<BLOCKQUOTE>
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين، وبعد:
فقد أشرت في اللقاء السابق إلى أن نظم القرآن معجز بديع، ووعدت أن أذكر بعض الوجوه التي توضح ذلك.
من إعجاز القرآن الكريم تميز كلامه عن سائر الكلام بإطلاق وذلك ثابت من وجوه كثيرة:
فمنها: ما يرجع إلى جملة القرآن، وذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه واختلاف مذاهبه خارج عن المعهود من نظام كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد.
ومنها: أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة والتصرف البديع، والمعاني اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحكم الكثيرة، والتناسب في البلاغة، والتشابه في البراعة، والقرآن مع كثرته وطوله متناسب في الفصاحة على ما وصفه الله تعالى به في قوله:﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾[الزمر: 23]، وهذا مدح من الله لكتابه ولما اشتمل عليه من أحسن الحديث في لفظه ومعناه، فهو ليس من جنس الشعر، ولا من جنس الخطب، ولا من جنس الرسائل، بل هو نوع يخالف الكل، مع أن كل ذي طبع سليم يستطيبه ويستلذه. قال
القاسمي - رحمه الله - في تفسيره للآية:﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا أي ﴾: يشبه بعضه بعضًا في الصحة والإحكام والبناء على الحق والصدق ومنفعة الخلق، ووجوه الإعجاز، «مثاني» جمع «مُثْنًى» بمعنى مردَّد ومكرر، لما ثنى من قصصه وأنبائه وأحكامه وأوامره، ونواهيه، ووعده ووعيده ومواعظه».
التناسب في الفصاحة على طول القرآن من إعجازه:
ومن الوجوه التي يتبين بها بديع نظم القرآن وإعجازه: التشابه في البراعة على هذا الطول وعلى هذا القدر، وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة وألفاظ قليلة، وإلى شاعرهم قصائد محصورة، والقرآن على كثرته وطوله متناسبٌ في الفصاحة، ليس فيه تفاوت أو اختلاف كما قال تعالى:﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ﴾[النساء: 82]، أي: لو كان من عند النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا، لعدم استطاعته واستطاعة أي مخلوق أن يأتي بمثل هذا القرآن في تبيين الحق بصورته كما هي لا يختلف ولا يتفاوت في شيء منها، بخلاف كلام البشر فإنه إن امتد وقع فيه التفاوت وظهر عليه الاختلال. قال ابن كثير في الآية: يقول تعالى آمرًا عباده بتدبر القرآن وناهيًا لهم عن الإعراض عنه، وعن تفهم معانيه المحكمة، وألفاظه البليغة، ومخبرًا لهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب، ولا تضاد ولا تعارض، لأنه تنزيل من حكيم حميد، فهو حق، ولهذا قال تعالى:﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، ثم قال: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ﴾ أي: لو كان مفتعلاً مختلقًا، كما يقوله من يقوله من جهلة المشركين والمنافقين في بواطنهم لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا، وهذا سالم من الاختلاف فهو من عند الله، وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وغضب عندما وقع جدال بين بعض الصحابة في بعض آياته، كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم - ذات يوم والناس يتكلمون في القدر قال: فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، قال: فقال لهم: ( ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟
بهذا هلك من كان قبلكم )، وفي رواية لابن ماجه: قال عبد الله بن عمرو عقب هذا
الحديث: ( ما غبطت نفسي بمجلس تخلفت فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غبطت نفسي بذلك المجلس وتخلفي عنه )، والناظر في كتاب الله الكريم يرى وجوهًا كثيرة من وجوه الإعجاز، وقد ذكر القاضي عياض إعجاز القرآن في أربعة أوجه:
حسن التأليف:
الوجه الأول: حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته، ووجوه إيجازه وبلاغته الخارقة عادة العرب، وذلك أنهم كانوا أرباب هذا الشأن وفرسان هذا الكلام، قد خُصُّوا من البلاغة والحكم بما لم يخص به غيرهم من الأمم، وأوتوا من ذرابة اللسان ما لم يؤت إنسان، ومن فصل الخطاب ما يقيد الألباب، جعل الله لهم ذلك طبعًا وخلقة، وفيهم غريزة وقوة، ولهم الحجة البالغة، والقوة الدامغة، والبلاغة ملك قيادهم، قد حووا فنونها واستنبطوا عيونها، ودخلوا من كل باب من أبوابها، فما راعهم إلا رسول كريم، بكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، أحكمت آياته، وفصلت كلماته، وبهرت بلاغته العقول، وظهرت فصاحته على كل مقول، وحوت كل البيان جوامعه وبدائعه، واعتدل على إيجازه حسن نظمه، وانطبق على كثرة فوائده مختار لفظه، وهم - أي العرب - أفصح ما كانوا في هذا الباب مجالاً، وأشهر في الخطابة حالاً، وأكثر في السجع والشعر ارتجالاً، وأوسع في الغريب واللغة مقالاً، ولم يزل يقرعهم صلى الله عليه وسلم أشد التقريع، ويوبخهم غاية التوبيخ، ويسفه أحلامهم، ويحط أعلامهم، ويشتت نظامهم، ويذم آلهتهم، ويستبيح أرضهم وديارهم وأموالهم، وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته، يخادعون أنفسهم بالتشغيب والتكذيب والإغراء والافتراء، ولهذا وجدناهم مرة يقولون:﴿ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾[المدثير: 24]، ومرة:﴿ إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ﴾[الفرقان: 4]، ومرة ينهون الناس عن الاستماع إليه:﴿ لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾[فصلت: 36]، وهذه حيلة العاجز عن المواجهة، القاصر عن المنازلة، وهذا هو فعل الكافرين والمشركين اليوم، الذين يحاولون صرف الناس عن القرآن وإشغالهم باللهو الباطل، والغناء الماجن، وهم يعلمون - كأسلافهم في الماضي - أنه لا حيلة لهم أمام إعجاز القرآن وبلاغته إلا بالافتراء عليه ومحاولة صرف الناس عنه.
والوجه الثاني من وجوه إعجاز القرآن: صورة نظمه العجيب، والأسلوب القريب المخالف لأساليب العرب، ومناهج نظمها ونثرها الذي جاء عليه، ووقفت مقاطع آيِهِ وانتهت فواصل كلماته إليه، ولم يوجد قبله نظير له، ولا استطاع أحد مماثلة شيء منه، بل حارت فيه عقولهم، ولم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم من نثر أو نظم، أو سجع، أو رجز، أو شعر.
الإخبار بالمغيبات من وجوه إعجاز القرآن الكريم:
وهذا أسلوب انفرد به القرآن، وجاء فيه على صورة من النظم لم تقع للعرب.والوجه الثالث من وجوه الإعجاز: هو ما انطوى عليه القرآن من الإخبار بالمغيبات، وما لم يكن، وما لم يقع، فوُجد كما ورد على الوجه الذي أخبر، وذلك كقوله تعالى:﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ﴾[الفتح: 27]، وكقوله تعالى:﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ ﴾[الروم: 2- 4]، وكقوله:﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ﴾[النور: 55]، وكقوله:﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾، فكان جميع هذا كما قال، فغلبت الرومُ فارس في بضع سنين، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فما مات النبي صلى الله عليه وسلم وفي جزيرة العرب كلها موضع لم يدخله الإسلام، واستخلف الله المؤمنين في الأرض، ومكَّن لهم فيها دينهم، وملكهم إياها من أقصى المشارق إلى أقصى المغارب، وصدق الله وعده بإظهار دين نبيه صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى:﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾[الصف: 9].
والوجه الرابع: ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة، والأمم البائدة، والشرائع الدائرة، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أهل الكتاب، فيورده النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه، ويأتي به على نصه، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا اشتغل بمجالسة أو مدارسه، وهذه الوجوه كلها تبرز أن القرآن آية فريدة بين آيات الرسل أُيِّدَ بها سَيِّد البشر صلى الله عليه وسلم . ونواصل الحديث في اللقاء القادم - إن شاء الله .........................
</BLOCKQUOTE>فقد أشرت في اللقاء السابق إلى أن نظم القرآن معجز بديع، ووعدت أن أذكر بعض الوجوه التي توضح ذلك.
من إعجاز القرآن الكريم تميز كلامه عن سائر الكلام بإطلاق وذلك ثابت من وجوه كثيرة:
فمنها: ما يرجع إلى جملة القرآن، وذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه واختلاف مذاهبه خارج عن المعهود من نظام كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد.
ومنها: أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة والتصرف البديع، والمعاني اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحكم الكثيرة، والتناسب في البلاغة، والتشابه في البراعة، والقرآن مع كثرته وطوله متناسب في الفصاحة على ما وصفه الله تعالى به في قوله:﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾[الزمر: 23]، وهذا مدح من الله لكتابه ولما اشتمل عليه من أحسن الحديث في لفظه ومعناه، فهو ليس من جنس الشعر، ولا من جنس الخطب، ولا من جنس الرسائل، بل هو نوع يخالف الكل، مع أن كل ذي طبع سليم يستطيبه ويستلذه. قال
القاسمي - رحمه الله - في تفسيره للآية:﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا أي ﴾: يشبه بعضه بعضًا في الصحة والإحكام والبناء على الحق والصدق ومنفعة الخلق، ووجوه الإعجاز، «مثاني» جمع «مُثْنًى» بمعنى مردَّد ومكرر، لما ثنى من قصصه وأنبائه وأحكامه وأوامره، ونواهيه، ووعده ووعيده ومواعظه».
التناسب في الفصاحة على طول القرآن من إعجازه:
ومن الوجوه التي يتبين بها بديع نظم القرآن وإعجازه: التشابه في البراعة على هذا الطول وعلى هذا القدر، وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة وألفاظ قليلة، وإلى شاعرهم قصائد محصورة، والقرآن على كثرته وطوله متناسبٌ في الفصاحة، ليس فيه تفاوت أو اختلاف كما قال تعالى:﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ﴾[النساء: 82]، أي: لو كان من عند النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا، لعدم استطاعته واستطاعة أي مخلوق أن يأتي بمثل هذا القرآن في تبيين الحق بصورته كما هي لا يختلف ولا يتفاوت في شيء منها، بخلاف كلام البشر فإنه إن امتد وقع فيه التفاوت وظهر عليه الاختلال. قال ابن كثير في الآية: يقول تعالى آمرًا عباده بتدبر القرآن وناهيًا لهم عن الإعراض عنه، وعن تفهم معانيه المحكمة، وألفاظه البليغة، ومخبرًا لهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب، ولا تضاد ولا تعارض، لأنه تنزيل من حكيم حميد، فهو حق، ولهذا قال تعالى:﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، ثم قال: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ﴾ أي: لو كان مفتعلاً مختلقًا، كما يقوله من يقوله من جهلة المشركين والمنافقين في بواطنهم لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا، وهذا سالم من الاختلاف فهو من عند الله، وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وغضب عندما وقع جدال بين بعض الصحابة في بعض آياته، كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم - ذات يوم والناس يتكلمون في القدر قال: فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، قال: فقال لهم: ( ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟
بهذا هلك من كان قبلكم )، وفي رواية لابن ماجه: قال عبد الله بن عمرو عقب هذا
الحديث: ( ما غبطت نفسي بمجلس تخلفت فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غبطت نفسي بذلك المجلس وتخلفي عنه )، والناظر في كتاب الله الكريم يرى وجوهًا كثيرة من وجوه الإعجاز، وقد ذكر القاضي عياض إعجاز القرآن في أربعة أوجه:
حسن التأليف:
الوجه الأول: حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته، ووجوه إيجازه وبلاغته الخارقة عادة العرب، وذلك أنهم كانوا أرباب هذا الشأن وفرسان هذا الكلام، قد خُصُّوا من البلاغة والحكم بما لم يخص به غيرهم من الأمم، وأوتوا من ذرابة اللسان ما لم يؤت إنسان، ومن فصل الخطاب ما يقيد الألباب، جعل الله لهم ذلك طبعًا وخلقة، وفيهم غريزة وقوة، ولهم الحجة البالغة، والقوة الدامغة، والبلاغة ملك قيادهم، قد حووا فنونها واستنبطوا عيونها، ودخلوا من كل باب من أبوابها، فما راعهم إلا رسول كريم، بكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، أحكمت آياته، وفصلت كلماته، وبهرت بلاغته العقول، وظهرت فصاحته على كل مقول، وحوت كل البيان جوامعه وبدائعه، واعتدل على إيجازه حسن نظمه، وانطبق على كثرة فوائده مختار لفظه، وهم - أي العرب - أفصح ما كانوا في هذا الباب مجالاً، وأشهر في الخطابة حالاً، وأكثر في السجع والشعر ارتجالاً، وأوسع في الغريب واللغة مقالاً، ولم يزل يقرعهم صلى الله عليه وسلم أشد التقريع، ويوبخهم غاية التوبيخ، ويسفه أحلامهم، ويحط أعلامهم، ويشتت نظامهم، ويذم آلهتهم، ويستبيح أرضهم وديارهم وأموالهم، وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته، يخادعون أنفسهم بالتشغيب والتكذيب والإغراء والافتراء، ولهذا وجدناهم مرة يقولون:﴿ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾[المدثير: 24]، ومرة:﴿ إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ﴾[الفرقان: 4]، ومرة ينهون الناس عن الاستماع إليه:﴿ لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾[فصلت: 36]، وهذه حيلة العاجز عن المواجهة، القاصر عن المنازلة، وهذا هو فعل الكافرين والمشركين اليوم، الذين يحاولون صرف الناس عن القرآن وإشغالهم باللهو الباطل، والغناء الماجن، وهم يعلمون - كأسلافهم في الماضي - أنه لا حيلة لهم أمام إعجاز القرآن وبلاغته إلا بالافتراء عليه ومحاولة صرف الناس عنه.
والوجه الثاني من وجوه إعجاز القرآن: صورة نظمه العجيب، والأسلوب القريب المخالف لأساليب العرب، ومناهج نظمها ونثرها الذي جاء عليه، ووقفت مقاطع آيِهِ وانتهت فواصل كلماته إليه، ولم يوجد قبله نظير له، ولا استطاع أحد مماثلة شيء منه، بل حارت فيه عقولهم، ولم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم من نثر أو نظم، أو سجع، أو رجز، أو شعر.
الإخبار بالمغيبات من وجوه إعجاز القرآن الكريم:
وهذا أسلوب انفرد به القرآن، وجاء فيه على صورة من النظم لم تقع للعرب.والوجه الثالث من وجوه الإعجاز: هو ما انطوى عليه القرآن من الإخبار بالمغيبات، وما لم يكن، وما لم يقع، فوُجد كما ورد على الوجه الذي أخبر، وذلك كقوله تعالى:﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ﴾[الفتح: 27]، وكقوله تعالى:﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ ﴾[الروم: 2- 4]، وكقوله:﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ﴾[النور: 55]، وكقوله:﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾، فكان جميع هذا كما قال، فغلبت الرومُ فارس في بضع سنين، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فما مات النبي صلى الله عليه وسلم وفي جزيرة العرب كلها موضع لم يدخله الإسلام، واستخلف الله المؤمنين في الأرض، ومكَّن لهم فيها دينهم، وملكهم إياها من أقصى المشارق إلى أقصى المغارب، وصدق الله وعده بإظهار دين نبيه صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى:﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾[الصف: 9].
والوجه الرابع: ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة، والأمم البائدة، والشرائع الدائرة، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أهل الكتاب، فيورده النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه، ويأتي به على نصه، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا اشتغل بمجالسة أو مدارسه، وهذه الوجوه كلها تبرز أن القرآن آية فريدة بين آيات الرسل أُيِّدَ بها سَيِّد البشر صلى الله عليه وسلم . ونواصل الحديث في اللقاء القادم - إن شاء الله .........................
الجمعة 7 أبريل - 7:20 من طرف د أسامة الدمشقي
» نظم عدد سور القرآن الكريم
الخميس 9 فبراير - 21:18 من طرف أحمد سالم السباعي
» للتحميل كتاب بنو هاشم الجزء الأول
الإثنين 27 سبتمبر - 11:31 من طرف alhasani
» زعب الجزيرة العربية من سليم و ليست من محارب
الإثنين 6 أبريل - 10:21 من طرف جعفر الطالبي
» التأكد من صحه النسب
السبت 23 نوفمبر - 14:43 من طرف خالد شرف الدين
» التأكد من صحه النسب
السبت 23 نوفمبر - 14:40 من طرف خالد شرف الدين
» البحث عن النسب
الجمعة 18 أكتوبر - 23:19 من طرف إسلام حسن زكي
» البحث عن النسب
الجمعة 18 أكتوبر - 23:16 من طرف إسلام حسن زكي
» وثائق ثبوت ولاده محمد التقي( المهدي) للامام الحسن العسكري( من المشجر الكشاف للنجفي
الجمعة 18 أكتوبر - 23:12 من طرف إسلام حسن زكي
» بحث عن المهدي
الجمعة 19 يوليو - 14:11 من طرف علي بابكر