[b][i]نبذة عن حياة السريف محمد عبد الله ابن عبد الودود السباعي الإدريسي:
هو:الولي، العلامة، شيخ القراء، الشريف، الألمعي، محمد عبدالله بن محمد المصطفى بن عبد الودود بن عبد الوهاب حبيب (الله) بن الحاج احمد بن الحاج امـحمد بن (عبد الوهاب)الملقب الحاج بن ادميس ، ثم السباعي الإدريسي الحسني الفاطمي.
ميلاده، ونشأته:
ولد الولي الشريف محمد عبد الله ابن عبد الودود بالجديدة، عمالة (دكالة) بالمغرب، حوالي سنة: 1287هـ/1870م. وقد أنجبته الشريفة، الفاضلة، والكريمة المثالية: فاطمة العزيزة الملقبة (زيزه) بنت احميِّد بن الحاج عبدالله بن الحاج امـحمد بن (عبد الوهاب)الملقب الحاج بن ادميس، المتوفاة سنة 1923م ،وقد شُرِّف مزار "آبْلَيْغْ" أي أبلغ في نواحي الواد الذي يقال له "آلْزَازْ" الواقع جنوب شرقي نواذيبو بإيوائه لمثواها الأخير. يقول الناظم مبينا أمهاته على الترتيب:
*أَمَّا الرِّضَى مُحَمَّدٌ عَبْدُ الإِلَهْ ** دَفِينُ إِللُّوكَ الَّذِي شَاعَ عَلاَهْ*
*وَفَاتُهُ عَامَ تَسَاقُطِ النُّجُومْ ** تَارِيخُهَا بِـ(ـبَـنْـسَـشٍ) يَالَ الْعُلُومْ*
*وَأُمُّهُ فَاطِمَ لَعْزِيزَ الَّـتِـي ** تُنْمَى لإِحْمَـيِّـدْ مُقِيمِ الْمِلَّةِ*
*يُنْمَى لأَهْلِ الْحَاجِ عَبْدَ اللَّ الْكِرَامْ ** مَنْ لاَ نَرَى شِبْهًا لَهُمْ بَيْنَ الأَنَامْ*
*وَأُمُّهَا سُكَيْنَه بِنْتٌ لِلأَمِينْ ** مُحَمَّدِ الرِّضَى الْفَتَى السَّامِي الأَمِينْ*
*مِنَ اهْلِ إِبْرَاهِيمَ ذِي الْمَعَالِي ** أَهْلِ الرُّقِيِّ لِلْمَقَامِ الْعَالِي*
*كَذَاكَ أُمُّ الْخَيْرِ وَالإِحْسَانِ ** أُمٌّ لِـتِـي تُنْمَى إِلَى الدَّيْمَانِي*
*أَوْلاَدُ طَالِبِ اعْلِ أَصْلُهَا الشَّرِيفْ ** قَبِيلُهَا نِعْمَ الْقَبِيلُ لاَ أَحِيفْ*
*وَبِنْتُ إِسْوَيْدِ وَبِالْفَضْلِ أَشِرْ ** لِمِثْلِهَا أُمٌّ لِتِي كَمَا ذُكِرْ*
*قَبِيلُهَا أَوْلاَدُ طَالِبِ الْعَلِي ** أَيْضًا وَذَا الْقَبِيلُ مِنْ بَنِي عَلِي*
*وَمَانَ إِشْكَيْرَ إِلَى فَكْنَاشِ ** تُنْمَى وَذَاكَ الْفَضْلُ مِنْهُ فَاشِ*
*وَذَاكَ يُنْمَى لِلْكِرَامِ أُنْبُوبَاتْ ** مَنْ فِيهُمُ الْمَعْرُوفُ قَدْ ظَلَّ وَبَاتْ*
وقد تربى الولي الشريف محمد عبد الله، وترعرع في أحضان أبويه الفاضلين الكريمين الصالحين، حيث عنيا بتربيته التربية المثالية أعظم عناية، فتعلم القرآن الحكيم، وأجاد حفظه. وأتقن فنون تجويده، وضبط رسمه، وبرع في تلاوته، وترتيله، وعلم مخارج حروفه، وحسن أدائه، حتى أصبح شيخا، مقرئا، معتمدا، وأستاذا للمحاضر القرآنية، ومعلما لأبناء المسلمين من كل جنس.
كما درس إلى جانب القرآن العظيم العلوم الشرعية، وصار عالما بفنونها المختلفة. مما سيأتي في شهادة من شهد له بذلك من أجلاء العلماء، وأكابر الفضلاء.
سجاياه وخلقه:
كان الشريف محمد عبد الله عابدا، قانتا لله، وورعا، وملازما لقيام الليل، يتلو كتاب الله العزيز، مدمنا على الصيام تطوعا لله جل جلاله، في سائر فصول السنة، وكان حسن الخلق، متواضعا، وعزوفا عن الفضول ومجالسه، أبي النفس مترفعا عن الخنا، دائم التفكر، كثير الذكر، في الأوقات التي لا يرتل فيها آي الذكر الحكيم. كما كان منفقا في سبيل الله تعالى، وعطوفا على الفقراء والمساكين، رحيما بالضعفاء، وحنونا على ذوي القربى، ووصولا لهم ماديا، ومعنويا، وزاهدا في حطام الدنيا، ولا يهمه منه إلا ما يسد به خلته، أو ما يكسب به حسنة المعاد، أوخصلة حميدة، لا لنفسه، وعقبه فحسب، وإنما لذويه، ولقبيلته، ولا يعمل إلا في المباح، ولا يصغي إلى لهو الحديث، ولا يلتفت إلى ما لا يعنيه، وقد عرف بكرم النفس والقناعة والصدق والوفاء بالعهد والذكاء وسرعة البديهة يصدق عليه مضمون قول الشعراء:
*وَقَدْ أَقْصَدَتْ جُودًا وَمَجْدًا وَسُؤْدَدًا ** وَحِلْمًا أَصِيلاً خَالَفَتْهُ الْمَجَاهِلُ*
***
*مَنْ قَاسَ جَدْوَاكَ بِالْغَمَامِ فَمَا ** أَنْصَفَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ شَكْلَيْنِ*
*أَنْتَ إِذَا جُدْتَ ضَاحِكٌ أَبَدًا ** وَهْوَ إِذَا جَادَ دَامِعُ الْعَيْنِ*
***
*مَا نَوَالُ الْغَمَامِ وَقْتَ رَبِيعٍ ** كَنَوَالِ الأَمِيرِ وَقْتَ سَخَاءِ*
*فَنَوَالُ الأَمِيرِ بَدْرَةُ مَالٍ ** وَنَوَالُ الْغَمَامِ قَطْرَةُ مَاءِ*
***
*إِنَّ الْقَنُوعَ نَفِيسُ النَّفْسِ رَاشِدُهَا ** وَهْوَ الْغَنِيُّ الَّذِي يَحْيَا بِلاَ نَصَبِ*
*وَذُو الْمَطَامِعِ مَغْرُورٌ وَمُفْتَقِرُ ** وَلَوْ حَوَى مُلْكَ سُلْطَانٍ وَعِلْمَ نَبِي*
***
*أَفَادَتْنِي الْقَنَاعَةُ كُلَّ عِزٍّ ** وَهَلْ عِزٌّ أَعَزُّ مِنَ الْقَنَاعَةْ*
***
*الصِّدْقُ عِزٌّ فَعَنْهُ لاَ تَرُمْ عِوَضًا ** وَاحْذَرْ مِنَ الْكَذِبِ الْمَذْمُومِ فيِ الْخُلُقِ*
***
*عَلَيْكَ بِالصِّدْقِ وَلَوْ أَنَّهُ ** أَحْرَقَكَ الصِّدْقُ بِنَارِ الْوَعِيدْ*
***
*عَلَيْكَ بِالصِّدْقِ فِي كُلِّ الأُمُورِ وَلاَ ** تَكْذِبْ فَأَقْبَحُ مَا يُزْرِي بِكَ الْكَذِبُ*
***
*مَا أَحْسَنَ الصِّدْقَ فِي الدُّنْيَا لِقَائِلِهِ ** وَأَقْبَحَ الْكِذْبَ عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ*
اهـ ملخصا من كتاب "اللؤلؤ المشاع، في مآثر أبناء أبي السباع".
قلت: مصداقا لما ألمح إليه المؤلف من نعوت هذا الولي الشريف، وسجاياه الحميدة، ومآثره الفاضلة العظيمة، الكثيرة يصدقه بعض ما رواه الجم الغفير من العلماء والثقات، وما تواترت عليه روايات السواد الأعظم من سكان المغرب، وموريتانيا، والسنغال، وما لهج بذكره الشعراء نظما، والأدباء نثرا وخاصة العلامتان الشهيران فضيلة القاضي، الإمام بن الشريف بن سيدي أحمد بن الصبار المجلسي، وفضيلة أمير الشعراء، وملك البلغاء أحمدُّ بن محمدا بن البشير المالكي اللذين قابلتهما وتحدثا لي بإسهاب عن هذا الولي فأقول: "حدثني الإمام بن الشريف قال إن الولي الشريف محمد عبد الله ابن عبد الودود كان صديقا لي، وكثيرا ما كنت أجالسه وأناقش معه المسائل العلمية، وخاصة الفقه المالكي، وكان إماما في علوم القرآن الكريم، بارعا في تجويده ،ودرايته بفنونه ،ومدمنا على قيام الليل ،وتلاوته في صلاة النفل ،وكان كثير الصيام ،بحيث إنه يفطر يوما، ويصوم يوما، على مر أيام السنة، وملازما لتعليم القرآن، وتحفيظه لأبناء المسلمين، من كل عنصر، جمعه معه جوار، بدون أجرة، وبدون أي مقابل مهما كان نوعه، كما كان ذكيا، صدوقا، وفيا، عفيفا، وصوفيا سنيا، وورعا، متواضعا، دمث الأخلاق، سهل السجايا، وسخيا، منفقا في سبيل الله تعالى، ومكرما للضيوف، وكان عزوفا عن العبث والفضول، وقليل الكلام، لسانه لا يفتر عن ذكر الله عز وجل، إلا في أوقات التلاوة القرآنية، أوساعة الهجوع القليل. فكأن الشاعر يعنيه بقوله:
*لَهُ حَاجِبٌ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ يَشِينُهُ ** وَلَيْسَ لَهُ عَنْ طَالِبِ الْعُرْفِ حَاجِبُ*
*يَصُومُ عَنِ الْعَوْرَاءِ حَتَّى كَأَنَّهُ ** إِذَا ذُكِرَتْ فِي مَجْلِسِ الْقَوْمِ غَائِبُ*
وكان ديدنه الاستقامة، والثبات في المبدإ، والحرص على اتباع هدي محمد صلى الله عليه وسلم، متمسكا بعقيدة أهل السنة، وكان نفورا من الابتداع، والشعوذة، وكثير مطالعة الكتب، كالكتب الفقهية وكتب السيرة وغير ذلك...: « وحدثني العلامة، والشاعر الكبير، أحمدُّ بن محمدا بن البشير بن أخيار المالكي، بمثل ما حدثني به الإمام بن الشريف».
وما رويت عن هذين العلامتين معروف عند الشناقطة، ولا يختلف عليه اثنان، مما بلغ درجة التواتر.
وهكذا اكتفيت بإثبات هذا الملخص الذي اتفق عليه هذان العلامتان فيما روياه من مآثر المرحوم وخصاله الحميدة وما أكداه في مدحهما له، وما شاع، وذاع بين الخواص، والعوام، وما سجلته دوائر المعارف هنا وهنالك، وقد ظل طيلة حياته معتمدا على نفسه في تحصيل طارف المجد إضافة إلى تالده الذي خلده آباؤه الكرام معتبرا قول الشاعر:
*وَلَيْسَ يَسُودُ الْمَرْءُ إِلاَّ بِنَفْسِهِ ** وَإِنْ عَدَّ آبَاءً كِرَامًا ذَوِي حَسَبْ*
*إِذَا الْعُودُ لَمْ يُثْمِرْ وَلَوْ كَانَ شُعْبَةً ** مِنَ الْمُثْمِرَاتِ اعْتَدَّهُ النَّاسُ مِنْ حَطَبْ*
وكأن نفسه تقول له:
*اشْتَرِ الْعِزَّ بِمَا بِيـ ** ـعَ فَمَا الْعِزُّ بِغَالِ*
*لَيْسَ بِالْمَغْبُونِ عَقْلاً ** مُشْتَرٍ عِزًّا بِمَالِ*
*إِنَّمَا يُدَّخَرُ الْمَا ** لُ لِحَاجَاتِ الرِّجَالِ*
*وَالْفَتَى مَنْ جَعَلَ الأَمْـ ** ـوَالَ أَثْمَانَ الْمَعَالِي*
وبعد ما شهد به هذان العالمان نثرا نورد بعض ما شهدا به شعرا على ما أوردا من مناقب هذا الولي الشريف: يقول القاضي الإمام بن الشريف بن سيدي احمد بن الصبار المجلسي، من قصيدة له:
*قَدْ تَقَفَّى آبَاءَ صِدْقٍ أُبَاةٍ ** مِنْ أُبَاةٍ أَكَارِمٍ صُلَحَاءِ*
*نَجْلُ عَبْدِ الْوَدُودِ مَنْ كَانَ بَدْرًا ** بَادِيَ الْفَخْرِ بَيْنَ أَهْلِ الْبَرَاءِ*
*إِنَّ عَبْدَ الإِلَهِ بَعْدَ مُحَمَّدْ ** نَفْعُهُ عَمَّ مَعْشَرَ الضُّعَفَاءِ*
*كَانَ غَيْثًا لِلْعَالَمِينَ مُغِيثًا ** وَرَئِيسًا لِزُمْرَةِ الْفُضَلاَءِ*
*وَبَنُو الْحَاجِ أَحْمَدٍ قَدْ تَسَامَوْا ** بِالَّذِي نَالَ فَوْقَ أَهْلِ الْعَلاَءِ*
*شَيَّدُوا سَمْكَ دِينِ أَحْمَدَ طَهَ ** وَبِهِمْ كَانَ ذَا سَنًى وَبَهَاءِ*
ويقول أحمدُ بن محمدا بن البشير من قصيدة له:
*فَلِذَا كَانَ سَعْيُهُ مُذْ صِبَاهُ ** قَصْدَ مَرْضَاةِ رَبِّهِ ذِي الْجَلاَلِ*
*فَأَبُوهُ عَبْدُ الْوَدُودِ الْمُفَدَّى ** سَعْيُهُ كَانَ وَفْقَ هَذَا الْمَجَالِ*
*فَتَرَاهُ فِي رِفْعَةٍ وَسَنَاءٍ ** مِثْلَ بَدْرٍ عَلَى رُؤُوسِ الْجِبَالِ*
*يَا مُحَمَّدْ عَبْدَ الإِلَهِ سَعِيدًا ** عِشْتَ فِينَا وَفِي سُمُوِّ الْمَعَالِي*
ويقول أيضا:
*فِي عِلْمِهِ وَصَلاَحِهِ وَذَكَائِهِ ** مَا إِنْ رَأَيْتُ لِوَتْرِهِ مِنْ ثَانِ*
*حَدِّثْ بِمَا قَدْ شِئْتَهُ مِنْ فَضْلِهِ ** فَلَهُ الَّذِي يَسْمُو عَنِ التِّبْيَانِ*
ويقول:
*وَأَبُو الأَمِينِ مُحَمَّدٌ عَبْدُ الإِلَـ ** ـهِ أَخُو الصَّلاَحِ وَنَجْدَةٌ لِلزَّائِرِ*
وله أيضا:
*مُحَمَّدُ عَبْدُ اللهِ غَوْثٌ وَمَأْمَنٌ ** لِكُلِّ أَخِي خَوْفٍ إِذَا عَدِمَ الأَمْنَا*
وقد جمع مؤلف "اللؤلؤ المشاع، في مآثر أبناء أبي السباع" ما قيل من مدائح
ومراثي وأخبار هذا الولي الشريف وهذه نماذج منه:
[size=21]يقول أحمدو بن أسند الجكني من قصيدة له:
*يَا جَوْهَرَ الأَشْرَافِ فِي الأَنْدَاءِ**وَغَوْثَ كُلِّ ذَاهِبٍ وَجَاءِ*
*مُحَمَّدًا عَبْدَ الإِلَهِ الرَّائِي**بِقَلْبِهِ حَقَائِقَ الأَشْيَاءِ*
ويقول محمد الأمين بن اخليفه من قصيدة له:
*يَا لَهُ مِنْ خَلِيفَةٍ لِمُحَمَّدْ**عَابِدِ اللهِ مَنْ أَطَاعَ الْعَلِيمَا*
ويقول المختار بن محمد الأمين المجلسي من نظم له الأغلب من أشطاره الأخيرة من لامية الأفعال:
*بَنَى مُحَمَّدْ عَابِدُ اللهِ النَّــدَى**قِدْمًا وَمَنْ بَنَى فَلَنْ يُفَنَّدَا*
*فَوَصْفُهُ بِكُلِّ وَصْفٍ قَـدْ حُمِدْ**يَجُوزُ نَحْوَ فَائِزٌ أُولُوا الرَّشَدْ*
*وَهْوَ لأَخْلاَقِ جُدُودِهِ اعْتَمَى**وَشَذَّ مُعْطًى غَيْرَ مَـا قَدْ رُسِمَا*
*فَانْفِ بِمَا نَظِيرَهُ فِي الْكُرَمَا**وَالْتَزِمِ التَّعْلِيقَ قَبْلَ نَفْيِ مَا*
*وَاذْكُرْ صِفَاتِهِ بِلاَ تَقْلِيلِ**وَلاَ تُجِزْ هُنَا بِلاَ دَلِيلِ*
*وَقُلْ وَظُنَّ فِيهِ خَيْرًا وَتُقَى**وَأُجْرِيَ الْقَوْلُ كَظَنَّ مُطْلَقَا*
*لَهُ التُّقَى وَالْحِلْمُ وَالْجُـودُ كَمَا**إِلَى ثَلاَثَةٍ رَأَى وَعَلِمَا*
*وَالِدُهُ كَانَ الذَّكِيَّ النَّدُسَـا**فَهْوَ بِهِ فِي كُلِّ حُكْمٍ ذُو ائْتِسَا*
*وَسَعْيُهُ لِفِعْلِ بِرٍّ وَعَــلاَ**كَذَا لِمَا ضَاهَاهُمَا قَدْ جُعِلاَ*
*خَوْفُ الإِلَهِ دَأْبُهُ فَإِنْ ظَهَرْ**فَهْوَ وَإِلاَّ فَضَمِيرٌ اسْتَتَرْ*
*رَاحَتُهُ بِالْبَذْلِ نَقْدًا تَجْتَزِي**وَتَبْسُطُ الْبَذْلَ بِوَعْدٍ مُنْجَزِ*
*بِالْحَمْدِ فِي أَيَّامِهِ يَنْفَرِدُ**وَالْفِعْلُ لِلظَّاهِرِ بَعْدُ مُسْنَدُ*
*أَخْلاَقُهُ تَظْهَرُ عِنْدَ مَا يُرَى**وَيَرْفَعُ الْفَاعِلَ فِعْلٌ اضْمِرَا*
*وَأَفْرِدَنْهُ عَنْ سِوَاهُ بِالْعَلاَ**وَالْحَذْفُ مَعْ فَصْلٍ بِإِلاَّ فَضُلاَ*
*بَنُوهُ شَابَهُوهُ فِي الْمَحَافِلِ**يَنُوبُ مَفْعُولٌ بِهِ عَنْ فَاعِلِ*
*وَإِذْ حَكَى أَبَاهُ طِيبَ أَصْلِ**كَالأَوَّلِ اجَعَلنَّهُ كَاسْتُحْلِي*
*فَانْسُبْ لَهُ مَا لأَبِيهِ مِنْ رُتَبْ**وَمَا لِبَاعَ قَدْ يُرَى لِنَحْوِ حَبْ*
*وَلِبَنِيهِ مَا لَهُ مِنْ مَفْخَرِ**وَقَابِلٌ مِنْ ظَرْفٍ اوْ مِنْ مَصْدَرِ*
*وَلاَ أَظُنُّ أَنْ يُرَى مِثْلُ الأَغَرْ**فِي بَابِ ظَنَّ وَأَرَى الْمَنْعُ اشْتَهَرْ*
هذا ومن كرمه، وتواضعه، وحسن أخلاقه، ونبل فعاله، وعنايته بالضيوف وأبناء السبيل وعطفه على الضعفاء، ما رواه العلامة الإمام بن الشريف ابن سيدي أحمد بن الصبار المجلسي، قال: "رافقت ذات مرة صديقي الحميم الولي الشريف محمد عبد الله ابن عبد الودود، وجماعة من أفاضل أبناء عمه الشرفاء السباعيين، الموجودين بمدينة اللُّوكَ آنذاك، حيث خرجوا متوجهين نحو مدينة أنْكَايْ مَخِ السنقالية تلبية لدعوة أحد أفاضل أبناء عمومتهم يقطن في هذه المدينة، وبعد وصولهم إلى منزل هذا الداعي، واطمئنان الجلاس، وهدوء المجلس، واعتلاء المدعوين للفرش الفاخرة المعدة لهم فاجأهم اقتحام نفر من باعة الملح للغرفة التي يجلس فيها وفد الشرفاء المدعو، وجلس أفراد ذلك النفر في وسط المجلس، وكلهم يرتدي خرقة بالية، قد احمر لونها لشدة اتساخها، وكانت شعورهم ثائرة تثير الرعب في النفوس قبل أن تشمئز الأعين من رؤيتها المخيفة. فما كان من الندب الكريم محمد عبد الله ابن عبد الودود إلا أن يفسح لهم في المجلس، ويجلس معهم يحادثهم ملاطفة، وإيناسا لهم ولما قدمت الموائد، وألوان الطعام، جلس على الخوان معهم، وأخذ يؤاكلهم تواضعا لله تعالى، ورحمة بعباده المسلمين، الغرباء، البائسين، وتنازلا عن جماح الشباب، وعزوفا منه عن الكبر، وتقدير النفس، والإعجاب بجمال المنظر، والاغترار بشرف النسب، وكرم المحتد، وعظم المنزلة الاجتماعية، والمكانة التجارية؛ فاستغرق الحضور التعجب من تواضع هذا البدر المنير، الشريف الشاب الجميل، الذي يجلس إلى هؤلاء الصعاليك، البداة، ويؤاكل أولئك الأجلاف المتوحشين الذين يستقذر منظرهم كل شخص في نفسه نزعة من الكبر، والإعجاب بالنفس، والاغترار بالمظاهر الشكلية، فكأنه هو المعني في قول الشاعر:
*تَكَامَلَتْ فِيكَ أَوْصَافٌ خُصِصْتَ بِهَا**فَكُلُّنَا بِكَ مَسْرُورٌ وَمُغْتَبِطُ*
*السِّنُّ ضَاحِكَةٌ وَالْكَفُّ مَانِحَةٌ**وَالنَّفْسُ وَاسِعَةٌ وَالْوَجْهُ مُنْبَسِطُ*
وقول الآخر:
*بَنَتِ الْمَكَارِمُ وَسْطَ كَفِّكَ مَنْزِلاً**وَجَمِيعُ مَالِكَ لِلأَنَامِ مُبَاحُ*
*فَإِذَا الْمَكَارِمُ قُفِّلَتْ أَبْوَابُهَا**فَيَدَاكَ هِيَ لِقِفْلِهَا مِفْتَاحُ*
وقول الآخر:
*يَكَادُ يَحْكِيكَ صَوْبُ الْغَيْثِ مُنْسَكِبًا**لَوْ كَانَ طَلْقَ الْمُحَيَّا يُمْطِرُ الذَّهَبَا*
*وَالدُّرُّ لَوْ لَمْ يَخُنْ وَالشَّمْسُ لَوْ نَطَقَتْ**وَاللَّيْثُ لَوْ لَمْ يَصِدْ وَالْبَحْرُ لَوْ عَذُبَا*
وقول الآخر:
*لِمُخْتَلِفِي الْحَاجَاتِ جَمْعٌ بِبَابِهِ**فَهَذَا لَهُ فَنٌّ وَهَذَا لَهُ فَنُّ*
*فَلِلْخَامِلِ الْعَلْيَا وَلِلْمُعْدِمِ الْغِنَـى**وَلِلْمُذْنِبِ الْعُتْبَى وَلِلْخَائِفِ الأَمْـنُ*
وكأنه معني بقول الشاعر في جده عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط رضي الله عنهم .
*يَا مَنْ يُؤَمِّلُ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ**كَصِفَاتِ عَبْدِ اللهِ أَنْصِتْ وَاسْمَعِ*
*اصْدُقْ وَعُفَّ وَبِرَّ وَاصْبِرْ وَاحْتَمِلْ**وَاحْلُمْ وَدَارِ وَكاَفِ وَابْذُلْ وَاشْجَعِ*
وكأن ابن الرومي يعنيه بقوله:
*جَنَابُكَ لَيْسَ لِي عَنْهُ انْتِقَالٌ**وَإِنِّي مَا وَجَدْتُ لَهُ مِثَالاَ*
*كَرِيمٌ مَاجِدٌ حُرٌّ وَفِيٌّ**عَنِ الْحَسَنَاتِ لاَ يَبْغِي زَوَالاَ*
وكأن والده محمد المصطفى بن عبد الودود أوصاه بما قاله الشعراء في الأبيات التالية:
*اِزْرَعْ جَمِيلاً وَلَوْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ**مَا خَابَ قَطُّ جَمِيلٌ أَيْنَمَا زُرِعَا*
***
*أُشْدُدْ يَدَيْكَ بِمَنْ بَلَوْتَ وَفَاءَهُ**إِنَّ الْوَفَاءَ مِنَ الرِّجَالِ عَزِيزُ*
***
*صَافِ الْكِرَامَ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ التُّقَى**وَاحْذَرْ عَلَيْكَ مَوَدَّةَ الأَنْذَالِ*
***
*صُنِ الْعِرْضَ وَابْذُلْ كُلَّ مَالٍ مَلَكْتَهُ**فَإِنَّ ابْتِذَالَ الْمَالِ لِلْعِرْضِ أَصْوَنُ*
***
*عَطَاؤُكَ ذَا الْقُرْبَى عُلُوٌّ وَفَوْقَهُ**عَطَاؤُكَ فِي أَهْلِ الشَّنَاءَةِ وَالْبُعْدِ*
***
*عَفَافُكَ غَيٌّ إِنَّمَا عِفَّةُ الْفَتَى**إِذَا عَفَّ عَنْ لَذَّاتِهِ وَهْوَ قَادِرُ*
***
*فَالْحِلْمُ أَحْسَنُ مَا ازْدَانَ اللَّبِيبُ بِهِ**وَالأَخْذُ بِالْعَفْوِ أَحْلَى مَا جَنَى جَانِ*
***
*مَلَّتْ جَهَابِذُ فَضْلٍ وَزْنَ نَائِلِهِ**وَمَلَّ كَاتِبُهُ إِحْصَاءَ مَا يَهَبُ*
*وَاللهِ لَوْلاَكَ لَمْ يُمْدَحْ بِمَكْرُمَةٍ**خَلْقٌ وَلَمْ يَرْتَفِعْ مَجْدٌ وَلاَ حَسَبُ*
وفي جماعة من الشرفاء السباعيين، تضم هذا الولي الشريف يقول الطبيب الندب الهمام المختار بن الشيخ الحكيم محمد بن أوفى المقطوعة الشعرية الآتية:
*مِنَ ابْنَا ذِي السِّبَاعِ لَقِيتُ عِيرَا**أَعَارَ الْقَلْبَ مِنْ فَرَحٍ سَعِيرَا*
*فَذَكَّرَنِي زَمَانَ الْوَصْلِ قِدْمًا**وَتِسْعَةَ فِتْيَةٍ فَقَدُوا عَشِيرَا*
*فَمَا رَكِبُوا سِوَى بُزْلٍ وَنُوقٍ**جَدِيلاَتٍ وَمَا زَمُّوا بَعِيرَا*
*فَمَا أَخَذُوا سِوَى تَمْرٍ وَلَحْمٍ**لِزَادِهِمُ وَمَا أَخَذُوا شَعِيرَا*
*وَكُلُّ مَزَادَةٍ تُبْدِي جَفَافًا**وَقَدْ ضَمَّتْ بِبَاطِنِهَا غَدِيرَا*
*يَصُفُّونَ الْكُؤُوسَ مُصَفِّيَاتٍ**مِنَ الرَّاحِ الْعَتِيقَ الْمُسْتَدِيرَا*
*وَضَيْفُهُمُ الْمُقَدَّمُ كُلَّ وَقْتٍ**مَتَى أَكَلُـوا وَإِنْ بَسَطُوا سَرِيرَا*
- والمختار المذكور هذا هو: المختار بن الشيخ محمد بن أوفى الشمشوي،وقد أنجبته الصالحة الشفا بنت باب - إبنة عم والده - للشيخ محمد بن أوفى حوالي سنة 1880م . وقد توفي سنة 1943م تاركا وراءه عالما باكيا،نادبا ومعزيا،وراثيا الصلاح,والعلم,والطب,والآداب والأخلاق الفاضلة؛-
وفاته رحمه الله:
في سنة 1352هـ الموافقة: 1933م. أفل بدر التقوى المنير، وأظلمت دنيا الإسلام، واكفهر جو السؤدد والمعالي غداة انتقال صالح العلماء، وعالم الصلحاء، الولي الشريف: محمد عبد الله بن محمد المصطفى بن عبد الودود، إلى الرفيق الأعلى. فأنشد لسان الحال مخاطبا كل من عرفه قول الشاعر:
*أَنْعِي إِلَيْكَ خِلاَلَ الْخَيْرِ قَاطِبَةً**لَمْ يَبْقَ مِنْهُنَّ إِلاَّ دَارِسُ الْعَلَمِ*
*أَيْنَ الْوَفَاءُ الَّذِي قَدْ كَانَ يَعْرِفُهُ**قَوْمٌ لِقَوْمٍ وَأَيْنَ الْحِفْظُ لِلْحَرَمِ*
*أَيْنَ الْجَمِيلُ الَّذِي قَدْ كَانَ يَلْبَسُهُ**أَهْلُ الْوَفَاءِ وَأَهْلُ الْفَضْلِ وَالْكَرَمِ*
وقول الآخر:
*أَلاَ ذَهَبَ الْحُلْوُ الْحَلاَلُ الْحُلاَحِلُ**وَمَنْ عَقْدُهُ حَزْمٌ وَعَزْمٌ وَنَائِلُ*
*وَمَنْ قَوْلُهُ فَصْلٌ إِذَا الْقَوْمُ أُفْحِمُوا**يُصِيبُ مُرَادِي قَوْلُهُ مَا يُحَاوِلُ*
وما قاله الجمحي في زيد بن الحسن السبط:
*فَإِنْ يَكُ زَيْدٌ وَارَتِ الأَرْضُ شَخْصَهُ**فَقَدْ كَانَ مَعْرُوفٌ هُنَاكَ وَجُودُ*
*وَإِنْ يَكُ أَمْسَى رَهْنَ رَمْسٍ فَقَدْ ثَوَى**بِهِ وَهْوَ مَحْمُودُ الْفِعَالِ حَمِيدُ*
*سَرِيعٌ إِلَى الْمُضْطَرِّ يَعْلَمُ أَنَّهُ**سَيَطْلُبُهُ الْمَعْرُوفُ ثُمَّ يَعُودُ*
*وَلَيْسَ بِقَوَّالٍ وَقَدْ حَطَّ رَحْلَهُ**لِمُلْتَمِسٍ يَرْجُوهُ أَيْنَ تُرِيدُ*
*إِذَا قَصَّرَ الْوَغْدُ الدَّنِيُّ سَمَا بِهِ**إِلَى الْمَجْدِ آبَاءٌ لَهُ وَجُدُودُ*
*إِذَا مَاتَ مِنْهُمْ سَيِّدٌ قَامَ سَيِّدٌ**كَرِيمٌ فَيَبْنِي مَجْدَهُمْ وَيَشِيدُ*
وأنشد واقعه هو رحمه الله قول الشاعر:
*أَحْمَدُ رَبِّي عَلَى خِصَالِ**خُصَّ بِهَا سَادَةُ الرِّجَالِ*
*لُزُومُ صَبْرٍ وَخَلْعُ كِبْرٍ**وَصَوْنُ عِرْضٍ وَبَذْلُ مَالِ*
وقول الآخر:
*لَقَدْ فَقَدُوا عَزْمًا وَحَزْمًا وَسُؤْدَدًا**وَلُبًّا أَصِيلاً خَالَفَتْهُ الْمَجَاهِلُ*
وقول الآخر:
*لَقَدْ فُجِعَ الْوَرَى شَرْقًا وَغَرْبًا**بِبَحْرٍ مِنْ بُحُورِ الْعِلْمِ طَامِ*
*بِمَنْ قَدْ كَانَ مِنْ عِلْمٍ وَدِينٍ**عَنِ الإِسْلاَمِ فِي الدُّنْيَا يُحَامِي*
*رَأَى الدُّنْيَا بِعَيْنِ النَّقْصِ لَمَّا**رَأَى مَا دَامَ لَيْسَ بِذِي دَوَامِ*
*وَأَبْصَرَ كُلَّمَا فِيهَا حُطَامًا**فَصَانَ النَّفْسَ عَنْ جَمْعِ الْحُطَامِ*
و هكذا ناح المسلمون على فقده، وبكت الفضائل، والمآثر الحسنة؛ فاندلعت ألسنة الشعراء مؤبنين، ومعزين الإسلام والعروبة، ونادبين المكارم، والمعالي، والأريحية الهاشمية؛ مما أنتج جما غفيرا من المراثي الجيدة، التي تبرهن على عظمة مكانة الفقيد الإسلامية، وتنم عن صنائع عظام كان المرثي يصنعها في حياته كما أن له كرامات ظهرت بعد وفاته تتجلى فيها عظمة شأنه ومن ذلك تلك الكرامة التي تناقلتها الألسن وسارت بها الركبان في كل فج وذكرها الشعراء والكتاب نظما ونثرا وهي ما وقع معه لصاحب الجمل الذي استغاث به وممن شاهد هذه الكرامة العجيبة وحدث بها: الثقة، الضابط، والعدل، الشريف: المامي بن البخاري بن محمد فال بن امْبَيْرِيكْ السباعي، الذي شاهد هو ووالده البخاري ما شاهدا من نجدة الولي الشريف محمد عبد الله ابن عبد الودود لهما:
قال الشريف المامي: "في سنة 1942م سافرت صحبة والدي البخاري رحمه الله، وعمري آنذاك خمس عشرة سنة، متوجهين تلقاء مدينة "اللُّوكَ" السنغالية، ويرافقنا رجال من أبناء أبي السباع، ومع الجميع أذواد من الإبل معروضة للبيع في الأسواق السنغالية، وبعد وصولنا مدينة "اللُّوكَ" نزلنا ضيوفا بدار زعيم من زعماء "الْوُلْفْ" يدعى "بَـلَّ" باللام المغلظة.
وبعد بيع تلك الجمال، وشراء البضائع التي يريد الوالد البخاري بيعها في موريتانيا، والتي من بينها القماش الذي يحظل بيعه، وحمله في الفترة ما بين: 1939 - 1946م بسبب الحرب العالمية الثانية، المدمرة، ومع الأقمشة السمن، وبعض الحبوب؛ مما تحتاج إليه الأقاليم المصابة بالمجاعة، والعري في تلك الآونة.
وبعد تهيئة الأمتعة، وتعبئتها تهيئة للحمل على الجمال، اتصلت بنا زوجة عم والدي أحمد فال العلامة، الملقب "الفقيه"، صاحب المصنفات الجيدة في الفقه، وكافة الاختصاصات العلمية الأخرى: السيدة "لَمَّيْكَفْ" بنت بزيد تريد أن ترافقنا في العودة إلي موريتانيا، ثم التحقت بنا الشريفة السباعية «الْمَكْبُولَهْ» بنت اليزيد، ومعها ناقة مروضة، وعندها متاع خفيف، وجاء معها ابن أخيها: محمد « لَجُورْ» ابن اليزيد ليوصلها إلينا؛ وكانت مطايا والدي تتألف من جمل أبيض ناصع اللون، طروق، وبازل، قوي على حمل الأثقال الثقيلة، ومعه ناقتان، ترويضهما غير كاف. وبعد حمل الأثقال على الجمال غادرنا مدينة "اللُّوكَ" في ليلة مقمرة وخرجنا متجهين شمالا، وسلكنا فجا يمر بين أخصاص الولفيين، ومقبرة الدومة الخضراء في شمال "اللوك"، وكان قد خرج معنا الشريفان: محمد سالم بن خونَهْ، ومحمد فال بن عبد الودود بن "إِطِيرْ" يشيعاننا، ولما رجعا رجع معهما الوالد (البخاري) تتميما للوداع، وصادف ذلك وجودي وأنا أقود القافلة، وفي مقدمتها ناقة "الْمَكْبُولَهْ "، والأخير منها جملنا الذي يحمل أضعاف حمولة ناقتينا، فأمرني الوالد بأن أسلم زمام الناقة الأمامية من القافلة لإحدى السيدتين اللتين خرجتا معنا، وأن أكون وراء القافلة لحراسة الأمتعة التي على المطايا خشية أن يسقط منها شيء، ولا نشعر به، فتركت زمام الناقة لإحدى المرأتين، وسرت وراء القافلة، وما إن اختفى منظر الوالد والرجلين عني حتى فاجأني انقطاع الحبل الرابط بين طرفي العدلين المؤخرين من حمولة الجمل، فسقط المتاع على عنق الجمل، وكاد أن يهلكه لثقله، فضج بالرغاء، وبرك وسقط الحمل كلا على عنقه، وانقطع زمامه، فسمع الرجلان والوالد الرغاء المتلاحق، والمرتفع إلى عنان السماء، فهرعوا نحونا، وقبل أن يصلوا إلينا رأيت رجلا خرج من المقبرة، وقفز من الشباك المحيط بها مسرعا نحونا وهو يرتدي ثوبا أبيض ناصعا يمسكه بيده اليسرى، وكان ربعة من الرجال، وجاءنا، فأخذ قطعة من زمام الجمل، المتقطع، فكمم الجمل بها ليكف عن الرغاء، لئلا ينبه سكان الأخصاص، وينكشف أمرنا، ويطلع الناس على حالنا، وأصلح الحمل، وأعاده مستويا على ظهر الجمل، وجعل يده اليمنى تحت العدل الأيمن من الحمل ورفعه مساعدة للجمل على النهوض به، وكل ذلك فعله بيده اليمنى ماسكا ثوبه بيده اليسرى، حتى انتهى مما يفعله، وكنت أقف بالقرب منه، وأتابع سائر ما قام به من فعل، لأني مندهش من أمره، ومرتبك في شأنه، والمرأتان تنظران إليه، ولما وصل الرجال الثلاثة الآنفي الذكر رأوه جميعا، ولكنهم ارتبكوا مثلي، ولم يفعلوا شيئا، ولما انتهى الأمر سارَّه والدي (البخاري) بكلمة لم أعرف الذي تنطوي عليه إلا في الغد، ثم اختفى عن أنظارنا بصورة لم ندرك كيفيتها.
وهكذا غادرنا ذلك المكان، وتابعنا سيرنا طيلة تلك الليلة، ولم ننخ المطايا إلا ضحوة الغد، حيث وصلنا إلى مكان سحيق آمن نسبيا، من تلك المفاوز التي بين اللُّوكَ والقوارب؛ وبعد تناول الشاي، وزاد المسافر طفقت المرأتان تسألان البخاري عن ذلك الرجل الذي أغاثنا الله به البارحة فلبث مليا متلكئا عليهما، وممتنعا من جوابهما، وأخيرا بعد عجزه عن إقناعهما، وعدم كفهما عن الإلحاح عليه، قال لهما: ذلك ابن عمي الولي محمد عبد الله ابن عبد الودود، المتوفى سنة 1933م،جاء ليساعدنا،وينقذنا من الخطر، وهو مدفون في المقبرة التي وقع الحادث بجنبها، وقد طلب مني كتمان الأمر عليه، في الكلمة التي رأيتموه أسر بها إلي.
فسبحان من لا يعجزه شيء، ومن خلق الأرواح، وجعلها جنودا مجندة، وجعل حياة عباده الصالحين لا تتم إلا بعد مماتهم، فهو القادر على ما يشاء.
قلت: وهذه القصة سارت على ألسنة الخواص، والعوام، وتجاوزت درجة التواتر، لشيوعها، وذيوعها، هنا وهنالك.
- توفي الشريف البخاري بن امبيريك صاحب القصة سنة 1361هـ ودفن عند "حاس سعيد" 87 كلم شمالي القوارب وشرقي الطريق المعبد، الرابط بينها، وبين نواكشوط، على بعد نحو 5 كلم. وقد كان البخاري بن امبيريك هذا عابدا صالحا، من عائلة مشتهرة بالصلاح، ويتجلى لنا ذلك في مسارة الولي محمد عبد الله له دون الناس الذين معه، ممن شاهدوا هذا المشهد المدهش العجيب. وابنه المامي لا يقل شأنا عنه. رحم الله السلف وبارك في الخلف - .
فهذه القصة العجيبة عن هذا الولي الصالح محمد عبد الله ابن عبد الودود قد سجلها الكثير من المؤلفين والكتاب، في مصنفاتهم، وصحائفهم، ونظمها الشعراء بأشعارهم، فاقرأها إن شئت في كتاب: اللؤلؤ المشاع، وتشنيف الأسماع، وإماطة القناع، وفي دواوين مدائح آل عبد الودود؛ وغيرها... وسل عنها من شئت ممن له صلة بهم، أو لديه معرفة بهذه العائلة الشريفة، الكريمة.
وممن سجلها نثرا الأديب أحمدو بن البشير الشنقيطي حيث لخصها في شكل مقامة رائعة أبدع فيها وأجاد وأبرز النقاط المهمة بأسلوب شيق ممتع وسماها المقامة الجملية فقال:
حدث البخاري قال: كنت في بعض السنين، مغتربا في أرض السوادين، أمارس التجارة، مع رفقاء أهل مهارة، فذهبت من اللَُّوكَ بالسَّنَغَالْ، متجها إلى روصو على الجمال، وكان العام عام حذر، كثر فيه على التجار الخطر، وكان الحاكم في تلك البلاد، قد أرهق جميع العباد، وقد أرسل عيونه في الأمصار تراقب جميع التجار، وكانت التجارة عندهم بالمحظور، فيها الربح والغرور، بينما تجارة المباح، لا تجلب الكثير من الأرباح، وكنت أنا والرفاق، نتاجر بها في الآفاق، وذات ليلة ليلاء، شديدة الظلماء، خرجنا من اللُّوكَ متنكرين، بجمال موقورة بكل ثمين، وما كدنا نخرج من المدينة، يغمرنا الخوف والسكينة، حتى سمعنا أصواتا غريبة، تصدر من جهة رهيبة، فاعترانا الخوف والهلع، وانتابنا الحزن والجزع، وما لبثنا أن نفرت الجمال، وألقت الأحمال، وتفرق أصحابي في الغابة، وبقيت في حزن وكآبه، وقد ألقى جملي حمليه، وأطلق للريح رجليه، فتأملت فإذا أنا بجانب مقبرة، في تلك الناحية مشتهرة، فتذكرت أنها مقبرة الدومة الخضراء، المعروفة في تلك الأنحاء، وفيها ابن العم ذو الوفا، محمد عبد الله بن محمد المصطفى، وهو الشريف السباعي، ذو الكرامات، التي تواترت بها الحكايات، فقررت أن أناديه في الحال، وأتوسل به إلى ذي الجلال، فقرأت عددا من الإخلاص لروحه، واقتربت من ضريحه، فقلت يا ابن العم الشريف، أنقذني من الكرب المخيف، فبمثلك يستجار، وقد كنت تحمي الجار، فما هي إلا لمحة أو أقل، حتى أقبل يقود الجمل، وأناخه بجانب الأحمال، وبدأ يحمل معي الأثقال، حتى عاد كل شيء على ما يرام، وناولني الزمام، وأشار علي بالسلام، والمسير إلى الأمام، وعاد من حيث جاء، مرتديا ثيابا بيضا، فانطلقت وأنا أشعر بالأمان، والفرح والاطمئنان، فقلت في نفسي يالك من كرامة، تنبئ عن الشهامة، ولم ألبث أن التحقت بالرفاق، والتأمنا بعد افتراق، فحدثتهم بالخبر، فكان من أغرب العبر، فاتفقوا أجمعين، أنه كان من أهل التمكين، وأن مزاره في تلك البقاع، مجرب أمره وقد شاع.
ومن أبرز العلماء والشعراء الذين تحدثوا عن هذه الحادثة الغريبة، التي إن دلت على شيء فإنما تدل على الصلاح الخارق للعادة: الشريف الأمجد، والعلامة الأوحد: الشريف أحمد بزيد بن العالم الذي يقول في رثاء ابن عمه، وصديقه الحميم الشريف الأمثل محمد الأمين بن محمد عبد الله ابن عبد الودود من قصيدة له:
*كَمَا نَالَ عَبْدُ اللهِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ**أَبُوهُ فُنُونَ الْعِلْمِ بِالْوَهْبِ وَالْكَسْبِ*
*وَكَانَ الَّذِي لَبَّى وَفِي قَعْرِ قَبْرِهِ**نِدَاءَ أَخِي حِمْلٍ لَهُ سِيمَ بِالنَّهْبِ*
*فَسَنَّـى لَهُ رَفْعَ الْمَتَاعِ بِسُرْعَةٍ**عَلَى جَمَلٍ ثُمَّ انْتَحَى أَوَّلَ الرَّكْبِ*
*هُمَاسَيِّدَا ذَا الْقُطْرِ فِي الدِّينِ وَالنَّدَى**وَجَمْعِ الْمَعَاليِ فيِ الشَّدَائِدِ وَالْخِصْبِ*
*سَلِيلاَ الْفَتَى عَبْدِ الْوَدُودِ الَّذِي سَمَا**عَلَى كُلِّ ذِي جُودٍ وَلَوْ كَانَ كَالسُّحْبِ*
*وَلاَ تَعْجَبُوا آلُ النَّبِيِّ خِصَالُهُمْ* تَفُوتُ خِصَالَ النَّاسِ مِ الْعُجْمِ وَالْعُرْبِ*
وأحمد بزيد هذا هو: الشريف العالم الأديب أحمد بزيد بن ابراهيم الخليل بن لحبيب بن سيد محمد بن العالم بن عبد الله بن سيدي محمد بن عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن الطالب ببكر بن ادْمَيْسْ.
وقد ولد سنة 1915م، وتوفي 1987م ودفن ب"آكْرَيْدِيلْ" 49 كلم شمالي نواكشوط، وكان عالما لغويا، وشاعرا مفلقا، وفقيها متفوقا، ومشتهرا بالسخاء، والذكاء، وسرعة البديهة، والرماية المتفوقة، وهو من خريجي محظرة "اشْبِيهْ" ابن ابُّوهْ اليعقوبي، الموسوي.
نماذج من مراثي الشريف محمد عبد الله:
يقول القاضي الامام بن اشريف بن سيد احمد بن الصبار المجلسي المتوفى سنة 1987م من قصيدة له:
*رَحْمَةَ اللهِ بَادِرِي بِالْوَفَاءِ**لِخَلِيلٍ قَدْ عَزَّ عَنْهُ عَزَائِي*
إلى أن يقول:
*ذَاكَ عَبْدُ الإِلَهِ بَعْدَ مُحَمَّدْ**مَنْبَعُ الْفَضْلِ وَالتُّقَى وَالْوَفَاءِ*
ويقول أحمدو بن أسند الجكني بمناسبة زيارته لضريحه بمدينة اللوك السنغالية من قصيدة له:
*زُرْتُ دَفِينَ الدَّوْمَةِ الْخَضْرَاءِ**بِاللُّوكَ لِلْمَطْلُوبِ وَالْحَوْجَاءِ*
إلى أن يقول:
*مُحَمَّدًا عَبْدَ الإِلَهِ الرَّائِي**بِقَلْبِهِ حَقَائِقَ الأَشْيَاءِ*
*وَمُنْجِدَ الْمَلْهُوفِ فِي الظَّلْمَاءِ**بِذَلِكَ الْجَمَلِ فِي الْبَيْدَاءِ*
*إِذْ نَدَّ مِنْ مَلاَعِبِ الضَّوْضَاءِ**وَذَا شُهُودُهُ بِلاَ مِرَاءِ*
*أَبْنَا أَبِي السِّبَاعِ فِي الْهَيْجَاءِ**وَنُزْهَةِ الشَّاكِي مِنَ الْعَنَاءِ*
ويقول العلامة الأديب أحمدُّ بن محمدا بن البشير من قصيدة له:
*بَيْنَمَا نَحْنُ فِي هُدُوءِ اللَّيَالِي* وَصَفًا فِي أَيَّامِنَا وَاعْتِدَالِ
إلى أن يقول:
*إِذْ دَعَا نَحْوَهُ الإِلَهُ مَحَمَّدْ**عَبْدَهُ لِلْجَزَا بِدَارِ الْمَآلِ*
ويقول أيضا من قصدة طويلة أخرى:
*مَا هَيَّجَ الأَشْجَانَ لِلرُّهْبَانِ**مِثْلُ الْحِسَانِ تَمِيسُ مَيْسَ الْبَانِ*
إلى أن يقول:
*وَمُحَمَّدٌ عَبْدُ الإِلَهِ ضَرِيحُهُ**بِاللُّوكَ نَجْدَةُ كُلِّمَا إِنْسَانِ*
*فَلِصَاحِبِ الْجَمَلِ الَّذِي بِجَنَابِهِ**أَلْقَى الْحُمُولَ فَفَرَّ كَالْغِيلاَنِ*
*فَأَتَى بِهِ يَقْتَادُهُ وَحُمُولَهُ**قَدْ رَدَّهَا وَكَفَى مِنَ الأَعْوَانِ*
*وَمِنَ اللُّصُوصِ أَزَالَ عَنْهُ مَخَاوِفًا**فِي صَدْرِهِ قَدْ كُنَّ كَالنِّيرَانِ*
*ذَا فِعْلُهُ بَعْدَ الْمَمَاتِ وَفِعْلُهُ**بِحَيَاتِهِ يَابَى عَنِ النُّكْرَانِ*
*فِي عِلْمِهِ وَصَلاَحِهِ وَذَكَائِهِ**مَا إِنْ رَأَيْتُ لِوَتْرِهِ مِنْ ثَانِ*
*حَدِّثْ بِمَا قَدْ شِئْتَهُ مِنْ فَضْلِهِ**فَلَهُ الَّذِي يَسْمُو عَنِ التِّبْيَانِ*
وقال سيد بن أحمدُّ بن عابدين بن أباه الشريف من قصيدة له:
*مُحَمَّدُ عَبْدُ اللهِ وَالِدُهُ الرِّضَى**لَقَدْ فَاقَ بَيْنَ النَّاسِ فيِ الْبَدْوِوَالحَضْرِ*
*وَمَدْفَنُهُ بِاللُّوكَ تَسْقِي ضَرِيحَهُ***سَحَائِبُ رِضْوَانٍ تَسُحُّ عَلَى الْقَبْرِ*
وقال الامام بن اشريف:
*سُلاَلَةُ عَبْدِ اللهِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ**وَمَدْفَنُهُ بِاللُّوكَ بَدْرٌ مَعَ انْجُمِ*
ويقول محمدن بن محمذن حبيب الله الحسني في رثائه:
*عَلَيْكَ دُمُوعُ الْمَكْرُمَاتِ تَسِيلُ**وَلِلْجُودِ فِي اللَّأْوَا عَلَيْكَ عَوِيلُ*
*وَلِلْعِلْمِ وَالتَّقْوَى وَلِلْحِلْمِ وَالْعُلَى**وَيَبْكِيكَ جَارٌ عَزَّ وَهْوَ ذَلِيلُ*
*نُحَاوِلُ صَبْرًا بَعْدَ فَقْدِكَ بَيْنَنَا**وَلَكِنَّ هَذَا مَا إِلَيْهِ سَب
الجمعة 7 أبريل - 7:20 من طرف د أسامة الدمشقي
» نظم عدد سور القرآن الكريم
الخميس 9 فبراير - 21:18 من طرف أحمد سالم السباعي
» للتحميل كتاب بنو هاشم الجزء الأول
الإثنين 27 سبتمبر - 11:31 من طرف alhasani
» زعب الجزيرة العربية من سليم و ليست من محارب
الإثنين 6 أبريل - 10:21 من طرف جعفر الطالبي
» التأكد من صحه النسب
السبت 23 نوفمبر - 14:43 من طرف خالد شرف الدين
» التأكد من صحه النسب
السبت 23 نوفمبر - 14:40 من طرف خالد شرف الدين
» البحث عن النسب
الجمعة 18 أكتوبر - 23:19 من طرف إسلام حسن زكي
» البحث عن النسب
الجمعة 18 أكتوبر - 23:16 من طرف إسلام حسن زكي
» وثائق ثبوت ولاده محمد التقي( المهدي) للامام الحسن العسكري( من المشجر الكشاف للنجفي
الجمعة 18 أكتوبر - 23:12 من طرف إسلام حسن زكي
» بحث عن المهدي
الجمعة 19 يوليو - 14:11 من طرف علي بابكر