الكاشف عنهم النقم, ثم توعدهم قائلاً {فتمتعوا} أي اعملوا ما شئتم وتمتعوا بما أنتم فيه قليلاً {فسوف تعلمون} أي عاقبة ذلك.
    ** وَإِنّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نّسْقِيكُمْ مّمّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشّارِبِينَ * وَمِن ثَمَرَاتِ النّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
    يقول تعالى: {وإن لكم} أيها الناس{في الأنعام} وهي الإبل والبقر والغنم {لعبرة} أي لاَية ودلالة على حكمة خالقها وقدرته ورحمته ولطفه {نسقيكم مما في بطونه} أفردها ههنا عوداً على معنى النعم, أو الضمير عائد على الحيوان, فإن الأنعام حيوانات أي نسقيكم مما في بطن هذا الحيوان, وفي الاَية الأخرى مما في بطونها, ويجوز هذا وهذا, كما في قوله تعالى: {كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره} وفي قوله تعالى: {وإني مرسلة إليهم بهديه فناظرة بم يرجع المرسلون * فلما جاء سليمان} أي المال.
    وقوله: {من بين فرث ودم لبناً خالصاً} أي يتخلص اللبن بياضه وطعمه وحلاوته, ما بين فرث ودم في باطن الحيوان, فيسري كل إلى موطنه إذا نضج الغذاء في معدته, فيصرف منه دم إلى العروق, ولبن إلى الضرع, وبول إلى المثانة, وروث إلى المخرج, وكل منها لا يشوب الاَخر ولا يمازجه بعد انفصاله عنه ولا يتغير به. وقوله: {لبناً خالصاً سائغاً للشاربين} أي لا يغص به أحد, ولما ذكر اللبن وأنه تعالى جعله شراباً للناس سائغاً ثنى بذكر ما يتخذه الناس من الأشربة من ثمرات النخيل والأعناب, وما كانوا يصنعون من النبيذ المسكر قبل تحريمه, ولهذا امتن به عليهم فقال: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً} دل على إباحته شرعا قبل تحريمه, ودل على التسوية بين المسكر المتخذ من النخل والمتخذ من العنب, كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء, وكذا حكم سائر الأشربة المتخذة من الحنطة والشعير والذرة والعسل, كما جاءت السنة بتفصيل ذلك, وليس هذا موضع بسط ذلك.
    كما قال ابن عباس في قوله: {سكراً ورزقاً حسناً} السكر ما حرم من ثمرتيهما, والرزق الحسن ما أحل من ثمرتيهما, وفي رواية: السكر حرامه, والرزق الحسن حلاله, يعني ما يبس منهما من تمر وزبيب, وما عمل منهما من طلاء وهو الدبس وخل ونبيذ, حلال يشرب قبل أن يشتد كما وردت السنة بذلك {إن في ذلك لاَية لقوم يعقلون} ناسب ذكر العقل ههنا فإنه أشرف ما في الإنسان, ولهذا حرم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة صيانة لعقولها, قال الله تعالى: {وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون * سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون}.


    ** وَأَوْحَىَ رَبّكَ إِلَىَ النّحْلِ أَنِ اتّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشّجَرِ وَمِمّا يَعْرِشُونَ * ثُمّ كُلِي مِن كُلّ الثّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنّاسِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ
    المراد بالوحي هنا الإلهام والهداية, والإرشاد للنحل أن تتخذ من الجبال بيوتاً تأوي إليها, ومن الشجر ومما يعرشون, ثم هي محكمة في غاية الإتقان في تسديسها ورصها بحيث لا يكون في بيتها خلل, ثم أذن لها تعالى إذناً قدرياً تسخيرياً أن تأكل من كل الثمرات, وأن تسلك الطرق التي جعلها الله تعالى مذللة لها, أي مسهلة عليها حيث شاءت من هذا الجو العظيم, والبراري الشاسعة, والأودية والجبال الشاهقة, ثم تعود كل واحدة منها إلى بيتها لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة, بل إلى بيتها وما لها فيه من فراخ وعسل, فتبني الشمع من أجنحتها وتقيء العسل من فيها, وتبيض الفراخ من دبرها, ثم تصبح إلى مراعيها.
    ** وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَىَ حِينٍ * وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّمّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلّكُمْ تُسْلِمُونَ * فَإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ * يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللّهِ ثُمّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ
    يذكر تبارك وتعالى تمام نعمه على عبيده بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم, يأوون إليها, ويستترون بها, وينتفعون بها بسائر وجوه الانتفاع, وجعل لهم أيضاً من جلود الأنعام بيوتاً أي من الأدم, يستخفون حملها في أسفارهم ليضربوها لهم في إقامتهم في السفر والحضر, ولهذا قال: {تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها} أي الغنم, {وأوبارها} أي الإبل, {وأشعارها} أي المعز, والضمير عائد على الأنعام {أثاثا} أي تتخذون منه أثاثاً وهو المال, وقيل: المتاع, وقيل: الثياب, والصحيح أعم من هذا كله فإنه يتخذ من الأثاث البسط والثياب وغير ذلك, ويتخذ مالاً وتجارة, وقال ابن عباس: الأثاث المتاع, وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وعطية العوفي وعطاء الخراساني والضحاك وقتادة. وقوله: {إلى حين} أي إلى أجل مسمى ووقت معلوم.
    وقوله: { والله جعل لكم مما خلق ظلالاً} قال قتادة: يعني الشجر {وجعل لكم من الجبال أكناناً} أي حصوناً ومعاقل, كما {جعل لكم سرابيل تقيكم الحر} وهي الثياب من القطن والكتان والصوف {وسرابيل تقيكم بأسكم} كالدروع من الحديد المصفح والزرد وغير ذلك, {كذلك يتم نعمته عليكم} أي هكذا يجعل لكم ما تستعينون به على أمركم وما تحتاجون إليه ليكون عوناً لكم على طاعته وعبادته {لعلكم تسلمون} هكذا فسره الجمهور, وقرءوه بكسر اللام من {تسلمون} أي من الإسلام.
    وقال قتادة في قوله: {كذلك يتم نعمته عليكم} هذه السورة تسمى سورة النعم. وقال عبد الله بن المبارك وعباد بن العوام عن حنظلة السدوسي, عن شهر بن حوشب, عن ابن عباس أنه كان يقرؤها {تسلمون} بفتح اللام, يعني من الجراح, رواه أبو عبيد القاسم بن سلام عن عباد, ,أخرجه ابن جرير من الوجهين, ورد هذه القراءة. وقال عطاء الخراساني: إنما نزل القرآن على قدر معرفة العرب, ألا ترى إلى قوله تعالى: { والله جعل لكم مما خلق ظلالاً وجعل لكم من الجبال أكناناً} وما جعل من السهل أعظم وأكثر, ولكنهم كانوا أصحاب جبال ؟ ألا ترى إلى قوله: {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين} وما جعل لهم من غير ذلك أعظم وأكثر, ولكنهم كانوا أصحاب وبر وشعر ؟ ألا ترى إلى قوله: {وينزل من السماء من جبال فيها من برد} لعجبهم من ذلك وما أنزل من الثلج أعظم وأكثر, ولكنهم كانوا لا يعرفونه ؟ ألا ترى إلى قوله تعالى: {سرابيل تقيكم الحر} وما تقي من البرد أعظم وأكثر, ولكنهم كانوا أصحاب حر.
    وقوله: {فإن تولوا} أي بعد هذ البيان وهذا الامتنان, فلا عليك منهم {فإنما عليك البلاغ المبين} وقد أديته إليهم {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها} أي يعرفون أن الله تعالى هو المسدي إليهم ذلك وهو المتفضل به عليهم ومع هذا ينكرون ذلك ويعبدون معه غيره ويسندون النصر والرزق إلى غيره {وأكثرهم الكافرون} كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا صفوان, حدثنا الوليد, حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن مجاهد أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله, فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم { والله جعل لكم من بيوتكم سكناً} فقال الأعرابي: نعم, قال: {وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا} الاَية, قال الأعرابي: نعم, ثم قرأ عليه كل ذلك, يقول الأعرابي: نعم حتى بلغ {كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون} فولى الأعرابي, فأنزل الله {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها} الاَية.


    ** وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلّ أُمّةٍ شَهِيداً ثُمّ لاَ يُؤْذَنُ لِلّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ * وَإِذَا رَأى الّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * وَإِذَا رَأى الّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ قَالُواْ رَبّنَا هَـَؤُلاَءِ شُرَكَآؤُنَا الّذِينَ كُنّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنّكُمْ لَكَاذِبُونَ * وَأَلْقَوْاْ إِلَىَ اللّهِ يَوْمَئِذٍ السّلَمَ وَضَلّ عَنْهُم مّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * الّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ
    يخبر تعالى عن شأن المشركين يوم معادهم في الدار الاَخرة, وأنه يبعث من كل أمة شهيداً وهو نبيها, يشهد عليها بما أجابته فيما بلغها عن الله تعالى: {ثم لا يؤذن للذين كفروا} أي في الاعتذار, لأنهم يعلمون بطلانه وكذبه, كقوله: {هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون} فلهذا قال: {ولا هم يستعتبون * وإذا رأى الذين ظلموا} أي الذين أشركوا {العذاب فلا يخفف عنهم} أي لا يفتر عنهم ساعة واحدة. {ولا هم ينظرون} أي لا يؤخر عنهم بل يأخذهم سريعاً من الموقف بلا حساب, فإنه إذا جيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام, مع كل زمام سبعون ألف ملك, فيشرف عنق منها على الخلائق, وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه, فتقول: إني وكلت بكل جبار عنيد الذي جعل مع الله إلها آخر وبكذا وبكذا, وتذكر أصنافاً من الناس, كما جاء في الحديث, ثم تنطوي عليهم وتلتقطهم من الموقف كما يلتقط الطائر الحب, قال الله تعالى: {إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً, وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين دعوا هنالك ثبوراً, لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً, وادعوا ثبوراً كثيراً}, وقال تعالى: {ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفاً} وقال تعالى: {لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون * بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون}.

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 8:50

    ** وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوّةٍ أَنكَاثاً تَتّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمّةٍ إِنّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيّنَنّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
    هذا مما يأمر الله تعالى به, وهو الوفاء بالعهود والمواثيق والمحافظة على الأيمان المؤكدة, ولهذا قال: {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} ولا تعارض بين هذا وبين قوله: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم} الاَية, وبين قوله تعالى: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم} أي لا تتركوها بلا كفارة, وبين قوله عليه السلام فيما ثبت عنه في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها ـ وفي رواية ـ وكفرت عن يميني» لا تعارض بين هذا كله ولا بين الاَية المذكورة ههنا, وهي قوله: {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} لأن هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق لا الأيمان التي هي واردة على حث أو منع, ولهذا قال مجاهد في قوله {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} يعني الحلف, أي حلف الجاهلية. ويؤيد ما رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن محمد ـ هو ابن أبي شيبة ـ حدثنا ابن نمير وأبو أسامة عن زكريا. هو ابن أبي زائدة ـ عن سعد بن إبراهيم عن أبيه, عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حلف في الإسلام, وأيما حلف كان في الجاهلية فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة» وكذا رواه مسلم عن ابن أبي شيبة به. ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه, فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه.** وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَلـَكِن يُضِلّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَلَتُسْأَلُنّ عَمّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَتّخِذُوَاْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسّوَءَ بِمَا صَدَدتّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنّمَا عِنْدَ اللّهِ هُوَ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنّ الّذِينَ صَبَرُوَاْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
    يقول الله تعالى: {ولو شاء الله لجعلكم} أيها الناس {أمة واحدة} كقوله تعالى: {ولو شاء ربك لاَمن من في الأرض كلهم جميعاً} أي لوفق بينكم ولما جعل اختلافاً ولا تباغض ولا شحناء {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}, وهكذا قال ههنا: {ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء} ثم يسألكم يوم القيامة عن جميع أعمالكم فيجازيكم عليها على الفتيل والنقير والقطمير. ثم حذر تعالى عباده عن اتخاذ الأيمان دخلاً أي خديعة ومكراً لئلا تزل قدم بعد ثبوتها, مثل لمن كان على الاستقامة فحاد عنها, وزل عن طريق الهدى بسبب الأيمان الحانثة المشتملة على الصد عن سبيل الله, لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن قد عاهده ثم غدر به لم يبق له وثوق بالدين, فانصد بسببه عن الدخول في الإسلام, ولهذا قال {وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم}.
    ثم قال تعالى: {ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلاً} أي لا تعتاضوا عن الأيمان بالله عرض الحياة الدنيا) وزينتها, فإنها قليلة, ولو حيزت لابن آدم الدنيا بحذافيرها لكان ما عند الله هو خير له, أي جزاء الله وثوابه خير لمن رجاه وآمن به وطلبه وحفظ عهده رجاء موعوده, ولهذا قال: {إن كنتم تعلمون * ما عندكم ينفد} أي يفرغ وينقضي فإنه إلى أجل معدود محصور مقدر متناه {وما عند الله باق} أي وثوابه لكم في الجنة باق لا انقطاع ولا نفاد له, فإنه دائم لا يحول ولا يزول {ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} قسم من الرب تعالى مؤكد باللام, أنه يجازي الصابرين بأحسن أعمالهم, أي ويتجاوز عن سيئها.


    ** مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
    هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحاً وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من ذكر أو أنثى, من بني آدم وقلبه مؤمن بالله ورسوله, وأن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا, وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الاَخرة, والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت. وقد روي عن ابن عباس وجماعة أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه فسرها بالقناعة, وكذا قال ابن عباس وعكرمة ووهب بن منبه, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أنها هي السعادة. وقال الحسن ومجاهد وقتادة: لا يطيب لأحد حياة إلا في الجنة. وقال الضحاك: هي الرزق الحلال والعبادة في الدنيا, وقال الضحاك أيضاً: هي العمل بالطاعة والانشراح بها, والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله.
    كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد, حدثنا سعيد بن أبي أيوب, حدثني شرحبيل بن أبي شريك عن أبي عبد الرحمن الحبلي, عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد أفلح من أسلم, ورزق كفافاً, وقنعه الله بما آتاه}, ورواه مسلم من حديث عبد الله بن يزيد المقري به. وروى الترمذي والنسائي من حديث أبي هانىء عن أبي علي الجنبي, عن فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قد أفلح من هدي للإسلام, وكان عيشه كفافاً وقنع به». وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد حدثنا همام عن يحيى, عن قتادة, عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا ويثاب عليها في الاَخرة. وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الاَخرة, لم يكن له حسنة يعطى بها خيراً», انفر بإخراجه مسلم.
    ** ثُمّ إِنّ رَبّكَ لِلّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنّ رَبّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رّحِيمٌ * يَوْمَ تَأْتِي كُلّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نّفْسِهَا وَتُوَفّىَ كُلّ نَفْسٍ مّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
    هؤلاء صنف آخر كانو مستضعفين بمكة مهانين في قومهم فوافقوهم على الفتنة, ثم إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه, وانتظموا في سلك المؤمنين, وجاهدوا معهم الكافرين, وصبروا, فأخبر تعالى أنه من بعدها, أي تلك الفعلة وهي الإجابة إلى الفتنة لغفور لهم رحيم بهم يوم معادهم {يوم تأتي كل نفس تجادل} أي تحاج {عن نفسها} ليس أحد يحاج عنها لا أب ولا ابن ولا أخ ولا زوجة {وتوفى كل نفس ما عملت} أي من خير وشر {وهم لا يظلمون} أي لا ينقص من ثواب الخير, ولا يزاد على ثواب الشر, ولا يظلمون نقيراً. )


    ** وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مّطْمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مّنْهُمْ فَكَذّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ
    هذا مثل أريد به أهل مكة, فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة يتخطف الناس من حولها, ومن دخلها كان آمنا لا يخاف, كما قال تعالى: {وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا}, وهكذا قال ههنا: {يأتيها رزقها رغداً} أي هنيئاً سهلاً {من كل مكان فكفرت بأنعم الله} أي جحدت آلاء الله عليها وأعظمها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم, كما قال تعالى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار} ولهذا بدلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما, فقال: {فأذاقها الله لباس الجوع والخوف} أي ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليهم ثمرات كل شيء, ويأيتها رزقها رغداً من كل مكان, وذلك لمّا استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا إلا خلافه فدعا عليهم بسبع كسبع يوسف, فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم, فأكلوا العلهز وهو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحروه.
    ** فَكُلُواْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ إِن كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنّمَا حَرّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدّمَ وَلَحْمَ الْخَنْزِيرِ وَمَآ أُهِلّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ * وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـَذَا حَلاَلٌ وَهَـَذَا حَرَامٌ لّتَفْتَرُواْ عَلَىَ اللّهِ الْكَذِبَ إِنّ الّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىَ اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
    يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بأكل رزقه الحلال الطيب وبشكره على ذلك فإنه المنعم المتفضل به ابتداء الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له, ثم ذكر تعالى ما حرمه عليهم مما فيه مضرة لهم في دينهم ودنياهم من الميتة والدم ولحم الخنزير {وما أهل لغير الله به} أي ذبح على غير اسم الله, ومع هذا {فمن اضطر} إليه أي احتاج من غير بغي ولا عدوان {فإن الله غفور رحيم}. وقد تقدم الكلام على مثل هذه الاَية في سورة البقرة بما فيه كفاية عن إعادته, ولله الحمد.
    ثم نهى تعالى عن سلوك سبيل المشركين الذين حللوا وحرموا بمجرد ما وصفوه واصطلحوا عليه من الأسماء بآرائهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وغير ذلك, مما كان شرعاً لهم ابتدعوه في جاهليتهم, فقال: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب} ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي, أو حلل شيئاً مما حرم الله, أو حرم شيئاً مما أباح الله بمجرد رأيه وتشهيه, وما في قوله: {لما تصف} مصدرية, أي ولا تقولوا الكذب لوصف ألسنتكم, ثم توعد على ذلك فقال: {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون} أي في الدنيا ولا في الاَخرة, أما في الدنيا فمتاع قليل, وأما في الاَخرة فلهم عذاب أليم, كما قال: {نمتعهم قليلاً ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ} وقال {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون, متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون}.

    يتبع


    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 9:01

    ** وَعَلَىَ الّذِينَ هَادُواْ حَرّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـَكِن كَانُوَاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * ثُمّ إِنّ رَبّكَ لِلّذِينَ عَمِلُواْ السّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوَاْ إِنّ رَبّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رّحِيمٌ
    لما ذكر تعالى أنه إنما حرم علينا الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به وإنما أرخص فيه عند الضرورة ـ وفي ذلك توسعة لهذه الأمة التي يريد الله بها اليسرى ولا يريد بها العسرى ـ ذكر سبحانه وتعالى ما كان حرمه على اليهود في شريعتهم قبل أن ينسخها, وما كانوا فيه من الاَصار والتضييق والأغلال والحرج, فقال: {وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل} أي في سورة الأنعام في قوله: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ماحملت ظهورهما ـ إلى قوله ـ لصادقون} ولهذا قال ههنا: {وما ظلمناهم} أي فيما ضيقنا عليهم {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} أي فاستحقوا ذلك, كقوله: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيراً} ثم أخبر تعالى تكرماً وامتناناً في حق العصاة المؤمنين أن من تاب منهم إليه تاب عليه, فقال: {ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة} قال بعض السلف: كل من عصى الله فهو جاهل {ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا} أي أقلعوا عما كانوا فيه من المعاصي وأقبلوا على فعل الطاعات {إن ربك من بعدها} أي تلك الفعلة والزلة {لغفور رحيم}.
    ** ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
    يقول تعالى آمراً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يدعو الخلق إلى الله بالحكمة. قال ابن جرير: وهو ما أنزله عليه من الكتاب والسنة {والموعظة الحسنة}, أي بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس, ذكرهم بها ليحذروا بأس الله تعالى, وقوله: {وجادلهم بالتي هي أحسن} أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب, كقوله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم} الاَية, فأمره تعالى بلين الجانب كما أمر به موسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون في قوله: {فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى}.
    وقوله: {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله} الاَية, أي قد علم الشقي منهم والسعيد, وكتب ذلك عنده وفرغ منه, فادعهم إلى الله ولا تذهب نفسك على من ضل منهم حسرات, فإنه ليس عليك هداهم إنما أنت نذير عليك البلاغ وعلينا الحساب {إنك لا تهدي من أحببت}, {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء}.


    ** وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصّابِرينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مّمّا يَمْكُرُونَ * إِنّ اللّهَ مَعَ الّذِينَ اتّقَواْ وّالّذِينَ هُم مّحْسِنُونَ
    يأمر تعالى بالعدل في القصاص والمماثلة في استيفاء الحق, كما قال عبد الرزاق عن الثوري عن خالد, عن ابن سيرين أنه قال في قوله تعالى: {فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} إن أخذ منكم رجل شيئاً فخذوا مثله, وكذا قال مجاهد وإبراهيم والحسن البصري وغيرهم واختاره ابن جرير. وقال ابن زيد: كانوا قد أمروا بالصفح عن المشركين فأسلم رجال ذوو منعة فقالوا: يارسول الله لو أذن الله لنا لا نتصرنا من هؤلاء الكلاب. فنزلت هذه الاَية, ثم نسخ ذلك بالجهاد.
    وقال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة النحل كلها بمكة, وهيمكية إلا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة بعد أحد حين قتل حمزة رضي الله عنه ومثل به, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بثلاثين رجلاً منهم» فلما سمع المسلمون ذلك قالوا: والله لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلهاأحد من العرب بأحد قط, فأنزل الله {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} إلى آخر السورة, وهذا مرسل وفيه رجل مبهم لم يسم.
    وقد روي هذا من وجه آخر متصل, فقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا الحسن بن يحيى, حدثنا عمرو بن عاصم, حدثنا صالح المري عن سليمان التيمي عن أبي عثمان, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول لله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه حين استشهد, فنظر إلى منظر لم ينظر إلى منظر أوجع للقلب منه, أو قال لقلبه, فنظر إليه وقد مثل به, فقال: «رحمة الله عليك إن كنت ما علمتك إلا وصولاً للرحم, فعولاً للخيرات, والله لولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع ـ أو كلمة نحوها ـ أما والله على ذلك لأمثلن بسبعين كمثلتك» فنزل جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم بهذه السورة وقرأ {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ماعوقبتم به} إلى آخر الاَية, فكفر رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني عن يمينه وأمسك عن ذلك, وهذا إسناد فيه ضعف, لأن صالحاً هو ابن بشير المري ضعيف عند الأئمة, وقال البخاري: هو منكر الحديث, وقال الشعبي وابن جريج: نزلت في قول المسلمين يوم أحد فيمن مثل بهم لنمثلن بهم فأنزل الله فيهم ذلك.
    وقال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه: حدثنا هدية بن عبد الوهاب المروزي, حدثنا الفضل بن موسى, حدثنا عيسى بن عبيد عن الربيع بن أنس عن أبي العالية, عن أبي بن كعب قال: لما كان يوم أحد قتل من الأنصار ستون رجلاً, ومن المهاجرين ستة, فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : لئن كان لنا يوم مثل هذا من المشركين لنربيّن عليهم, فلما كان يوم الفتح قال رجل: لا تعرف قريش بعد اليوم, فنادى مناد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمن الأسود والأبيض إلا فلاناً وفلاناً ـ ناساً سماهم ـ فأنزل الله تبارك وتعالى {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ماعوقبتم به} إلى آخر السورة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نصبر ولا نعاقب» وهذه الاَية الكريمة لها أمثال في القرآن, فإنها مشتملة على مشروعية العدل والندب إلى الفضل كما في قوله: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} ثم قال: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} الاَية. وقال: {والجروح قصاص} ثم قال {فمن تصدق به فهو كفارة له} وقال في هذه الاَية: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} ثم قال {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}.
    وقوله تعالى: {واصبر وما صبرك إلا بالله} تأكيد للأمر بالصبر وإخبار بأن ذلك لا ينال إلا بمشيئة الله وإعانته, وحوله وقوته, ثم قال تعالى: {ولا تحزن عليهم} أي على من خالفك فإن الله قدر ذلك {ولا تك في ضيق} أي غم {مما يمكرون} أي مما يجهدون أنفسهم في عداوتك وإيصال الشر إليك, فإن الله كافيك وناصرك ومؤيدك ومظهرك ومظفرك بهم. وقوله: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} أي معهم بتأييده ونصره ومعونته وهديه وسعيه وهذه معية خاصة كقوله: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا} وقوله لموسى وهارون: { لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} وقول النبي صلى الله عليه وسلم للصديق وهما في الغار: « لا تحزن إن الله معنا» وأما المعية العامة فبالسمع والبصر والعلم, كقوله تعالى: {وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير} وكقوله تعالى: {ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا} وكما قال تعالى: { وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً} الاَية, ومعنى {الذين اتقوا} أي تركوا المحرمات, {والذين هم محسنون} أي فعلوا الطاعات, فهؤلاء الله يحفظهم ويكلؤهم وينصرهم ويؤيدهم ويظفرهم على أعدائهم ومخالفيهم, وقال ابن أبي حاتم: حدثناأبي, حدثنا محمد بن بشار, حدثنا أبو أحمد الزبيري, حدثنا مسعر عن عون عن محمد بن حاطب: كان عثمان رضي الله عنه من الذين اتقوا والذين هم محسنون.


    تمت سورة النحل

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 9:05

    سورة الإسراء
    ** تفسير سورة الإسراء وهي مكية

    قال الإمام الحافظ المتقن أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري: حدثنا آدم بن أبي إياس, حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت عبد الرحمن بن يزيد, سمعت ابن مسعود رضي الله عنه قال في بني إسرائيل والكهف ومريم: إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن, حدثنا حماد بن زيد عن مروان أبي لبابة, سمعت عائشة تقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول ما يريد أن يفطر, ويفطر حتى نقول ما يريد أن يصوم, وكان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر.

    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىَ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَىَ الْمَسْجِدِ الأقْصَى الّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ
    يمجد تعالى نفسه, ويعظم شأنه, لقدرته على ما لايقدر عليه أحد سواه, فلا إله غيره ولا رب سواه, {الذي أسرى بعبده} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم {ليلاً} أي في جنح الليل {من المسجد الحرام} وهو مسجد مكة {إلى المسجد الأقصى} وهو بيت المقدس الذي بإيلياء معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل عليه السلام, ولهذا جمعوا له هناك كلهم فأمهم في محلتهم ودارهم, فدل على أنه هو الإمام الأعظم, والرئيس المقدم, صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين. وقوله تعالى: {الذي باركنا حوله} أي في الزروع والثمار {لنريه} أي محمداً {من آياتنا} أي العظام. كما قال تعالى: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} وسنذكر من ذلك ما وردت به السنة من الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم, وقوله تعالى: {إنه هو السميع البصير} أي السميع لأقوال عباده مؤمنهم وكافرهم, مصدقهم ومكذبهم, البصير بهم فيعطي كلاً منهم ما يستحقه في الدنيا والاَخرة.

    (ذكر الأحاديث الورادة في الإسراء: رواية أنس بن مالك رضي الله عنه)
    قال الإمام أبو عبد الله البخاري: حدثني عبد العزيز بن عبد الله, حدثنا سليمان ـ هو ابن بلال ـ عن شريك بن عبد الله قال: سمعت أنس بن مالك يقول ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة: إنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أولهم: أيهم هو ؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم, فقال آخرهم: خذوا خيرهم, فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه ـ وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ـ فلم يكلموه حتى يحتملوه فوضعوه عند بئر زمزم, فتولاه منهم جبريل فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه, فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه, ثم أتى بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشو إيماناً وحكمة فحشا به صدره ولغاديده ـ يعني عروق حلقه ـ ثم أطبقه ثم عرج به إلى السماء الدنيا, فضرب باباً من أبوابها, فناداه أهل السماء: من هذا ؟ فقال: جبريل, قالوا: ومن معك ؟ قال: معي محمد, قالوا: وقد بعث إليه ؟ قال: نعم, قالوا: فمرحباً به وأهلاً, يستبشر به أهل السماء لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يعلمهم, فوجد في السماء الدنيا آدم فقال له جبريل: هذا أبوك آدم فسلم عليه, فسلم عليه ورد عليه آدم فقال: مرحباً وأهلاً بابني نعم الابن أنت, فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان فقال: «ما هذان النهران يا جبريل ؟» قال: هذان النيل والفرات عنصرهما.
    ثم مضى به في السماء فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ و***جد, فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر فقال: ما هذا يا جبريل ؟ قال: هذا الكوثر الذي خبأه لك ربك, ثم عرج به إلى السماء الثانية فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الملائكة الأولى: من هذا ؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك ؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. قالوا: وقد بعث إليه ؟ قال: نعم. قالوا: مرحباً به وأهلاً, ثم عرج به إلى السماء الثالثة فقالوا له مثل ما قالت الأولى والثانية, ثم عرج به إلى السماء الرابعة فقالوا له مثل ذلك, ثم عرج به إلى السماء الخامسة فقالوا له مثل ذلك, ثم عرج به إلى السماء السادسة فقالوا له مثل ذلك, ثم عرج به إلى السماء السابعة فقالوا له مثل ذلك, كل سماء فيها أنبياء قد سماهم فوعيت منهم إدريس في الثانية وهارون في الرابعة وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه, وإبراهيم في السادسة وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله تعالى, فقال موسى: رب لم أظن أن يرفع علي أحدٌ, ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله عز وجل حتى جاء سدرة المنتهى, ودنا الجبار رب العزة فتدلى, حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى, فأوحى الله إليه فيما يوحي خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة, ثم هبط به حتى بلغ موسى فاحتبسه موسى فقال: يا محمد ماذا عهد إليك ربك ؟ قال: «عهد إلي خمسين صلاة كل يوم وليلة» قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم. فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار جبريل أن نعم إن شئت, فعلا به إلى الجبار تعالى وتقدس فقال وهو في مكانه: «يا رب خفف عنا فإن أمتي لا تستطيع هذا» فوضع عنه عشر صلوات ثم رجع إلى موسى فاحتبسه, فلم يزل يرده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات, ثم احتبسه موسى عند الخمس فقال: يا محمد والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا فضعفوا فتركوه, فأمتك أضعف أجساداً وقلوباً وأبداناً وأبصاراً وأسماعاً, فارجع فليخفف عنك ربك, كل ذلك يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل ليشير عليه ولا يكره ذلك جبريل, فرفعه عند الخامسة فقال «يا رب إن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وأبدانهم فخفف عنا» فقال الجبار تبارك وتعالى: يا محمد. قال «لبيك وسعديك» قال: إنه لا يبدل القول لدي كما فرضت عليك في أم الكتاب, فكل حسنة بعشر أمثالها فهي خمسون في أم الكتاب, وهي خمس عليك, فرجع إلى موسى فقال: كيف فعلت ؟ فقال «خفف عنا أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها» قال موسى: قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه, فارجع إلى ربك فليخفف عنك أيضاً. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا موسى قد والله استحييت من ربي عز وجل مما أختلف إليه» قال: فاهبط باسم الله.
    قال: واستيقظ وهو في المسجد الحرام. هكذا ساقه البخاري في كتاب التوحيد, ورواه في صفة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه أبي بكر عبد الحميد عن سليمان بن بلال. ورواه مسلم عن هارون بن سعيد عن ابن وهب عن سليمان قال فزاد ونقص وقدم وأخر, وهو كما قال مسلم فإن شريك بن عبد الله بن أبي نمر اضطرب في هذا الحديث وساء حفظه ولم يضبطه كما سيأتي بيانه إن شاء الله في الأحاديث الأخر, ومنهم من يجعل هذا مناماً توطئة لما وقع بعد ذلك والله أعلم. وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي في حديث شريك زيادة تفرد بها, على مذهب من زعم أنه صلى الله عليه وسلم رأى الله عز وجل يعني قوله, {ثم دنا} الجبار رب العزة {فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى}. قال وقول عائشة وابن مسعود وأبي هريرة في حملهم هذه الاَيات على رؤيته جبريل أصح, وهذا الذي قاله البيهقي رحمه الله في هذه المسألة هو الحق, فإن أبا ذر قال: يا رسوله الله هل رأيت ربك ؟ قال: «نور أنى أراه» وفي رواية: «رأيت نوراً» أخرجه مسلم, وقوله: {ثم دنا فتدلى} إنما هو جبريل عليه السلام, كما ثبت ذلك في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين, وعن ابن مسعود, وكذلك هو في صحيح مسلم عن أبي هريرة, ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة في تفسير هذه الاَية بهذا.
    ** وَآتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاّ تَتّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً * ذُرّيّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً
    لما ذكر تعالى أنه أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم عطف بذكر موسى عبده ورسوله وكليمه أيضاً, فإنه تعالى كثيراً ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد عليهما من الله الصلاة والسلام, وبين ذكر التوراة والقرآن, ولهذا قال بعد ذكر الإسراء {وآتينا موسى الكتاب} يعني التوراة {وجعلناه} أي الكتاب {هدى} أي هادياً {لبني إسرائيل ألاّ تتخذوا} أي لئلا تتخذوا {من دوني وكيلاً} أي ولياً ولا نصيراً ولا معبوداً دوني, لأن الله تعالى أنزل على كل نبي أرسله أن يعبده وحده لا شريك له.
    ثم قال: {ذرية من حملنا مع نوح} تقديره يا ذرية من حملنا مع نوح, فيه تهييج وتنبيه على المنة, أي يا سلالة من نجينا فحملنا مع نوح في السفينة تشبهوا بأبيكم {إنه كان عبداً شكوراً} فاذكروا أنتم نعمتي عليكم بإرسالي إليكم محمداً صلى الله عليه وسلم وقد ورد في الحديث وفي الأثر عن السلف أن نوحاً عليه السلام كان يحمد الله على طعامه وشرابه ولباسه وشأنه كله, فلهذا سمي عبداً شكوراً. قال الطبراني: حدثني علي بن عبد العزيز, حدثنا أبو نعيم, حدثنا سفيان عن أبي حصين, عن عبد الله بن سنان عن سعد بن مسعود الثقفي قال: إنما سمي نوح عبداً شكوراً, لأنه كان إذا أكل أو شرب حمد الله.
    ** إِنّ هَـَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ الّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً * وأَنّ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
    يمدح تعالى كتابه العزيز الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم, وهو القرآن بأنه يهدي لأقوم الطرق وأوضح السبل, ويبشر المؤمنين به الذين يعملون الصالحات على مقتضاه, أن لهم أجراً كبيراً, أي يوم القيامة, وأن الذين لا يؤمنون بالاَخرة, أي ويبشر الذين لا يؤمنون بالاَخرة أن لهم عذاباً أليماً, أي يوم القيامة, كما قال تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم}.


    ** وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشّرّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً
    يخبر تعالى عن عجلة الإنسان ودعائه في بعض الأحيان على نفسه أو ولده أو ماله بالشر أي بالموت أو الهلاك والدمار واللعنة ونحو ذلك, فلو استجاب له ربه لهلك بدعائه, كما قال تعالى {ولو يعجل الله للناس الشر} الاَية, وكذا فسره ابن عباس ومجاهد وقتادة, وقد تقدم في الحديث «لا تدعوا على أنفسكم, ولا على أموالكم أن توافقوا من الله ساعة إجابة يستجيب فيها» وإنما يحمل ابن آدم على ذلك قلقه وعجلته, ولهذا قال تعالى: {وكان الإنسان عجولاً} وقد ذكر سلمان الفارسي وابن عباس ههنا قصة آدم عليه السلام حين همّ بالنهوض قائماً قبل أن تصل الروح إلى رجليه, وذلك أنه جاءته النفخة من قبل رأسه, فلما وصلت إلى دماغه عطس, فقال: الحمد لله, فقال الله: يرحمك ربك يا آدم. فلما وصلت إلى عينيه فتحهما, فلما سرت إلى أعضائه وجسده, جعل ينظر إليه ويعجبه, فهم بالنهوض قبل أن تصل إلى رجليه فلم يستطع, وقال: يا رب عجل قبل الليل.

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 9:09

    ** وَجَعَلْنَا الْلّيْلَ وَالنّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ الْلّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ النّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رّبّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلّ شَيْءٍ فَصّلْنَاهُ تَفْصِيلاً
    يمتن تعالى على خلقه بآياته العظام, فمنها مخالفته بين الليل والنهار ليسكنوا في الليل, وينتشروا في النهار للمعايش والصنائع, والأعمال والأسفار, وليعلموا عدد الأيام والجمع والشهور والأعوام, ويعرفوا مضي الاَجال المضروبة للديون والعبادات والمعاملات والإجارات وغير ذلك, ولهذا قال: {لتبتغوا فضلاً من ربكم} أي في معايشكم وأسفاركم ونحو ذلك, {ولتعلموا عدد السنين والحساب} فإنه لو كان الزمان كله نسقاً واحداً وأسلوباً متساوياً لما عرف شيء من ذلك, كما قال تعالى: {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء ؟ أفلا تسمعون * قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون * ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون} وقال تعالى: {تبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً} وقال تعالى: {وله اختلاف الليل والنهار} وقال: {يكوّر الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار} وقال تعالى: {فالق الإصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم} وقال تعالى: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم} ثم إنه تعالى جعل لليل آية, أي علامة يعرف بها, وهي الظلام وظهور القمر فيه, وللنهار علامة وهي النور وطلوع الشمس النيرة فيه, وفاوت بين نور القمر وضياء الشمس ليعرف هذا من هذا, كما قال تعالى: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق ـ إلى قوله ـ لاَيات لقوم يتقون} وقال تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} الاَية.
    قال ابن جريج عن عبد الله بن كثير في قوله: {فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة} قال: ظلمة الليلة وسدف النهار. وقال ابن جريج عن مجاهد: الشمس آية النهار والقمر آية الليل, {فمحونا آية الليل} قال: السواد الذي في القمر, وكذلك خلقه الله تعالى. وقال ابن جريج: قال ابن عباس: كان القمر يضيء كما تضيء الشمس, والقمر آية الليل, والشمس آية النهار, فمحونا آية الليل السواد الذي في القمر. وقد روى أبو جعفر بن جرير من طرق متعددة جيدة أن ابن الكواء سأل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب, فقال: يا أمير المؤمنين ما هذه اللطخة التي في القمر ؟ فقال: ويحك أما تقرأ القرآن ؟ فقال: فمحونا آية الليل فهذه محوه. وقال قتادة في قوله: {فمحونا آية الليل} كنا نحدث أن محو آية الليل سواد القمر الذي فيه, وجعلنا آية النهار مبصرة أي منيرة, وخلق الشمس أنور من القمر وأعظم, وقال ابن أبي نجيح عن ابن عباس {وجعلنا الليل والنهار آيتين} قال ليلاً ونهاراً, كذلك خلقهما الله عز وجل.
    ** وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمّرْنَاهَا تَدْمِيراً
    اختلف القراء في قراءة قوله {أمرنا} فالمشهور قراءة التخفيف, واختلف المفسرون فيها معناها, فقيل: معناها أمرنا مترفيها ففسقوا فيها أمراً قدرياً, كقوله تعالى: {أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً} فإن الله لا يأمر بالفحشاء, قالوا: معناه أنه سخرهم إلى فعل الفواحش, فاستحقوا العذاب, وقيل: معناه أمرناهم بالطاعات ففعلوا الفواحش, فاستحقوا العقوبة, رواه ابن جريج عن ابن عباس, وقاله سعيد بن جبير أيضاً. وقال ابن جرير: يحتمل أن يكون معناه جعلناهم أمراء, قلت إنما يجيء هذا على قراءة من قرأ {أمّرنا مترفيها}, قال علي بن طلحة عن ابن عباس قوله: {أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} يقول: سلطنا أشرارها فعصوا فيها, فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب, وهو قوله: {وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها} الاَية, وكذا قال أبو العالية ومجاهد والربيع بن أنس.
    وقال العوفي عن ابن عباس {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} يقول, أكثرنا عددهم, وكذا قال عكرمة والحسن والضحاك وقتادة. وعن مالك, عن الزهري {أمرنا مترفيها} أكثرنا, وقد استشهد بعضهم بالحديث الذي رواه الإمام أحمد, حيث قال: حدثنا روح بن عبادة, حدثنا أبو نعيم العدوي عن مسلم بن بديل, عن إياس بن زهير, عن سويد بن هبيرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خير مال امرىء له مهرة مأمورة, أو سكة مأبورة» قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه الغريب: «المأمورة كثيرة النسل, والسكة الطريقة المصطفة من النخل, والمأبورة من التأبير» وقال بعضهم: إنما جاء هذا متناسباً كقوله «مأزورات غير مأجورات».


    ** وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىَ بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً
    يقول تعالى منذراً كفار قريش في تكذيبهم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم, بأنه قد أهلك من المكذبين للرسل من بعد نوح, ودل هذا على أن القرون التي كانت بين آدم ونوح على الإسلام كما قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام, ومعناه أنكم أيها المكذبون لستم أكرم على الله منهم وقد كذّبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق, فعقوبتكم أولى وأحرى. وقوله: {وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً} أي هو عالم بجميع أعمالهم: خيرها وشرها لا يخفى عليه منها خافية سبحانه وتعالى.


    ** وَقَضَىَ رَبّكَ أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ إِيّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمّا يَبْلُغَنّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لّهُمَآ أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ وَقُل رّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبّيَانِي صَغِيراً
    يقول تعالى آمراً بعبادته وحده لا شريك له, فإن القضاء ههنا بمعنى الأمر, قال مجاهد {وقضى} يعني وصى, وكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود والضحاك بن مزاحم {ووصى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه} ولهذا قرن بعبادته برّ الوالدين, فقال: {وبالوالدين إحساناً} أي وأمر بالوالدين إحساناً, كقوله في الاَية الأخرى {أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير}. وقوله {إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف} أي لا تسمعهما قولاً سيئاً حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيء {ولا تنهرهما} أي ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح, كما قال عطاء بن رباح في قوله {ولا تنهرهما} أي لا تنفض يدك عليهما, ولما نهاه عن القول القبيح والفعل القبيح, أمره بالقول والفعل الحسن, فقال: {وقل لهما قولاً كريماً} أي ليناً طيباً حسناً بتأدب وتوقير وتعظيم, {واخفض لهما جناح الذي من الرحمة} أي تواضع لهما بفعلك {وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} أي في كبرهما وعند وفاتهما, قال ابن عباس: ثم أنزل الله {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} الاَية.
    وقد جاء في بر الوالدين أحاديث كثيرة منها الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صعد المنبر قال: «آمين آمين آمين» قيل يا رسول الله علام أمنت ؟ قال: «أتاني جبريل فقال: يا محمد رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليك, قل: آمين, فقلت آمين, ثم قال رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم خرج فلم يغفر له, قل: آمين, فقلت آمين, ثم قال: رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة, قل: آمين, فقلت آمين».
    (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا هشيم, حدثنا علي بن زيد أخبرنا زرارة بن أوفى عن مالك بن الحارث, عن رجل منهم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من ضم يتيماً من أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يستغني عنه, وجبت له الجنة البتة, ومن أعتق امرأ مسلماً, كان فكاكه من النار يجزى بكل عضو منه عضواً منه» ثم قال: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة, سمعت علي بن زيد فذكر معناه, إلا أنه قال عن رجل من قومه يقال له مالك أو ابن مالك, وزاد «ومن أدرك والديه أو أحدهما, فدخل النار فأبعده الله».
    ** وَآتِ ذَا الْقُرْبَىَ حَقّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيراً * إِنّ الْمُبَذّرِينَ كَانُوَاْ إِخْوَانَ الشّيَاطِينِ وَكَانَ الشّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُوراً * وَإِمّا تُعْرِضَنّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مّن رّبّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لّهُمْ قَوْلاً مّيْسُوراً
    لما ذكر تعالى بر الوالدين, عطف بذكر الإحسان إلى القرابة وصلة الأرحام, وفي الحديث «أمك وأباك ثم أدناك أدناك» وفي رواية «ثم الأقرب فالأقرب», وفي الحديث «من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله, فليصل رحمه» وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عباد بن يعقوب, حدثنا أبو يحيى التميمي, حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد قال: لما نزلت {وآت ذا القربي حقه} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فأعطاها فدك, ثم قال: لا نعلم حدث به عن فضيل بن مرزوق إلا أبو يحيى التميمي وحميد بن حماد بن أبي الخوار, وهذا الحديث مشكل لو صح إسناده, لأن الاَية مكية, وفدك إنما فتحت مع خيبر سنة سبع من الهجرة, فكيف يلتئم هذا مع هذا ؟ فهو إذاً حديث منكر, والأشبه أنه من وضع الرافضة, والله أعلم, وقد تقدم الكلام على المساكين وأبناء السبيل في سورة براءة بما أغنى عن إعادته ههنا.
    وقوله {ولا تبذر تبذيراً} لما أمر بالإنفاق, نهى عن الإسراف فيه, بل يكون وسطاً كما قال في الاَية الأخرى {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا} الاَية, ثم قال منفراً عن التبذير والسرف {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} أي أشباههم في ذلك. قال ابن مسعود: التبذير الإنفاق في غير حق, وكذا قال ابن عباس, وقال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذراً, ولو أنفق مداً في غير حق كان مبذراً. وقال قتادة: التبذير النفقة في معصية الله تعالى, وفي غير الحق والفساد.
    ** وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىَ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مّحْسُوراً * إِنّ رَبّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً
    يقول تعالى آمراً بالاقتصاد في العيش, ذاماً للبخل, ناهياً عن السرف {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} أي لا تكن بخيلاً منوعاً, لا تعطي أحداً شيئاً, كما قالت اليهود ـ عليهم لعائن الله ـ يد الله مغلولة أي نسبوه إلى البخل, تعالى وتقدس الكريم الوهاب, وقوله {ولا تبسطها كل البسط} أي ولا تسرف في الإنفاق, فتعطي فوق طاقتك, وتخرج أكثر من دخلك فتقعد ملوماً محسوراً, وهذا من باب اللف والنشر, أي فتقعد إن بخلت ملوماً يلومك الناس ويذمونك ويستغنون عنك, كما قال زهير بن أبي سلمى في المعلقة:
    ومن كان ذا مال فيبخل بمالهعلى قومه يستغن عنه ويذمم
    ومتى بسطت يدك فوق طاقتك, قعدت بلا شيء تنفقه, فتكون كالحسير, وهو الدابة التي عجزت عن السير فوقفت ضعفاً وعجزاً, فإنها تسمى الحسير, وهو مأخوذ من الكلال, كما قال {فارجع البصر هل ترى من فطور * ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير} أي كليل عن أن يرى عيباً, هكذا فسر هذه الاَية بأن المراد هنا البخل والسرف: ابن عباس والحسن وقتادة وابن جريج وابن زيد وغيرهم. وقد جاء في الصحيحين من حديث أبي الزناد عن الأعرج, عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما, فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه وتعفو أثره, وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلا لزقت كل حلقة منها مكانها, فهو يوسعها فلا تتسع» هذا لفظ البخاري في الزكاة

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 9:16

    ** وَلاَ تَقْتُلُواْ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالحَقّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فّي الْقَتْلِ إِنّهُ كَانَ مَنْصُوراً
    يقول تعالى ناهياً عن قتل النفس بغير حق شرعي, كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس, والزاني المحصن, والتارك لدينه المفارق للجماعة». وفي السنن «لزوال الدنيا عند الله أهون من قتل مسلم». وقوله: {ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً} أي سلطة على القاتل, فإنه بالخيار فيه إن شاء قتله قوداً, وإن شاء عفا عنه على الدية, وإن شاء عفا عنه مجاناً, كما ثبتت السنة بذلك, فإنه بالخيار الإمام الحبر ابن عباس من عموم هذه الاَية الكريمة ولاية معاوية السلطنة أنه سيملك لأنه كان ولي عثمان, وقد قتل مظلوماً رضي الله عنه, وكان معاوية يطالب علياً رضي الله عنه أن يسلمه قتلته حتى يقتص منهم, لأنه أموي, وكان علي رضي الله عنه يستمهله في الأمر حتى يتمكن ويفعل ذلك, ويطلب علي من معاوية أن يسلمه الشام فيأبى معاوية ذلك, حتى يسمله القتلة, وأبى أن يبايع علياً هو وأهل الشام, ثم مع المطاولة تمكن معاوية وصار الأمر إليه, كما قاله ابن عباس واستنبطه من هذه الاَية الكريمة, وهذا من الأمر العجب.
    وقد روى ذلك الطبراني في معجمه حيث قال: حدثنا يحيى بن عبد الباقي, حدثنا أبو عمير بن النحاس, حدثنا ضمرة بن ربيعة عن ابن شودب عن مطر الوراق, عن زهدم الجرمي قال: كنا في سمر ابن عباس فقال: إني محدثكم بحديث ليس بسر ولا علانية, إنه لما كان من أمر هذا الرجل ما كان (يعني عثمان), قلت لعلي: اعتزل فلو كنت في جحر طلبت حتى تستخرج فعصاني, وايم الله ليتأمرن عليكم معاوية, وذلك أن الله يقول: {ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل} الاَية, وليحملنكم قريش على سنة فارس والروم, وليقيمن عليكم النصارى واليهود والمجوس, فمن أخذ منكم يومئذ بما يعرف نجا, ومن ترك ـ وأنتم تاركون ـ كنتم كقرن من القرون هلك فيمن هلك وقوله: {فلا يسرف في القتل} قالوا: معناه فلا يسرف الولي في قتل القاتل بأن يمثل به أو يقتص من غير القاتل. وقوله: {إنه كان منصوراً} أي إن الولي منصور على القاتل شرعاً وغالباً قدراً.

    ** ذَلِكَ مِمّآ أَوْحَىَ إِلَيْكَ رَبّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَـَهاً آخَرَ فَتُلْقَىَ فِي جَهَنّمَ مَلُوماً مّدْحُوراً
    يقول تعالى: هذا الذي أمرناك به من الأخلاق الجميلة, ونهيناك عنه من الصفات الرذيلة, مما أوحينا إليك يا محمد لتأمر به الناس, {ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم ملوماً} أي تلومك نفسك ويلومك الله والخلق, {مدحوراً} أي مبعداً من كل خير, قال ابن عباس وقتادة: مطروداً, والمراد من هذا الخطاب الأمة بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم, فإنه صلوات الله وسلامه عليه معصوم.


    ** أَفَأَصْفَاكُمْ رَبّكُم بِالْبَنِينَ وَاتّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثاً إِنّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً
    يقول تعالى راداً على المشركين الكاذبين الزاعمين, عليهم لعائن الله: أن الملائكة بنات الله, فجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً, ثم ادعوا أنهم بنات الله, ثم عبدوهم فأخطأوا في كل من المقامات الثلاث خطأ عظيماً, فقال تعالى منكراً عليهم {أفأصفاكم ربكم بالبنين} أي خصصكم بالذكور {واتخذ من الملائكة إناثاً} أي واختار لنفسه على زعمكم البنات, ثم شدد الإنكار عليهم فقال: {إنكم لتقولون قولاً عظيماً} أي في زعمكم أن لله ولداً, ثم جعلكم ولده الإناث التي تأنفون أن يكن لكم وربما قتلتموهن بالوأد, فتلك إداً قسمة ضيزى, وقال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً * لقد جئتم شيئاً إدّاً * تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً * أن دعوا للرحمن ولداً * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً * إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً, لقد أحصاهم وعدهم عداً * وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً}.


    ** وَلَقَدْ صَرّفْنَا فِي هَـَذَا الْقُرْآنِ لِيَذّكّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاّ نُفُوراً
    يقول تعالى: {ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} أي صرفنا فيه من الوعيد لعلهم يذكرون ما فيه من الحجج والبينات والمواعظ, فينزجروا عما هم فيه من الشرك والظلم والإفك, {وما يزيدهم} أي الظالمين منهم {إلا نفوراً} أي عن الحق وبعداً منه.

    ** وَقَالُوَاْ أَإِذَا كُنّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مّمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الّذِي فَطَرَكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىَ هُوَ قُلْ عَسَىَ أَن يَكُونَ قَرِيباً * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنّونَ إِن لّبِثْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً
    يقول تعالى مخبراً عن الكفار المستبعدين وقوع المعاد القائلين استفهام إنكار منهم لذلك {أئذا كنا عظاماً ورفاتاً} أي تراباً, قاله مجاهد. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: غباراً, {أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً} أي يوم القيامة بعدما بلينا وصرنا عدماً لا نذكر, كما أخبر عنهم في الموضع الاَخر {يقولون أئنا لمردودون في الحافرة * أئذا كنا عظاماً نخرة * قالوا تلك إذا كرة خاسرة}. وقوله تعالى: {وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه} الاَيتين, فأمر الله سبحانه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم فقال: {قل كونوا حجارة أو حديداً} إذ هما أشد امتناعاً من العظام والرفات {أو خلقاً مما يكبر في صدروكم} قال ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: سألت ابن عباس عن ذلك, فقال: هو الموت, وروى عطية عن ابن عمر أنه قال في تفسير هذه الاَية: لو كنتم موتى لأحييتكم, وكذا قال سعيد بن جبير وأبو صالح والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم, ومعنى ذلك أنكم لو فرضتم أنكم لو صرتم إلى الموت الذي هو ضد الحياة, لأحياكم الله إذا شاء, فإنه لا يمتنع عليه شيء إذا أراده.
    وقد ذكر ابن جرير ههنا حديثاً «يجاء بالموت يوم القيامة وكأنه كبش أملح, فيوقف بين الجنة والنار, ثم يقال: يا أهل الجنة أتعرفون هذا ؟ فيقولون: نعم, ثم يقال: يا أهل النار أتعرفون هذا ؟ فيقولون: نعم, فيذبح بين الجنة والنار, ثم يقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت, ويا أهل النار خلود بلا موت» وقال مجاهد {أو خلقاً مما يكبر في صدروكم} يعني السماء والأرض والجبال, وفي رواية: ما شئتم فكونوا فسيعيدكم الله بعد موتكم, وقد وقع في التفسير المروي عن الإمام مالك عن الزهري في قوله: {أو خلقاً مما يكبر في صدوركم} قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال مالك ويقولون هو الموت.
    ** وَمَا مَنَعَنَآ أَن نّرْسِلَ بِالاَيَاتِ إِلاّ أَن كَذّبَ بِهَا الأوّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالاَيَاتِ إِلاّ تَخْوِيفاً
    قال سنيد عن حماد بن زيد عن أيوب, عن سعيد بن جبير قال: قال المشركون: يا محمد إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء فمنهم من سخرت له الريح, ومنهم من كان يحيي الموتى, فإن سرك أن نؤمن بك ونصدقك, فادع ربك أن يكون لنا الصفا ذهباً, فأوحى الله إليه: إني قد سمعت الذي قالوا فإن شئت أن نفعل الذي قالوا فإن لم يؤمنوا نزل العذاب, فإنه ليس بعد نزول الاَية مناظرة, وإن شئت أن نستأني بقومك استأنيت بهم. قال: «يا رب استأن بهم» وكذا قال قتادة وابن جريج وغيرهما, وروى الإمام أحمد: حدثنا عثمان بن محمد, حدثنا جرير عن الأعمش عن جعفر بن إياس, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً, وأن ينحي الجبال عنهم فيزرعوا, فقيل له: إن شئت أن نستأني بهم, وإن شئت أن يأتيهم الذي سألوا فإن كفروا هلكوا, كما أهلكت من كان قبلهم من الأمم. وقال «لا, بل استأن بهم» وأنزل الله تعالى: {وما منعنا أن نرسل بالاَيات إلا أن كذب بها الأولون} الاَية, ورواه النسائي وابن جرير به.
    وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن عمران بن حكيم, عن ابن عباس, قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً ونؤمن بك. قال «وتفعلون ؟» قالوا: نعم. قال: فدعا فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهباً, فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين», وإن شئت فتحت لهم أبواب التوبة والرحمة, فقال: «بل باب التوبة والرحمة».
    ** وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـَذَا الّذِي كَرّمْتَ عَلَيّ لَئِنْ أَخّرْتَنِ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنّ ذُرّيّتَهُ إَلاّ قَلِيلاً
    يذكر تبارك وتعالى عداوة إبليس لعنه الله وذريته وأنها عداوة قديمة منذ خلق آدم فإنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لاَدم فسجدوا كلهم إلا إبليس استكبر وأبى أن يسجد له افتخاراً عليه واحتقاراً له {قال أأسجد لمن خلقت طيناً} كما قال في الاَية الأخرى {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} وقال أيضاً أرأيتك يقول للرب جراءة وكفراً والرب يحلم وينظر {قال أرأيت هذا الذي كرمت علي} الاَية, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يقول لأستولين على ذريته إلا قليلاً وقال مجاهد لأحتوينّ وقال ابن زيد لأضلنهم وكلها متقاربة والمعنى أرأيتك هذا الذي شرفته وعظمته علي لإن أنظرتني لأضلن ذريته إلا قليلاً منهم.

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 9:22

    ** قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنّ جَهَنّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مّوْفُوراً * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشّيْطَانُ إِلاّ غُرُوراً * إِنّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَىَ بِرَبّكَ وَكِيلاً
    لما سأل إبليس النظرة قال الله له {اذهب} فقد أنظرتك كما قال في الاَية الأخرى قال: {فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم} ثم أوعده ومن اتبعه من ذرية آدم جهنم {قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم} أي على أعمالكم {جزاءً موفوراً} قال مجاهد وافراً, وقال قتادة موفوراً عليكم لا ينقص لكم منه. وقوله تعالى: {واستفزز من استطعت منهم بصوتك} قيل هو الغناء قال مجاهد باللهو والغناء أي استخفهم بذلك وقال ابن عباس في قوله {واستفزز من استطعت منهم بصوتك} قال كل داع دعا إلى معصية الله عز وجل وقال قتادة واختاره ابن جرير, وقوله تعالى: {وأجلب عليهم بخيلك ورجلك} يقول واحمل عليهم بجنودك خيالتهم ورجلتهم فإن الرجل جمع راجل كما أن الركب جمع راكب وصحب جمع صاحب ومعناه تسلط عليهم بكل ما تقدر عليه وهذا أمر قدري كقوله تعالى {ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً} أي تزعجهم إلى المعاصي إزعاجاً وتسوقهم إليها سوقاً وقال ابن عباس ومجاهد في قوله {وأجلب عليهم بخيلك ورجلك} قال كل راكب وماش في معصية الله وقال قتادة: إن له خيلاً ورجالاً من الجن والإنس وهم الذين يطيعونه تقول العرب أجلب فلان على فلان إذا صاح عليه ومنه نهى في المسابقة عن الجلب والجنب ومنه اشتقاق الجلبة وهي ارتفاع الأصوات, وقوله تعالى: {وشاركهم في الأموال والأولاد} قال ابن عباس ومجاهد: هو ما أمرهم به من إنفاق الأموال في معاصي الله, وقال عطاء: هو الربا, وقال الحسن: هو جمعها من خبيث وإنفاقها في حرام, وكذا قال قتادة, وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أما مشاركته إياهم في أموالهم فهو ما حرموه من أنعامهم يعني من البحائر والسوائب ونحوها وكذا قال الضحاك وقتادة وقال ابن جرير والأولى أن يقال إن الاَية تعم ذلك كله, وقوله {والأولاد} قال العوفي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك يعني أولاد الزنا, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو ما كانوا قتلوه من أولادهم سفهاً بغير علم, وقال قتادة والحسن البصري: قد والله شاركهم في الأموال والأولاد مجسوا وهودوا ونصروا وصبغوا على غير صبغة الإسلام, وجزؤوا أموالهم جزءاً للشيطان, وكذا قال)قتادة سواء, وقال أبو صالح عن ابن عباس هو تسميتهم أولادهم عبد الحارث وعبد الشمس وعبد فلان قال ابن جرير وأولى الأقوال بالصواب أن يقال كل مولود ولدته أنثى عصى الله فيه بتسميته بما يكرهه الله أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله أو بالزنا بأمه أو بقتله أو غير ذلك من الأمور التي يعصى الله بفعله به أو فيه فقد دخل في مشاركة إبليس فيه من ولد ذلك الولد له أو منه لأن الله لم يخصص بقوله {وشاركهم في الأموال والأولاد} معنى الشركة فيه بمعنى دون معنى فكل ما عصي الله فيه أو به او أطيع الشيطان فيه أو به فهو مشاركة, وهذا الذي قاله متجه وكل من السلف رحمهم الله فسر بعض المشاركة فقد ثبت في صحيح مسلم عن عياض بن حماد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال «يقول الله عز وجل إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم» وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبداً» وقوله تعالى: {وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً} كما أخبر تعالى عن إبليس أنه يقول إذا حصحص الحق يوم يقضي بالحق {إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم} الاَية وقوله تعالى {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} إخبار بتأييده تعالى عباده المؤمنين وحفظه إياهم وحراسته لهم من الشيطان الرجيم ولهذا قال تعالى {وكفى بربك وكيلاً} أي حافظاً ومؤيداً ونصيراً, وقال الإمام أحمد حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن المؤمن لينضي شياطينه كما ينضي أحدكم بعيره في السفر» ينضي أي يأخذ بناصيته ويقهره.** وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاّتّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلاَ أَن ثَبّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً
    يخبر تعالى عن تأييده رسوله صلوات الله عليه وسلامه, وتثبيته وعصمته وسلامته من شر الأشرار وكيد الفجار, وأنه تعالى هو المتولي أمره ونصره, وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه بل هو وليه وحافظه وناصره مؤيده ومظفره ومظهر دينه على من عاداه وخالفه وناوأه في مشارق الأرض ومغاربها, صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.


    ** وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاّ قَلِيلاً * سُنّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنّتِنَا تَحْوِيلاً
    قيل: نزلت في اليهود إذ أشاروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسكنى الشام بلاد الأنبياء وترك سكنى المدينة, وهذا القول ضعيف, لأن هذه الاَية مكية وسكنى المدينة بعد ذلك, وقيل: إنها نزلت بتبوك وفي صحته نظر. روى البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي, عن يونس بن بكير عن عبد الحميد بن بهرام, عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم أن اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقالوا: يا أبا القاسم إن كنت صادقاً أنك نبي فالحق بالشام, فإن الشام أرض المحشر وأرض الأنبياء, فصدق ما قالوا فغزا تبوك لا يريد إلا الشام, فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه آيات من سورة بني إسرائيل بعد ما ختمت السورة {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها ـ إلى قوله ـ تحويلا} فأمره الله بالرجوع إلى المدينة, وقال: فيها محياك ومماتك ومنه تبعث. وفي هذا الإسناد نظر, والأظهر أن هذا ليس بصحيح, فإن النبي لم يغز تبوك عن قول اليهود, وإنما غزاها امتثالاً لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذي يلونكم من الكفار} ولقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاَخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} وغزاها ليقتص وينتقم ممن قتل أهل مؤتة من أصحابه, والله أعلم, ولو صح هذا لحمل عليه الحديث الذي رواه الوليد بن مسلم عن عفير بن معدان, عن سليم بن عامر عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنزل القرآن في ثلاثة أمكنة: مكة, والمدينة, والشام» قال الوليد: يعني بيت المقدس, وتفسير الشام بتبوك أحسن, مما قال الوليد إنه بيت المقدس, والله أعلم. وقيل نزلت في كفار قريش, هموا بإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم, فتوعدهم الله بهذه الاَية, وأنهم لو أخرجوه لما لبثوا بعده بمكة إلا يسيراً, وكذلك وقع فإنه لم يكن بعد هجرته من بين أظهرهم بعد ما اشتد أذاهم له إلا سنة ونصف, حتى جمعهم الله وإياه ببدر على غير ميعاد, فأمكنه منهم وسلطه عليهم وأظفره بهم, فقتل أشرافهم وسبى ذراريهم, ولهذا قال تعالى: {سنة من قد أرسلنا} الاَية, أي هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم بخروج الرسول من بين أظهرهم يأتيهم العذاب, ولولا أنه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم رسول الرحمة لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به, ولهذا قال تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} الاَية.
    ** وَقُل رّبّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لّي مِن لّدُنْكَ سُلْطَاناً نّصِيراً * وَقُلْ جَآءَ الْحَقّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً
    قال الإمام أحمد: حدثنا جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه, عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثم أمر بالهجرة, فأنزل الله {وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً} وقال الترمذي: حسن صحيح, وقال الحسن البصري في تفسير هذه الاَية: إن كفار أهل مكة لما ائتمروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه أو يطردوه أو يوثقوه, فأراد الله قتال أهل مكة, أمره أن يخرج إلى المدينة, فهو الذي قال الله عز وجل: {وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق} الاَية.
    وقال قتادة {وقل رب أدخلني مدخل صدق} يعني المدينة {وأخرجني مخرج صدق} يعني مكة, وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وهذا القول هو أشهر الأقوال. وقال العوفي عن ابن عباس {أدخلني مدخل صدق} يعني الموت {وأخرجني مخرج صدق} يعني الحياة بعد الموت, وقيل غير ذلك من الأقوال, والأول أصح, وهو اختيار ابن جرير.
    وقوله {واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً} قال الحسن البصري في تفسيرها: وعده ربه لينزعن ملك فارس وعز فارس وليجعلنه له, وملك الروم وعز الروم وليجعلنه له. وقال قتادة فيها: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم علم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان, فسأل سلطاناً نصيراً لكتاب الله, ولحدود الله, ولفرائض الله, ولإقامة دين الله, فإن السلطان رحمة من الله جعله بين أظهر عباده, ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعض فأكل شديدهم ضعيفهم, قال مجاهد {سلطاناً نصيراً} حجة بينة, واختار ابن جرير قول الحسن وقتادة, وهو الأرجح لأنه لا بد مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه, ولهذا يقول تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ـ إلى قوله ـ وأنزلنا الحديد} الاَية. وفي الحديث «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» أي ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والاَثام مالا يمتنع كثير من الناس بالقرآن وما فيه من الوعيد الأكيد والتهديد الشديد, وهذا هو الواقع.
    وقوله: {وقل جاء الحق وزهق الباطل} الاَية, تهديد ووعيد لكفار قريش, فإنه قد جاءهم من الله الحق الذي لا مرية فيه ولا قبل لهم به, وهو ما بعثه الله به من القرآن والإيمان والعلم النافع, وزهق باطلهم أي اضمحل وهلك, فإن الباطل لا ثبات له مع الحق ولا بقاء {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق}. وقال البخاري: حدثنا الحميدي, حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد, عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلثمائة نصب, فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: «جاء الحق وزهق الباطل, إن الباطل كان زهوقاً. جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد» وكذا رواه البخاري أيضاً في غير هذا الموضع, ومسلم والترمذي والنسائي كلهم من طرق عن سفيان بن عيينة به, وكذا رواه عبد الرزاق عن ابن أبي نجيح به.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 9:29

    ** وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنّ بِالّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً * إِلاّ رَحْمَةً مّن رّبّكَ إِنّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً * قُل لّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنّ عَلَىَ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً * وَلَقَدْ صَرّفْنَا لِلنّاسِ فِي هَـَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلّ مَثَلٍ فَأَبَىَ أَكْثَرُ النّاسِ إِلاّ كُفُوراً
    يذكر تعالى نعمته وفضله العظيم على عبده ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم فيما أوحاه إليه من القرآن المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, تنزيل من حكيم حميد. قال ابن مسعود رضي الله عنه: يطرق الناس ريح حمراء, يعني في آخر الزمان من قبل الشام, فلا يبقى في مصحف رجل ولا في قلبه آية, ثم قرآ ابن مسعود {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك} الاَية, ثم نبه تعالى على شرف هذا القرآن العظيم فأخبر أنه لو اجتمعت الإنس والجن كلهم واتفقوا على أن يأتوا بمثل ما أنزل على رسوله لما أطاقوا ذلك ولما استطاعوه, ولو تعاونوا وتساعدوا وتظافروا فإن هذا أمر لا يستطاع, وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير له ولا مثال له ولا عديل له, وقد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس أن هذه الاَية نزلت في نفر من اليهود جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: إنا نأتيك بمثل ما جئتنا به, فأنزل الله هذه الاَية, وفي هذا نظر, لأن هذه السورة مكية وسياقها كله مع قريش, واليهود إنما اجتمعوا به في المدينة, فالله أعلم. وقوله {ولقد صرفنا للناس} الاَية, أي بينا لهم الحجج والبراهين القاطعة, ووضحنا لهم الحق وشرحناه وبسطناه, ومع هذا فأبى أكثر الناس إلا كفوراً أي جحوداً للحق ورداً للصواب.
    ** وَقَالُواْ لَن نّؤْمِنَ لَكَ حَتّىَ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنّةٌ مّن نّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىَ فِي السّمَآءِ وَلَن نّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبّي هَلْ كُنتُ إَلاّ بَشَراً رّسُولاً
    قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا يونس بن بكير, حدثنا محمد بن إسحاق, حدثني شيخ من أهل مصر قدم منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة, عن ابن عباس أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب ورجلاً من بني عبد الدار, وأبا البختري أخا بني أسد, والأسود بن المطلب بن أسد وزمعة بن الأسود, والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية, وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيهاً ومنبهاً ابني الحجاج السهميين, اجتمعوا أو من اجتمع منهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة, فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه, فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك, فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بداء, وكان عليهم حريصاً يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم, فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك, وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك, لقد شتمت الاَباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الاَلهة وفرقت الجماعة, فما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك, فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً, وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا, وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا, وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك ـ وكانوا يسمون التابع من الجن الرئي ـ فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي ما تقولون, ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم, ولكن الله بعثني إليكم رسولاً وأنزل علي كتاباً وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً, فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والاَخرة, وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً, فقالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق منا بلاداً ولا أقل مالاً, ولا أشد عيشاً منا, فاسأل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به, فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا, وليبسط لنا بلادنا وليفجر فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق, وليبعث لنا من مضى من آبائنا, وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب, فإنه كان شيخاً صدوقاً, فنسألهم عما تقول حق هو أم باطل ؟ فإن صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله, وأنه بعثك رسولاً كما تقول. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بهذا بعثت, إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به, فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم, فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والاَخرة, وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» قالوا: فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك, فسل ربك أن يبعث ملكاً يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك, وتسأله فيجعل لك جنات وكنوزاً وقصوراً من ذهب وفضة, ويغنيك بها عما نراك تبتغي, فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه, حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم, فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنا بفاعل, ما أنا بالذي يسأل ربه هذا, وما بعثت إليكم بهذا, ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً, فإن تقبلوا ما جئتكم به, فهو حظكم في الدنيا والاَخرة, وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» قالوا: فأسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ذلك, فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك إلى الله, إن شاء فعل بكم ذلك» فقالوا: يا محمد أما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب, فيقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به, ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به, فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن, وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبداً, فقد أعذرنا إليك يا محمد, أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلك أو تهلكنا, وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله. وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً, فلما قالوا ذلك, قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم, وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم, وهو ابن عمته عاتكة ابنة عبد المطلب, فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم, ثم سألوك لأنفسهم أموراً ليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل ذلك, ثم سألوك أن تعجل لهم ما تخوفهم به من عذاب, فوالله لا أؤمن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سلماً, ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بصحيفة منشورة ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول, وايم الله لوفعلت بذلك لظننت أني لا أصدقك, ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزيناً أسفاً لما فاته مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه, ولما رأى من مباعدتهم إياه, وهكذا رواه زياد بن عبد الله البكائي عن ابن إسحاق: حدثني بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس فذكر مثله سواء. وهذا المجلس الذي اجتمع هؤلاء له, لو علم الله منهم أنهم يسألون ذلك استرشاداً لأجيبوا إليه, ولكن علم أنهم إنما يطالبون ذلك كفراً وعناداً له, فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت أعطيناهم ما سألوا, فإن كفروا عذبتهم عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين, وإن شئت فتحت عليهم باب التوبة والرحمة ؟ فقال: «بل تفتح عليهم باب التوبة والرحمة, كما تقدم ذلك في حديثي ابن عباس والزبير بن العوام أيضاً عند قوله تعالى: {وما منعنا أن نرسل بالاَيات إلا أن كذب بها الأولون * وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالاَيات إلا تخويفاً}. وقال تعالى: {وقالو ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً * انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلاً * تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصوراً * بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيراً}.
    وقوله تعالى {حتى تفجر لنا في الأرض ينبوعاً} الينبوع: العين الجارية, سألوه أن يجري لهم عيناً معيناً في أرض الحجاز ههنا وههنا وذلك سهل على الله تعالى يسير لو شاء لفعله ولأجابهم على جميع ما سألوه وطلبوا ولكن علم أنهم لا يهتدون كما قال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} وقال تعالى: {ولو أننا نزّلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا} الاَية.
    وقوله تعالى: {أو تسقط السماء كما زعمت} أي أنك وعدتنا أن يوم القيامة تنشق فيه السماء وتهوي وتدلي أطرافها, فاجعل ذلك في الدنيا وأسقطها كسفاً, أي قطعاً كقوله {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} الاَية, وكذلك سأل قوم شعيب منه فقالوا {أسقط علينا كسفاً من السماء إن كنت من الصاديقين} فعاقبهم الله بعذاب يوم الظلة, إنه كان عذاب يوم عظيم, وأما نبي الرحمة ونبي التوبة المبعوث رحمة للعالمين فسأل إنظارهم وتأجيلهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً, وكذلك وقع فإن من هؤلاء الذين ذكروا من أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه حتى عبد الله بن أمية الذي تبع النبي صلى الله عليه وسلم وقال له ما قال, أسلم إسلاماً تاماً وأناب إلى الله عز وجل.
    ** قُل لّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُوراً
    يقول تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه: قل لهم يا محمد لو أنكم أيها الناس تملكون التصرف في خزائن الله لأمسكتم خشية الإنفاق, قال ابن عباس وقتادة: أي الفقر, خشية أن تذهبوها مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبداً, لأن هذا من طباعكم وسجاياكم, ولهذا قال: {وكان الإنسان قتوراً} قال ابن عباس وقتادة: أي بخيلاً منوعاً, وقال الله تعالى: {أم لهم نصيب من الملك فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً} أي لو أن لهم نصيباً في ملك الله لما أعطوا أحداً شيئاً ولا مقدار نقير, والله تعالى يصف الإنسان من حيث هو إلا من وفقه الله وهداه, فإن البخل والجزع والهلع صفة له, كما قال تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً إلا المصلين} ولهذا نظائر كثيرة في القرآن العزيز, ويدل هذا على كرمه وجوده وإحسانه, وقد جاء في الصحيحين «يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار, أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض, فإنه لم يغض ما في يمينه».

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 9:32

    ** وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ تِسْعَ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنّي لأظُنّكَ يَمُوسَىَ مَسْحُوراً * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـَؤُلآءِ إِلاّ رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنّي لأظُنّكَ يَفِرْعَونُ مَثْبُوراً * فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزّهُم مّنَ الأرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مّعَهُ جَمِيعاً * وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً
    يخبر تعالى أنه بعث موسى بتسع آيات بينات وهي الدلائل القاطعة على صحة نبوته وصدقه فيما أخبر به عمن أرسله إلى فرعون, وهي العصا واليد والسنين والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات, قاله ابن عباس. وقال محمد بن كعب: هي اليد والعصا, والخمس في الأعراف والطمسة والحجر, وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وعكرمة والشعبي وقتادة: هي يده وعصاه والسنين ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم, وهذا القول ظاهر جلي حسن قوي, وجعل الحسن البصري السنين ونقص الثمرات واحدة, وعنده أن التاسعة هي تلقف العصا ما يأفكون {فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين} أي ومع هذه الاَيات ومشاهدتهم لها, كفروا بها وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً, وما نجعت فيهم: فكذلك لو أجبنا هؤلاء الذين سألوا منك ما سألوا, وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً إلى آخرها, لما استجابوا ولا آمنوا إلا أن يشاء الله, كما قال فرعون لموسى وقد شاهد منه ما شاهد من هذه الاَيات {وإني لأظنك يا موسى مسحوراً} قيل: بمعنى ساحر, والله تعالى أعلم. فهذه الاَيات التسع التي ذكرها هؤلاء الأئمة هي المراد ههنا, وهي المعنية في قوله تعالى: {وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبراً ولم يعقب يا موسى لا تخف ـ إلى قوله ـ في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوماً فاسقين} فذكر هاتين الاَيتين العصا واليد وبين الاَيات الباقيات في سورة الأعراف وفصلها. وقد أوتي موسى عليه السلام آيات أخر كثيرة, منها ضربة الحجر بالعصا, وخروج الماء منه, ومنها تظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى, وغير ذلك مما أوتيه بنو إسرائيل بعد مفارقتهم بلاد مصر, ولكن ذكر ههنا التسع الاَيات التي شاهدها فرعون وقومه من أهل مصر, فكانت حجة عليهم فخالفوها وعاندوها كفراً وجحوداً.
    فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا يزيد حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال: سمعت عبد الله بن سلمة يحدث عن صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي حتى نسأله عن هذه الاَية {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} فقال: لا تقل له نبي, فإنه لو سمعك لصارت له أربع أعين, فسألاه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشركوا بالله شيئاً, ولا تسرقوا, ولا تزنوا, ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق, ولا تسحروا, ولا تأكلوا الربا, ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله, ولا تقذفوا محصنة ـ أو قال لا تفروا من الزحف شعبة الشاك ـ وأنتم يا يهود عليكم خاصة أن لا تعدوا في السبت» فقبلا يديه ورجليه, وقالا: نشهد أنك نبي. قال: «فما يمنعكما أن تتبعاني ؟» قالا: لأن دواد عليه السلام دعا أن لا يزال من ذريته نبي, وإنا نخشى إن أسلمنا أن تقتلنا يهود. فهذا الحديث رواه هكذا الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير في تفسيره من طرق عن شعبة بن الحجاج به, وقال الترمذي: حسن صحيح. وهو حديث مشكل, وعبد الله بن سلمة في حفظه شيء, وقد تكلموا فيه, ولعله اشتبه عليه التسع الاَيات بالعشر الكلمات فإنها وصايا في التوراة لا تعلق لها بقيام الحجة على فرعون, والله أعلم, ولهذا قال موسى لفرعون {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر} أي حججاً وأدلة على صدق ما جئتك به {وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً} أي هالكاً, قاله مجاهد وقتادة, وقال ابن عباس: ملعوناً, وقال أيضاً هو والضحاك {مثبوراً} أي مغلوباً, والهالك كما قال مجاهد يشمل هذا كله, قال الشاعر عبد الله بن الزبعري:
    إذ أجاري الشيطان في سنن الغــي ومن مال ميله مثبور
    وقرأ بعضهم برفع التاء من قوله علمت, وروي ذلك عن علي بن أبي طالب, ولكن قراءة الجمهور بفتح التاء على الخطاب لفرعون, كما قال تعالى: {فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً} الاَية, فهذا كله مما يدل على أن المراد بالتسع الاَيات إنما هي ما تقدم ذكره من العصا واليد والسنين ونقص من الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم, التي فيها حجج وبراهين على فرعون وقومه, وخوارق ودلائل على صدق موسى ووجود الفاعل المختار الذي أرسله, وليس المراد منها كما ورد في الحديث, فإن هذه الوصايا ليس فيها حجج على فرعون وقومه, وأي مناسبة بين هذا وبين إقامة البراهين على فرعون ؟ وما جاءهم هذا الوهم إلا من قبل عبد الله بن سلمة, فإن له بعض ما ينكر, والله أعلم. ولعل ذينك اليهوديين إنما سألا عن العشر الكلمات فاشتبه على الرواي بالتسع الاَيات فحصل وهم في ذلك, والله أعلم.
    وقوله: {فأراد أن يستفزهم من الأرض} أي يخليهم منها ويزيلهم عنها, {فأغرقناه ومن معه جميعاً وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض} وفي هذا بشارة لمحمد صلى الله عليه وسلم بفتح مكة مع أن السورة مكية نزلت قبل الهجرة, وكذلك فإن أهل مكة هموا بإخراج الرسول منها, كما قال تعالى: {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها} الاَيتين, ولهذا أورث الله رسوله مكة فدخلها عنوة على أشهر القولين, وقهر أهلها ثم أطلقهم حلماً وكرماً, كما أورث الله القوم الذين كانوا يستضعفون من بني إسرائيل مشارق الأرض ومغاربها, وأورثهم بلاد فرعون وأموالهم وزروعهم وثمارهم وكنوزهم, كما قال كذلك وأورثناها بني إسرائيل, وقال ههنا {وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الاَخرة جئنا بكم لفيفا} أي جميعكم أنتم وعدوكم, قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: لفيفاً أي جميعاً.
    ** وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ مُبَشّراً وَنَذِيراً * وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلَىَ مُكْثٍ وَنَزّلْنَاهُ تَنْزِيلاً
    يقول تعالى مخبراً عن كتابه العزيز وهو القرآن المجيد أنه بالحق نزل, أي متضمناً للحق, كما قال تعالى: {ولكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون} أي متضمناً علم الله الذي أراد أن يطلعكم عليه من أحكامه وأمره ونهيه. وقوله {وبالحق نزل} أي ونزل إليك يا محمد محفوظاً محروساً لم يشب بغيره ولا زيد فيه ولا نقص منه, بل وصل إليك بالحق, فإنه نزل به شديد القوى الأمين المكين المطاع في الملأ الأعلى. وقوله: {وما أرسلناك} أي يا محمد {إلا مبشراً ونذيراً} مبشراً لمن أطاعك من المؤمنين ونذيراً لمن عصاك من الكافرين.
    وقوله: {وقرآناً فرقناه} أما قراءة من قرأ بالتخفيف فمعناه فصلناه من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا, ثم نزل مفرقاً منجماً على الوقائع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة, قاله عكرمة عن ابن عباس وعن ابن عباس أيضاً أنه قرأ: فرقناه بالتشديد, أي أنزلناه آية آية مبيناً ومفسراً, ولهذا قال: {لتقرأه على الناس} أي لتبلغه الناس وتتلوه عليهم, أي {على مكث} أي مهل {ونزلناه تنزيلاً} أي شيئاً بعد شيء .


    ** قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوَاْ إِنّ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىَ عَلَيْهِمْ يَخِرّونَ لِلأذْقَانِ سُجّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً
    يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {قل} يا محمد لهؤلاء الكافرين بما جئتهم به من هذا القرآن العظيم {آمنوا به أو لا تؤمنوا} أي سواء آمنتم به أم لا, فهو حق في نفسه أنزله الله ونوه بذكره في سالف الأزمان في كتبه المنزلة على رسله, ولهذا قال: {إن الذين أوتوا العلم من قبله} أي من صالحي أهل الكتاب الذين تمسكوا بكتابهم ويقيمونه ولم يبدلوه ولا حرفوه {إذا يتلى عليهم} هذا القرآن {يخرون للأذقان} جمع ذقن وهو أسفل الوجه {سجداً} أي لله عز وجل شكراً على ما أنعم به عليهم من جعله إياهم أهلاً أن أدركوا هذا الرسول الذي أنزل عليه هذا الكتاب, ولهذا يقولون {سبحان ربنا} أي تعظيماً وتوقيراً على قدرته التامة وأنه لا يخلف الميعاد الذي وعدهم على ألسنة الأنبياء المتقدمين عن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا قالوا {سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا}. وقوله: {ويخرون للأذقان يبكون} أي خضوعاً لله عز وجل وإيماناً وتصديقاً بكتابه ورسوله {ويزيدهم خشوعاً} اي إيماناً وتسليماً, كما قال: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم}. وقوله: {ويخرون} عطف صفة على صفة لا عطف السجود على السجود, كما قال الشاعر:
    إلى الملك القرم وابن الهماموليث الكتيبة في المزدحم
    )


    ** قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرّحْمَـَنَ أَيّاً مّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسْمَآءَ الْحُسْنَىَ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي لَمْ يَتّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لّهُ وَلِيّ مّنَ الذّلّ وَكَبّرْهُ تَكْبِيراً
    يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين المنكرين صفة الرحمة لله عز وجل, المانعين من تسميته بالرحمن {ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيّاًما تدعوا فله الأسماء الحسنى} أي لا فرق بين دعائكم له باسم الله أو باسم الرحمن, فإنه ذو الأسماء الحسنى, كما قال تعالى: {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم ـ إلى أن قال ـ له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض} الاَية, وقد روى مكحول أن رجلاً من المشركين سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول في سجوده: «يا رحمن يا رحيم» فقال: إنه يزعم أنه يدعو واحداً وهو يدعو اثنين, فأنزل الله هذه الاَية, وكذا روي عن ابن عباس, رواهما ابن جرير.
    وقوله: {ولا تجهر بصلاتك} الاَية قال الإمام أحمد: حدثنا هشيم, حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نزلت هذه الاَية ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوارٍ بمكة, {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} قال: كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن, فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن وسبوا من أنزله ومن جاء به, قال: فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ولا تجهر بصلاتك} أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبون القرآن {ولا تخافت بها} عن أصحابك, فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك {وابتغ بين ذلك سبيلا} أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي بشر جعفر بن إياس به, وكذا رواه الضحاك عن ابن عباس, وزاد: فلما هاجر إلى المدينة سقط ذلك يفعل أي ذلك شاء.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 9:41

    وقال محمد بن إسحاق: حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن وهويصلي تفرقوا عنه وأبوا أن يسمعوا منه, وكان الرجل إذا أراد أن يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو وهو يصلي استرق السمع دونهم فرقاً منهم, فإذا رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم فلم يسمع, فإن خفض صوته صلى الله عليه وسلم لم يسمع الذين يستمعون من قراءته شيئاً, فأنزل الله {ولا تجهر بصلاتك} فيتفرقوا عنك {ولا تخافت بها} فلا يسمع من أراد أن يسمع ممن يسترق ذلك منهم فلعله يرعوي إلى بعض ما يسمع فينتفع به, {وابتغ بين ذلك سبيلا} وهكذا قال عكرمة والحسن البصري وقتادة: نزلت هذه الاَية في القراءة في الصلاة, وقال شعبة عن الأشعث بن أبي سليم عن الأسود بن هلال عن ابن مسعود لم يخافت بها من أسمع أذنيه.
    قال ابن جرير: حدثنا يعقوب, حدثنا ابن علية عن سلمى بن علقمة عن محمد بن سيرين قال: نبئت أن أبا بكر كان إذا صلى فقرأ خفض صوته وأن عمر كان يرفع صوته, فقيل لأبي بكر: لم تصنع هذا ؟ قال: أناجي ربي عز وجل وقد علم حاجتي, فقيل: أحسنت. وقيل لعمر: لم تصنع هذا ؟ قال: أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان, قيل: أحسنت, فلما نزلت {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا} قيل لأبي بكر: ارفع شيئاً, وقيل لعمر: اخفض شيئاً, وقال أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس: نزلت في الدعاء, وهكذا روى الثوري ومالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها نزلت في الدعاء, وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وأبو عياض ومكحول وعروة بن الزبير. وقال الثوري عن ابن عياش العامري عن عبد الله بن شداد قال: كان أعرابي من بني تميم إذا سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم ارزقنا إبلاً وولداً» قال: فنزلت هذه الاَية {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها}.
    (قول آخر) قال ابن جرير: حدثنا أبو السائب, حدثنا حفص بن غياث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: نزلت هذه الاَية في التشهد {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها}, وبه قال حفص عن أشعث بن سوار عن محمد بن سيرين مثله.
    (قول آخر) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} قال: لا تصل مراءاة للناس ولا تدعها مخافة الناس. وقال الثوري عن منصور عن الحسن البصري {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} قال: لا تحسن علانيتها وتسيء سريرتها, وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر عن الحسن به, وهشيم عن عوف عنه به, وسعيد عن قتادة عنه كذلك.
    (قول آخر) قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {وابتغ بين ذلك سبيلا} قال: أهل الكتاب يخافتون ثم يجهر أحدهم بالحرف, فيصيح به ويصيحون هم به وراءه, فنهاه أن يصيح كما يصيح هؤلاء, وأن يخافت كما يخافت القوم, ثم كان السبيل الذي بين ذلك الذي سن له جبريل من الصلاة.
    وقوله: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً} لما أثبت تعالى لنفسه الكريمة الأسماء الحسنى نزه نفسه عن النقائض فقال: {وقل الحمد لله الذي لن يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك} بل هو الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد {ولم يكن له ولي من الذل} أي ليس بذليل فيحتاج إلى أن يكون له ولي أو وزير أو مشير, بل هو تعالى خالق الأشياء وحده لا شريك له, ومدبرها ومقدرها وحده لا شريك له. قال مجاهد في قوله: {ولم يكن ولي من الذل} لم يحالف أحدً ولم يبتغ نصر أحد {وكبره تكبيراً} أى عظمه وأجلّه عما يقول الظالمون المعتدون علواً كبيراً.
    قال ابن جرير: حدثني يونس, أنبأنا ابن وهب, أخبرني أبو صخر عن القرظي أنه كان يقول في هذه الاَية {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً} الاَية, قال إن اليهود والنصارى يقولون اتخذ الله ولداً, وقالت العرب: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك وقال الصابئون والمجوس: لولا أولياء الله لذل, فأنزل الله هذه الاَية {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً} وقال أيضاً: حدثنا بشر, حدثنا يزيد, حدثنا سعيد عن قتادة ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أهله هذه الاَية {الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً} الاَية, الصغير من أهله والكبير. قلت وقد جاء في حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمى هذه الاَية آية العز, وفي بعض الاَثار أنها ما قرئت في بيت في ليلة فيصيبه سرق أو آفة, والله أعلم.
    وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا بشر بن سيحان البصري, حدثنا حرب بن ميمون, حدثنا موسى بن عبيدة الزبيدي عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة قال: خرجت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ويده في يدي, أو يدي في يده, فأتى على رجل رث الهيئة فقال: «أي فلان ما بلغ بك ما أرى ؟» قال: السقم والضر يا رسول الله, قال: «ألا أعلمك كلمات تذهب عنك السقم والضر ؟» قال: لا, قال: ما يسرني بها أن شهدت معك بدراً أو أحداً, قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «وهل يدرك أهل بدر وأهل أحد ما يدرك الفقير القانع ؟» قال: فقال أبو هريرة: يا رسول الله إياي فعلمني, قال: «فقل يا أبا هريرة توكلت على الحي الذي لا يموت, الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً, ولم يكن له شريك في الملك, ولم يكن له ولي من الذل, وكبره تكبيراً» قال: فأتى علي رسول الله وقد حسنت حالي قال: فقال لي «مهيم» قال: قلت يا رسول الله لم أزل أقول الكلمات التي علمتني», إسناده ضعيف, وفي متنه نكارة, والله أعلم. آخر تفسير سورة سبحان. و لله الحمد والمنة.

    تمت سورة الاسراء
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 9:45

    سورة الكهف

    وهي مكية
    (ذكر ما ورد في فضلها والعشر الاَيات من أولها وآخرها وأنها عصمة من الدجال)
    قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول: قرأ رجل الكهف وفي الدار دابة, فجعلت تنفر, فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته, فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اقرأ فلان, فإنها السكينة تنزل عند القرآن أو تنزلت للقرآن» أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة به, وهذا الرجل الذي كان يتلوها هو أسيد بن الحضير كما تقدم في تفسير سورة البقرة. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, أخبرنا هشام بن يحيى عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد, عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال» رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث قتادة به, ولفظ الترمذي «من حفظ ثلاث آيات من أول الكهف» وقال: حسن صحيح.
    (طريق أخرى) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج, حدثنا شعبة عن قتادة, سمعت سالم بن أبي الجعد يحدث عن معدان عن أبي الدرداء, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال» فيحتمل أن سالماً سمعه من ثوبان ومن أبي الدرداء. وقال أحمد: حدثنا حسين, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا زبان بن فايد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني, عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ أول سورة الكهف وآخرها, كانت له نوراً من قدمه إلى رأسه, ومن قرأها كلها كانت له نوراً ما بين السماء والأرض» انفرد به أحمد ولم يخرجوه, وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره بإسناد له غريب عن خالد بن سعيد بن أبي مريم, عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء له يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين» وهذا الحديث في رفعه نظر, وأحسن أحواله الوقف.
    ** فَلَعَلّكَ بَاخِعٌ نّفْسَكَ عَلَىَ آثَارِهِمْ إِن لّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً * إِنّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً
    يقول تعالى مسلياً لرسوله صلوات الله وسلامه عليه في حزنه على المشركين لتركهم الإيمان وبعدهم عنه كما قال تعالى: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} وقال: {ولا تحزن عليهم} وقال: {لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين} باخع أي مهلك نفسك بحزنك عليهم, ولهذا قال: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث} يعني القرآن {أسفاً} يقول: لا تهلك نفسك أسفاً. قال قتادة: قاتل نفسك غضباً وحزناً عليهم, وقال مجاهد: جزعاً, والمعنى متقارب, أي لا تأسف عليهم, بل أبلغهم رسالة الله, فمن اهتدى فلنفسه, ومن ضل فإنما يضل عليها, ولا تذهب نفسك عليهم حسرات, ثم أخبر تعالى أنه جعل الدنيا داراً فانية مزينة بزينة زائلة, وإنما جعلها دار اختبار لا دار قرار, فقال: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً} قال قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الدنيا حلوة خضرة, وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون, فاتقوا الدنيا, واتقوا النساء, فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء», ثم أخبر تعالى بزوالها وفنائها وفراغها وانقضائها وذهابها وخرابها, فقال تعالى: {وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً} أي وإنا لمصيروها بعد الزينة إلى الخراب والدمار, فنجعل كل شيء عليها هالكاً صعيداً جرزاً لا ينبت ولا ينتفع به.
    كما قال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: {وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزا} يقول: يهلك كل شيء عليها ويبيد. وقال مجاهد: صعيداً جرزاً بلقعاً, وقال قتادة: الصعيد الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات, وقال ابن زيد: الصعيد الأرض التي ليس فيها شيء, ألا ترى إلى قوله تعالى: {أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون} وقال محمد بن إسحاق: {وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً} يعني الأرض وأن ما عليها لفان وبائد, وأن المرجع لإلى الله, فلا تأس ولا يحزنك ما تسمع وترى.


    ** أَمْ حَسِبْتَ أَنّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبّنَآ آتِنَا مِن لّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً * فَضَرَبْنَا عَلَىَ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً * ثُمّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىَ لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً
    هذا إخبار من الله تعالى عن قصة أصحاب الكهف على سبيل الإجمال والاختصار, ثم بسطها بعد ذلك فقال: {أم حسبت} يعني يا محمد {أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً} أي ليس أمرهم عجيباً في قدرتنا وسلطاننا فإن خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك من الاَيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى, وأنه على ما يشاء قادر ولا يعجزه شيء أعجب من أخبار أصحاب الكهف, كما قال ابن جريج عن مجاهد {أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً} يقول: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك. ** وَتَرَى الشّمْسَ إِذَا طَلَعَت تّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مّرْشِداً
    فهذا فيه دليل على أن باب هذا الكهف كان من نحو الشمال, لأنه تعالى أخبر أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه {ذات اليمين} أي يتقلص الفيء يمنة, كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة {تزاور} أي تميل, وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان, ولهذا قال: {وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال} أي تدخل إلى غارهم من شمال بابه, وهو من ناحية المشرق, فدل على صحة ما قلناه, وهذا بين لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب, وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء عند الغروب, ولو كان من ناحية القبلة لما دخله منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب, ولا تزاور الفيء يميناً ولا شمالاً, ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع بل بعد الزوال, ولم تزل فيه إلى الغروب, فتعين ما ذكرناه, ولله الحمد.
    وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: تقرضهم تتركهم, وقد أخبر الله تعالى بذلك, وأراد منا فهمه وتدبره, ولم يخبرنا بمكان هذا الكهف في أي البلاد من الأرض, إذ لا فائدة لنا فيه ولا قصد شرعي, وقد تكلف بعض المفسرين فذكروا فيه أقوالاً, فتقدم عن ابن عباس أنه قال: هو قريب من أيلة. وقال ابن إسحاق: هو عند نينوى. وقيل: ببلاد الروم. وقيل: ببلاد البلقاء, والله أعلم بأي بلاد الله هو, ولو كان لنا فيه مصلحة دينية لأرشدنا الله تعالى ورسوله إليه, فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ما تركت شيئاً يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أعلمتكم به» فأعلمنا تعالى بصفته, ولم يعلمنا بمكانه, فقال: {وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم} قال مالك عن زيد بن أسلم: تميل {ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه} أي في متسع منه داخلاً بحيث لا تصبيهم, إذ لو أصابتهم لأحرقت أبدانهم وثيابهم, قاله ابن عباس {ذلك من آيات الله} حيث أرشدهم إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء والشمس والريح تدخل عليهم فيه لتبقى أبدانهم, ولهذا قال تعالى: {ذلك من آيات الله}, ثم قال: {من يهد الله فهو المهتد} الاَية, أي هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية من بين قومهم, فإنه من هداه الله اهتدى, ومن أضله فلا هادي له.


    ** وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ لَوِ اطّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً
    ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم, لم تنطبق لئلا يسرع إليها البلى, فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها, ولهذا قال تعالى: {وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود} وقد ذكر عن الذئب أنه ينام فيطبق عيناً ويفتح عيناً, ثم يفتح هذه ويطبق هذه وهو راقد, كما قال الشاعر:
    ينام بإحدى مقلتيه ويتقيبأخرى الرزايا فهو يقظان نائم
    وقوله: تعالى: {ونقلبهم وذات اليمين ذات الشمال} قال بعض السلف: يقلبون في العام مرتين. قال ابن عباس: لو لم يقلبوا لأكلتهم الأرض. قوله {وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد} قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة: الوصيد الفناء, وقال ابن عباس: بالباب. وقيل: بالصعيد وهو التراب, والصحيح أنه بالفناء وهو الباب, ومنه قوله تعالى: {إنها عليهم مؤصدة} أي مطبقة مغلقة, ويقال: وصيد وأصيد, ربض كلبهم على الباب كما جرت به عادة الكلاب, قال ابن جريج: يحرس عليهم الباب, وهذا من سجيته وطبيعته حيث يربض ببابهم كأنه يحرسهم, وكان جلوسه خارج الباب, لأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب, كما ورد في الصحيح ولا صورة ولا جنب ولا كافر, كما ورد به الحديث الحسن, وشملت كلبهم بركتهم فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال, وهذا فائدة صحبة الأخبار, فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن. وقد قيل: إنه كان كلب صيد لأحدهم, وهو الأشبه, وقيل: كلب طباخ الملك, وقد كان وافقهم على الدين وصحبه كلبه, فالله أعلم.
    ** سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رّبّي أَعْلَمُ بِعِدّتِهِم مّا يَعْلَمُهُمْ إِلاّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاّ مِرَآءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مّنْهُمْ أَحَداً
    يقول تعالى مخبراً عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف, فحكى ثلاثة أقوال, فدل على أنه لا قائل برابع, ولما ضعف القولين الأولين بقوله: {رجماً بالغيب} أي قولاً بلا علم, كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه, فإنه لا يكاد يصيب وإن أصاب فبلا قصد. ثم حكى الثالث وسكت عليه أو قرره بقوله: {وثامنهم كلبهم} فدل على صحته, وأنه هو الواقع في نفس الأمر. وقوله: {قل ربي أعلم بعدتهم} إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى, إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم, لكن إذا أطلعنا على أمر قلنا به وإلا وقفنا.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 9:48

    وقوله: {ما يعلمهم إلا قليل} أي من الناس. قال قتادة: قال ابن عباس: أنا من القليل الذي استثنى الله عز وجل, كانوا سبعة. وكذا روى ابن جرير عن عطاء الخراساني عنه أنه كان يقول أنا ممن استثنى الله عز وجل ويقول عدتهم سبعة, فهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس أنهم كانوا سبعة, وهو موافق لما قدمناه.
    وقال محمد بن إسحاق بن يسار عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال: لقد حدثت أنه كان على بعضهم من حداثة سنه وضح الورق. قال ابن عباس: فكانوا كذلك ليلهم ونهارهم في عبادة الله يبكون ويستغيثون بالله, وكانوا ثمانية نفر: مكسلمينا وكان أكبرهم وهو الذي كلم الملك عنهم, ويمليخا ومرطونس وكسطونس وبيرونس ودنيموس ويطبونس وقالوش, هكذا وقع في هذه الرواية, ويحتمل أن هذا من كلام ابن إسحاق أو من بينه وبينه, فإن الصحيح عن ابن عباس أنهم كانوا سبعة, وهو ظاهر الاَية, وقد تقدم عن شعيب الجبائي أن اسم كلبهم حمران, وفي تسميتهم بهذه الأسماء واسم كلبهم نظر في صحته, والله أعلم, فإن غالب ذلك متلقى من أهل الكتاب, وقد قال تعالى: {فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهراً} أي سهلاً هيناً, فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة {ولا تستفت فيهم منهم أحداً} أي فإنهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم رجماً بالغيب, أي من غير استناد إلى كلام معصوم, وقد جاءك الله يا محمد بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية فيه, فهو المقدم الحاكم على كل ما تقدمه من الكتب والأقوال.
    ** وَلاَ تَقْولَنّ لِشَيْءٍ إِنّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ وَاذْكُر رّبّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىَ أَن يَهْدِيَنِ رَبّي لأقْرَبَ مِنْ هَـَذَا رَشَداً
    هذا إرشاد من الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل أن يرد ذلك إلى مشيئة الله عز وجل, علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون, كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة ـ وفي رواية: تسعين امرأة, وفي رواية: مائة امرأة ـ تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله, فقيل له ـ وفي رواية قال له الملك: قل إن شاء الله, فلم يقل, فطاف بهم فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ والذي نفسي بيده, لو قال إن شاء الله لم يحنث, وكان دركاً لحاجته» وفي رواية «ولقاتلوا في سبيل الله فرساناً أجمعين» وقد تقدم في أول السورة ذكر سبب نزول هذه الاَية في قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف غداً أجيبكم» فتأخر الوحي خمسة عشر يوماً, وقد ذكرناه بطوله في أول السورة, فأغنى عن إعادته.
    ** مّآ أَشْهَدتّهُمْ خَلْقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتّخِذَ الْمُضِلّينَ عَضُداً
    يقول تعالى: هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من دوني عبيد أمثالكم لا يملكون شيئاً, ولا أشهدتهم خلق السموات والأرض, ولا كانوا إذ ذاك موجودين, يقول تعالى: أنا المستقل بخلق الأشياء كلها ومدبرها ومقدرها وحدي ليس معي في ذلك شريك ولا وزير ولا مشير ولا نظير, كما قال: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيها من شرك وما له منهم من ظهير* ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} الاَية, ولهذا قال: {وما كنت متخذ المضلين عضداً} قال مالك: أعواناً.


    ** وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مّوْبِقاً * وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النّارَ فَظَنّوَاْ أَنّهُمْ مّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً
    يقول تعالى مخبراً عما يخاطب به المشركين يوم القيامة على رؤوس الأشهاد تقريعاً لهم وتوبيخاً {نادوا شركائي الذين زعمتم} أي في دار الدنيا ادعوهم اليوم ينقذوكم مما أنتم فيه قال تعالى: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون} وقوله: {فدعوهم فلم يستجيبوا لهم} كما قال: {وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم} الاَية, وقال: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له} الاَيتين, وقال تعالى: {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً* كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً} وقوله: {وجعلنا بينهم موبقاً} قال ابن عباس وقتادة وغير واحد: مهلكاً, وقال قتادة: ذكر لنا أن عمر البكائي حدث عن عبد الله بن عمرو قال: هو واد عميق فرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة. وقال قتادة: موبقاً وادياً في جهنم.
    ** وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِفَتَاهُ لآ أَبْرَحُ حَتّىَ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً * فَلَمّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً * فَلَمّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـَذَا نَصَباً * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصّخْرَةِ فَإِنّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاّ الشّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنّا نَبْغِ فَارْتَدّا عَلَىَ آثَارِهِمَا قَصَصاً * فَوَجَدَا عَبْداً مّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَعَلّمْنَاهُ مِن لّدُنّا عِلْماً
    سبب قول موسى لفتاه وهو يوشع بن نون, هذا الكلام أنه ذكر له أن عبداً من عباد الله بمجمع البحرين عنده من العلم ما لم يحط به موسى, فأحب الرحيل إليه, وقال لفتاه ذلك {لا أبرح} أي لا أزال سائراً {حتى أبلغ مجمع البحرين} أي هذا المكان الذي فيه مجمع البحرين, قال الفرزدق:
    فما برحوا حتى تهادت نساؤهمببطحاء ذي قارعبات اللطائم
    قال قتادة وغير واحد: هما بحر فارس مما يلي المشرق, وبحر الروم مما يلي المغرب, وقال محمد بن كعب القرظي: مجمع البحرين عند طنجة, يعني في أقصى بلاد المغرب, فالله أعلم. وقوله: {أو أمضي حقباً} أي ولو أني أسير حقباً من الزمان. قال ابن جرير رحمه الله: ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب أن الحقب في لغة قيس سنة, ثم روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: الحقب ثمانون سنة. وقال مجاهد: سبعون خريفاً. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {أو أمضي حقباً} قال: دهراً, وقال قتادة وابن زيد مثل ذلك.
    وقوله: {فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما} وذلك أنه كان قد أمر بحمل حوت مملوح معه, وقيل له: متى فقدت الحوت, فهو ثمة, فسارا حتى بلغا مجمع البحرين, وهناك عين يقال لها عين الحياة, فناما هنالك, وأصاب الحوت من رشاش ذلك الماء, فاضطرب وكان في مكتل مع يوشع عليه السلام, وطفر من المكتل إلى البحر, فاستيقظ يوشع عليه السلام وسقط الحوت في البحر فجعل يسير في الماء والماء له مثل الطاق لا يلتئم بعده, ولهذا قال تعالى: {واتخذ سبيله في البحر سرباً} أي مثل السرب في الأرض. قال ابن جريج: قال ابن عباس: صار أثره كأنه حجر. وقال العوفي عن ابن عباس: جعل الحوت لا يمس شيئاً من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة. وقال محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس, عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر حديث ذلك: ما انجاب ماء منذ كان الناس غير مسير مكان الحوت الذي فيه, فانجاب كالكوة حتى رجع إليه موسى فرأى مسلكه, فقال: {ذلك ما كنا نبغِ} وقال قتادة: سرب من البحر حتى أفضى إلى البر, ثم سلك فيه فجعل لا يسلك طريقاً فيه إلا صار ماء جامداً.
    وقوله: {فلما جاوزا} أي المكان الذي نسيا الحوت فيه, ونسب النسيان إليهما وإن كان يوشع هو الذي نسيه, كقوله تعالى: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} وإنما يخرج من المالح على أحد القولين, فلما ذهبا عن المكان الذي نسياه فيه بمرحلة {قال} موسى {لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا} أي الذي جاوزا فيه المكان {نصباً} يعني تعباً {قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} قال قتادة: وقرأ ابن مسعود أن أذكر كه, ولهذا قال {واتخذ سبيله} أي طريقه {في البحر عجباً قال ذلك ما كنا نبغِ} أي هذا هو الذي نطلب {فارتدا} أي رجعا {على آثارهما} أي طريقهما {قصصاً} أي يقصان آثار مشيهما ويقفوان أثرهما {فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً} وهذا هو الخضر عليه السلام, كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    قال البخاري: حدثنا الحميدي, حدثنا سفيان, حدثنا عمرو بن دينار, أخبرني سعيد بن جبير, قال: قلت لابن عباس: إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر عليه السلام, ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل. قال ابن عباس: كذب عدو الله, حدثنا أبي بن كعب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم ؟ قال: أنا, فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه, فأوحى الله إليه إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال موسى: يا رب وكيف لي به ؟ قال: تأخذ معك حوتاً فتجعله بمكتل, فحيثما فقدت الحوت فهو ثم, فأخذ حوتاً فجعله بمكتل, ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون عليه السلام, حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رأسيهما فناما, واضطرب الحوت في المكتل, فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا, وأمسك الله عن الحوت جرية الماء, فصار عليه مثل الطاق, فلما استيقظ, نسي صاحبه أن يخبره بالحوت, فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: {آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا} ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به, قال له فتاه: {أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا} قال: فكان الحوت سرباً, ولموسى وفتاه عجباً, فقال {ذلك ما كنا نبغِ فارتدا على آثارهما قصصاً} قال: فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة, فإذا رجل مسجى بثوب, فسلم عليه موسى فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام. فقال: أنا موسى. فقال: موسى بني إسرائيل ؟ قال: نعم قال أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً {قال إنك لن تستطيع معي صبراً} يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه. فقال موسى {ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً} قال له الخضر: {فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً}.
    فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة, فكلموهم أن يحملوهم, فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول, فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم, فقال له موسى: قد حملونا بغير نول, فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها ؟ لقد جئت شيئاً إمراً {قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً ؟ قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً} قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله ـ فكانت الأولى من موسى نسياناً, قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة, فنقر في البحر نقرة أو نقرتين فقال له الخضر: ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر.


    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 9:52

    ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان, فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه بيده فقتله, فقال له موسى {أقتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكراً قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً} قال: وهذه أشد من الأولى, {قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً, فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض} أي مائلاً, فقال الخضر بيده {فأقامه} فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا {لو شئت لاتخذت عليه أجراً, قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما» قال سعيد بن جبير: كان ابن عباس يقرأ {وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً} وكان يقرأ {وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين}.
    ثم رواه البخاري عن قتيبة عن سفيان بن عيينة فذكر نحوه, وفيه: فخرج موسى ومعه فتاه يوشع بن نون ومعهما الحوت, حتى انتهيا إلى الصخرة, فنزلا عندها, قال: فوضع موسى رأسه فنام, قال سفيان: وفي حديث عن عمر قال: وفي أصل الصخرة عين يقال لها الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي فأصاب الحوت من ماء تلك العين, فتحرك وانسل من المكتل فدخل البحر, فلما استيقظ قال موسى لفتاه {آتنا غداءنا} قال: وساق الحديث, ووقع عصفور على حرف السفينة, فغمس منقاره في البحر, فقال الخضر لموسى: ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا مقدار ما غمس هذا العصفور منقاره وذكر تمامه بنحوه.
    وقال البخاري أيضاً: حدثنا إبراهيم بن موسى, حدثنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم قال: أخبرني يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار عن)سعيد بن جبير, يزيد أحدهما على صاحبه, وغيرهما قد سمعته يحدث عن سعيد بن جبير قال: إنا لعند ابن عباس في بيته, إذ قال سلوني, فقلت: أي أبا عباس جعلني الله فداك, بالكوفة رجل قاص يقال له نوف يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل, أما عمرو فقال لي قال: كذب عدو الله وأما يعلى فقال لي قال ابن عباس: حدثني أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «موسى رسول الله ذكر الناس يوماً حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب ولى, فأدركه رجل فقال: أي رسول الله هل في الأرض أعلم منك ؟ قال: لا, فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله, قيل: بلى, قال أي رب, وأين ؟ قال: بمجمع البحرين, قال: أي رب اجعل لي علماً أعلم ذلك به. قال لي عمرو: قال حيث يفارقك الحوت, وقال لي يعلى: خذ حوتاً ميتاً حيث ينفخ فيه الروح, فأخذ حوتاً فجعله في مكتل فقال لفتاه: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت, قال: ما كلفت كبيراً, فذلك قوله: {وإذ قال موسى لفتاه} يوشع بن نون ليست عند سعيد بن جبير, قال: فبينما هو في ظل صخرة في مكان ثريان إذ يضرب الحوت وموسى نائم, فقال فتاه, لا أوقظه, حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره, ويضرب الحوت حتى دخل في البحر فأمسك الله عنه جرية الماء حتى كأن أثره في حجر, قال: فقال لي عمرو: هكذا كأن أثره في حجر, وحلق بين إبهاميه واللتين تليهما, قال: {لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً} قال: وقد قطع الله عنك النصب, ليست هذه عند سعيد بن جبير, أخبره فرجعا فوجدا خضراً قال: قال عثمان بن أبي سليمان: على طنفسة خضراء على كبد البحر, قال سعيد بن جبير: مسجى بثوب قد جعل طرفه تحت رجليه وطرفه عند رأسه, فسلم عليه موسى فكشف عن وجهه, وقال: هل بأرضي من سلام ؟ من أنت ؟ قال: أنا موسى, قال: موسى بني إسرائيل ؟ قال: نعم, قال: فما شأنك ؟ قال: جئتك لتعلمني مما علمت رشداً, قال: أما يكفيك أن التوراة بيديك وأن الوحي يأتيك يا موسى, إن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلمه, وإن لك علماً لا ينبغي لي أن أعلمه, فأخذ طائر بمنقاره من البحر فقال: والله ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر, حتى إذا ركبا في السفينة وجدا معابر صغاراً تحمل أهل هذا الساحل إلى هذا الساحل الاَخر, عرفوه فقالوا: عبد الله الصالح, قال: فقلنا لسعيد بن جبير خضر, قال: نعم لا نحمله بأجر, فخرقها ووتد فيها وتداً, قال موسى {أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً} قال مجاهد: منكراً, {قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً} كانت الأولى نسياناً, والثانية شرطاً, والثالثة عمداً, {قال لا تؤاخذني بما نسيت, ولا ترهقني من أمري عسراً, فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله}, قال يعلى: قال سعيد: وجد غلماناً يلعبون, فأخذ غلاماً كافراً ظريفاً فأضجعه ثم ذبحه بالسكين, فقال أقتلت نفساً زكية لم تعمل الحنث ؟ وابن عباس قرأها زكية مسلمة كقولك غلاماً زكياً, فانطلقا فوجدا جداراً يريد أن ينقض فأقامه, قال سعيد: بيده هكذا ودفع بيده فاستقام, قال: لو شئت لاتخذت عليه أجراً, قال يعلى: حسبت أن سعيداً قال: فمسحه بيده فاستقام, قال: لو شئت لاتخذت عليه أجراً, قال سعيد: أجراً نأكله, وكان وراءهم ملك, وكان أمامهم, قرأها ابن عباس: أمامهم ملك يزعمون, عن غير سعيد, أنه هدد بن بدد, والغلام المقتول اسمه يزعمون جيسور ملك يأخذ كل سفينة غصباً, فأردت إذا هي مرت به أن يدعها بعيبها, فإذا جاوزوا أصلحوها فانتفعوا بها, منهم من يقول سدوها بقارورة, ومنهم من يقول بالقار, كان أبواه مؤمنين, وكان هو كافراً, فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً أن يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه, فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة, كقوله: {أقتلت نفساً زكية}, وقوله: {وأقرب رحماً} هما به أرحم منهما بالأول الذي قتل خضر, وزعم غير سعيد بن جبير أنهما أبدلا جارية, وأما داود بن أبي عاصم فقال عن غير واحد: إنها جارية.
    قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: خطب موسى عليه السلام بني إسرائيل فقال: ما أحد أعلم بالله وبأمره مني, فأمر أن يلقى هذا الرجل فذكر نحو ما تقدم بزيادة ونقصان, والله أعلم. وقال محمد بن إسحاق عن الحسن بن عمارة, عن الحكم بن عتيبة عن سعيد بن جبير قال: جلست عند ابن عباس وعنده نفر من أهل الكتاب, فقال بعضهم: يا أبا العباس إن نوفاً ابن امرأة كعب يزعم عن كعب أن موسى النبي الذي طلب العالم إنما هو موسى بن ميشا, قال سعيد: فقال ابن عباس: أنوف يقول هذا يا سعيد ؟ فقلت له: نعم أنا سمعت نوفاً يقول ذلك, قال: أنت سمعته يا سعيد ؟ قال: نعم, قال: كذب نوف.
    ثم قال ابن عباس: حدثني أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن موسى بني إسرائيل سأل ربه, فقال: أي رب إن كان في عبادك أحد هو أعلم مني فدلني عليه, فقال له: نعم في عبادي من هو أعلم منك, ثم نعت له مكانه وأذن له في لقيه, فخرج موسى ومعه فتاه ومعه حوت مليح, قد قيل له: إذا حيي هذا الحوت في مكان, فصاحبك هنالك وقد أدركت حاجتك, فخرج موسى ومعه فتاه ومعه ذلك الحوت يحملانه, فسار حتى جهده السير وانتهى إلى الصخرة وإلى ذلك الماء, وذلك الماء ماء الحياة, من شرب منه خلد ولا يقارنه شيء ميت إلا حيي, فلما نزلا ومس الحوت الماء حيي, فاتخذ سبيله في البحر سربا, فانطلقا فلما جاوزا النقلة قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا, قال الفتى وذكر: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة, فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره, واتخذ سبيله في البحر عجبا, قال ابن عباس فظهر موسى على الصخرة حتى إذا انتهيا إليها, فإذا رجل متلفف في كساء له, فسلم موسى عليه فرد عليه السلام, ثم قال له: ما جاء بك إن كان لك في قومك لشغل ؟ قال له موسى: جئتك لتعلمني مما علمت رشداً. قال: إنك لن تستطيع معي صبرا, وكان رجلاً يعلم علم الغيب, قد علم ذلك, فقال موسى: بلى. قال: {وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً} أي إنما تعرف ظاهر ما ترى من العدل, ولم تحط من علم الغيب بما أعلم {قال ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً} وإن رأيت ما يخالفني, قال: {فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء} وإن أنكرته {حتى أحدث لك منه ذكرا} فانطلقا يمشيان على ساحل البحر يتعرضان الناس يلتمسان من يحملهما, حتى مرت بهما سفينة جديدة وثيقة لم يمر بهما من السفن شيء أحسن, ولا أجمل ولا أوثق منها, فسأل أهلها أن يحملوهما فحملوهما, فلما أطمأنا فيها ولجت بهما مع أهلها, أخرج منقاراً له ومطرقة, ثم عمد إلى ناحية فضرب فيها بالمنقار حتى خرقها, ثم أخذ لوحاً فطبقه عليها, ثم جلس عليها يرقعها, فقال له موسى ورأى أمراً أفظع به {أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً * قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا * قال لا تؤاخذني بما نسيت} أي بما تركت من عهدك {ولا ترهقني من أمري عسراً} ثم خرجا من السفينة, فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية, فإذا غلمان يلعبون خلفها, فيهم غلام ليس في الغلمان أظرف منه, ولا أثرى ولا أوضأ منه فأخذه بيده وأخذ حجراً فضرب به رأسه حتى دمغه فقتله, قال: فرأى موسى أمراً فظيعاً لا صبر عليه, صبي صغير قتله لا ذنب له, قال: {أقتلت نفساً زكية} أي صغيرة {بغير نفس لقد جئت شيئاً نكراً * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً * قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا} أي قد أعذرت في شأني {فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض} فهدمه ثم قعد يبنيه, فضجر موسى مما يراه يصنع من التكليف وما ليس له عليه صبر فأقامه, قال: {لو شئت لاتخذت عليه أجراً} أي قد استطعمناهم فلم يطعمونا وضفناهم فلم يضيفونا, ثم قعدت تعمل من غير صنيعة, ولو شئت لأعطيت عليه أجراً في عمله, قال: {هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً * أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها, وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا} وفي قراءة ابن كعب {كل سفينة صالحة} وإنما عبتها لأرده عنها, فسلمت منه حين رأى العيب الذي صنعت بها, {وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفرا, فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة وأقرب رحما}. {وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري} أي ما فعلته عن نفسي {ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا} فكان ابن عباس يقول: ما كان الكنز إلا علماً, وقال عوفي عن ابن عباس قالا: لما ظهر موسى وقومه على مصر أنزل قومه مصر, فلما استقرت بهم الدار أنزل الله أن ذكرهم بأيام الله, فخطب قومه فذكر ما آتاهم الله من الخير والنعمة, وذكرهم إذ نجاهم الله من آل فرعون, وذكرهم هلاك عدوهم وما استخلفهم الله في الأرض, وقال: كلم الله نبيكم تكليماً واصطفاني لنفسه, وأنزل عليّ محبة منه, وآتاكم الله من كل ما سألتموه, فنبيكم أفضل أهل الأرض وأنتم تقرؤون التوراة, فلم يترك نعمة أنعم الله عليهم إلا وعرفهم إياها, فقال له رجل من بني إسرائيل: هم كذلك يا نبي الله قد عرفنا الذي تقول: فهل على الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله ؟ قال: لا. فبعث الله جبرائيل إلى موسى عليه السلام فقال: إن الله يقول: وما يدريك أين أضع علمي, بلى إن لي على شط البحر رجلاً هو أعلم منك. قال ابن عباس: هو الخضر, فسأل موسى ربه أن يريه إياه, فأوحى إليه أن ائت البحر, فإنك تجد على شط البحر حوتاً, فخذه فادفعه إلى فتاك ثم الزم شاطىء البحر, فإذا نسيت الحوت وهلك منك, فثم تجد العبد الصالح الذي تطلب. فلما طال سفر موسى نبي الله ونصب فيه سأل فتاه عن الحوت, فقال له فتاه وهو غلامه {أرأيت إذ أويناإلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} لك, قال الفتى: لقد رأيت الحوت حين اتخذ سبيله في البحر سرباً فأعجب من ذلك, .

    يتبع
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 9:58

    فرجع موسى حتى أتى الصخرة, فوجد الحوت, فجعل الحوت يضرب في البحر ويتبعه موسى, وجعل موسى يقدم عصاه يفرج بها عنه الماء يتبع الحوت, وجعل الحوت لا يمس شيئاً من البحر إلا يبس عنه الماء حتى يكون صخرة, فجعل نبي الله يعجب من ذلك حتى انتهى به الحوت إلى جزيرة من جزائر البحر فلقي الخضر بها, فسلم عليه فقال الخضر: وعليك السلام, وأنى يكون السلام بهذه الأرض, ومن أنت ؟ قال: أنا موسى, قال الخضر: صاحب بني إسرائيل ؟ قال: نعم, فرحب به وقال: ما جاء بك ؟ قال جئتك {على أن تعلمني مما علمت رشداً * قال إنك لن تستطيع معي صبرا} يقول: لا تطيق ذلك, قال: {ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً} قال: فانطلق به, وقال له: لا تسألني عن شيء أصنعه حتى أبين شأنه, فذلك قوله: {حتى أحدث لك منه ذكراً}.
    وقال الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى فقال ابن عباس: هو الخضر, فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه, فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه ؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «بينا موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل, فقال: تعلم مكان رجل أعلم منك ؟ قال: لا, فأوحى الله إلى موسى, بلى عبدنا خضر, فسأل موسى السبيل إلى لقيه, فجعل الله له الحوت آية, وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه, فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر, فقال فتى موسى لموسى: أرأيت إذ أويناإلى الصخرة, فإني نسيت الحوت, قال موسى {ذلك ما كنا نبغِ فارتدا على آثارهما قصصا} فوجدا عبدنا خضر, فكان من شأنهما ما قص الله في كتابه** وَأَمّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مّن رّبّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عّلَيْهِ صَبْراً
    في هذه الاَية دليل على إطلاق القرية على المدينة, لأنه قال أولاً {حتى إذا أتيا أهل قرية} وقال ههنا {فكان لغلامين يتيمين في المدينة} كما قال تعالى: {فكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك} {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} يعني مكة والطائف, ومعنى الاَية أن هذا الجدار إنما أصلحته لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة, وكان تحته كنز لهما. قال عكرمة وقتادة وغير واحد: وكان تحته مال مدفون لهما, وهو ظاهر السياق من الاَية, وهو اختيار ابن جرير رحمه الله.
    وقال العوفي عن ابن عباس: كان تحته كنز علم, وكذا قال سعيد بن جبير, وقال مجاهد: صحف فيها علم, وقد ورد في حديث مرفوع ما يقوي ذلك. قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده المشهور: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري, حدثنا بشر بن المنذر, حدثنا الحارث بن عبد الله اليحصبي عن عياش بن عباس الغاني, عن ابن حجيرة عن أبي ذر رفعه قال: «إن الكنز الذي ذكره الله في كتابه لوح من ذهب مصمت, مكتوب فيه: عجبت لمن أيقن بالقدر لم نصب, وعجبت لمن ذكر النار لم ضحك, وعجبت لمن ذكر الموت لم غفل, لا إله إلا الله محمد رسول الله». وبشر بن المنذر هذا يقال له قاضي المصيصة. قال الحافظ أبو جعفر العقيلي في حديثه وهم, وقد روي في هذا آثار عن السلف, فقال ابن جرير في تفسيره: حدثني يعقوب, حدثنا الحسن بن حبيب بن ندبة, حدثنا سلمة عن نعيم العنبري وكان من جلساء الحسن قال: سمعت الحسن يعني البصري يقول في قوله: {وكان تحته كنز لهما} قال لوح من ذهب مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم, عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن, وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح, وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها, لا إله إلا الله محمد رسول الله.
    ** فَأَتْبَعَ سَبَباً * حَتّىَ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يَذَا الْقَرْنَيْنِ إِمّآ أَن تُعَذّبَ وَإِمّآ أَن تَتّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً * قَالَ أَمّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذّبُهُ ثُمّ يُرَدّ إِلَىَ رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نّكْراً * وَأَمّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَىَ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً
    قال ابن عباس {فأتبع سبباً} يعني بالسبب المنزل, وقال مجاهد {فأتبع سبباً} منزلاً وطريقاً ما بين المشرق والمغرب, وفي رواية عن مجاهد {سبباً} قال: طريقاً في الأرض وقال قتادة: أي اتبع منازل الأرض ومعالمها, وقال الضحاك {فأتبع سبباً} أي المنازل, وقال سعيد بن جبير في قوله: {فأتبع سبباً} قال: علماً, وهكذا قال عكرمة وعبيد بن يعلى والسدي, وقال مطر: معالم وآثار كانت قبل ذلك.
    وقوله: {حتى إذا بلغ مغرب الشمس} أي فسلك طريقاً حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب وهو مغرب الأرض, وأما الوصول إلى مغرب الشمس من السماء فمتعذر, وما يذكره أصحاب القصص والأخبار من أنه سار في الأرض مدة, والشمس تغرب من ورائه, فشيء لا حقيقة له, وأكثر ذلك من خرافات أهل الكتاب واختلاف زنادقتهم وكذبهم, وقوله: {وجدها تغرب في عين حمئة} أي رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط, وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله يراها كأنها تغرب فيه وهي لا تفارق الفلك الرابع الذي هي مثبتة فيه لا تفارقه, والحمئة مشتقة على إحدى القراءتين من الحمأة وهو الطين, كما قال تعالى: {إني خالق بشراً من صلصال من حمإٍ مسنون} أي طين أملس, وقد تقدم بيانه.
    ** فَمَا اسْطَاعُوَاْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً * قَالَ هَـَذَا رَحْمَةٌ مّن رّبّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبّي جَعَلَهُ دَكّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبّي حَقّاً * وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً
    يقول تعالى مخبراً عن يأجوج ومأجوج أنهم ما قدروا على أن يصعدوا من فوق هذا السد ولا قدروا على نقبه من أسفله ولما كان الظهور عليه أسهل من نقبه قابل كلاً بما يناسبه فقال {فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً} وهذا دليل على أنهم لم يقدروا على نقبه ولا على شيء منه. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا روح حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة حدثنا أبو رافع عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غداً فيعودون إليه كأشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء الله فيعودون إليه كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس فينشفون المياه ويتحصن الناس منهم في حصونهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع وعليها كهيئة الدم فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله عليهم نغفاً في رقابهم فيقتلهم بها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكراً من لحومهم ودمائهم» ورواه أحمد أيضاً عن حسن هو ابن موسى الأشهب عن سفيان عن قتادة به وكذا رواه ابن ماجه عن أزهر بن مروان عن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: حدث أبو رافع وأخرجه الترمذي من حديث أبي عوانة عن قتادة ثم قال غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه وإسناده جيد قوي ولكن متنه في رفعه نكارة لأن ظاهر الاَية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا من نقبه لإحكام بنائه وصلابته وشدته ولكن هذا قد روي عن كعب الأحبار أنهم قبل خروجهم يأتونه فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل فيقولون غداً نفتحه فيأتون من الغد وقد عاد كما كان فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل فيقولون فذلك فيصبحون وهو كما كان فيلحسونه ويقولون غداً نفتحه ويلهمون أن يقولوا إن شاء الله فيصبحون وهو كما فارقوه فيفتحونه وهذا متجه ولعل أبا هريرة تلقاه من كعب فإنه كان كثيراً ما كان يجالسه ويحدثه فحدث به أبو هريرة فتوهم بعض الرواة عنه أنه مرفوع فرفعه والله أعلم.

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 10:06

    ** إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً
    يخبر تعالى عن عباده السعداء وهم الذين آمنوا بالله ورسوله, وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به, أن لهم جنات الفردوس, قال مجاهد: الفردوس هو البستان بالرومية. وقال كعب والسدي والضحاك: هو البستان الذي فيه شجر الأعناب, وقال أبو أمامة: الفردوس سرة الجنة, وقال قتادة: الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها, وقد روي هذا مرفوعاً من حديث سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «الفردوس ربوة الجنة أوسطها وأحسنها». وهكذا رواه إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن سمرة مرفوعاً وروي عن قتادة عن أنس بن مالك مرفوعاً بنحوه روى ذلك كله ابن جرير رحمه الله, وفي الصحيحين «إذا سألتم الله الجنة, فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة, ومنه تفجر أنهار الجنة». وقوله تعالى: {نزلاً} أي ضيافة, فإن النزل الضيافة. وقوله {خالدين فيها} أي مقيمين ساكنين فيها لا يظعنون عنها أبداً {لا يبغون عنها حولاً} أي لا يختارون عنها غيرها ولا يحبون سواها, كما قال الشاعر:
    فحلت سويدا القلب لا أنا باغياًسواها ولا عن حبها أتحول
    وفي قوله: {لا يبغون عنها حولاً} تنبيه على رغبتهم فيها وحبهم لها, مع أنه قد يتوهم فيمن هو مقيم في المكان دائماً أنه قد يسأمه أو يمله, فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولاً ولا انتقالاً ولا ظعناً ولا رحلة ولا بدلاً.


    ** قُل لّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لّكَلِمَاتِ رَبّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً
    يقول تعالى: قل يا محمد لو كان ماء البحر مداداً للقلم الذي يكتب به كلمات الله وحكمه وآياته الدالة عليه, لنفد البحر قبل أن يفرغ كتابة ذلك {ولو جئنا بمثله} أي بمثل البحر آخر, ثم آخر وهلم جراً بحور تمده ويكتب بها, لما نفدت كلمات الله, كما قال تعالى: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم} وقال الربيع بن أنس: إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحوركلها, وقد أنزل الله ذلك {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} يقول لو كانت تلك البحور مداداً لكلمات الله, والشجر كله أقلام لانكسرت الأقلام, وفني ماء البحر, وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء, لأن أحداً لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني عليه كما ينبغي حتى يكون هو الذي يثني نفسه, إن ربنا كما يقول وفوق ما نقول, إن مثل نعيم الدنيا أولها وآخرها في نعيم الاَخرة كحبة من خردل في خلال الأرض كلها.
    ** قُل لّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لّكَلِمَاتِ رَبّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً
    يقول تعالى: قل يا محمد لو كان ماء البحر مداداً للقلم الذي يكتب به كلمات الله وحكمه وآياته الدالة عليه, لنفد البحر قبل أن يفرغ كتابة ذلك {ولو جئنا بمثله} أي بمثل البحر آخر, ثم آخر وهلم جراً بحور تمده ويكتب بها, لما نفدت كلمات الله, كما قال تعالى: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم} وقال الربيع بن أنس: إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحوركلها, وقد أنزل الله ذلك {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} يقول لو كانت تلك البحور مداداً لكلمات الله, والشجر كله أقلام لانكسرت الأقلام, وفني ماء البحر, وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء, لأن أحداً لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني عليه كما ينبغي حتى يكون هو الذي يثني نفسه, إن ربنا كما يقول وفوق ما نقول, إن مثل نعيم الدنيا أولها وآخرها في نعيم الاَخرة كحبة من خردل في خلال الأرض كلها.


    ** قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىَ إِلَيّ أَنّمَآ إِلَـَهُكُمْ إِلَـَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا
    روى الطبراني من طريق هشام بن عمار عن إسماعيل بن عياش, عن عمرو بن قيس الكوفي أنه سمع معاوية بن أبي سفيان قال: هذه آخر آية أنزلت, يقول تعالى لرسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه {قل} لهؤلاء المشركين المكذبين برسالتك إليهم {إنما أنا بشر مثلكم} فمن زعم أني كاذب فليأت بمثل ما جئت به, فإني لا أعلم الغيب فيما أخبرتكم به من الماضي عما سألتم من قصة أصحاب الكهف وخبر ذي القرنين مما هو مطابق في نفس الأمر, ولولا ما أطلعني الله عليه, وإنما أخبركم {أنما إلهكم} الذي أدعوكم إلى عبادته {إله واحد} لا شريك له {فمن كان يرجو لقاء ربه} أي ثوابه وجزاءه الصالح {فليعمل عملاً صالحاً} أي ما كان موافقاً لشرع الله {ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له, وهذان ركنا العمل المتقبل, لا)بد أن يكون خالصاً لله صواباً على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    وقد روى ابن أبي حاتم من حديث معمر عن عبد الكريم الجزري عن طاوس قال: قال رجل يا رسول الله إني أقف المواقف أريد وجه الله وأحب أن يرى موطني فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً حتى نزلت هذه الاَية {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} وهكذا أرسل هذا مجاهد وغير واحد. وقال الأعمش: حدثنا حمزة أبو عمارة مولى بني هاشم عن شهر بن حوشب قال: جاء رجل إلى عبادة بن الصامت فقال: أنبئني عما أسألك عنه. أرأيت رجلاً يصلي يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد ويصوم يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد, ويتصدق يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد, ويحج يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد, فقال عبادة: ليس له شيء, إن الله تعالى يقول: أنا خير شريك, فمن كان له معي شريك فهو له كله لا حاجة لي فيه.
    وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير, حدثنا كثير بن زيد عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه, عن جده قال: كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنبيت عنده تكون له حاجة أو يطرقه أمر من الليل فيبعثنا, فكثر المحتسبون وأهل النوب, فكنا نتحدث فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما هذه النجوى ؟» قال: فقلنا: تبنا إلى الله أي نبي الله, إنما كنا في ذكر المسيح وفرقنا منه فقال ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح عندي قال قلنا بلى, فقال: «الشرك الخفي أن يقوم الرجل يصلي لمكان الرجل».
    وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر, حدثنا عبد الحميد يعني ابن بهرام قال: قال شهر بن حوشب: قال ابن غنم: لما دخلنا مسجد الجابية أنا وأبو الدرداء, لقينا عبادة بن الصامت فأخذ يميني بشماله, وشمال أبي الدرداء بيمينه, فخرج يمشي بيننا ونحن نتناجى, والله أعلم بما نتناجى به, فقال عبادة بن الصامت: إن طال بكما عمر أحدكما أو كليكما لتوشكان أن تريا الرجل من ثبج المسلمين, يعني من وسط قراء القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم, فأعاده وأبدأه وأحل حلاله وحرم حرامه ونزله عند منازله لا يحور فيكم إلا كما يحور رأس الحمار الميت. قال: فبينما نحن كذلك إذ طلع شداد بن أوس رضي الله عنه وعوف بن مالك فجلسا إلينا, فقال شداد: إن أخوف ما أخاف عليكم أيها الناس لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من الشهوة الخفية والشرك» فقال عبادة بن الصامت وأبو الدرداء: اللهم غفرا ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حدثنا أن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب. أما الشهوة الخفية فقد عرفناها هي شهوات الدنيا من نسائها وشهواتها, فما هذا الشرك الذي تخوفنا به يا شداد ؟ فقال شداد: أرأيتكم لو رأيتم رجلاً يصلي لرجل أو يصوم لرجل أو يتصدق له, أترون أنه قد أشرك ؟ قالوا: نعم والله إن من صلى لرجل أو صام أو تصدق له لقد أشرك, فقال شداد فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من صلى يرائي فقد أشرك ومن صام يرائي فقد أشرك ومن تصدق يرائي فقد أشرك فقال عوف بن مالك عند ذلك: أفلا يعمد إليه إلى ما ابتغى به وجهه من ذلك العمل كله فيصل ما خلص له ويدع ما أشرك به فقال شداد عند ذلك: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي من أشرك بي شيئاً, فإن عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به, أنا عنه غني».
    (طريق أخرى لبعضه) قال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب, حدثني عبد الواحد بن زياد, أخبرنا عبادة بن نسي عن شداد بن أوس رضي الله عنه أنه بكى, فقيل له: ما يبكيك ؟ قال شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبكاني, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية» قلت: يا رسول الله أتشرك أمتك من بعدك ؟ قال: «نعم أما إنهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولا وثناً, ولكن يراءون بأعمالهم, والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائماً فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه» ورواه ابن ماجه من حديث الحسن بن ذكوان عن عبادة بن نسي به, وعبادة فيه ضعف, وفي سماعه من شداد نظر.


    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 10:12

    (حديث آخر) قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثناالحسين بن علي بن جعفر الأحمر, حدثنا علي بن ثابت, حدثنا قيس بن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله يوم القيامة: أنا خير شريك من أشرك بي أحداً فهو له كله». وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة, سمعت العلاء يحدث عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن الله عز وجل أنه قال: «أنا خير الشركاء فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري, فأنا بريء منه, وهو للذي أشرك» تفرد به من هذا الوجه.
    (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يونس, حدثنا الليث عن يزيد يعني ابن الهاد عن عمرو عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال: «الرياء, يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا, فانظروا هل تجدون عندهم جزاء».
    (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكير, أخبرنا عبد الحميد يعني ابن جعفر, أخبرني أبي عن زياد بن ميناء عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري, وكان من الصحابة, أنه قال: سمعت رسول اللهصلى الله عليه وسلم يقول: «إذا جمع الله الأولين والاَخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله أحداً فليطلب ثوابه من عند غير الله, فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك» وأخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث محمد وهو البرساني به.
    (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن عبد الملك, حدثنا بكار, حدثني أبي ـ يعني عبد العزيز بن أبي بكرة ـ عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمع سمع الله به, ومن راءى راءى الله به» وقال الإمام أحمد: حدثنا معاوية, حدثنا شيبان عن فراس عن عطية عن أبي سعيد الخدري, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من يرائي يرائي الله به, ومن يسمع يسمع الله به».
    (حديث آخر) قال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة, حدثني عمرو بن مرة قال: سمعت رجلاً في بيت أبي عبيدة أنه سمع عبد الله بن عمرو يحدث ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سمع الناس بعمله سمع الله به, ساء خلقه وصغره وحقره» فذرفت عينا عبد الله. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عمرو بن يحيى الأيلي, حدثنا الحارث بن غسان, حدثنا أبو عمران الجوني عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعرض أعمال بني آدم بين يدي الله عز وجل يوم القيامة في صحف مختمة, فيقول الله: ألقوا هذا واقبلوا هذا, فتقول الملائكة: يا رب والله ما رأينا منه إلا خيراً, فيقول: إن عمله كان لغير وجهي ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي» ثم قال: الحارث بن غسان روى عنه جماعة وهو ثقة بصري, ليس به بأس, وقال ابن وهب: حدثني يزيد بن عياض عن عبد الرحمن الأعرج, عن عبد الله بن قيس الخزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قام رياء وسمعة, لم يزل في مقت الله حتى يجلس».
    وقال أبو يعلى: حدثنا محمد بي أبي بكر, حدثنا محمد بن دينار عن إبراهيم الهجري, عن أبي الأحوص عن عوف بن مالك عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحسن الصلاة حيث يراه الناس وأساءها حيث يخلو, فتلك استهانة استهان بها ربه عز وجل» وقال ابن جرير: حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السكوني, حدثنا هشام بن عمار, حدثنا ابن عياش, حدثنا عمرو بن قيس الكندي أنه سمع معاوية بن أبي سفيان تلا هذه الاَية {فمن كان يرجو لقاء ربه} الاَية, وقال: إنها آخر آية نزلت من القرآن وهذا أثر مشكل, فإن هذه الاَية آخر سورة الكهف, والكهف كلها مكية, ولعل معاوية أراد أنه لم ينزل بعدها آية تنسخها ولا تغير حكمها, بل هي مثبتة محكمة, فاشتبه ذلك على بعض الرواة فروى بالمعنى على ما فهمه, والله أعلم.
    وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق, حدثنا النضر بن شميل, حدثنا أبو قرة عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ في ليلة {فمن كان يرجو لقاء ربه} الاَية, كان له من النور من عدن أبين إلى مكة حشو ذلك النور الملائكة» غريب جداً آخر تفسير سورة الكهف.



    تمت سورة الكهف

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 10:33

    سورة مريم

    وهي مكية
    وقد روى محمد بن إسحاق في السيرة من حديث أم سلمة, وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قرأ صدر هذه السورة على النجاشي وأصحابه.

    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** كَهيعَصَ * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّآ * إِذْ نَادَىَ رَبّهُ نِدَآءً خَفِيّاً * قَالَ رَبّ إِنّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّي وَاشْتَعَلَ الرّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبّ شَقِيّاً * وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً
    أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة, وقوله {ذكر رحمت ربك} أي هذا ذكر رحمة الله بعبده زكريا, وقرأ يحيى بن يعمر {ذكر رحمت ربك عبده زكريا} وزكريا يمد ويقصر, قراءتان مشهورتان وكان نبياً عظيماً من أنبياء بني إسرائيل, وفي صحيح البخاري أنه كان نجاراً يأكل من عمل يده في النجارة. وقوله {إذ نادى ربه نداء خفياً} قال بعض المفسرين: إنما أخفى دعاءه لئلا ينسب في طلب الولد إلى الرعونة لكبره, حكاه الماوردي وقال آخرون: إنما أخفاه لأنه أحب إلى الله, كما قال قتادة في هذه الاَية {إذ نادى ربه نداء خفياً} إن الله يعلم القلب التقي, ويسمع الصوت الخفي, وقال بعض السلف: قام من الليل عليه السلام وقد نام أصحابه, فجعل يهتف بربه يقول خفية: يا رب, يا رب, يا رب, فقال الله له: لبيك لبيك لبيك {قال رب إني وهن العظم مني} أي ضعفت وخارت القوى {واشتعل الرأس شيباً}, أي اضطرم المشيب في السواد, كما قال ابن دريد في مقصورته:
    أما ترى رأسي حاكى لونهطرة صبح تحت أذيال الدجى
    واشتعل المبيض في مسودةمثل اشتعال النار في جمر الغضا
    والمراد من هذا الإخبار عن الضعف والكبر ودلائله الظاهرة والباطنة. وقوله {ولم أكن بدعائك رب شقيا} أي ولم أعهد منك إلا الإجابة في الدعاء, ولم تردني قط فيما سألتك وقوله {وإني خفت الموالي من ورائي} قرأ الأكثرون بنصب الياء من الموالي على أنه مفعول, وعن الكسائي أنه سكن الياء, كما قال الشاعر:
    كأن أيديهن في القاع القرقأيدي جوار يتعاطين الورق
    وقال الاَخر:
    فتى لو يباري الشمس ألقت قناعهاأو القمر الساري لألقى المقالدا
    ومنه قول أبي تمام حبيب بن أوس الطائي:
    تغاير الشعر منه إذ سهرت لهحتى ظننت قوافيه ستقتتل
    وقال مجاهد وقتادة والسدي: أراد بالموالي العصبة. وقال أبو صالح: الكلالة. وروي عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان يقرؤها {وإني خفت الموالي من ورائي} بتشديد الفاء بمعنى قلت عصباتي من بعدي, وعلى القراءة الأولى وجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفاً سيئاً, فسأل الله ولداً يكون نبياً من بعده ليسوسهم بنبوته ما يوحي إليه, فأجيب في ذلك لا أنه خشي من وراثتهم له ماله, فإن النبي أعظم منزلة وأجل قدراً من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حده, وأن يأنف من وراثة عصباته له ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم هذا وجه.
    (الثاني) أنه لم يذكر أنه كان ذا مال بل كان نجاراً يأكل من كسب يديه, ومثل هذا لا يجمع مالاً ولا سيما الأنبياء, فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا.
    (الثالث) أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا نورث, ما تركنا فهو صدقة» وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح «نحن معشر الأنبياء لا نورث», وعلى هذا فتعين حمل قوله {فهب لي من لدنك ولياً يرثني} على ميراث النبوة, ولهذا قال {ويرث من آل يعقوب} كقوله {وورث سليمان داود} أي في النبوة إذ لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك, ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة, إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل أن الولد يرث أباه, فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها, وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث, ما تركنا فهو صدقة».
    قال مجاهد في قوله {يرثني ويرث من آل يعقوب } كان وراثته علماً, وكان زكريا من ذرية يعقوب, وقال هشيم: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله {يرثني ويرث من آل يعقوب} قال: يكون نبياً كما كانت آباؤه أنبياء, وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة, عن الحسن يرث نبوته وعلمه, وقال السدي: يرث نبوتي ونبوة آل يعقوب. وعن مالك عن زيد بن أسلم {ويرث من آل يعقوب} قال نبوتهم. وقال جابر بن نوح ويزيد بن هارون كلاهما عن إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح في قوله {يرثني ويرث من آل يعقوب} قال: يرث مالي ويرث من آل يعقوب النبوة, وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره.
    ** وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً * فَاتّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَتْ إِنّيَ أَعُوذُ بِالرّحْمَـَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لاَِهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبّكَ هُوَ عَلَيّ هَيّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لّلْنّاسِ وَرَحْمَةً مّنّا وَكَانَ أَمْراً مّقْضِيّاً
    لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه السلام, وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته ولداً زكياً طاهراً مباركاً, عطف بذكر قصة مريم في إيجاده ولدها عيسى عليهما السلام منها من غير أب, فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة, ولهذا ذكرهما في آل عمران وههنا, وفي سورة الأنبياء يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى, ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه, وأنه على ما يشاء قادر, فقال {واذكر في الكتاب مريم} وهي مريم بنت عمران من سلالة داود عليه السلام. وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل, وقد ذكر الله تعالى قصة ولادة أمها لها في سورة آل عمران, وأنها نذرتها محررة, أي تخدم مسجد بيت المقدس, وكانوا يتقربون بذلك {فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً} ونشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة, فكانت إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة والتبتل والدؤوب, وكانت في كفالة زوج أختها زكريا نبي بني إسرائيل إذ ذاك, وعظيمهم الذي يرجعون إليه في دينهم, ورأى لها زكريا من الكرامات الهائلة ما بهره {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} فذكر أنه كان يجد عندها ثمر الشتاء في الصيف, وثمر الصيف في الشتاء, كما تقدم بيانه في سورة آل عمران, فلما أراد الله تعالى وله الحكمة والحجة البالغة, أن يوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام {انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً} أي اعتزلتهم وتنحت عنهم, وذهبت إلى شرق المسجد المقدس. وقال السدي لحيض أصابها, وقيل لغير ذلك.
    قال أبو كدينة عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال: إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه, وما صرفهم عنه إلا قيل ربك: {فانتبذت من أهلها مكاناً شرقياً} قال: خرجت مريم مكاناً شرقياً, فصلوا قبل مطلع الشمس, رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا إسحاق بن شاهين, حدثنا خالد بن عبد الله عن داود عن عامر, عن ابن عباس قال: إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة لقول الله تعالى: {فانتبذت من أهلها مكاناً شرقياً} واتخذوا ميلاد عيسى قبلة. وقال قتادة {مكاناً شرقياً} شاسعاً منتحياً, وقال محمد بن إسحاق: ذهبت بقلتها لتستقي الماء. وقال نوف البكالي: اتخذت لها منزلاً تتعبد فيه, فالله أعلم.
    ** فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىَ جِذْعِ النّخْلَةِ قَالَتْ يَلَيْتَنِي مِتّ قَبْلَ هَـَذَا وَكُنتُ نَسْياً مّنسِيّاً
    يقول تعالى مخبراً عن مريم أنها لما قال لها جبريل عن الله تعالى ما قال, أنها استسلمت لقضاء الله تعالى, فذكر غير واحد من علماء السلف أن الملك وهو جبرائيل عليه السلام عند ذلك نفخ في جيب درعها, فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج فحملت بالولد بإذن الله تعالى, فلما حملت به ضاقت ذرعاً, ولم تدر ماذا تقول للناس, فإنها تعلم أن الناس لا يصدقونها فيما تخبرهم به, غير أنها أفشت سرها وذكرت أمرها لأختها امرأة زكريا, وذلك أن زكريا عليه السلام كان قد سأل الله الولد فأجيب إلى ذلك, فحملت امرأته, فدخلت عليها مريم, فقامت إليها فاعتنقتها وقالت: أشعرت يا مريم أني حبلى ؟ فقالت لها مريم: وهل علمت أيضاً أني حبلى, وذكرت لها شأنها وما كان من خبرها, وكانوا بيت إيمان وتصديق, ثم كانت امرأة زكريا بعد ذلك إذا واجهت مريم تجد الذي في بطنها يسجد للذي في بطن مريم, أي يعظمه ويخضع له, فإن السجود كان في ملتهم عند السلام مشروعاً, كما سجد ليوسف أبواه وإخوته, وكما أمر الله الملائكة أن يسجدوا لاَدم عليه السلام, ولكن حرم في ملتنا هذه تكميلاً لتعظيم جلال الرب تعالى.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 10:37

    ** ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقّ الّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ * مَا كَانَ للّهِ أَن يَتّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىَ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ * وَإِنّ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـَذَا صِرَاطٌ مّسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوْيْلٌ لّلّذِينَ كَفَرُواْ مِن مّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ
    يقول تعالى لرسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه: ذلك الذي قصصناه عليك من خبر عيسى عليه السلام {قول الحق الذي فيه يمترون} أي يختلف المبطلون والمحقون ممن آمن به وكفر به, ولهذا قرأ الأكثرون قول الحق برفع قول, وقرأ عاصم وعبد الله بن عامر قول الحق, وعن ابن مسعود أنه قرأ ذلك عيسى بن مريم, قال: الحق, والرفع أظهر إعراباً, ويشهد له قوله تعالى: {الحق من ربك فلا تكن من الممترين} ولما ذكر تعالى أنه خلقه عبداً نبياً نزه نفسه المقدسة فقال: {ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه} أي عما يقول هؤلاء الجاهلون الظالمون المعتدون علواً كبيراً {إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} أي إذا أراد شيئاً, فإنما يأمر به فيصير كما يشاء, كما قال: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين}.
    وقوله: {وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} أي ومما أمر به عيسى قومه وهو في مهده أن أخبرهم إذ ذاك أن الله ربه وربهم وأمرهم بعبادته, فقال: {فاعبدوه هذا صراط مستقيم} أي هذا الذي جئتكم به عن الله صراط مستقيم, أي قويم من اتبعه رشد وهدي, ومن خالفه ضل وغوى. وقوله: {فاختلف الأحزاب من بينهم} أي اختلف أقوال أهل الكتاب في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله, وأنه عبده ورسوله, وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه, فصممت طائفة منهم, وهم جمهور اليهود. ـ عليهم لعائن الله ـ على أنه ولد زنية, وقالوا: كلامه هذا سحر. وقالت طائفة أخرى: إنما تكلم الله. وقال آخرون: بل هو ابن الله. وقال آخرون: ثالث ثلاثة. وقال آخرون: بل هو عبد الله ورسوله, وهذا هو قول الحق الذي أرشد الله إليه المؤمنين, وقد روي نحو هذا عن عمرو بن ميمون وابن جريج وقتادة وغير واحد من السلف والخلف.
    قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون} قال: اجتمع بنو إسرائيل, فأخرجوا منهم أربعة نفر, أخرج كل قوم عالمهم, فامتروا في عيسى حين رفع, فقال بعضهم: هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات, ثم صعد إلى السماء وهم اليعقوبية, فقال الثلاثة: كذبت. ثم قال اثنان منهم للثالث: قل أنت فيه قال: هو ابن الله وهم النسطورية, فقال الاثنان: كذبت. ثم قال أحد الاثنين للاَخر: قل فيه, فقال: هو ثالث ثلاثة: الله إله, وهو إله, وأمه إله, وهم الإسرائيلية ملوك النصارى عليهم لعائن الله. قال الرابع: كذبت بل هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته وهم المسلمون. فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قالوا, فاقتتلوا وظهروا على المسلمين, وذلك قول الله تعالى: {ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس} قال قتادة: وهم الذين قال الله: {فاختلف الأحزاب من بينهم} قال اختلفوا فيه فصاروا أحزاباً.** وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنّهُ كَانَ صِدّيقاً نّبِيّاً * إِذْ قَالَ لاَِبِيهِ يَأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً * يَأَبَتِ إِنّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتّبِعْنِيَ أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشّيْطَانَ إِنّ الشّيْطَانَ كَانَ لِلرّحْمَـَنِ عَصِيّاً * يَأَبَتِ إِنّيَ أَخَافُ أَن يَمَسّكَ عَذَابٌ مّنَ الرّحْمَـَنِ فَتَكُونَ لِلشّيْطَانِ وَلِيّاً
    يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {واذكر في الكتاب إبراهيم} واتل على قومك هؤلاء الذين يعبدون الأصنام,)واذكر لهم ما كان من خبر إبراهيم خليل الرحمن. الذين هم من ذريته ويدعون أنهم على ملته, وقد كان صديقاً نبياً مع أبيه, كيف نهاه عن عبادة الأصنام, فقال: {يا أبت لم تعبد ما لايسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً} أي لا ينفعك ولا يدفع عنك ضرراً {ياأبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك} يقول: وإن كنت من صلبك وتراني أصغر منك لأني ولدك, فاعلم أني قد أطلعت من العلم من الله على ما لم تعلمه أنت, و لا أطلعت عليه و لا جاءك {فاتبعني أهدك صراطاً سوياً} أي طريقاً مستقيماً موصلاً إلى نيل المطلوب, والنجاة من المرهوب {ياأبت لا تعبد الشيطان} أي لا تطعه في عبادتك هذه الأصنام, فإنه هو الداعي إلى ذلك والراضي به, كما قال تعالى: {ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} وقال: {إن يدعون من دونه إلا إناثاً وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً}.
    وقوله {إن الشيطان كان للرحمن عصياً} أي مخالفاً مستكبراً عن طاعة ربه, فطرده وأبعده, فلا تتبعه تصر مثله {ياأبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن} أي على شركك وعصيانك لما آمرك به {فتكون للشيطان ولياً} يعني فلا يكون لك مولى ولا ناصراً ولا مغيثاً إلا إبليس, وليس إليه ولا إلى غيره من الأمر شيء, بل اتباعك له موجب لإحاطة العذاب بك, كما قال تعالى: {تا لله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم, فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم}.


    ** قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَإِبْرَاهِيمُ لَئِن لّمْ تَنتَهِ لأرْجُمَنّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً * قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبّيَ إِنّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَأَدْعُو رَبّي عَسَىَ أَلاّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبّي شَقِيّاً
    يقول تعالى مخبراً عن جواب أبي إبراهيم لولده إبراهيم فيما دعاه إليه أنه قال: {أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ؟} يعني إن كنت لا تريد عبادتها ولا ترضاها, فانته عن سبها وشتمها وعيبها, فإنك إن لم تنته عن ذلك اقتصصت منك وشتمتك وسببتك, وهو قوله: {لأرجمنك} قاله ابن عباس والسدي وابن جريج والضحاك وغيرهم, وقوله: {واهجرني ملياً} قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن إسحاق: يعني دهراً. وقال الحسن البصري: زماناً طويلاً. وقال السدي {واهجرني ملياً} قال: أبداً. وقال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس {واهجرني ملياً} قال: سوياً سالماً قبل أن تصيبك مني عقوبة, وكذا قال الضحاك وقتادة وعطية الجدلي ومالك وغيرهم, واختاره ابن جرير, فعندما قال إبراهيم لأبيه: {سلام عليك} كما قال تعالى في صفة المؤمنين: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً} وقال تعالى: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} ومعنى قول إبراهيم لأبيه {سلام عليك} يعني أما أنا فلا ينالك مني مكروه ولا أذى وذلك لحرمة الأبوة {سأستغفر لك ربي} ولكن سأسأل الله فيك أن يهديك ويغفر ذنبك {إنه كان بي حفياً} قال ابن عباس وغيره: لطيفاً, أي في أن هداني لعبادته والإخلاص له.
    ** وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نّبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصّـلاَةِ وَالزّكَـاةِ وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيّاً
    هذا ثناء من الله تعالى على إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهماالسلام, وهو والد عرب الحجاز كلهم بأنه كان صادق الوعد. قال ابن جريج: لم يعد ربه عدة إلا أنجزها, يعني ما التزم عبادة قط بنذر إلا قام بها ووفاها حقها. وقال ابن جرير: حدثني يونس, أنبأنا ابن وهب, أخبرني عمرو بن الحارث أن سهل بن عقيل حدثه أن إسماعيل النبي عليه السلام وعد رجلاً مكاناً أن يأتيه فيه, فجاء ونسي الرجل, فظل به إسماعيل وبات حتى جاء الرجل من الغد, فقال: ما برحت من ههنا ؟ قال: لا. قال: إني نسيت قال: لم أكن أبرح حتى تأتيني, فلذلك {كان صادق الوعد} وقال سفيان الثوري: يلغني أنه أقام في ذلك المكان ينتظره حولاً حتى جاءه وقال ابن شوذب: بلغني أنه اتخذ ذلك الموضع مسكناً.
    وقد روى أبو داود في سننه, وأبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي في كتابه مكارم الأخلاق, من طريق إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة عن عبد الكريم يعني ابن عبد الله بن شقيق, عن أبيه عن عبد الله بن أبي الحمساء, قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث, فبقيت له علي بقية, فوعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك, قال: فنسيت يومي والغد, فأتيته في اليوم الثالث وهو في مكانه ذلك, فقال لي: «يا فتى لقد شققت عليّ, أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك» لفظ الخرائطي وساق آثاراً حسنة في ذلك, ورواه ابن منده أبو عبد الله في كتاب معرفة الصحابة بإسناده عن إبراهيم بن طهمان, عن بديل بن ميسرة عن عبد الكريم به.
    وقال بعضهم: إنما قيل له: {صادق الوعد} لأنه قال لأبيه: {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} فصدق في ذلك, فصدق الوعد من الصفات الحميدة كما أن خلفه من الصفات الذميمة, قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا أؤتمن خان» ولما كانت هذه صفات المنافقين, كان التلبس بضدها من صفات المؤمنين, ولهذا أثنى الله على عبده ورسوله إسماعيل بصدق الوعد, وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق الوعد أيضاً لا يعد أحداً شيئاً إلا وفى له به, وقد أثنى على أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب, فقال: «حدثني فصدقني, ووعدني فوفى لي» ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم قال الخليفة أبو بكر الصديق من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أو دين فليأتني أنجز له, فجاء جابر بن عبد الله فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو قد جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا» يعني ملء كفيه, فلما جاء مال البحرين أمر الصديق جابراً فغرف بيديه من المال, ثم أمره بعده فإذا هو خمسمائة درهم فأعطاه مثليها معها.
    ** أُولَـَئِكَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مّنَ النّبِيّيْنَ مِن ذُرّيّةِ ءادَمَ وَمِمّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرّيّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَآ إِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرّحْمَـَنِ خَرّواْ سُجّداً وَبُكِيّاً
    يقول تعالى: هؤلاء النبيون ـ وليس المراد المذكورين في هذه السورة فقط بل جنس الأنبياء عليهم السلام استطرد من ذكر الأشخاص إلى الجنس ـ {الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم} الاَية, قال السدي وابن جرير رحمه الله. فالذي عنى به من ذرية آدم إدريس, والذي عنى به من ذرية من حملنا مع نوح إبراهيم والذي عنى به من ذرية إبراهيم إسحاق ويعقوب وإسماعيل, والذي عنى به من ذرية إسرائيل موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم, قال ابن جرير: ولذلك فرق أنسابهم وإن كان يجمع جميعهم آدم, لأن فيهم من ليس من ولد من كان مع نوح في السفينة وهو إدريس, فإنه جد نوح (قلت) هذا هو الأظهر أن إدريس في عمود نسب نوح عليهما السلام, وقد قيل إنه من أنبياء بني إسرائيل أخذ من حديث الإسراء, حيث قال في سلامه على النبي صلى الله عليه وسلم: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح, ولم يقل والولد الصالح, كما قال آدم وإبراهيم عليهما السلام.


    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 10:40

    وروى ابن أبي حاتم: حدثنا يونس, أنبأنا ابن وهب, أخبرني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن محمد أن إدريس أقدم من نوح, فبعثه الله إلى قومه فأمرهم أن يقولوا لا إله إلا الله, ويعملوا ما شاؤوا, فأبوا فأهلكهم الله عز وجل, ومما يؤيد أن المراد بهذه الاَية جنس الأنبياء أنها كقوله تعالى في سورة الأنعام: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم * ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاً فضلنا على العالمين * ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم * ـ إلى قوله ـ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} وقال سبحانه وتعالى: {منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك}. وفي صحيح البخاري عن مجاهد أنه سأل ابن عباس: أفي {ص} سجدة ؟ فقال: نعم, ثم تلا هذه الاَية: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} فنبيكم ممن أمر أن يقتدي بهم, قال: وهو منهم, يعني داود. وقال الله تعالى في هذه الاَية الكريمة: {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً} أي إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه, سجدوا لربهم خضوعاً واستكانة وحمداً وشكراً على ما هم فيه من النعم العظيمة, والبكي جمع باك, فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود ههنا اقتداء بهم واتباعاً لمنوالهم. قال سفيان الثوري عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر قال: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سورة مريم, فسجد وقال: هذا السجود فأين البكي ؟ يريد البكاء, رواه ابن أبي حاتم وابن جرير, وسقط من رواته ذكر أبي معمر فيما رأيت, فالله أعلم.** جَنّاتِ عَدْنٍ الّتِي وَعَدَ الرّحْمَـَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً * لاّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاّ سَلاَماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً * تِلْكَ الْجَنّةُ الّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً
    يقول تعالى: الجنات التي يدخلها التائبون من ذنوبهم هي جنات عدن, أي إقامة التي وعد الرحمن عباده بظهر الغيب, أي هي من الغيب الذي يؤمنون به وما رأوه, وذلك لشدة إيقانهم وقوة إيمانهم. وقوله: {إنه كا وعده مأتياً} تأكيد لحصول ذلك وثبوته واستقراره, فإن الله لا يخلف الميعاد ولا يبدله, كقوله: {كان وعده مفعولاً} أي كائناً لا محالة, وقوله ههنا: {مأتياً} أي العباد صائرون إليه وسيأتونه, ومنهم من قال {مأتياً} بمعنى آتياً, لأن كل ما أتاك فقد أتيته, كما تقول العرب: أتت علي خمسون سنة, وأتيت على خمسين سنة, كلاهما بمعنى واحد.
    وقوله: {لا يسمعون فيها لغواً} أي هذه الجنات ليس فيها كلام ساقط تافه لا معنى له كما قد يوجد في الدنيا. وقوله: {إلا سلاماً} استثناء منقطع كقوله: {لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماً} وقوله: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً} أي في مثل وقت البكرات ووقت العشيات لا أن هناك ليلاً ونهاراً, ولكنهم في أوقات تتعاقب يعرفون مضيها بأضواء وأنوار, كما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن همام عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصقون فيها, ولا يتمخطون فيها. ولايتغوطون, آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة ومجامرهم الألوّة ورشحهم المسك ولكل واحد منهم زوجتان, يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن, لا اختلاف بينهم ولا تباغض, قلوبهم على قلب رجل واحد, يسبحون الله بكرة وعشيا» أخرجاه في الصحيحين من حديث معمر به.
    ** قُلْ مَن كَانَ فِي الضّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرّحْمَـَنُ مَدّاً حَتّىَ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمّا العَذَابَ وَإِمّا السّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرّ مّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً
    يقول تعالى: {قل} يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم المدعين أنهم على حق وأنكم على باطل: {من كان في الضلالة} أي منا ومنكم {فليمدد له الرحمن مداً} أي فأمهله الرحمن فيما هو فيه حتى يلقى ربه وينقضي أجله {حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب} يصيبه {وإما الساعة} بغتة تأتيه {فسيعلمون} حينئذ {من هو شر مكاناً وأضعف جنداً} في مقابلة ما احتجوا به من خيرية المقام وحسن الندى. قال مجاهد في قوله: {فيلمدد له الرحمن مداً} فليدعه الله في طغيانه, وهكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير رحمه الله وهذه مباهلة للمشركين الذين يزعمون أنهم على هدى فيما هم فيه, كما ذكر تعالى مباهلة اليهود في قوله: {يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} أي ادعوا بالموت على المبطل منا أو منكم إن كنتم تدعون أنكم على الحق, فإنه لا يضركم الدعاء, فنكلوا عن ذلك, وقد تقدم تقرير ذلك في سورة البقرة مبسوطاً, ولله الحمد, وكما ذكر تعالى المباهلة مع النصارى في سورة آل عمران حين صمموا على الكفر واستمروا على الطغيان والغلو في دعواهم أن عيسى ولد الله, وقد ذكر الله حججه وبراهينه على عبودية عيسى, وأنه مخلوق كآدم, قال تعالى بعد ذلك: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} فنكلوا أيضاً عن ذلك.


    ** وَيَزِيدُ اللّهُ الّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مّرَدّاً
    لما ذكر تعالى إمداد من هو في الضلالة فيما هو فيه وزيادته على ما هو عليه, أخبر بزيادة المهتدين هدى, كما قال تعالى: {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً} الاَيتين. وقوله: {والباقيات الصالحات} قد تقدم تفسيرها والكلام عليها وإيراد الأحاديث المتعلقة بها في سورة الكهف {خير عند ربك ثواباً} أي جزاء {وخير مرداً} أي عاقبة ومرداً على صاحبها. وقال عبد الرزاق: أخبرنا عمر بن راشد عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأخذ عوداً يابساً فحط ورقه, ثم قال: «إن قول لا إله إلا الله, والله أكبر, وسبحان الله, والحمد لله, تحط الخطايا كما تحط ورق هذه الشجرة الريح, خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن, هن الباقيات الصالحات, وهن من كنوز الجنة» قال أبو سلمة: فكان أبو الدرداء إذا ذكر هذا الحديث قال: لأهللن الله, ولأكبرن الله, ولأسبحن الله, حتى إذا رآني الجاهل حسب أني مجنون, وهذا ظاهره أنه مرسل, ولكن قد يكون من رواية أبي سلمة عن أبي الدرداء, والله أعلم, وهكذا وقع في سنن ابن ماجه من حديث أبي معاوية عن عمر بن راشد عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي الدرداء, فذكر نحوه.
    ** يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتّقِينَ إِلَى الرّحْمَـَنِ وَفْداً * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَىَ جَهَنّمَ وِرْداً * لاّ يَمْلِكُونَ الشّفَاعَةَ إِلاّ مَنِ اتّخَذَ عِندَ الرّحْمَـَنِ عَهْداً
    يخبر تعالى عن أوليائه المتقين الذين خافوه في الدار الدنيا, واتبعوا رسله وصدقوهم فيما أخبروهم, وأطاعوهم فيما أمروهم به, وانتهوا عما عنه زجروهم, أنه يحشرهم يوم القيامة وفداً إليه, والوفد هم القادمون ركباناً, ومنه الوفود وركوبهم على نجائب من نور من مراكب الدار الاَخرة. وهم قادمون على خير موفود إليه إلى دار كرامته ورضوانه, وأما المجرمون المكذبون للرسل المخالفون لهم, فإنهم يساقون عنفاً إلى النار {ورداً} عطاشاً, قاله عطاء وابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد, وههنا يقال: {أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً}.
    وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا ابن خالد عن عمرو بن قيس الملائي عن ابن مرزوق {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً} قال: يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها وأطيبها ريحاً, فيقول: من أنت ؟ فيقول أما تعرفني ؟ فيقول: لا, إلا أن الله قد طيب ريحك وحسن وجهك, فيقول: أنا عملك الصالح, هكذا كنت في الدنيا حسن العمل طيبه, فطالما ركبتك في الدنيا فهلم اركبني فيركبه, فذلك قوله: {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً} وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً} قال: ركبانا.
    وقال ابن جرير: حدثني ابن المثنى, حدثنا ابن مهدي عن شعبة عن إسماعيل عن رجل عن أبي هريرة {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً} قال: على الإبل. وقال ابن جريج: على النجائب. وقال الثوري: على الإبل النوق. وقال قتادة {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً} قال: إلى الجنة. وقال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه: حدثنا سويد بن سعيد, أخبرنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق, حدثنا النعمان بن سعد, قال: كنا جلوساً عند علي رضي الله عنه, فقرأ هذه الاَية: {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً} قال: لا والله ما على أرجلهم يحشرون ولا يحشر الوفد على أرجلهم, ولكن بنوق لم ير الخلائق مثلها, عليها رحائل من ذهب, فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة, وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث عبد الرحمن بن إسحاق المدني به. وزاد عليها رحائل من ذهب وأزمتها ال***جد والباقي مثله.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 10:53

    ** وَقَالُواْ اتّخَذَ الرّحْمَـَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السّمَاوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقّ الأرْضُ وَتَخِرّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرّحْمَـَنِ وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي لِلرّحْمَـَنِ أَن يَتّخِذَ وَلَداً * إِن كُلّ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلاّ آتِي الرّحْمَـَنِ عَبْداً * لّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدّهُمْ عَدّاً * وَكُلّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً
    لما قرر تعالى في هذه السورة الشريفة عبودية عيسى عليه السلام وذكر خلقه من مريم بلا أب, شرع في مقام الإنكار على من زعم أن له ولداً, تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علواً كبيراً, فقال: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم} أي في قولكم هذا {شيئا إداً} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومالك: أي عظيماً. ويقال إداً بكسر الهمزة وفتحها, ومع مدها أيضاً ثلاث لغات أشهرها الأولى وقوله: {تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً أن دعوا للرحمن ولداً} أي يكاد ذلك عند سماعهن هذه المقالة من فجرة بني آدم إعظاماً للرب وإجلالاً, لأنهم مخلوقات ومؤسسات على توحيده, وأنه لا إله إلا هو, وأنه لا شريك له ولا نظير له, ولا ولد له, ولا صاحبة له, ولا كفء له, بل هو الأحد الصمد.
    ** إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمَـَنُ وُدّاً * فَإِنّمَا يَسّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشّرَ بِهِ الْمُتّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لّدّاً * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً
    يخبر تعالى أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات, وهي الأعمال التي ترضي الله عز وجل لمتابعتها الشريعة المحمدية ـ يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة, وهذا أمر لا بد منه ولا محيد عنه, وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير وجه. قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا أبو عوانة, حدثنا سهيل عن أبيه, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل, فقال: يا جبريل, إني أحب فلاناً فأحبه قال فيحبه جبريل, قال: ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه, قال: فيحبه أهل السماء, ثم يوضع له القبول في الأرض, وإن الله إذا أبغض عبداً دعا جبريل فقال: يا جبريل إني أبغض فلاناً فأبغضه, قال: فيبغضه جبريل, ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه, قال: فيبغضه أهل السماء, ثم يوضع له البغضاء في الأرض». ورواه مسلم من حديث سهيل, ورواه أحمد والبخاري من حديث ابن جريج عن موسى بن عقبة, عن نافع مولى ابن عمر, عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
    وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكر, حدثنا ميمون أبو محمد المرائي, حدثنا محمد بن عباد المخزومي عن ثوبان رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد ليلتمس مرضاة الله عز وجل, فلا يزال كذلك فيقول الله عز وجل لجبريل: إن فلاناً عبدي يلتمس أن يرضيني, ألا وإن رحمتي عليه, فيقول جبريل: رحمة الله على فلان, ويقولها حملة العرش, ويقولها من حولهم حتى يقولها أهل السموات السبع, ثم يهبط إلى الأرض» غريب. ولم يخرجوه من هذا الوجه.
    وقال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر, حدثنا شريك عن محمد بن سعد الواسطي عن أبي ظبية, عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن المقة من الله ـ قال شريك: هي المحبة ـ والصيت في السماء, فإذا أحب الله عبداً قال لجبريل عليه السلام: إني أحب فلاناً, فينادي جبريل: إن ربكم يمق ـ يعني يحب ـ فلاناً فأحبوه ـ أرى شريكاً قد قال: فتنزل له المحبة في الأرض ـ وإذا أبغض عبداً قال لجبريل: إني أبغض فلاناً فأبغضه, قال: فينادي جبريل: إن ربكم يبغض فلاناً فأبغضوه ـ أرى شريكاً قال ـ: فيجري له البغض في الأرض» غريب, ولم يخرجوه.
    قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو داود الحفري, حدثنا عبد العزيز ـ يعني ابن محمد ـ وهو الدراوردي عن سهيل بن أبي صالح, عن أبيه, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: إني قد أحببت فلاناً فأحبه, فينادي في السماء, ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض, فذلك قول الله عز وجل: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً}, رواه مسلم والترمذي, كلاهما عن عبد الله عن قتيبة, عن الدراوردي به. وقال الترمذي: حسن صحيح.
    وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {سيجعل لهم الرحمن وداً} قال: حباً, وقال مجاهد عنه: {سيجعل لهم الرحمن وداً}, قال: محبة في الناس في الدنيا, وقال سعيد بن جبير عنه, يحبهم ويحببهم, يعني إلى خلقه المؤمنين, كما قال مجاهد أيضاً والضحاك وغيرهم. وقال العوفي عن ابن عباس أيضاً: الود من المسلمين في الدنيا والرزق الحسن واللسان الصادق. وقال قتادة {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً} إيْ والله في قلوب أهل الإيمان, وذكر لنا أن هرم بن حيان كان يقول: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم وقال قتادة: وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: ما من عبد يعمل خيراً أو شراً إلا كساه الله عز وجل رداء عمله.
    وقال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن الربيع بن صبيح عن الحسن البصري رحمه الله قال: قال رجل: والله لأعبدن الله عبادة أذكر بها, فكان لا يرى في حين صلاة إلا قائماً يصلي, وكان أول داخل إلى المسجد وآخر خارج, فكان لا يعظم, فمكث بذلك سبعة أشهر, وكان لا يمر على قوم إلا قالوا: انظروا إلى هذا المرائي, فأقبل على نفسه فقال: لا أراني أذكر إلا بشر, لأجعلن عملي كله لله عز وجل, فلم يزد على أن قلب نيته, ولم يزد على العمل الذي كان يعمله, فكان يمر بعد بالقوم فيقولون: رحم الله فلاناً الاَن, وتلا الحسن {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً} وقد روى ابن جرير أن هذه الاَية نزلت في هجرة عبد الرحمن بن عوف, وهو خطأ, فإن هذه السورة بكمالها مكية لم ينزل منها شيء بعد الهجرة, ولم يصح سند ذلك, والله أعلم.
    وقوله: {فإنما يسرناه} يعني القرآن {بلسانك} أي يا محمد وهو اللسان العربي المبين الفصيح الكامل {لتبشر به المتقين} أي المستجيبين لله, المصدقين لرسوله, {وتنذر به قوماً لداً} أي عوجاً عن الحق مائلين إلى الباطل وقال ابن أبي نجيج عن مجاهد {قوماً لداً} لا يستقيمون وقال الثوري عن إسماعيل وهو السدي عن أبي صالح {وتنذر به قوماً لداً} عوجاً عن الحق, وقال الضحاك: الألد الخصم. وقال القرظي: الألد الكذاب. وقال الحسن البصري {قوماً لداً} صماً, وقال غيره: صم آذان القلوب. وقال قتادة: قوماً لداً يعني قريشاً وقال العوفي عن ابن عباس {قوماً لداً} فجاراً, وكذا روى ليث بن أبي سليم عن مجاهد.
    وقال ابن زيد: الألد الظلوم, وقرأ قوله تعالى: {وهو ألد الخصام}. وقوله: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن} أي من أمة كفروا بآيات الله وكذبوا رسله {هل تُحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً} أي هل ترى منهم أحداً أو تسمع لهم ركزاً. وقال ابن عباس وأبو العالية وعكرمة والحسن البصري وسعيد بن جبير والضحاك وابن زيد: يعني صوتاً, وقال الحسن وقتادة: هل ترى عيناً أو تسمع صوتاً, والركز في أصل اللغة هو الصوت الخفي.
    قال الشاعر:
    فتوجست ركز الأنيس فراعهاعن ظهر غيب والأنيس سقامها
    آخر تفسير سورة مريم ولله الحمد والمنة ويتلوه إن شاء الله تفسير سورة طه والحمد لله.

    تمت سورة مريم

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 10:57

    سورة طه

    وهي مكية
    روى إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب التوحيد عن زياد بن أيوب عن إبراهيم بن المنذر الحزامي: حدثنا إبراهيم بن مهاجر بن مسمار عن عمر بن حفص بن ذكوان عن مولى الحرقة ـ يعني عبد الرحمن بن يعقوب ـ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قرأ طه ويس قبل أن يخلق آدم بألف عام, فلما سمعت الملائكة قالوا: طوبى لأمة ينزل عليهم هذا, وطوبى لأجواف تحمل هذا, وطوبى لألسن تتكلم بهذا» هذا حديث غريب وفيه نكارة, وإبراهيم بن مهاجر وشيخه تكلم فيهما.

    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** طه * مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىَ * إِلاّ تَذْكِرَةً لّمَن يَخْشَىَ * تَنزِيلاً مّمّنْ خَلَق الأرْضَ وَالسّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرّحْمَـَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىَ * لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثّرَىَ * وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنّهُ يَعْلَمُ السّرّ وَأَخْفَى * اللّهُ لآ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ لَهُ الأسْمَآءُ الْحُسْنَىَ
    قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسين بن محمد بن شيبة الواسطي, حدثنا أبو أحمد ـ يعني الزبيري ـ أنبأنا إسرائيل عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: طه يا رجل, وهكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء ومحمد بن كعب وأبي مالك وعطية العوفي والحسن وقتادة والضحاك والسدي وابن أبزى أنهم قالوا: طه بمعنى يا رجل.. وفي رواية عن ابن عباس وسعيد بن جبير والثوري أنها كلمة بالنبطية معناها يا رجل. وقال أبو صالح: هي معربة.
    وأسند القاضي عياض في كتابه الشفاء من طريق عبد بن حميد في تفسيره: حدثنا هاشم بن القاسم عن ابن جعفر عن الربيع بن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى, فأنزل الله تعالى: {طه} يعني: طأ الأرض يا محمد {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} ثم قال: ولا يخفى بما في هذا الإكرام وحسن المعاملة وقوله: {ما أنزلنا عليم القرآن لتشقى} قال جويبر عن الضحاك: لما أنزل الله القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم قام به هو وأصحابه, فقال المشركون من قريش: ما أنزل هذا القرآن على محمد إلا ليشقى, فأنزل الله تعالى: {طه ما أنزلنا عليك القرآن لتقشى إلا تذكرة لمن يخشى} فليس الأمر كما زعمه المبطلون, بل من آتاه الله العلم فقد أراد به خيراً كثيراً, كما ثبت في الصحيحين عن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين».
    وما أحسن الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في ذلك حيث قال: حدثنا أحمد بن زهير, حدثنا العلاء بن سالم, حدثنا إبراهيم الطالقاني, حدثنا ابن المبارك عن سفيان عن سماك بن حرب, عن ثعلبة بن الحكم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى للعلماء يوم القيامة إذا قعد على كرسيه لقضاء عباده: إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي» إسناده جيد, وثعلبة بن الحكم هذا هو الليثي, ذكره أبو عمر في استيعابه, وقال: نزل البصرة ثم تحول إلى الكوفة, وروى عنه سماك بن حرب.
    وقال مجاهد في قوله: {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} هي كقوله: {فاقرءوا ما تيسر منه} وكانوا يعلقون الحبال بصدورهم في الصلاة. وقال قتادة: {ما أنزلنا عليك القرآن لتقشى} لا والله ما جعله شقاء, ولكن جعله رحمة ونوراً ودليلاً إلى الجنة {إلا تذكرة لمن يخشى} إن الله أنزل كتابه وبعث رسوله رحمة رحم بها عباده ليتذكر ذاكر, وينتفع رجل بما سمع من كتاب الله وهو ذكر أنزل الله فيه حلاله وحرامه.
    وقوله: {تنزيلاً ممن خلق الأرض والسموات العلى} أي هذا القرآن الذي جاءك يا محمد هو تنزيل من ربك, رب كل شيء ومليكه القادر على ما يشاء, الذي خلق الأرض بانخفاضها وكثافتها, وخلق السموات العلى في ارتفاعها ولطافتها, وقد جاء في الحديث الذي صححه الترمذي وغيره أن سمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام, وبعد ما بينها والتي تليها مسيرة خمسمائة عام, وقد أورد ابن أبي حاتم ههنا حديث الأوعال من رواية العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه. وقوله: {الرحمن على العرش استوى} تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته أيضاً, وأن المسلك الأسلم في ذلك طريقة السلف إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسنة من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل.
    وقوله: {له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى} أي الجميع ملكه, وفي قبضته, وتحت تصرفه ومشيئته وإرادته وحكمه, وهو خالق ذلك ومالكه وإلهه لا إله سواه ولا رب غيره. وقوله: {وما تحت الثرى} قال محمد بن كعب: أي ما تحت الأرض السابعة. وقال الأوزاعي: إن يحيى بن أبي كثير حدثه أن كعباً سئل فقيل له: ما تحت هذه الأرض ؟ فقال: الماء. قيل: وما تحت الماء ؟ قال: الأرض. قيل: وما تحت الأرض ؟ قال: الماء قيل: وما تحت الماء ؟ قال: الأرض. قيل: وما تحت الأرض ؟ قال: الماء, قيل: وما تحت الماء ؟ قال: الأرض, قيل: وما تحت الأرض ؟ قال: الماء, قيل: وما تحت الماء ؟ قال: الأرض, قيل: وما تحت الأرض ؟ قال: الصخرة, قيل: وما تحت الصخرة ؟ قال: ملك, قيل: وما تحت الملك ؟ قال: حوت معلق طرفاه بالعرش, قيل: وما تحت الحوت ؟ قال: الهواء والظلمة وانقطع العلم.
    وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبيد الله بن أخي بن وهب, حدثنا عمي, حدثنا عبد الله بن عياش, حدثنا عبد الله بن سليمان عن دراج عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الأرضين بين كل أرض والتي تليها مسيرة خمسمائة عام, والعليا منها على ظهر حوت قد التقى طرفاه في السماء, والحوت على صخرة, والصخرة بيد الملك, والثانية سجن الريح, والثالثة فيها حجارة جهنم, والرابعة فيها كبريت جهنم, والخامسة فيها حيات جهنم, والسادسة فيها عقارب جهنم, والسابعة فيها سقر وفيها إبليس مصفد بالحديد يد أمامه ويد خلفه, فإذا أراد الله أن يطلقه لما يشاء أطلقه» وهذا حديث غريب جداً, ورفعه فيه نظر.
    وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا أبو موسى الهروي عن العباس بن الفضل قال: قلت ابن الفضل الأنصاري ؟ قال: نعم, عن القاسم بن عبد الرحمن عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, فأقبلنا راجعين في حر شديد, فنحن متفرقون بين واحد واثنين منتشرين, قال وكنت في أول العسكر إذا عارضنا رجل فسلم, ثم قال: أيكم محمد ؟ ومضى أصحابي ووقفت معه, فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقبل في وسط العسكر على جمل أحمر مقنع بثوبه على رأسه من الشمس, فقلت: أيها السائل هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتاك, فقال: أيهم هو ؟ فقلت: صاحب البكر الأحمر, فدنا منه فأخذ بخطام راحلته, فكف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنت محمد ؟ قال: «نعم». قال: إني أريد أن أسألك عن خصال لا يعلمهن أحد من أهل الأرض إلا رجل أو رجلان ؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم «سل عما شئت» قال: يا محمد أينام النبي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تنام عيناه ولا ينام قلبه» قال: صدقت ثم قال: يا محمد من أين يشبه الولد أباه وأمه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ماء الرجل أبيض غليظ, وماء المرأة أصفر رقيق, فأي الماءين غلب على الاَخر نزع الولد» فقال: صدقت, فقال: ما للرجل من الولد, وما للمرأة منه ؟ فقال «للرجل العظام والعروق والعصب, وللمرأة اللحم والدم والشعر» قال: صدقت, ثم قال: يا محمد ما تحت هذه ؟ ـ يعني الأرض ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلق» فقال: فما تحتهم ؟ قال «أرض». قال: فما تحت الأرض ؟ قال: «الماء». قال: فما تحت الماء ؟ قال: «ظلمة». قال: فما تحت الظلمة ؟ قال: «الهواء». قال: فما تحت الهواء ؟ قال: «الثرى». قال: فما تحت الثرى ؟ ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء, وقال: «انقطع علم الخلق عند علم الخالق, أيها السائل ما المسؤول عنها بأعلم من السائل». قال: فقال صدقت, أشهد أنك رسول الله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس هل تدرون من هذا ؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال «هذا جبريل عليه السلام». هذا حديث غريب جداً, وسياق عجيب, تفرد به القاسم بن عبد الرحمن هذا, وقد قال فيه يحيى بن معين: ليس يساوي شيئاً, وضعفه أبو حاتم الرازي, وقال ابن عدي: لا يعرف. قلت: وقد خلط في هذا الحديث, ودخل عليه شيء في شيء وحديث في حديث, وقد يحتمل أنه تعمد ذلك أو أدخل عليه فيه, والله أعلم.
    وقوله: {وإن تجهز بالقول فإنه يعلم السر وأخفى} أي أنزل هذا القرآن الذي خلق الأرض والسموات العلى الذي يعلم السر وأخفى, كما قال تعالى: {قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفوراً رحيماً} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {يعلم السر وأخفى} قال: السر ما أسره ابن آدم في نفسه {وأخفى} ما أخفي على ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعلمه, فالله يعلم ذلك كله, فعلمه فيما مضى من ذلك وما بقي علم واحد, وجميع الخلائق في ذلك عنده كنفس واحدة, وهو قوله: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} وقال الضحاك {يعلم السر وأخفى} قال: السر ما تحدث به نفسك, وأخفى ما لم تحدث به نفسك بعد.
    وقال سعيد بن جبير: أنت تعلم ما تسر اليوم ولا تعلم ما تسر غداً, والله يعلم ما تسر اليوم وما تسر غداً, وقال مجاهد {وأخفى} يعني الوسوسة, وقال أيضاً هو وسعيد بن جبير {وأخفى} أي ما هو عالمه مما لم يحدث به نفسه. وقوله: {الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى} أي الذي أنزل عليك القرآن, هو الله الذي لا إله إلا هو ذو الأسماء الحسنى والصفات العلى, وقد تقدم بيان الأحاديث الواردة في الأسماء الحسنى في أواخر سورة الأعراف ولله الحمد والمنة.


    ** وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىَ * إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوَاْ إِنّيَ آنَسْتُ نَاراً لّعَلّيَ آتِيكُمْ مّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النّارِ هُدًى
    من هنا شرع تبارك وتعالى في ذكر قصة موسى, وكيف كان ابتداء الوحي إليه وتكليمه إياه, وذلك بعد ما قضى موسى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم, وسار بأهله قيل: قاصداً بلاد مصر بعد ما طالت الغيبة عنها أكثر من عشر سنين, ومعه زوجته, فأضل الطريق وكانت ليلة شاتية, ونزل منزلاً بين شعاب وجبال في برد وشتاء وسحاب وظلام وضباب, وجعل يقدح بزند معه ليوري ناراً كما جرت له العادة به, فجعل لا يقدح شيئاً ولا يخرج منه شرر ولا شيء, فينما هو كذلك إذ آنس من جانب الطور ناراً, أي ظهرت له نار من جانب الجبل الذي هناك عن يمينه, فقال لأهله يبشرهم: {إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس} أي شهاب من نار. وفي الاَية الأخرى {أو جذوة من النار} وهي الجمر الذي معه لهب {لعلكم تصطلون} دل على وجود البرد.
    وقوله: {بقبس} دل على وجود الظلام, وقوله: {أو أجد على النار هدى} أي من يهديني الطريق, دل على أنه قد تاه عن الطريق, كما قال الثوري عن أبي سعيد الأعور عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {أو أجد على النار هدى} قال: من يهديني إلى الطريق, وكانوا شاتين وضلوا الطريق, فلما رأى النار قال: إن لم أجد أحداً يهديني إلى الطريق أتيتكم بنار توقدون بها


    يتبع


    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 11:01

    ** الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّن نّبَاتٍ شَتّىَ * كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لاُوْلِي النّهَىَ * مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىَ * وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلّهَا فَكَذّبَ وَأَبَىَ
    من تمام كلام موسى فيما وصف به ربه عز وجل حين سأله فرعون عنه, فقال: {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} ثم اعترض الكلام بين ذلك, ثم قال: {الذي جعل لكم الأرض مهداً} وفي قراءة بعضهم مهاداً أي قراراً تستقرون عليها, وتقومون وتنامون عليها, وتسافرون على ظهرها {وسلك لكم فيها سبلاً} أي جعل لكم طرقاً تمشون في مناكبها كما قال تعالى: {وجعلنا فيها فجاجاً سبلاً لعلهم يهتدون} {وأنزل من السماء ماءً فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى} أي من أنواع النباتات من زروع وثمار, ومن حامض وحلو ومر وسائر الأنواع {كلوا وارعوا أنعامكم} أي شيء لطعامكم وفاكهتكم, وشيء لأنعامكم لأقواتها خضراً ويبساً {إن في ذلك لاَيات} أي لدلالات وحججاً وبراهين {لأولي النهى} أي لذوي العقول السليمة المستقيمة, على أنه لا إله إلا الله ولا رب سواه {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} أي من الأرض مبدؤكم, فإن أباكم آدم مخلوق من تراب من أديم الأرض وفيها نعيدكم أي وإليها تصيرون إذا متم وبليتم, ومنها نخرجكم تارة أخرى {يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا} وهذه الاَية كقوله تعالى: {قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون} وفي الحديث الذي في السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر جنازة, فلما دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر وقال: منها خلقناكم, ثم أخذ أخرى, وقال: وفيها نعيدكم, ثم أخرى, وقال: ومنها نخرجكم تارة أخرى. وقوله: {ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى} يعني فرعون أنه قامت عليه الحجج والاَيات والدلالات, وعاين ذلك وأبصره فكذب بها وأباها كفراً وعناداً وبغياً, كما قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً} الاَية.
    ** قَالُواْ يَمُوسَىَ إِمّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمّآ أَن نّكُونَ أَوّلَ مَنْ أَلْقَىَ * قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيّهُمْ يُخَيّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنّهَا تَسْعَىَ * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مّوسَىَ * قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنّكَ أَنتَ الأعْلَىَ * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوَاْ إِنّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السّاحِرُ حَيْثُ أَتَىَ * فَأُلْقِيَ السّحَرَةُ سُجّداً قَالُوَاْ آمَنّا بِرَبّ هَارُونَ وَمُوسَىَ
    يقول تعالى مخبراً عن السحرة حين توافقوا هم وموسى عليه السلام, أنهم قالوا لموسى {إما أن تلقي} أي أنت أولاً {وإما أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا} أي أنتم أولاً لنرى ماذا تصنعون من السحر, وليظهر للناس جلية أمرهم {فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} وفي الاَية الأخرى أنهم لما ألقوا {قالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون} وقال تعالى: {سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم} وقال ههنا: {فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} وذلك أنهم أودعوها من الزئبق ما كانت تتحرك بسببه وتضطرب وتميد, بحيث يخيل للناظر أنها تسعى باختيارها, وإنما كان حيلة, وكانوا جماً غفيراً وجمعاً كثيراً, فألقى كل منهم عصاً وحبلاً حتى صار الوادي ملاَن حيات يركب بعضها بعضاً.
    وقوله: {فأوجس في نفسه خيفة موسى} أي خاف على الناس أن يفتنوا بسحرهم ويغتروا بهم قبل أن يلقي ما في يمينه, فأوحى الله تعالى إليه في الساعة الراهنة أن ألقِ ما في يمينك يعني عصاك, فإذا هي تلقف ما صنعوا وذلك أنها صارت تنيناً عظيماً هائلاً ذا قوائم وعنق ورأس وأضراس, فجعلت تتبع تلك الحبال والعصي حتى لم تبق منها شيئاً إلا تلقفته وابتلعته, والسحرة والناس ينظرون إلى ذلك عياناً جهرة نهاراً ضحوة, فقامت المعجزة واتضح البرهان, ووقع الحق وبطل السحر, ولهذا قال تعال: {إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى} وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن موسى الشيباني حدثنا حماد بن خالد حدثنا ابن معاذ أحسبه الصائغ عن الحسن عن جندب عن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أخذتم يعني الساحر فاقتلوه ثم قرأ {ولا يفلح الساحر حيث أتى} قال: لا يؤمن به حيث وجد» وقد روى أصله الترمذي موقوفاً ومرفوعاً. فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوه, ولهم خبرة بفنون السحر وطرقه ووجوهه علموا علم اليقين أن هذا الذي فعله موسى ليس من قبيل السحر والحيل, وأنه حق لا مرية فيه, ولا يقدر على هذا إلا الذي يقول للشيء كن فيكون, فعند ذلك وقعوا سجداً لله, وقالوا: آمنا برب العالمين رب موسى وهارون, ولهذا قال ابن عباس وعبيد بن عمير: كانوا أول النهار سحرة, وفي آخر النهار شهداء بررة. وقال محمد بن كعب: كانوا ثمانين ألفاً, وقال القاسم بن أبي بزة: كانوا سبعين ألفاً, وقال السدي: بضعة وثلاثين ألفاً, وقال الثوري عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي ثمامة: كان سحرة فرعون تسعة عشر ألفاً, وقال محمد بن إسحاق: كانوا خمسة عشر ألفاً, وقال كعب الأحبار: كانوا اثني عشر ألفاً.
    ** إِنّهُ مَن يَأْتِ رَبّهُ مُجْرِماً فَإِنّ لَهُ جَهَنّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىَ * وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصّالِحَاتِ فَأُوْلَـَئِكَ لَهُمُ الدّرَجَاتُ الْعُلَىَ * جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكّىَ الظاهر من السياق أن هذا من تمام ما وعظ به السحرة لفرعون, يحذرونه من نقمة الله وعذابه الدائم السرمدي, ويرغبونه في ثوابه الأبدي المخلد, فقالوا: {إنه من يأت ربه مجرماً} أي يلقى الله يوم القيامة وهو مجرم {فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى} كقوله: {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور} وقال: {ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيى} وقال تعالى: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون} وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا إسماعيل, أخبرنا سعيد بن يزيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أهل النار الذين هم أهلها, فإنهم لا يموتمون فيها ولا يحيون, ولكن أناس تصيبهم النار بذنوبهم فتميتهم إماتة حتى إذا صاروا فحماً أذن في الشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر, فبثوا على أنهار الجنة, فيقال: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم, فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل» فقال رجل من القوم: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالبادية, وهكذا أخرجه مسلم في كتابه الصحيح من رواية شعبة وبشر بن المفضل, كلاهما عن أبي سلمة سعيد بن يزيد به.
    وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال: حدثنا أبي, حدثنا حيان, سمعت سليمان التيمي عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فأتى على هذه الاَية {إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى} قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما أهلها الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون, وأما الذين ليسوا من أهلها فإن النار تمسهم ثم يقوم الشفعاء فيشفعون, فتجعل الضبائر, فيؤتى بهم نهراً يقال له الحياة أو الحيوان, فينبتون كما ينبت العشب في حميل السيل».
    ** وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يَمُوسَىَ * قَالَ هُمْ أُوْلآءِ عَلَىَ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَىَ * قَالَ فَإِنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلّهُمُ السّامِرِيّ * فَرَجَعَ مُوسَىَ إِلَىَ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتّمْ أَن يَحِلّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رّبّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مّوْعِدِي * قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَـَكِنّا حُمّلْنَآ أَوْزَاراً مّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السّامِرِيّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَـَذَآ إِلَـَهُكُمْ وَإِلَـَهُ مُوسَىَ فَنَسِيَ * أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً
    لما سار موسى عليه السلام ببني إسرائيل بعد هلاك فرعون {فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون} وواعده ربه ثلاثين ليلة, ثم أتبعها عشراً, فتمت أربعين ليلة, أي يصومها ليلاً ونهاراً, وقد تقدم في حديث الفتون بيان ذلك, فسارع موسى عليه السلام مبادراً إلى الطور, واستخلف على بني إسرائيل أخاه هارون, ولهذا قال تعالى: {وما أعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على أثري} أي قادمون ينزلون قريباً من الطور {وعجلت إليك رب لترضى} أي لتزداد عنى رضا {قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري} أخبر تعالى نبيه موسى بما كان بعده من الحدث في بني إسرائيل وعبادتهم العجل الذي عمله لهم ذلك السامري.
    ** قَالَ يَهَرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلّوَاْ * أَلاّ تَتّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَابْنَأُمّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرّقْتَ بَيْنَ بَنِيَ إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
    يخبر تعالى عن موسى عليه السلام حين رجع إلى قومه, فرأى ما قد حدث فيهم من الأمر العظيم, فامتلأ عند ذلك غضباً وألقى ما كان في يده من الألواح الإلهية, وأخذ برأس أخيه يجره إليه, وقد قدمنا في سورة الأعراف بسط ذلك, وذكرنا هناك حديث «ليس الخبر كالمعاينة» وشرع يلوم أخاه هارون, فقال: {ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن} أي فتخبرني بهذا الأمر أول ما وقع {أفعصيت أمري} أي فيما كنت قدمت إليك, وهو قوله: {اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} {قال يا ابن أم} ترقق له بذكر الأم مع أنه شقيقه لأبويه, لأن ذكر الأم ههنا أرق وأبلغ في الحنو والعطف, ولهذا قال: {يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي} الاَية, هذا اعتذار من هارون عند موسى في سبب تأخره عنه حيث لم يلحقه فيخبره بما كان من هذا الخطب الجسيم, قال: {إني خشيت} أن أتبعك فأخبرك بهذا, فتقول لي لم تركتهم وحدهم وفرقت بينهم {ولم ترقب قولي} أي وما راعيت ما أمرتك به حيث استخلفتك فيهم, قال ابن عباس: وكان هارون هائباً مطيعاً له.


    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 11:13

    ** قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَسَامِرِيّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مّنْ أَثَرِ الرّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنّ لَكَ مَوْعِداً لّن تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَىَ إِلَـَهِكَ الّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لّنُحَرّقَنّهُ ثُمّ لَنَنسِفَنّهُ فِي الْيَمّ نَسْفاً * إِنّمَآ إِلَـَهُكُمُ اللّهُ الّذِي لآ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ وَسِعَ كُلّ شَيْءٍ عِلْماً
    يقول موسى عليه السلام للسامري: ما حملك على ما صنعت ؟ وما الذي عرض لك حتى فعلت ما فعلت ؟ قال محمد بن إسحاق عن حكيم بن جبير, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان السامري رجلاً من اهل باجرما, وكان من قوم يعبدون البقر, وكان حب عبادة البقر في نفسه, وكان قد أظهر الاسلام مع بني إسرائيل, وكان اسمه موسى بن ظفر, وفي رواية عن ابن عباس أنه كان من كرمان, وقال قتادة: كان من قرية سامرا {قال بصرت بما لم يبصروا به} أي رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون {فقبضت قبضة من أثر الرسول} أي من أثر فرسه, وهذا هو المشهور عند كثير من المفسرين أو أكثرهم.
    ** وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاّ تَرَىَ فِيهَا عِوَجاً وَلآ أَمْتاً * يَوْمَئِذٍ يَتّبِعُونَ الدّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرّحْمَـَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاّ هَمْساً

    يقول تعالى: {ويسألونك عن الجبال} أي هل تبقى يوم القيامة أو تزول ؟ {فقل ينسفها ربي نسفاً} أي يذهبها عن أماكنها ويمحقها ويسيرها تسييراً {فيذرها} أي الأرض {قاعاً صفصفاً} أي بساطاً واحداً, والقاع هو المستوي من الأرض, والصفصف تأكيد لمعنى ذلك, وقيل الذي لا نبات فيه, والأول أولى وإن كان الاَخر مراداً أيضاً باللازم, ولهذا قال: {لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً} أي لا ترى في الأرض يومئذ وادياً ولا رابية ولا مكاناً منخفضاً ولا مرتفعاً, كذا قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن البصري والضحاك وقتادة وغير واحد من السلف {يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له} أي يوم يرون هذه الأحوال والأهوال يستجيبون مسارعين إلى الداعي حيثما أمروا بادروا إليه, ولو كان هذا في الدنيا لكان أنفع لهم ولكن حيث لا ينفعهم, كما قال تعالى: {أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا} وقال: {مهطعين إلى الداع} وقال محمد بن كعب القرظي: يحشر الله الناس يوم القيامة في ظلمة, ويطوي السماء, وتتناثر النجوم, وتذهب الشمس والقمر, وينادي مناد, فيتبع الناس الصوت يؤمونه, فذلك قوله: {يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له} وقال قتادة: لا عوج له, لا يميلون عنه. وقال أبو صالح: لا عوج له أي لا عوج عنه.
    ** وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىَ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ فَسَجَدُوَاْ إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَىَ * فَقُلْنَا يَآدَمُ إِنّ هَـَذَا عَدُوّ لّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنّكُمَا مِنَ الْجَنّةِ فَتَشْقَىَ * إِنّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىَ * وَأَنّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىَ * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشّيْطَانُ قَالَ يَآدَمُ هَلْ أَدُلّكَ عَلَىَ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاّ يَبْلَىَ * فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنّةِ وَعَصَىَ ءَادَمُ رَبّهُ فَغَوَىَ * ثُمّ اجْتَبَاهُ رَبّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىَ
    قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا أسباط بن محمد, حدثنا الأعمش عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي, وكذا رواه علي بن أبي طلحة عنه. وقال مجاهد والحسن: ترك. وقوله: {وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لاَدم} يذكر تعالى تشريف آدم, وتكريمه وما فضله به على كثير ممن خلق تفضيلاً, وقد تقدم الكلام على هذه القصة في سورة البقرة وفي الأعراف وفي الحجر والكهف, وسيأتي في آخر سورة {ص} يذكر تعالى فيها خلق آدم وأمره الملائكة بالسجود له تشريفاً وتكريماً, ويبين عداوة إبليس لبني آدم ولأبيهم قديماً, ولهذا قال تعالى: {فسجدوا إلا إبليس أبى} أي امتنع واستكبر {فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك} يعني حواء عليهما السلام {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} أي إياك أن تسعى في إخراجك منها فتتعب وتعنى وتشقى في طلب رزقك, فإنك ههنا في عيش رغيد هنيء بلا كلفة ولا مشقة {إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى} إنما قرن بين الجوع والعري, لأن الجوع ذل الباطن, والعري ذل الظاهر, {وأنك لا تظمؤ فيها ولا تضحى} وهذان أيضاً متقابلان, فالظمأ حر الباطن وهو العطش, والضحى حر الظاهر.
    وقوله: {فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} قد تقدم أنه دلاهما بغرور {وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين} وقد تقدم أن الله تعالى عهد إلى آدم وزوجه أن يأكلا من كل الثمار ولا يقربا هذه الشجرة المعينة في الجنة, فلم يزل بهما إبليس حتى أكلا منها وكانت شجرة الخلد, يعني التي من أكل منها خلد ودام مكثه, وقد جاء في الحديث ذكر شجرة الخلد, فقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن أبي الضحاك, سمعت أبا هريرة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها, وهي شجرة الخلد» ورواه الإمام أحمد.
    ** وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مّن رّبّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيّنَةُ مَا فِي الصّحُفِ الاُولَىَ * وَلَوْ أَنّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبّنَا لَوْلآ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نّذِلّ وَنَخْزَىَ * قُلْ كُلّ مّتَرَبّصٌ فَتَرَبّصُواْ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصّرَاطِ السّوِيّ وَمَنِ اهْتَدَىَ
    يقول تعالى مخبراً عن الكفار في قولهم: {لولا} أي هلا يأتينا محمد بآية من ربه, أي بعلامة دالة على صدقه في أنه رسول الله ؟ قال الله تعالى: {أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى} يعني القرآن الذي أنزله عليه الله, وهو أمي لا يحسن الكتابة ولم يدارس أهل الكتاب, وقد جاء فيه أخبار الأولين بما كان منهم في سالف الدهور بما يوافقه عليه الكتب المتقدمة الصحيحة منها, فإن القرآن مهيمن عليها يصدق الصحيح ويبين خطأ المكذوب فيها وعليها, وهذه الاَية كقوله تعالى في سورة العنكبوت: {وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الاَيات عند الله وإنما أنا نذير مبين * أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من نبي إلا وقد أوتي من الاَيات ما آمن على مثله البشر, وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ, فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة» وإنما ذكر ههنا أعظم الاَيات التي أعطيها عليه السلام, وهو القرآن, وإلا فله من المعجزات ما لا يحد ولا يحصر, كما هو مودع في كتبه ومقرر في مواضعه.
    ثم قال تعالى: {ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً} أي لو أنا أهلكنا هؤلاء المكذبين قبل أن نرسل إليهم هذا الرسول الكريم وننزل عليهم هذا الكتاب العظيم, لكانوا قالوا: {ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً} قبل أن تهلكنا حتى نؤمن به ونتبعه كما قال: {فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى} يبين تعالى أن هؤلاء المكذبين متعنتون معاندون لا يؤمنون {ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} كما قال تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون ـ إلى قوله ـ بما كانوا يصدفون} وقال: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم} الاَية, وقال: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها} الاَيتين, ثم قال تعالى: {قل} أي يا محمد لمن كذبك وخالفك واستمر على كفره وعناده {كل متربص} أي منا ومنكم {فتربصوا} أي فانتظروا {فستعلمون من أصحاب الصراط السوي} أي الطريق المستقيم {ومن اهتدى} إلى الحق وسبيل الرشاد, وهذا كقوله تعالى: {وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلاً} وقال: {سيعلمون غداً من الكذاب الأشر}.
    آخر تفسير سورة طه ولله الحمد والمنة ويتلوه إن شاء الله تفسير سورة الأنبياء ولله الحمد.


    تمت صورة طه

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 11:17

    سورة الانبياء

    وهي مكية
    قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا غندر, حدثنا شعبة عن أبي اسحاق سمعت عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله قال بنو إسرائيل والكهف, ومريم, وطه, والأنبياء, هن من العتاق الأول وهن من تلادي.

    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ


    ** اقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رّبّهِمْ مّحْدَثٍ إِلاّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرّواْ النّجْوَى الّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَـَذَآ إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السّمَآءِ وَالأرْضِ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ * بَلْ قَالُوَاْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأوّلُونَ * مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ
    هذا تنبيه من الله عز وجل على اقتراب الساعة ودنوها, وأن الناس في غفلة عنها, أي لا يعملون لها ولا يستعدون من أجلها. وقال النسائي: حدثنا أحمد بن نصر, حدثنا هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي, حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم {في غفلة معرضون} قال: «في الدنيا». وقال تعالى: {اتى أمر الله فلا تستعجلوه} وقال {اقتربت الساعة وانشق القمر, وإن يروا آية يعرضوا} الاَية, وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة الحسن بن هانىء أبي نواس الشاعر أنه قال: أشعر الناس الشيخ الطاهر أبو العتاهية حيث يقول:
    الناس في غفلاتهمورحا المنية تطحن
    فقيل له: من أين أخذ هذا؟ قال من قول الله تعالى: {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون} وروى في ترجمة عامر بن ربيعة من طريق موسى بن عبيد الاَمدي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب, فأكرم عامر مثواه, وكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه الرجل فقال: إني استقطعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وادياً في العرب, وقد أردت أن اقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك, فقال عامر: لا حاجة لي في قطيعتك, نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون}.
    ثم أخبر تعالى أنهم لا يصغون إلى الوحي الذي أنزل الله على رسوله والخطاب مع قريش ومن شابههم من الكفار, فقال {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} أي جديد إنزاله {إلا استمعوه وهم يلعبون} كما قال ابن عباس: ما لكم تسألون أهل الكتاب عمابأيديهم وقد حرفوه وبدلوه وزادوا فيه ونقصوا منه, وكتابكم أحدث الكتب بالله تقرؤونه محضاً لم يشب, رواه البخاري بنحوه.
    وقوله: {وأسروا النجوى الذين ظلموا} أي قائلين فيما بينهم خفية {هل هذا إلا بشر مثلكم} يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم يستبعدون كونه نبياً لأنه بشر مثلهم, فكيف اختص بالوحي دونهم, ولهذا قال: {أفتأتون السحر وأنتم تبصرون} أي أفتتبعونه فتكونون كمن يأتي السحر وهو يعلم أنه سحر, فقال تعالى مجيباً لهم عما افتروه واختلقوه من الكذب {قال ربي يعلم القول في السماء والأرض} أي الذي يعلم ذلك لا يخفى عليه خافية, وهو الذي أنزل هذا القرآن المشتمل على خبر الأولين والاَخرين, الذي لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله إلا الذي يعلم السر في السموات والأرض. وقوله: {وهو السميع العليم} أي السميع لأقوالكم والعليم بأحوالكم, وفي هذا تهديد لهم ووعيد. وقوله: {بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه} هذا إخبار عن تعنت الكفار وإلحادهم واختلافهم فيما يصفون به القرآن, وحيرتهم فيه وضلالهم عنه, فتارة يجعلونه سحراً, وتارة يجعلونه شعراً, وتارة يجعلونه أضغاث أحلام, وتارة يجعلونه مفترى, كما قال {انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلاً} وقوله {فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} يعنون كناقة صالح وآيات موسى وعيسى وقد قال الله: {وما منعنا أن نرسل بالاَيات إلا أن كذب بها الأولون} الاَية, ولهذا قال تعالى: {ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون} أي ما آتينا قرية من القرى التي بعث فيهم الرسل آية على يدي نبيها فآمنوا بها بل كذبوا, فأهلكناهم بذلك أفهؤلاء يؤمنون بالاَيات لو رأوها دون أولئك؟ كلا, بل {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} هذا كله وقد شاهدوا من الاَيات الباهرات والحجج القاطعات والدلائل البينات على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو أظهر وأجلى وأبهر وأقطع وأقهر مما شوهد مع غيره من الأنبياء, صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
    قال ابن أبي حاتم رحمه الله: ذكر عن زيد بن الحباب, حدثنا ابن لهيعة: حدثنا الحارث بن يزيد الحضرمي عن علي بن رباح اللخمي, حدثني من شهد عبادة بن الصامت يقول: كنا في المسجد ومعنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقرىء بعضُنا بعضاً القرآن, فجاء عبد الله بن أبي ابن سلول ومعه نمرقة وزربية, فوضع واتكأ, وكان صبيحاً فصيحاً جدلاً, فقال: يا أبا بكر, قل محمد يأتينا بآية كما جاء الأولون, جاء موسى بالألواح, وجاء دواد بالزبور, وجاء صالح بالناقة, وجاء عيسى بالإنجيل وبالمائدة, فبكى أبو بكر رضي الله عنه, فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: قوموا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نستغيث به من هذا المنافق, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه لا يقام لي إنما يقام لله عز وجل» فقلنا: يا رسول الله إنا لقينا من هذا المنافق, فقال: «إن جبريل قال لي اخرج فأخبر بنعم الله التي أنعم بها عليك, وفضيلته التي فضلت بها, فبشرني أني بعثت إلى الأحمر والأسود, وأمرني أن أنذر الجن, وآتاني كتابه وأنا أمي, وغفر ذنبي ما تقدم وما تأخر, وذكر اسمي في الأذان, وأمدني بالملائكة, وآتاني النصر, وجعل الرعب أمامي, وآتاني الكوثر, وجعل حوضي من أكثر الحياض يوم القيامة وروداً, ووعدني المقام المحمود والناس مهطعون مقنعون رؤوسهم, وجعلني في أول زمرة تخرج من الناس, وأدخل في شفاعتي سبعين ألفاً من أمتي الجنة بغير حساب, وآتاني السلطان والملك, وجعلني في أعلى غرفة في الجنة في جنات النعيم, فليس فوقي أحد إلا الملائكة الذين يحملون العرش, وأحل لي ولأمتي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلنا» وهذا الحديث غريب جداً.


    ** وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ فَاسْئَلُوَاْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاّ يَأْكُلُونَ الطّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ * ثُمّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرفِينَ
    يقول تعالى راداً على من أنكر بعثة الرسل من البشر: {وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم} أي جميع الرسل الذين تقدموا كانوا رجالاً من البشر لم يكن فيهم أحد من الملائكة, كما قال في الاَية الأخرى {وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى} وقال تعالى: {قل ما كنت بدعاً من الرسل} وقال تعالى حكاية عمن تقدم من الأمم, لأنهم أنكروا ذلك فقالوا {أبشر يهدوننا} ولهذا قال تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتملا تعملون} أي اسألواأهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى وسائر الطوائف: هل كان الرسل الذين أتوهم بشراً أو ملائكة ؟ وإنما كانوا بشراً, وذلك من تمام نعمة الله على خلقه إذ بعث فيهم رسلاً منهم يتمكنون من تناول البلاغ منهم والأخذ عنهم.
    وقوله: {وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام} أي بل قد كانوا أجساداً يأكلون الطعام كما قال تعالى: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق} أي قد كانوا بشراً من البشر يأكلون ويشربون مثل الناس, ويدخلون الأسواق للتكسب والتجارة, وليس ذلك بضار لهم ولا ناقص منهم شيئاً, كما توهمه المشركون في قولهم {ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها} الاَية.
    وقوله: {وما كانوا خالدين} أي في الدنيا, بل كانوا يعيشون ثم يموتون {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد} وخاصتهم أنهم يوحى إليهم من الله عز وجل, تنزل عليهم الملائكة عن الله بما يحكمه في خلقه مما يأمر به وينهى عنه, وقوله: {ثم صدقناهم الوعد} أي الذي وعدهم ربهم ليهلكن الظالمين صدقهم الله وعده وفعل ذلك, ولهذا قال {فأنجيناهم ومن نشاء} أي أتباعهم من المؤمنين {وأهلكنا المسرفين} أي المكذبين بما جاءت به الرسل
    ** وَيَقُولُونَ مَتَىَ هَـَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * لَوْ يَعْلَمُ الّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ * بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ
    يخبر تعالى عن المشركين أنهم يستعجلون أيضاً بوقوع العذاب بهم تكذيباً وجحوداً وكفراً وعناداً واستعباداً, فقال {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} قال الله تعالى: {لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم} أي لو تيقنوا أنها واقعة بهم لا محالة لما استعجلوا به. ولو يعلمون حين يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم {لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل} {لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش} وقال في هذه الاَية: {حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم} وقال: {سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار} فالعذاب محيط بهم من جميع جهاتهم {ولا هم ينصرون} أي لا ناصر لهم, كما قال: {وما لهم من الله من واق}. وقوله: {بل تأتيهم بغتة} أي {تأتيهم النار بغتة} أي فجأة, {فتبهتهم} أي تذعرهم, فيستسلمون لها حائرين ولا يدرون ما يصنعون, {فلا يستطعون ردها} أي ليس لهم حيلة في ذلك, {ولا هم ينظرون} أي ولا يؤخر عنهم ذلك ساعة واحدة.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 11:22

    ** وَتَاللّهِ لأكِيدَنّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلّواْ مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاّ كَبِيراً لّهُمْ لَعَلّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُواْ مَن فَعَلَ هَـَذَا بِآلِهَتِنَآ إِنّهُ لَمِنَ الظّالِمِينَ * قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَىَ أَعْيُنِ النّاسِ لَعَلّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوَاْ أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَـَذَا بِآلِهَتِنَا يَإِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ
    ثم أقسم الخليل قسماً أسمعه بعض قومه ليكيدن أصنامهم, أي ليحرصن على أذاهم وتكسيرهم بعد أن يولوا مدبرين, أي إلى عيدهم, وكان لهم عيد يخرجون إليه, قال السدي: لما اقترب وقت ذلك العيد قال أبوه: يا بني لو خرجت معنا إلى عيدنا لأعجبك ديننا, فخرج معهم, فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إلى الأرض, وقال: إني سقيم فجعلوا يمرون عليه وهو صريع فيقولون: مه, فيقول: إني سقيم, فلما جاز عامتهم وبقي ضعفاؤهم قال: {تالله لأكيدن أصنامكم} فسمعه أولئك. وقال ابن إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: لما خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم مروا عليه, فقالوا: يا إبراهيم ألا تخرج معنا ؟ قال: إني سقيم, وقد كان بالأمس, قال: {تالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين} فسمعه ناس منهم.
    وقوله: {فجعلهم جذاذاً} أي حطاماً كسرها كلها, إلا كبيراً لهم يعني إلا الصنم الكبير عندهم, كما قال: {فراغ عليهم ضرباً باليمين}. وقوله {لعلهم إليه يرجعون} ذكروا أنه وضع القدوم في يد كبيرهم لعلهم يعتقدون أنه هو الذي غار لنفسه, وأنف أن تعبد معه هذه الأصنام الصغار فكسرها {قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين} أي حين رجعوا وشاهدوا ما فعله الخليل بأصنامهم من الإهانة والإذلال الدال على عدم إلهيتها وعلى سخافة عقول عابديها {قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين} أي في صنيعه هذا, {قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم} أي قال من سمعه يحلف إنه ليكيدنهم: سمعنا فتىً أي شاباً, يذكرهم يقال له إبراهيم. قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف, حدثنا سعيد بن منصور, حدثنا جرير بن عبد الحميد عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس قال: ما بعث الله نبياً إلا شاباً ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب, وتلا هذه الاَية {قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم}.
    ** وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبّحْنَ وَالطّيْرَ وَكُنّا فَاعِلِينَ * وَعَلّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ * وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنّا بِكُلّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنّا لَهُمْ حَافِظِينَ
    قال ابن إسحاق عن مرة عن ابن مسعود: كان ذلك الحرث كرماً قد تدلت عناقيده, وكذا قال شريح. وقال ابن عباس: النفش الرعي. وقال شريح والزهري وقتادة: النفش لا يكون إلا بالليل, زاد قتادة: والهمل بالنهار. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب وهارون بن إدريس الأصم, قالا حدثنا المحاربي عن أشعث عن أبي إسحاق عن مرة عن ابن مسعود في قوله: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم} قال: كرم قد أنبتت عناقيده فأفسدته, قال: فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم, فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله: قال: وما ذاك ؟ قال: تدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان, وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا كان الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه, ودفعت الغنم إلى صاحبها, فذلك قوله: {ففهمناها سليمان} وكذا روى العوفي عن ابن عباس.
    وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد: حدثني خليفة عن ابن عباس قال: قضى داود بالغنم لاصحاب الحرث فخرج الرعاء معهم الكلاب, فقال لهم سليمان: كيف قضى بينكم ؟ فأخبروه, فقال: لو وليت أمركم لقضيت بغير هذا, فأخبر بذلك داود, فدعاه فقال: كيف تقضي بينهم ؟ قال: أدفع الغنم إلى صاحب الحرث, فيكون له أولادها وألبانها وسلاؤها ومنافعها, ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم, فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه, أخذه أصحاب الحرث وردوا الغنم إلى أصحابها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا سعيد بن سليمان, حدثنا خديج عن أبي إسحاق عن مرة عن مسروق قال: الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم, إنما كان كرماً نفشت فيه الغنم فلم تدع فيه ورقة ولا عنقوداً من عنب إلا أكلته, فأتوا داود فأعطاهم رقابها, فقال سليمان: لا بل تؤخذ الغنم فيعطاها أهل الكرم فيكون لهم لبنها ونفعها ويعطى أهل الغنم الكرم فيعمروه ويصلحوه حتى يعود كالذي كان ليلة نفشت فيه الغنم, ثم يعطى أهل الغنم غنمهم, وأهل الكرم كرمهم, وهكذا قال شريح ومرة ومجاهد وقتادة وابن زيد وغير واحد.
    ** وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلّ مّنَ الصّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنّهُمْ مّنَ الصّالِحِينَ
    وأما إسماعيل فالمراد به ابن إبراهيم الخليل عليهما السلام, وقد تقدم ذكره في سورة مريم, وكذا إدريس عليه السلام, وأما ذو الكفل, فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع الأنبياء إلا وهو نبي. وقال آخرون: إنما كان رجلاً صالحاً, وكان ملكاً عادلاً, وحكماً مقسطاً, وتوقف ابن جرير في ذلك, فالله أعلم. قال ابن جريج عن مجاهد في قوله: {وذا الكفل} قال: رجل صالح غير نبي, تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه ويقيمهم له ويقضي بينهم بالعدل, ففعل ذلك, فسمي ذا الكفل, وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد أيضاً.
    وروى ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا عفان, حدثنا وهيب, حدثنا داود عن مجاهد قال: لما كبر اليسع قال: لو أني استخلفت رجلاً على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يفعل, فجمع الناس فقال: من يتقبل مني بثلاث أستخلفه: يصوم النهار, ويقوم الليل, ولا يغضب ؟ قال: فقام رجل تزدريه الأعين فقال: أنا, فقال: أنت تصوم النهار وتقوم الليل ولا تغضب ؟ قال: نعم, قال: فرده ذلك اليوم وقال مثلها في اليوم الاَخر, فسكت الناس, وقام ذلك الرجل فقال: أنا, فاستخلفه. قال: فجعل إبليس يقول للشياطين: عليكم بفلان فأعياهم ذلك, فقال: دعوني وإياه, فأتاه في صورة شيخ كبير فقير, فأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة ـ وكان لا ينام الليل والنهار إلا تلك النومة, فدق الباب, فقال: من هذا ؟ قال: شيخ كبير مظلوم, قال: فقام ففتح الباب, فجعل يقص عليه, فقال: إن بيني وبين قومي خصومة, وإنهم ظلموني, وفعلوا بي وفعلوا بي, وجعل يطول عليه حتى حضر الرواح وذهبت القائلة, فقال: إذا رحت فأتني آخذ لك بحقك, فانطلق وراح, فكان في مجلسه, فجعل ينظر هل يرى الشيخ فلم يره, فقام يتبعه, فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلا يراه, فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه, أتاه فدق الباب فقال: من هذا ؟ قال: الشيخ الكبير المظلوم, ففتح له فقال: ألم أقل لك إذا قعدت فأتني, قال: إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا: نحن نعطيك حقك, وإذا قمت جحدوني, قال: فانطلق, فإذا رحت فأتني, قال: ففاتته القائلة, فراح فجعل ينتظره ولا يراه, وشق عليه النعاس, فقال لبعض أهله: لا تدع أحداً يقرب هذا الباب حتى أنام, فإني قد شق عليّ النوم, فلما كان تلك الساعة جاء فقال له الرجل: وراءك, وراءك, قال: إني قد أتيته أمس وذكرت له أمري, فقال: لا والله لقد أمرنا أن لا ندع أحداً يقربه, فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسور منها, فإذا هو في البيت, وإذا هو يدق الباب من داخل, قال: واستيقظ الرجل, فقال: يا فلان ألم آمرك ؟ قال: أما من قبلي والله فلم تؤت فانظر من أين أتيت, قال: فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه. وإذا الرجل معه في البيت فعرفه, فقال: أعدوَ الله ؟ قال: نعم, أعييتني في كل شيء ففعلت ما ترى لأغضبك, فسماه الله ذا الكفل لأنه تكفل بأمر فوفى به. وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث زهير بن إسحاق عن داود عن مجاهد بمثله.
    ** إِنّ هَـَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطّعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ * فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنّا لَهُ كَاتِبُونَ
    قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {إن هذه أمتكم أمة واحدة} يقول: دينكم دين واحد وقال الحسن البصري في هذه الاَية يبين لهم ما يتقون وما يأتون, ثم قال: {إن هذه أمتكم أمة واحدة} أي سنتكم سنة واحدة, فقوله إن هذه إن واسمها, وأمتكم خبر إن, أي هذه شريعتكم التي بينت لكم ووضحت لكم. وقوله أمة واحدة نصب على الحال, ولهذا قال: {وأنا ربكم فاعبدون} كما قال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً ـ إلى قوله ـ وأنا ربكم فاتقون} وقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: «نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد» يعني أن المقصود هو عبادة الله وحده لا شريك له بشرائع متنوعة لرسله, كما قال تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}.
    وقوله: {وتقطعوا أمرهم بينهم} أي اختلفت الأمم على رسلها فمن بين مصدق لهم ومكذب, ولهذا قال: {كل إلينا راجعون} أي يوم القيامة, فيجازي كل بحسب عمله, إن خيراً فخير وإن شراً فشر, ولهذا قال: {فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن} أي قلبه مصدق وعمل صالحاً {فلا كفران لسعيه} كقوله: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً} أي لا يكفر سعيه وهو عمله بل يشكر فلا يظلم مثقال ذرة, ولهذا قال: {وإنا له كاتبون} أي يكتب جميع عمله فلا يضيع عليه منه شيء.


    ** وَحَرَامٌ عَلَىَ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ * حَتّىَ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الّذِينَ كَفَرُواْ يَوَيْلَنَا قَدْ كُنّا فِي غَفْلَةٍ مّنْ هَـَذَا بَلْ كُنّا ظَالِمِينَ
    يقول تعالى: {وحرام على قرية} قال ابن عباس: وجب, يعني قد قدر أن أهل كل قرية أهلكوا أنهم لا يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة, هكذا صرح به ابن عباس وأبو جعفر الباقر وقتادة وغير واحد. وفي رواية عن ابن عباس: أنهم لا يرجعون أي لا يتوبون, والقول الأول أظهر, والله أعلم. وقوله: {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج} قد قدمنا أنهم من سلالة آدم عليه السلام, بل هم من نسل نوح أيضاً من أولاد يافث, أي أبي الترك, والترك شرذمة منهم تركوا من وراء السد الذي بناه ذو القرنين, وقال: {هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً * وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض} الاَية, وقال في هذه الاَية الكريمة {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون} أي يسرعون في المشي إلى الفساد, والحدب هو المرتفع من الأرض, قاله ابن عباس وعكرمة وأبو صالح والثوري وغيرهم, وهذه صفتهم في حال خروجهم كأن السامع مشاهد لذلك {ولا ينبئك مثل خبير} هذا إخبار عالم ما كان وما يكون, الذي يعلم غيب السموات والأرض لا إله إلا هو.

    يتبع

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 11:26

    ** إِنّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَـَؤُلآءِ آلِهَةً مّا وَرَدُوهَا وَكُلّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ * إِنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنّا الْحُسْنَىَ أُوْلَـَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ هَـَذَا يَوْمُكُمُ الّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ
    يقول تعالى مخاطباً لأهل مكة من مشركي قريش ومن دان بدينهم من عبدة الأصنام والأوثان: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} قال ابن عباس: أي وقودها يعني كقوله: {وقودها الناس والحجارة} وقال ابن عباس أيضاً: حصب جهنم يعني شجر جهنم, وفي رواية قال: {حصب جهنم} يعني حطب جهنم بالزنجية. وقال مجاهد وعكرمة وقتادة: حطبها, وهي كذلك في قراءة علي وعائشة رضي الله عنهما, وقال الضحاك: حصب جهنم أي ما يرمى به فيها, وكذا قال غيره, والجميع قريب. وقوله: {أنتم لها واردون} أي داخلون {لو كان هؤلاء آلهة ما ورودها} يعني لو كانت هذه الأصنام والأنداد التي اتخذتموها من دون الله آلهة صحيحة لما وردوا النار وما دخلوها {وكل فيها خالدون} أي العابدون ومعبوداتهم كلهم فيها خالدون {لهم فيها زفير} كما قال تعالى: {لهم فيها زفير وشهيق} والزفير خروج أنفاسهم, والشهيق ولوج أنفاسهم {وهم فيها لا يسمعون}.

    قال ابن أبي حاتم, حدثنا أبي, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا ابن فضيل, حدثنا عبد الرحمن يعني المسعودي عن أبيه قال: قال ابن مسعود: إذا بقي من يخلد في النار جعلوا في توابيت من نار فيها مسامير من نار, فلا يرى أحد منهم أنه يعذب في النار غيره, ثم تلا عبد الله {لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون} ورواه ابن جرير من حديث حجاج بن محمد عن المسعودي عن يونس بن خبّاب عن ابن مسعود, فذكره.
    وقوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} قال عكرمة: الرحمة. وقال غيره السعادة {أولئك عنها مبعدون} لما ذكر تعالى أهل النار وعذابهم بسبب شركهم بالله, عطف بذكر السعداء من المؤمنين بالله ورسله, وهم الذين سبقت لهم من الله السعادة وأسلفوا الأعمال الصالحة في الدنيا, كما قال تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} وقال: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} فكما أحسنوا العمل في الدنيا أحسن الله مآبهم وثوابهم, ونجاهم من العذاب وحصل لهم جزيل الثواب, فقال: {أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها} أي حريقها في الأجساد.
    وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن عمار, حدثنا عفان, حدثنا حماد بن سلمة عن أبيه عن الحريري عن أبي عثمان {لا يسمعون حسيسها} قال: حيات على الصراط تلسعهم, فإذا لسعتهم قال حس حس. وقوله: {وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون} فسلمهم من المحذور والمرهوب, وحصل لهم المطلوب والمحبوب. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن أبي سريج, حدثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني عن ليث بن أبي سليم عن ابن عم النعمان بن بشير عن النعمان بن بشير قال: وسمر مع علي ذات ليلة, فقرأ {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} قال: أنا منهم وعمر منهم وعثمان منهم والزبير منهم وطلحة منهم وعبد الرحمن منهم, أو قال: سعد منهم, قال: أقيمت الصلاة, فقام وأظنه يجر ثوبه وهو يقول: {لا يسمعون حسيسها}.
    وقال شعبة عن أبي بشر عن يوسف المكي عن محمد بن حاطب قال: سمعت علياً يقول في قوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} قال: عثمان وأصحابه, ورواه ابن أبي حاتم أيضاً, ورواه ابن جرير من حديث يوسف بن سعد, وليس بابن ماهك عن محمد بن حاطب عن علي فذكره ولفظه عثمان منهم, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} فأولئك أولياء الله يمرون على الصراط مراً هو أسرع من البرق, ويبقى الكفار فيها جثياً, فهذا مطابق لما ذكرناه, وقال آخرون: بل نزلت استثناء من المعبودين, وخرج منهم عزير والمسيح, كما قال حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} ثم استثنى فقال: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} فيقال: هم الملائكة وعيسى, ونحو ذلك مما يعبد من دون الله عز وجل, وكذا قال عكرمة والحسن وابن جريج. وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } قال نزلت في عيسى ابن مريم وعزير عليهما السلام, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا الحسين بن عيسى بن ميسرة, حدثنا أبو زهير, حدثنا سعد بن طريف عن الأصبغ عن علي في قوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} قال: كل شيء يعبد من دون الله في النار إلا الشمس والقمر وعيسى بن مريم إسناده ضعيف. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد {أولئك عنها مبعدون} قال: عيسى وعزير والملائكة. وقال الضحاك: عيسى ومريم والملائكة والشمس والقمر, وكذا روي عن سعيد بن جبير وأبي صالح وغير واحد, وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثاً غريباً جداً, فقال: حدثنا الفضل بن يعقوب الرخاني, حدثنا سعيد بن مسلمة بن عبد الملك, حدثنا الليث بن أبي سليم عن مغيث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {إن الذين سبقت لهم مناالحسنى أولئك عنها مبعدون} قال: عيسى وعزير والملائكة, وذكر بعضهم قصة ابن الزبعري ومناظرة المشركين قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن علي بن سهل, حدثنا محمد بن حسن الأنماطي, حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة, حدثنا يزيد بن أبي حكيم, حدثنا الحكم يعني ابن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: جاء عبد الله بن الزبعري إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تزعم أن الله أنزل عليك هذه الاَية {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} فقال ابن الزبعري: قد عبدت الشمس والقمر والملائكة وعزير وعيسى ابن مريم كل هؤلاء في النار مع آلهتنا ؟ فنزلت {ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصّدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون} ثم نزلت {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} رواه الحافظ أبو عبد الله في كتابه الأحاديث المختارة, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا قبيصة بن عقبة, حدثنا سفيان يعني الثوري عن الأعمش عن أصحابه عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} قال المشركون: فالملائكة وعزير وعيسى يعبدون من دون الله فنزلت {لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها} الاَلهة التي يعبدون {وكل فيها خالدون} وروي عن أبي كدينة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مثل ذلك وقال: فنزلت {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} وقال محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله في كتاب السيرة: وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني يوماً مع الوليد بن المغيرة في المسجد, فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم, وفي المسجد غير واحد من رجال قريش, فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه, وتلا عليه وعليهم {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ـ إلى قوله ـ هم فيها لا يسمعون} ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عبد الله بن الزبعري السهمي حتى جلس معهم, فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزبعري: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفاً ولا قعد, وقد زعم محمد أناوما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم, فقال عبد الله بن الزبعري: أما والله لو وجدته لخصمته, فسلوا محمداً كل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده, فنحن نعبد الملائكة, واليهود تعبد عزيراً, والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم, فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعري ورأوا أنه قد احتج وخاصم, فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده, إنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته» وأنزل الله {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون} أي عيسى وعزير ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله, فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أرباباً من دون الله, ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنهم بنات الله {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون ـ إلى قوله ـ ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين} ونزل فيما ذكر من أمر عيسى وأنه يعبد من دون الله, وعجب الوليد ومن حضره من حجته وخصومته {ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون * وقالو أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون * إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل * ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون * وإنه لعلم للساعة فلا تمترنّ بها} أي ما وضعت على يديه من الاَيات من إحياء الموتى وابراء الأسقام, فكفى به دليلاً على علم الساعة, يقول: {فلا تمترنّ بها واتبعون هذا صراط مستقيم} وهذا الذي قاله ابن الزبعري خطأ كبير, لأن الاَية إنما نزلت خطاباً لأهل مكة في عبادتهم الأصنام التي هي جماد لاتعقل, ليكون ذلك تقريعاً وتوبيخاً لعابديها, ولهذا قال: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} فكيف يورد على هذا المسيح وعزير ونحوهما ممن له عمل صالح ولم يرض بعبادة من عبده, وعول ابن جرير في تفسيره في الجواب على أن {ما} لما لا يعقل عند العرب, وقد أسلم عبد الله بن الزبعري بعد ذلك, وكان من الشعرءا المشهورين, وقد كان يهاجي المسلمين أولاً ثم قال معتذراً:
    يا رسول المليك إن لسانيراتق ما فتقت إذ أنا بور
    إذ أجاري الشيطان في سنن الغيومن مال ميله مثبور
    وقوله: {لا يحزنهم الفزع الأكبر} قيل: المراد بذلك الموت, رواه عبد الرزاق عن يحيى بن ربيعة عن عطاء وقيل: المراد بالفزع الأكبر النفخة في الصور, قاله العوفي عن ابن عباس وأبو سنان سعيد بن سنان الشيباني, واختاره ابن جرير في تفسيره, وقيل: حين يؤمر بالعبد إلى النار, قاله الحسن البصري, وقيل: حين تطبق النار على أهلها, قاله سعيد بن جبير وابن جريج, وقيل: حين يذبح الموت بين الجنة والنار, قاله أبو بكر الهذلي فيما رواه ابن أبي حاتم عنه, وقوله {وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون} يعني تقول لهم الملائكة تبشرهم يوم معادهم إذا خرجوا من قبورهم {هذا يومكم الذي كنتم توعدون} أي فأملوا ما يسركم

    ** قُلْ إِنّمَآ يُوحَىَ إِلَيّ أَنّمَآ إِلَـَهُكُمْ إِلَـَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مّسْلِمُونَ * فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَىَ سَوَآءٍ وَإِنْ أَدْرِيَ أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مّا تُوعَدُونَ * إِنّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ * وَإِنْ أَدْرِي لَعَلّهُ فِتْنَةٌ لّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَىَ حِينٍ * قَالَ رَبّ احْكُم بِالْحَقّ وَرَبّنَا الرّحْمَـَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىَ مَا تَصِفُونَ
    يقول تعالى آمراً رسوله صلواته وسلامه عليه أن يقول للمشركين {إنما يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون}أي متبعون على ذلك مستسلمون منقادون له {فإن تولوا} أي تركوا ما دعوتهم إليه {فقل آذنتكم على سواء} أي أعلمتكم أني حرب لكم كما أنكم حرب لي بريء منكم كما أنتم برآء مني, كقوله: {فإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون} وقال: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} أي ليكن علمك وعلمهم بنبذ العهود على السواء, وهكذا ههنا {فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء} أي أعلمتكم ببراءتي منكم وبراءتكم مني لعلمي بذلك.
    وقوله: {وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون} أي هو واقع لا محالة, ولكن لا علم لي بقربه ولا ببعده {إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون} اي إن الله يعلم الغيب جميعه ويعلم ما يظهره العباد وما يسرون, يعلم الظواهر والضمائر, ويعلم السر وأخفى, ويعلم ما العباد عاملون في أجهارهم وأسرارهم, وسيجزيهم على ذلك القليل والجليل. وقوله: {وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين} أي وما أدري لعل هذا فتنة لكم ومتاع إلى حين. قال ابن جرير: لعل تأخير ذلك عنكم فتنة لكم ومتاع إلى أجل مسمى, وحكاه عون عن ابن عباس فالله أعلم {قال رب احكم بالحق} أي افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق. قال قتادة: كانت الأنبياء عليهم السلام يقولون: {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك, وعن مالك عن زيد بن أسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شهد قتالاً قال: {رب احكم بالحق}. وقوله: {وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون} أي على ما يقولون ويفترون من الكذب ويتنوعون في مقامات التكذيب والإفك, والله المستعان عليكم في ذلك.
    آخر تفسير سورة الأنبياء عليهم السلام ولله الحمد والمنة.


    تمت سورة الانبياء

    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 11:29

    سورة الحج


    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
    ** يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمْ إِنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلّ مُرْضِعَةٍ عَمّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النّاسَ سُكَارَىَ وَمَا هُم بِسُكَارَىَ وَلَـَكِنّ عَذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ
    يقول تعالى آمراً عباده بتقواه ومخبراً لهم بما يستقبلون من أهوال يوم القيامة وزلازلها وأحوالها, وقد اختلف المفسرون في زلزلة الساعة: هل هي بعد قيام الناس من قبورهم يوم نشورهم إلى عرصات القيامة, أو ذلك عبارةعن زلزلة الأرض قبل قيام الناس من أجداثهم ؟ كما قال تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها} وقال تعالى: {وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة, فيومئذ وقعت الواقعة} الاَية, وقال تعالى: {إذا رجت الأرض رجاً, وبست الجبال بساً} الاَية, فقال قائلون: هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا وأول أحوال الساعة. وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا يحيى, حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة في قوله: {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} قال: قبل الساعة, ورواه ابن أبي حاتم من حديث الثوري عن منصور والأعمش عن إبراهيم عن علقمة فذكره, قال: وروي عن الشعبي وإبراهيم وعبيد بن عمير نحو ذلك. وقال أبو كدينة عن عطاء بن عامر الشعبي {ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم} قال: هذا في الدنيا قبل يوم القيامة. وقد أورد الإمام أبو جعفر بن جرير مستند من قال ذلك في حديث الصور من رواية إسماعيل بن رافع قاضي أهل المدينة عن يزيد بن أبي زياد, عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب القرظي, عن رجل عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل, فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر» قال أبو هريرة: يا رسول الله وما الصور ؟ قال: قرن. قال: فكيف هو ؟ قال: «قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات: الأولى نفخة الفزع, والثانية نفخة الصعق, والثالثة نفخة القيام لرب العالمين, يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى. فيقول: انفخ نفخة الفزع, فيفزع أهل السموات وأهل الأرض إلا من شاء الله, ويأمره فيمدها ويطولها ولا يفتر, وهي التي يقول الله تعالى: {وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة مالها من فواق} فيستر الجبال فتكون سراباً, وترج الأرض بأهلها رجاً, وهي التي يقول الله تعالى: {يوم ترجف الراجفة, تتبعها الرادفة, قلوب يومئذ واجفة} فتكون الأرض كالسفينة الموبقة في البحر تضربها الأمواج تكفؤها بأهلها, وكالقنديل المعلق بالعرش ترجحه الأرواح فيمتد الناس على ظهرها, فتذهل المراضع وتضع الحوامل, ويشيب الولدان, وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار فتلقاها الملائكة فتضرب في وجوهها فترجع, ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضاً, وهي التي يقول الله تعالى: {يوم التناد يوم تولون مدبرين مالكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فماله من هاد} فبينما هم على ذلك إذ انصدعت الأرض من قطر إلى قطر, ورأوا أمراً عظيماً, فأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به. ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل, ثم خسف شمسها وقمرها, وانتثرت نجومها ثم كشطت عنهم ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك» قال أبو هريرة: فمن استثنى الله حين يقول {ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله} قال «أولئك الشهداء, وإنما يصل الفزع إلى الأحياء, أولئك أحياء عند ربهم يرزقون, وقاهم الله شر ذلك اليوم وآمنهم, وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه, وهو الذي يقول الله: {ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد}» وهذا الحديث قد رواه الطبراني وابن جرير وابن أبي حاتم وغير واحد مطولاً جداً, والغرض منه أنه دل على أن هذه الزلزلة كائنة قبل يوم الساعة أضيفت إلى الساعة لقربها منها, كما يقال أشراط الساعة ونحو ذلك, والله أعلم, وقال آخرون بل ذلك هول وفزع وزلزال وبلبال كائن يوم القيامة في العرصات بعد القيام من القبور, واختار ذلك ابن جرير, واحتجوا بأحاديث:
    (الأول) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن هشام, حدثنا قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في بعض أسفاره, وقد تفاوت بين أصحابه السير رفع بهاتين الاَيتين صوته. {ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم, يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد} فلما سمع أصحابه بذلك حثوا المطي, وعرفوا أنه عند قول يقوله, فلما دنوا حوله قال: «أتدرون أي يوم ذاك, ذاك يوم ينادى آدم عليه السلام فيناديه ربه عز وجل, فيقول: يا آدم ابعث بعثك إلى النار, فيقول: يا رب وما بعث النار ؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار وواحد في الجنة» قال: فأبلس أصحابه حتى ما أوضحوا بضاحكة, فلما رأى ذلك قال: «أبشروا واعملوا, فو الذي نفس محمد بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء قط إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج, ومن هلك من بني آدم وبني إبليس» قال: فسري عنهم, ثم قال: «اعملوا وأبشروا, فوالذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو الرقمة في ذراع الدابة» وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما عن محمد بن بشار عن يحيى وهو القطان, عن هشام وهو الدستوائي عن قتادة به بنحوه, وقال الترمذي: حسن صحيح.
    (طريق آخر) لهذا الحديث. قال الترمذي: حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان بن عيينة, حدثنا ابن جدعان عن الحسن عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت: {يا أيها الناس اتقوا ربكم ـ إلى قوله ـ ولكن عذاب الله شديد} قال: نزلت عليه هذه الاَية وهو في سفر, فقال: «أتدرون أي يوم ذلك ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال ـ ذلك يوم يقول الله لاَدم: ابعث بعث النار, قال: يا رب وما بعث النار ؟ قال: تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة» فأنشأ المسلمون يبكون, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قاربوا وسددوا, فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية, قال: فيؤخذ العدد من الجاهلية, فإن تمت, وإلا كملت من المنافقين, وما مثلكم ومثل الأمم الا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير ثم قال: «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة» ـ فكبروا ثم قال ـ: «إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة» ـ فكبروا ثم قال ـ: «إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة» فكبروا ثم قال: ولا أدري قال الثلثين أم لا, وكذا رواه الإمام أحمد عن سفيان بن عيينة به. ثم قال الترمذي أيضاً: هذا حديث حسن صحيح. وقد سعيد بن أبي عروبة عن الحسن عن عمران بن الحصين وقد رواه ابن أبي حاتم من حديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن والعلاء بن زياد العدوي عن عمران بن الحصين فذكره, وهكذا روى ابن جرير عن بندار عن غندر عن عوف عن الحسن قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة العسرة ومعه أصحابه بعد ما شارف المدينة قرأ {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم} وذكر الحديث فذكر نحو سياق ابن جدعان, والله أعلم.
    (الحديث الثاني) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن الطباع, حدثنا أبو سفيان المعمري, عن معمر عن قتادة عن أنس قال: نزلت {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} وذكر, يعني نحو سياق الحسن عن عمران غير أنه قال: ومن هلك من كثرة الجن والإنس. ورواه ابن جرير بطوله من حديث معمر.
    ** وَمِنَ النّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتّبِعُ كُلّ شَيْطَانٍ مّرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنّهُ مَن تَوَلاّهُ فَأَنّهُ يُضِلّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىَ عَذَابِ السّعِيرِ
    يقول تعالى ذاماً لمن كذب بالبعث وأنكر قدرة الله على إحياء الموتى, معرضاً عما أنزل الله على أنبيائه متبعاً في قوله وإنكاره وكفره كل شيطان مريد من الإنس والجن, وهذا حال أهل البدع والضلال المعرضين عن الحق المتبعين للباطل يتركون ما أنزله الله على رسوله من الحق المبين, ويتبعون أقوال رؤوس الضلالة الدعاة إلى البدع بالأهواء والاَراء, ولهذا قال في شأنهم وأشباههم {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم} أي علم صحيح {ويتبع كل شيطان مريد, كتب عليه} قال مجاهد: يعني الشيطان, يعني كتب عليه كتابة قدرية {أنه من تولاه} أي اتبعه وقلده {فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير} أي يضله في الدنيا, ويقوده في الاَخرة إلى عذاب السعير, وهو الحار المؤلم المقلق المزعج, وقد قال السدي عن أبي مالك: نزلت هذه الاَية في النضر بن الحارث, وكذلك قال ابن جريج.
    وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن مسلم البصري, حدثنا عمرو بن المحرم أبو قتادة, حدثنا العمر, حدثنا أبو كعب المكي قال: قال خبيث من خبثاء قريش أخبرنا عن ربكم من ذهب هو, أو من فضة هو, أو من نحاس هو ؟ فقعقعت السماء قعقعة ـ والقعقعة في كلام العرب الرعد ـ فإذا قحف رأسه ساقط بين يديه. وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: جاء يهودي فقال: يا محمد أخبرني عن ربك من أي شيء هو من در أم من يا قوت ؟ قال: فجاءت صاعقة فأخذته.

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 11:34

    يَأَيّهَا النّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مّنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْنَاكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمّ مِن نّطْفَةٍ ثُمّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمّ مِن مّضْغَةٍ مّخَلّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلّقَةٍ لّنُبَيّنَ لَكُمْ وَنُقِرّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى ثُمّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمّ لِتَبْلُغُوَاْ أَشُدّكُمْ وَمِنكُمْ مّن يُتَوَفّىَ وَمِنكُمْ مّن يُرَدّ إِلَىَ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ هُوَ الْحَقّ وَأَنّهُ يُحْيِـي الْمَوْتَىَ وَأَنّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ لاّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنّ اللّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ
    لما ذكر تعالى المخالف للبعث المنكر للمعاد, ذكر تعالى الدليل على قدرته تعالى على المعاد بما يشاهد من بدئه للخلق فقال: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب} أي في شك {من البعث} وهو المعاد, وقيام الأرواح والأجساد, يوم القيامة {فإنا خلقناكم من تراب} أي أصل برئه لكم من تراب, وهو الذي خلق منه آدم عليه السلام {ثم من نطفة} أي ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين {ثم من علقة ثم من مضغة} وذلك أنه إذا استقرت النطفة في رحم المرأة مكثت أربعين يوماً كذلك يضاف إليه ما يجتمع إليها, ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله, فتمكث كذلك أربعين يوماً, ثم تستحيل فتصير مضغة قطعة من لحم لا شكل فيها ولا تخطيط, ثم يشرع في التشكيل والتخطيط فيصور منها رأس ويدان وصدر وبطن وفخذان ورجلان وسائر الأعضاء, فتارة تسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط, وتارة تلقيها وقد صارت ذات شكل وتخطيط, ولهذا قال تعالى: {ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة} أي كما تشاهدونها {لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى} أي وتارة تستقر في الرحم لا تلقيها المرأة ولا تسقطها, كما قال مجاهد في قوله تعالى: {مخلقة وغير مخلقة} قال: هو السقط مخلوق وغير مخلوق, فإذا مضى عليها أربعون يوماً وهي مضغة, أرسل الله تعالى ملكاً إليها فنفخ فيها الروح وسواها كما يشاء الله عز وجل من حسن وقبح, وذكر وأنثى, وكتب رزقها وأجلها, وشقي أو سعيد.
    كما ثبت في الصحيحين من حديث الأعمش عن زيد بن وهب عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة, ثم يكون علقة مثل ذلك, ثم يكون مضغة مثل ذلك, ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات, بكتب رزقه وعمله وأجله, وشقي أو سعيد, ثم ينفخ فيه الروح».
    ** مَن كَانَ يَظُنّ أَن لّن يَنصُرَهُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السّمَآءِ ثُمّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ * وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ وَأَنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ
    قال ابن عباس: من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً صلى الله عليه وسلم في الدنيا والاَخرة, فليمدد بسبب أي بحبل {إلى السماء} أي سماء بيته {ثم ليقطع} يقول ثم ليختنق به, وكذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء وأبو الجوزاء وقتادة وغيرهم, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم {فليمدد بسبب إلى السماء} أي ليتوصل إلى بلوغ السماء, فإن النصر إنما يأتي محمداً من السماء {ثم ليقطع} ذلك عنه إن قدر على ذلك, وقول ابن عباس وأصحابه أولى وأظهر في المعنى وأبلغ في التهكم, فإن المعنى من كان يظن أن الله ليس بناصر محمداً وكتابه ودينه, فليذهب فليقتل نفسه إن كان ذلك غائظه, فإن الله ناصره لا محالة, قال الله تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} الاَية, ولهذا قال: {فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيط} قال السدي: يعني من شأن محمد صلى الله عليه وسلم. وقال عطاء الخراساني: فلينظر هل يشفي ذلك ما يجد في صدره من الغيط. وقوله: {وكذلك أنزلناه} أي القرآن {آيات بينات} أي واضحات في لفظها ومعناها, حجة من الله على الناس, {وأن الله يهدي من يريد} أي يضل من يشاء ويهدي من يشاء, وله الحكمة التامة والحجة القاطعة في ذلك {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} أما هو فلحكمته ورحمته وعدله وعلمه وقهره وعظمته لا معقب لحكمه, وهو سريع الحساب.

    ** هَـَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبّهِمْ فَالّذِينَ كَفَرُواْ قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نّارِ يُصَبّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلّمَآ أَرَادُوَاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ
    ثبت في الصحيحين من حديث أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي ذر: أنه كان يقسم قسماً أن هذه الاَية {هذان خصمان اختصموا في ربهم} نزلت في حمزة وصاحبيه, وعتبة وصاحبيه يوم برزوا في بدر, لفظ البخاري عند تفسيرها, ثم قال البخاري: حدثنا حجاج بن المنهال, حدثنا المعتمر بن سليمان, سمعت أبي, حدثنا أبو مجلز عن قيس بن عباد عن علي بن أبي طالب أنه قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة, قال قيس: وفيهم نزلت: {هذان خصمان اختصموا في ربهم} قال: هم الذين بارزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. انفرد به البخاري.
    وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله: {هذان خصمان اختصموا في ربهم} قال: اختصم المسلمون وأهل الكتاب, فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم, فنحن أولى بالله منكم, وقال المسلمون: كتابنا يقضي على الكتب كلها ونبينا خاتم الأنبياء, فنحن أولى بالله منكم, فأفلج الله الإسلام على من ناوأه, وأنزل {هذان خصمان اختصموا في ربهم} وكذا روى العوفي عن ابن عباس: وقال شعبة عن قتادة في قوله: {هذان خصمان اختصموا في ربهم} قال: مصدق ومكذب وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الاَية: مثل الكافر والمؤمن اختصما في البعث, وقال في رواية هو وعطاء في هذه الاَية: هم المؤمنون والكافرون.
    وقال عكرمة: {هذان خصمان اختصموا في ربهم} قال: هي الجنة والنار, قالت النار: اجعلني للعقوبة, وقالت الجنة: اجعلني للرحمة. وقول مجاهد وعطاء: إن المراد بهذه الكافرون والمؤمنون يشمل الأقوال كلها, وينتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها, فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله عز وجل, والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان وخذلان الحق وظهور الباطل, وهذا اختيار ابن جرير, وهو حسن, ولهذا قال {فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار} أي فصلت لهم مقطعات من النار, قال سعيد بن جبير: من نحاس, وهو أشد الأشياء حرارة إذا حمي {يصب من فوق رؤوسهم الحميم * يصهر به ما في بطونهم والجلود} أي إذا صب على رؤوسهم الحميم وهو الماء الحار في غاية الحرارة. وقال سعيد بن جبير: هو النحاس المذاب, أذاب ما في بطونهم من الشحم والأمعاء, قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم, وكذلك تذوب جلودهم, وقال ابن عباس وسعيد: تساقط.
    ** وَإِذْ بَوّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِيَ لِلطّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرّكّعِ السّجُودِ * وَأَذّن فِي النّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىَ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ
    هذا فيه تقريع وتوبيخ لمن عبد غير الله وأشرك به من قريش في البقعة التي أسست من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له, فذكر تعالى أنه بوأ إبراهيم مكان البيت, أي أرشده إليه وسلمه له وأذن له في بنائه, واستدل به كثير ممن قال: إن إبراهيم عليه السلام هو أول من بنى البيت العتيق, وأنه لم يبن قبله, كما ثبت في الصحيحين عن أبي ذر, قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع أول ؟ قال «المسجد الحرام». قلت: ثم أي ؟ قال: «بيت المقدس». قلت: كم بينهما ؟ قال: «أربعون سنة». وقد قال الله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً} الاَيتين, وقال تعالى: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} وقد قدمنا ذكر ما ورد في بناء البيت من الصحاح والاَثار بما أغنى عن إعادته ههنا, وقال تعالى ههنا {أن لا تشرك بي شيئاً} أي ابنه على اسمي وحدي {وطهر بيتي} قال قتادة ومجاهد: من الشرك {للطائفين والقائمين والركع السجود} أي اجعله خالصاً لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له, فالطائف به معروف, وهو أخص العبادات عند البيت, فإنه لا يفعل ببقعة من الأرض سواها {والقائمين} أي في الصلاة, ولهذا قال: {والركع السجود} فقرن الطواف بالصلاة لأنهما لا يشرعان إلا مختصين بالبيت, فالطواف عنده والصلاة إليه في غالب الأحوال, إلا ما استثني من الصلاة عند اشتباه القبلة وفي الحرب وفي النافلة في السفر, والله أعلم.
    وقوله: {وأذن في الناس بالحج} أي ناد في الناس بالحج, داعياً لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه, فذكر أنه قال: يا رب وكيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم ؟ فقال: ناد وعلينا البلاغ, فقام على مقامه, وقيل على الحجر, وقيل على الصفا, وقيل على أبي قبيس, وقال: يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه, فيقال إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض, وأسمع من في الأرحام والأصلاب, وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر, ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة, لبيك اللهم لبيك, وهذا مضمون ما روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف, والله أعلم, أوردها ابن جرير وابن أبي حاتم مطولة.

    يتبع
    .
    الشريف أمير أبوهاشم
    الشريف أمير أبوهاشم
    عضو فعال
    عضو فعال


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 788
    البلد : مصر
    العمل : موظف
    الهوايات : الشعر والفروسية
    تقييم القراء : 7
    النشاط : 6906
    تاريخ التسجيل : 14/07/2008

    تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير - صفحة 3 Empty رد: تفسير القرآن الكريم كاملاً لأبن كثير

    مُساهمة من طرف الشريف أمير أبوهاشم السبت 20 يونيو - 11:41

    ** ذَلِكَ وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَاتِ اللّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لّهُ عِندَ رَبّهِ وَأُحِلّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلاّ مَا يُتْلَىَ عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزّورِ * حُنَفَآءَ للّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَكَأَنّمَا خَرّ مِنَ السّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ الطّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ
    يقول تعالى: هذا الذي أمرنا به من الطاعات في أداء المناسك وما لفاعلها من الثواب الجزيل {ومن يعظم حرمات الله} أي ومن يجتنب معاصيه, ومحارمه ويكون ارتكابها عظيماً في نفسه {فهو خير له عند ربه} أي فله على ذلك خير كثير, وثواب جزيل, فكما على فعل الطاعات ثواب كثير وأجر جزيل, كذلك على تلك المحرمات واجتناب المحظورات, قال ابن جريج: قال مجاهد في قوله: {ذلك ومن يعظم حرمات الله} قال: الحرمة مكة والحج والعمرة وما نهى الله عنه من معاصيه كلها, وكذا قال ابن زيد.
    وقوله: {وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم} أي أحللنا لكم جميع الأنعام وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام. وقوله: {إلا ما يتلى عليكم} أي من تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة الاَية, قال ذلك ابن جرير, وحكاه عن قتادة. وقوله: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور}من ههنا لبيان الجنس , أي اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان, وقرن الشرك بالله بقول الزور, كقوله: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} ومنه شهادة الزور. وفي الصحيحين عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟» قلنا: بلى يا رسول لله قال: «الإشراك بالله وعقوق الوالدين ـ وكان متكئاً فجلس فقال ـ ألا وقول الزور. ألا وشهادة الزور». فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.
    وقال الإمام أحمد: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري, أنبأنا سفيان بن زياد عن فاتك بن فضالة عن أيمن بن خريم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً, فقال: «يا أيها الناس عدلت شهادة الزور إشراكاً بالله» ثلاثاً, ثم قرأ {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور} وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع عن مروان بن معاوية به, ثم قال: غريب إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد, وقد اختلف عنه في رواية هذا الحديث ولا نعرف لأيمن بن خريم سماعاً من النبي صلى الله عليه وسلم, وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا محمد بن عبيد, حدثنا سفيان العصفري عن أبيه عن حبيب بن النعمان الأسدي عن خريم بن فاتك الأسدي قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح, فلما انصرف قام قائماً فقال: «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله عز وجل» ثم تلا هذه الاَية {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به} وقال سفيان الثوري عن عاصم بن أبي النجود عن وائل بن ربيعة عن ابن مسعود أنه قال: تعدل شهادة الزور الإشراك بالله, ثم قرأ هذه الاَية.
    وقوله: {حنفاء لله} أي مخلصين له الدين منحرفين عن الباطل قصداً إلى الحق, ولهذا قال: {غير مشركين به} ثم ضرب للمشرك مثلاً في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى, فقال: {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء} أي سقط منها {فتخطفه الطير} أي تقطعه الطيور في الهواء {أو تهوي به الريح في مكان سحيق} أي بعيد مهلك لمن هوى فيه, ولهذا جاء في حديث البراء: إن الكافر إذا توفته ملائكة الموت وصعدوا بروحه إلى السماء, فلا تفتح له أبواب السماء بل تطرح روحه طرحاً من هناك, ثم قرأ هذه الاَية, وقد تقدم الحديث في سورة إبراهيم بحروفه وألفاظه وطرقه. وقد ضرب تعالى للمشركين مثلاً آخر في سورة الأنعام. وهو قوله: {قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي است*****ه الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى} الاَية** لَن يَنَالَ اللّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَـَكِن يَنَالُهُ التّقْوَىَ مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ اللّهَ عَلَىَ مَا هَدَاكُمْ وَبَشّرِ الْمُحْسِنِينَ
    يقول تعالى: إنما شرع لكم نحر هذه الهدايا والضحايا لتذكروه عند ذبحها, فإنه الخالق الرزاق لا يناله شيء من لحومها ولا دمائها, فإنه تعالى هو الغني عما سواه وقد كانوا في جاهليتهم إذا ذبحوها لاَلهتهم وضعوا عليها من لحوم قرابينهم, ونضحوا عليها من دمائها, فقال تعالى: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن أبي حماد, حدثنا إبراهيم بن المختار عن ابن جريج قال: كان أهل الجاهلية ينضحون البيت بلحوم الإبل ودمائها, فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق أن ننضح, فأنزل الله {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} أي يتقبل ذلك ويجزي عليه, كما جاء في الصحيح «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم, ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم». وجاء في الحديث «إن الصدقة لتقع في يد الرحمن قبل أن تقع في يد السائل, وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض» كما تقدم في الحديث, رواه ابن ماجه والترمذي, وحسنه عن عائشة مرفوعاً, فمعناه أنه سيق لتحقيق القبول من الله لمن أخلص في عمله وليس له معنى يتبادر عند العلماء المحققين سوى هذا, والله أعلم.
    وقال وكيع عن يحيى بن مسلم أبي الضحاك: سألت عامراً الشعبي عن جلود الأضاحي, فقال: {لن ينال الله لحومُها ولا دماؤها} إن شئت فبع, وإن شئت فأمسك, وإن شئت فتصدق. وقوله: {كذلك سخرها لكم} أي من أجل ذلك سخر لكم البدن {لتكبروا الله على ما هداكم} أي لتعظموه كما هداكم لدينه وشرعه وما يحبه ويرضاه ونهاكم عن فعل ما يكرهه ويأباه. وقوله: {وبشر المحسنين} أي وبشر يا محمد المحسنين أي في عملهم القائمين بحدود الله المتبعين ما شرع لهم المصدقين الرسول فيما أبلغهم وجاءهم به من عند ربه عز وجل.
    (مسألة) وقد ذهب أبو حنيفة ومالك والثوري إلى القول بوجوب الأضحية على من ملك نصاباً, وزاد أبو حنيفة اشتراط الإقامة أيضاً, واحتج لهم بما رواه أحمد وابن ماجه بإسناد رجاله كلهم ثقات, عن أبي هريرة مرفوعاً: «من وجد سعة فلم يضح, فلا يقربن مصلانا» على أن فيه غرابة, واستنكره أحمد بن حنبل, وقال ابن عمر: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين يضحي, رواه الترمذي. وقال الشافعي وأحمد: لا تجب الأضحية بل هي مستحبة لما جاء في الحديث: «ليس في المال حق سوى الزكاة» وقد تقدم أنه عليه الصلاة والسلام ضحى عن أمته, فأسقط ذلك وجوبها عنهم. وقال أبو سريحة: كنت جاراً لأبي بكر وعمر, فكانا لا يضحيان خشية أن يقتدي الناس بهما, وقال بعض الناس: الأضحية سنة كفاية, إذا قام بها واحد من أهل دار أو محلة أو بيت, سقطت عن الباقين لأن المقصود إظهار الشعار. وقد روى الإمام أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي عن محنف بن سليم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعرفات: «على كل أهل بيت في كل عام أضحاة وعتيرة, هل تدرون ما العتيرة ؟ هي التي تدعونها الرجبية» وقد تكلم في إسناده. وقال أبو أيوب: كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته, فيأكلون ويطعمون حتى تباهى الناس, فصار كما ترى, رواه الترمذي وصححه وابن ماجه, وكان عبد الله بن هشام يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله, رواه البخاري. وأما مقدار سن الأضحية فقد روى مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تذبحوا إلا مسنة, إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» ومن ههنا ذهب الزهري إلى أن الجذع لا يجزىء, وقابله الأوزاعي فذهب إلى أن الجذع يجزىء من كل جنس, وهما غريبان. والذي عليه الجمهور إنما يجزىء الثني من الإبل والبقر والمعز, أو الجذع من الضأن, فأما الثني من الإبل فهو الذي له خمس سنين ودخل في السادسة, ومن البقر ما له سنتان ودخل في الثالثة, وقيل ما له ثلاث ودخل في الرابعة, ومن المعز ما له سنتان, وأما الجذع من الضأن فقيل ما له سنة, وقيل عشرة أشهر, وقيل ثمانية, وقيل ستة أشهر, وهو أقل ما قيل في سنه, وما دونه فهو حمل, والفرق بينهما أن الحمل شعر ظهره قائم. والجذع شعر ظهره نائم. قد انفرق صدغين والله أعلم.** إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ كُلّ خَوّانٍ كَفُورٍ
    يخبر تعالى أنه يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه شر الأشرار وكيد الفجار ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم, كما قال تعالى: {أليس الله بكاف عبده} وقال: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره, قد جعل الله لكل شيء قدراً} وقوله: {إن الله لا يحب كل خوان كفور} أي لا يحب من عباده من اتصف بهذا, وهو الخيانة في العهود والمواثيق لا يفي بما قال, والكفر الجحد للنعم, فلا يعترف بها.


    ** أُذِنَ لِلّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنّ اللّهَ عَلَىَ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاّ أَن يَقُولُواْ رَبّنَا اللّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لّهُدّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنّ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنّ اللّهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ قال العوفي عن ابن عباس: نزلت في محمد وأصحابه حين أخرجوا من مكة. وقال مجاهد والضحاك, وغير واحد من السلف كابن عباس ومجاهد وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة وغيرهم: هذه أول آية نزلت في الجهاد, واستدل بهذه الاَية بعضهم على أن السورة مدنية. وقال ابن جرير: حدثني يحيى بن داود الواسطي, حدثنا إسحاق بن يوسف عن سفيان عن الأعمش عن مسلم هو البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكن. قال ابن عباس: فأنزل الله عز وجل {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير} قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: فعرفت أنه سيكون قتال. وقال الإمام أحمد عن إسحاق بن يوسف الأزرق به, وزاد: قال ابن عباس وهي أول آية نزلت في القتال. ورواه الترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما وابن أبي حاتم من حديث إسحاق بن يوسف, زاد الترمذي ووكيع كلاهما عن سفيان الثوري به. وقال الترمذي: حديث حسن, وقدرواه غير واحد عن الثوري وليس فيه ابن عباس.
    وقوله: {وإن الله على نصرهم لقدير} أي هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال, ولكن هو يريد من عباده أن يبذلوا جهدهم في طاعته, كما قال: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منّاً بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لا نتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض, والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم} وقال تعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين, ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم} وقال: {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعلمون} وقال: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} وقال: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} والاَيات في هذا كثيرة.
    .

    يتبع

    .

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد 24 نوفمبر - 11:11