دارة السادة الأشراف

مرحبا بك عزيزي الزائر
ندعوك أن تدخل المنتدى معنا
وإن لم يكن لديك حساب بعد
نتشرف بدعوتك لإنشائه
ونتشرف بدعوتك لزيارة الموقع الرسمي لدارة السادة الأشراف على الرابط :
www.dartalashraf.com


انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

دارة السادة الأشراف

مرحبا بك عزيزي الزائر
ندعوك أن تدخل المنتدى معنا
وإن لم يكن لديك حساب بعد
نتشرف بدعوتك لإنشائه
ونتشرف بدعوتك لزيارة الموقع الرسمي لدارة السادة الأشراف على الرابط :
www.dartalashraf.com

دارة السادة الأشراف

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

أنساب , مشجرات , مخطوطات , وثائق , صور , تاريخ , تراجم , تعارف , دراسات وأبحاث , مواضيع متنوعة

Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها 79880579.th
كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها 78778160
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها 16476868
Image Hosted by ImageShack.us
Image Hosted by ImageShack.us
كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها 23846992
كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها 83744915
كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها 58918085
كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها 99905655
كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها 16590839.th
كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Resizedk
كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها 20438121565191555713566

3 مشترك

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها

    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي الجمعة 29 مايو - 20:48

    عزيزي القارئ

    إليك كتاب تاريخ مكة المكرمة منذ تاسيسها وحتى عام 1925 م
    تأليف : جيرالد دي غوري

    مقدمة المؤلف:


    ما زالت مكة مدينة محرمة على غير المسلمين، وربما لا يرغب المسؤولون المسلمون في هذه الأيام([1]) إهراق الدم فيها. غير أن مئات آلاف الحجاج الذين يتوافدون على هذه المدينة المقدسة لدى المسلين كافة، قد لا يترددون في قتال أي شخص غير مسلم إذا جرؤ على دخولها. ومع ذلك استطاع عدد قليل من المسيحيين دخول مكة متنكرين كحجاج وكتبوا عن انطباعاتهم. وهنا تكمن الصعوبة في الكتابة عن مدينة لم تزرها بنفسك.

    لقد استعنت بالكثيرين في تأليف هذا الكتاب ومن مفاجآت الصدف أنني استعنت فيما يتعلق بتاريخ مكة في العصور الوسيطة بكتاب مخطوط وفي غاية الأهمية استعرته بعد إلحاح شديد من وجيه مسيحي في بغداد يدعى (يعقوب سركيس) كما استعنت بمؤلفات الحسيني وابن زيني دحلان الذي شغل منصب مفتي مكة لبعض الوقت. وقد اعتاد المؤرخون العرب على تسجيل التاريخ والأحداث بشكل متسلسل حسب السنوات وغالباً ما يسردون الأحداث ويضعون السنة الهجرية التي حدثت فيها تلك الأحداث في هامش الصفحة.

    ولا بد من تسجيل العرفان للسيد رؤوف الجادرجي الذي وضع تحت تصرفي مكتبته الخاصة الحاشدة بالكثير من الكتب والمؤلفات والمخطوطات التاريخية التي لا تقدر بثمن كما قدم لي عوناً كبيراً في ترجمة وتوضيح العبارات والمصطلحات التركية والتاريخ العسكري التركي في الجزيرة العربية.

    وأشكر كذلك السيد حسين تيمور من السفارة البريطانية في بغداد الذي ترجم لي عدة صفحات من المؤلفات التاريخية العربية في جو بغداد الحارق.

    وأخصّ بالشكر العميق كلاً من الأمير الشريف عبد المجيد علي حيدر بن جابر بن عبد المطلب آل غالب ذوي زيد والشريف محي الدين والشريف محمد أمين أبناء شريف مكة علي حيدر جابر عبد المطلب (ذوي زيد) والشريف حازم بن سليم باشا الذين لم يبخلوا علي بالمراجع والوثائق التي يمتلكونها كما أنهم أوضحوا لي الكثير من الأمور وكنت أتردد عل منازلهم في بغداد كما دعت الحاجة للاستئناس برأيهم.

    وقد تفضَّل عدد من المسؤولين والمدنيين الأتراك والإنكليز –مشكورين- بتقديم مساعدات قيمة فيما يتعلق بالمراجع في كل من أنقرة واستانبول وخاصة الوثائق العثمانية في أثناء إقامتي في تركيا.

    كذلك قام مدير الجمعية الفلكية البريطانية مشكوراً بمقارنة تواريخ الظواهر الفلكية التي تحدث عنها الحسيني في كتاب (تنضيد العقود) بالظواهر التي حدثت في بريطانيا وأثبت صحة ودقة ما سجله الحسيني. ولا يسعني إلا أن أتقدم بالشكر العميق للوصي على عرش العراق الأمير عبد الإله بن علي الذي سمح لي بالإقامة في قصر والده المرحوم الملك علي في أثناء عملي في جمع المصادر والمراجع لتأليف هذا الكتاب.

    جيرالد دي غوري

    بغداد – 1947



    ([1]) يعني الأربعينيات من هذا القرن.


    عدل سابقا من قبل الشريف مجدي الصفتي في الأحد 31 مايو - 21:18 عدل 3 مرات
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty الفصــل الأول: تأسيـس مكـة

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي الجمعة 29 مايو - 20:54

    الفصــل الأول: تأسيـس مكـة

    الجزيرة العربية شاسعة المساحة والأرجاء وباستثناء الزاوية الجنوبية الغربية الخصبة بسبب الأمطار الموسمية، والسهول التي تنمو فيها الأشواك المختلفة وبعض الأعشاب فإن الجزيرة العربية ما زالت جرداء. وعلى طول حدودها الغربية المواجهة للبحر الأحمر تمتد سلسلة من الجبال البركانية التي تنحدر بالتدريج نحو البحر. أما في الشرق فثمة بعض السهول التي لا يصلح معظمها للزراعة ثم تليها الصحراء على مد البصر. وفي هكذا أرض لم يكن ثمة من يفكر بالمغامرة إلا الرجال الأشداء الذين كانوا ينطلقون من الجنوب باتجاه الشمال بحثاً عن الكلأ والماء لقطعانهم من الجمال، ولذلك كانت الجزيرة العربية منذ أقدم العصور أرض الأساطير والرعب أكثر من أي مكان آخر.
    جاء في تاريخ الطبري (تاريخ الأمم والملوك) أن جبال الكاف تحيط بالعالم كالإطار ولونها زمردي، وأن اللون الأزرق الذي نشاهده في السماء هو انعكاس لون الزمرد، وهناك مكانان مسكونان في كاف وهما سابوكا وجابولسا والساكنون فيهما لا يعرفون حتى اسم (آدم) ويعيشون عراة ويأكلون الأعشاب. ولا يريدون أطفالاً لأنهم جميعاً من الذكور. ويقول البعض: إنهم يعيشون حيث تغيب الشمس وإن الإسكندر المقدوني (ذو القرنين) كان يتعين عليه أن يواصل السير أكثر من شهرين في الظلال حتى يصل إلى تلك الأرض.
    وثمة جبال وسط الجزيرة العربية اسمها جبال كاف. وربما نشأت قصة السكان الذكور عن روايات الرحالة قبل الإسلام حول عادة العرب آنذاك وأد الإناث عند ولادتهن، أو ربما نشأت القصة بسبب غياب معظم الذكور كهولاً وشباباً طيلة ستة أشهر وعلى نحو سنوي في الجزر المواجهة للساحل الجنوبي لحصاد شجر اللبان وتصديره إلى هياكل ومعابد الشرق.

    كانت القوافل الكبيرة منذ أقدم العصور تنطلق من المناطق الغنية ببخور اللبان في الجنوب، نحو الشمال(1) ولم تقتصر تجارتهم على المر واللبان، بل كانوا يتاجرون أيضاً بالحجارة الكريمة والقرفة والبهارات والسلع الكمالية من الهند والعبيد من الحبشة وكل ما يمكن أن يثير اهتمام الشعوب الغربية. وقد ازدهرت في جنوب الجزيرة بعض المدن التي بنيت فيها الهياكل مثل (شبوة) كما بنيت هياكل أخرى لآلهة الشمس في الجزيرة (سو قطرى) في المحيط الهندي قبالة القرن الإفريقي (وهي تابعة الآن للجمهورية اليمنية).
    كانت المناطق الجنوبية والجنوبية الغربية من الجزيرة العربية بمثابة المحطة الرئيسية التي تصل بين الشرق وبين أسواق الغرب وهذا ما جعلها تزدهر باطراد وهو ما أدى إلى ظهور الممالك. وكانت قوافل الجنوبيين تضطر لاجتياز الوديان والسهول على طول ساحل البحر الأحمر وتعبر في طريقها الطويلة والشاقة جبال الحجاز.
    وإذا امتطى الرجل جملاً عربياً أصيلاً وسريعاً فإنه لا يستطيع الوصول من عدن المطلة على المحيط الهندي إلى غزة المطلة على البحر الأبيض المتوسط في أقل من شهر، وهذا يعني أن القوافل التي تتحرك ببطء كانت تستغرق في نفس الرحلة زهاء ثلاثة أشهر، إذ لا بد من التوقف في محطات معينة للراحة وتغيير الجمال المرهقة بأخرى وإعادة تحميل البضائع. ويبلغ ارتفاع السلاسل الجبلية من الشمال وحتى الجنوب أكثر من عشرة آلاف قدم. أما في المنطقة الوسطى فلا يزيد ارتفاعها عن ثلاثة آلاف قدم فوق سطح البحر، وإلى الشرق منها ثمة سهول ومراع صالحة لحياة البداوة.
    وهذه المنطقة المتوسطة قريبة من مضارب القبائل العربية التي كانت تزود قوافل التجار بالأدلاء (مفردها دليل وهو الذي يعرف مسالك الطرق في الصحارى والسهوب) من جهة والجمال النشيطة من جهة أخرى، وإذا كان هذا القرب مفيداً للقوافل العابرة فقد كان يثير الذعر في أصحابها لما عرف عن البلاد من الضراوة وشظف العيش، ولم يكن ثمة وسيلة لتجنب نهب القوافل إلا بعقد اتفاقات بين التجار وشيوخ القبائل يدفع بموجبها التجار أتاوة معينة… وفي منخفض من هذه المنطقة الجبلية ذات الطبيعة القاسية يقع الحجاز الأوسط. وعلى مسيرة عدة أيام باتجاه الشمال تنحرف الطريق الجبلية نحو البحر حيث لا ترى سوى تلال متجهمة كابوسية المنظر، وأخاديد ممتدة كالمتاهات. وفي أرض واطئة منبسطة تحيط بها الجبال تقع مدينة مكة (المكرمة). والطقس في مكة دافئ حتى في الشتاء أما في الصيف فإن العرب أنفسهم لا يطيقون حرارته.
    وإلى الشمال والشرق من الحجاز تمتد أراضي الحماد وبعض المراعي التي تعيش فيها القبائل التي اعتادت على الغزو والسلب. والطقس في هذه السهول جاف وحار، وفيها بعض الينابيع والآبار. أما البحر في محاذاة الشاطئ فينطوي على أخطار لكثرة الصخور المرجانية الضحلة، أما الإبحار في البحر فلم يفكر فيه أحد وذلك خشية الرياح القوية التي تهب أحياناً وتقلب الزوارق والسفن الضعيفة.
    هناك بالطبع سهل ساحلي لكن رماله ناعمة وشديدة الملوحة تغرز فيها الجمال… وإذا اختار التاجر الطريق الساحلي فستتأخر قافلته كثيراً وربما تنفق بعض الجمال دون أن يستطيع تعويضها. ولعل هذا ما يفسر السبب في اختيار القوافل للطريق الذي يتوسط الساحل والسهل، أي الطريق شبه الجبلي.
    إن بلاد الحجاز هذه جزء من التشكيلات العجيبة لسطح الكرة الأرضية، إنها أرض جرداء تتخللها بعض الينابيع الصغيرة التي تحيط بها أشجار النخيل حيث يستطيع الإنسان الاستقرار. وكل خمسين ميلاً تقريباً سواء في الوديان أو السهل تشاهد دوائر ومرتفعات من الحمم البركانية الناشئة عن براكين قديمة خمدت، وتشاهد صخوراً بازلتية من مختلف الأحجام سواء في السهل أو في سفوح التلال، سوداء كالحديد وكانت هذه الصخور البازلتية تثير ذعر العرب في الماضي لأن البراكين كانت ما تزال ناشطة آنذاك.


    عدل سابقا من قبل الشريف مجدي الصفتي في الجمعة 29 مايو - 21:00 عدل 1 مرات
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل الأول

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي الجمعة 29 مايو - 20:55

    ونتيجة للتبادل المناخي الذي يحدث بين الطقس الجاف والحار وسط الجزيرة العربية والهواء المشبع بالرطوبة من الحجاز تتألف عواصف كهربائية (صواعق) وتشتعل السماء بالبروق يوماً بعد يوم وليلة بعد أخرى دون توقف طيلة ساعات. وفي فصل الشتاء تظهر الغيوم أحياناً فوق المناطق نادرة المطر فتهطل أمطار غزيرة عبر الأخاديد والوديان وتتشكل السيول الضخمة التي تجرف في طريقها ما يعترضها من بشر أو حيوان أو حتى صخور عملاقة. ولا يوجد أي مكان آخر في العالم يشمل مثل هذا التناقض أو التباين المناخي اللهم باستثناء منطقة البحر الميت حيث تتكاثف الرطوبة في وادي الأردن لتلتقي مع الرياح الجافة فوق الجبال، لكن الحرارة في جنوب الأردن أقل بدرجات منها في الساحل الحجازي المرجاني.
    وفي هكذا بلاد لا بد من أن يعاني الإنسان توتراً وحدة في الطبع سواء بسبب المناخ أو المناظر المتجهمة المحيطة به وبالتالي يسعى لاسترضاء عناصر الطبيعة والتكيف معها ثم يصبح عبداً لعدة آلهة وطقوس مختلفة. وقبل أن تصبح مكة مأهولة بالسكان ومحطة على طريق القوافل. كانت مثل شقيقتها مدينة الطائف على حافة الهضبة ملجأ آمناً وهيكلاً مقدساً.
    ويقول المؤرخ العربي (الأزرقي): إن مكة بدأت كمكان مقدس. فذات يوم لاحظت قافلة تعود لقبيلة بني جرهم الجنوبية نبع ماء لم يسبق لأحد منهم أن شاهده في تلك المنطقة، فتوقفت القافلة وترجل رجلان عن راحلتيهما وانطلقا لاختبار الماء وتذوقه، فوجدا امرأة وطفلاً إلى جانبها. قالت المرأة: إن اسمها (هاجر) وإن النبع يعود لها ولطفلها… وسمحت هاجر للقبيلة بنصب الخيام والاستقرار في المنطقة، ومنذئذ بدأت قبيلة جرهم استغلال النبع(2) وأطلق على النبع اسم (زمزم) وما زال داخل الحرم المكي(3).
    نشأ إسماعيل بن هاجر مع بني جرهم القبيلة العربية الجنوبية وتزوج فتاة جرهمية وكان يعيش على الصيد. ثم حضر إبراهيم (عليه السلام) من دمشق لزيارة زوجته وطفله لكنه وصل أثناء غياب إسماعيل في رحلة قنص. ولان زوجة إسماعيل لم تحسن استقباله فقد ترك له رسالة معها كان على ثقة بأنه سيفهمها وهي: "أن عارضة الباب لم تعجبه" وعاد إسماعيل وفهم الرسالة فاتخذ له زوجة أخرى من بني جرهم، وقد رضي إبراهيم عنها في زيارته الثانية. وفي زيارته الثالثة وجد ابنه إسماعيل(4) يبري ويسن السهام قرب بئر زمزم وقال له: إنه يتعين عليه أن يبني بيتاً لله حتى يكسب مرضاته، فاختار مرتفعاً من الأرض وبنيا عليه البيت. وقام (تُبَّع أسد الحميري) وهو شخصية تاريخية كان ملكاً على اليمن واعتنق شعبه اليهودية، بإحضار باب لبيت الله في مكة وأقفال لإغلاقه كما أن الملك جبريل أحضر الحجر الأسود له، وكان الحجر من جبل قُبيس الذي يشرف على مكة مباشرة، وكان فاتح اللون يتوهج آنذاك(5) (ولم يصبح أسود إلا بعد أن تسببت عجوز باندلاع حريق بعد أن قلبت مبخرة مشتعلة في أيام الجاهلية) ثم إن قبيلة قريش التي خلفت بني جرهم في مكة أعادت بناء البيت. وكان يغطى عادة بالجلود غير أن الحجاج الأثرياء فيما بعد كانوا يخلعون ملابسهم الحريرية في صباح يوم النحر ويقدمونها لحراس البيت حتى يصنعوا منها كسوة (غطاء) لها.
    وحسب ما يقوله أبو الفداء كان ثمة تمثال لإبراهيم عليه السلام في مكة، وكان ثمة تماثيل ونصوص أخرى عن قصة إبراهيم (عليه السلام) في مكة، لكن ذلك التمثال كان الأهم بينها.
    بينما يقول المقدسي: إن التماثيل كانت موجودة في الأيام المبكرة لبني جرهم في مكة، حيث اعتاد رجال القبائل والمسافرون شراء تلك التماثيل والطواف بها حول بيت الله ثم حملها إلى بلادهم كما أن بعضهم كان يأخذ قطعاً صغيرة من الحجر الأسود حجر بيت الله (الذي بناه إبراهيم) وكانوا يطوفون حول البيت بخشوع… وهكذا بدأوا يعبدون الحجارة بالتدريج. ويضيف المقدسي: "ثم نصبوا الأصنام وعبدوها".
    وتوالت الأيام، وازداد تردد رجال القبائل والمسافرين العابرين والقوافل، على مكة حيث كانوا يجدون فيها أو يتركون فيها شيئاً من معتقداتهم وشعائرهم حتى أصبحت بمثابة معبد أو مجمع آلهة. كانت اليهودية منتشرة في اليمن وخاصة في نجران التي ما يزال فيها عدد من اليهود، وفي خيبر والمدينة في الحجاز إلى الشمال والجنوب من مكة على التوالي. واعتنقت عدة قبائل من ربيعة الديانة المسيحية وخاصة في شرقي الجزيرة العربية ودومة الجندل في الشمال ثم جاءت المسيحية أيضاً إلى اليمن من الحبشة عبر البحر الأحمر. لكن معظم القبائل وسكان الواحات في قلب الجزيرة العربية كانوا وثنيين يبجلون ويعبدون اله القمر (ود) أكثر من إله الشمس. وما زال بعض الأعراب حتى يومنا هذا(6) يعتقدون بأن القمر هو الذي ينظم حياتهم وأنه هو الذي يكثف بخار الماء ويحوله إلى مطر ويصفي الندى في المراعي، وأنه بالتعاون مع الثريا يجلب المطر. ومن ناحية أخرى يعتقدون بأن الشمس وهي آلهة أنثى معروفة في المستوطنات الزراعية تنزع إلى تدمير حياة البدو والحيوانات بلا استثناء وأنها قاسية وصارمة. وهكذا كانت قبيلة كنانة تعبد القمر و (الدبران) أما قبيلتا لخم وجرهم فعبدتا المريخ بينما عبدت بنو أسد عطارد، وعبدت القبائل الأخرى نجوماً أخرى. ومع ذلك كان معظم العرب يؤمنون بأن الموت لا ينهي كل شيء وقلائل منهم آمنوا بالبعث (القيامة) وأن الروح تغادر الجسد على شكل طائر أطلقوا عليه اسم (الهامة) أو (الصدى) وتزور قبر صاحبها وهي تتأرجح وتتشقلب وتطلق أصواتاً مروعة تخبر الميت بواسطتها بكل ما يفعله أولاده من بعده. لكن ثمة حقيقة مؤكدة وهي أن العرب منذ أقدم العصور كانوا يؤمنون بأن ثمة إلهاً واحداً مسيطراً ومهيمناً على العالم وأن ألهتهم الخاصة مجرد واسطة للشفاعة لهم عنده.
    إن أحد أوائل الأوروبيين الذين وصفوا ساحل البحر الأحمر الشرقي وذكروا قدسية مكة هو ديودورس الصقلّي حيث يقول: "لا يوجد على هذا الساحل سوى موانئ قليلة بسبب الجبال الشاهقة الممتدة على طوله ذات الألوان الزاهية والمتنوعة التي تبهج أنظار المسافرين. وثمة نتوءات صخرية كثيرة داخل البحر. أما بعد هذا الشاطئ الجبلي فثمة بلدات وقرى يسكنها عرب يسمون الأنباط الذين يملكون أراضي شاسعة على طول الساحل الشمالي وفي عمق الأراضي إلى الشرق والشمال وهذه المنطقة مزدحمة بالسكان الذين يمتلكون قطعاناً وافرة من الماشية. وكان الأنباط يعيشون بسلام وسعادة وقانعين بما لديهم من مواش. لكن بعد أن سمح ملوك الإسكندرية للتجار بالإبحار في البحر الأحمر؛ فإنهم لم يكتفوا بسرقة الأنباط وحطام السفن على الساحل بل تحولوا إلى قراصنة أيضاً وصاروا يهاجمون السفن الأخرى المبحرة في هذا البحر… وفي وقت لاحق بنى الأنباط أسطولاً قوياً استطاع أن يدمر سفن القراصنة في البحر ويعاقبهم على الشرور التي ارتكبوها"(7).


    عدل سابقا من قبل الشريف مجدي الصفتي في الجمعة 29 مايو - 21:00 عدل 1 مرات
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل الأول

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي الجمعة 29 مايو - 20:58

    ويضيف ديودوراس: "بعد اجتياز هذه المنطقة ثمة منطقة سهلية غنية بالمراعي تنتج الكثير من الأعشاب الطبية وأزهار الزنابق التي يبلغ طول النبتة منها قامة الرجل"(Cool.
    ويصف ديودوراس بعد ذلك شعباً آخر يطلق عليه اسم (البيرومينيين) ويقول: "إن هذا الشعب يعيش على صيد الحيوانات المفترسة وثمة هيكل مقدس يحظى بإجلال كبير بين كافة العرب".
    أما هيرودتس(9) فيقول: إن العرب يعبدون (أوروتال) وأليلات (لعلها اللات المترجم) وأن أوروتال هو باخوس(10) واليلات هي أورانيا. وأوروتال هو الله بينما اليلات (أو اللات) فمركزها في الطائف على حافة الهضبة ليس بعيداً عن مكة باتجاه الشرق. ويصف كيفية الارتباط بالقسم أو التوحيد بين عربيين وهي مراسم ما زالت قيد الممارسة في أوساط بعض القبائل(11) على النحو التالي:
    "عندما يرغب رجلان أن يقسما على توثيق الصداقة بينهما يقفان إلى جانبي رجل ثالث يقوم باستعمال حجر حاد بجرح رسغيهما باتجاه باطن الكف ثم يأخذ قطعتين صغيرتين من ملابسهما ويغمسهما في دم كل منهما ويعلّم بالدم سبعة أحجار لا بد من وجودها قبل هذه المراسم ثم يدعو كلاً من باخوس وأورانيا".
    ويضيف هيرودتس: "أن العرب يقدسون ويحافظون على هذه الشعائر أكثر من أي شعب آخر. وإذا مورست هذا الشعائر في مكة نفسها فإنها تصبح أشد إلزاماً".
    هذه بعض اللمحات القليلة التي وردتنا عن مكة وعبادة العرب السخيفة في تلك الأيام. وكان بطليموس (الفلكي الإسكندراني) يسمي مكة (المكربة أو الماركورابا) وتعني (المكان المقدس) بلغة السبئيين (نسبة إلى سبأ) الذين سيطروا على جنوب الجزيرة العربية والتجارة العربية في الألف الأول قبل الميلاد.
    وكان العرب يحجّون إليها كل عام في وقت معين وهو الخريف. وقد تمت اتفاقات متبادلة بين القبائل العربية بحظر القتال خلال فترة الحج. ولعل الأسماء العربية للأشهر المستعملة قبل الإسلام وما زالت، تثبت ذلك. إذ إن من بينها شهر (محرّم) الذي أتفق على حظر القتال فيه، وثمة نقطة جديرة بالملاحظة هنا وهي أن الأشهر العربية (القمرية) كانت تتسق مع أشهر النظام الشمسي لأن العرب اعتادوا على إضافة عدة أيام للسنة القمرية حتى تتطابق مع السنة الشمسية ثم جاء الإسلام ومنع إضافة أي يوم إلى السنة القمرية.
    وعندما كان الحجاج يقتربون من بيت الله (أو الكعبة) في مكة، يخلعون ملابسهم كلها بلا استثناء ويسيرون عراة، إشارة إلى الرضوخ والذل بين يدي الله ويطوفون حول الكعبة ويقبلون الحجر الأسود ويسعون (هرولة) بين الصفا والمروة ويرجمون الحجارة قرب (مِنى) وبعد ذلك يضحّون بشاة تماماً كما يفعل الحجاج هذه الأيام.
    وجاء الرسول العربي r وثبت هذه المناسك لكنه أمر بارتداء مئزر من الكتان، وذمّ عادة الوثنيين (في التصفيق بالأيدي والتصفير بواسطة وضع اصبعين أو أكثر بين الشفاه) وانتقد هذه العادات البالية واستعاض عنها بطريقة منتظمة للدعاء في أثناء الطواف (لبيك اللهم لبيك… لا شريك لك لبيك الخ). وحتى أيام الرسول كانت العادة شائعة في ذهاب الرجال عراة عند الفجر إلى الكعبة المغطاة بالجلد لممارسة شعائر طلب الغفران التي كانت تنتهي بنشوة من الابتهاج والسرور تحت شمس الظهيرة. وما زالت العادة شائعة حتى الآن بالدعاء لكل من يعلن عزمه على الحج: (غفر الله ذنوبك).
    ومع أنه بشر بدين جديد، لكن الرسول محمداً r احتفظ بمناسك الحج بعد تعديلات طفيفة عليها كركن من أركان الإسلام الخمسة وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله والصلاة والصيام والزكاة والحج. وجاء في القرآن الكريم: إن أول بيت وضع للناس للذي بمكة مباركاً وهدى للعالمين. فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين(12). وجاء في سورة التوبة الآية 28: "يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجسٌ فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله" والسنة المذكورة هنا هي السنة الثامنة للهجرة. وتم بعد ذلك تحريم دخول غير المسلمين إلى مكة، وقبل ذلك كان باستطاعة أي إنسان مهما كان أصله أو دينه التردد على مكة كما يشاء باستثناء أن النساء في الجاهلية كن لا يترددن على الكعبة لعدم حاجتهن إلى أو ملاءمتهنّ لذلك، فالرجال الذين يغامرون ويذهبون في رحلات القنص أو قوافل التجارة يخطئون ويرتكبون الخطايا وبالتالي فهم أجدر بطلب الغفران. أي أن الحج في أيام الجاهلية كان شأنا يقتصر على الذكور.
    ولم تكن المرأة آنذاك ترتبط بزوجها أو سيدها بموجب نظام الزواج الذي كان يسمى (زواج بعل) الذي شاع في الجزيرة العربية قبل وقت قصير فقط من الإسلام، وحتى إذا ارتبطت المرأة بزوجها أو سيدها فقد كان النظام القديم وهو أكثر حرية بالنسبة للمرأة وما زال قيد الممارسة. وكانت المرأة بموجب النظام القديم تظل في قبيلتها وتحتفظ بأطفالها الذين ينضمون إلى قبيلتها أي أن الزواج كان اتحاداً مؤقتاً تستطيع فسخه بمشيئتها متى أرادت. وعندما صدع محمد r بتعاليم الإسلام بدأت الزيجات المؤقتة تختفي بالتدريج وصار ينظر للمرأة التي تقبل الزواج المؤقت على أنها ساقطة ومع الزمن اختفت الزيجات المؤقتة إلا في القبائل الوضيعة. وكانت المرأة المكّية ذات الحسب والنسب تفتخر وتباهي بعذريتها أما القيود التي كانت تفرض على السبايا والجواري من قبل سيدهن فقد كانت الزوجة نفسها تقبلها كعلامة أو مؤشر على شرف وشأن ومكانة الزوج(13). ويعود هذا التحول بلا ريب إلى تأثير العادات والتقاليد التي دخلت إلى الجزيرة العربية من الشمال والعالم المحيط التي أصبحت معروفة للعالم عن طريق التجارة، بل إن عدداً من الغرباء استوطنوها. إن مقولة (الولد للفراش) التي ما زالت شائعة تعود إلى تلك الأيام القديمة أي إلى مرحلة الزيجات المؤقتة(14). وإن كان الزواج المؤقت ما زال شائعاً بين الشيعة العرب ومعظم الشيعة في العالم الإسلامي، ويعرف الزواج المؤقت (بزواج المتعة( ويجيز للرجل أن يتزوج إلى فترة مؤقتة وغالباً ما يمارسه الحجاج والبحارة وأصحاب القوافل وأي شخص لا يصحب معه زوجته في رحلاته الطويلة ومهما كانت نظرتنا اليوم إلى هذا النوع من عقود الزواج، فقد كان شائعاً طيلة قرون، وهو أصل نظام الفروسية والشهامة الذي ظهر في العالم العربي وأخذه الغرب عن العرب. أما الزواج بموجب نظام بعل (أي الزواج الدائم أو غير المؤقت بفترة زمنية على الأقل) الذي يعتبر الرجل سيداً فهو الذي أدى إلى ظهور نظام (الحريم) بالتدريج، وعندما ندرس (نظام الحريم) ينبغي أن نتذكره بأنه لم يظهر إلا بعد الأخذ بشكل أجنبي أو صيغة أجنبية من الزواج تبين في سياق الزمن حسب الظروف الموضوعية آنذاك أنه لا يشبع غريزة الرجل كما أنه أعجز عن تنشئة الأطفال وتربيتهم تربية كاملة. ومهما كان الأمر فقد كان نظام الزيجات المؤقتة الذي يسمح للمرأة في البقاء وسط عائلتها وقبيلتها هو الذي أوجد نظام الفروسية العربي، وكان الشعراء العرب قبل الإسلام يتغنون ويمتدحون الفرسان الرحالة الذين يجوبون الصحراء ومغامرات أولئك الفرسان. وقبل الإسلام وحتى في سنواته الأولى أي قبل شيوع نظام الحريم. ثمة قصص عن نساء جميلات وحكيمات اضطلعن بأدوار مهمة في الحياة بل إن بعضهن حكمن مدناً ودولاً.
    إن الفزعة أو النخوة (بمعنى حماية الآخرين وتوفير الملاذ لهم) هي جوهر نظام الفروسية. وهكذا لم يقتصر السعي للأمان بالذهاب إلى مكة. طالما أن كل رجل يستطيع أن يتعهد لرجل آخر بالدفاع عنه عند الحاجة وهنا يصبح شرف الرجل المتعهد قيد الاختبار، إذ إن دفاعه عن الرجل الآخر وحمايته قد يكلفه حياته حتى ولو كان الرجل الآخر غريباً أو غير جدير بهذه الفزعة. وكل شيخ قبيلة يمنح حمايته لشخص أو عدة أشخاص (سواء كانت قضية الشخص أو الأشخاص عادلة أم غير عادلة) يتعين عليه الالتزام بتعهده الأخلاقي هذا ثلاثة أيام يبذل وسعه خلالها لمساعدة الشخص الذي لجأ إليه على الهرب دون أن يلحق به أذى.
    وكان كل نبيل من نبلاء العرب يحافظ على خيمته الجلدية المستديرة ذات اللون الأحمر كرمز للفروسية. إنها الخيمة القبلية التقليدية لاستقبال كل من الضيوف واللاجئين (أو اللائذين بحمى شيخ القبيلة)(15).
    ولعل الصندوق الذي اعتادت قبيلة (الرولة) على وضعه فوق جمل وقد استمروا في هذه العادة إلى عهد قريب هو تراث مباشر للملاجئ (أو الملاذات) القبلية وهي الخيام المستديرة الحمراء التي كانت شائعة في الصحراء العربية أيام الجاهلية وما زال عرب الرولة يعيشون في البادية السورية لكنهم تخلوا عن هذه العادة مؤخر(16). وكان نبلاء قبيلة قريش التي استولت على مكة من بني جرهم يعتزون ويتفخرون بمؤشرات الشرف والقدرة هذه وينصبونها إلى جانب خيامهم الخاصة كدلالة على قدرتهم إغاثة الملهوف وحماية الخائف.
    هكذا كانت بعض عادات العرب القدماء الذين كان حجاجهم يسيرون حفاة باتجاه مكة فتمتلئ بهم الشعاب والوديان ويزداد عددهم من منطقة إلى أخرى ومن قبيلة إلى أخرى، حتى يصلوا إلى الكعبة على أمل غفران خطاياهم والاستمتاع بمناسك الطهارة والإحرام في الملاذ أو الملجأ الكبير وهو مكة. وكان العرب يهتمون كثيراً بهذا الاجتماع السنوي والقيام بشعائر استرضاء قوى الحياة بالطواف عراة أمام الآلهة، يقبلون الحجر الأسود وغطاء الكعبة الجلدي ويحرقون كميات من بخور اللبان ذي الرائحة الطيبة، ولأن أشكال الآلهة متعددة وأهميتها متراوحة فقد كان ثمة أشياء كافية لسرور ومرضاة الجميع.
    كان موسم الحج عادة في الربيع كما سبق أن أسلفنا أي عندما كان البدو مضطرين لغرسال قوافلهم إلى الأسواق لشراء ما يلزم لهجرة الشتاء بحثاً عن المراعي وكان ثمة سوق يقعد على نحو سنوي (عكاظ) بين الطائف ومكة تشارك فيه كافة القبائل العربية، وعكاظ في الواقع واحة من النخيل. وكانوا في سوق عكاظ يلهون ويروحون عن أنفسهم قبل موسم الحج بإلقاء القصائد. بينما يأتي التجار ببضائعهم من الوديان والسهول المجاورة وخاصة وادي (المر) إلى الشمال من مكة الذي يعرف الآن باسم (وادي فاطمة)، ومن حقول الطائف نفسها ومن ميناء الشعيبة الذي أصبح اسمه ميناء جدة(17). ولا يوجد أي ذكر لوجود ملاذ أو ملجأ في عكاظ. وكل من يحاول البحث عن سبب آخر غير ما أوردته القصص العربية عن استخدام مكة كملجأ وملاذ ومكان مقدس فلن يعثر على شيء ذي أهمية.
    وتنطوي الأساطير العربية على جزء كبير من الصدق وغن كانت مطلية ببعض المبالغات وذلك للتخلص مما قد لا يبدو مستساغاً أو مفهوماً للأجيال اللاحقة. فعندما بدأ تاريخ مكة كانت مجرد هيكل وثني وملجأ ولم يكن فيها مقيمون أو سكان على نحو دائم، بل كان الإنسان العربي يخشى أن يبني فيها بيتاً ويمتنع عن قطع الأشجار خشية الإضرار بقدسيتها ولاقتناعه بأن الآلهة ستعاقبه على ذلك.


    عدل سابقا من قبل الشريف مجدي الصفتي في الجمعة 29 مايو - 21:38 عدل 1 مرات
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل الأول

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي الجمعة 29 مايو - 21:02

    وتبدأ المرحلة الثانية في مكة في القرن الخامس الميلادي حيث استوطنها تجار من جنوب الجزيرة، ومنذئذ بدأت تتوسع لتصبح مركزاً كبيراً وأهم مدينة تجارية في الجزيرة العربية. وبقيت كذلك حتى أيام الرسول العربي محمد (r) أي إلى أواسط القرن السابع الميلادي. وكانت قبل الإسلام قد حققت شهرة ونجاحاً تجارياً زهاء قرنين. وكانت تلك السنوات هي الأخيرة التي تنقل فيها القوافل العربية إلى الغرب ثروات الشرق… السنوات الأخيرة التي كان تجار وأمراء الإمبراطورية البيزنطية ينتظرون تلك الثروات كما كان الشأن مع سابقيهم في روما أو بلاد الإغريق أو مصر القديمة أو بابل.
    وفي هذه المرحلة الأخيرة كان تجار عدن وجنوب الجزيرة يضطرون للانتقال إلى مكة نتيجة فقدانهم لاحتكار وسطائهم في التجارة مع الهند والكساد الذي تعرضت له تجارة بخور اللبان وتردد أو عزوف الغرب عن التجارة مع بلاد لا تستورد منه مقابل تصديرها له. لكن الغربي على أي حال كان ما يزال بحاجة إلى الذهب العربي والجلود العربية لتحويلها إلى معاطف للمحاربين وسروج وتجهيزات للخيل وكان الغرب كذلك بحاجة إلى الجمال التي نقلها المسؤولون عن تموين الجيوش البيزنطية والرومانية قبلهم إلى شمال إفريقيا. وهكذا أصبح الحجاز بحاجة إلى إعادة تنظيم وبسرعة، خاصة أن الحبشة (أي مملكة أكسوم) بدأت تسير السفن التجارية في البحر الأحمر. وسواء أدرك المستوطنون الجدد في مكة أو لم يدركوا الوضع المتردي الذي ينتظرهم في ظل تلك الظروف غير المواتية، فقد بدأوا في تنظيم وتسيير قوافلهم بمهارة فائقة. وكان أكثر ما يخشاه أصحاب القوافل مخاطر الطريق، ولذلك كانوا ينيطون مهمة قيادة القوافل برجال أشداء لهم أقارب بين البدو وعلاقات قوية مع شيوخ القبائل. وكان أولئك الرجال في ضمانتهم لمرور القوافل بشكل آمن يتصرفون أو يمثلون إلى درجة ما شركات التأمين الراهنة. أما حلفاؤهم من البدو وأقاربهم في الطريق التي تسلكها القافلة فقد كانوا يمثلون ما يعرف الآن بإعادة التأمين (أو تأمين التأمين)… كان أقارب القوافل يفقدون شرفهم إذا ما تعرضت القوافل لأي اعتداء.
    وفي تلك الأثناء استخدم التجار حراساً من الأحباش لحماية قوافلهم، كما استخدم التجار في مكة وخاصة في حي البطحة أحباشاً سود البشرة كحراس وخدام وأصبح الحراس الأحباش مثل الحراس السويسريين في فجر العصر الحديث (والمعروف أن الحرس البابوي في الفاتيكان ما زال حتى يومنا هذا من السويسريين الجبلين الذين اشتهروا بالبسالة والإقدام – المترجم -) ووصف الشعراء العرب الحراس والخدام الأحباش بأنهم (غرباء العرب) (وأن الواحد منهم منتصب كالرمح الثابت في اليد) ووصفهم عربي بقوله: "هذه الآلاف من الجنود السود كالرعد في السماء… إن صيحاتهم الحربية وحدها تصم آذان الخيول وتوقف زحف العدو" وقال آخر في معرض ذمه لتجار مكة: (إنكم ترسلون الزنوج ذوي الأكتاف العريضة للقتال بدل أن تقاتلوا بأنفسكم) لكن الزنوج يختلفون عن الأحباش لأنهم من العبيد الإفريقيين الذين تم نقلهم إلى مكة عن طريق الحبشة أرض العاج والعبيد(18).
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل الأول

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي الجمعة 29 مايو - 21:04

    كانت أرباح البضائع التي يحددها مصرفيو القوافل تبلغ (100) بالمئة، لكن لأن القافلة قد تتأخر بضعة أشهر ولأنهم أحياناً يتعرضون لخسارة كاملة فلم تكن الأسعار باهظة كما تبدو لأول وهلة. ولمقتضيات الأمان لم يكن ثمة من يحمل معه مبالغ طائلة ومن هنا نشأت الضرورة لوجود مصرفيين في محطتي أو مركزي بداية ووصول القافلة، ولذلك كان كل مصرفي مكي (مكاوي) له شريك في المحطات والمراكز الصحراوية، بل إن بعضهم استخدم سكرتارية (مساعدين) ووكلاء أجانب من الإغريق والسوريين مثل شريك ووكيل أشهر مصرفي في مكة وهو (ابن جدعان) وما زال حتى يومنا عدد من اليونانيين يعملون في موانئ البحر الأحمر… وكان ثمة مستعمرات في مكة تسكنها أقليات من كافة الأقطار المجاورة… يهود ومسيحيون يدخلون إلى مكة ويخرجون منها بكل حرية.
    في الصيف تنطلق القوافل إلى سورية وفي الشتاء إلى اليمن. ومن الصعب الآن أن نتخيّل مدى اهتمام الغرب وانبهاره بالجزيرة العربية ومنتجاتها، كانوا ينتظرون بصبر نافذ الشحنات السنوية من غبار الذهب (لعله يريد التِّبْر) ع وأنواع العطور والبخور واللبان والعبيد الزنوج والجلود والعاج والتين الشوكي المجفف وغير ذلك.
    وفي تدمر أقيمت التماثيل عرفاناً وإعجاباً ببعض قادة القوافل العربية، وعندما كانت القافلة تقترب من محطتها الأخيرة كان قائدها يرسل أمامه مبعوثاً إلى المدينة فيستقبله السكان بقرع الطبول ويحتفلون به. وكان اختيار المبعوث الذي يبشر بوصول قافلة سالمة من الجزيرة العربية يعني اختياره مدى الحياة أي امتهانه هذه المهنة مدى الحياة.
    أما إذا كانت الأخبار غير سارة فعلى العكس من ذلك، ففي محاولة من البعوث لتدارك العقوبة كان يقطع أذني بعيره لينزف الدم منها ثم يشق ملابسه من الأمام والخلف ويقلب سرجه. وعند اجتيازه طرقات ودروب المدينة يكرر الصراخ بأنه فقد كل شيء. بمعنى أن القافلة تعرضت للسلب. وكان التجار الحكماء الذين يملكون مخزوناً من البضائع المخبأة سيربحون بلا ريب ويستطيعون احتساب أرباحهم والبهجة تملأ قلوبهم مع ارتفاع الأسعار.
    كان سترابو مؤرخ الحملة الرومانية الاستكشافية في جنوب الجزيرة العربية عام 24 ق.م قد شاهد قافلة مكية لدى وصولها إلى البتراء وقارنها بالجيش لضخامتها. ويتحدث المؤرخ الطبري عن قوافل كانت تضم أكثر من ألفي جمل، وكانت القوافل في تلك الأزمنة تدخل الأراضي البيزنطية عن طريق ميناء أيلات (أيلة)(19) على خليج العقبة حيث كانت تقيم فيه مفرزة من الجيش الروماني العاشر في أثناء الاحتلال الروماني لمنطقة الأنباط العربية منذ عام 105م. ثم أصبحت أيلات بعد ذلك مدينة حدودية بيزنطية ذات أهمية وفيها أسقفية، وكان رعايا الأسقف يقيمون في مناطق تبعد عن إيلات. وثمة صوامع وأبرشيات في وادي القرى الذي كانت تجتازه القوافل العربية وقد اشتهر المقيمون في تلك الأديرة والصوامع بترحيبهم واستضافتهم للعابرين، سواء كانوا بدواً أو تجاراً، إذ يقدمون لهم الماء من أبارهم بالإضافة إلى النبيذ، كما كانت أضواء الفوانيس الباهتة المنبعثة من نوافذ الصوامع والأديرة بمثابة دليل للقوافل فضلاً عن كونها عامل تشجيع وأنس من وحشة الطريق.
    وبالقرب من أيلات (العقبة) أو البتراء نفسها سابقاً، تنقسم القوافل، فالقوافل المتجهة إلى غزة تتجه إلى الغرب والقوافل المتجهة إلى دمشق تواصل طريقها نحو الشمال باتجاه بصرى والمزيريب في حوران. وفي غزة ودمشق تبرك الجمال لإنزال الأحمال عن ظهورها وهي تشخر معبرة عن استيائها لأنها تكون عند ذلك قد بركت في فترات متقطعة زهاء خمسين أو ستين مرة منذ انطلاقها من مكة، ولم تتقل خلال ذلك ما يكفيها من طعام، كما لم يسمح لها بالرعي فضلاً عن الأحمال التي تنتظرها لتعود بها إلى مكة وغالباً ما تكون: زيت الزيتون والحبوب والنبيذ، والأسلحة والدروع، وبعد أيام يكون الحراس الأحباش والعبيد والزنوج والمرتزقة والتجار المغامرون والكتبة اليونانيون والأدلاء البدو بملامحهم الصارمة ووجوههم السمراء وحتى الجمال، يكونون على استعداد لرحلة العودة إلى الأرض الموحشة والمقفرة التي تثير الخيال، وتنطلق القافلة في اليوم مدة ساعتين على الأكثر لتتوقف وذلك حتى يلحق بها من تأخر لبعض أشغاله أو حتى يعود رجال القافلة لاسترداد الأشياء التي نسوها. وكانت القافلة تنطلق ليلاً والقمر بدر حتى يعرف المسافرون والحراس بعضهم بعضاً ويعرف الجنود وحداتهم ويستطيع المسؤولون إعادة حزم الأحمال وتثبيتها فيما إذا انزلقت عن ظهور الجمال وعندما تتوقف القافلة بعد ساعتين من السير في اليوم الأول تكون قد ابتعدت عن المدينة فيعاد تنظيمها بحيث أن الجمال التي تعود لكل تاجر تصطف خلف بعضها ويعاد ترتيب وتوزيع الحراس حول القافلة وفي مقدمتها على أفضل وجه. وبعد التأكد من الجاهزية وعودة المتأخرين يعطي قائد القافلة إشارة معينة تنتقل من حارس إلى حارس فتنصب الجمال على أقدامها وتنطلق في طريقها الطويل. هكذا كانت الأمور منذ أقدم العصور واستمرت كذلك سواء في قوافل الحجيج أو قوافل التجار واستمرت كذلك حتى أواخر القرن التاسع عشر ليس في الصحراء العربية فقط بل والصحاري الأخرى في العالم أيضاً.
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل الأول

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي الجمعة 29 مايو - 21:05

    وفي مكة كان الصيارفة الانتهازيون ينتظرون. فقد نشأت في مكة أحياء أجنبية خاصة باليهود والمسيحيين والوثنيين الذين كانوا أحراراً في التردد على مكة والإقامة فيها. ومن مجرد قرية صغيرة يتوسطها الحرم (الكعبة) توسعت مكة وأصبحت مدينة كبرى وبالإضافة إلى نبل وأصالة القبيلة الحاكمة فقد نشأت في أوساطها نبالة تجارية أيضاً فضلاً عن وظائفها الوراثية في خدمة بيت الله.
    كان ثمة مجلس منتخب من نبلاء قريش يصدر القوانين ويحل المنازعات، لكن بسبب الغيرة كانوا يراقبون بعضهم بعضاً، غير أن طبيعة حياتهم فرضت المفاهيم الديمقراطية عليهم وعلى أجدادهم من قبلهم وذلك في سبيل البقاء. ولذلك تحلّوا بكرم الضيافة وكانوا يتقاسمون على نحو عادل فيما بينهم إكرام واستضافة العابرين، ويؤمنون بحق كل إنسان بالماء وبالطعام إذا جاع، والأهم من ذلك خدمة البيت، وهذه المهمة أو الوظيفة تأصلت فيهم مثل سلوكهم ومواقفهم المباشرة والمستقيمة وعنايتهم بالشعر، من طبيعة حياة الصحراء ومن الهامش الضيق بينهم وبين الموت وقد أوصلوا خدمة البيت منذ فترة طويلة قبل الإسلام. وكان انتهاء تلك القواعد القديمة يعني انتهاك قوانين وقواعد الطبيعة ذاتها.
    والتاريخ العربي حافل بالأمثلة عن التواضع، تواضع المكيين حتى بعد أن حكموا ربع العالم المتمدن، كان الواحد منهم لا يجد غضاضة إذا امتطى دليله حصانه أو حتى إذا امتطى عبده حصانه… وقصة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب الذي أتى من الصحراء لاستلام مدينة القدس معروفة حيث كان يتبادل ركوب الجمل مع دليله.
    وكان الخلفاء الأوائل يستقبلون سفراء الدول الكبرى آنذاك بملابسهم البسيطة، ويجلسون على الأرض بكل بساطة ويدعون بعضهم بعضاً للصلاة بالأسماء وبيوتهم بسيطة تخلو من أي ديكور أو زينة، وبهذا الأسلوب من الحياة قضوا على الحسد لأنهم كانوا متساوين تقريباً سواء من حيث المظهر والملابس أو البيوت والمنازل. هذه هي التقاليد الديمقراطية التي كانت شائعة بين رجالات قريش المسؤولين عن خدمة بيت الله في مكة. وهي نفس تقاليد الخلفاء الأوائل في المدينة. تواضع يتجدد كل عام في الحج عند الوقوف خشوعاً بين يدي الله.
    لكن الخلفاء اللاحقين ابتعدوا عن هذه البساطة وهذا التواضع وتميزوا عن أتباعهم (مواطنيهم) فحدث الانشقاق والانقسام في الإسلام وظهر الخوارج وبعدهم الشيعة وعانى الإسلام كثيراً من هذه الإنشقاقات طيلة قرون. لقد كان الأمويون الذين يتحدثون من أصلاب المصرفيين المكيين والذين خدموا كقادة عسكريين في الجيوش الإسلامية في سورية هم أول من وجه ضربة للبساطة والتواضع العربيين، لكن الزعماء الروحيين أحفاد سدنة الكعبة هم الذين انتصروا في النهاية.
    إن واحداً لا يدعيّ هذه الأيام بأنه من أحفاد المصرفي المكي (أبو سفيان) أو أحفاده الملوك الأمويين الذين حكموا دمشق والأندلس كما أن واحداً لا يعرف أين اختفت هذه السلالة. وعلى العكس من ذلك فإن أحفاد سدنة الكعبة وهم أحفاد الرسول محمد (r ) من ابنته فاطمة التي أنجبت الحسن والحسين ما زالوا يحكمون أراضي عربية(20).
    * * *
    أمراء بني جرهم في مكة
    1-جرهم بن جهل 74 ق.م – 44 ق.م
    2-عبد ياليل بن جرهم 44 ق.م – 14 ق.م
    3-جرهم بن عبد ياليل 14 ق.م – 16 م
    4-عبد المدان بن جرهم 16 م – 46 م
    5-بكيل بن عبد المدان 46 م – 76 م
    6-عبد المسيح بن بكيل
    ويعتقد أن اسمه عمرو (وعبد المسيح لقبه) – التاريخ غير مؤكد
    7-مضاض الأكبر بن عمرو عبد المسيح 106 م – 136 م
    8-عمرو بن مضاض 136 م – 170 م
    9-الحارث بن مضاض
    10-عمرو بن الحارث(21)
    11-بشر بن الحارث
    12-مضاض الأصغر بن عمرو بن مضاض 170 م – 206 م

    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل الأول

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي الجمعة 29 مايو - 21:07

    وفي عام 207 منيت جرهم بالهزيمة فارتحلت عن مكة (أما مصدر المعلومات التي أوردناها هنا فهو: أ.ب. كوسين دي بيرسيفال: مقالات في التاريخ العربي الجزء الثالث صفحة 95 وكذلك كتاب ابن خلدون الشهير (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والبربر).
    وقبل اختتام الفصل الأول لا بد من تثبيت قصة لم يذكرها مؤلف هذا الكتاب سواء لأهميتها أو طرافتها. فبعد أن انطلق عمرو بن الحارث بن مضّاض الجرهمي بمن معه من جرهم إلى اليمن، حزنوا على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزناً شديداً، وبعد أعوام نزل عمرو بن الحارث في أرض الحجاز فضلت له إبل، فبغاها حتى أتى الحرم وأراد دخوله حتى يأخذ إبله. فنادى عمرو بن لحي (زعيم مكة بعد خروج جرهم) "من وجد جرهمياً ولم يقتله قطعت يده" فسمع ذلك عمرو بن الحارث فغادر مكة متخفياً وأشرف على جبل من جبال مكة حيث رأى إبله تنحر ويوزع لحمها فانصرف يائساً خائفاً ذليلاً وأبعد في الأرض وبغربته يضرب المثل ثم قال هذا الشعر الذي يعتبر من عيون الشعر العربي (ونختار هذه الأبيات من القصيدة الحزينة)(22).


    بلى نحن كنا أهلها فأزالنا


    كأن لم يكن بين الحجون وإلى الصفاء
    ألم تنكحوا من خير شخص علمته

    وكنا ولاة البيت من بعد نابت
    أنيس ولم يسمر بمكة سامر وصرنا أحاديثاً وكنا بغبطة
    ونطوف بذاك البيت والخير ظاهر صروف الليالي والجدود العواثر
    بذلك عضتنا السنون الغوابر فأبناؤه منا ونحن الأصاهر(23)




    (1) سفر الخروج 37 – 25: "ونظروا وإذا قافلة إسماعيلية مقبلة من جلعاد وجمالهم حاملة كثيراء وبلساناً ولاذناً ذاهبين بها إلى مصر".
    (2) انظر القائمة في نهاية هذا الفصل عن أمراء بني جرهم في مكة وقد بدأت إماراتهم بعد فترة طويلة من أيام إبراهيم (عليه السلام) التي يقدرها السيد ليونارد دولي بأنها تعود إلى ألفي سنة ق.م.
    (3) يقول الجغرافي العربي (المقدسي) الذي عاش في القرن العاشر: إنه تذوق ماء زمزم في زيارته إلى مكة فوجده غير مستساغ، لكنه في زيارته الثانية وجد مذاقه ممتازاً. أما الرحالة الذين زاروا مكة بعد المقدسي فتختلف أراء بعضهم عن بعض. فقد كتب علي بك العباسي عن ماء زمزم: "رغم عمق البئر وحرارة الطقس لكنه أشد سخونة من الهواء بل إنه يشبه الماء الدافئ وهو ما يوحي بوجود سبب ما لهذه السخونة في قاع البئر" ويباع الماء للحجاج في أوان خاصة حتى يعودوا به إلى بلادهم أي أنه مثل مياه نهر الأردن بالنسبة للمسيحيين. وزمزم باللغة العربية تعني نوعاً من الأصوات.
    (4) ويقول العرب: إن إسماعيل كان أول رجل يروض الخيول البرية.
    (5) يعتقد العلماء أن الحجر الأسود من أصل نيزكي (أي أنه جزء من شهاب).
    (6) تجدر الإشارة هنا بأن المؤلف يتحدث عن فترة الثلاثينيات من هذا القرن حيث كان الجهل منتشراً على نطاق واسع في الجزيرة العربية.
    (7) المكتبة التاريخية لديودوراس الصقلي، الكتاب الثالث الفصل (31) وكان ديودوراس قد توفي عام 57م.
    (Cool ما زال رجال قبيلة حرب الذين يقطنون حتى يومنا في هذه المنطقة يعرفون بالاسم الذي أطلق عليهم جيرانهم الشماليون وهو (آكلوا الصمغ) لأنهم يعلكون صمغ الشجر ويطعمون جمالهم من أوراق الزنابق التي يؤمنون بأن لها خواص علاجية.
    (9) تاريخ هيرودتس، الكتاب الثالث الفصل (Cool إصدار رولينسون.
    (10) تنمو الكرمة بوفرة في الطائف وما جاورها وكانت الخمر وخاصة النبيذ تصنع هناك في أوائل القرن التاسع عشر. أنظر: ج. ل. بيركهارت وغيره.
    (11) نعيد التذكير بأن المؤلف يتحدث عن مرحلة ثلاثينات هذا القرن لكننا مع ذلك نشكك في كلام.
    (12) آل عمران الآيات (95، 96)
    (13) ل. دي أوليري (الجزيرة العربية قبل محمد) ص 191.
    (14) يخطئ المؤلف هنا لأن المقولة مبتسرة وأصلها (الولد للفراش وللعاهر الحجر) وهي من المبادئ الفقهية التي تدين الزواج المؤقت وتعتبره بمثابة السفاح.
    (15) هـ لايمنز (التقاليد في مكة)
    (16) يعتقد البروفيسور فيليب حتى في كتابه (تاريخ العرب) أن اصل عادة صندوق قبيلة الرولة ليس له علاقة بخيم الجلد الحمراء التي كانت شائعة في أيام الجاهلية.
    (17) كان الخليفة الثالث عثمان بن عفان (ر) هو الذي أوعز ببناء ميناء جدة عام 646م.
    (18) هـ لايمنز (التنظيمات العسكرية العربية في مكة).
    (19) أصبح اسمها العقبة وما زالت أما ميناء إيلات الإسرائيلي فكان اسمه (أم الرشراش).
    (20) تجدر الإشارة هنا بأن الكتاب صدر قبل فترة طويلة من القضاء على الأسرة الهاشمية المالكة في العراق عام 1958 (تغمدهم الله جميعاً برحمته).
    (21) يؤكد ابن خلدون أن عمرو بن الحارث كان زعيماً قبلياً ليس من بني جرهم بل من خزاعة التي أتت بعدهم. وثمة إجماع على أن عمرو بن لحيّ هو أول زعيم لخزاعة التي حلت محل جرهم ويقال: إنه الذي أحضر صنم (هُبل) إلى مكة من سورية أو ربما العراق.
    (22) السيرة النبوية، لابن هشام الجزء الأول ص114 – 115.
    (23) يعني إسماعيل عليه السلام وذلك أنه تزوج امرأة من جرهم.


    أنتهى الفصل الأول
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty الفصل الثاني

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي الجمعة 29 مايو - 21:12

    ا
    لفصل الثاني : ****** الأوائل والرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)

    حسب التقاليد القبلية المتوارثة شفاهاً عبر الأجيال ينقسم العرب إلى ثلاثة أنواع أو أصناف وهم: العرب العاربة والعرب المتعربة والعرب المستعربة.
    العرب المتعربة هم الذين أصبحوا عرباً أما العرب المستعربة فهم الذين أرادوا أن يصبحوا عرباً ومن نافلة القول أن العرب العاربة هم العرب الأقحاح المتميزون.
    أما العرب المتعربة فهم عرب اليمن أحفاد قحطان (ويسميه سفر التكوين يقطان) بينما ينحدر العرب المستعربة من إسماعيل (ع) ابن إبراهيم (ع) وقد عاش إسماعيل في الحجاز وهو الذي بنى الكعبة في مكة.
    وهكذا فإن نبلاء قبيلة قريش في مكة ينحدّرون من أولئك الذين رغبوا أن يصبحوا عرباً أي من أبناء إسماعيل (ع).
    وبنو جرهم الذين حكموا مكة قبل قريش واتخذ إسماعيل له زوجتين منهم كانوا من الشعب الجنوبي من (قحطان) أي من أولئك الذين أصبحوا عرباً، وقد استقروا في مكة كما أسلفنا إلى أن تمكنت قبيلة خزاعة بقيادة عمرو بن لحيّ من التغلب عليهم وإخراجهم من مكة عام 207م بعد هجرتهم من اليمن.
    وفي الجزيرة العربية ثمة فرق في الملامح والصفات الأخرى بين الإسماعيليين (أي الذين يتحدرون من إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام) (الذين يسمون أيضاً باسم القيسيين – المترجم) وبين القحطانيين (الذين يسمون أيضاً باسم اليمانيين – المترجم).


    وفي الهلال الخصيب الذي يشمل كلاً من الأردن وفلسطين وسورية ولبنان والعراق عدة قبائل عربية تتحدر من الأصلين العربيين: الإسماعيلي (العدناني) والقحطاني (اليماني) لكن من الصعب التمييز بينهم اعتماداً على الملامح. فقد اختلفت الفروقات مع الزمن (وإن كان اليماني عادة أوسع عيوناً من القيسي).
    وثمة انطباع توحي به القصص المتناقلة عبر العصور وهو أن العرب نتاج التقاء واختلاط شعبين متميزين، وأن دين التوحيد (الحنفية) الذي صدع به إبراهيم (ع) قد وصل إلى الحجاز، وبعد نكسات تعرض له هذا الدين استقر في مكة وضرب جذوره فيها، غير أن الوثنيين في الجنوب قضوا على الدين الإسماعيلي. (نسبة إلى إسماعيل) بن إبراهيم من هاجر عليهم السلام).
    وهكذا يبدو أن بني جرهم وهم أول قبيلة (غير إسماعيلية) هم أول من اعتقدوا دين التوحيد… دين إبراهيم وإسماعيل (ع) لكنهم طردوا من مكة بعد ذلك وعادت الوثنية مرة أخرى لتسيطر على الحجاز وتتجذر فيه رغم انتشار اليهودية وبعدها المسيحية إلى الشمال وإلى الجنوب من الحجاز إلى أن عادت الإسماعيلية بشكل مختلف في مرحلة من التراجع الاقتصادي فحققت نجاحاً كاسحاً وسريعاً.
    لقد بُني بيت الله (أو الكعبة) في أيام بني جرهم (وفقاً لما يقوله الأزرقي) فوق مرتفع من الأرض لحمايته من الطوفانات التي كانت تحدث من حين لآخر. لكن لأن الكعبة (المشرفة) الراهنة مبنية في منخفض من الأرض، ولأن الحرم المكي كثيراً ما يتعرض للطوفانات في أيامنا فهذا يعني أحد أمرين: الأول أن يكون الأزرقي غير دقيق في كلامه. والثاني أن يكون الموقع الأصلي للكعبة أيام بني جرهم غير موقعها الراهن… كان بنو جرهم يعيشون على سفوح تلال الجانب الغربي للوادي وقد ابتنوا قلعة بدائية على كتف التل الذي يطل على الوادي، وثمة اعتقاد بأن القلعة الراهنة على جبل الهندي قد أقيمت في نفس موقع قلعة بني جرهم، وإلى الأسفل يتلوى وادي فاطمة (الذي كان اسمه آنذاك وادي المر) ومن هناك يمتد الطريق إلى جدة. وفي الجهة المقابلة لمضارب بني جرهم يرتفع جبل قُبيس الذي اقتلع منه أو وجد فيه الحجر الأسود وتم نقله لتثبيته في الكعبة، وباتجاه الشرق باب أجناد حيث كان يقيم بنو ملكان ومنه تنطلق الطريق إلى اليمن. أما المخرج الثالث من الوادي فيتجه شمالاً نحو جبل عرفات ومكان النحر (تقديم الأضاحي) ويتبين من ذلك أن هذا الوادي الضيق يشكل ملجأ أو ملاذاً طبيعياً لقلة الطرق الموصلة إليه آنذاك.
    كانت الكعبة نفسها في الأصل مكعباً بسيطاً (وجذر كعبة – كعب. والمكعب في اللغة الإغريقية يعني كوبوس بينما يعني باللغة الإنكليزية كيوب) وكان ثمة كعبة في صنعاء – اليمن تنافس كعبة مكة لبعض الوقت. كما كان ثمة حجر أسود ينافس حجر الكعبة في البتراء. أما مدينة الطائف وغيرها من الأماكن فكانت تحتوي على العديد من الأصنام. وكانت جرهم ومن تلاهم يعيدون بناء الكعبة من حين لآخر ويضيفون تحسينات عليها ويسقفونها ويغطونها بجلود الحيوانات التي يضحي بها الحجاج كما صنعوا لها باباً خشبياً. وفي عام 207م استطاعت قبيلة خزاعة طرد كل من بني جرهم وبني ملكان في ظروف غير معروفة وفي عام 400م استطاعت كنانة من قبيلة قريش وهي أصل كافة أشراف مكة أن تطرد خزاعة وتحل محلها، وبذلك أصبح القرشيون سدنة البيت ومن قريش تحدر الرسول العربي محمد صلى الله عليه وسلم والخلفاء في دمشق وبغداد وقرطبة والقاهرة وحكام شمال إفريقيا واليمن والعراق والأردن وما زال ثمة فروع قرشية بدوية خارج مكة وثمة فروع استقرت في المدن.
    كانت قريش أول قبيلة تزخرف الكعبة وأول من بنى منازل دائمة في وادي مكة ويروي قطب الدين الحنفي كيفية ظهور قريش على النحو التالي : ,, كانت خزاعة تحكم مكة وتحرس الكعبة بذكاء ودونما ادعاء أو غرورقد يعكر علاقاتها مع القبائل الاخرى حتى ظهر قصّي بن كلاب بن مرة وهو أول شخص من كنانة استطاع توحيد قريش وطرد خزاعة ,,. وقد اطلق على قصّي بن كلاب اسم(المجمّع) لانه جمع ووحد أفخاذ قريش. واسم قصي الأصلي (زيد) وقصي لقب لأنه أتى من مكان قصي (بعيد) فقد عادت به والدته الأرملة وهو طفل إلى وطنها في سورية حيث تزوجت مرة أخرى. وعندا كبر قصي تصادم مع أقارب زوج أمه، ولأنه كان يعرف أن أقارب والده يعيشون قرب بيت الله في مكة فقد عاد من سورية للالتحقاق بعشيرته، ورحب به أقاربه.
    وكان يحكم مكة آنذاك (حُليل بن حبشية بن سلول الخزاعي) وتزوج قصي من ابنته (حُبيّ) أو (حُيي) وأنجب منها أربعة أولاد وبنتين وسرعان ما أصاب ثروة وأصبح قوياً في مكة، وعندما توفي حُليل أعطى مفتاح الكعبة لابنته حبي فوهبته لأحد أقاربها من خزاعة وهو (ابن غبشان) الذي كان مدمناً على النبيذ واشترى قصي مفتاح الكعبة من ابن غبشان مقابل كمية من النبيذ. غير أن رجالات خزاعة لم يعترفوا بهذه الصفقة واستعدوا لاسترداد المفتاح بالقوة. وكان قصي قد احتاط للأمر مسبقاً واستنفر قبيلته قريش التي هبت معه وطردوا قبيلة خزاعة من مكة.
    وتجسد هذه الحكاية كما يبدو بعد إضافة رتوش خيالية، قصة وصول قبيلة نشيطة استطاعت خلال جيل واحد أن تتغلب على قبيلة خزاعة التي ضعفت نتيجة الترف وأن تطردها من المنطقة وتستأثر بمكة وخدمة بيت الله. ومات قصي زهاء عام 490م وكانت الكعبة وما جاورها حتى ذلك الوقت موضع احترام وتقديس لدرجة أن كلاً من سدنتها والحجاج إليها كانوا يغادرون الكعبة والمنطقة المحيطة بها عند الغروب، ولم يكن ثمة من يجرؤ أو يسمح له العيش أو الموت في المنطقة المقدسة المحيطة بالكعبة. فلا يسمح بحفر القبور ولا إجراء مراسم الجنازات في المناطق القريبة من الكعبة، ولم يكن ثمة من يجرؤ على مواصلة زوجته أو ارتكاب أي عمل مشين في تلك المنطقة.
    لكن قصي جمع رجالات قريش وأقنعهم ببناء منازلهم في المنطقة المقدسة المحيطة بالكعبة، فامتثلوا لرأيه بعد أن أكد لهم بأنهم سيكونون عند ذلك موضع احترام العرب ولن تجرؤ قبيلة أخرى على مهاجمتهم أو التفكير باقتلاعهم من مكة.
    ويقال: إنه كان أول من قطع شجرة من جوار الكعبة ووضع حجراً في أول منزل دائم في المنطقة المقدسة، وتشجّع رجالات قريش وحذوا حذوه، وقد تمّ ذلك على الأرجح عام 480م لأن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ولد عام 571م تقريباً وكان يمثل الجيل الخامس من أبناء وأحفاد قصي(1).
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل الثاني

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي الجمعة 29 مايو - 21:15

    وقام قصي بإدخال تحسينات علىالكعبة وغيّر أماكن الأصنام فيها كما أمر بإحضار أصنام من أماكن بعيدة وأدخلها إلى داخل الكعبة التي أصبحت بذلك (مجمع آلهة) أي أنه جمع الآلهة كما سبق أن جمع قبيلته ووحدها. وبنى بعد ذلك (دار الندوة) لتكون بمثابة قاعة اجتماعات واحتفالات يجتمع فيها رجالات قريش، ودار الندوة بمثابة المجلس الأعلى للقبيلة ويتعين على العضو في المجلس أن يكون قد تجاوز الأربعين على الأقل باستثناء أبنائه (أي أبناء قصي) الذين كانوا يعتبرون أعضاء في المجلس بعد بلوغهم أي وهم في الرابعة أو الخامسة عشرة من العمر. وأحاطت منازل قريش بالكعبة من كافة الجهات. والمداخل الراهنة للحرم المكي تقوم في الواقع مكان منازل قريش في زمان قصي وبعده.
    لقد استأثر قصي بكافة الوظائف والمهمات التي يستدعيها بيت الله بما في ذلك الحجابة والسقاية (أي تقديم الماء للحجاج) والرفادة (أي تقديم الطعام) والندوة (أي رئاسة المجلس) واللواء (أي حق أو صلاحيات إعلان الحرب وتجميع المقاتلين) والقيادة (أي حق وصلاحيات قيادة المحاربين في الحرب).
    في زمن ولاية قصي تقريباً كان ثمة هجرة جديدة للقبائل العربية الجنوبية نتيجة لكارثة انهيار سد مأرب في اليمن، فارتحلت بعض القبائل الجنوبية (اليمانية) إلى العراق وبعضها إلى سورية كما زاد عدد المستوطنات العربية في الحبشة وعلى طول الساحل الشرقي لأفريقيا قبل عدة قرون من الإسلام. كانت بدايات مدينة أكسوم التي ما زالت خرائبها وأنقاضها ذات النقوش الوثنية قائمة حتى اليوم، هي نواة الحبشة فيما بعد ويعود تاريخها إلى القرن الميلادي الأول.
    ويحق لنا الافتراض بأن التجارة العربية تأثرت كثيراً وعلى نحو سلبي في القرن الميلادي الأول نتيجة اكتشاف الرومان للطريق البحري إلى الهند، وبلغ هذا التراجع التجاري ذروته في القرن الرابع. ثم حدثت الكارثة وانهار سد مأرب ولم يعد بالإمكان إصلاحه بين عامي 542 و 570م، وقد أشار القرآن (الكريم) إلى هذه الحادثة. وتفنّن العرب في سرد الحكايات الخيالية حول انهيار السد في محاولة لتوضيح عملية طويلة من التراجع التجاري والزراعي وما أصاب الحياة الاجتماعية جراء ذلك. ولم يكن ذلك التراجع في الواقع إلا نتيجة دخول السفن الرومانية إلى البحر الأحمر فضلاً عن تأثير الديانات الجديدة والسياسات الخارجية للإمبراطوريات الغربية. إن قصة انهيار السد في الحقيقة هي إعادة رواية تاريخ طويل من الأسباب الاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى انحلال وتفكك المجتمع العربي في جنوب الجزيرة.
    ويقول فيليب حتى(2): "لقد تجاهل الرواة الأسباب الرئيسية التي أدت إلى الكارثة لدرجة أن بعض القصص تؤكد بأن جرذاً استطاع أن يقلب حجراً ضخماً في السد لا يستطيع خمسون رجلاً حمله، وهذا هو سبب انهيار السد".
    وهكذا يتضح لنا أن ثمة ثلاث أزمات أدت إلى موجات الهجرة: الأولى في القرن الأول الميلادي وكانت معظم الهجرة بحرية إلى الحبشة وساحل إفريقيا الشرقي من جهة وإلى الخليج الفارسي (العربي) من جهة ثانية، وقد استخدم المهاجرون سفنهم التي كانوا يستعملونها في التجارة وبذلك انتهت مرحلة من الازدهار في جنوب الجزيرة لا نعرف عنها الكثير.
    وبدأت الهجرة الثانية أواسط القرن الخامس في أيام قصي بن كلاب أي عندما برزت قبيلة قريش كقوة معتبرة في مكة. وفي تلك المرحلة بدأ الإحساس بأن الوسيلة الوحيدة للبقاء هي نقل المركز التجاري في عمق الشمال وذلك لاستغلال الموارد العربية بدل الاعتماد على تصدير بخور اللبان والبضائع الهندية.
    أما الهجرة الثالثة فقد حدثت بعد الانهيار النهائي للسوق الخارجي وتزايد الملاحة الأجنبية في البحر الأحمر وظهور وانتشار الإسلام أواسط القرن السابع ثم قيام القوات العربية تحت لواء الإسلام بغزو الأراضي الرومانية ودحر الرومان في كافة المعارك… كان الغزو العربي للرومان بمثابة الفصل النهائي في عملية طويلة بدأت كنتيجة للتدخل الروماني في الحياة الاقتصادية العربية قبل ذلك بستة قرون(3).
    ويمكن النظر إلى كل من الإصلاحات التي قام بها قصي من جهة وظهور الإسلام من جهة أخرى كنتائج طبيعية للضغوطات الاقتصادية التي عاناها العرب والصعوبات التي بدأوا يواجهونها في التجارة مع الغرب، وبالتالي محاولتهم بما عرف عنهم من إقدام وخشونة وشدة بأس كسر طوق ما يشبه الحصار الاقتصادي الذي كانوا يعانون منه رغم أن الغرب (الرومان) لم يقصدوا الحصار ويمكن اعتبار الحركة الوهابية صورة مصغرة عما حدث أواسط القرن السابع فقد ظل الوهابيون يهاجمون أراضي الهلال الخصيب حتى تدفق النفط في الجزيرة العربية(4).
    كان قصي في شيخوخته حكيماً كما كان في كهولته، وقد نقل صلاحياته (سلطاته) إلى ابنه الأكبر (عبد الدار) على أمل أن يتمكن عبد الدار من ضمانة وحفظ مركز قصي بعد موته، لكن ما إن توفي قصي حتى بدأ أولاده الآخرون يطالبون بحصصهم من فوائد وأرباح حقوق الحج. وقد شهد تاريخ مكة حالات كثيرة كان الوالد يتنازل عن مركزه وصلاحياته لابنه المفضل حتى يضمن احتفاظ ابنه بالمنصب لكن في معظم الحالات كانت هذه الخطط تمنى بالفشل. والحقيقة أن عبد الدار استطاع الاحتفاظ بصلاحيات والده، لكن أولاده فشلوا بعد وفاته في الاحتفاظ بصلاحيات والدهم التي ورثها عن والده قصي، واستطاع أبناء عبد مناف أن يحصلوا على حق السقاية وحق الرفادة من أبناء عمومتهم واستمر الأمر كذلك حتى جاء الإسلام(5).
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل الثاني

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي الجمعة 29 مايو - 21:17

    وكان هاشم بن عبد مناف بن قصي هو أول من نظم إرسال القوافل التجارية إلى اليمن في الشتاء وإلى الشمال والشمال الغربي في الصيف. واستطاع بجهوده أن ينعش الاقتصاد المكي، وعلى العكس من معظم المكيين كان عمرو هاشم (وهاشم لقبه) غالباً ما يرافق القوافل بنفسه. وفي إحدى رحلاته التجارية تلك وصل إلى غزة على البحر الأبيض المتوسط وتوفي ودفن فيها وهو في شرخ الشباب.
    وكان هاشم قبل ذلك قدم إلى المدينة فتزوج سلمى بنت عمرو من بني عدي ابن النجار فولدت له عبد المطلب وسمّته شيبة، وبعد وفاة هاشم ظل شيبة في المدينة عند إخوانه إلى أن ذهب عمه المطلب وأعاده من المدينة إلى مكة وأصبح اسمه عبد المطلب. وبعد أن توفي المطلب في اليمن انتقلت أمواله إلى ابن أخيه عبد المطلب وتزوج وأنجب عدة أبناء أحدهم عبد الله الذي توفي وهو في مقتبل العمر بعد أن أنجب الرسول العربي محمداً صلى الله عليه وسلم عام 571 تقريباً فنشأ محمد مثل جده يتيما فكفله جده عبد المطلب وبعد وفاته كفله عمه أبو طالب.
    لقد توزع أحفاد قصي وظائف الحج فيما بينهم، فبعضهم تخصص في الحجابة وتخصص أبناء عمرو هاشم في السقاية والرفادة وكانوا يعملون في التجارة في نفس الوقت، بينما تخصص البعض في التجارة حصراً مثل أبناء عبد شمس بن قصي الذين أصبحوا من مشاهير المصرفيين ومنهم بنو أمية.
    كان أعضاء مجلس (ندوة) ما يمكن تسميته (جمهورية مكة) يغارون من بعضهم بعضاً، وعندما حاول أحدهم وهو عثمان ابن حُويرث أن يزور القيصر ويقترح عليه اتفاقاً لضمانة أمن وسلامة القوافل المكية التي ترتاد دمشق مقابل أتاوة سنوية على أن يعترف القيصر بسلطته (أي عثمان ابن حويرث) على مكة رفض الأعضاء الآخرون هذه الفكرة وقاوموها(6).
    في عام 600م تقريباً – أي قبل الإسلام – أعادت قريش بناء الكعبة مرة أخرى ووسعوا الساحة حولها وأعلوا ووسعوا بناءها أيضاً، وقد اتخذوا ذلك القرار بعد طوفان دمر الكعبة جزئياً ودخلت المياه المتدفقة إلى داخلها ولذلك رفعوا مصطبة الباب عن مستوى الأرض وذلك لتجنب تسرّب المياه إلى داخلها في المستقبل. وشاءت الصدف أن تتحطم سفينة إغريقية قرب جدّه وهي في طريقها إلى الحبشة من مصر. فأرسلت قريش أحد رجالها للتفاوض مع صاحب السفينة وشراء أخشاب حطامها وكان ثمة نجار مصري في مكة استطاع بواسطة أخشاب وحبال السفينة أن يضطلع بمهمة تكبير بناء الكعبة ورفع بابها عن مستوى الأرض.
    ومنذ ذلك التاريخ أعيد بناء الكعبة وإصلاحها غير مرة لكن حجمها وسعة ساحتها لم تتغير بعد ذلك طيلة (13) قرناً على وجه التقريب.
    في ذلك الوقت كان محمد صلى الله عليه وسلم في زهاء الخامسة والعشرين من عمره وقد تزوج أرملة مكيّة ثرية وذكية تدعى (خديجة) واضطلع بعد ذلك بقيادة قوافلها التجارية من وإلى الشمال، وكان يعرف بالأمانة والاستقامة منذ بواكير شبابه شك أن الزواج والنجاح التجاري قد وفرا له وقتاً للتأمل، وانضم إلى حلف الفضول وشارك فيه وأخذ يتردد على غار يقع خارج مكة يدعى غار حراء للتأمل.
    كان من شأن قلقه على بضائع التجار الذين عمل معهم قبل زواجه ومن ثم قلقه على بضائعه الخاصة بعد الزواج أن لفت انتباهه إلى الطبيعة غير المستقرة للازدهار في مكة. فقد كانت مكة تعتمد في ثروتها على تجارة القوافل، وكانت سلامة الحجاج تحت رحمة القبائل العصية على السيطرة. ومن تلك القبائل (هوازن) وهم أسلاف قبيلة (حرب) الراهنة. وكانت هوازن على خلاف مع المكيين بل إنها هاجمت مكة خلال السنوات المبكرة من عمره.
    أما كيف أن هذا الخطر وغيره من الاعتبارات المادية والروحية قد وجهت تفكيره نحو الإصلاح الديني والعودة إلى دين التوحيد، فإن أحداً لا يعرف ذلك، لكن المؤكد أنه وهو في التاسعة والثلاثين كان قد شكل خطة إصلاح وتوحيد ديني.
    وفي مكة آنذاك مستعمرة حبشية (يقصد بالمستعمرة حياً خاصاً بالتجار الأحباش) بل إن بلالاً أصبح مؤذن الرسول هو زنجي حبشي. والمعروف أن الحبشة المسيحية كانت تتصارع على اليمن مع بلاد فارس الزرادشتية في القرن الذي سبق ولادة محمد صلى الله عليه وسلم بل إن الأحباش حاولوا – في السنة التي ولد فيها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم – احتلال مكة بقيادة أبرهة الحبشي الذي قاد حملته المدججة بالفيلة من اليمن وفشلت الحملة نتيجة انتشار وباء الجدري بين قواته. كما انتعشت المستعمرات اليهودية في المدينة (المنورة) وفي عدة واحات شمال الحجاز بينما انتشرت اليهودية في اليمن حتى أصبحت دين الدولة.
    كان ثمة عرب غير راضين عن المعتقدات الشائعة وهم الحُنَفاء فتبنوا وطوّروا أفكاراً توحيدية غامضة، وازداد عدد هؤلاء الحنفاء وسط الجزيرة العربية، وكان من شأن الفوضى السائدة على الصعيد السياسي أن حتمت انخفاض الاحترام للآلهة الوثنية التي كانت عبارة عن أصنام من الحجارة بلا حول ولا طول، باستثناء ما كان يزعمه عبدتها من قدراتها، ومنذ إصلاحات قصي الذي أحضر تلك الأصنام إلى مكة، كثرت الأصنام وتعددت أنواعها لدرجة أن كل قبيلة كانت تعبد آلهاً خاصاً بها.
    وأدرك محمد صلى الله عليه وسلم بسليقته أن ثمة طريقة واحدة لإنهاء الصراعات والصدامات القبلية وهي توحيد القبائل ومكة في دولة واحدة ولا يمكن تحقيق هذا الهدف إلا بعد توحيد كافة الآلهة في إله واحد.
    وهكذا بدأ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يبشر بالإسلام (بعد أن نزل عليه الوحي في غار حراء) والمساواة بين الناس(7) وكان تقدم الدين الجديد بطيئاً إذ لم يؤمن به في العام الأول من الدعوة سوى ثلاثة، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلتقي بهم في البداية في عدة أماكن ونادراً ما التقى بهم في بيته إلى حين استقر الرأي على اجتماعهم في كوخ فوق تلة صغيرة في الصفا. وعند نهاية عام 613 بلغ عدد أتباعه زهاء ستمائة شخص وشاع أمر الرسول وأمر دعوته وبدأ يواجه معارضة قوية، فتألف وفد من قريش وذهبوا إلى أبي طالب يتذمرون له من ابن أخيه، وتحدث أبو طالب مع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالأمر وكان جوابه حاسماً: "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته" ورغم الإحراج الذي شعر به أبو طالب لكنه لم يخذل ابن أخيه(Cool. وكان أبو طالب عزيزاً قوياً في قومه ولا يجرؤ شخص على إيذاء محمد خشية من عمه أبي طالب. لكن بعض المسلمين الآخرين كانوا يفتقرون إلى الحماية، فتعرضوا للأذى لدرجة أن بعضهم هاجر إلى الحبشة حيث وجدوا الترحيب من قبل ملك الحبشة المسيحي الذي رفض بعد ذلك طلب وفد أرسلته قريش يحمل الهدايا إليه لتسليم المسلمين إلى الوفد بهدف إعادتهم إلى مكة. وبعد تزايد المضايقات التي تعرض لها الرسول غادر مكة إلى الطائف. ثم انتشرت شائعة بأن أهل يثرب (التي أصبح اسمها المدينة المنورة) قد وجهوا دعوة للرسول صلى الله عليه وسلم للإقامة بينهم. وعند ذلك قرر نبلاء مكة تصفيته جسدياً. لكن ما إن وصلت العصبة المكلفة بمهمة تصفيته إلى منزله حتى اكتشفت أنه غادر مكة مع أحد الذين كانوا أول من آمن به وبدعوته (وهو أبو بكر الصديق) حيث وصلا إلى يثرب (المدينة) في الرابع والعشرين من أيلول 622 وهو بداية التاريخ الهجري المعمول به في العالم الإسلامي.
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل الثاني

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي الجمعة 29 مايو - 21:19

    وفي المدينة تحول الإسلام إلى دين مقاتل وشهر المسلمون سيف الله وهو الإله السابق لقريش، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم راغباً في الصدام فقد كان يأمل إقناع قومه بالحسنى. وفي المدينة اضطر لتشكيل قوة عسكرية لمقاومة هجمات المكيين المتوقعة التي سيقودها حتما أبو سفيان. وبعد بضع سنوات من الهجمات المتبادلة التي حدثت خلالها عدة معارك شهيرة في التاريخ الإسلامي يأتي في مقدمتها معركة بدر، ازدادت قوة الرسول وشاع ذكره في الجزيرة العربية ووجه الإنذارات إلى يهود المدينة والقبائل في الواحات المجاورة، ورغم أنه تعرض لبعض النكسات العسكرية لكن علم الإسلام ارتفع في الجزيرة العربية وأصبح الكثير من المكيين يهاجرون إليه بأرواحهم إن لم يكن بأجسادهم. وأخيراً قرر فتح مكة، ولأن أبا سفيان أدرك أن المكيين لن يستطيعوا مواجهة جيش محمد صلى الله عليه وسلم انطلق إليه وأعلن إسلامه وفي صباح اليوم التالي دخلت القوات الإسلامية بقيادة الرسول إلى مكة صلحاً إذ لم يشأ أن يهرق دماء أبناء عشيرته بما في ذلك الذين أساءوا إليه وتآمروا على قتله وبقي مفتاح الكعبة مع أسرة شيبة.
    وسرعان ما حظر وأد البنات وحطم كافة الأصنام في الكعبة وجوارها، وأقر مناسك الحج. وفي عام 631 لم يستطع الحج لانشغاله في ترسيخ سلطته والتغلب على بعض المتمردين في الطائف من جهة وقبيلة هوازن القوية من جهة أخرى. أما في العام الثاني 632 فقد قاد الحج بنفسه ثم إنه مرض مرضاً غير محدد عانى خلاله نوبات شديدة من الحمى وتوفي يوم الخميس الرابع من حزيران عام 632.
    ورغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان القائد الأعلى لكنه اعتاد أن يقرن اسمه مع اسمي أبي بكر وعمر عندما يتطلب الأمر تأكيد السلطة فيقول: "أنا وأبو بكر وعمر…". وهكذا ظهرت هذه الشراكة العائلية الثلاثية منذ البداية وأصبحت عادة في مكة خلال القرون التالية.
    يمكن القول: إن محمداً صلى الله عليه وسلم أصبح ملكاً لكنه ملك في جمهورية إذا صح التعبير، ولعدم وجود وريث ذكر له فقد خلف أبو بكر الذي أصبح اسمه خليفة رسول الله ثم اقتصرت مناداته باسم (الخليفة).
    ما إن توفي الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تمردت بعض القبائل وأعلنت العصيان بل إن قبائل البحرين ارتدت عن الإسلام وعادت لاعتناق الدين المسيحي. وهكذا بدأت ما يسميه العرب (حروب الردة) وانتصرت الجيوش الإسلامية على القبائل المرتدة… وفي طليعة المرتدين (مسيلمة) الذي يصفه المؤرخون العرب بالكذاب لأنه ادعى النبوة وقاد بني حنيفة وقبائل اليمامة لكنه مني بهزيمة منكرة وقتل، وخلال سنة وبضعة أشهر قضت القوات الإسلامية على معاقل المرتدين وخفقت راية الإسلام فوق الجزيرة العربية مرة أخرى.
    بعد أن استقرت الأمور قرر أبو بكر توجيه الجيوش للفتوحات باتجاه الشمال والشمال الشرقي وذلك قبل نهاية عام 633. وكانت الإمبراطوريتان الرومانية والفارسية قد شاختا وضعفتا.
    وتوفي أبو بكر (ر) في شهر آب اللاهب. وكانت الدولة الإسلامية قد دخلت مرحلة من المتغيرات المتسارعة غير الخاضعة للسيطرة وذلك بسبب توسع الفتوحات والظروف الاجتماعية والطبيعية التي تختلف في الأقطار والأراضي المفتوحة عنها في الجزيرة. وهكذا أصبحت أيام صدور الأوامر والتوجيهات من مكة معدودة.
    لقد أصبح تاريخ ****** المسلمين ليس قصة مدينة في الجزيرة العربية وإنما قصة شعب يزحف في أراضي الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية وهذا ما استدعى بالضرورة إنشاء معسكرات للجيوش والإقامة في مدن وعواصم بعيدة من الجزيرة. وحاول الخليفة الثاني عمر بن الخطاب استعادة السيطرة وتركيز الصلاحيات في الجزيرة العربية وأصدر لهذه الغاية أمراً منع بموجبه المسلمين من الحصول على أملاك عقارية في الأراضي والأمصار المفتوحة، لكن بعد بضع سنوات ثبتت استحالة التقيد بذلك.
    ولأن الفتوحات توسعت وامتدت على نحو فاق كافة التوقعات، وجد عمر (ر) أن القوانين والتشريعات التي وضعت للمجتمع العربي في مكة والمدينة لم تعد كافية ولا تفي بحاجات المجتمعات والمدن الكبيرة التي دخلتها القوات العربية الإسلامية في الأمصار صلحاً أم حرباً. وكانت المهمة الأولى التي اضطلع بها هي جمع القرآن أما المهمة الثانية فهي توسيع التشريعات اعتماداً على القرآن والسنة بحيث يمكن تطبيقها في الظروف والشروط المستجدة التي لم تكن موجودة عند نزول الوحي.
    وتم جمع القرآن وهو كلام الله الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل وأرسلت نسخ منه إلى الأمصار.
    وبينما كانت جيوش الإسلام المتزايدة في العدد والعدة تلقي الذعر في قلوب الأعداء وتمضي في التوسع باتجاه الشمال والشمال الشرقي والشمال الغربي، كان مركز الخليفة في المدينة. وكانت أهمية مكة تعتبر هامشية بالنسبة لها. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد عين عتاب بن أسيد بن أبي العاص(9) أحد أقاربه وهو من أمية والياً على مكة في حياته. وقد خلف عتاب عدة أشخاص من الهاشميين كان الخلفاء يختارونهم.
    وفي عهد عمر تمّ الاستعاضة عن ميناء الشعيبة بميناء جدة لأنه أقرب إلى مكة وفي عام 638 (10) تمَّ بناء جدار واق ومنخفض الارتفاع حول الكعبة لأول مرة وذلك كإجراء للسيطرة على الحجيج نتيجة التزايد الدرامي في عدد الحجاج. ولم يكن ثمة من يخشى أن تتعرض مكة للهجوم سيما وأن الجيوش الإسلامية والجبهات بعيدة جداً في عمق أراضي الرومان والفرس، لكن مكة تعرضت للهجوم بعد ذلك.
    بعد وفاة عمر رضي الله عنه الذي اغتاله عبد مسيحي من أصل إيراني اجتمع ستة من كبار الصحابة سبق أن اختارهم لاختيار الخليفة الثالث فاختاروا عثمان بن عفان الذي ينحدر من الفرع الأموي أي من فرع التجار والمصرفيين وليس من الفرع الهاشمي سدنة الكعبة.
    وكان علي بن أبي طالب وهو ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته فاطمة يعتقد منذ وفاة الرسول بأنه الأولى بخلافته، وبالتدرج تشكل حزب يؤيد خلافة علي وأولويته لهذا الحق. وكان عدد كبير من المشركين خارج الجزيرة العربية الذين اعتنقوا الإسلام معتادين على نظرية (التجسيد) أي أن الله يتجسد على شكل إنسان وقد دخلت هذه الأفكار المضللة إلى الجزيرة العربية من المسيحيين البيزنطيين الذين كان عدد كبير منهم يؤمن بأن الله تجسد في المسيح، ومن الفرس في إيران التي أكمل المسلمون افتتاحها في زمن الخليفة الثالث. ومن الطبيعي أن تؤثر ثقافات الأمصار التي افتتحها المسلمون عليهم بشكل متزايد، وبذات أفكار التجسيد والحلول وتأليه الحاكم وهي أفكار ومعتقدات فارسية الأصل تنتشر بين المسلمين كما سبق أن انتشرت قبل ذلك في بلاد الإغريق والرومان، وكان المصدر واحداً وهو بـلاد الفرس.
    لكن قبل أن يحدث ذلك شعر عثمان بمخاطر انتشار الاستياء بين كبار الهاشميين في المدينة فتحول إلى مكة واتخذها عاصمة بدلاً من المدينة. وكان عثمان قد ورث ثروة واستطاع أن ينميها وكان يتأنق في ملابسه بعكس سلفيه، ولأنه من الفرع الأموي فقد عين أقاربه الأمويين في أهم المراكز في الأمصار المفتوحة.
    وهكذا ظهر الانشقاق بين نبلاء قريش، بين علي (ك) ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته يؤيده أقاربه الهاشميون وبين الفرع الأموي الذين اشتهروا بالتجارة والصيرفة والمغامرة وكان أبو سفيان وهو أحد أهم أجداد الأمويين من أشد خصوم الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة في فجر الدعوة الإسلامية.
    وتجددت الضغوطات القديمة بين الفرعين، كان الأمويون يسيطرون على دمشق ويتمتعون بتأييد سكانها بينما وجد علي رضي الله عنه الدعم والتأييد في النصف الشرقي من الإمبراطورية وعلى وجه التحديد في العراق وما تلاها شرقاً.
    وفي شهر حزيران عام 656 بلغ النزاع أوجه عندما قتل الخليفة عثمان رضي الله عنه في المدينة. واستغل معاوية بن أبي سفيان الموقف وأصبح زعيم الأمويين والمدافع عن مصالحهم فالتفوا حوله. وعرض معاوية قميص عثمان رضي الله عنه الملطخ بالدم في مسجد دمشق الكبير (المسجد الأموي)(11) ونجح في إثارة حزن وغضب المسلمين على مقتل عثمان. وفي غضون ذلك انطلق علي كرم الله وجهه من الحجاز (ولم يرجع إليه بعد ذلك) متوجهاً إلى الكوفة في العراق حيث تم اغتياله أيضاً بعد خمس سنوات، وسرعان ما أصبح بالنسبة لذريته وأتباعه قديس الإسلام أو بطل الإسلام. وثمة من يعتقد بأن علياً كرم الله وجهه كان يفتقر إلى الحنكة السياسية وإن كان على درجة كبيرة من الحكمة والشجاعة في الحرب، وفياً لأصدقائه منصفاً مع أعدائه حتى أصبح في التاريخ الإسلامي وما زال رمزاً للشهامة والفروسية، كما تم تخليد سيفه – الذي سبق أن
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل الثاني

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي الجمعة 29 مايو - 21:23

    حمله الرسول صلى الله عليه وسلم – بالكلمات التي حفرت على معظم السيوف العربية في القرون الوسطى (لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار) وقد اتخذ كافة الفرسان العرب في العصور التالية، علياً رمزاً لهم، ولا شك أن الآلاف المؤلفة من الحجاج الذين ما زالوا يحجون إلى قبره في النجف وقبر ابنه الحسين الذي قتلته القوات الأموية في كربلاء، يثبتون تميز وأهمية مركزه في أوساط الشيعة وهم أحفاد أتباعه الذين آمنوا بأحقيته وألويته بالخلافة وحاربوا الأمويين تحت راية علي (ك) حتى مصرعه.
    ومنذ أن اعتلى معاوية منصب الخلافة في دمشق عام 660 لم يعد للجزيرة العربية تأثير يذكر على مجريات الأحداث خارجها. لقد دفعت الجزيرة بروحها ودمائها إلى الأراضي والإمبراطوريات المجاورة ومنذئذ أصبح دورها في التاريخ ثانوياً مقارنة بدور السلالات التي انطلقت منها وأسست عواصم خاصة بها. لكن الجزيرة حاولت تأكيد زعامتها أو أهميتها على الأقل حيث قام عبد الله بن الزبير وأعلن نفسه خليفة.
    واتهم حكام دمشق الأمويين باغتصاب الخلافة واستطاع فرض سيطرته على الجزيرة طيلة جيل بل إن العراق اعترف بخلافته لفترة ما. لكن الأمويين نجحوا في النهاية بوضع حد للمساعي المكية عام 692 وبعد حصار استمر ستة أشهر اقتحم القائد الأموي الحجاج بن يوسف الثقفي مكة وكان ابن الزبير قد صمد قبل ذلك أمام حصار آخر دمرت خلاله أجزاء من الكعبة نتيجة ضربها بالمنجنيقات لكن قائد الحملة (الحسين بن نُمير) أوقف الحصار وعاد بقواته إلى سورية بعد أن سمع بوفاة الخليفة الأموي يزيد بن معاوية. وكان من شأن إنهاء الحصار وانسحاب القوات الأموية أن قام المكيون بإصلاح الأضرار التي لحقت بالكعبة جراء ضربها بالمنجنيقات. وبعد أن احتل الحجاج مكة أمره الخليفة في دمشق بإعادة بناء الكعبة وإزالة التحسينات التي أدخلها عبد الله بن الزبير في إشارة واضحة لتأكيد سلطة دمشق على المكيين والكعبة وحتى سدنة الكعبة من الهاشميين.
    يقول ابن الحنفي أن عبد الله بن الزبير أعاد بناء الكعبة بعد دمار أجزاء منها نتيجة قصفها من قبل قوات الحسين بن نُمير، وأنه أكمل إعادة البناء في السابع والعشرين من شهر رجب (القمري) الذي يوافق عام 683 وخرج مع أهالي مكة إلى التنعيم وقاموا بالحجة الصغرى ويسميها المسلمون (العمرة) وظل المكيون بعد ذلك يقومون بالعمرة كنوع من الاحتفال ويخرجون إلى التنعيم واستمرت عادة المكيين هذه حتى عام 1201 حيث أن قتادة ابن إدريس استغل فرصة خروج المكيين إلى التنعيم للاحتفال السنوي فاحتل مكة دون مقاومة.
    وربما لا يكون ابن الحنفي مصيباً في اعتقاده بأن العمرة عادة استنها ابن الزبير، وكل ما في الأمر هو أنه أحيا عادة قديمة لأن مؤرخين آخرين يؤكدون بأن العرب كان يعتمرون ويعقدون في أثناء ذلك هدنة قصيرة بين القبائل حتى في أيام الجاهلية.
    وإذا كان هناك هدنة قبلية في رجب أي في أوائل الصيف فقد كان الهدف منها إتاحة الفرصة أمام القبائل للإقامة بسلام وأمن عند آبارهم والتردد على أسواق المواشي قبل أن تزداد حرارة الطقس ويصبح الارتحال أشد صعوبة سواء بالنسبة لهم أو لمواشيهم، وهذا يعني وجود اتفاق ضمني بين القبائل على حظر الغزو في شهر رجب لكن هذا التقيد اختفى بعد انتشار الإسلام رغم استياء بعض المكيين وحتى بعض القبائل. وهكذا استغل ابن الزبير الرغبة الطبيعية للاحتفال بانتهاء عمليات إصلاح وترميم الكعبة وأعاد التقليد القديم. وإذا كان الخليفة الأموي في دمشق قد أعاد بناء الكعبة لمحو أي أثر من آثار الإصلاحات التي قام بها ابن الزبير لتجميلها فقد استمر تقليد الحج الأصغر بعده مئات السنين.
    وفي نهاية القرن السابع أصبح من المألوف أن يقوم الخلفاء الأمويون في دمشق بتعيين أقاربهم من الأمويين (وليس الفرع الهاشمي) أو بعض القادة العسكريين المخلصين لهم كولاة على الأمصار أو حتى حكاماً على مكة نفسها. وبدا كأن الهاشميين الذين توارثوا حق إدارة الكعبة قد فقدوا هذا الحق.



    (1) كان العرب يتزوجون في سن مبكرة ويحق لنا الاعتقاد بالتالي أن الجيل يمثل 20 سنة.

    (2) تاريخ العرب ص 64-65.

    (3) إننا نتحفظ بالطبع على معظم التفسيرات التي يوردها المؤلف ويعتمد فيها بشكل أساسي على الاقتصاد أي على المادية التاريخية.

    (4) رغم رفضنا المطلق لهذا التفسير وغيره لكننا نثبته لإطلاع القارئ على الكيفية التي يفكر فيها الغربيون.
    (5) ابن هشام (السيرة النبوية) المجلد الأول ص 132.
    (6) أ.ب. كوسين دي بيرسيفال (مقالات في التاريخ العربي) صفحة 333. وقد ذكر هذه الحادثة ابن خلدون أيضاً.

    (7) د.ج. هو غارث.

    (Cool السيرة النبوية، لابن هشام الجزء الأول.

    (9) وما زال أحد أحياء بغداد يحمل اسم عتاب نسبة إلى عتاب بن أسيد. وينسب إلى حيّ عتاب الحرير العتابي الذي يعرف باختصار باسم الحرير التابي.
    (10) نلفت نظر القراء الكرام إلى أن كافة التواريخ المدونة من الآن وحتى نهاية الكتاب هي حسب التقويم الغريغوري الميلادي إلا إذا أثبتنا التاريخ الهجري.

    (11) لم يكن المسجد الأموي قد بُني في ذلك الزمن لأنه بُني في عهد الوليد بن عبد الملك.


    أنتهى الفصل الثاني
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty الفصل الثالث

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي الجمعة 29 مايو - 21:26

    الفصل الثالث : ****** منذ القرن الثامن حتى القرن الثاني عشر

    خلال المائتي سنة بعد انتشار الإسلام كسدت وتوقفت تجارة القوافل المكية، وفي القرن العاشر اختفت تماماً كما توقف العمل في مناجم الذهب في نجد وحدود الحجاز، وفي تلك الفترة أطبقت العصور المظلمة على أوروبا، بينما قضت جيوش المسلمين على التقاليد التجارية التي استمرت قروناً وذلك بعد أن احتلت المراكز التجارية التي كان العرب يتاجرون معها في الأيام الماضية، … لقد أصبح رجال القوال فاتحين.
    لكن القرآن (الكريم) أمر كل مسلم قادر على الحج إلى مكة مرة واحدة على الأقل في العمر، فتحولت مكة من مركز تجاري يمتاز بقدسية خاصة في أوساط القبائل إلى مدينة مقدسة ولم يد الإسلام مقتصراً على الجزيرة بل اعتنقته الشعوب المجاورة في العراق وسورية وبلاد فارس ومصر وشمال إفريقيا، ولم تعد الكعبة مركز تجمع آلهة الوثنيين بل مركز دين عالمي… وهكذا كان المسلمون في سورية وبلاد فارس وإسبانيا وخراسان والهند وإفريقيا والصين وأندونيسيا وأوروبا يتوجهون في صلواتهم نحو الوادي الشحيح بالماء، أي الكعبة التي حولها الرسول القرشي محمد صلى الله عليه وسلم من هيكل للأصنام إلى بيت الله الواحد الذي يتوجه نحوه ملايين المسلمين في العالم عند الصلاة.
    لقد تحول التجار إلى فاتحين، وأصبح أبناء (أبي سفيان) يحكمون دمشق ويعينون الولاة في مكة أما أحفاد علي (ك) والرسول صلى الله عليه وسلم من ابنته فاطمة فقد كان أتباعهم قلائل وتركز أولئك الأتباع في الجزيرة العربية نفسها وفي بلاد فارس.
    وتلتقي السلالتان، سلالة الأمويين التجار وسلالة الهاشميين سدنة البيت في عبد مناف بن قصي الذي أنجب عبد شمس وهو جد الأمويين، وهاشم وهو جد الهاشميين (انظر شجرة النسب التي توضح ذلك في هذا الكتاب) وقد حكم أحفاد عبد شمس(1) أسبانيا ثمانية قرون كما حكموا دمشق ومصر والعراق وبلاد فارس وخراسان. لكن الهاشميين تغلبوا عليهم فيما بعد وحكموا كلاً من العراق واليمن والشمال الإفريقي واحتفظوا بالإشراف على مكة حتى القرن العشرين.
    وظهرت حركة التحزب (التشيع)، كانت أحياناً تشتد وتتصاعد فتولد الحروب والاضطرابات ومذاهب جديدة وتنشر البؤس حتى إن الخلفاء الأمويين بعد نجاحهم في احتلال مكة حظروا على أشياع وأتباع علي (ك) دخولها أو دخول المدينة المنورة.
    وبسبب الطبيعة المتمردة للروح العربية وخاصة في الجزيرة كان ثمة ميل لرفض الأوامر الصادرة من سورية والعراق وتصاعدت هذه الروح أو الميول المتمردة لتنتهي بما يشبه انفصال الجزيرة العربية عن الإمبراطورية الإسلامية. وحتى يومنا هذا ما زال ثمة عدد كبير من الشيعة في الجزيرة بما في ذلك جبال اليمن في الشمال ونجران والجوف وسلطنة عمان والإحساء. ولعل سبب هذا الميل إلى التشيع في الجزيرة العربية(2) هو الاستياء العام والعجز عن السيطرة على الدين وعلى الإمبراطورية التي أوجدتها الجزيرة العربية وحواضرها مثل مكة والمدينة، وثمة ملاحظة أخرى، وهي أن الخلفاء العباسيين في بغداد الذين أنهوا الحكم الأموي في دمشق قد اعتمدوا بشكل رئيسي على الفرس وخاصة القوات الخراسانية، بل إن الخليفة العباسي الثاني (أبو جعفر المنصور) أرغم الحجاز على الاعتراف بخلافته بواسطة القوات الفارسية، كما أن الخليفة العباسي الشهير هارون الرشيد اضطر لتبني سياسة التقرب من الحجازيين وذلك بالحج إلى مكة سنوياً مع زوجته زبيدة وإنفاق أموال طائلة على الأماكن المقدسة والفقراء وذلك تداركاً من ثورة هاشمية.
    أما الخليفة السابق (المهدي) فقد زار مكة عام 776 وبعد أن شاهد الأضرار التي لحقت بجدران الكعبة نتيجة ثقل الطبقات التي أضيفت فوق بعضها مع الزمن(3) أمر بإصلاحها ووضع نظاماً جديداً لكسوتها سنوياً. وشارك الخليفة نفسه في العمل، وبعد الانتهاء من بناء الحجارة طليت الجدران بالعطور والمسك والعنبر كما أشبع الجزء الأعلى من البناء بالعطور الثمينة وكسيت الكعبة لأول مرة بثلاث قطع من النسيج القباطي وزين الجزء الأعلى منها بخيوط من القصب المذهب.
    وعندما اعتلى (الهادي) الخلافة أمر بإحضار حجارة جديدة من محاجر أخميم في مصر، غير أن هارون الرشيد فاق كافة أسلافه في الكرم سواء في التصدق أو الإنفاق على الكعبة نفسها. واضطلع الرشيد بمشروع كبير لجلب المياه إلى مكة وتوفي قبل إكماله فأكملته زوجته زبيدة. وقد تركزت الخطة حول نبع حنين الذي يبعد زهاء (12) ميلاً إلى الشرق من مكة، وتم حفر عدة ينابيع صغيرة لسحب مياهها إلى مكة وبنيت خزانات المياه في الأماكن المناسبة لها، ولعل أشهر موقع في شبكة المياه المعقدة هذه (نبع زبيدة) الذي سمي باسم زوجة الخليفة هارون الرشيد في سفح جبل عرفات. وهكذا أصبحت المياه متوفرة في مكة على مدار العام. ولا يمكن الإلمام بضخامة هذا المشروع المائي إلا إذا أدركنا طبيعة المنطقة الجبلية وصلابة الصخور الغرانيتية التي كان يتعين قصها ونقلها إلى مواقع البناء لكن زبيدة كانت مصممة على إنجاز المشروع رغم كل الصعوبات، وبلغت التكاليف مليوناً وثلاثة أرباع مليون دينار وهو مبلغ كبير في ذلك العصر، ويقول المؤرخون العرب: إنه بعد الانتهاء من العمل وإنجاز المشروع كاملاً سافر المهندسون والمشرفون والمراقبون الذين عملوا فيه إلى بغداد لمقابلة زبيدة حتى يقدموا لها حسابات المشروع وقوائم الإنفاق، فاستلمت الحسابات وألقتها في نهر دجلة قائلة بنبرة ملكية: "نترك الحسابات إلى يوم الحساب، فإذا كان أي شخص فيكم لم يأخذ أجرته كاملة فليوضح ذلك حتى أدفع له استحقاقاته" وبعد أن دفعت أجور المستحقين وهبت كل واحد من المهندسين والمشرفين والمراقبين ثوباً ثميناً فغادروا القصر وألسنتهم تلهج بالدعاء لها(4).
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل الثالث

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي الجمعة 29 مايو - 21:28

    ورغم هذا الاهتمام العباسي برخاء مكة فقد ثارت معظم الجزيرة العربية ضد المأمون خليفة هارون الرشيد. وقرر المأمون في محاولة لاسترضاء المشاعر العلوية وضع قصب أخضر على كسوة الكعبة والمعروف أن اللون الأخضر هو اللون العلوي، بينما كان اللون الأسود شعار العباسيين. وما زالت كسوة الكعبة سوداء اللون حتى يومنا باستثناء فترات معينة فقد كساها الفاطميون في مصر والسلالة الصليحية في اليمن بنسيج أبيض. كما استعمل اللون الأحمر في الكسوة في القرن الحادي عشر لبعض الوقت وكانت الكسوة تأتي آنذاك من خراسان. وفي القرن العاشر أرسل سلطان غزة محمود سبكتكين كسوة صفراء للكعبة.
    كان أول وال عباسي على مكة ينحدر من الفرع العباسي تماماً كما كان الخلفاء الأمويون يعينون ولاة على مكة من الفرع الأموي، واستمر هذا التقليد حتى خلافة هارون الرشيد عندما تم تعيين (أحمد بن إسماعيل بن علي). وفي عهد المأمون وخلال محاولاته استرضاء العلويين تم تعيين محمد ابن جعفر الصادق (وهو الإمام السابع عند الشيعة) والياً على مكة. لقد سبق أن واجه الخلفاء الأمويون في دمشق حركة ثورية مشابهة قام بها الخوارج وها هم العباسيون في بغداد يواجهون تصاعداً في المد الشيعي والطعن في شرعية خلافتهم رغم أن العباسيين في البداية اعتمدوا على مؤازرة الشيعة ليكتشفوا بعد ذلك صعوبة السيطرة عليهم.

    وعمت الاضطرابات معظم أنحاء العالم الإسلامي، وفي أواخر القرن التاسع ظهرت حركة ثورية خطرة وهي حركة القرامطة وذلك نسبة إلى زعيمهم حمدان الذي لقب بقرمط (لقصر قامته). وانتشرت تعاليم قرمط وتجذرت في الكوفة وسرعان ما اتسع انتشارها في سورية والبحرين والإحساء وأصبحت واحة الحجر عاصمة القرامطة، وفي تلك الفترة (أي بداية القرن العاشر الميلادي والثالث الهجري) كانت الإمبراطورية العباسية تعاني من ظهور سلالات قوية في أطرافها.

    ففي شمال أفريقيا تشكلت الخلافة الفاطمية في القيروان ثم انتقلت إلى القاهرة وكان ثمة توافق بين مبادئ ومنطلقات الفاطميين وبين مبادئ ومنطلقات كل من القرامطة الإسماعيليين وفي اليمن أعلن الوالي العباسي الاستقلال عن بغداد أسوة بغيره من الولاة الذين أعلنوا استقلالهم عن مقر الخلافة العباسية في بغداد. واستطاع القرامطة في غرب الجزيرة العربية فرض سيطرتهم واستطاعوا تحريض الفاطميين في شمال أفريقيا ضد العباسيين في غرب آسيا. كان الناس في حالة توقع وتساؤل عمن سيكون المهدي المنتظر الذي سيجسد علياً (ك) وذريته. وفي عام 906 علا نجم القرامطة وازداد نفوذهم في سورية خاصة، وفي العراق استطاعوا احتلال البصرة وادعوا أنهم إنما فعلوا ذلك باسم السلالة الفاطمية الخلفاء في شمال أفريقيا.
    بعد احتلال البصرة أصبحت العاصمة العباسية بغداد نفسها مهددة. وحدثت معارك بين القوات العباسية وبين القرامطة، كانت المعارك سجالاً إلى أن تمكنت القوات العباسية وبصعوبة كبيرة من دحر القرامطة من البصرة وإرغامهم على التراجع إلى مواقعهم الأولى شرق الجزيرة العربية، فما كان منهم بعد حين إلا أن هاجموا مكة نفسها.
    في عام 929 اقتحم القرامطة مدينة مكة في هجوم خاطف وأعملوا السيف في سكانها وقذفوا بجثث الضحايا في بئر زمزم ولطخوا داخل الكعبة بدماء الضحايا الأبرياء، وتوجوا وحشيتهم وتدنيسهم للمقدسات بأن اقتلعوا الحجر الأسود من الكعبة وحملوه معهم إلى الحجر (في كانون الثاني (يناير) 930) موطنهم في غرب الجزيرة، واحتفظوا به زهاء عشرين عاماً حتى أمرهم منصور العلوي سيد أفريقيا بإعادته فامتثلوا لأمره وأعادوا الحجر الأسود إلى مكة عام 950م.
    وفي غضون ذلك تحركت السلالة الفاطمية نحو الشرق واحتلوا القاهرة ونشروا المذهب الفاطمي في الشمال الإفريقي وبقي الأمر كذلك حتى قضى عليه صلاح الدين الأيوبي. وعن طريق الخليفة الحاكم بأمر الله الذي اشتهر بتصرفاته الشاذة، أرسلت البعثات إلى سورية الطبيعية حيث عملت على تأسيس المذهب الدرزي كما ظهرت حركة الحشاشين في بلاد فارس ومذاهب شيعية أخرى في الجزيرة وحتى في زنجبار على الساحل الإفريقي الشرقي. وظهر وكان التشيع إلى علي ولنقل (العلوية) مثل نبتة مكروهة ومع ذلك استمرت في إطلاق براعمها (بمعنى مذاهبها المختلفة) في كل الاتجاهات وعلى نحو متسارع حتى أضعفت الخلافة العباسية وأصبحت على وشك الانهيار، بينما لم تكن مكة موضع اهتمام أحد فتركت لحالها أو لشأنها.
    وشهدت تلك الفترة اضطرابات كثيرة فافتقد الناس الأمن لدرجة توقفت معها قوافل الحج من العراق إلى مكة. وعندما استأنفت القوافل رحلاتها كان أمير الحج العراقي (العباسي) والمصري (الفاطمي) يشتبكان خارج مكة على امتياز أولوية الدخول إليها، بحيث يتم الاعتراف بهذا الأمير أو ذاك بأنه ممثل القوة الفعلية في العالم الإسلامي. وكان الخلفاء الفاطميون قد حاولوا حتى قبل انتقالهم إلى مصر الحصول على مركز أقوى وقد نجحوا في ذلك بالتدريج وأصبحت لهم اليد العليا.
    ونتيجة لهذه الفترة من الاضطرابات والفوضى في القرن العاشر ازدادت قوة ونفوذ ذرية علي (ك) في كل من مكة والعراق. وكانوا هم الذين يرافقون في معظم الأحيان الحجاج في الطرق الخطرة ويستغلون نفوذهم بين القبائل لتأمين مرور آمن للقوافل. كان أعضاء أسرة الرسول، أو بمعنى أدق، ذريته من ابنته فاطمة (وابن عمه علي) وبدعم وتأييد من القبائل البدوية حول المدينة ومكة يتمردون أحياناً على أوامر الخليفة في بغداد. حتى أعلن أحدهم نفسه خليفة في مكة.
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty رد: كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي الجمعة 29 مايو - 21:30

    لقد استطاع جعفر أحد أحفاد محمد الحسني أن يتحدى الخليفة العباسي المقتدر (908– 932). وأن يشكل جيشاً من البدو ويسيطر على مكة، ولم تكن حركة جعفر هذه ذات أهمية كبيرة لدرجة أن تاريخها الحقيقي غير معروف على وجه الدقة، لكنه مارس سلطة مطلقة خاصة مع ضعف النفوذ العباسي ومن الطبيعي أن يشجع الفاطميون ويدعموا جعفراً بعدة وسائل للتمرد على منافسيهم العباسيين. ويبدو أن جعفراً فرض سيطرته عام 1965 أي في السنة التي توفي فيها كافور أبو المسك في مصر وانتهى حكمه عام 980 وتكمن أهمية حكمه (وهو بداية سلالة جديدة) في الاستقلال الواسع الذي حققه ولم ينتقص من ذلك الاستقلال إلا حاجة الحجاز لمصر من الناحية الغذائية أحياناً خاصة في سنوات الجفاف هذا من جهة ولأن المدينة من جهة أخرى كانت عاصمة الحجاز منذ أيام الخلفاء الراشدين لكن جعفراً أعاد الرئاسة والقيادة إلى مكة وجعلها عاصمة الحجاز مرة أخرى بعد ثلاثمائة وخسمسين سنة على وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم )





    (1) هاشم هو جد الهاشمين. (2) أمية هو جد الأمويين. (3) العباس هو جد العباسين. (4) علي (ك) هو زوج فاطمة الزهراء. (5) محمد حنيفة هو جد العلويين ملوك المغرب.

    * لقد جرى العرف على تسمية أحفاد الحسين بالسادة أما أحفاد الحسن فهم الأشراف.



    (1) يتحدر منه أشراف مكة المكرمة وبلاد الحجاز.



    جعفر في حكم الحجاز ابنه عيسى الذي امتد حكمه 14 سنة من 980 حتى 994 وخلال هذه الفترة أوقف الفاطميون في مصر إرسال إمدادات الغذاء إلى كل من مكة والمدينة إلا بعد موافقة عيسى بن جعفر على الدعاء للخليفة الفاطمي في القاهرة من على منابر مكة والمدينة وخاصة في خطبة صلاة الجمعة. وخلف عيسى شقيقه الأصغر (عبد الفتوح) الذي امتد حكمه (45) سنة وتزامن حكمه جزئياً مع خلافة الحاكم بأمر الله في مصر. وقوي شأن عبد الفتوح حتى طمع بالخلافة في بغداد وإسقاط الخلافة الفاطمية في مصر. وشجعه على ذلك عبد القاسم المغربي ابن الوزير الذي الذي قتله الفاطميون. وكان عبد القاسم قد هرب إلى سورية يبحث عن مساندة ودعم للثأر من قتلة والده. وفي تلك الأثناء طلب الحاكم بأمر الله من عبد الفتوح طلباً غريباً وهو أن تتضمن خطبة الجمعة في مساجد الحجاز قذفاً ببعض صحابة الرسول وبعض زوجاته. بينما جرت العادة (في أوساط أتباع المذهب السني) على الدعاء لهم في خطبة الجمعة. وعندما حاول عبد الفتوح (على مضض) التقيد بتعليمات الحاكم بأمر الله الشاذة اندلعت الاضطرابات في مكة، وتم طرد قوات الحاكم بأمر الله من مخيمات بدو سورية التي سبق أن لجأ إليها عبد القاسم المغربي ابن الوزير المغدور وأصبحت الظروف ملائمة للثورة وأعلن عبد القاسم وشيوخ القبائل تأييدهم لعبد الفتوح حاكم مكة الذي انطلق إلى سورية فوراً وفي معيته ألف زنجي وجيش من أقاربه وأخذ معه سيف علي (ك) وعصا الرسول(5) من المدينة، وفي غضون ذلك أرسل الخليفة الفاطمي الشاذ الحاكم بأمر الله مبالغ محترمة لكل شيخ من شيوخ القبائل الذين سبق وأن أعلنوا تأييدهم لعبد الفتوح الذي سرعان ما لاحظ أن أموال الحاكم بأمر الله كانت أشد فعالية في البدو من الأمانات المقدسة التي أخذها معه من مكة والمدينة. وفي نفس الوقت وردت أنباء من الحجاز بأن أحد أقاربه يخطط للاستيلاء على الحكم وأنه تلقى دعماً مالياً من الحاكم بأمر الله لهذه الغاية. فعاد إلى مكة على جناح السرعة وفي القوت المناسب لإعادة الأمن والنظام.
    وخلف عبد الفتوح ابنه محمد شكر وهو رجل كريم ذو ميول شاعرية وتسمى باسم (أبو عبد الله) وتكنى بلقب (تاج المعالي) وتوفي محمد شكر (تاج المعالي) ولم يكن له وريث فخلفه لبعض الوقت أحد مواليه ثم خلف المولى (محمد بن أبي فاتك) عضو قبيلة بني أبي الطيب ثم خلفه حاكم يماني يدعى محمد الصليحي وهو أول حاكم في سلالة يمنية شيعية وشهيرة وغن كان حكمها قصيراً. وكان محمد الصليحي قد حضر إلى مكة للحج ثم أقام فيها كحاكم لها… لقد دخل مكة عام 1063 لكنه واجه معارضة شديدة من ****** السابقين (بني أبي الطيب) كما أن رجاله اليمنيين عانوا من جفاف الطقس الذي يختلف عن الطقس في بلادهم الجبلية فضلاً عن مرض وبائي أصاب رجاله وقضى على الكثيرين منهم. ولذلك عندما قابله رجالات الأسرة الحسنية واقترحوا عليه أن يعين نائباً له منهم قبل الاقتراح وطلب منهم أن يسموا النائب فاختاروا (محمد ابن جعفر) الذي يتحدر من الحسن بن علي وقد عرفت ذريته بعد ذلك باسم (أبو هاشم).
    وفي العام التالي عندما قام نقيب الأشراف والسادة في بغداد (أبو غنيم) بالحج إلى مكة وجد أن الأمير الجديد بدأ يميل نحو العباسيين في بغداد بحيث أنه أبدل الدعاء في خطبة الجمعة لمصلحة الخلفاء العباسيين بدل الخلفاء الفاطميين في مصر. وسرعان ما أوقف المصريون تزويد الحجاز بالمواد التموينية وهو ما اضطر الأمير لجمع المال لشراء الإمدادات التموينية بأسعار مرتفعة ولم يجد مناصاً من بيع الفوانيس الذهبية في الكعبة، غير أن الخليفة العباسي على أي حال عوضه عن الخسارة وأرسل له (30) ألف دينار.
    وفي غضون ذلك تلقى بنو أبي الطيب تشجيعاً سرياً ودعماً مالياً من الخليفة الفاطمي في مصر، فهاجموا محمد بن جعفر وأرغموه على الفرار فترة من الزمن إلى ينبع. ومن ينبع نظم عدة غارات على مكة واستولى على الإمدادات المصرية لها وفي نفس الوقت أوقف اليمنيون قوافلهم إلى مكة، حتى اضطر المكيون إلى تسليم المدينة، فاستسلمت أسرة أبي الطيب وأميرها حمزة فدخل محمد ابن جعفر إلى مكة (ممتطياً صهوة فرسه دنانير) وربما كان لدى حمزة فرسان أشداء لكن أموال محمد ابن جعفر التي زودته بها بغداد واليمن انتصرت في الصراع. وقد اضطر لإخلاء مكة عندما حضرت أعداد غفيرة من السلاجقة الأتراك للحج بحماس شديد وطلبوا منه عدة أشياء ولم يراعوا العادات المكية ولم يلتفتوا إلى احتجاجاتهم الدبلوماسية فانسحب مع أتباعه من مكة. غير أن السلطان السلجوقي كسب وده فأصبح خطباء المساجد في الحجاز يذكرون اسم السلطان السلجوقي بعد اسم الخليفة العباسي مباشرة الذي لم يكن في الواقع أكثر من مجرد ببغاء يردد ما يقوله له السلطان السلجوقي. ولعل الهدف من خشونة ومطالب السلاجقة لدى حجهم إلى مكة في المرة الأولى كان تأمين الدعاء لسلطانهم من على منابر مكة والمدينة. وكانت رغبة الأمير بالإمدادات المصرية تضعف ارتباطاته مع بغداد رغم تبرعاتها الثمينة له، وهكذا رغم ارتباطه الشديد مع بغداد عام 1070 فقد تحول عنها إلى القاهرة حاضرة الفاطميين عام 1075 بعد وفاة كل من السلطان السلجوقي ابن أرسلان والخليفة العباسي المقتدي، ثم عاد وارتبط مع بغداد بعد أن حضر السلاجقة للحج وكان حجيجهم أشبه بالحملة العسكرية.
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل الثالث

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي الجمعة 29 مايو - 21:32

    وبعد أن تكرر حجيج السلاجقة الأتراك عام 1091 اتخذ محمد موقفاً أشد حزماً وأخذ يعمل للحد من سيطرة السلاجقة المتوحشين. وخلال هذه الفترة بالذات أبطل السلاجقة الأتراك عادة إرسال أعضاء من الأسرة العلوية مع الحجيج بصفة أمراء القوافل وذلك لعلو مقامهم ومركزهم بين العرب إذ لم تعد تلك العادة ذات فائدة للسلاجقة. وأصبح رجال عسكريون من السلاجقة أو المصريين أو حتى الخصيان من قصور الخلفاء أو الملوك يضطلعون بمهمة مرافقة قوافل الحجاج. وخلف محمداً ابنه قاسم الذي واصل سياسة والده ضد الأتراك في بغداد كما تبنى مقاربة أكثر دبلوماسية مع المصريين.
    في ذلك الوقت كان وصول القافلة السنوية من بغداد وفيها عدد كبير من السلاجقة الأتراك يدفع المكيين لحمل السلاح وكثيراً ما قام عبيد الشريف من الزنوج أو رجاله من البدو الأشداء بتوبيخ وحتى معاقبة الأتراك. وفي بداية حكمه خاض معركة ضد القائد السلجوقي الذي حضر من دمشق واسمه (ابن ساراتكين) في موقع عسفان على بعد خمسين ميلاً إلى الشمال من مكة على طريق الحج وألحق به هزيمة منكرة اضطرته للعودة إلى دمشق والتخلي عن محاولة احتلال مكة… واستمر حكم قاسم حتى وفاته عام 1132.
    وخلفه في الحكم ابنه هاشم الذي حكم حتى وفاته عام 1154 وتبعه في الحكم ابنه قاسم الذي حكم حتى عام 1161 عندما فرّ من مكة بعد أن هدده أمير الحج العراقي. وخلفه عمه عيسى ابن فليته، لكن هاشماً عاد بعد عام إلى مكة ليقتل فيها غيلة.
    ونتيجة لشعور الأسرة الحاكمة بالضعف من الناحية العسكرية وخشية من تكرار التدخل في سيادتها على الأماكن المقدسة، فقد فكرت في بناء قلعة على جبل أبي قبيس الذي يطل مباشرة على مكة حيث يستطيعون اللجوء إليها والدفاع عن أنفسهم عند الضرورة، وفي نفس الوقت وضعوا ترتيباً لدفع مكافآت أو هبات منتظمة للقبائل البدوية بل واحتفظوا ببعض البدو كجيش دائم. وخلفه ابنه داود ابن عيسى. ثم ابنه الثاني مختار ابن عيسى وكان العراقيون (الأتراك) يهددونهما باستمرار. وفي عام 1176 استطاع العراقيون استبدال أمير المدينة قاسم بن مهنا الحسيني بمختار بعد معركة جرت بين قوات قاسم وقوات مختار انتصر فيها الأول بدعم العراقيين (الأتراك) لكن خطط سلاجقة العراق لم تنجح، ذلك أن المكيين لم يمكنوا (قاسم بن مهنا) من الحكم سوى بضعة أيام فاضطر للانسحاب، فعاد داود ابن عيسى كما عاد شقيقه مختار واتفقا على أن يحكم مختار. وتعرض الشقيقان لضغوطات متكررة من الخارج. وحضر آنذاك طغتكين شقيق صلاح الدين للحج وتوقف بعد الحج لفترة عام 1185 وفرض حكمه على مكة، فالتجأ الأشراف وأبتاعهم إلى قلعتهم في جبل أبي قبيس وهو ما أفقدهم احترام المكيين. وألغى طغتكين ضريبة الرؤوس على الحجاج التي سبق أن فرضها الأشراف واستبدل بها معونة سنوية لهم من القمح المصري. أما القمح اليمني فقد احتفظ به لاستهلاك قواته في اليمن التي كان يعمل فيها نائباً لشقيقه صلاح الدين، وهكذا أبهج طغتكين بقراراته هذه الحجاج وقضى على استقلال أمراء مكة. والأدهى من ذلك بالنسبة لهم أن طغتكين ضرب (سكّ) النقود في مكة باسم صلاح الدين ووزعه كما أنه أعدم أمام المكيين عدداً من حراسهم الأشداء الذين كانوا وسيلتهم في حفظ النظام. وكان الأمراء ينظرون إلى عمليات تنفيذ الإعدام بقطع الرأس من قلعتهم في جبل أبي قبيس.
    وما إن سافر طغتكين من مكة حتى عاد الأشراف لاستئناف عادتهم القديمة ومهما كان الأمر فقد احتفل المكيون بشكل عام بخلاص مكة واستعادتها لحريتها. وبدأ الأشراف يفرضون ضرائب ورسوماً جديدة على الحجاج وذلك تداركاً من هزات أو تدخلات جديدة يتعرضون لها. ولا شك أن العلاقات الاقتصادية الطبيعية للحجاز هي مع اليمن، وكان حكام مكة متحالفين مع حكام اليمن بالرابطة الوراثية والمذهبية في آن واحد بصفتهم أحفاد علي (ك) ولتأييدهم الطبيعي للعلويين. لكن مكة بصفتها مركز الحج كانت تتعرض على الدوام لتأثيرات ونفوذ من الحجاج من قبل كل من يطمح بأن يكون أقوى حاكم في العالم الإسلامي، ولذلك كان أشراف مكة مضطرين على الدوام لتغيير دفة سفينتهم وفقاً لتيارات الرياح السياسية والدينية.




    إن أصل كلمة أو لقب (الشريف) الذي أصبح قيد الاستعمال منذ تلك الفترة، غير واضح فالكلمة لم ترد في القرآن (الكريم) ويبدو أن اللقب أصبح قيد الاستعمال الرسمي خلال الخلافة الفاطمية. ويقول المؤرخ السيوطي: إن الخلفاء الفاطميين حظروا استعمال (اللقب) أو إضفاءه على أي شخص باستثناء ذرية الحسن والحسين ابني علي من فاطمة (الزهراء) ابنة الرسول (صلى الله عليه وسلم ) وقد حاول الكثير من الدارسين والعلماء العرب بحث المعنى الدقيق للقب (الشريف) ويقول الحصري في كتابه (زهر الآداب): إن اللقب يعني التحدر من ذرية الرسول(6)، والشجاعة والأصل غير المشكوك أو المطعون فيه والأخلاق الحميدة وسعة المدارك التي يمكن الحصول عليها بالتعليم. بينما يسجل الكتبي في كتابه (كتاب العرب) أربع مواصفات أو مزايا أو معان للقب الشريف وهي: التحدر من ذرية الرسول (صلى الله عليه وسلم ) عن طريق ابنته فاطمة (الزهراء) وأخلاق إنسانية حميدة وأجداد سبق أن اشتهروا بمآثرهم وأخيراً الكرم (7). ومن الواضح أن المعنى العام هو نبل الأخلاق الوراثي والتسامح والنظرة الإنسانية والكرم والحلم وهي عكس الوقاحة والتعصب وقلة الحياء والظلم الخ. وقد أوضح الدكتور (ل. بشر فارس) في كتابه المعنوّن (مباحث عربية) معنى كلمة الشريف ومصدرها (الشرف) بالتفصيل. ومهما كان الأمر فقد شاع استعمال لقب (الشريف) للدلالة على حكام مكة وأعضاء قبيلتهم منذ القرن الثالث عشر، ثم توسع الناس في استعمال اللقب وأطلقوه على كل شخص يتحدر من قبيلة قريش في الحجاز، وهكذا أصبح لقب الأشراف يشمل الأشراف في مكة وكافة الذين يتحدرون من قريش في العواصم الأخرى خارج الحجاز، لكن الاستعمال العملي للكلمة كان يعني (حاكم مكة) على وجه الخصوص ما لم يكن المقصود باللقب أحد الأشراف الآخرين.


    إن نظرة الشعب أي شعب، إلى مثل هذه الأمور والتعامل بها ينتج كلمات واصطلاحات وألقاباً معينة ولا شك أن الحفاظ على هذه الكلمات أو الألقاب أو الاصطلاحات يثبت ويؤكد نظرة الشعب إلى هذه الأمور. فالعرب لا يعرفون الألقاب باستثناء (الشريف) و (شيخ) منذ أيام الرسول (صلى الله عليه وسلم ) حتى أيامنا باستثناء (أمير)(Cool فضلاً عن الشريف وشيخ، لكن (الأمير) وظيفة أكثر منها لقباً، وكان لقب الأمير يستعمل أحياناً بمعنى قائد مثل أمير الحج، أو أمير المنطقة أو أمير الحملة العسكرية أو أمير البحر التي اقتبسناها عن اللغة العربية وأصبحت باللغة الإنكليزية (أدميرال). ولعل أكثر ما يؤكد الروح الديمقراطية المتجذرة في الطباع العربية هو عدم وجود ألقاب في مجتمعاتهم. ومن الطبيعي أن كل عربي أصيل يتحدر من القبائل العربية يعتبر نفسه نبيلاً حتى ولو كان مجرد بدوي فقير، وطالما أن الجميع (أو لنقل معظم) العرب يعتبرون أنفسهم نبلاء فلا معنى لوجود الألقاب في مجتمعاتهم بعكس المجتمعات الأوروبية التي تكثر فيها الألقاب بحيث يصعب حصرها مثل لورد، سير، دوق، ودوقة، كونت، ماركيز… الخ. وهكذا فإن الأسرة الوحيدة التي يحق لأعضائها حمل لقب (الشريف) هي الأسر المتحدرة من قريش بموجب شجرة نسب معترف بها، سواء كانت هذه الأسر مقيمة في الجزيرة العربية أو أي مكان آخر من العالم العربي والإسلامي.
    ومنذ بداية القرن الثالث عشر استقرت زعامة مكة وعلى نحو حصري بفرع الأشراف الذين يتحدرون من عمرو هاشم جد الرسول (صلى الله عليه وسلم ) من خلال الرسول وحفيدته من ابنته فاطمة (الزهراء) وهما الحسن والحسين وما زالت الزعامة الدينية في أيديهم(9).
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل الثالث

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي الجمعة 29 مايو - 21:35

    حكام مكة من القرن العاشر حتى القرن الثاني عشر
    1-أبو طاهر ابن عبد السعيد الجنابي الكرماتي
    (احتل مكة مؤقتاً) 928


    السلالة الحسنية
    2-جعفر ابن محمد الحسني (حضر إلى مكة مع الحجيج الفاطمي من مصر)
    965 – 980
    3-عيسى ابن جعفر 975 – 994
    4-عبد الفتوح ابن جعفر 994 – 1039
    (نودي به خليفة في كل من سورية والحجاز لفترة مؤقتة)
    5-محمد شكر ابن عبد الفتوح 1039 – 1061


    سلالة الفاتك أو بني أبي الطيب
    6-محمد أبو فاتك (ثم استولى على السلطة علي بن محمد الصليحي من اليمن)
    1061 – 1063

    سلالة أبي هاشم
    7-محمد ابن جعفر ابن محمد ابن عبد الله ابن أبي هاشم يتحدر من موصى ابن عبد الله من الحسن ابن علي (وقد وثق الفاسي نسبة بالكامل) 1063 – 1091
    8-قاسم ابن محمد 1091 – 1124
    9-فليتة ابن قاسم 1124 – 1132
    10-هاشم ابن فليتة 1132 – 1154
    11-قاسم ابن هاشم 1154 – 1161
    12-عيسى ابن فليتة 1161 – 1174
    13-داود ابن عيسى 1174 – 1175
    14-مختار ابن عيسى، فترة خلو الحكم حيث أن أمير الحج العراقي طشتكين فرض قاسم ابن مهنا الحسيني حاكماً على مكة لكنه لم يحكم سوى بضعة أيام – 1175.
    15-واسترد الحكم داود وتنازل عنه إلى مختار مرة أخرى وحكم مختار حتى عام 1200(10).



    القرابة بين بني فليتة وبني قتادة



    (1) يقصد الأمويين وكان صقر قريش عبد الرحمن الداخل هو الذي أسس الحكم الأموي في الأندلس.
    (2) واضح هنا بأن المؤلف يبالغ كثيراً في حجم الشيعة وتأثيرهم داخل الجزيرة العربية.
    (3) الحنفي. مخطوط عربي يحمل الرقم 845 في المتحف الوطني في باريس.
    (4) ن. أبوت. ملكتان من بغداد.
    (5) في قائمة الأمانات المقدسة التي قدمها الشريف بركات إلى السلطان سليم لا يوجد أي ذكر لعصا أو صولجان الرسول صلى الله عليه وسلم وحسب ما أورده الدكتور أحمد راتب في كتابه القيم (تاريخ تركيا) الذي صدر في استانبول عام 1326 هجرية يوجد في متحف طوب قابي في أستانبول الأمانات المقدسة التالية: سن الرسول، مشاية (شحويطة) الرسول، مقبض سيف الرسول وأحد سهامه، آنية طعام نوح، طبعة قدم الرسول، بردة الرسول، علم الرسول الذي كان السلاطين يتفقدونه سنوياً ويتم إخراجه من صندوقه الخاص عند إعلان العاهلية للحرب على أعدائها، مزراب ذهبي، بعض الماء الذي استحم به الرسول، شعرة من لحيته الكريمة، عمامتا الحسن والحسين، سيف جعفر الطيار، سيف خالد بن زيد، سيف شرحبيل بن حسنة، مفتاح مكة، قطعة من باب الكعبة (أو باب الرحمة) رايتا الحسن والحسين، مقابض سيوف الصحابة العشرة المقربين للرسول، قرآن بخط عثمان بن عفان وآثار دمائه على بعض الصفحات عندما تم اغتياله، وقد بقي هذا القرآن في المدينة حتى الحرب العالمية الأولى حيث نقله الأتراك مع غيره من الأمانات المقدسة إلى استنبول لدى انسحابهم من الحجاز (ثم إن الملك الحسين بن علي (طيب الله ثراه) مفجر الثورة العربية الكبرى طالب باسترداد قرآن عثمان والأمانات الأخرى في محادثات فرساي لكنه لم يستطع استردادها) قرآن بخط زين العابدين.
    (6) أي النسب إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
    (7) جرت العادة في الواقع على تسمية أبناء الحسن بن علي (الأشراف) وتسمية أبناء الحسين بن علي (ك) (السادة) أي أن الحسنيين هم الأشراف والحسينيين هم السادة.
    (Cool أمير لقب يمكن منحه لأي إنسان إذا توافرت بعض الشروط وصدر مرسوم ملكي بذلك كما أن الأثرياء في الغرب يشترون الألقاب مثل ماركيز أو كونت أما كلمة الشريف بمعناها الاصطلاحي فتعني التحدر من رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم) عن طريق فاطمة الزهراء وعلي بن أبي طالب (ك) وبالتالي فهو نسب لا يمكن منحه أو إلغاؤه أو شراؤه.
    (9) تكرر لفت انتباه القراء إلى أن الطبعة الأولى من هذا الكتاب صدرت في الأربعينيات عندما كان الهاشميون يحكمون العراق بالإضافة إلى الأردن.
    (10) ابن الأثير (الكامل في التاريخ)، الفاسي (شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام) وتاريخ الطبري.


    [center]أنتهى الفصل الثالث[/center]
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty الفصل الرابع

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي الجمعة 29 مايو - 21:41

    الفصل الرابع : الأيـام الأخيرة للأمير مختـار وحكم قتـادة وأبنـائه وأحفـاده 1185 – 1254

    بغض النظر عن فشل حكام بني فليتة بوقف التدخل الأجنبي في شؤون مكة، فقد بدؤوا يتجاهلون مصالح رعاياهم ويبحثون عن مسراتهم الخاصة، فضلاً عن عجزهم في الحفاظ على حبل الأمن والاستقرار. ففي عام 1185 توفي زهاء مائة حاج تحت الأقدام نتيجة لدخول أعداد غفيرة إلى داخل الكعبة بدون نظام وفي عام 1189 استطاع مختار (شقيق داود) أن يزيل الإطار الفضي حول الحجر الأسود ويهرب به إلى وادي نخلة. بل إن داود نفسه سبق أن هرب من مكة بعد مجابهة مع طشتكين أمير الحج العراقي الذي حكم مكة فترة قبل أن يسلم الحكم إلى القاسم ابن مهنا الحسيني حاكم المدينة، وبعد أن وجد قاسم صعوبة كبيرة في حكم المكيين استعاد بنو فليتة الحكم غير أن هيبتهم ضعفت كثيراً. ونتيجة لاضطرابات عام 1185 وصل طغتكين (شقيق صلاح الدين) وفرض حكمه على مكة فترة قصيرة بعد أن أعاد الأمن والنظام. ورغم انقسام الناس إلى شيع وأحزاب حتى أصبحوا غير قادرين على مقاومة استفزازات جنود طغتكين من جهة وعجرفة خدام وموالي وحرس بني فليتة من جهة أخرى فقد اجتمع عدد من أشراف وزعماء قريش بشكل سري وتداولوا فيما بينهم في مسألة تعيين حاكم جيد وقوي واتصلوا لهذه الغاية بالشريف قتادة حاكم ميناء ينبع إلى الغرب من المدينة(1) وكان في السبعين من عمره وهو الحفيد السادس عشر من ذرية علي (ك) وفاطمة (الزهراء) وكان بالإضافة إلى ذلك يشغل منصب (شيخ) قبيلة جهينة منذ زهاء خمسين سنة، أي منذ أن كان في الحادية والعشرين من عمره. وكان محارباً صلباً ويقرأ الشعر أحياناً. ووافق قتادة على العرض وأرسل ابنه (حنظلة) على رأس كتيبة من الفرسان لاحتلال مكة. وكان حنظلة على درجة من الذكاء فاختار السابع والعشرين من رجب لمهاجمة مكة… وهو يوم الحج الأصغر حيث يكون المختار وبقية الزعماء والجند خارج أسوار مكة وبذلك استطاع حنظلة احتلال مكة دون أن يريق نقطة دم واحدة ويصادف يوم السابع والعشرين من رجب المذكور الثالث من أيار (مايو) 1201. وفرّ مختار إلى وادي نخلة ولم يعد إلى مكة بعد ذلك وتوفي في منفاه في اليمن بعد سنتين.
    وكان الرحالة ابن جبير قد زار مكة حاجاً في أثناء حكم المختار وزودنا بلمحة عن طبيعة الحياة في مكة آنذاك على النحو التالي:
    "ومن مفاخر هذا السلطان (صلاح الدين الأيوبي) المزلفة (المقربة) من الله تعالى وآثاره التي أبقاها ذكراً جميلاً للدين والدنيا إزالته رسم المكس المضروب وظيفة على الحجاج… ودفع عوضاً عنه ما يقوم مقامه من أطعمة وسواها، وعين مجبى موضعاً معيناً بأسره لذلك وتكفل بتوصيل جميع ذلك إلى الحجاز، لأن الرسم المذكور كان باسم مدينة مكة والمدينة ويتم توصيلهم إلى مكثر أمير مكة، فمتى أبطأت عنهم تلك الوظيفة المرتبة لهم (أي الأطعمة وسواها) عاد هذا الأمير إلى ترويع الحاج وإظهار تثقيفهم (أي تقويمهم وتهذيبهم) بسبب المكوس، واتفق لنا من ذلك أن وصلنا إلى جدة فسكنا بها خلال ما خوطب مكثر الأمير المذكور، فورد أمره أن يضمن الحاج بعضهم بعضاً ويدخلوا حرم الله، فإذا ورد المال والطعام اللذان برسمه من قبل صلاح الدين وإلا فهو لا يترك ماله قبل الحاج، هذا لفظة، كان حرم الله ميراث بيده محلل له اكتراؤه (أي تأجيره) من الحاج، فسبحان مغير السنين ومبدلها… والذي جعل له صلاح الدين بدلاً من مكس الحاج ألف دينار وألفا أردب من القمح وهو نحو (800) قفيز بالكيل الأشبيلي عندنا (أي في الأندلس وشمال إفريقيا) هذا عدا إقطاعات أقطعها بصعيد مصر وبجهة اليمن لهم بهذا الرسم المذكور… وفي عشية يوم الثلاثاء الحادي عشر من الشهر المذكور كان انفصالنا من جدة بعد أن ضمن الحجاج بعضهم بعضاً وثبتت أسماؤهم في زمام (سجل) عند قائد جدة (علي بن موفق) حسب ما نفذ إليه ذلك من سلطانه صاحب مكة مكثر بن عيسى المذكور وهذا الرجل مكثر من ذرية الحسن بن علي رضوان الله عليهما لكنه ممن يعمل غير صالح، فليس من أهل سلفه الكريم رضي الله عنهم"(2).
    ووصف ابن جبير المشهد داخل الحرم خلال موسم الحج على النحو التالي:
    "فإذا كان يوم الجمعة وقرب وقت الصلاة… يقبل الخطيب داخلاً على باب النبي (صلى الله عليه وسلم ) لابساً ثوب سواد مرسوماً بذهب ومتعمماً بعمامة سوداء مرسومة أيضاً وعليه طيلسان شرب (أخضر) رقيق، كل ذلك من كسوة الخليفة التي يرسلها إلى خطباء بلاده… ويتقدم وعليه السكينة والوقار يتهادى رويداً بين رايتين سوداوين يمسكهما رجلان من قوم المؤذنين وبين يديه ساعياً منهم، وفي يده عود مخروط أحمر قد ربط في رأسه مرسى من الأديم المفتول رقيق طويل في طرفه عذبة صغيرة ينفضها بيده في الهواء نفضاً فتأتي بصوت عال يسمع من داخل الحرم وخارجه كأنه إيذان بوصول الخطيب، ولا يزال في نفضها حتى يقترب من المنبر ويسمونها (الفرقعة) فإذا قرب من المنبر عرج على الحجر لأسود فقبله ودعا عنده ثم سعى إلى المنبر والمؤذن الزمزمي رئيس المؤذنين بالحرم الشريف ساعياً أمامه لابساً ثياب السواد أيضاً وعلى عاتقه السيف يمسكه بيده دون تقلد لها.

    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل الرابع

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي الجمعة 29 مايو - 21:42

    فعند صعوده في أول درجة قلده المؤذن المذكور السيف، ثم ضرب بنصل سيفه فيها ضربة أسمع بها الحاضرين ثم في الثانية ثم في الثالثة، فإذا انتهى إلى الدرجة العليا ضرب الضربة الرابعة ووقف داعياً مستقبلاً الكعبة بدعاء خفي، ثم انفتل عن يمينه وعن شماله وقال: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) فيرد الناس عليه السلام، ثم يقعد، ويبادر المؤذنون بين يديه في المنبر بالأذان على لسان واحد، فإذا فرغوا قام للخطبة، فذكر ووعظ وخشع فأبلغ. ثم جلس الجلسة الخطيبية، وضرب بالسيف ضربة خامسة، ثم قام للخطبة الثانية فأكثر بالصلاة على محمد (صلى الله عليه وسلم ) وعلى آله ورضي عن أصحابه واختص الأربعة خلفاء بالتسمية ودعا لعمي النبي حمزة والعباس والحسن والحسين ثم دعا لأمهات المؤمنين زوجات النبي (صلى الله عليه وسلم ) ورضي عن فاطمة الزهراء وعن خديجة الكبرى بهذا اللفظ، ثم دعا للخليفة العباسي أي العباس أحمد الناصر ثم لأمير مكة مكثر بن عيسى بن فليتة بن قاسم بن محمد بن جعفر بن أبي هاشم الحسيني ثم لصلاح الدين أي المظفر يوسف بن أيوب ولولي عهده أخيه أبي بكر بن أيوب، وعند ذكر صلاح الدين بالدعاء تخفق الألسنة بالتأمين عليه من كل مكان.
    "وإذا أحب الله يوماً عبده ألقى عليه محبة الناس".
    وحق ذلك عليهم لما يبذله من جميل الاعتناء بهم وحسن النظر لهم ولما رفعه عنهم من وظائف المكوس.
    وفي هذا التاريخ علمنا أن كتابه وصل إلى الأمير مكثر وأهم فصول التوصية بالحاج والتأكيد في مبرتهم وتأنيسهم ورفع أيدي الاعتداء عنهم والإيعاز في ذلك إلى الخدام والأتباع. وقال:
    (أنه إنما نحن وأنت متقلبون في بركة الحاج). فتأمل هذا المنزع الشريف والمقصد الكريم.
    وفي أثناء الخطبة تركز الرايتان السوداوان في أول درجة من المنبر ويمسكها رجلان من المؤذنين، وفي جانبي باب المنبر حلقتان تلف الرايتان فيهما مركوزتين، فإذا فرغ من الصلاة خرج والرايتان عن يمينه وعن شماله والفرقعة أمامه على الصفة التي دخل عليها. كان ذلك أيضاً إيذان بانصراف الخطيب والفراغ من الصلاة ثم أعيد المنبر إلى موضعه بإزاء المقام.
    وليلة أهل الشهر المذكور وهو جمادى الأولى بكر أمير مكة مكثر المذكور في صبيحتها إلى الحرم الكريم مع طلوع الشمس وقواده يحفون به والقراء يقرأون أمامه فدخل على باب النبي (صلى الله عليه وسلم ) ورجاله السودان الذين يعرفونهم بالحرابة يطوفون أمامه وبأيديهم الحراب وهو في هيئة اختصار (أي في غير زينة) عليه السكينة والوقار وسمت سلفه الكريم رضي الله عنهم لابساً ثوب بياض متقلداً سيفه مختصراً متعمماً بكرزية (نوع من العمائم) صوف بيضاء رقيقة فلما انتهى بإزاء المقام الكريم وقف وبسط له وطاء كتان فصلى ركعتين ثم تقدم إلى الحجر الأسود فقبله وشرع في الطواف.
    ومن أغرب ما شاهدناه من ذلك هودج الشريفة جمانة بنت فليتة عمة الأمير مكثر، فإن أذيال ستره كانت تنسحب على الأرض انسحاباً وغيره من هوادج حرم الأمير وحرم قواده إلى غير ذلك من هوادج لم نستطع تقييد عدتها عجزاً عن الإحصاء، فكانت تلوح على ظهور الإبل كالقباب المضروبة، فيخيل للناظر إليها أنها محلة قد ضربت أبنيتها من كل لون رائق…. وقد أشعلت النيران بحافتي الطريق كله والشمع يتقد بين أيدي الإبل التي عليها هوادج من يشار إليه من عقائل نساء مكة.
    وفي التاسع والعشرين منه وهو يوم الخميس، أفرد البيت للنساء خاصة، فاجتمعن من كل أوب، وقد تقدم احتفالهن لذلك بأيام كاحتفالهن للمشاهد الكريمة، ولم تبق امرأة بمكة إلا حضرت المسجد الحرام ذلك اليوم، فلما وصل الشيبيون لفتح البيت الكريم على العادة، وأسرعوا في الخروج منه وأخرجوا للنساء عنه. وأخرج الناس لهن عن الطواف وعن الحجر ولم يبق حول البيت المبارك أحد من الرجال تبادر النساء إلى الصعود حتى كاد الشيبيون لا يخلصون بينهن عند هبوطهم من البيت الكريم، وتسلسل النساء بعضهن ببعض وتشابكن حتى تواقعن، فمن صائحة ومعولة ومكبرة ومهللة، وتمادين على ذلك صدراً من النهار وانفسحن في الطواف والحجر وتشفين من تقبيل الحجر واستلام الأركان…. وبالجملة فهن مع الرجال مسكينات مغبونات يرين البيت الكريم ولا يلجنه ويلحظن الحجر المبارك ولا يستلمنه…
    وتستعمل الفرقعة في رمضان بين الصلوات ثلاث مرات بعد صلاة المغرب وثلاث مرات بعد صلاة العشاء وهذه هي العادة الجارية في هذا الحرم المقدس….
    وفي ليلة الثلاثاء الثاني من الشهر مع العشي طاف الأمير مكثر بالبيت مودعاً وخرج للقاء الأمير سيف الإسلام طغتكين بن أيوب أخي صلاح الدين، وقد تقدم الخبر بوروده من مصر منذ مدة ثم تواتر إلى أن صح وصوله إلى ينبع وأنه عرّج إلى المدينة لزيارة الرسول (صلى الله عليه وسلم ) وتقدمت أثقاله (أحماله) إلى الصفراء (قرية فوق ينبع) ويقال: إن وجهته اليمن لاختلاف وقع فيها وفتنة حدثت من أمرائها، لكن وقع في نفوس المكيين منه أوجاس خيفة واستشعار خشية، فخرج الأمير مكثر متلقياً ومسلماً وفي الحقيقة مستسلماً والله تعالى يعرف المسلمين خيراً….
    وسمعنا دبادب الأمير مكثر وأصوات نساء مكة يولولن فبينما نحن كذلك دخل منصرفاً من لقاء الأمير سيف الإسلام المذكور وطاف بالبيت المكرم طواف التسليم. والناس قد أظهروا الاستبشار لقدومه والسرور بسلامته، وقد شاع الخبر بنزول سيف الإسلام الزاهر وضرب أبنيته فيه ومقدمته من العسكر قد وصل إلى الحرم وزاحمت الأمير مكثر في الطواف. فبينما الناس ينظرون إليهم إذ سمعوا ضوضاء عظيمة وزعقات هائلة فما راعهم إلا الأمير سيف الإسلام داخلاً من باب بني شيبة ولمعان السيوف أمامه يكاد يحول بين الأبصار وبينه والقاضي عن يمينه وزعيم الشيبيين عن يساره، والمسجد قد ارتج وغصّ بالنظارة الوافدين والأصوات بالدعاء له ولأخيه صلاح الدين قد علت من الناس حتى صكت الأسماع وأذهلت الأذهان، والمؤذن الزمزمي في مرقبته (مكان عال) رافعاً عقيرته بالدعاء له والثناء عليه وأصوات الناس تعلو صوته والهول قد عظم مرأى ومستمعاً، فلحين دنو الأمير من البيت المعظم أغمدت السيوف وتضاءلت النفوس وخلعت ملابس العزة وذلت الأعناق وخضعت الرقاب وطاشت الألباب مهابة وتعظيماً لبيت ملك الملوك العزيز الجبار الواحد القهار… ثم تهافتت هذه العصابة على بيت الله العتيق تهافت الفراش على المصباح وقد نكس أذقانهم الخضوع وبلت سبالهم الدموع وطاف القاضي وزعيم الشيبيين بسيف الإسلام والأمير مكثر قد غمره ذلك الزحام فأسرع في الفراغ من الطواف وبادر إلى منزله.
    وعندما أكمل سيف الإسلام طوافه صلى خلف المقام ثم دخل قبة زمزم وشرب من مائها ثم خرج على باب الصفا إلى السعي، فابتدأه ماشياً على قدميه تواضعاً وتذللاً لمن يجب التواضع له والسيوف مسلولة أمامه وقد اصطف الناس من أول المسعى إلى آخره.
    وفي ضحوة يوم الخميس كنا أيضاً بالحجر المكرم فإذا بأصوات طبول ودبادب وبوقات قد قرعت الآذان وارتجت لها نواحي الحرم الشريف، فبينما نحن نتطلع لاستلام خبرها طلع علينا الأمير مكثر وحاشيته (أقاربه) الأقربون حوله وهو داخل في حلة ذهب كأنها الجمر المتقد يسحب أذيالها وعلى رأسه عمامة رقيقة سحابية اللون قد علا كورها على رأسه كأنها سحابة مركومة وهي مصفحة بالذهب وتحت الحلة خلعتان من الدبيقي المرسوم البديع الصنعة. خلعها عليه الأمير سيف الإسلام فوصل بها فرحان جذلان والطبول والدبادب تشيعه عن أمر سيف الإسلام إشادة بتكرمه وإعلاماً بمأثرة منزلته، فطاف بالبيت المكرم شكراً لله على ما وهبه من كرم هذا الأمير بعد أن كان أوجس في نفسه خيفة منه، والله يصلح ويوفقه بمنّه.
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل الرابع

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي الجمعة 29 مايو - 21:44

    وفي يوم الجمعة وصل الأمير سيف الإسلام للصلاة أول الوقت وفتح البيت المكرم، فدخله مع الأمير مكثر وأقاما به مدة طويلة ثم خرجا وتزاحم الغز (قوات سيف الإسلام) للدخول تزاحماً أبهت الناظرين وصلى الأمير سيف الإسلام طغتكين(3) مع الأمير مكثر في القبة العباسية فلما انقضت الصلاة خرج على باب الصفا وركب إلى مضرب أبنيته ويوم الأربعاء العاشر من رمضان خرج الأمير المذكور بجنوده إلى اليمن…
    فلما كان صباح العيد وقضى الناس صلاة الفجر لبس الناس أثواب عيدهم وبادروا لأخذ مصافهم لصلاة العيد في المسجد الحرام لأن السنة جرت بالصلاة فيه دون مصلى يخرج الناس إليه فأول من بكر الشيبيون وفتحوا باب الكعبة المقدسة وأقام زعيمهم جالساً في العتبة المقدسة وسائر الشيبيين داخل الكعبة إلى أن أحسوا بوصول الأمير مكثر فنزلوا إليه ولقوه قرب باب النبي (صلى الله عليه وسلم ) فانتهى إلى البيت المكرم وطاف حوله أسبوعاً(4) والناس قد احتفلوا لعيدهم والحرم قد غص بهم والمؤذن الزمزمي فوق سطح القبة عمل العادة رافعاً صوته بالثناء عليه والدعاء له متناوباً في ذلك مع أخيه، فلما أكمل الأمير الأسبوع عمد إلى مصطبة قبة زمزم مما يقابل الركن الأسود فقعد بها وبنوه عن يمينه ويساره ووزيره وحاشيته وقوف على رأسه وعاد الشيبيون إلى مكانهم من البيت المكرم يلحظهم الناس بأبصار خاشعة للبيت غابطة لمحلهم منه ومكانهم من حجابته وسدانته فسبحان من خصهم بشرف خدمته. وحضر الأمير من خاصته شعراء أربعة فأنشدوه واحداً إثر واحد إلى أن فرغوا من إنشادهم.
    فأقبل الخطيب يتهادى بين رايتيه السوداوين، والفرقعة المتقدم ذكرها أمامه، وقد صك الحرم صوتها، وهو لابس ثياب سواده، فجاء إلى المقام الكريم، وقام الناس للصلاة، فلما قضوها رقي المنبر، وقد ألصق إلى موضعه المعين له كل جمعة، ومن جدار الكعبة المكرمة، حيث الباب الكريم شارعاً، فخطب خطبة بليغة، والمؤذنون قعود دونه في أدراج المنبر، فعند افتتاحه فصول الخطبة بالتكبير يكبرون بتكبيره، إلى أن فرغ من خطبته.
    وأقبل الناس بعضهم على بعض بالمصافحة والتسليم والتغافر والدعاء مسرورين جذلين فرحين بما آتاهم الله من فضله، وبادروا إلى البيت الكريم فدخلوا بسلام آمنين مزدحمين عليه فوجاً فوجاً. فكان مشهداً عظيماً وجمعاً بفضل الله تعالى مرحوماً، جعله الله ذخيرة للمعاد، كما جعل ذلك العيد الشريف في العمر أفضل الأعياد، بمنه وكرمه، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وأخذ الناس عند انتشارهم من مصلاهم وقضاء سنة السلام بعضهم على بعض في زيارة الجبانة بالمعلى تبركاً باحتساب الخطا إليها، والدعاء بالرحمة لمن فيها من عباد الله الصالحين من الصدر الأول وسواه، رضي الله عن جميعهم، وحشرنا في زمرته، ونفعنا بمحبتهم، فالمرء، كما قال (صلى الله عليه وسلم ) مع من أحب.
    وفي يوم الاثنين الخامس أو الرابع من هذا الشهر وصل الأمير عثمان بن علي صاحب عدن، خرج منها فارّاً أمام سيف الإسلام المتوجه إلى اليمن وركب البحر في جلاب كثيرة مشحونة بأحوال عظيمة وأموال لا تحصى كثرة لأنه طال مقامه في تلك الولاية واتسع كسبه. وعند خروجه من البحر بموضع يعرف بالصر… لحقت جلبه حراريق الأمير سيف الإسلام فأخذت جميع ما فيها من الأثقال، وكان قد استصحب الخفيف النفيس الخطير مع نفسه إلى البر وهو في جملة من رجاله وعبيده، فسلم به، ووصل مكة بعير موقرة متاعاً ومالاً دخلت على أعين الناس إلى داره التي ابتناها بها بعد أن قدم نفيس ذخائره وفاض ماله وجملة رقيقه وخدمه ليـلاً.
    وبالجملة فحاله لا توصف كثرة واتساعاً، والذي انتهب له أكثر، لأنه كان في ولايته يوصف بسوء السيرة مع التجار، وكانت المنافع التجارية كلها راجعة إليه، والذخائر الهندية المجلوبة كلها واصلة إلى يديه، فاكتسب سحتاً عظيماً، وحصل على كنوز قارونية، لكن حوادث الأيام قد ابتدأت بالخسف به، ولا يدري حال أمره مع صلاح الدين كيف يكون، والدنيا مفنية محبيها، وآكلة بنيها، وثواب الله خير ذخيرة، وطاعته أشرف غنيمة، لا إله سواه.
    وبقيت الشهادة مضطربة في أمر هذا الهلال المبارك الميمون إلى أن تواصلت الأخبار برؤيته ليلة الخميس الذي وافق الخامس عشر من مارس، شهد لذلك ثقات من أهل الزهد والورع يمنيون وسواهم من الواصلين من مكة المكرمة لكن بقي القاضي على ثباته وتوقفه في القبول وإرجاء الأمر إلى وصول المبشر المعلم بوصول الأمير العراقي ليتعرف من قبله من عند أمير الحاج في ذلك.
    فلما كان يوم الأربعاء السابع من الشهر المذكور وصل المبشر، وكانت نفوس أهل مكة قد أوجست خيفة لبطئه حذراً من حقد الخليفة على أميرهم مكثر لمذموم فعل صدر عنه. فكان وصول هذا البشير أماناً وتسكيناً للنفوس الشاردة، فوصل مبشراً ومؤنساً، وأعلم برؤية الهلال ليلة الخميس المذكور. وتواترت الأنباء بذلك، فصح الأمر عند القاضي بذلك صحة أوجبت خطبته في ذلك اليوم على ما جرت به العادة في اليوم السابع من ذي الحجة إثر صلاة الظهر، علم الناس فيها مناسكهم، ثم أعلمهم أن غدهم هو يوم الصعود إلى منى، وهو يوم التروية، وأن وقفتهم يوم الجمعة، وأن الأثر الكريم فيها عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) بأنها تعدل سبعين وقفة، ففضل هذه الوقفة في الأعوام كفضل يوم الجمعة على سائر الأيام.
    فتكامل جمع الناس بعرفات يوم الخميس وليلة الجمعة كلها. وفي نحو الثلث الباقي من ليلة الجمعة المذكورة وصل أمير الحاج العراقي فضرب أبنيته في البسيط الأفيح، مما يلي الجانب الأيمن من جبل الرحمة في استقبال القبلة.
    والقبلة في عرفات هي إلى مغرب الشمس، لأن الكعبة المقدسة في تلك الجهة منها فأصبح يوم الجمعة المذكورة في عرفات جمع لا شبيه له إلا الحشر، لكنه إن شاء الله تعالى حشر للثواب، مبشر بالحرمة والمغفرة يوم الحشر للحساب؛ زعم المحققون من الأشياخ المجاورين أنهم لم يعاينوا قط في عرفات جمعاً أحفل منه، ولا أرى كان من عهد الرشيد، الذي هو آخر من حج من الخلفاء، جمع في الإسلام مثله، جعله الله جمعاً مرحوماً معصوماً بعزته.
    فلما جمع بين الظهر والعصر يوم الجمعة المذكور وقف الناس خاشعين باكين، وإلى الله عز وجل في الرحمة متضرعين، والتكبير قد علا، وضجيج الناس بالدعاء قد ارتفع فما رؤي يوم أكثر مدامع، ولا قلوبا خواشع، ولا أعناقاً لهيبة الله خوانع من ذلك اليوم. فما زال الناس على تلك الحالة والشمس تلفح وجوههم إلى أن سقط قرصها وتمكن وقت المغرب. وقد وصل أمير الحاج مع جملة من جنده الدارعين ووقفوا بمقربة من الصخرات عند المسجد الصغير المذكور. وأخذ السرو اليمنيون مواقفهم بمنازلهم المعلومة لهم في جبل عرفات المتوارثة عن جدّ فجد من عهد النبي (صلى الله عليه وسلم ) لا تتعدى قبيلة على منزل أخرى.
    وكان المجتمع منهم في هذا العام عدداً لم يجتمع قط مثله. وكذلك وصل الأمير العراقي في جمع لم يصل قط مثله، ووصل معه من أمراء الأعاجم الخراسانيين ومن النساء العقائل المعروفات بالخواتين، واحدتهن خاتون، ومن السيدات بنات الأمراء كثير، ومن سائر العجم عدد لا يحصى، فوقف الجميع وقد جعلوا قدوتهم في النفر الإمام المالكي لأن مذهب مالك، رضي الله عنه، يقتضي أن لا ينفر حتى يتمكن سقوط القرصة ويحين وقت المغرب. ومن السرو اليمنيين من نفر قبل ذلك. فلما أن حان الوقت أشار الإمام المالكي بيديه ونزل عن موقفه فدفع الناس بالنفر دفعاً ارتجت له الأرض ووجفت الجبال، فيا له موقفاً ما أهول مرآه وأرجى في النفوس عقباه! جعلنا الله ممن خصه فيه برضاه، وتغمده بنعماه، إنه منعم كرم، حنان منان.
    وكانت محلة هذا الأمير العراقي جميلة المنظر، بهية العدة، رائقة المضارب والأبنية، عجيبة القباب والأروقة، على هيئات لم ير أبدع منها منظراً. فأعظمها مرأى مضرب الأمير، وذلك أنه أحدق به سرادق كالسور من كتان كأنه حديقة بستان أو زخرفة بنيان، وفي داخله القباب المضروبة، وهيكلها سواد في بياض، مرقشة ملونة كأنها أزاهير الرياض، وقد جللت صفحات ذلك السرادق من جوانبه الأربعة كلها أشكال درقية من ذلك السواد المنزل في البياض يستشعر الناظر إليه مهابة يتخيلها درقاً لمطية(5) وقد جللتها مزخرفات الأغشية.
    ولهذا السرادق الذي هو الكسور المضروب أبواباً مرتفعة كأنها أبواب القصور المشيدة، يدخل منها إلى دهاليز وتعاريج ثم يفضي منها إلى الفضاء الذي فيه القباب. وكأن هذا الأمير ساكن في مدينة قد أحدق بها سورها تنتقل بانتقاله وتنزل بنزوله، وهي من الأبهات الملوكية المعهودة التي لم يعهد مثلها عند ملوك المغرب.
    وداخل تلك الأبواب الأمير وخدمه وحاشيته، وهي أبواب مرتفعة يجيء الفارس برايته فيدخل عليها تدون تنكيس ولا تطأطؤ، قد أحكمت إقامة ذلك كله أمراس وثيقة من الكتان تتصل بأوتاد مضروبة، أدير ذلك كله بتدبير هندسي غريب. لسائر الأمراء الواصلين صحبة هذا الأمير مضارب دون ذلك لكنها على تلك الصفة، وقباب بديعة المنظر عجيبة الشكل قد قامت كأنها التيجان المنصوبة، إلى ما يطول وصفه ويتسع القول فيه من عظيم احتفال هذه المحلة في الآلة والعدة وغير ذلك مما يدل على سعة الأحوال وعظيم الانخراط في المكاسب والأموال.
    ولهم أيضاً في مراكبهم على الإبل قباب تظلهم بديعة المنظر عجيبة الشكل قد نصبت على محامل من الأعواد يسمونها القشاوات، وهي كالتوابيت المجوفة هي لركابها من الرجال والنساء كالأمهدة للأطفال، تملأ بالفرش الوثيرة، ويقعد الراكب فيها مستريحاً كأنه في مهاد لين فسيح وبإزالته معادله في مثل ذلك من الشقة الأخرى، والقبة مضروبة عليهما، فيسار بهما وهما نائمان لا يشعران، أو كيفما أحبا، فعندما يصلان إلى المرحلة التي يحطان بها ضرب سرادقهما للحين إن كان من أهل الترفه والنعم فيدخل بهما راكبين وينصب لهما كرسي ينزلان عليه، فينتقلان من ظل قبة المحمل إلى قبة المنزل دون واسطة هواء يلفحهما ولا خطفة شمس تصيبهما. وناهيك من هذا الترفيه! فهؤلاء لا يلقون لسفرهم، وإن بعدت شقته، نصباً، ولا يجدون على طول الحل والترحال تعباً.
    ودون هؤلاء في الراحة راكبو المحارات(6)، وهي شبيهة الشقادف التي تقدم وصفها في ذكر صحراء عيذاب، لكن الشقادف أبسط وأوسع، وهذه أضخم وأضيق، وعليها أيضاً ظلائل تقي حر الشمس ومن قصرت حاله عنها في هذه الأسفار فقد حصل على نصيب السفر الذي هو قطعة من العذاب.
    ثم رجع القول إلى استيفاء حال النفر عشية الوقفة المذكورة بعرفات، وذلك أن الناس نفروا منها بعد غروب الشمس، كما تقدم الذكر، فوصلوا مزدلفة مع العشاء الآخر، فجمعوا بها بين العشاءين، حسبما جرت به سنة النبي صلي الله عليه وسلم واتقد المشعر الحرام تلك الليلة بمشاعل من الشمع المسرج، وأما مسجده المذكور فعاد كله نوراً، فيخيل للناظر إليه أن كواكب السماء كلها نزلت به. وعلى هذه الصفة كان جبل الرحمة ومسجده ليلة الجمعة؛ لأن هؤلاء الأعاجم الخراسانيين وسواهم من العراقيين أعظم الناس في استجلاب هذا الشمع والاستكثار منه إضاءة لهذه المشاهد الكريمة، وعلى هذه الصفة عاد الحرم بهم مدة مقامهم فيه، فيدخل منهم كل إنسان بشمعة في يده، وأكثر ما يقصدون بذلك حطيم الإمام الحنفي لأنهم على مذهبه، وشاهدنا منه شمعاً عظيماً أحضر منه، تنوء الشمعة منه بالعصبة كأنه السرو، ووضع أمام الحنفي.
    فبات الناس بالمشعر الحرام هذه الليلة، وهي ليلة السبت، فلما صلوا الصبح غدوا منه إلى منى بعد الوقوف والدعاء، لأن مزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر، ففيه تقع الهرولة في التوجه إلى منى حتى يخرج عنه. ومن مزدلفة يستصحب أكثر الناس حصيات الجمار، وهو المستحب، ومنهم من يلتقطها حول مسجد الخيف بمنى، وكل ذلك واسع(7). فلما انتهى الناس إلى منى بادروا الرمي جمرة العقبة بسبع حصيات ثم نحروا أو ذبحوا وحلوا من كل شيء إلا النساء والطيب حتى يطوفوا طواف الإفاضة. ورمي هذه الجمرة عند طلوع الشمس من يوم النحر. ثم توجه أكثر الناس لطواف الإفاضة، ومنهم من أقام إلى اليوم الثاني، ومنه من أقام إلى اليوم الثالث، وهو يوم الانحدار إلى مكة فلما كان اليوم الثاني من يوم النحر، عند زوال الشمس، رمى الناس بالجمرة الأولى سبع حصيات، وبالجمرة الوسطى كذلك، وبهاتين الجمرتين يقفون للدعاء، وبجمرة العقبة كذلك ولا يقفون بها، اقتداء في ذلك كله بفعل النبي (صلى الله عليه وسلم ) فتعود جمرة العقبة في هذين اليومين أخيرة، وهي يوم النحر أولى منفردة لا يخلط معها سواها.
    وفي اليوم الثاني من يوم النحر، بعد رمي الجمرات، خطب الخطيب بمسجد الخيف، ثم جمع بين الظهر والعصر، وهذا الخطيب وصل مع الأمير العراقي مقدماً من عند الخليفة للخطبة والقضاء بمكة على ما يذكر، ويعرف بتاج الدين وظاهر أمره البلادة والبله لأن خطبته أعربت عن ذلك، ولسانه لا يقيم الإعراب.
    فلما كان اليوم الثالث تعجل الناس في الانحدار إلى مكة بعد أن كمل لهم رمي تسع وأربعين جمرة: سبع منها يوم النحر بالعقبة، وهي المحللة؛ ثم إحدى وعشرون في اليوم الثاني، بعد زوال الشمس، سبعاً سبعاً في الجمرات الثلاث؛ وفي اليوم الثالث كذلك، ونفروا إلى مكة؛ فمنهم من صلى العصر بالأبطح، ومنهم من صلاها بالمسجد الحرام، ومنهم من تعجل فصلى الظهر بالأبطح. ومضت السنة قديماً بإقامة ثلاثة أيام، بعد يوم النحر بمنى لإكمال رمي سبعين حصاة، فوقع التعجيل في هذا الزمان في اليومين كما قال الله تبارك وتعالى: { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه } (Cool، وذلك مخافة بني شعبة وما يطرأ من حرابة المكيين.
    وقد كانت في يوم الانحدار المذكور بين سودان أهل مكة وبين الأتراك العراقيين جولة وهوشة وقعت فيها جراحات وسلت السيوف وفوقت القسي ورميت السهام وانتهب بعض أمتعة التجار، لأن منى في تلك الأيام الثلاثة سوق من أعظم الأسواق، يباع فيها من الجوهر النفيس إلى أدنى الخرز، إلى غير ذلك من الأمتعة وسائر سلع الدنيا، لأنها مجتمع أهل الآفاق, فوقى الله شر تلك الفتنة بتسكينها سريعاً. وكانت عين الكمال في تلك الوقفة الهنية، وكمل للناس حجهم، والحمد لله رب العالمين.
    وفي يوم السبت، يوم النحر المذكور، سبقت كسوة الكعبة المقدسة من محلة الأمير العراقي إلى مكة على أربعة جمال، تقدمها القاضي الجديد بكسوة الخليفة السوادية، والرايات على رأسه، والطبول تهرّ(9) وراءه، وابن عم الشيبي محمد بن إسماعيل معها لأنه ذكر أن أمر الخليفة نفذ بعزله عن حجابة البيت لهنات اشتهرت عنه، والله يطهر بيته المكرم بمن يرضى من خدامه بمنه.
    وهذا ابن العم المذكور هو أشبه طريقة منه وأمثل حالاً، وقد تقدم ذكر ذلك في العزلة الأولى. فوضعت الكسوة في السطح المكرم أعلى الكعبة. فلما كان يوم الثلاثاء الثالث عشر من الشهر المبارك المذكور اشتغل الشيبيون بإسبالها خضراء يانعة تقيد الأبصار حسناً، في أعلاها رسم أحمر واسع مكتوب في الصفح الموجه إلى المقام الكريم حيث الباب المكرّم، وهو وجهها المبارك، بعد البسملة:{ إن أول بيت وضع للناس}(10)، وفي سائر الصفحات اسم الخليفة والدعاء له، وتحف بالرسم المذكور طرتان حمراوان بدوائر صغار بيض فيها رسم بخط دقيق يتضمن آيات من القرآن وذكر الخليفة أيضاً، فكملت كسوتها، وشمرت أذيالها الكريمة صوناً لها من أيدي الأعاجم وشدة اجتذابها وقوة تهافتها عليها وانكبابها. فلاح للنظارين منها أجمل منظر، كأنها عروس جليت في السندس الأخضر، أمتع الله بالنظر إليها كل مشتاق إلى لقائها حريص على المثول بفنائها بمنه.
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل الرابع

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي الجمعة 29 مايو - 21:45

    وفي هذه الأيام يفتح البيت الكريم كل يوم للأعاجم العراقيين والخراسانيين وسواهم من الواصلين مع الأمير العراقي. فظهر من تزاحمهم وتطارحهم على الباب الكريم ووصول بعضهم على بعض وسباحة بعضهم على رؤوس بعض كأنهم في غدير من الماء، أمر لم ير أهول منه، يؤدي إلى تلف المهج، وكسر الأعضاء. وهم في خلال ذلك لا يبالون ولا يتوقفون، بل يلقون بأنفسهم على ذلك البيت الكريم، من فرط الطرب والارتياح، إلقاء الفراش بنفسه على المصباح. فعادت أحوال السرو اليمنيين في دخولهم البيت المبارك على الصفة المتقدمة الذكر، حال تؤده ووقار بالإضافة إلى هؤلاء الأعاجم الأغتام، نفعهم الله بنياتهم، وقد فقد منهم في ذلك المزدحم الشديد من دنا أجله، والله يغفر للجميع.
    وربما زاحمهم في تلك الحال بعض نسائهم فيخرجن وقد نضجت جلودهن طبخاً في مضيق ذلك المعترك الذي حمي بأنفاس الشوق وطيشه، والله ينفع الجميع بمعتقده وحسن مقصده بعزته.
    وفي ليلة الخميس الخامس عشر من الشهر المبارك، إثر صلاة العتمة، نصب منبر الوعظ إمام المقام، فصعد واعظ خراساني حسن الشارة مليح الإشارة، يجمع بين اللسانين عربي وعجمي، فأتى في الحالين بالسحر الحلال من البيان، فصيح المنطق، بارع الألفاظ، ثم يقلب لسانه للأعاجم بلغتهم فيهزهم إطراباً ويذيبهم زفرات وانتحاباً.
    فلما كانت الليلة الأخرى بعدها وضع منبر آخر خلف حطيم الحنفي، فصعد إثر صلاة العتمة أيضاً شيخ أبيض السبال، رائع الجلال، بارع التمام في الفضل والكمال، فصدع بخطبة انتظمت آية الكرسي كلمة كلمة، ثم تصرف في أساليب الوعظ وأفانين من العلم باللسانين أيضاً، حرك بها القلوب حتى أطارها وأورثها احتداماً بالخشية بعد استعارها. وفي أثناء ذلك ترشقه سهام من المسائل فيتلقاها بمجن من الجواب السريع البليغ، فتحار له الألباب، ويملك كل نفس منع الإغراب والإعجاب، فكأنما هو وحي يوحى"(11).
    هكذا كانت مناسك الحج في النصف الثاني من القرن الثاني عشر أي عهد نهاية حكم الأمير مكثر.
    كان قتادة حاكم مكة الجديد الذي أطاح بمكثر وخلفه بقوة السلاح قد لاحظ بلا ريب صعود نجم القائد الكردي الشهير صلاح الدين يوسف الأيوبي، وكان القائد العسكري نور الدين محمود ابن زنكي أحد كبار قادة العباسيين قد جعل نفسه نموذجاً وقدوة لصلاح الدين عندما أعلن نفسه ملكاً على سورية في ظل الخلافة العباسية. وقام نور الدين زنكي بإرسال صلاح الدين إلى مصر وبعد أن أخضعها عين نفسه حاكماً عليها ثم ملكاً عليها عام 1169 رغم أن آخر خلفاء الفاطميين كان على قيد الحياة لم يمت إلا بعد ذلك بثلاث سنوات. وفي عام 1171 أمر صلاح الدين بأن يتم الدعاء في خطبة الجمعة إلى الخليفة العباسي في بغداد (المقتدي) بدل الفاطميين الذين حكموا مصر زهاء قرنين.
    وكان المصريون يعتبرون المدن المقدسة في الحجاز جزءاً من الممتلكات المصرية وفي عام 1173 أوفد صلاح الدين شقيقه توران شاه المعظم لحكم الجزيرة العربية من اليمن. وهو الذي أصدر أمره بعد سنتين باسم الخليفة العباسي وطلب بموجبه من داود (ابن عيسى ابن فليتة) أمير مكة بالتنازل عن الحكم لمصلحة شقيقه مكثر.
    وتواصل ورود الأخبار من الشمال عن الانتصارات، فقد استطاعت القوات الإسلامية تحرير طرابلس من النورمانديين عام 1172 كما أن صلاح الدين احتل سورية بأكملها بعد سنتين لدى وفاة سيده وولي نعمته (نور الدين زنكي)، وسرعان ما احتل الموصل وضم حلب إلى ممتلكاته. وفي عام 1180 بدأت القوات الصليبية في القدس تعد لمعركة حاسمة مع قوات صلاح الدين.
    كان الفارس الفرنسي (رينو دي شاتيلون) يحكم الأراضي عبر الأردن وقلاع مؤاب(12) ومونتريال (الشوبك) إلى الشرق من البحر الميت حيث كان يسيطر بذلك على طريق الحج. وقد وضع خطة جريئة وهي مهاجمة قلب الإسلام أي مكة والمدينة. وفي العام الثاني انتهك الهدنة التي عقدها مع المسلمين ووصلت قواته إلى تيماء في عمق الجزيرة العربية وقطع طريق الحج كما سلب ونهب القوافل. ثم إنه تجنب الهجوم البري وكان يعتقد أن ثمة كنوزاً في قبر الرسول (صلى الله عليه وسلم ) في المدينة. وهكذا قرر الهجوم على مكة والمدينة من البحر ورد صلاح الدين على ذلك ببناء قلعة في شمال سيناء كقاعدة متقدمة، لكن رينو في غضون ذلك استطاع احتلال ايلات (ايلة) على خليج العقبة بعد هجوم مفاجئ، ثم إنه فكك العديد من السفن في موانئ جنوب فلسطين من عسقلان وغيرها ونقلها على ظهور الجمال عبر الصحراء ووادي عربة بالإضافة إلى السفن التي بناها من أخشاب غابات الشوبك وأعاد تجميع كافة هذه السفن في ميناء (ايلات) حيث صنع خمس سفن عملاقة تحمل كل واحدة منها ألف رجل وعدة سفن أصغر. ثم قاد هذا الأسطول بنفسه وهاجم وسلب المدن والبلدات الساحلية غرب الجزيرة العربية وذلك قبل أن يعود صلاح الدين من إحدى حملاته في شمال العراق. وكانت السفن الصليبية تعمل بالمجاديف وبالتالي كانت أقدر على المناورة والحركة من السفن الشراعية العربية واستطاع الصليبيون بهذه القوة البحرية قطع الاتصالات عن الموانئ الصغيرة والاستيلاء على السفن التجارية وتعطيل وتحطيم المواصلات الإسلامية… كانت السفن الصليبية تستولي على كافة السفن التي تصادفها وتستولي على حمولاتها واستمر الأمر كذلك سنة كاملة 1182 – 1183 وإلى الجنوب على الشاطئ الغربي للبحر الأحمر عند رأس بناس هاجم الصليبيون ميناء (عيذاب) الذي كان في منتهى الأهمية للحجاج الذين يسافرون من وادي النيل إلى مكة بحراً، كما أحرقوا السفن التجارية وأغرقوا سفينة تحمل حجاجاً إلى جدة… واستعان الصليبيون في حملاتهم تلك من حيث إرشادهم في البحر بالأسرى المسلمين… وواصل الصليبيون حملاتهم باتجاه الشمال على الساحل المصري واستولوا على قوافل قادمة من القصير. وظهر رجال رينو في كافة الموانئ العربية في البحر الأحمر بما في ذلك رابغ وحواره.. والأولى شمال والثانية جنوب ينبع حيث قلعة قتادة، بل إنهم ظهروا في باب المندب وحتى عدن حيث يقال: إنهم أسروا شيوخاً ورجال دين مسلمين وبذلك أغلقوا بوابة البحر الأحمر.
    في غضون ذلك نظم العرب في القاهرة هجومهم المضاد. ولم يكن لدى الملك العادل (شقيق صلاح الدين ونائبه خلال حملاته) أي سفينة حربية في البحر الأحمر، لكنه قلد رينو حيث فكك السفن في نهر النيل والإسكندرية ونقلها قطعاً فوق الجمال إلى… (البحر الأحمر في بداية عام 1183 وأنيطت قيادة الأسطول الصلاحي بحسام الدين لؤلؤ (المعروف باسم الحاجب) الذي كان معروفاً بصدقاته ودرايته بشؤون البحر، وفي خلال أقل من ثلاثة أشهر استطاع الأسطول الصلاحي أن يحرق ثلاث سفن صليبية عملاقة ويأسر ملاحيها وجنودها… ثم إنه هاجم في أواسط الصيف الأسطول الصليبي قبالة الحوارة، ودمر معظم سفنه وسبح الملاحون إلى البر وحاولوا الالتحاق بالجيش الصليبي البري الذي كان يزحف على المدينة. وبعد خمسة أيام من السير في الشعاب والمتاهات الصحراوية أصبحوا على بعد مسيرة يوم من المدينة بإرشاد أسرى مسلمين، وعندما حاولوا أخذ قسط من الراحة فوق هضبة صحراوية هاجمهم المسلمون وقتلوا معظمهم وأسروا الباقين وكان عدد الأسرى (170) مقاتلاً صليبياً معظمهم من الفرنسيين. وتم قتل بعضهم بقطع الرأس في المكان المخصص للنحر في منى خارج مكة (المكرمة) كما قطعت رؤوس بعضهم في المدينة (المنورة) بينما أرسل من تبقى منهم إلى مصر لعرضهم على الناس قبل قتلهم على أيدي طلبة علوم الدين والدروايش.
    ويصف لنا ابن جبير الأسرى الذين رآهم هناك في طريقه إلى الحج من مصر على النحو التالي:
    "ولما حللنا بالإسكندرية، عاينا مجتمعاً عظيماً من الناس برزوا لمعاينة أسرى من الروم أدخلوا البلد راكبين على الجمال ووجوههم إلى أذنابها وحولهم الطبول والأبواق، فسألنا عن قصتهم فأخبرنا بأمر تنفطر منه الأكباد إشفاقاً وجزعاً. وذلك أن جملة من نصارى الشام اجتمعوا وأنشأوا مراكب في أقرب المواضع التي لهم من بحر القلزم(13) ثم حملوا أنقاضها على جمال العرب المجاورين لهم بكراء اتفقوا معهم عليه، فلما وصلوا بساحل البحر وركبوها قاطعين بالحجاج وانتهوا إلى بحر النعم(14) فأحرقوا فيه نحو ستة عشر مركباً وانتهوا إلى عيذاب فأخذوا فيها مركباً كان يأتي بالحجاج من جدة وأخذوا أيضاً في البر قافلة كبيرة تأتي من قوص إلى (عيذاب) وقتلوا الجميع ولم يتركوا أحداً وأخذوا مركبين كانا مقبلين بتجار من اليمن وأحرقوا أطعمة كثيرة على ذلك الساحل كانت معدة لميرة مكة والمدينة أعزهما الله وأحدثوا حوادث شنيعة لم يسمع مثلها في الإسلام ولا انتهى رومي إلى ذلك الموقع قط.
    ومن أعظمها حادثة تسد المسامع شناعة وبشاعة وذلك أنهم كانوا عازمين على دخول مدينة الرسول (صلى الله عليه وسلم ) وإخراجه من الضريح المقدس، أشاعوا ذلك وأجروا ذكره على ألسنتهم، فأخذهم الله باجترائهم عليه وتعاطيهم ما تحول عناية القدر بينهم وبينه، ولم يكن بينهم وبين المدينة المنورة أكثر من مسيرة يوم، فدفع الله عاديتهم بمراكب عمرّت(15) من مصر والإسكندرية دخل فيها الحاجب المعروف بلؤلؤ مع أنجاد من المغاربة البحريين، فلحقوا العدو وهو قد قارب النجاة بنفسه فأخذوا عن آخرهم، وكانت آية من آيات العناية الجبارة، وأدركوهم عن مدة طويلة كانت بينهم من الزمان نيف عن شهر ونصف أو جلوه، وقتلوا وأسروا وفرق من الأسارى على البلاد ليقتلوا بها، ووجه منهم إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة وكفى الله بجميل صنعه الإسلام والمسلمين أمراً عظيماً، والحمد لله رب العالمين"(16).
    وقرر صلاح الدين القضاء نهائياً على هذا التهديد الذي تتعرض له مكة المكرمة فأمر قواته بالتحرك للاستيلاء على قلعة رينو وبدأ الحصار بقيادة صلاح الدين نفسه في خريف ذلك العام. وتزامن الحصار مع حفلة زواج ابن زوجة رينو، وفي ليلة الزفاف بدأت القذائف وكتل النار المشتعلة تتساقط على القلعة وسط المدعوين والموسيقيين والراقصين والمهرجين واللاجئين الذين لاذوا بالقلعة من القرى الصليبية المجاورة بعد أن شاهدوا تقدم قوات صلاح الدين في أراضيهم. وسمع بالحصار الملك بلدوين الرابع في القدس وكان مريضاً وضريراً وبه مشلول لكنه مع ذلك قاد جيشه لنجدة قلعة رينو في الشوبك.
    لكن رينو على أي حال لم يعش طويلاً، فقد استطاع صلاح الدين إلحاق هزيمة ساحقة بالقوات الصليبية في حطين قرب بحيرة طبريا عام 1187 فسقطت مملكة القدس وأسر صلاح الدين معظم ملوك وأمراء الصليبيين بما في ذلك رينو (شيطان الغرب) الذي هاجم الحجاز وهو العدو الشخصي لصلاح الدين وقد تم إعدامه بقطع رأسه أمام صلاح الدين، ويؤكد بعض المؤرخين العرب أن صلاح الدين قتله بنفسه.
    كان قتادة في الثانية والثلاثين من عمره عندما ظهر أسطول رينو في موانئ البحر الأحمر. وتم القضاء على قواته البرية على مسيرة يوم من المدينة كما أسلفنا. وكان قتادة قد حقق شهرة لنفسه كأحد أبرز الفرسان بعد أن هزم قبيلة حرب(17) واستولى منها على ميناء ينبع ومنطقة الصفراء وهي الممر الرئيسي بين الشمال والجنوب. كما هزم بني علي وبني أحماس وبني إبراهيم. ولا شك أن جزءاً من شهرته العسكرية يعود إلى إلحاقه الهزيمة بالصليبيين الذين حاولوا التقدم نحو المدينة وأسرهم.
    بعد أن نجح حنظلة ابن قتادة باحتلال مكة المكرمة حاول محمد بن مكثر القيام بهجوم مضاد لكنه فشل كما حاول آخرون طرد قوات قتادة من مكة المكرمة بدعم سالم (ابن قاسم الحسيني) أمير المدينة، لكن كافة المحاولات باءت بالفشل، وظل أمير المدينة مستقلاً زهاء عامين عندما تمكن قتادة من قيادة جيش منظم ومهاجمتها بنفسه واحتلالها، ثم عاد إلى مكة ليكمل إخضاع الحجاز فأرسل حملة تأديبية ضد قبيلة ثقيف إلى الشرق من مكة وإلى مدينة الطائف. ويقول ابن الأثير(18) إن المعركة بين قتادة وبين سالم بن قاسم الحسيني وقعت قرب المدينة وأن أعداداً غفيرة من الفرسان والمشاة من كلا الطرفين اشتركت في القتال وأن قتادة فشل في البداية من إلحاق الهزيمة بقوات سالم غير أنه استطاع بالحيلة والأموال استمالة جنود سالم.
    وفي عام 1210 ثم مرة أخرى عام 1212 حدثت مصادمات بين سكان مكة وبين الحجيج العراقي وفيما يلي خلاصة ما يرويه الفاسي حول الصدام الثاني:
    كان أمير الحج العراقي (علاء الدين محمد بن الأمير ياقوت) نيابة عن والده، وهو أحد موالي الخليفة، حاكماً على خوزستان، وأمير الحج في نفس الوقت، وكان مساعده ودليله ابن أبي فراس. أما ركب الحج الشامي فكان أميره (سمسم إسماعيل) شقيق شاروخ النجمي. بينما يقود الحج الفلسطيني (علي ابن سليم) وبرفقته ربيحة خاتون شقيقة العادل (العادل سيف الدين أبو بكر شقيق صلاح الدين)(19) وبعد رمي الحجارة (الجمرات) شعائرية في منى. قفز الإسماعيليون على أحد الأشراف الذي يشبه الشريف قتادة وقتلوه ظناً منهم أنه قتادة نفسه واسم الإسماعيلي الذي قتله هو هارون ويكني (أبو عزيز) وشاع الاعتقاد بأنه من أتباع والدة جلال الدين. واستعر غضب عبيد الأشراف وخدامهم وأتباعهم فتسلقوا التلال على جانبي منى وبدؤوا برشق الحجارة بواسطة المقاليع (مفردها مقليعة وتستعمل لرشق الحجارة مسافات طويلة) من جهة وإطلاق السهام على الحجاج من جهة أخرى. وفي اليوم التالي شرعوا في نهب الحجاج ووقعت إصابات كثيرة بين الجانبين. عند ذلك تقدم ابن أبي فراس ونصح محمد ابن ياقوت بقيادة القافلة العراقية من منى نحو الزاهر وهو المكان المخصص عادة للحجيج الشامي… وعندما بدأت القافلة في التحرك اعتقد الشريف قتادة وعبيده وجنوده بأن العراقيين يريدون القتال، فهاجموا قافلة الحجيج العراقي ونهبوا كل شيء فيها، وقال الشريف قتادة بهذا الصدد: "لقد كانت غايتهم قتلي ولذلك سأقضي عليهم جميعاً" في ذلك الوقت كانت ربيحة خاتون في الزاهر ومعها ابن الستار وشقيق الشاروخ فضلاً عن الحجيج الشامي. ولجأ أمير الحج العراقي إلى خيمتها التي كانت تقيم فيها أيضاً الخاتون (والدة صلاح الدين) وبعثت ربيحة بابن الستار ليسأل قتادة: "ما هي جريمة هؤلاء الناس بعد أن عرفتهم القاتل؟ أم لعلك تبحث عن حجة لنهب الحجيج وأنت تعرف من نحن؟".
    وأقسم ابن الستار أنه إذا لم يوقف قتادة انتقامه على ذلك النحو فإنه سيكابد الكثير وإن الخليفة سيتقدم بقواته من بغداد وسيتقدم السوريون من دمشق نحو مكة. ووافق قتادة بعد هذا التهديد على وقف عمليات الانتقام شريطة أن يدفع الحجاج مائة ألف دينار له كتعويض. وأخيراً جمع الحجاج بما في ذلك المبلغ الذي تبرعت به الخاتون (أم صلاح الدين) مبلغ (30) ألف دينار وسلموا المبلغ له. وظل مئات الحجاج طيلة ثلاثة أيام قرب خيمة الخاتون طلباً للحماية وبينهم جوعى وجرحى وعراة بل إن بعضهم كانوا يحتضرون وساعدتهم الخاتون بما تستطيع.
    وكان قتادة على اقتناع بأن عملية الاغتيال التي كانت تستهدفه في الواقع قد خططها الخليفة بنفسه ولذلك أقسم أن يقتل الحجاج العراقيين في العام التالي" (انتهى تلخيص ما أورده الفاسي).
    وهكذا عاد الحجيج العراقي في حالة يرثى لها. وبعد فترة أوفد قتادة ابنه راجح إلى بغداد فدخلها مع رجاله يحملون سيوفهم في وضعية الاستسلام والاستعداد لتسليم السيوف لرجال الخليفة فضلاً عن أنهم حملوا أكفانهم على أكتافهم وطلبوا الرحمة والغفران من الخليفة وهم على تلك الحالة. وقد صفح الخليفة عنهم، وفي العام الثاني أرسل كمية كبيرة من الهدايا والنقود إلى قتادة دون أن يطلب منه توضيح أعماله وتصرفاته التي قارفها بحق الحجيج العراقي، ثم طلب منه الخليفة المثول بين يديه في بغداد.
    عندما وصل قتادة إلى الحدود العراقية قرب الكوفة استقبله مندوبو الخليفة وكان أحدهم يقود أسداً مكمماً، وتشاءم قتادة من رؤية الأسد فعاد إلى مكة بعد أن أرسل اعتذاره إلى الخليفة شعراً.
    ويبدو أن الخليفة لم يمتعض من اعتذار قتادة الشعري لأنه رد عليه بالشعر أيضاً.
    كان قتادة يردد أمام الناس أن حقه بالخلافة أقوى وأوضح من حق الخليفة العباسي في بغداد، وكان يعامل مندوبي مصر باستعلاء لأن المصريين سبق أن دعموا وأيّدوا أمير المدينة ضده. ويعتقد سنوك هورغرونجي في كتابه (مكة) بأن قتادة كان يعامل المصريين على ذلك النحو لاقتناعه بأنهم يميلون لمساعدة خصومه في اليمن الذين أرسلوا المبعوثين إلى مصر وغيرها طلباً للمساعدة ضده بعد أن وسع حدوده باتجاه الجنوب على ساحل البحر الأحمر. لكن حكام اليمن لم يحصلوا على شيء سوى التمنيات وبعض المال من القرى المجاورة وخاصة مصر وسورية بعد أن قام الصليبيون بمهاجمة مصر نفسها عام 1220.
    ولم يفكر المصريون بفرض سلطتهم المباشرة على مكة المكرمة وذلك لوعورة وصعوبة المسالك الصحراوية التي تفصل بين مصر وبين قلب الجزيرة العربية، وكان قتادة يقول لأولاده عندما شاخ: إن الصحراء هي أفضل أسلحتهم (لقد حماكم الله وحمى بلادكم بهذه الصحارى القاحلة والبعيدة عن العمران).
    وعلى أي حال، كانت علاقاته الخارجية تتلوّن دائماً حسب مقتضيات هدفه النهائي وهو أن يحكم الجزيرة العربية بما في ذلك اليمن بشكل مستقل. وبالتالي كان يعتبر أن أية معونة أو حتى مراسلات ودية بين القوى الخارجية مع أي منافس له في الجزيرة، عمل عدواني موجه ضده. ويصفه سبط الجوزي(20) بأنه طويل القامة مهيب الطلعة، متناسق التقاطيع وشجاع، يمتاز بالبساطة لدرجة أنه كان يدعو رجاله بأسمائهم ويحثهم على الصلاة وكان لا يخشى سوى الله ويعامل العبيد المتمردين والجنود في مكة بقسوة وحزم وكان مخوف الجانب لصرامته وعدله.
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل الرابع

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي الجمعة 29 مايو - 21:48

    وعندما تقدم قتادة في العمر وتدهورت صحته، عين الخليفة والياً (أو مندوباً) له على مكة المدعو (أقباش الناصري) أحد مشاهير أعضاء الفتوة أو الفرسان. وبينما كان أقباش مخيماً (معسكراً) في جبل عرفات زاره راجح ابن قتادة وطلب منه تأييد ترشيحه لخلافة والده. لكن أقباش تجنب الرد المباشر على هذا الطلب، ذلك أنه كان يحمل هدايا من الخليفة إلى الحسن الشقيق الأكبر لراجح، وعندما سمع الحسن باجتماع راجح مع أقباش اعتقد أن شقيقه الأصغر قد فاز بدعم وتأييد أقباش، فعاد إلى مكة وأغلق أبوابها وأثار حمية أتباعه. وهو ما فعله راجح أيضاً. وسمع أقباش بأن ثمة صداماً وشيكاً في مكة فتقدم نحوها مع فرسانه لوقف الصدام، واستنتج أتباع الحسن بأن أقباش لا يهدف إلى منع الصدام بل يريد إلحاق الهزيمة بهم رغم أنه كان يصيح بأعلى صوته بأنه لم يحضر للقتال… وهاجمه رجال الحسن فتفرق رجاله من حوله وبقي وحيداً واستطاع الحسن قطع أوتار قوائم حصانه فوقع أقباش أرضاً لتتناوشه السيوف والرماح ثم حملوا رأسه على رمح وأخذوه للحسن الذي أمرهم أن يطوفوا به في المسعى قرب بيت العباس. ورغب المكيون بقيادة الحسن نهب الحجيج العراقي الذي أصبح ضعيفاً وبلا قيادة بعد موت أقباش على ذلك النحو غير أن أمير الحج الشامي حذرهم بأن الشقيقين: ملك دمشق المعظم شرف الدين عيسى، والكامل ملك مصر سيهاجمان الحجاز(21).
    كان أقباش مملوكاً اشتراه الخليفة الناصر لدين الله عندما كان أقباش في الخامسة عشرة من عمره ودفع فيه خمسة آلاف دينار وهو أكبر مبلغ دفع في مملوك، ويقال: إنه كان أوسم شاب في العراق فضلاً عن فطنته وذكائه حتى أصبح رفيقاً دائماً للخليفة الذي عينه أميراً للحج ثلاث سنوات على التوالي قبل السنة التي قتل فيها. وحزن الخليفة كثيراً لدى سماعه نبأ مقتل أقباش لدرجة أنه منع الاحتفالات التقليدية التي تقام عادة لقافلة الحجيج العائدة، ولم تقرع الطبول ولا رفعت الرايات عند دخول القافلة إلى بغداد.
    اشتد مرض قتادة وانهارت قواه لدرجة أنه لم يرغب في الإعراب عن رغبته أمام رجالات قبيلته بضرورة أن يخلفه الحسن ذلك أن الحسن كان قد اغتال أحد أعمامه المرشحين لخلافة والده قتادة، وارتفع عويل النساء في بطاح مكة. وثار غضب الحسن عندما سمع أن والده قد يأمر باعتقاله ومحاكمته على جريمة قتل عمه، فهرع إلى مكة مسرعاً ودخل على والده وهو على فراش الموت وخنقه بشراشف السرير(22). كان قتادة قد ناهز التسعين من عمره عند وفاته مخنوقاً أو مسموماً عام (1220). واستدعى الحسن أحد أشقائه من ينبع وكان هذا الشقيق منافساً محتملاً للحسن، ولهذا السبب أمر بقتله، فهرب كافة أشقائه. وهكذا بدأ تاريخ هذه السلالة التي استمر حكمها سبعة قرون ونصف بمأساة مروعة(23).
    ووفقاً لرواية السيد السمرقندي التي أوردها الحسيني في كتابه (تنضيد العقود) فقد قام الحسن بعد ذلك بقتل أمير الحج العراقي وعلق رأسه على نافورة ماء في الحرم، والسبب الوحيد لقتل أمير الحج العراقي هو أن الحسن ارتاب به واعتقد أنه إنما حضر من العراق لدعم وتأييد شقيقه راجح.
    وفي العام الثاني 1221 دخل إلى مكة حاكم اليمن ابن الملك العادل إلياس المسعود يوسف ابن ملك مصر وآخر حلقة في سلالته. وقام بمهاجمة الحسن في بطن المسعى داخل المدينة فهرب منها فاحتل جنود المسعود المدينة ونهبوها، ويقول الفاسي:
    "لقد تسبب المسعود في متاعب كثيرة في حجتين على التوالي إذ إنه تحدى حق العراقيين برفع علمهم على جبل عرفات بدل اليمنيين بل إنه قتل عدة حمائم عند بئر زمزم بواسطة المقليعة وكان يسير وراء الحجاج ويضرب عراقيبهم بسيفه قائلاً: "امشوا ببطء… ببطء فالسلطان نائم ومخمور في قصره" وكان الناس يتراكضون من أمامه ذعراً لكنه في الواقع أوقف عمليات السرقة والنهب، وكان اللصوص والمجرمون يخشون سطوته".
    ظل ضباط حاكم اليمن المجنون في مكة سبع سنوات، وقد حكم فيها فترة سالم الياقوت وهو عبد معتق لمسعود، وعندما توفي المسعود نتيجة الشلل الكامل(24) في مكة عام 1228 أعلن أحد ضباطه المدعو نور الدين عمر ابن علي ابن رسول، نفسه حاكماً في اليمن والجزيرة العربية.
    استطاع الحسن تجميع بعض القوات في ينبع لمهاجمة القوات اليمنية في مكة لكنه مني بالهزيمة فتوجه إلى العراق سعياً للحصول على دعم الخليفة، لكنه لم يحصل على مبتغاه، وتوفي بعد فترة في بغداد ودفن في الكاظمية دون أن تكتحل عيناه برؤية مكة مرة أخرى.
    وقام شقيقه راجح بمحاولة جديدة لاحتلال المدينة ومنيت محاولته الأولى بالفشل وفي عام 1229 قام بمحاولة ثانية بالتعاون مع قوات يمنية ونجح في مسعاه وبقي حاكماً إلى حين وصول القوات المصرية في موسم الحج التالي لتغيير الوضع مرة أخرى.
    وفي عام 1232 قام الملك المنصور عمر ابن علي ملك اليمن، بتزويد راجح بقوة كبيرة لإخراج المصريين من مكة لكنه اضطر مرة أخرى للفرار من أمام المصريين لتفوقهم العسكري إذ كان لديهم (600) فارس بقيادة الأمير جغريل في موسم الحج التالي. وفي عام 1237 وصل نور الدين علي بن رسول من اليمن شخصياً وبرفقته ألف فارس فشن هجوماً مشتركاً مع قوات راجح على مكة وتم احتلالها.
    وخلال عام توفي حاكم مصر وسورية الملك الكامل، فصارت خطبة الجمعة تقرأ باسم المنصور ملك اليمن، وبقي راجح في مكة والياً أو حاكماً باسم المنصور إلى أن وصل إلى مكة صلاح نجم الدين أيوب (الذي خلف الملك الكامل في مصر وسورية) بقوات كبيرة عام 1240 وعين حاكماً على مكة (شيحا) ابن قاسم الحسيني (حاكم المدينة) بلد راجح الذي فر من مكة مرة أخرى. وأصبح من المألوف على أي حال أن تعود القوات اليمنية إلى مكة بعد أن يغادرها الحجيج والقوات المصرية. وأمضى نور الدين مع رجاله شهر رمضان في مكة وفي نهاية الشهر استدعى (أبو سعد الحسن ابن علي ابن قتادة) وعينه والياً باسمه فحكم أربع سنوات اعتباراً من عام 1241 إلى أن قتله (جمّاز ابن حسن ابن قتادة) لدى وصوله من دمشق برفقة قوة كبيرة حصل عليها بعد أن تعهد بقراءة الخطبة باسم السلطان نصر صلاح الدين يوسف.
    وهكذا أصبحت المتغيرات والتحولات تتسارع، إذ إن جمّاز لم يحكم أكثر من شهرين إلى أن عاد إلى مكة عمه راجح وقد تقدم في العمر، ففر جماز من مكة وفي عام 1254 خلف (غنيم بن راجح) والده راجح الذي حكم مكة حتى ذلك الحين زهاء ثماني مرات، ثم ظهر (إدريس ابن قتادة) بعد بضعة أشهر وأطاح بغنيم ابن راجح وكان يدعم إدريس (محمد أبو نمّي ابن أبي سعد) الذي حكم بعد ذلك زهاء خمسين عاماً باستثناء فترات قصيرة متقطعة.
    كان المكيون عندما ينظرون للوراء فترة نصف قرن تقريباً أي منذ وفاة قتادة يتحسرون على حكمه الحازم والهادئ مقارنة بما حدث بعده، ومن الطبيعي أنهم كانوا مستائين من التغيرات المستمرة والقتال بين أحفاده منذ وفاته.
    كانت خلافات أبناء وأحفاد قتادة وتحولهم لطلب الدعم والتأييد من مصر أو اليمن أو سورية بعكس نصيحة والدهم، شيئاً طبيعياً لأن الوطنية أو المشاعر القومية لم تكن راسخة الجذور آنذاك، وكانت النفعية شائعة، فقد تحارب الصليبيون فيما بينهم غير مرة كما أنهم كانوا يتحالفون مع المغول أو مسلمين ضد مسلمين آخرين وثمة ملاحظة أخرى وهي أن حكام مصر وسورية واليمن الذين كانوا يتنافسون فيما بينهم على من تكون الخطبة باسمه كانوا جميعاً مسلمين ويحجون إلى مكة.





    (1) انظر ابن خلدون.
    (2) كل ما ذكره ابن جبير مقتبس مباشرة عما قاله حرفياً ولم نترجم من الأصل الإنجليزي.
    (3) يذكر س. لين بول في كتابه (السلالة المحمدية) أن طغتكين سيف الإسلام حكم اليمن والجزيرة العربية منذ 1181 حتى 1196.
    (4) واضح أنه يعني سبع مرات.
    (5) الدرق اللمطية: تروس منسوبة إلى لمطة في بلاد البربر.
    (6) المحارات: محامل صغار توضع على الإبل.
    (7) واسع/ أراد به جائزاً.
    (Cool سورة البقرة، الآية (203)
    (9) تهرّ: تصخب.
    (10) سورة آل عمران، الآية (96).
    (11) الاقتباس عن ابن جبير… زار مكة المكرمة عام 1183-1184م وهي نفس النصوص التي اعتمدها المؤلف فاقتبسناها من الأصل.
    (12) الكرك والشوبك.
    (13) البحر الأحمر.
    (14) من الواضح أنه يقصد البحر المواجه لسواحل الجزيرة العربية في الجنوب (أي البحر الأحمر) نفسه.
    (15) عمرت: جهزت.
    (16) الاقتباس حرفي عن ابن جبير.
    (17) قبيلة حرب من القبائل التي تعيش بين مكة المكرمة والمدينة المنورة.
    (18) الكامل في التاريخ. الجزء السابع. ص 134.
    (19) كان الصليبيون يسمونه (سفادين).
    (20) مرآة الزمان –أحداث السنة 617 هجرية.
    (21) الفاسي (شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام) ويروي ابن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ) قصة مشابهة. بينما يقول سبط ابن الجوزي ويؤيده في ذلك ابن كثير الدمشقي في كتابه البداية والنهاية أن أقباش كان أحد مبعوثي الخليفة العباسي في بغداد إلى الملك العادل عندما كان هذا يحاصر سنجار.
    (22) يقول ابن خلدون في تاريخه (زعموا أن الحسن قد سمم والده بالتواطؤ مع إحدى الجواري).
    (23) لا بد هنا من وضع الحادث في ظروفه الزمانية فقد كان من المألوف صراع أبناء الأمراء أو الخلفاء أو الحكماء على الإمارة أو الخلافة أو الحكم بعد موت الوالد، وقصة ابني هارون الرشيد الأمين والمأمون معروفة، كما كان أول عمل يقوم به الخليفة العثماني قتل أشقائه خشية منافسته على المنصب أو الالتحاق بأعدائه كما حدث غير مرة.
    (24) ابن القوطي (تلخيص مجمع الآداب في الألقاب) تحت سنة 262هـ.


    أنتهى الفصل الرابع
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty الفصل الخامس

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي الجمعة 29 مايو - 21:52

    الفصل الخامس : محمد أبو نميّ الأول وأبناؤه وأحفاده (1255 – 1455)

    احتفظ أولاد وأحفاد قتادة بقلعة أجدادهم في ينبع مع أنهم كانوا يحكمون مكة. وقد اعتادوا على العودة إلى قلعتهم إذا ساءت الأوضاع معهم أو فيما إذا قام عضو من الأسرة بتجريد أحدهم من منصبه وتعيين نفسه شريفاً على مكة بدلاً منه. وفي عام 1245 اشتراها منهم على نحو صوري ممثل اليمن وذلك لمنع الأبرار (أي النزول من السفن إلى البر) المصري هناك. وفي نفس الوقت عين (أبو سعد) نائباً للقائد العام ومعاوناً للقوات اليمنية في مكة، فحضر من ينبع لاستلام هذه الوظيفة والاضطلاع بمهماتها. وكانت والدته محظية حبشية تمتاز بروحها القوية وحبها للدعابة، ويروى أنها قالت لابنها (أبو سعد)(1) عندما انطلق لخوض أول معاركه: "أرجو أن تتصرف بشكل جيد يا ولدي فإذا أثبتّ شجاعتك سيقول الناس إنك من نسل الرسول وإذا لم تثبت شجاعتك فسيقولون أن السبب في تقاعسك هو أن أمك عبدة حبشية".
    كان محمد أبو نمي في السابعة عشرة من عمره، وقد نشأ على طباع وروح والده في ينبع عندما وردته أخبار تفيد بأن راجح شكل قوة من بني الحسين في المدينة وأنه ينوي مهاجمة والده (أي والد محمد) أبو سعد في مكة. ثم وردته أخبار أخرى بأن سبعمائة فارس قد انطلقوا من المدينة بقيادة عيسى الهارون الملقب بفارس الفرسان، ولم يستطع محمد أبو نمي أن يجمع أكثر من أربعين فارساً فانطلق بهم بسرعة لتحذير والده. وفي الطريق شاهد قوة راجح وفارس الفرسان فهاجمها بقوته الصغيرة على غرّة وكان الهجوم ناجحاً، لأن فرسان راجح لم يتوقعوا ذلك الهجوم المباغت، وهرب فارس الفرسان وطارت عمامته وكبا حصانه وكان على وشك الوقوع في الأسر. وفي كتاب تنضيد العقود وصف لتلك المعركة مقتبسة عن السيد جعفر الحسيني. المهم أن أبا سعد كافأ ابنه الشاب الجريء بأن عينه مساعداً له.
    بعد بضع سنوات سار جمّاز ابن حسن ابن قتادة (انظر قرابته من أبي سعد في الشجرة السابقة) بقوة كبيرة من دمشق إلى مكة. وكان سلطان دمشق وحلب نصر صلاح الدين يوسف حفيد صلاح الدين قد زوّده بتلك القوة بعد أن تعهد جماز بإلقاء خطبة الجمعة باسمه في مكة. واستطاع اقتحام مكة بالقوة وقتل أبي سعد فهرب ابنه محمد أبو نمي والتجأ إلى ينبع ولم يعد إلى مكة إلى أن دخلها مع عمه إدريس ابن قتادة. وعينه عمه مساعداً له. وفي عام 1255 أصبح إدريس وابن شقيقه محمد أبو نمي على درجة من القوة تكفي للتخلص من الوالي اليمني (ابن برطاس). فأحاط الفرسان المكيون بابن برطاس وقواته وبعد معكرة قصيرة استسلم الوالي اليمني شريطة السماح له ولقواته بالانسحاب إلى اليمن بسلام وهذا ما حدث فعلاً.
    وفي عام 1258 وصلت الأخبار إلى مكة عن سقوط بغداد على أيدي المغول بقيادة هولاكو الذي قتل الخليفة وأبناءه. وكانت قوافل الحجيج الفارسي قد توقفت قبل ذلك منذ (11) سنة وبعد الاحتلال المغولي لم يحضر حجاج من العراق طيلة تسع سنوات(2).
    في عام 1269 قام ملك مصر (المملوك) الظاهر (ركن الدين) بيبرس البندقداري بالحج إلى مكة. وكان في معيته حشد كبير من الحجاج والجند. ويقال: إن مخيّمه كان يتزوّد بالخضراوات الطازجة يومياً وذلك بواسطة عدة محطات سبق أن تمّ تنظيمها وتزويده بالجمال للانطلاق بأقصى سرعة على طول الطريق التي سلكها. وكانت الرسائل وحتى الأزهارتصل اليه من مصر على نحو يومي طيلة الرحلة. وترك في مكة والياً قدم كسوة للكعبة تحمل اسم بيبرس مطرزاً بخيوط من الذهب.
    وعلا نجم الظاهر بيبرس، والمعروف أنه مملوك شركسي اشتراه التجار من القبجاق في القوقاز وهو في العاشرة، وباعوه في دمشق بثمانمئة قطعة فضية وكان ثمة غشاء رقيق على إحدى عينيه الزرقاوتين. والظاهر بيبرس طويل وقوي البنية وصوته جهوري وكان في منتهى الصرامة والشجاعة والنشاط ومغرماً بالسفر والارتحال، فيوم في مصر ويوم في الحجاز ويوم في سورية ويوم في حلب وهكذا.
    كان الظاهر بيبرس قد بلغ أوج أمجاده آنذاك ولأنه مسلم نموذجي فقد أعاد الخلافة العباسية بعد أن سقطت في بغداد فأصبح مركزها بذلك في مصر، وقد وجد متسعاً من الوقت بين حملاته العسكرية المتكررة وقام بالحج، وتجدر الإشارة بأن المماليك حكموا مصر مائتي سنة وكان الظاهر أول حاكم منهم يزور الحجاز. ويقول السير ويليام موير في كتابه (المماليك أو سلالة العبيد في مصر) ما يلي: "إننا نبحث عبثاً عن موازٍ شبيه في تاريخ العالم لعبيد اشتهروا وترأسوا على أسيادهم وأصبحوا حكاماً. لكن مجتمع المماليك استمر وتكاثر نتيجة تدفق آلاف المماليك الذين كان يشتريهم العرب والمماليك أنفسهم من تجار أسيويين. كان مملوك اليوم يتحول إلى حاكم غداً. وكانت كافة المناصب القيادية في الجيوش أو الإدارة المدنية في أيدي المماليك وقد استمر حكم (دولتهم) زهاء قرنين ونصف القرن. أي خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر. وربما يبدو المشهد بعيداً عن التصديق لكنه الحقيقة إذ إن المماليك حكموا مصر في البداية ثم امتد حكمهم إلى سورية".
    كان بيبرس في أثناء وجوده في مكة قد بذل جهده للتوفيق بين إدريس وبين محمد (أبو نمي) اللذين نشب الخلاف بينهما قبل مجيئه. وقبل مغادرته مكة أبلغ الوالي الذي عينه بالعمل على التوفيق بينهما.
    وبعد عام غادر الوالي الذي عينه بيبرس إلى مصر فعاد الخلاف بين إدريس وابن شقيقه محمد والتقت قواتهما ونشبت معركة جرح خلالها إدريس فهاجمه محمد وقطع رأسه بيده وعاد إلى مكة منتصراً.
    وحسب ما يقوله الفوطي في كتابه (تلخيص مجامع الآداب في الألقاب) أن شريفاً مكياً يدعى زيد أو عبد الله ابن أبي نمي هرب إلى العراق حيث رحب به محمد الغزنوي حاكم العراق (1295 – 1404) ومنحه قرية (المهاجرية) في الحلة الصفية وهي ما تبقى من مدرسة ومكتبة المستنصرية الشهيرة التي بناها العباسيون كما وهبه منحاً أخرى. وبقي هناك إلى أن حدثت مصادمات فيما بين القبائل المحلية، فقرر العودة إلى مكة وربما حمل معه على ظهور الجمال بعض كتب المكتبة المستنصرية أو ما تبقى منها بعد أن دمرها المغول.
    وفي عام 1291 وردت الأنباء المبهجة للمسلمين وهي سقوط قلعة عكا على الساحل السوري التي كانت تعتبر آخر معاقل الصليبين وبذلك اختفى حكم الصليبيين الذي استغرق زهاء قرنين ومنذئذ وحتى انقضاء خمسة قرون أخرى لم تشاهد أية قوات عسكرية غربية في الأراضي السورية أو المصرية وحتى شمال إفريقيا.
    وحكم أبو نمي في مكة عام 1271 باستثناء فترات قصيرة متقطعة إلى أن أطاح به كل من جمّاز ابن شيحا حاكم المدينة وغانم ابن إدريس. ثم تبادلا الحكم معه عام 1288 إلى أن توفي في التاسع من تشرين أول (أكتوبر) 1301 وقد اعتاد ابنه حميضة أن يقول عنه: إنه يمتاز بخمس فضائل أو خصال حميدة وهي: الشرف والكرم والصبر والشجاعة وقرض الشعر. وكان أبو نمي قد تلقّب باسم (نجم الدين) لكن المؤرخين العرب يجمعون على أنه كان عسكرياً أكثر منه متديناً: "كان رجلاً قوياً ووقوراً أسمر البشرة يحب الإقامة في الصحراء أكثر من المدينة) وقد حكم الثلاثين سنة الأخيرة وحده وعلى نحو مستقل، ورغم الاضطرابات التي حدثت في أول حكمه لكنه وطد الأمن والاستقرار فيما بعد"(3) ويقول أحد المؤرخين إن أبا نمي أنجب ثلاثين ولداً بينما يقول آخر: إنه أنجب (14) ولداً و (12) بنتاً وقبل وفاته وهو في السبعين من عمره تنازل عن الإمارة لمصلحة اثنين من أولاده وهما: حميضة ورميثة وقد اتبع أحفاده هذا التقليد في التنازل عن الحكم عندما تسوء صحتهم بسبب التقدم في العمر ولضمانة تثبيت الولد المرغوب لتسلم منصب الإمارة في حياة والده الأمير وبدعم منه. وتمّ دفن أبي نمي في المعلى وفق مراسم جنائزية كانت مألوفة في أوساط الأشراف حيث يطاف بالتابوت حول الكعبة سبع مرات وبنيت فوق قبره قبة دفن تحتها بعد ذلك العديد من أشراف مكة.
    وفي نفس ذلك العام 1301 حضر حاكم الكرك بيبرس الجاشنكيز للحج في مكة فقابله (أبو غيث) أحد أبناء أبي نمي وشكا له من حكم شقيقيه رميثة وحميضة، فما كان منه إلا أن أيّد ودعم أبا غيث وشقيقاً آخر له يدعى عطيفة. واستدعى كلاً من حميضة ورميثة وطلب منهما مغادرة مكة برفقته بعد أن ظهر لهما قوته. لكنهما سرعان ما تمكنا من الهرب. وعادا إلى مكة عام 1303(4) وهكذا بدأ النزاع فيما بين الأشقاء الأربعة من جهة وبين كل واحد منهم ومساعده من جهة أخرى. ومن يرغب في الاطلاع على منازعاتهم وتبادلهم للإمارة في العقد التالي فليطالع تاريخ ابن خلدون وتاريخ الفاسي.
    لقد تصادم حميضة مع رميثة وهو الشقيق الأقوى، وهرب حميضة إلى العراق ولجأ عند الحاكم المغولي وطلب منه مساعدته بحملة عسكرية لاحتلال مكة مقابل الدعاء له في خطبة صلاة الجمعة.
    وكان حميضة عام 1314 خلال صدام بين الأشقاء قد قتل شقيقه أبا غيث(5). ويقول ابن زيني دحلان في كتابة (الجداول المرضية) إن حميضة أخذ جثة شقيقه وأخفاها في منزله ثم إنه دعا أشقاءه إلى وليمة، وعندما وصلوا وتحلقوا حول الطعام خرج عبيده شاهري السيوف ووقف عبد وراء كل شقيق منهم بينما أحضرت جثة شقيقهم أبي غيث ليشاهدوها. كان هدف حميضة بالطبع ترويعهم وقد نجح في ذلك لدرجة أنهم بدأوا يخططون لقتله منذ ذلك اليوم. والأرجح أن ردود الفعل لتلك الوليمة هي التي أرغمته بعد ذلك على الفرار واللجوء إلى المغول في العراق.
    ونحو عام 1318 عاد حميضة من العراق مع قوات شيعية ودعم مغولي وأزال رميثة عن الحكم. وسرعان ما أوفى بعهده في جعل الخطبة باسم أبي سعيد خوربندر المغولي حاكم بغداد بدل الناصر حاكم مصر. واستشاط الناصر غضباً وأرسل قوة لاعتقال حميضة الذي هرب من مكة بعد أن سمع باقتراب القوة المصرية لكنه قتل بعد ذلك عام 1320 في وادي النخل على يد مملوك تركي دفع له الحاكم المصري مكافأة. وفي غضون ذلك تحرك عطيفة الذي كان في مصر لاستلام إمارة مكة وكان معه رميثة الذي أصبح مساعداً له.
    في تلك الفترة وفي محاولة من أبي سعيد المغولي حاكم بغداد لإظهار قوته وثروته إلى المكيين والحجاج الآخرين فقد أرسل محملاً ذهبياً بلغت كلفته (250) ألف دينار، لكن الناصر حاكم مصر استرد شعبيته في الأراضي المقدسة بما أرسل للحجازيين وخاصة في المدينة ومكة من قمح ومواد تموينية أخرى.


    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل الخامس

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي الجمعة 29 مايو - 21:54

    وفي أثناء حكم رميثة وصل إمبراطور ماندينغو (غرب السودان) الزنجي المدعو منسّى موسى للحج وبرفقته قافلة عظيمة بلغ عدد الرجال فيها (15) ألف رجل وكان مع الإمبراطور عدة أكياس ملأى بالذهب وقد تذكره الحجاج الذين شاهدوه طويلا ورووا قصصاً كثيرة عنه.
    ويصف (أ. و. بوفيل) في كتابه (قوافل الصحارى القديمة: مقدمة في تاريخ غرب السودان) حجة منسّى موسى على النحو التالي:
    "وصل الإمبراطور الزنجي إلى مكة عام 1325 للحج، وكانت حجته في غاية الفخامة لدرجة أن اسمه سرعان ما انتشر في العالم المتحضر وعلى نطاق واسع. لقد شرع في عبور الصحراء الإفريقية عام 1324 في السنة السابعة عشرة من حكمه وبرفقته آلاف الأتباع. كان يمتطي صهوة حصان يتقدمه خمسمائة عبد قوي البنية كل واحد منهم يحمل قضيباً من الذهب يزن خمسمائة مثقال (أي زهاء ثلاثة كيلوغرامات) وبين أحماله فوق الجمال مائة كيس من الذهب يزن الكيس الواحد ثلاث قناطير (أو ثلاثمائة باوند أي زهاء (150) كيلوغراماً). واجتازت القافلة الفخمة والضخمة في آن منطقتي الوالاتا والتوت، ومن هناك إلى القاهرة في الطريق إلى مكة، كان من شأن ورع وتدّين منّسى موسى وكرمه الشديد وملابسه الفخمة وسلوك أتباعه المهذبين أن ترك انطباعاً رائعاً عنه، كان مظهر الإمبراطور بقامته وشحوب وجهه متميزاً، ولم يكن الهدف من الرحلة إلا القيام بواجبه الديني ورغم فخامة القافلة وأبهتها فلم يكن من ورائها أي هدف سياسي، بل إن أعوانه أقنعوه بصعوبة بضرورة أن يوقف صلواته وتلاوته للقرآن فترة وجيزة حتى يقوم بزيارة رسمية إلى سلطان مصر. وعندما حان الوقت لإكمال الرحلة نحو الحجاز أمر سلطان مصر بترتيبات معينة لتأمين الراحة للإمبراطور الزنجي في رحلته.
    لقد زار العمري القاهرة بعد اثنتي عشرة سنة من وصول منسّى إليها في طريق عودته إلى بلاده. ويقول العمري إنه وجد الناس ما يزالون يمتدحون الإمبراطور منّسي ويثنون عليه أفضل الثناء، وتعود شعبيته هذه إلى كميات الذهب التي وزعها في القاهرة من جهة وبسبب الأرباح والمكاسب التي حققها القاهريون من التجارة مع مرافقيه وأتباعه الذين كان الواحد منهم يشتري الثوب بخمسة دنانير بينما لا يزيد ثمنه عن دينار واحد من جهة أخرى. وقد اشترى الزنوج ملابس فاخرة كما اشتروا العبيد من سوق العبيد في القاهرة، وخاصة العبيد البيض (المماليك). وبعد زيارة منّسى موسى للقاهرة في طريقه إلى مكة وفي طريق عودته منها ازدادت كميات الذهب المتداولة في مصر لدرجة انخفضت معها قيمته، ويؤكد العمري أن قيمة الذهب في مصر كانت أقل منها في سورية عند زيارته لها.
    ولم يقتصر بذخ منّسي موسى ورفاقه في الإنفاق على القاهرة، فعندما وصل إلى مكة كان أشد كرماً، وليس عجيباً بعد ذلك إذا علمنا أن خزائنه فرغت بعد عودته إلى بلاده وتعين عليه أن يملأها مرة أخرى بالذهب والموارد الأخرى".
    ويضيف بوفيل في كتابه (قوافل الصحارى القديمة): "في طريق عودته اصطحب معه شاعراً من غرناطة يدعى (السهلي) تعرف عليه في مكة. وبينما كان منّسي يقطع الصحراء في طريق عودته وصلت إليه الأنباء بسقوط مدينة (غاو) عاصمة سونغاي في وسط النايجر، وأن أحد قادته المدعو ساغمانديا هو الذي احتل غاو، وابتهج منّسي بذلك كثيراً وقرر زيارة غاو قبل عودته إلى بلاده فدخلها بأبهة وفخامة ليستقبله على بوابتها ملك سونغاي بنفسه ويقدم له الخضوع والاحترام".
    وهكذا انتهت رحلة الحج التي قام بها منّسى إمبراطور وسط إفريقيا بالغ الثراء والكرم والورع.
    وثمة رحالة آخر زار المنطقة في تلك الفترة وهو ابن بطوطة الذي يسمى بحق (أمير الرحالة) ويصف مكة في كتابه (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) على النحو التالي(6):
    "وكانت إمارة مكة في عهد دخولي إليها للشريفين الأجلين الأخوين أسد الدين رميثة وسيف الدين عطيفة ابني الأمير أبي نمّي بن أبي سعد بن علي بن قتادة الحسنيين، ورميثة أكبرهما سناً ولكنه كان يقدم اسم عطيفة في الدعاء له بمكة لعدله، ولرميثة من الأولاد أحمد وعجلان وهو أمير مكة في هذا العهد، وتقيّة وسند وأم قاسم. ولعطيفة من الأولاد محمد ومبارك ومسعود ودار عطيفة عن يمين المروة ودار أخيه رميثة برباط الشرابي عند باب بني شيبة وتضرب الطبول على باب كل واحد منهما عند صلاة المغرب من كل يوم.


    "ويعرف أهل مكة بالأخصال الجميلة والمكارم التامة والأخلاق الحسنة والإيثار إلى الضعفاء والمنقطعين وحسن الجوار للغرباء… فإذا طبخ(7) أحدهم خبزه واحتمله إلى منزله وتبعه المساكين فيعطي لكل واحد منهم ما قسم له ولا يردّهم خائبين ولو كانت له خبزة واحدة فإنه يعطي نصفها أو ثلثها طيب النفس بذلك… وأهل مكة لهم ظرف ونظافة في الملابس وأكثر ملابسهم البياض فنرى ملابسهم أبداً ناصعة ساطعة ويستعملون الطيب كثيراً ويكتحلون ويكثرون السواك بعيدان الأراك الأخضر، ونساء مكة فائقات الحسن بارعات الجمال ذوات صلاح وعفاف، وهن يكثرن التطيب حتى إن إحداهن لتبيت طاوية وتشتري بقوتها طيباً، وهن يقصدن الطواف بالبيت في كل ليلة جمعة وتغلب على الحرم رائحة طيبهن وتذهب المرأة منهن فيبقى أثر الطيب بعد ذهابها عبقاً…
    "وكان بمكة أيام مجاورتي بها حسن المغربي المجنون وأمره غريب وشأنه عجيب وكان قبل ذلك صحيح العقل خادماً لولي الله تعالى نجم الدين الأصبهاني أيام حياته وقد سحره وأخذ عقله أحد الأولياء، وإذا جاع خرج إلى السوق بين الصفا والمروة فيأكل هناك ما يحب لا يصده أحد ولا يمنعه لأن من يأكل عنده تظهر البركة والنماء في بيعه، ومتى أتى السوق تطاول الناس بأعناقهم إليه، كل منهم يحرص على أن يأكل من عنده لما جربوه من بركته ولم يزل دأبه كذلك حتى سنة ثمان وعشرين فحج فيها الأمير سيف الدين يلْمَلَك فاستصحبه معه إلى ديار مصر فانقطع خبره نفع الله تعالى به.
    ومن عاداتهم في يوم الجمعة أن يلصق المنبر المبارك إلى سفح الكعبة الشريفة… فإذا خرج الخطيب أقبل لابساً ثوباً أسود معتماً بعمامة سوداء وعليه طيلسان أسود كل ذلك من كسوة الملك الناصر في مصر، وعليه الوقار والسكينة وهو يتهادى بين رايتين سوداوين يمسكهما رجلان من المؤذنين وبين يديه أحد القومة في يده الفرقعة وهي عود في طرفه جلد رقيق مفتول ينفضه في الهواء فيسمع له صوت علا يسمعه من بداخل الحرم وخارجه، فيكون إعلاماً بخروج الخطيب، ولا يزال كذلك إلى أن يقرب من المنبر فيقبل الحجر الأسود ويدعو عنده ثم يقصد المنبر والمؤذن الزمزمي وهو رئيس المؤذنين بين يديه لابساً السواد والسيف على عاتقه ممسكاً له بيده، وتركز الرايتان جانبي الممر، فإذا صعد أول درجة من المنبر قلّده المؤذن السيف فيضرب بنصل السيف ضربة في الدرج يُسمع بها الحاضرين. ثم يضرب في الدرج الثاني ضربة ثم في الثالث أخرى فإذا استوى في أعلى درجة ضرب الضربة الرابعة ووقف داعياً بدعاء خفي مستقبل الكعبة ثم يقبل على الناس فيسلم على يمينه وشماله ويرد الناس عليه السالم ثم يقعد ويؤذن المؤذنون في أعلى قبة زمزم في حين واحد. فإذا فرغ الأذان خطب الخطيب خطبة يكثر فيها من الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم ) وعلى آله والخلفاء الأربعة وسائر الصحابة وسبطيه وأمهما وخديجة جدتهما ثم يدعو للملك الناصر يوسف ابن علي ابن رسول ثم للسيدين الشريفين الحسنيين أميري مكة سيف الدين عطيفة وهو أصغر الأخوين ويقدم اسمه لعدله وأسد الدين رميثة ابن أبي نمّي أبي سعيد بن علي بن قتادة وقد دعا لسلطان العراق مرة ثم قطع ذلك. فلما فرغ من خطبته وانصرف والرايتان على يمينه وعن شماله والفرقعة أمامه إشعاراً بانقضاء الصلاة ثم يعاد المنبر إلى مكانه القديم…
    ومن عادتهم في ذلك أن يأتي أمير مكة في أول يوم من الشهر وقواده يحفون به وهو لابس البياض معتم متقلد سيفاً وعليه السكينة والوقار فيصلي عند المقام الكبير ركعتين ثم يقبل الحجر ويشرع في الطواف ورئيس المؤذنين على أعلى قبة زمزم. فعندما يكمل الأمير شوطاً واحداً ويقصد الحجر لتقبيله يندفع رئيس المؤذنين بالدعاء له والتهنئة بدخول الشهر رافعاً بذلك صوته ثم يذكر شعراً في مدحه ومدح سلفه الكريم، ويفعل هكذا في السبعة أشواط فإذا فرغ منها ركع عند الملتزم ركعتين ثم ركع خلف المقام ركعتين أيضاً ثم انصرف. ومثل هذا يفعل سواء أراد سفراً أو قدم من سفر أيضاً.
    وإذا حل شهر رجب أمر أمير مكة بضرب الطبول والبوقات إشعاراً بدخول الشهر ثم يخرج في أول يوم منه راكباً ومعه أهل مكة فرساناً ورجالاً على ترتيب عجيب وكلهم بالأسلحة يلعبون بين يديه والفرسان يجولون ويجرون والرجال يتواثبون ويرمون بحرابهم إلى الهواء ويلقفونها والأميران رميثة وعطيفة ومعهما أولادهما وقوادهما مثل محمد ابن إبراهيم وعلي وأحمد ابني صبيح وغيرهم من كبار أبناء الحسن ووجوه القواد وبين أيديهم الرايات والطبول والدبادب ويسيرون حتى ينتهوا إلى الميقات ثم يعودون بالرجوع على معهود ترتيبهم إلى المسجد الحرام فيطوف الأمير بالبيت والمؤذن الزمزمي بأعلى قبة زمزم يدعو له عند كل شوط. وهذا اليوم عندهم عيد من الأعياد يلبسون فيه أحسن الثياب ويتنافسون في ذلك. وأهل مكة يحتفلون لعمرة رجب الاحتفال الذي لا يعهد مثله وخصوصاً أول يوم منه ويوم خمسة عشر والسابع والعشرين.
    وأهل البلاد الموالية لمكة مثل بُجيلة وزهران وغامد يبادرون لحضور عمرة رجب ويجلبون إلى مكة الحبوب والسمن والعسل والزبيب والزيت واللوز، فترخص الأسعار بمكة ويرغد عيش أهلها وتعمم المرافق، ولولا أهل هذه البلاد (القبائل) لكان أهل مكة في شظف من العيش". –انتهى الاقتباس-.
    وهكذا ينطبق وصف ابن بطوطة على الوصف الذي أورده ابن جبير. وفي رحلته الثانية إلى مكة كتب ابن بطوطة أواخر عام 1328 وأوائل عام 1329 عن حدوث اضطراب كبير في مكة بين الأمير عطيفة وبين قائد حرس السلطان المصري المدعو (أيدامور) وفيما يلي تلخيص الحادث: "إن تاجراً غنيا تعرض للسرقة فشكا أمره للأمير أيدامور قائد حرس السلطان المصري الذي كان في مكة للحج. فاستدعى أيدامور مبارك ابن الأمير عطيفة وطلب منه التخلص من اللصوص فأجابه مبارك: "أنا لا أعرف اللصوص فكيف أتخلص منهم؟ وعلى أي حال إن اليمنيين تحت حمايتنا وليس لكم أي سلطة عليهم أما إذا سرق شيء من المصريين أو السوريين فأخبرني بذلك حتى أتدبر الأمر" فغضب أيدامور ورد عليه بعنف بل إنه ضربه وأوقعه أرضاً ونشب القتال فوراً، ومن ضمن الذين قتلهم الأتراك (والمقصود مماليك مصر) امرأة يقال: إنها كانت تحرض وتشجع المكيين على القتال. وتدخل القضاة والمؤذنون والخطباء وغيرهم وحملوا المصاحف بين المقاتلين حتى توقف القتال تدريجياً. وعندما سمع الملك الناصر في مصر بما حدث غضب كثيراً وأرسل بعض قواته إلى مكة فهرب عطيفة وابنه مبارك بينما ذهب رميثة وأبناؤه إلى وادي نخلة. ولدى وصول القوات المصرية أرسل رميثة مبعوثاً يطلب الأمان فمنح الأمان وكرمته القوات المصرية التي عادت أدراجها بعد ذلك إلى مصر لأن الملك الناصر كان رجلاً حليماً".
    الجدير بالذكر أن ابن بطوطة يتذمر من شدة الحرارة في مكة لدرجة أن حرارة الحجارة في ساحة الحرم أحرقت قدميه(Cool.
    وفي العام الثاني أحضر الحجيج العراقي معه فيلاً من بغداد أرسله الملك التتري أبو سعيد خوربندر. وكان الحجيج العراقي يصطحب معه الفيل أينما ذهب بل إن الفيل طاف بالكعبة وركع أمامها كما زاد المدينة ولم يعرف أحد غاية الملك التتاري من إرسال الفيل إلى الحج، وبلغت نفقات الفيل منذ انطلاقه من بغداد حتى موته على أبواب المدينة (30) ألف دينار(9).
    كان النفوذ المصري يتزايد في الحجاز آنذاك، وثمة منازعات بين الشقيقين اللذين يحكمان مكة وهو ما اضطر السلطات المصرية لاعتقال أحدهما ثم الإفراج عنه من حين لآخر ودون انقطاع حتى استدعاهما الملك الناصر إلى القاهرة واعتقل عطيفة حال وصوله وظل في السجن حتى توفي عام 1343 بينما عاد رميثة ليحكم مكة بمساعدة ابنه أحمد لبعض الوقت. وبعد أن تعب الحاكم المصري في مكة من مشاجرات الأشراف ومحاولات زيادة النفوذ اليمني هناك لمجابهة نفوذه والحدّ منه، فكر بإنهاء حكم الأشراف كلياً، لكن العلماء في مصر أقنعوه بالعدول عن هذه الخطة لأن من شأن نزع الإمارة عن الأشراف أحفاد النبي ( ) أن يتسبب في اضطرابات في أوساط المسلمين حتى في مصر نفسها.
    في ذلك الوقت قام رميثة بإرسال ابنه أحمد في مهمة عسكرية عبر نجد فاحتل الحلة في العراق حيث كان حكم الخان المغولي قد بدأ في الانحلال والضعف، لكن أحمد قتل بعد ذلك، وكان والده قد حذره لدى مغادرته مكة من الغيلان في العراق، وعندما سمع بنبأ مصرعه قال: إنه كان يعرف أنه سيتعرض للأذى في العراق(10) وكان من الطبيعي أن يخشى العراقيون انتقام رميثة، ونتيجة للفوضى فيما بين النهرين واختلال حبل الأمن في الصحراء العراقية بعد انهيار الحكم المغولي، فقد توقفت قوافل الحجيج العراقي عن الذهاب إلى مكة طيلة (11) سنة أي إلى حين حكم عجلان ابن رميثة الذي تنازل له رميثة عن الحكم عام 1344 قبل سنتين من وفاته.
    وتسمى عجلان بلقب (مجد الدين) كما أطلق على نفسه لقب (السريع) وكان في السابعة والثلاثين عندما خلف والده وعاش حتى بلغ السبعين من العمر وحكم على فترات متقطعة زهاء (25) سنة. وخلال حكمه ضعف النفوذ العراقي بل اختفى تماماً كما انتهى النفوذ اليمني وهكذا استأثر المماليك في مصر بالنفوذ والسيطرة في الحجاز.
    وكان رميثة قبل ذلك قد وجد أن من الأنسب تعيين ابنه ثقبة حاكماً مساعداً مع عجلان. وفي عام 1346 قرر سلطان مصر فرض شقيقهما الثالث واسمه (سند) للاشتراك معهما في الحكم.
    وفي عام 1350 اشترك المصريون وأتباع أمير (أو حاكم) مكة (ويعني بذلك الأشقاء الثلاثة وأتباعهم) في هجوم مشترك ضد ملك اليمن (مجاهد بن علي) عندما كان في منى في أثناء مناسك الحج. وتم اقتحام معسكره ونهبه واعتقال مجاهد بن علي وإرساله مخفوراً إلى مصر. لكن السلطان المصري أعاده إلى اليمن مع حاشية مناسبة وعندما وصل إلى ينبع في طريقه إلى اليمن تم اعتقاله مرة أخرى بتهمة التطاول على سلطان مصر ومزاعمه فيما يتعلق بسوء المعاملة التي لقيها في مصر، وهكذا لم يكمل رحلته بل أرسل إلى الكرك لسجنه فيها وبقي في الكرك فترة ثم أفرج عنه فزار بيت المقدس وتوجه إلى اليمن عن طريق ميناء الأديبة (الذي يواجه ميناء جدة على الساحل المصري).
    في عام 1358 أرسل حاكم مصر مع الحجيج قوة بقيادة الأمير جاركتمر المارديني الذي أحضر معه محمد بن عطيفة لتسلم منصب الإمارة (أو الشريف الجديد) وحال وصول المملوك المارديني إلى مكة أرسل يستدعي سند الذي كان مع أشقائه في اليمن. وكان المارديني يريد تعيين سند حاكماً مساعداً مع محمد. وأحضر سند معه شقيقه مغيمس. وتلقّى عجلان تعليمات بضرورة زيارة مصر حيث تم اعتقاله فيها لدى وصوله. وبعد بضعة أشهر ثار المكيون وهاجموا سند والجنود المصريين، وظل محمد حيادياً، لكن عندما غادرت القوة المصرية مكة مع الحجيج المصري وجد أن من الأفضل له اللحاق بها والعودة إلى مصر.
    واستغل عجلان الفرصة وفرض حكمه على مكة بينما هرب سند إلى اليمن، أما مغيمس فقد قتل في اشتباك بين الأشراف كان للمصريين دور فيه عام 1359.
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل الخامس

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي الجمعة 29 مايو - 21:56

    عند ذلك عاد ثقبة الذي كان يعيش حتى ذلك الوقت حياة آمنة خارج مكة، عاد إلى مكة واستعاد النظام وتلقى وعداً من الجنود المصريين بأنهم سيغادرون جميعاً مكة ويلحقون بالحجيج المصري في ينبع.
    في عام 1360 انضم أحمد إلى والده عجلان في الحكم ومنح ربع الموارد وحكم (25) سنة. وفي الخمس عشرة سنة الأخيرة من حكم عجلان اضطلع هذا الشرف ببناء العديد من القلاع وأحواض المياه والمبرات والتكايا (التي تقدم الطعام للفقراء)، والمدارس، وأوقف بشكل نهائي الضرائب التي كان عبيد مكة يحصلونها من الحجاج وعوض على العبيد من خزانته الخاصة. وكان يمتلك عدداً كبيراً من الزنوج والخيول والأسلحة والدروع. ومنذ عام 1359 وحتى 1369 سمح بالدعاء للسلطان المغولي في بغداد في خطبة الجمعة وكان السلطان المغولي يرسل إليه معونة سنوية حتى ذلك العام ومن ناحية أخرى قام –ربما بتحريض من مصر- بالتنكيل باليمنيين أتباع الطائفة الزيدية المقيمين في مكة، وتمّ جلد أحد المؤذنين لأنه كان يمتدحهم ويتقرب إليهم. حتى توفي تحت الجلد. وأعتقل زعماؤهم وربطوا إلى أعمدة خشبية وجلدوا بسياط من الجلد. وكان الأشراف أنفسهم يدعمون على نحو سري المذهب الشافعي الذي كان سائداً في الأقطار الإسلامية وتوفي عجلان في الجديدة في وادي المر عام 1375 وتم دفنه في المعلى بعد إجراء الشعائر الجنائزية التقليدية الخاصة بالأشراف.
    وخلفه ابنه أحمد (شهاب الدين) وسار على خطاه فحقق الطمأنينة والاستقرار في مكة. وسرعان ما ازداد قوة بحيث بدأت مصر تخشى جانبه. ووجهت إليه عدة دعوات لزيارة القاهرة لكنه كان يعتذر عن تلبيتها بكثرة مشاغله، وفي السنوات الأخيرة من حكمه اعتاد على ارتداء درع من الزرد ربما خشية وتحسباً من أقاربه أو من المصريين، وأمر بضرورة أن تقتصر ملابس الحجاج على ملابس الإحرام أي قطع الكتان، ولعل خشيته من الاغتيال هي التي منعته من الحج بعد ذلك. وقد كان ثمة ما يبرر مخاوفه لأنه مات مسموماً عام 1386(11) كما أن ابنه محمداً تعرض للاغتيال طعناً بخنجر بعد مائة سوم على وفاة والده ولم تعرف شخصية القاتل المجرم الذي هرب واختفى بين حشود الحجاج في منى(12). وكان محمد في العشرين من عمره وثمة ما يدعو للاعتقاد بأن أمير الحج المصري هو الذي خطط اغتياله بتحريض من عنان ابن مغيمس (أي ابن عمه لأن عجلان شقيق مغيمس) ولعل ما يؤكد هذا الاعتقاد أن عنان هو الذي خلفه في الحكم وكان عنان قد حضر إلى مكة مع الحجيج المصري ويبدو أن برقوق حاكم مصر أول حاكم من سلالة المماليك البرجية هو الذي عينه حاكماً على مكة في أثناء وجوده في القاهرة ولم يبق سوى التخلص من محمد بن أحمد بن عجلان فتم اغتياله على النحو المذكور.
    ويبدو أن برقوق اشترط عليه قبل تعيينه أن يقبل شريكين أو مساعدين في الحكم وهما أحمد ابن ثقبة وعقيل ابن مبارك ابن رميثة. وفي غضون ذلك كان كبيش يجمع الأتباع والأنصار من بين القبائل وعندما ظن أنه أصبح على درجة من القوة هاجم عنان لكنه قتل في إحدى المعارك وفي العام الثاني 1387 وافق برقوق على تنحية عنان وتعيين علي ابن عجلان مكانه رغم صغر سنه. وعاد عنان إلى مصر حيث توفي عام 1401.
    حكم علي سبع سنوات إلى أن قتل على يد أحد ضباطه فخلفه لمدة سنة واحدة محمد ابن عجلان بصفة نائب (أو وكيل) حسن ابن عجلان الذي كان في مصر عند مصرع علي. وفي ذلك العام بدأ تيمورلنك بحملته العسكرية ضد العرب ودخل إلى بغداد فاتحاً عام 1394 وبالتالي توقف مجيء الحجيج العراقي إلى مكة عدة سنوات.
    وحال وصول حسن ابن عجلان من مصر إلى مكة، عين ابنه بركات حاكماً مساعداً وبعد ذلك بسنتين استمزج رأي السلطان المصري بتعيين ابنه الثاني أحمد كحاكم مساعد ووافق السلطان على ذلك وأصدر أمره في نفس الوقت بتسمية الحسن (نائب السلطان) على الحجاز بأسره وأن يكون ولداه حاكمين على مكة… وقد بنى حسن المبرّات والتكايا وامتدحه الناس لعدله وكرمه وحلمه.
    في عام 1415 ولسبب لم يوضحه المؤرخون وربما يكمن السبب في تآمر أقاربه الحسينيين (حكام المدينة) في البلاط المصري، تم عزل الحسن وولديه وعين مكانهم رميثة ابن محمد لمدة سنة ثم عزل وأعيد الحسن إلى منصبه بعد أن أرسل ابنه بركات إلى سلطان مصر للمطالبة بإعادته إلى منصبه. وفي عام 1423 حدث نفس الشيء وانقطعت إمارته سنة أخرى عندما تم تعيين علي ابن عنان ابن مغيمس، ثم أعيد الحسن إلى منصبه، وتوفي بعد ذلك في مصر بينما كان يزور السلطان (المملوك) أشرف سيف الدين برسباي عام 1425 وهو في الرابعة والخمسين من عمره، وخلفه ابنه بركات. وكان حسن قد شاهد والده يحكم مكة باستقلال كامل في أيام سلالة المماليك البحريين، لكن في أيامه ازداد النفوذ المصري على نحو غير مسبوق في الحجاز مع بواكير سلالة المماليك البرجيين واضطر للقبول بالنفوذ المصري، وحكم الحسن (16) عاماً جمع خلالها ثروة كبيرة وامتدحه الناس لتقواه وورعه وقدرته الأدبية وأخلاقه الرفيعة.


    (ح) تعني حكم مكة




    (1) انظر س. سنوك هورغرونجي (مكة) الجزء الأول ص80.

    (2) وهكذا أصبحت كسوة الكعبة تأتي من مصر التي خصصت دخل قرية بأكملها لإنجاز الكسوة وذلك بموجب قرار أصدره السلطان الناصر محمد ابن قلاوون. وعلى أي حال فقد أتت الكسوة بعد ذلك من حلب مرتين على الأقل عام 1385 – 1394 وثمة تقارير بأن الكسوة أتت من أماكن أخرى مثل دمشق عام 1403 وبغداد عام 1404 (كتاب تنضيد العقود السنيّة بتمهيد الدولة الحسنية) و (خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام).

    (3) الحسيني: (كتاب تنضيد العقود السنية بتمهيد الدولة الحسنية).

    (4) ابن زيني دحلان (الجداول المرضية).

    (5) يقول ابن خلدون إنه قتل خلال معركة في وادي المر (وادي فاطمة).

    (6) المادة مقتبسة مباشرة من الكتاب المذكور أي أننا لم نترجم النص الإنكليزي – المترجم-

    (7) واضح أنه يعني خبز.

    (Cool تصل درجة الحرارة في مكة المكرمة أيام الصيف إلى 50 درجة مئوية أحياناً.

    (9) الفاسي: (شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام).

    (10) الفاسي: (تنضيد العقود) ويقول: إنه اعتمد في ذلك على (عمدة الطالب).

    (11) يقول ابن خلدون إنه توفي على فراشه.

    (12) يقول ابن خلدون: إن القاتل طعنه من الخلف عندما انحنى لتقبيل المحمل لدى وصوله من مصر وبقي يتلوى من الألم حتى فارق الحياة بينما اختفى القاتل.


    أنتهى الفصل الخامس
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty الفصل السادس

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي الجمعة 29 مايو - 21:58

    الفصل السادس : بركات الأول: أشقاؤه وأولاده (1425 – 1498)

    باستثناء فترات متقطعة قصيرة كان أشقاؤه ينوبون عنه فقد حكم بركات ابن الحسن منذ وفاة والده عام 1425 حتى وفاته عام 1455.
    ومثل والده اشتهر بالأدب وقرض الشعر وعندما زار مصر عام 1447 دعا السلطان ظاهر سيف الدين جقمق كافة الوجهاء والنبلاء والأدباء في القاهرة لمقابلته وذاعت شهرته لدرجة أن العديد من الطلاب كانوا يترددون عليه للنهل من علومه وثقافته، وخلال حكمه أصلح عين حنين وجامع حنين، كما أنشأ العديد من المبرات والتكايا في مكة نفسها ويقول الحسيني: إنها بنيت بشكل جيد لدرجة أنها كانت قيد الاستعمال في القرن الثامن عشر.
    يتضح من ذلك أن بركات كان موضع احترام ليس لنزاهته وعدله وقدراته الأدبية حسب، بل لورعه وأعماله الخيرية أيضاً. وبركات هو أول شريف يتلقى خلعة من سلطان مصر، ثم جرت العادة بعد ذلك على إرسال سلطان مصر خلعة للشريف الجديد، وكانت الخلعة بمثابة براءة التعيين. والخلعة أو الكسوة بحد ذاتها ليست أكثر من مجرد رغبة في إدخال السرور إلى قلب متلقيها كنوع من التكريم أو التشريف، وكان السلاطين يرسلون كسوة للكعبة نفسها ويتفننون في صنعها وزخرفتها، ولم يكن قبول الشريف للكسوة الخاصة به يعني قبوله بالتبعية للسلطان الذي أرسلها، فقد استمرت العادة بعد عهد بركات أن يرسل السلاطين كسوة لكل شريف سواء كان السلطان من العراق أو مصر أو القسطنطينية، وإذا لم يتلق الشريف الجيد كسوة أو أكثر فهذا يعني أن ثمة شكاً في شرعية حكمه.
    ويصف المؤرخون العرب موقف بركات من حكام مصر بالاستقامة والذكاء. وفي عهده أرسل سلطان مصر خمسين فارساً ومجموعة من المهندسين والبنائين لإصلاح وترميم الحرم المكي. وكان بركات يرافق المهندسين في العمل والإشراف على الصيانة والترميم، ورغم أن قادة الفرسان ورؤساء المهندسين الذين أرسلتهم القاهرة كانوا ينفذون أوامر الشريف بركات لكنهم في الواقع كانوا مستقلين عنه ويرسلون تقاريرهم بشكل مستقل إلى القاهرة عن سير العمل والوضع بشكل عام في مكة.
    وكان قائدهم يسمى أحياناً (أمير الأتراك في مكة) أو حتى (مفتش الديار المقدسة) وبعد أن ورث العثمانيون ذلك النظام أصبح قائد القوة النظامية يسمى (سنجق مكة) وله رتبة رفيعة في بلاط السلطان العثماني.
    في عام 1455 استخدم بركات الممثل السياسي المصري في جدة كقناة اتصال لنقل رغبته في تعيين خليفة له، وهكذا اكتسب المفوضون أو الممثلون المصريون وعلى نحو تدريجي مركزاً يشبه إلى حد بعيد مركز الممثلين أو المفوضين الإنكليز لدى أمراء وملوك الهند خلال القرن التاسع عشر وحتى بواكير القرن العشرين. وفي عهد بركات أصبح وجود الولاة أو المفوضين أو الوكلاء مقبولاً وعلى نحو منتظم رغم أن بعض الشرفاء كانوا يظهرون امتعاضهم من هذا التقليد. وكان نظام الموارد (أو الواردات) خلال حكم والده الحسن قد أصبح أقل استقراراً، وورث بركات عدة أنواع من الضرائب والرسوم واستمر في تحصيلها كما استمرت تلك الضرائب والرسوم عدة قرون أخرى.
    وعلى سبيل المثال بدأت العادة منذ عهده على أن يكون للشريف الحاكم ربع قيمة السفن المحطمة وكذلك ربع كافة الهدايا المرسلة أو المحضرة من الخارج (إلى شعب مكة) وعشر كافة البضائع المستوردة بما في ذلك عشر شحنات السفن الهندية التي تفرغ شحناتها في جدة.
    ومنذ أواسط القرن الخامس عشر تم تخصيص نسبة من واردات (جمارك) جدة إلى الممثل المصري وفي وقت لاحق إلى الباشا العثماني في الحجاز، وكانت النسبة تتراوح بين ربع الجمارك ونصفها. وإذا توفي غريب في مكة وليس له وارث فيها تصبح ثروته من حق الشريف. كما كان الشريف يحصل على الزكاة التي يتم تحصيلها من البدو إذا لم يكونوا في منتهى الفقر، ويخصص نصف هذه الموارد العامة لتوزيعها على زعماء وكبار أسر الأشراف.
    ومع الوقت فرضت عدة ضرائب متنوعة جديدة على الحجاج سواء لدى وصولهم إلى ميناء جدة أو وهم في الطريق إلى مكة. وبالإضافة إلى ذلك إذا فكر حاج ثري بإدخال تحسينات أو زخرفة على الكعبة فيتعين عليه الحصول على الموافقة من الخليفة أولاً ومن الشريف ثانياً، وجرت العادة أن يدفع الحاج الثري مبلغاً من المال إلى الشريف، ولم تكن هذه المبالغ زهيدة بل كانت تساوي أحياناً كلفة التجميل أو التحسين والزخرفة.
    ولان سكرتير أو وزير الشريف هو الذي يشرف على هذا ويضطلع بالأمور المالية، اعتاد الأشراف على تعيين أجانب لهذا المنصب. كما أن ضباط الجمارك كانوا إما من الغرباء أو من أسرة الشريف. أما حكام القرى والبلدات الصغيرة والمقاطعات فكانوا غالباً من شيوخ البدو أو من الأشراف، بينما كان رجال السيف أو الحراس من العبيد المعتوقين الذين اشتروا لأنفسهم أيضاً عبيداً ودربوهم على الفنون القتالية. وفي حوزة الشريف آنذاك سرية أو أكثر من الزنوج المسلمين فضلاً عن عدد من الجنود المرتزقة المحترفين (معظمهم من جنوب الجزيرة وبعضهم ليسوا عرباً) وكان باستطاعته استدعاء القبائل العربية للقتال إلى جانبه خاصة تلك القبائل التي تتلقى معونات مالية منه على نحو منتظم. ويذكر المؤرخون العرب أنه عندما كان يحضر مبشرٌ بأخبار سارة فإنه يدخل إلى بيوت الأشراف بيتاً وراء آخر لإبلاغهم بالبشارة وفي كل بيت يتلقى خلعة بينما يبادر كافة الأشراف إلى رفع الأعلام على منازلهم. ومع ذلك كان مستوى معيشة الأشراف متوسطاً بشكل عام. ولم يكن ثمة فرق بين الشريف الحاكم ومواطنيه سوى عمامته الكبيرة اللهم باستثناء المراسم أو المناسبات الخاصة عندما كان يرتدي عباءة واسعة الأكمام مطرزة بخيوط الذهب، ورغم منصبه كحاكم فقد كان الناس يخاطبونه مباشرة وببساطة سواء باسمه أو (يا أبا فلان) وخاصة من قبل البدو وهي عادة ما زالت متبعة حتى يومنا لأن البدو غالباً لا يعترفون بالألقاب.
    عندما توفي الشريف بركات في وادي العبر ودفن في المعلى كان ابنه محمد بعيداً في اليمن يتفقد ممتلكات والده هناك، لكنه عاد على الفور لاستلام الحكم بتوصية ودعم (جاني بك) ممثل السلطان المصري في الحجاز. وفي عام 1447 قبل وفاة بركات ببضع سنوات قام كبير وزراء السلطان العثماني (مراد الثاني) بالحج في موكب باذخ أعطى صورة عن عظمة السلطان العثماني وفي فترة مرض الشريف بركات وردت الأخبار المثيرة عن سقوط القسطنطينية(1) بيد الأتراك. وكانت القسطنطينية آنذاك أعظم وأفخم عاصمة مسيحية سبق أن صمدت أمام هجمات المسلمين منذ القرن الثامن كما صمدت أمام أكثر من حملة سيرها العباسيون لاحتلالها وأخيراً سقطت على أيدي السلطان محمد العثماني الذي أصبح اسمه في التاريخ بعد ذلك (محمد الفاتح) نسبة إلى افتتاح القسطنطينية.
    واقتفى محمد خطى والده في صيانة وترميم وإصلاح المباني داخل الحرم وخارجه وفي داخل مكة وأعاد بناء مسجد ميمونة وهو المكان الذي دفنت فيه (ميمونة) زوجة الرسول (صلى الله عليه وسلم ) وبقي المسجد والقبر إلى أن دمره الوهابيون في القرن التاسع عشر.
    وفي عام 1467 أمر السلطان المملوكي في مصر قايتباي بوقف الضرائب عن الحجاج وعوّض مكة عن ذلك بمعونة مالية سنوية كما أصدر تعليماته بنقش هذا القرار على أحد الأعمدة داخل الحرم. وأجريت الإصلاحات على الأماكن المخصصة للحجيج المصري ومسجد ومئذنة الحجيج المصري فضلاً عن بناء منزل جديد ومناسب لأمير الحجيج المصري، وطلي مسجد المزدلفة بكلس أبيض ونظف بئر جبل عرفات ونظفت أقنية المياه التي تنحدر من جبل الرحمة إلى وادي النعمان وأجريت المياه فيها كما كان الشأن قبل (160) سنة. وفي كل عام كانت تصدر أوامر جديدة في القاهرة سواء للترميم أو الصيانة أو بناء منشآت جديدة. وفي عام 1476 أمر السلطان قايتباي بتغطية سقف الكعبة من الداخل بالرخام وفي العام التالي أمر ببناء أربع مدارس، مدرسة لكل مذهب من مذاهب السنة الأربعة بالإضافة إلى مبرة جديدة.
    في غضون ذلك أي في عام 1472 منع أمير الحج المصري الحجيج العراقي من الحج، واعتقل المصريون أمير الحج العراقي وحالوا بين العراقيين وبين دخول مكة وفي عام 1476 تكرر الحادث ومنع أمير الحجاج المصري دخول المحمل العراقي إلى مكة رغم أن العراقيين عرضوا دفع مبلغ كبير كصدقة للمكيين.. وعاد المحمل العراقي إلى بغداد.
    وفي العام التالي 1477 ولأسباب غير واضحة هاجم الشريف بقواته مدينة جيزان على ساحل البحر الأحمر عند الحدود اليمنية وأحرقها ودمر قلعتها، وكانت جيزان طيلة تلك الفترة موضع نزاع لكنها في معظم الأحيان خاضعة للأشراف. وكانت وارداتها من مناجم الملح في الزهراء محترمة. وفي أوائل القرن التاسع عشر كانت واردات الشريف من جيزان مبلغاً كبيراً سواء من الجمارك والضرائب أو مناجم الملح الصخري(2) وتعود جيزان الآن إلى الحجاز في العربية السعودية مع أن سكانها يمنيون.
    في عام 1479 حضر السلطان قايتباي بنفسه للحج، والسلطان قايتباي ينحدر من أصل شركسي وكان مملوكاً أعتقه السلطان جقمق الذي اشتراه وهو صبي بخمسين ديناراً. وبعد أن تدرب قايتباي على الفنون العسكرية والفروسية اختاره جقمق لمرافقته وذلك لفروسيته وذكائه، ومن موقعه هذا استطاع قايتباي جمع الأنصار والأتباع حتى أصبح سلطاناً. وعندما قرر الحج اصطحب معه عدداً هائلاً من العبيد والمماليك وكانوا حاشية القصر. ويقال: إن أتباعه ومماليكه كانوا يتصرفون (بوقاحة وتعالي وغطرسة)(3).
    وقال قايتباي: إنه حلم بأنه يتعين عليه غسل الكعبة من داخلها بنفسه، وقام بغسل الكعبة فعلاً وسط مراسم واحتفال شارك فيه كافة العلماء وحافظ مفاتيح الكعبة الشيخ عمر ابن رجب الشيبي. وعند مغادرته الحجاز أرسل قايتباي إلى الشريف عُشر رسوم الحجيج اليماني أي أنه منحه حصته من هذه الرسوم. كانت العلاقات بينهما ودية لدرجة أن الشريف محمد أطلق على أحد أبنائه اسم (قايتباي). واستمر قايتباي في إرسال صدقاته إلى المدن المقدسة في الحجاز وفي العام التالي عندما سمع بأن صاعقة خربت مسجد الرسول في المدينة وأحرقت جزءاً كبيراً منه بكى كثيراً وأمر بإعادة بنائه على نفقته الخاصة.
    في ذلك الوقت أي في أواخر عهد الشريف محمد وردت الأخبار بازدياد قوة الشاه إسماعيل الصفوي الفارسي الذي بدأ الصراع مع الإمبراطورية العثمانية وبذلك ازدادت مشاكل الشريف السياسية.
    توفي الشريف محمد عام 1459 وأنجب (16) ولداً وخلفه منهم بركات الذي تلقى علومه أيام شبابه في مصر وبذلك اشتهر بالعلوم والورع مثل والده وجده حتى قبل أن يخالف والده في منصب الإمارة.
    وإذا كان عهدا كل من بركات بن الحسن وابنه محمد قد تميزا بتصاعد النفوذ المصري غير أنهما عززا الدور الروحي للأشراف ووطدا الأمن والسلام في مكة. ونتيجة للجهود التي بذلاها وسار على نهجها بركات ابن محمد (أو بركات الثاني) أصبح للأشراف صفة قدسية ومكانة خاصة كأمراء مكة لا ينازعهم في ذلك أحد وإن كان بعض الأشراف يتعرضون من حين لآخر لمعاملة سيئة من الملوك والأباطرة المجاورين لأسباب سياسية. لكن العائلة استمرت في الحكم بموافقة وتبجل واحترام من العالم الإسلامي.




    (1
    ) اقتحم السلطان محمد الفاتح أسوار القسطنطينية في 29 من أيار 1453 ومنذ ذلك التاريخ أصبح اسمها استانبول واسلامبول والأستانة.

    (2) س. ديدييه (الشريف الكبير في مكة) ص106.

    (3) السير ويليام موير (المماليك أو سلالة العبيد في مصر).

    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty الفصل السابع

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي الجمعة 29 مايو - 22:06

    الفصل السابع : بركات الثاني (1495 – 1524)

    عندما كان يافعاً أرسله والده لتلقي العلم في مصر ورافقه القاضي إبراهيم الضهيري، وفي قائمة الأساتذة الذين كان يتردد عليهم للتعلم على أيديهم ثمة أسماء بعض النساء، وهذا يعني وجود عدد من الإناث بين الأساتذة والعلماء في مصر آنذاك، وحقق بركات ابن محمد (أي بركات الثاني) تقدماً ملحوظاً في علوم الدين حتى اعتبر وهو في ريعان شبابه من العلماء.
    وبعد وفاة والده محمد بن بركات وافق سلطان مصر (محمد بن قايتباي) على تعيينه خليفة والده، لكنه سرعان ما وجد نفسه في موقف صعب بسبب معارضة شقيقيه هزاع وأحمد الجزان، ورغم اضطرابات صغيرة حدثت في مستهل حكمه غير أن ولايته انتهت بسلام ويبدو أنه تأثر كثيراً بزوجته الأخيرة وكان سعيداً معها.
    لقد حاول في البداية التفاهم مع شقيقيه لكنهما استطاعا الإطاحة به ونهب خيوله حتى يمنعوه من القيام بهجوم معاكس وهكذا قرر بركات الثاني المعروف بدماثته الانتظار في جدة إلى حين موسم الحج التالي، حيث غادر إلى مكة برفقة الحجيج المصري، وتم اعتقال هزاع ونفي إلى ينبع ورغم تعهده بعدم محاولة مضايقة شقيقه لكنه جمع جيشاً وهاجم مكة وهزم بركات في المعشر(1) ففر بركات يحاول جمع الأنصار إلى أن سمع بموت هزاع حيث حاول (أحمد الجزان) شقيق هزاع تنصيب نفسه أميراً على مكة، لكن بركات وصل في الوقت المناسب وتلقى الخلعة ورسالة ودية من سلطان مصر.
    ورافق بركات الحجيج المصري إلى ينبع لأن أحمد الجزان نهب الحجيج الشامي ولذلك تم تخطيط حملة تأديبية ضده… لكن قوات بركات وقوات أمير الحج المصري تعرضت للهزيمة قبل الاستعداد للمعركة واستطاع أحمد الجزان أسر إبراهيم ابن بركات. كان من شأن تلك الهزيمة أن تشجع أحمد الجزان وجمع قوة إضافية لمهاجمة مكة نفسها واحتلالها وبسبب مرض بركات وضعف قواته مقارنة بقوات شقيقه تراجع وانسحب إلى اليمن حيث جمع قوة معتبرة وحاول استرداد مكة، واستطاع تضليل شقيقه بحيث يكون القتال خارج المدينة ثم التقت قواته ودخلت مكة بعد خروج قوات الجزان منها، فرحب به المكيون أشد ترحيب، ولدى عودة الجزان وجد أن المكيين قد التفوا على شقيقه وهو الأمير الشرعي وبأنهم سيقاومون قواته فاضطر للانسحاب ونصب خيامه في بير الشماء، ومن هناك أرسل المبعوثين إلى ينبع والقبائل الأخرى طلباً للتعزيزات ثم هاجم مكة للمرة السادسة ورغم تحصن قوات بركات فقد استطاعت قوات الجزان اختراق تحصيناتها فهرب بركات مرة أخرى إلى اليمن إلى حين وصول قوات مصرية إلى جدة، وما إن سمع بذلك الجزان حتى أخلى مكة على الفور.
    بدا الأمر بعد ذلك وكأن حكم بركات قد استقر، لكنه عاد وسارع إلى مقابلة قائد القوات المصرية (المكار الأشرف طيطب) فاعتقله هذا وأرسله مقيداً بالسلاسل إلى مصر عن طريق ينبع، وذلك أن طيطب توصل إلى اتفاق مع الجزان مقابل مبلغ كبير من النقد يقضي بدعم طيطب للجزان كأمير في مكة، لكن عندما وصل بركات المعروف بدماثته، مقيداً بالسلاسل إلى القاهرة غضب السلطان الغوري والشعب المصري أشد غضب وتم الإفراج عن بركات فوراً وأنزل في أحد القصور وتلقى الخلع والهدايا والمال من السلطان وكان يجد ترحيباً حاراً أينما ذهب سواء في بيوت النبلاء والأمراء أو في بيوت الأثرياء والعلماء بعكس القائد الجشع طيطب الذي كان موضع غضب القصر والشعب بسبب فعلته الشنيعة، وأقام بركات في القاهرة حتى عام 1503 حيث سمع باغتيال الجزان فعاد إلى الحجاز، وفي الطريق تقابل مع مبعوث أوفده شقيقه حميضة إلى السلطان مع كمية من الهدايا فصادر الهدايا وواصل طريقه بعد أن اعتقل مبعوث شقيقه.
    كان (الجنود المصريون)(2) هم الذين اغتالوا الجزان ونصبوا مكانه حميضة غير المعروف لدى الحكومة المصرية، وعندما سمع حميضة باقتراب شقيقه بركات أخذ يعد العدة لمغادرة مكة.
    فكر بركات بزيارة المدينة لحشد قبائل زبيد في طريقه إلى مكة، فاتجه إلى ينبع إلى الشرق وفي تلك الفترة تزوج فتاة من الفرع الحسيني في المدينة وهي التي أنجبت له ابنه (أبا نُمي) في الثالث من أيار (مايو) 1505 فتفاءل به بركات كثيراً، وكان يربت على رأس ابنه قائلاً له: "إنك نجم سعدي… كان حظي تعيساً إلى أن ولدت، وكان في الثالثة والخمسين من عمره عندما أنجب (أبا نُمي) وتغيرت طباعه نتيجة تغير حظه إلى الأفضل، وعلى أي حال، فعندما وصل إلى مكة حكم الحجاز بأسره وعين شقيقه قايتباي ولياً على مكة وعين ابنه (أين ابن بركات) علياً مساعداً لقايتباي.
    وتشاء الصدف أن يقوم آنذاك الرحالة لودفيكو فارثيما من بولونيا في إيطاليا بزيارة مكة
    متخفياً(3) فكتب ما يلي:
    "وصلنا إلى مكة وكان ثمة حرب بين الأشقاء… وهناك أربعة أشقاء كل واحد منهم يريد الاستئثار بحكم مكة".
    وفي الفصل الذي يصف فيه مباني مكة ولماذا يحج المور(4) أي (المسلمون) كتب يقول: "سنتحدث الآن عن المدينة المقدسة مكة… عن حالتها ومن يحكمها… المدينة جميلة جداً ومزدحمة بالسكان وفيها زهاء ستة آلاف أسرة. والمباني قوية مثل المباني في بلادنا بل إن فيها منازل ضخمة، والمدينة غير محصنة بأسوار لأن الجبال التي تحيط بالمدينة بمثابة الجدران، وفي هذه الجبال المحيطة بها أربعة مداخل. وعلى بعد ربع ميل من المدينة ثمة سفح تل وفيه طريق تمّ شقه بجهد إنساني. فاجتزنا هذا الطريق وهبطنا إلى واد… وحاكم المدينة سلطان وهو أحد الأشقاء الأربعة وهو من سلالة موهامات (أي محمد صلى الله عليه وسلم ) ويخضع للسلطان الأكبر في القاهرة. وهو في حرب شبه دائمة مع أشقائه الثلاثة وفي الثامن عشر من أيار (مايو) دخلنا مدينة مكة من الشمال. وفي جهة الجنوب ثمة جبلان يكادان أن يتلامسا وبينهما طريق يؤدي إلى مكة. وفي الجهة الأخرى من حيث تشرق الشمس ثمة معبر (أو ممر) جبلي آخر كالوادي يوصل إلى جبل يحتفلون فيه بمراسم تضحية إبراهيم لابنه إسحاق… ويبعد هذا الجبل عن المدينة مسافة تتراوح بين ثمانية وعشرة أميال، ويبلغ ارتفاع الجبل رميتين أو ثلاث رميات بالحجر (أي المسافة التي يقطعها الحجر المتوسط إذا رماه الإنسان بأشد قوته) وحجارة الجبل من نوع خاص لكنها ليست رخامية وإن كانت ذات لون معين. وعلى قمة الجبل ثمة مسجد له ثلاثة أبواب وفي سفح الجبل خزانان أنيقان ونظيفان تحفظ فيهما المياه، أحدهما للحجيج القادم من دمشق وتتجمع مياه هذا الخزان من الأمطار التي تأتي من مسافة بعيدة… والآن دعونا نَعُدْ إلى المدينة وسنتحدث في الوقت المناسب عن التضحية التي يمارسونها عند سفح الجبل المذكور. وعندما دخلنا المدينة وجدنا القافلة التي أتت من مصر قبل وصولنا بثمانية أيام لأن هذه القافلة لم تسلك الطريق الذي سلكناه. وبلغ عدد جمال القافلة المصرية (64) ألف جمل وكان ضمن الحجاج فيها مائة مملوك. ولا بد أن تعرفوا وجهة نظري هنا وهي أن الله لعن هذه المدينة(5) لأنها تخلو من الأشجار وحتى الأعشاب وتخلو من كل شيء فضلاً عن أنها تعاني من ندرة المياه. فلو أن كل شخص استهلك ما يشاء من الماء لنفدت المياه فيها… وسأخبركم كيف يعيشون… إن جزءاً كبيراً من إمداداتهم التموينية تأتي من القاهرة أي من البحر الأحمر، حيث ثمة ميناء يدعى زيداً (جدّة) يبعد عن مكة زهاء أربعين ميلاً كما أن كمية أخرى من المواد التموينية تأتي من اليمن السعيد ومن الحبشة ومن الهند ومن بلاد فارس وسورية والحقيقة أني لم أشاهد في حياتي مثل هذا العدد الكبير من الناس في مكان واحد كما هو الشأن في مكة طيلة العشين يوماً التي قضيتها فيها… وبعض هؤلاء الناس يحضرون للتجارة وبعضهم للحج وطلب غفران الخطايا… ومن الطبيعي أنهم لا يطلبون الغفران إلا لأنهم يرتكبون الخطايا(6).
    ولنتحدث أولاً عن التجارة والبضائع التي تأتي إلى مكة من عدة مناطق. فمن الهند تأتي كمية كبيرة من المجوهرات والأحجار الكريمة والبهارات. ويأتي من الحبشة ومن مدينة في الهند اسمها (بانغشيلا) كمية كبيرة من القطن والحرير… ولذلك تشهد مكة حركة تجارية واسعة، فالمجوهرات والبهارات من كافة الأنواع والقطن والشمع والعطور متوفرة بكميات هائلة".

    الفصل المتعلق بشعائر الحج
    يواصل الرحالة الإيطالي حديثه: "والآن دعونا نصف شعائر طلب الغفران (الحج) ففي وسط هذه المدينة هيكل جميل يشبه الكولوسيوم في روما لكنه غير مبني بحجارة كبيرة بل بطوب من الآجر المحروق، والهيكل مستدير الشكل وحوله (90) وربما مائة باب. وعند الدخول إلى الهيكل (الحرم) تهبط (10) أو (12) درجة من الرخام حيث يقف الكثير من باعة المجوهرات، وبعد أن تهبط الدرجات المذكورة تجد أن الذهب يغطي الهيكل وكل شيء حوله، ويقف تحت الأقواس زهاء خمسة آلاف شخص رجالاً ونساءً يبيعون كافة أنواع العطور التي تحفظ الجسم، ذلك أن الكفار (الوثنيين) يأتون إلى هنا من كافة أنحاء العالم. والحقيقة أن من الصعب وصف شذى وعبق العطور التي يشمها الإنسان في هذا الهيكل. فشذى المسك والياسمين وغيرهما من العطور الرائعة تعبق في الأجواء، وفي الثالث والعشرين من أيار (مايو) تبدأ مناسك الغفران (الحج) على النحو التالي: يتم رفع الستائر عن الهيكل الذي يتوسط الساحة والستائر من الحرير الأسود وبوابته من الفضة بارتفاع قامة رجل ويبلغ طول ضلع الهيكل من كل جانب ست خطوات طويلة وعلى جانبي بوابة البرج أو الهيكل (يقصد الكعبة) جرار فخارية ملأى بالبلسم. ويقولن أن هذا البلسم من خزائن السلطان. وفي جانب البرج أو في زاويته حلقة كبيرة. وفي الرابع والعشرين من أيار (مايو) يتوجه الناس عند الفجر إلى الهيكل ويدورون حوله سبع مرات ويلمسون ويقبلون تلك الزاوية حيث الحلقة الكبيرة. وعلى بعد (12) خطوة من البرج أو الهيكل المذكور ثمة برج آخر مثل الكنائس الصغيرة أو منابر الوعظ مقارنة بالبرج الكبير وثمة بئر جميل يبلغ عمقه زهاء سبعين قامة ومياهه مالحة قليلاً. وعلى جوانب البئر ستة أو سبعة رجال مهمتهم سحب الماء في دلاء خاصة وتوزيعه على الناس. وعندما يدور (يطوف) الناس سبع مرات حول البرج الكبير يأتون إلى البئر ويديرون ظهورهم بحيث يستقبلون البرج الكبير ويقولون: "بسم الله الرحمن الرحيم أستغفر الله رب العالمين" وعند ذلك يقوم الرجال الذين يسحبون الماء من البئر بسكب ثلاثة دلاء مليئة بالماء على كل شخص من قمة رأسه إلى أخمص قدميه… وهكذا يستحمون بالماء ويعتقدون أنهم بذلك إنما يغتسلون من خطاياهم ويقولون أن البرج الكبير هو البيت الذي بناه إبراهيم. وبعد استحمامهم على هذا النحو، يتوجهون إلى الوادي نحو الجبل الذي تحدثنا عنه ويظلون هناك يومين وليلة وبعد أن يتجمعوا عند سفح الجبل يقومون بتضحية الخراف.
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل السابع

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي السبت 30 مايو - 19:11

    الفصل المتعلق بالأضاحي في مكة(7)

    يقوم كل رجل وامرأة بقتل (يعني تضحية) خروفين على الأقل وربما ثلاثة وأربعة، لذلك أعتقد أن اليوم يشهد مقتل (تضحية) ثلاثين ألف خروف وذلك بذبحهم من عند الحنجرة شريطة أن تكون رؤوس الخرفان متجهة نحو الشرق. وبعد ذلك تعطى هذه الذبائح للفقراء محبة بالله. ويوجد هنا زهاء (30) ألف شخص فقير يحفرون حفراً في الأرض ويملؤونها بروث (جلّة) الجمال ويشعلون النار فيها ثم يشوون اللحوم ويأكلونها. وأنا على يقين من أنّ هؤلاء الفقراء لم يأتوا لأجل الحج بل حتى يملؤوا بطونهم. ولعل ما يثبت ذلك أنه كان بحوزتنا كمية من الخيار أتت من اليمن السعيد، وقد أكلناها كلها باستثناء القشور التي ألقينا بها خارج خيمتنا، وكان ثمة أربعون أو خمسون شخصاً من أولئك الفقراء ينتظرون خارج الخيمة لالتقاط القشور والتهامها رغم ما علق بها من تراب. وهذا ما يدفعنا للاعتقاد بأنهم لم يحضروا لغفران خطاياهم وإنما لملء بطونهم. وفي التالي صعد قاضٍ (وهو بمثابة الواعظ الكنسي عندنا) إلى قمة الجبل وألقى موعظة استغرقت ساعة طلب من الحشود خلالها أن تبكي أسفاً وندماً على الخطايا التي ارتكبوها. وقال بصوت عال: "يا خليل الله سيدنا إبراهيم ويا حبيب الله اسحق اشفعا لدى الله لشعب النبي" ثم بدأ الناس بالدعاء بصوت مرتفع. وبعد أن أنهى إلقاء موعظته عادت القوافل إلى مكة بسرعة ملحوظة لأنه كان ثمة (20) ألف عربي (يعني بدوي) على بعد ستة أميال يريدون مهاجمة القوافل ونهبها. فتوجهنا إلى مكة للاحتماء فيها… وفي منتصف الطريق بين مكة والجبل الذي يتم فيه الذبح (النحر) وجدنا جداراً صغيراً طوله زهاء قامتين وفي أسفل الجدار كمية كبيرة من الحجارة الصغيرة (الصرار) وهي الحجارة التي يرشقها الحجاج حال وصولهم إلى الجدار ويزعمون أن الله (تعالى) عندما أمر إبراهيم (ع) بأن يضحي بابنه طلب من ابنه أن يلحقه، إذ لا بد من تنفيذ أوامر الله (تعالى) فقال اسحق لوالده: "لن أحتج على أوامر الله (تعالى)، وعندما وصل اسحق (ع) إلى الجدار المذكور ظهر له الشيطان على هيئة أحد أصدقائه وقال له "إلى اين أنت ذاهب يا صديقي اسحق؟" وأجابه اسحق: "أنا لاحق بوالدي الذي ينتظرني
    هناك" فقال الشيطان: "لا تذهب يا صديقي لأن والدك سيضحي بك لله ويقتلك" وأجابه اسحق (ع): "ليكن ما يريده الله إذا كانت هذه مشيئته" وسرعان ما اختفى الشيطان لعاود الظهور على هيئة صديق آخر لإسحاق (ع) وقال له نفس الكلام لكن اسحق (ع) رد عليه بغضب قائلاً: "لتكن مشيئة الله" ثم تناول حجراً ورشقه في وجه الشيطان. ولذلك عندما يصل الناس (الحجاج) إلى هذا المكان يرشقون الحجارة على السور المذكور ثم يواصلون السير إلى مكة.
    وجدنا في شوارع مكة عدداً كبيراً من أسراب الحمام ما بين (15) إلى (20) ألف حمامة ويزعم السكان هناك أن هذا الحمام ينحدر من الحمامة التي كانت تتحدث إلى محمد على هيئة الروح القدس(Cool. ويحلق ويهبط كما يريد وبكل حرية دون أن يتعرض له أحد، بل إنه يدخل إلى المتاجر والمخازن الملأى بالقمح والشعير والأرز وغير ذلك من الخضراوات والحبوب والبضائع الأخرى. ولا يحق لأي شخص أن يطرد الحمام أو يمسك به لاعتقادهم بأن المدينة ستتعرض للدمار إذا ما تعرضت أية حمامة للأذى.

    الفصل المتعلق بحيوانات ذات قرن واحد في الهيكل
    ليست شائعة في الأماكن الأخرى
    وفي مكان آخر من الهيكل المذكور غرفة مغلقة فيها حيوانان لكل منهما قرن واحد ويتم عرضهما كشيء نادر وهما كذلك بالفعل.. وسأخبركم عن هذين الحيوانين: فالكبير منهما مثل مهر في السنتين والنصف (النص الأصلي 30 شهراً) من عمره وفي مقدمة جبهته قرن واحد يبلغ طوله ثلاثة براسيا (وحدة قياس إيطالية قديمة تساوي ذراعاً ونصف الذراع) أما الحيوان الثاني فهو كالمهر الذي بلغ السنة من عمره وفي مقدمة رأسه قرن أصغر من القرن الأول ويميل لونه للسواد(9) ورقبته ليست طويلة وثمة شعر يغطي أحد جانبيه وقوائمه نحيفة كقوائم الماعز. وكان ملك الحبشة هو الذي قدم هذين الحيوانين هدية إلى سلطان (حاكم) مكة وثمة من يقول: إن سلطان مراكش هو الذي أرسلهما هدية إلى سلطان مكة". انتهى كلام الرحالة الإيطالي.
    في عام 1514 قام السلطان قانصوه الغوري بزيارة مكة للحج مع زوجاته وابنه ناصر محمد وقد عاد الشريف بركات معهم
    إلى مصر بعد انتهاء مناسك الحج. وكانت المرة الثالثة التي يزور فيها مصر وكافأه السلطان على ذلك. ومنذئذ حكم بركات بتفاهم ووئام مع شقيقه قايتباي وولده علي أبي نميّ حتى وفاته عام 1524.
    ويذكر الحسيني أنه عندما بلغ (أبو نمي) ابن بركات الثامنة من عمره أرسله والده برفقة السيد ابن عجيل والقاضيين الشافعي والمالكي لتلقي العلم في مصر. وكان السلطان قانصوه الغوري آنذاك يعد حملة عسكرية وقد رحب بأبي نميّ واحتضنه وطلب منه أن يقول شيئاً فقال أبو نميّ: { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } فأصدر السلطان أوامره فوراً بتعيينه حاكماً مساعداً في مكة بدلاً من عمه قايتباي وذلك حال إنهاء دراسته وعودته إلى مكة.
    حقق الأسبان في تلك الفترة انتصارات ضد المور (أي المسلمين) وسرعان ما تلا ذلك تهديد البرتغاليين للهند والشواطئ الجنوبية للجزيرة العربية، حتى أصبحت جدة نفسها قاعدة حربية. وجهّز السلطان الغوري أسطولاً من خمسين سفينة وأناط قيادته بالمير حسين المشرف الكردي أحد كبار قادته الذي عرف عنه الجشع، ونقل الأسطول إلى البحر الأحمر لمجابهة الأساطيل البرتغالية، وكان قباطنة سفن حسين الكردي من العرب أما بحارته فكانوا من الأسرى المسيحيين والعبيد وعددهم ألف وخمسمائة مقاتل. وما إن وصل إلى جدة حتى بأمر ببناء سور حولها وذلك لحماية سكانها من القبائل المجاورة، وكان متعجلاً لدرجة أنه أمر كافة الذكور القادرين بالمشاركة في العمل كما أمر بهدم العديد من المنازل لتوفير مواد البناء أو لأنها كانت قائمة في أمكنة سيمر السور فيها)(10) وتم إنجاز السور خلال عام واحد(11) وفي غضون ذلك تلقى السلطان قانصوه الغوري المزيد من طلبات الإغاثة والنجدة من ملكي غوجارات (في الهند) واليمن.
    يقول الحنفي في كتابه (البرق اليماني…) ما يلي:
    "في السنوات الأولى من هذا القرن ولسوء طالع المسلمين تمكن البرتغاليون لأول مرة من التسلل والوصول إلى الهند، وقد شجعوا بعد نجاحهم وأخذوا يجمعون المعلومات عن البحر وطرقه وذلك اعتماداً على ملاح عربي ماهر يدعى (أحمد ابن ماجد)… وكان قائد البرتغاليين قد دعاه إلى مأدبة على ظهر سفينته وقدم له الخمر. وبعد أن دار النبيذ برأسه أخبر البرتغاليين بضرورة الابتعاد عن الشاطئ في بعض الأماكن لوجود صخور كبيرة مخيفة تحت المياه وأن باستطاعة السفن بعد ذلك الاقتراب من الساحل. بذلك تمكن البرتغاليون من الوصول إلى الهند، ثم إنهم سيطروا على مضيق هرمز بعد أن وصلت إليهم تعزيزات جديدة… ولم يجرؤ المسلمون على المخاطرة بالإتجار، لأن السفن البرتغالية كانت في كل مكان… وبعد أن هاجم البرتغاليون غوجارات طلب ملكها النجدة من قانصوه الغوري سلطان مصر فأرسل سفيراً برفقة وفد رفيع المستوى ليطلب من مصر عدة حربية بما في ذلك المدافع لصد غزو الفرنجة، وكذلك الشأن مع عمرو سلطان اليمن الذي طلب النجدة من سلطان مصر لأن البرتغاليين بدؤوا في مناوشة ومضايقة الموانئ والسفن اليمنية… ووافق قانصوه الغوري على الفور وأناط قيادة الأسطول بالمير حسين الكردي بينما عين سليمان الريس قائداً للبحارة وحال وصول حسين الكردي إلى جدة عام 1511 أعلن نفسه حاكماً عليها.
    استخدم حسين الشدة والعنف عند بناء سور جدة، فذات يوم شاهد تباطؤاً في العمل فأمر بدفن أحد البناءين في الجدار ومواصلة البناء فوق جثته. لكن الشرفاء شفعوا للبنّاء ودفعوا مبلغاً كبيراً لإنقاذه فوافق حسين الكردي على إلغاء أمره البربري، ويضيف ديورات باربوزا الذي أورد القصة السالفة:
    "قبل وقت قصير هزم الأسطول البرتغالي سفن المير حسين القبطان المراكشي قائد أسطول السلطان المصري فعاد إلى جدة وأمر ببناء سور حولها. وذلك أنه بعد هزيمته لم يجرؤ على العودة إلى سلطانه قبل أن يقوم بخدمة له. فطلب من ملك كامبايا المدعو (هولداو محمد) 1458-1511 مبلغاً كبيراً من المال لبناء السور والقلعة مشيراً إلى خطورة دخول الفرنجة إلى جدة لأن من شأن ذلك أن يفتح الطريق إلى مكة.
    ويقول باربوزا: إن تاجراً مغامراً يمنياً معروفاً وصل إلى جدة من غوجارات مع شحنة من التوابل والبهارات. وسأله المير حسين عن أخبار البرتغاليين في الهند، وأجاب التاجر اليمني المغامر بأنهم في وضع جيد وأنهم شرعوا في بناء القلاع. وعند ذلك سأله المير حسين: "كيف وجدت الجراءة لزيارة مكة وأنت صديق للبرتغاليين؟" فأجابه التاجر اليمني ويدعى خليفة: "أنا تاجر لا أملك حولاً ولا طولاً… لكنك كنت قبطان أسطول كبير وكان يتعين عليك أن تطرد البرتغاليين من الهند، فلماذا تركتهم هناك وعدت لتبني قلعة في جدة؟" فغضب المير حسين وأمر خليفة وكافة البحارة الذين في حضرته للانطلاق للعمل في السور. والحقيقة أن تحصينات جدة ردعت البرتغاليين عن مهاجمتها فارتدوا عنها ولم يتمكنوا من دخولها.
    حال الانتهاء من بناء السور، أبحر المير حسين إلى الهند، وكان الفرانك (أي الفرنجة) قد وطدوا ورسخوا قوتهم. واستطاع المير حسين مقابلة السلطان مظفر شاه غوجارات (1511-1525) لكنه اضطر بعد ذلك للانسحاب دون أن يقوم بأي عمل عسكري بل أن السفن البرتغالية طاردته حتى رسا في جزيرة قمران في البحر الأحمر. ومن هناك أرسل وفداً إلى عمرو سلطان اليمن ومعهم الكثير من الهدايا الثمينة للسلطان. وطلب الوفد من سلطان اليمن إمداد الأسطول بما يلزمه من مؤونة. وبعد أن استشار السلطان اليمني عمرو وزيره رفض تزويد المير حسين بالإمدادات المطلوبة وذلك خشية أن يؤدي تقديمها مرة إلى طلبها على نحو سنوي بحيث تصبح أتاوة سنوية. وغضب المير حسين من السلطان عمرو وقرر مهاجمته والإطاحة بحكمه. وابتهج رجال الأسطول بذلك. وقويت عزيمة المير حسين بعد أن عرض الزيديون في الجبال (شمال اليمن) مساعدته على الإطاحة بعمرو لأنه كان يسيء معاملتهم. ووصل وفد من الزيديين عرض عليه ليس تموين أسطوله فقط بل وتزويد رجاله بالخيول لمهاجمة عمرو.
    أما الشريف عزة الدين ابن أحمد سيد جيزان ورغم صداقته الوثيقة مع عمرو فقد عرض خدماته على المير حسين كما أن الفقيه أبا بكر تعهد بفتح طريق للحملة المقترحة وأن يديرها ويزودها بالمواد التموينية.
    ولم يكن سكان اليمن آنذاك قد استخدموا الأسلحة النارية أو المدافع ولذلك فتك فيهم رجال المير حسين وقتلوهم بالمئات.
    ودب الذعر في أوساط المقاتلين اليمنيين بسبب صوت المدافع والدخان الذي ينطلق منها وكانت خسائرهم فادحة اضطروا إزاءها للتراجع إلى عاصمتهم (زبيد) وإغلاق أبوابها بعد أن حملوا معهم بعض قذائف المدفعية التي تسببت في موت الكثيرين منهم. وبعد عدة معارك غير متكافئة من هذا الطراز استولى المير حسين على زبيد ودخلها في العشرين من حزيران 1516 على رأس قواته التركية والمراكشية والمصرية والسورية ومساعديه من الزيديين وقوات شريف جيزان. بينما فر عمرو مع شقيقه وابنه إلى تعز. وسرعان ما بدأ الجيش المنتصر في سلب ونهب العاصمة زبيد. وكان في معية المير حسين محصل ضرائب سيئ السمعة يدعى (توجان) وشرع هذا التوجان بعمل إحصاء للسكان ومنازلهم وجمع مبالغ طائلة منهم طيلة (17) يوماً.
    وأبحر المير حسين بعد ذلك على طول الساحل ووجهته عدن الأشد ثراء من زبيد، واصطحب معه سليمان الريس لكنه ترك خلفه (بارسباي) وهو أحد كبار ضباطه وشريف جيزان وكلفهما بسلب المقاطعات المجاورة… وفي أثناء إبحاره باتجاه الجنوب كان حكام البلدات الساحلية يحضرون إليه مستسلمين الواحد تلو الآخر. وكل واحد منهم يقدم له مبلغاً من المال. غير أن قصص نجاحه في إخضاع زبيد وما تناقله الناس عن قسوته وصرامته قد روعت سكان جدة لاعتقادهم لأنه لا بد أن ينزل فيها في طريق عودته.
    قام المير حسين بتدمير قلعة عدن لكنه لم يستطع احتلال المدينة فأبحر إلى جدة مع غنائمه الهائلة في خريف عام 1516 حيث مارس فيها (أي في جدة) أبشع أنواع التعذيب التي قد تخطر على بال. فقد بنى محارق لحرق الناس وقاعات تعذيب مزودة بأجهزة تعذيب لم يسمع بمثلها ويقال: إن أحداً لم يبلغ في الجشع والقسوة ما بلغه المير حسين.
    في غضون ذلك كانت قوة المماليك في انحدار وتراجع واستطاع السلطان العثماني سليم إلحاق هزيمة منكرة بالسلطان المملوكي قانصوه الغوري وقتله، ثم إلحاق هزيمته الثانية بطومان باي خليفة قانصوه الغوري وهو آخر سلالة المماليك وسرعان ما أعلن السلطان العثماني سليم أن الحجاز جزء من إمبراطوريته.
    ما إن سمع الشريف بركات بانتصارات السلطان سليم حتى سارع إلى إرسال ابنه الشريف (أبي نميّ) وكان في الثالثة عشرة من عمره إلى بلاط السلطان سليم. وقد سر السلطان سليم باستقبال شريف مكة الذي ينحدر من سلالة الرسول وسدنة البيت الحرام. واعترف السلطان بوضع الأشراف واستقلالهم في منطقة مكة. ويقول الحنفي: إن أشراف مكة تمتعوا منذئذ بناء على أوامر السلطان سليم بامتيازات ******. وبعد أن سمع السلطان تقريراً عن أوضاع الحجاز من الشريف أبي نميّ الذي لا يتجاوز الثالثة عشرة من عمره سلمه أمراً (فرماناً) بقتل المير حسين الكردي، وما إن وصل الشريف أبو نميّ إلى مكة يحمل الفرمان المذكور حتى احتفل المكيون بذلك كثيراً. واستلم بركات كذلك اعتراف السلطان الرسمي بسيادته على مكة والمدينة والحجاز بأسره بما في ذلك جدة شريطة العناية بالميناء. وأمر الشريف بركات بقراءة فرمان السلطان سليم أمام الناس وارتدا خلع الشرف التي أرسلها له، وبدأ الناس يتوافدون لتهنئته. وفي اليوم التالي أصدر أمره بالخطبة إلى السلطان سليم وأرسل مبعوثاً إلى المملوك المير حسين يبلغه أن السلطان يريد عودته إلى القاهرة فوراً. وأرسل الشريف بركات مع أمير البحر المملوك المير حسين عدداً من العبيد الزنوج بعد أن أوصاهم بقتله فوصلوا معه إلى جدة حيث وضعوه على سفينة وأبحروا فيها في عرض البحر ثم قيدوه بالسلاسل وربطوا أكياساً من الحجارة إلى جسمه. وألقوه من السفينة في مياه عميقة، وعندما سمع أتباعه بمصيره فروا، أما الذين قبض عليهم فقد قتلهم الحجازيون بالشكل المناسب عقوبة لهم على الجرائم والآثام التي ارتكبوها.
    وانضم جنود المير حسين الذين استطاعوا الهرب، إلى بارسباي الذي سبق أن عينه المير حسين والياً على زبيد وما جاورها لدى انطلاقه إلى جدة. وابتهج بارسباي بهذه التعزيزات الجديدة التي وصلت إليه وتشجع لدرجة أنه وضع خطة لاحتلال اليمن بأسره. وحالما سمع السلطان (أو الملك) عمرو بخطط واستعدادات بارسباي، قرر المقاومة، لكن قوات بارسباي استطاعت اقتحام تعز عام 1517 فانسحب منها عمرو الذي قام بعد ذلك بمهاجمة قوات بارسباي لكنه هزم وقتل مع شقيقه فانتهت سلالته بذلك في أيار (مايو) 1517.
    لم يتمتع بارسباي بالحكم أكثر من شهرين قصيرين في صنعاء ثم جمع غنائمه الهائلة وحملها على زهاء ثمانية آلاف جمل هذا عدا غنائم رجاله التي حملوها على آلاف الجمال الأخرى واتجه عن طريق نجران نحو زبيد، وبالقرب من نجران هاجمته القبائل العربية وفي طليعتها قبيلة (بني حبيش) فقتل مع كبار ضباطه وهرب رجاله في كل الاتجاهات بينما استولت القبائل العربية غنائمه. وتجمع من بقي من رجاله وبعد وصولهم إلى زبيد اتفقوا على تعيين المملوك الشركسي (اسكندر) قائداً عليهم… وتلقى اسنكدر بعد ذلك فرماناً من السلطان بتعيينه حاكماً على زبيد أما الجنود الآخرون الذين انضموا تحت قيادة مملوك بيزنطي يدعى رمضان فقد ارتدوا الملابس التركية وأعلنوا اعترافهم بسلطة السلطان سليم.
    وهكذا عندما وصل ممثل (أو سنجك) السلطان سليم إلى جدة واسمه حسين الرومي وجد عدداً كبيراً من السفن المسلمة التي أحضرها المير حسين الكردي كما وجد كمية وافرة من الأسلحة والعتاد. وحينئذ حصل على وعود بالدعم من شريف مكة ومن باشا القاهرة لخطته في غزو اليمن. لكنه عندما وصل إلى حدود اليمن أتاه خبر بوفاة السلطان سليم كما علم بأن المملوك اسكندر يعد العدة للدفاع فعاد حسين الرومي إلى مكة دون أن يحقق شيئاً.
    وحدثت فتنة في القاهرة عندما ثار أحمد باشا. وكان سلمان الريس في القاهرة آنذاك، وسلمان الريس هذا هو الذي كان يقود بحارة المير حسين الكردي، ونتيجة الفتنة هرب سلمان الريس واتجه إلى مكة للجوء فيها. ولدى وصوله شجع السنجق حسين الرومي على تجديد محاولته لغزو اليمن بينما بدأ هو بقواته الباقية مهاجمة البرتغاليين في جزيرة قمران التي كانوا يستعملونها قاعدة للإغارة على موانئ البحر الأحمر، وقتل الكثير من البرتغاليين كما أسر عدد كبير منهم ثم طلب من اسكندر الكرماني أن يستسلم له. واستطاع سلمان الريس كسب تأييد ودعم الشريف (عزة الدين) حاكم جيزان وسار بقواته نحو زبيد. وقد طلب سلطان هذه المدينة من الحامية أن تستسلم. ووقع اسكندر على أي حال في يدي الشريف عزة الدين شريف جيزان فعفا عنه وهو ما أغضب سلمان الريس الذي قام بمهاجمة قوات الشريف وقوات اسكندر في آن واحد واستطاع أن يقتل الشريف وفقد سلمان في تلك المعركة زهاء مائتين من حرسه الشخصي. وما إن سمع بأن الوزير إبراهيم باشا نجح في إعادة النظام إلى القاهرة حتى سارع في السفر للانضمام إليه وترك حسين الرومي في اليمن لتثبيت النظام وفي تلك السنة 1524 توفي الشريف بركات في م



    (ح) تعني حكم مكة.





    (1) موضع إلى الغرب من مكة.

    (2) يقول ابن زيني: إن الجزان قتل على أيدي عدد من الروم العاملين بمعية القوات المصرية عام 1502 بينما يقول الظهيري أن الشراكسة الأتراك هم الذين قتلوه ولذلك اختار المؤلف عبارة (الجنود المصريون).

    (3) رحلات في مصر وسورية والصحراء العربية واليمن السعيد وبلاد فارس 1503-1508 الصفحات 31-49.

    (4) كان الغربيون آنذاك يطلقون على المسلمين اسم (مور) نسبة إلى مراكش وبعد الفتوحات العثمانية في شرق أوروبا صاروا يطلقون عليهم اسم أتراك (المترجم).

    (5) التحامل واضح ولا يحتاج إلى تعليق.

    (6) التحامل الصليبي واضح هنا. ففي تلك المرحلة التاريخية كان بابوات الفاتيكان في روما يصدرون ويبيعون صكوك الغفران التي يتجاهلها هذا الرحالة الإيطالي وينتقد المسلمين لأنهم يطلبون الغفران.

    (7) هذا يعبر عن رأي المؤلف.

    (Cool من الواضح هنا اختلاط الأمور على الرّحالة الإيطالي. فالحمام يأوي إلى مكة لأن أحداً لا يؤذيه، ولم تتحدث حمامة إلى الرسول بل كان الملك جبريل هو الذي يتحدث إليه أحياناً.

    (9) يعتقد المؤلف بعد أن اطلع على مصادر أخرى أن الحيوانين في الواقع من الأيائل الإفريقية.

    (10) الحسيني. كتاب تنضيد العقول.

    (11) لقد هدم سور جدة عام 1949 بعد شق طرق جديدة وبناء منازل خارجة، فأمرت السلطات بهدمه.

    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty الفصل الثامن

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي السبت 30 مايو - 19:14

    الفصل الثامن : محمد أبو نمي الثاني أولاده وأحفاده وأحفاد أحفاده 1524-1632

    بعد وفاة بركات خلفه ابنه (محمد أبو نميّ) المعروف باسم (أبو نُميّ الثاني) وهو في التاسعة عشرة من عمره، وكان قد زار مصر مرتين، الأولى وهو طفل في السابعة عندما كان السلطان قانصوه الغوري يحكم مصر، والثانية وهو في الثالثة عشرة من عمره عندما زار القاهرة للترحيب بالحاكم الجديد وهو السلطان العثماني سليم وقد نجح في كلتا الزيارتين.
    وما إن تسلم منصب والده حتى وصلت إلى جدة قوات عثمانية (يسميها المؤلف تركية) في طريقها إلى اليمن ومن ثم إلى الهند في محاولة جديدة لطرد البرتغاليين ودخلت السفن العثمانية ميناء جدّة في حزيران 1526، وشرعت تلك القوات حال نزولها على البر في نهب وسلب ممتلكات المواطنين والتصرف بوقاحة وصلف، والاعتداء على الناس والممتلكات. وسرعان ما ارتفعت الأسعار لأن القوات العثمانية كانت بحاجة إلى إمدادات كبيرة…. كانت محنة كابدها الحجازيون لدرجة أنهم ظلوا يتذكرون تلك السنة فترة طويلة بعبارة (سنة سلمان) وسلمان هو اسم قائد الحملة التركي. ووجد الشريف الشاب أبو نُميّ الثاني صعوبة كبيرة في حفظ النظام والأمن وذلك حتى قرر القبطان سلمان ووالي اليمن المعين حديثاً وهو (خير الدين) الشهير، الإبحار إلى اليمن.
    بعد بضع سنوات انطلقت من السويس حملة ثانية بقيادة (سليمان الخادم) أحد عبيد السلطان سليم وكان والياً على القاهرة. ووصل الأسطول إلى جدة لكن الجنود لم ينزلوا فيها بل أرسل الشريف وفداً للترحيب بالأسطول العثماني وقائده ثم واصل الأسطول إبحاره إلى جنوب الجزيرة العربية. وكان من المقرر أن يواصل الإبحار من هناك إلى الهند.
    في عام 1539 وبعد مغامراته في الهند التي تحدث عنها الحنفي بإسهاب عاد إلى اليمن في طريق عودته حيث قتل بيديه في خيمته الحاكم أحمد. ووردت التقارير باقتراب أسطول سليمان الخادم مرة أخرى من الأراضي التي يحكمها الشريف أبو نميّ الثاني الذي كان قد احتل جيزان قبل عام ووضع عليها حاكماً من قبله. غير أن سليمان الخادم طرد حاكم الشريف ووضع على المدينة حاكماً من قبله مع عدد من الجنود وفي نيسان 1539 وصل الأسطول إلى جدة ومكث فيها انتظاراً للحج، وقد اقترف مع رجاله تجاوزات كثيرة وعاملوا السكان بقسوة متناهية ولم يظهروا الاحترام اللائق بالأماكن المقدسة. ومع ذلك عندما قرر سليمان الخادم الإبحار نحو الشمال استغل الشريف الفرصة وأرسل ابنه أحمد معه لمقابلة السلطان سليمان الأول في استانبول حيث رحب السلطان به وبالقبطان سليمان الخادم. وقد بلغ السلطان سليمان الأول ذروة فتوحاته في ذلك العام وامتدت حدود الإمبراطورية العثمانية من الهند ؛ى مضيق جبل طارق ومن بودابست حتى الفرات وبالتالي كان السلطان في حالة من الرضى والكرم والبذخ، لكن لسوء الحظ انتشر وباء الطاعون في استانبول وتوفي بهذا المرض عدد من مرافقي أحمد بن الشريف أبو نميّ، بما في ذلك القاضي عرار أحد القضاة الثلاثة الذين رافقوه بل إن أحمد نفسه وقع مريضاً. وعندما عاد في النهاية إلى الحجاز سالماً يحمل الهدايا لوالده، استقبله والده والأشراف والوجهاء استقبالاً رسمياً حافلاً في وادي المر وألقيت القصائد في مديحه ومديح والده غير أنه لم يبل من مرضه تماماً وتوفي بعد ست سنوات وكان حزن والده عليه كبيراً.
    ومنذ وفاة أحمد وهو في ربيع عمره كرس أبو نميّ حياته وعلى نحو متزايد لعمل الخير وساعده على ذلك الأموال التي كان يرسلها السلطان سليمان الأول من جهة وحقه في نصف الجمارك والرسوم التي يحصلها ميناء جدة من جهة أخرى وهو الحق الذي أثبته السلطان بعد أن قامت سفن الشريف بمطاردة سفن برتغالية ظهرت قبالة جدة عام 1541.
    وأعيد بناء سقف الكعبة عام 1551 بأمر من السلطان الذي أرسل في نفس الوقت مبالغ إضافية لتوزيعها على فقراء الحجاز كصدقة. في تلك الأثناء كانت قافلة الحجيج اليمني تصل سنوياً وبشكل منتظم، وفي عام 1555 أرسل مصطفى باشا نائب السلطان العثماني في اليمن محملاً (يحمل كسوة الكعبة) فضلاً عن محملين آخرين وصلا من سورية ومصر.
    وفي عام 1557 توقف جريان الماء في جبل عرفات فالتمس الشريف من السلطان المساعدة على إصلاح الأقنية، فقررت شقيقة السلطان دفع كافة التكاليف التي قدرت بـ (35) ألف دينار. وتمّ تعيين الدفتردار (أي مسؤول الخزانة أو الخزينة) المصري إبراهيم بك أميناً عاماً ومشرفاً على عملية الإصلاح والترميم وأرسلت شقيقة السلطان على الفور من مالها الخاص مبلغ (50) ألف دينار. وسرعان ما وصل إبراهيم بك الدفتردار وبرفقته أربعمائة مملوك ومهندس وفني من دمشق وحلب ومصر وغيرها. وأصدر رئيس المهندسين (الباشمهندس) أوامره بحفر قناة حتى بئر زبيدة. كان ثمة صخور بركانية تعترض خط القناة المنوي حفرها وحاول المهندسون تفكيك وتحطيم تلك الصخور باستعمال النار حواليها فاقتلعوا الكثير من الأشجار من المناطق المجاورة حتى لم يبق ثمة شجر أو حطب كما تعب العمال وضعف حماسهم فضلاً عن أن عدداً من خدامه وعبيده قد ماتوا بل إن إبراهيم الدفتردار نفسه وقع مريضاً وتوفي ودفن بعد عشر سنوات من الشروع في العمل.
    ورغم توصية الشريف أبي نميّ بأن يشرف حاكم جدة وقاضي القضاة في مكة على عملية حفر الأقنية وإتمام المشروع في المستقبل غير أن السلطان أصدر تعليماته بتعيين الدفتردار المصري (محمد بك أكمل زاده) بالإشراف على إنجاز المشروع لكنه فشل أيضاً وتوفي. وأخيراً تم تعيين كل من (قاسم) حاكم جدة والسيد حسين قاضي مكة المالكي. وفي عام 1571 توفي قاسم حاكم جدة وبعد شهر على وفاته استطاع القاضي حسين إيصال المياه إلى مكة. فأقيمت حفلة ابتهاج بإنجازه هذا في حديقة منزله في البطحة. وبلغت نفقات المشروع سبعمائة دينار فضلاً عما أنعمت به شقيقة السلطان على قاضي مكة المالكي. وبعد إنجاز المشروع أرسل السلطان أوامره بإصلاح الحرم كما أمر بأن يكتب بماء الذهب لفظ الجلالة (الله) يليه محمد(ص) ثم أسماء كل من الخلفاء الراشدين على نحو متسلسل (أبو بكر، عمر، عثمان، علي) واستغرقت الإصلاحات أربع سنوات وكتبت الأسماء المذكورة بماء الذهب بين باب علي وباب العباس وهما من أبواب الحرم.
    في عام 1565 قام (محمود باشا) والي السلطان في اليمن بزيارة مكة في طريقه إلى مصر بعد أن عيّن مكانه في اليمن (رضوان ابن مصطفى) ويقول الحنفي: إن موكب محمود باشا كان فخماً ومهيباً نال إعجاب كل من شاهده.
    وفي تموز من ذلك العام وصل إلى مكة حاجاً عبد برتغالي بسيط وقد وصف مكة بدقة متناهية ولكن باختصار وكان السينيور (ج. ل. ديلا فيرا) هو الذي اكتشف المخطوطة على هامش كتاب عربي يحمل الرقم (217) في مكتبة الفاتيكان(1)… انطلق العبد البرتغالي من رابغ في آخر يوم من حزيران متوجهاً إلى مكة ويبدأ قصته بالقول: "ومن هنا ينطلق الناس إلى مكة شبه عراة" لكنه لا يتطرق إلى وصف الأشراف كما أن اسمه وتاريخه غير معروفين. وفي نفس هذه الفترة أسر الأتراك ألمانياً يدعى (هانز ويلد) في هنغاريا واصطحبه سيده معه إلى مكة لكنه استطاع الفرار بعد ذلك والعودة إلى ألمانيا عام 1611. وبعد بضع سنوات أسر العثمانيون في البحر الأبيض ولداً من البندقية يدعى (ماركو ديلومباردو) كان برفقة عمه القبطان وتم بيعه في سوق العبيد في القاهرة فاشتراه أحد المماليك وأرسله بعد ذلك إلى مكة برفقة ابنه وقد طبع ونشر قصته المبشر الكاثوليكي (أيوجين روجر).
    في عام 1569 وصل إلى مكة سنان باشا في طريقه إلى اليمن لتسلم منصب الوالي فيها وكانت تصرفات قواته وحاشيته مهذبة ولم يتسبب في أية مشاكل سواء في زيارته تلك أو زيارته الثانية وهو في طريق عودته إلى القاهرة.
    في غضون ذلك انتشرت شهرة الشريف الذي عرف بورعه وتقواه وأعمال البر والإحسان وأصبح لقبه (نجم الدين) وهو الذي وضع قانون وأحكام وراثة (أو خلافة) منصب الشريف بين الأشراف الهاشميين بحيث استبعد عن هذا المنصب كافة الفروع القرشية الأخرى. ومن أحفاد أبي نميّ الثاني أشراف (ذوي زيد) وذوي عون وآل بركات.
    ونتيجة لهطول أمطار غزيرة عام 1557 ولأن الخندق المحيط بالحرم تعرض للتجاهل فترة طويلة بحيث امتلأ بالحشائش والأنقاض، تدفقت سيول المياه إلى مكة واقتحمت الحرم وبلغت المياه في ارتفاعها حتى مستوى الحجر الأسود في الكعبة طيلة (36) ساعة وشارك المكيون كافة في نضح المياه وتنظيف الحرم وإصلاح ما خربته السيول وتم حفر خندق بعمق عشرة أقدام بحيث لا تستطيع المياه اقتحام الحرم مرة أخرى في المستقبل. وتم وصل الخندق بأقنية أخرى تحمل مياه السيول بعيداً عن الحرم.
    في عهد السلطان سليم الثاني أعيد بناء الحرم بأسره بكلفة بلغت (110) آلاف قطعة ذهبية جديدة من خزانة السلطان، هذا غير كلفة الخشب الذي نقل من مصر أو كلفة الأدوات الحديدية التي استخدمت في العمل أو القضبان والركائز والروافع والأهلة النحاسية التي صنعت كلها في مصر وأرسلت إلى مكة. ويتحدث الحنفي في كتابه عن تفاصيل العمل الذي لم ينجز إلا في عهد السلطان التالي مراد الثالث في آخر أيام حكم الشريف أبي نُمّي.
    كان من شأن الفتوحات العثمانية الواسعة في أوروبا والقوقاز أن تدفقت الثروات على استانبول ومنها إلى الحجاز الذي ازدهر على نحو ملحوظ في عهد الشريف أبي نميّ الذي كرس حياته لحماية مصالح مكة والمكيين وكان شديد الورع كثير الإحسان والبر وهو ما عزز شهرة الأشراف. وفي عهده لم تتوقف أعمال البناء: تكايا ومبرات وخانات ومدارس ومحاكم وقاعات فضلاً عن أعمال البناء والتجديد داخل الحرم نفسه، وحفر أقنية مياه جديدة توصل مياه التلال إلى مكة على نحو منتظم. ولم تحظ مكة بمثل ما حظيت به من ازدهار وبحبوحة في عهد أبي نميّ الثاني الذي استمر في الحكم حتى بلغ الثمانين من عمره، وكان قبل ذلك قد شارك والده في الحكم وهو في العاشرة من عمره ثم حكم وحده بعد ذلك بمساعدة ابنه احسن بعد وفاة ابنه أحمد. وتوفي أبو نُميّ في نجد على مسيرة عشرة أيام من مكة عام 1584 وحزنت مكة بأسرها وناحت عليه، وحمل جثمانه إلى مكة من الشمال الشرقي بينما كان ابنه وخليفته الحسن وقد حضر من اليمن، يدخل مكة من الجنوب.

    كان حسن آنذاك في التاسعة والخمسين من عمره، وفكر في تعيين ابنه مسعود مساعداً له، لكن كلاً من ثقبة ومسعود توفيا بعد ذلك وثقبة هذا هو جد بني ثقبة الذين ما زال الكثيرون منهم يعيشون حياة البداوة في الصحراء.
    أخذ الشريف حسن جانب الصرامة والقسوة في تعامله مع البدو حتى شاع قول في عهده بأن البدوي قد يقسم كذباً بأي شيء باستثناء اسم الشريف حسن، وازدهر الشعر في أيامه وكان يجزل لهم العطاء ويشجعهم وهو الذي بنى المكان المعروف باسم (دار السعادة) وزاد رخاء مكة حتى إن المكيين استمروا فترة طويلة يترحمون على عهده الذي كان بمثابة (العصر الذهبي) تماماً كما كان الأتراك يترحمون بعد ذلك على عهد السلطان مراد الثالث، والمراكشيون يترحمون على عهد مولاي أحمد كآخر حكام حققوا الازدهار والرخاء لشعوبهم. وبعد وفاته أجمع الأشراف على تعيين ابنه إدريس المعروف بلقب (أبو عون) خلفاً له، واتخذ إدريس شقيقه (فهيدا) مساعداً له، بينما اختار فهيد قريبه (محسن ابن حسين ابن حسن) مساعداً له وفي عام 1610 سافر فهيد إلى تركيا حيث توفي هناك وفي عام 1624 توفي إدريس أيضاً وبذلك خلا الحكم لمحسن وبعد أربع سنوات حلت كارثة بالشريف والمكيين.
    فماذا حدث؟ لقد وردت الأنباء إلى جدة عن قرب وصول أحمد باشا الوالي المعين حديثاً على اليمن، ولسوء حظ الشريف محسن والمكيين غرقت إحدى سفن الباشا التي كانت تحمل متاعه وأغراضه الشخصية قبالة جدة. فأرسل مبعوثاً إلى شريف مكة يطلب منه إرسال غواصين ماهرين لانتشال واستعادة أغراضه الشخصية من السفينة الغارقة. ويخبرنا الحسيني في كتابه (تنضيد العقود) تفاصيل القصة.
    وفيما يلي خلاصتها: حضر الغواصان وشرعا في الغوص وبعد عدة أيام من الغوص والبحث لم يجدا شيئاً، فاعتقد الأتراك أن الشريف محسن الذي لم يحضر بنفسه إلى جدة هو الذي أبلغ الغواصين بعدم انتشال أو استعادة أي شيء من السفينة الغارقة.

    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل الثامن

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي السبت 30 مايو - 19:17

    ويبدو أن أحد الأشراف وهو أحمد بن طالب الحسن قريب الشريف محسن هو الذي أوحى للباشا بهذا الظن، فما كان من أحمد باشا إلا أن أمر بإعدام حاكم جدة من جهة والرسول الذي كان يسعى بينه وبين الشريف محسن من جهة أخرى. وتم تنفيذ الحكم فيهما. ثم انه زود الشريف أحمد ابن طالب بالمال والرجال وشجعه على الإطاحة بالشريف محسن والجلوس في منصبه كحاكم مكة بدلاً منه لكن أحمد باشا التركي مات فجأة. وربما مات مسموماً على أيدي أقارب الرجلين اللذين نفذ الإعدام فيهما وهما حاكم جدة والرسول الذي كان يسعى بينه وبين الشريف محسن. وثارت اضطرابات في جدة عندما انطلق منها الشريف أحمد وبصحبته كافة القوات التركية الموجودة باتجاه مكة وتواجه مع الشريف محسن والقوات المكية ومعظمها من الأشراف في (التنعيم) على طريق مكة. وقرر الأشراف تجنب إهراق الدماء وهكذا اضطر الشريف محسن إلى الانسحاب من الميدان فدخلت القوات التركية مع بقية الأشراف إلى مكة. وسرعان ما أمر الشريف أحمد باعتقال وإعدام مفتي مكة (عبد الرحمن المرشدي) وبرر جريمته بدعاوى باطلة منها أن المفتي حال دون زواجه (أي زواج أحمد) من سلطانة بنت علي شهاب، وأنه خلال حفلة زواجها من شخص آخر وصف أحمد بالشرير، وأنه (أي المفتي) حضر للعزاء –قبل ذلك- بوفاة شقيق أحمد وكان يرتدي ملابس بيضاء. أما المبرر أو الحجة الأخيرة لقتل المفتي فهي أن أحمد وجد تحت وسادة سلفه فتوى ضده موقعة من المفتي. وعلى أي حال اضطر الشريف محسن للتوجه إلى اليمن حيث توفي في منفاه يائساً عام 1629.
    في العام التالي 1630 تم تعيين قانصو باشا والياً على اليمن فانطلق مبحراً وبرفقته جيش كبير وكان يحمل تعليمات باستغلال الفرصة ومعاقبة الشريف أحمد حاكم مكة على الجريمة النكراء وهي قتل مفتي مكة. وسمع مسعود ابن إدريس ابن الحسن وهو أحد الأشراف بوصول قانصو باشا. وكان مسعود يخشى أن يتحول عنه الشريف أحمد ويناصبه العداء كما فعل مع الأشراف الآخرين، فغادر مكة سراً وانطلق لمقابلة قانصو باشا في ينبع.
    من جهة أخرى توجه الشريف أحمد نفسه لمقابلة قانصو باشا لدى وصوله قرب مكة فاستقبله الباشا بحفاوة بل إنه بالغ في طمأنته عندما دعاه لاستعراض الجنود واللاوند (اللاوند كلمة تركية تعني رجال الأسطول أو البحارة) حيث اصطف الجنود واللاوند بانتظام أمام الخيام وكانت الموسيقى قد عزفت لدى وصول الشريف أحمد (ويقول المؤلف: إنها موسيقى بربرية رغم أنه لم يسمعها حتى يستطيع وصفها وهذا مجرد مثال آخر على التحامل –المترجم-) وقام الباشا يرافقه الشريف باستعراض القوات المسلحة. كانت أسلحة الجند تلمع تحت الشمس وملابسهم حمراء ووجوه كبار الضباط صارمة التقاطيع يعتمرون خوذاً رومانية الطراز وهو ما خلق انطباعاً بأنهم جنود لا يهزمون ولديهم قدرات قتالية كبيرة.
    وكان المفروض أن يغادر قانصو باشا مع قواته إلى اليمن في الأسبوع التالي. وبعد ثلاثة أيام من زيارته الأولى قام الشريف أحمد برفقة ثلاثة أشراف آخرين ووزيره وحافظ خزينته وقائد حرسه الشخصي بزيارة معسكر الباشا لوداعه. وتمّ الترحيب بهم وجلسوا للعب الشطرنج وانتهى لعب الشطرنج عند الغروب وعند ذلك دخل ضباط من اللاوند (البحارة) وخنقوا الشريف وأبلغوا صحبه بالعودة إلى مكة وإخبار الناس بإعداد الشريف أحمد فعادوا ليجدوا الشريف مسعود ابن إدريس ابن الحسن قد أعلن نفسه حاكماً على مكة.
    وخلال حكم مسعود القصير انهارت الكعبة بأسرها نتيجة الفيضانات التي اقتحمت الحرم مرة أخرى وتوفي زهاء خمسمائة شخص غرقاً في مكة وجوارها حيث هطل مطر غزير وسال من التلال والجبال ليشكل سيولاً كبيرة جرفت في طريقها كل شيء حتى دخلت مكة وهدمت الكعبة. وسرعان ما أرسل السلطان مراد الرابع مهندساً يدعى (رضوان آغا) وهو مملوك خصي (طواشي) لإصلاح الحرم. وفي أثناء وجود رضوان في مكة توفي الشريف مسعود فاستلم الحكم رضوان باسم السلطان إلى أن تلقى فرماناً من الأستانة (استانبول) فطلب من الأشراف اختيار واحد من بينهم. فعينوا أكبرهم سناً: (عبد الله ابن حسن ابن محمد ابن أبي نميّ) الذي تنازل عن المنصب بعد تسعة أشهر لصالح ابنه محمد وأرسل يستدعي زيد ابن محسن من اليمن ليكون مساعد ابنه وشريكه، وتوفي عبد الله عام 1631.
    كانت الاضطرابات الطبيعية والسياسية التي عانى منها سكان مكة في تلك الفترة لا تعتبر شيئاً مقارنة بما سيكابدونه، ذلك أن جيش قانصو باشا فشل في إنجاز المهمة التي أنيطت به في اليمن وذلك لقسوة ووحشية أساليبه وعدم انضباط رجاله الذين كانوا ينهبون ويغتصبون في كل مدينة يدخلونها وبناء على أوامره الشخصية. وانطلقت إشاعات بأنه أبحر مع جيشه إلى مصر وأنه في طريقه إليها، وكان خوف المكيين عظيماً في أن يقوم قانصو بزيارة مكة مرة أخرى.
    ومن قنفذة على الساحل إلى الجنوب من جدة وردت رسالة إلى الشريف موقّعة من ضابطين تركيين كبيرين وهما الآغا محمود بك والآغا علي بك يقولان فيها: إنهما في طريقهما إلى مصر لكنهما يفضلان قضاء بضعة أيام في مكة لتجهيز أنفسهما وقواتهما للرحلة الطويلة إلى مصر. ولأن الأشراف يدركون مخاوف سكان مكة فقد رفضا استقبالهما وأمرا بردم الآبار بين قنفذة وبين مكة. ولدى سماع الضابطين وقواتهما بهذا التصرف العدائي قررا اقتحام مكة عنوة. وخرج الشريفان محمد وزيد مع بقية الأشراف والجنود والعبيد لملاقاة القوات التركية ومجابهتها وخيم الجيش الشريفي عند بركة المعجن بينما وصل الأتراك إلى السعدية على بعد (40) ميلاً إلى الجنوب من مكة.
    وحضر السنجق التركي (الحاكم) في جدة مع كافة قواته لدعم الأشراف. وبعد أربعة أيام وفي صباح الثامن عشر من آذار 1631 التقى الجيشان في وادي العبر وسرعان ما اشتبكا. كان القتال ضارباً وعنيفاً على غير المألوف وقتل الشريف محمد ومعه ثمانية أشراف آخرون وجرح الشريف هزاع جرحاً بليغاً وفقد يده بعد ذلك كما قتل زهاء خمسمائة جندي مكي. وتوفي السنجق (الحاكم) التركي من الإرهاق والإعياء بعد المعكرة مباشرة، بينما استطاع زيد الانسحاب من أرض المعركة نتيجة تفوق القوات التركية وتوجه إلى المدينة. ودخلت القوات التركية إلى مكة ونهبت المواد التموينية وذبحوا الجمال والتهموها وحسب ما يقول الحسيني (اغتصبوا العذارى والأولاد…. وظلوا طيلة أسبوع يرغمون البنات والأولاد على تناول الخمر ليسهل اغتصابهم) وفي غضون ذلك استغل البدو مناسبة الفوضى وأعلنوا الثورة وبدأوا ينهبون القوافل المتوجهة إلى مكة وهم آمنون من العقاب.
    ولأن جدّة رفضت الاستسلام فقد غزتها القوات التركية بقيادة الضابطين المذكورين واقتحمتها وفعل الجنود بها كأفعالهم في مكة… كانوا يقبضون على التجار الأثرياء ويعذبونهم حتى يكشفوا عن أموالهم.
    ومن المدينة واصل الشريف زيد إرسال المبعوثين الواحد تلو الآخر إلى مصر يطلب المساعدة. وسرعان ما أرسل السلطان سبعة سناجق وهي قوة كبيرة كما أرسل خلعة إلى زيد ارتداها داخل مسجد الرسول في المدينة قبل عودته إلى مكة. كان الجنود الأتراك المتمردون في غضون ذلك قد عينوا الشريف (نامي ابن عبد المطلب الحسن) كحاكم على مكة يتلقى الأوامر منهم. وعندما وصلت إليهم الأخبار عن تقدم جيش مصري بقيادة الشريف زيد بالإضافة إلى قواته الخاصة غادروا مكة على جناح السرعة إلى تربة في الداخل واصطحبوا معهم نامي وشقيقه سعيد ابن عبد المطلب والشريف عبد العزيز ابن إدريس. كان الوقت ظهراً عندما اجتازوا باب النبي وانطلق صوت المؤذن يدعو المؤمنين للصلاة وفي تلك الفترة سقطت راية الجند الأتراك المتمردين من يدي حاملها وكان سقوطها على ذلك النحو نذير شؤم بالنسبة لمستقبلهم، هكذا اعتقدوا، وقد تحقق ذلك بالفعل.
    كان الظلام حالكاً. وكان الشريف عبد العزيز قد اهتم كثيراً بمظهره ومظهر مطيته. فاستغل الظلام وتسلل من معسكر الجند المتمردين في جبل المرّة وتوجه إلى ينبع. وفي اليوم التالي اكتشف الأتراك هروب الشريف عبد العزيز فوضعوا الشريفين أبا نامي وسعيداً تحت الحراسة وواصلوا فرارهم. وفي اليوم التالي دخل الشريف زيد مع قواته إلى مكة.






    (ح) حكم . (1) ذوو بركات. (2) ذوو ثقبة. (3) العبادلة. (4) ذوو مسعود. (5) ذوو زيد.

    (1) العالم الإسلامي المجلد (32) رقم (4) تشرين أول 1942 (مؤسسة هارتفورد).


    أنتهى الفصل الثامن
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty الفصل التاسع

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي السبت 30 مايو - 19:23

    الفصـل التــاسع: زيد ابن محسن مؤسس فرع ذوي زيد وأولاده وأحفاده 1632 – 1716

    ولد زيد في الجنوب في وادي بيشة عندما كان والده في منفاه الاختياري. وكان في الخامسة والعشرين من عمره عندما تلقى الخلعة في المدينة وسار إلى مكة ليحكمها. وينقل لنا الحسيني عن العصامي القصة التالية عن تاريخ ولادته: "إن ضارباً بالرمل يستعمل الرمل لمعرفة حظوظ الناس حضر إلى مجلس الشريف زيد وقال له: "لقد حملتك أمك في شهر رمضان عام 1015 هجري (الذي يوافق 1607 ميلادية) ودهش الشريف وشعر بالإحراج لأن الوصال الجنسي غير مستحب في شهر الصوم. فسأل والدته التي أكدت له ما قاله العرّاف وأوضحت له أن والده عاد من إحدى غزواته مسروراً وأول ما فعله القيام بمواصلتها".
    لدى دخوله إلى مكة كان الحاكم الشاب في منتهى الوقار والحكمة عندما صمم على إكمال مناسك الحج قبل مطاردة نامي والأتراك المتمردين. وفي غضون ذلك استسلم بعض الجنود المتمردين الذين لم يلحقوا بقادتهم. وكان أمير الحج الشامي إبراهيم باشا هو الذي توسط لاستسلامهم بعد تأمينهم على حياتهم. وبعد أيام عقد زيد مجلس حرب شارك فيه كافة الأشراف بالإضافة إلى السناجق (أو الضباط) الأتراك الذين أرسلهم السلطان مراد الرابع، وعلماء مكة. وحملت القوات المكية أسلحة نارية وكانت هذه الأسلحة جديدة على المقاتلين العرب، واستطاعت القوات المكية والتركية أن تلحق بالجزء الأكبر من الجيش المتمرد في تربة عند حافة هضبة نجد وأن تلحق به الهزيمة، فتراجع المتمردون إلى قلعة (قابل) حيث أرسل الآغا علي بك موفداً إلى الشريف يعرض الاستسلام شريطة تأمين حياته وحياة رفيقه الآغا محمود بك والعفو عنهما، ووافق الشريف في البداية على ذلك. لكن بسبب مشاعر الاستياء في أوساط المكيين فقد عفا عن علي بك لكنه أمسك بمحمود بك وضربه وعذّبه ثم أمر بتعريته من ملابسه وربطه مقلوباً على ظهر جمل بحيث يكون وجهه للأعلى ورأسه عند ذيل الجمل زيادة في إذلاله والانتقام منه. وسار الجمل في شوارع مكة ومحمود بك مقلوبٌ على ظهره على ذلك النحو.
    وفيما يلي مختصر ما ذكره الحسيني(1) عن تعذيب وقتل الآغا محمود بك: "بعد أن صلبوه أحدثوا بسيوفهم جراحاً في يديه وكتفيه ووضعوا في الجروح خرقاً مبللة بالزيت وأشعلوا فيها النار. ثم أنزلوه وربطوا يده اليمنى بقدمه الأيسر وعلقوه بذلك الشكل على قضيب فوق قبره حتى مات… وكان يشتم ويلعن ويولول حتى توفي وعند ذلك تمّ إنزاله ودفنه. أما بالنسبة للآغا علي بك فلم يتعرض للأذى لأنه هو الذي اعتقل محموداً وسلمه للشريف هذا من جهة ولأنه من جهة أخرى اعتنى بنساء زيد في مكة في أثناء نهبها واغتصاب أهلها وكان يرسل لهن يومياً يسألهن ما إذا كن بحاجة لأي شيء. وكان موقفه هذا هو الذي أنقذه من موت محقق".
    أما الشريف نامي الذي حكم مائة يوم فقط وشقيقه سعيد فقد تشكلت محكمة من العلماء والسناجق لمحاكمتهما. ولدى سؤال العلماء عن الحكم قالوا: (إنه حكم الله) وتقدمت مفرزة من الجند وأخذتهما حيث تم تنفيذ الإعدام فيهما بقطع الرأس وعرض رأسيهما على سطح زاوية أتباع الشيخ عبد القادر الكيلاني حتى يراهما الناس.
    كان من شأن السنوات التي أمضاها زيد في الجنوب أن زودته وأمدته بالمعرفة والثقة بالنفس أكثر من عمره وأكثر من أبناء جيله في مكة، بينما كانت صداقاته مع شيوخ القبائل وواحات منطقة البيشة بمثابة دعم إضافي له عندما يواجه تدخلاً تركياً متزايداً. وفي عام 1638 احتل السلطان مراد بغداد وطلب من الشريف زيد طرد الفرس من مكة فاستاء زيد وسكان مكة من ذلك الطلب لكنه اضطر لتنفيذه على مضض. وكان الشريف زيد عندما طلب قوات من مصر للقضاء على القوات التركية المتمردة في مكة كما أسلفنا قد طلب أيضاً أن يحول له جزءاً من الجمارك والرسوم التي يستوفيها المصريون في ميناء جدة. لكنه وجد الآن أن المسؤول المصري الذي تمّ إرساله إلى جدة لهذه الغاية عام 1642 قد عيّن في نفس الوقت مفتشاً على الأماكن المقدسة ويسعى إلى زيادة وليس تقليص السيطرة التركية والمصرية. وقرر زيد الاحتفاظ بسلطاته وصلاحياته. فعيّن إبراهيم ابن محمد مساعده السابق نائباً عنه في مكة، وأصدر أمره على نحو سري إلى شيخ إحدى القبائل لاغتيال المفتش التركي وبعد ذلك أخذ يعد العدة للقيام برحلة طويلة يزور خلالها القبائل العربية.
    في تلك الفترة تم الإعلان عن وصول (بشير آغا) الحبشي الأصل وهو خصي (طواشي) ومن المقربين جداً إلى السلطان، لقد انطلق من الأستانة كممثل خاص للسلطان يتمتع بصلاحيات واسعة واستقبل بحفاوة واحترام في مصر. واستبعد زيد فكرة الخضوع أو الإذعان لذلك الخصي الحبشي لكنه شعر بضرورة إرسال مندوب عنه يرحب به في ينبع وطلب من المندوب في نفس الوقت أن يبلغه بواسطة أحد مرافقيه وبأسرع وقت ممكن حجم القوة المرافقة لبشير آغا(2) ولم يكتف مندوب زيد وعملاؤه بإبلاغه عن حجم القوة المرافقة للآغا بل أضافوا إلى هذه المعلومات معلومة في غاية الأهمية وهي أن الآغا استلم رسالة من استنبول (الأستانة) تفيد أن السلطان مراد الرابع قد توفي وأن الآغا يخفي هذه الحقيقة. وسرعان ما قرر زيد تغيير برنامج الاستقبال الحافل الذي كان يعده للآغا لدرجة أنه أزال بعض الأثاث من المنزل الذي خصصه لإقامته. وعندما اقترب موكب الآغا من مكة خرج الشريف زيد لاستقبال الخصي. وفي طريق العودة إلى مكة مع الآغا كان الشريف زيد يتعمد أن ينخز حصانه بحيث يبقى متقدماً عليه. ولدى وصوله إلى القصر التفت إلى الآغا قائلاً: "رحمة الله على السلطان مراد" وأدرك بشير عند ذلك أن زيداً يعرف بكل تأكيد أن مهمة الآغا لم تعد ذات أهمية بعد وفاة السلطان الذي أوفده ومنحه تلك الصلاحيات.
    بعد بضعة أيام انطلق الشريف في رحلته إلى القبائل العربية، بينما اتجه الآغا الحبشي إلى الطائف في الجبال حتى يقابل مصطفى بك مفتش جدة التركي الذي كان في الطائف آنذاك. ولا شك أن الآغا كان يطمع بتحالف ودعم زميل تركي يعمل في خدمة العاهلية العثمانية. وشاءت الصدف أن يقرر مصطفى بك العودة إلى جدة وفي أحد الوديان كان مرافقوه وحراسه يتقدمون عنه وآخرون يسيرون خلفه على بضع عشرات الأمتار… أي أن مصطفى كان يسير وحده في ذلك الوادي عندما اقترب منه فارس عربي وعاجله بعدة طعنات من خنجره وولى على حصانه هارباً بينما سقط مصطفى بك يتضرح في دمائه وفارق الحياة بعد ثلاث ساعات. كان الشريف بعيداً في نجد في منطقة الخرج عندما حضر من أبلغه بتحقيق رغبته. وكان زيد قد قرر أن يقوم بزيارة إلى المدينة بالقوة، وما إن اقترب منها ونصب خيامه خارج أسوارها حتى وردت الأخبار باغتيال القاضي التركي فيها وهو في طريقه إلى الصلاة.
    كان القاضي يمر قرب مكتب الدفتردار (المحاسب العام –أي المسؤول عن الخزينة) بعد الغروب وبرفقته ثلاثة من أتباعه عندما اقترب رجل ملثم وهو على حصانه وطعن القاضي بسيفه في منطقة القلب ولاذ بالفرار على صهوة حصانه ومال القاضي فوق رقبة حصانه واستمر الحصان سائراً إلى أن دخل المسجد والقاضي منكفئ على وجهه حتى وصل الحصان إلى منبر عثمان (الخليفة الرابع) حيث هرع المصلون إلى إنزاله وهو يستغيث بالله وبالرسول (ص) إلى أن لفظ أنفاسه في المسجد(3).
    انطلق الجنود الأتراك بعد أن علموا بمقتل القاضي وحملوا السلاح ووضعوا حراساً على أبواب المدينة وجهزوا المدافع ووجهوها على مخيم زيد. وكان حشد من الرجال فوق الأسوار يصرخون باتجاه الأنوار المنبعثة من مخيم زيد (ابعد عنا ولا تقترب!!) وتصاعدت الفوضى والاضطراب في المدينة. وأرسل زيد بعض ضباطه المصريين يحملون استنكاراً وتنصلاً خطياً من الجريمة. لكن الضباط المصريين لم ينجحوا في إقناع الحرس بفتح الأبواب فأدخلوا الاستنكار الخطي للجريمة الذي أرسله زيد من تحت أبواب السور، ثم إن الحراس بعد أخذ ورد فتحوا الباب وتسلموا الرسالة وعاد ضباط زيد إلى مخيمهم. وبدأ تحقيق مكثف في اليوم التالي للتعرف على القاتل وتم اعتقال عدة أشخاص لكن أخلي سبيلهم الواحد تلو الآخر لافتقاد الأدلة والمستمسكات.
    وفي نفس الوقت قام غطاس بك خليفة مصطفى بك في جدة بتعيين الشريف عبد العزيز ابن إدريس حاكماً على مكة وهو الأمر الذي دعا زيداً للعودة بسرعة لمقاتلة كل من غطاس بك وعبد العزيز ابن إدريس واستطاع أن يلحق بهما الهزيمة لدرجة أن طلبا العفو عن طريق مبارك ابن بشير. وأعيد غطاس إلى جدة برفقة زهاء خمسين جندياً حيث تلقى فرماناً من الأستانة بعزله وبعد بضعة أيام غادر جدة إلى ينبع في طريقه إلى مصر فلحق به ربيبه عبد العزيز الذي توفي بعد بضعة أشهر بمرض الكوليرا. وفي عام 1600(4) عـين غطاس أميراً للحج المصري فدهش زيد من ذلك واستاء كثيراً لدى وصوله لدرجة أنه اكتفى بمصافحته ومنذ ذلك اليوم توقفت العادة القديمة وهي معانقة الشريف لأمراء الحج الذين يصلون إلى مكة على رؤوس قوافلهم.
    وبسبب انتشار الجراد في اليمن والحجاز حدثت مجاعة في مكة عام 1659 فارتفعت الأسعار على نحو درامي إلى أن وردت شحنات الحبوب والأغذية من الأقطار المجاورة. وهطلت في السنوات التالية أمطار غزيرة خاصة عام 1662 و 1665 لدرجة أن تدفقت السيول إلى مكة وأشرف زيد بنفسه على تنظيف المدينة والحرم وكانت الطوفانات قد تسببت في مقتل ستة أشخاص غرقاً. ونتيجة للأمطار الغزيرة كان الموسم جيداً والمحاصيل وافرة بحيث انخفضت الأسعار إلى أقل من نصف ما كانت عليه في السنوات السابقة.
    ومع شيوع الرخاء ووفرة المحاصيل توفي الشريف زيد عام 1666 وهو جد بني زيد (أو ذوي زيد) من الأشراف، بعد أن أوقف محاولات الأتراك في التدخل بشؤون مكة والحجاز بواسطة نفوذه الكبير في أوساط القبائل التي أمضى طفولته ومطلع شبابه بينها.
    وخلفه ابنه سعد الذي واجه بعض الصعوبات، وذلك أن (حمود ابن عبد الله) نافسه على المنصب. وكان عماد أفندي الممثل التركي في جدة موجوداً في مكة آنذاك واتخذ قراره في صالح سعد، لكنه أضاف تحفظات على القرار عندما اكتشف وجود أطراف معارضة لسعد… وأتى عدد من الأشراف وقابلوا عماد أفندي وأكدوا له بأن (محمد يحيى) وهو ابن آخر لزيد أحق من سعد بالحكم لأن زيداً سبق أن حصل على مرسوم سلطاني بتعيين محمد يحيى خلفاً له. ومع ذلك أرسل عماد أفندي رجاله إلى سعد مع خلعة ورسالة قال فيها إنه لا يملك صلاحيات تعيينه حاكماً لكنه يعينه قائم مقاماً بالوكالة، وعرف خصوم سعد بالأمر فاستعدوا للقتال بينما قام (ذو الفقار) وهو مملوك تركي مخلص كان يملكه زيد وانتقلت ملكيته إلى سعد بحشد رجال سعد، وكان ذو الفقار على صلة وثيقة مع عماد أفندي. وبعد ثلاثة أيام بدأت الاشتباكات بين سعد وأنصاره من جهة وبين حمود ابن عبد الله ومحمد يحيى وأنصارهما من جهة أخرى غير أن أحداً لم يصب بأذى واستمرت الاشتباكات من مسافات بعيدة طيلة ثلاثة أيام ثم حل السلام فاحتفل المكيون بذلك ثلاثة أيام أخرى.
    وسارع سعد بإرسال مملوكه الحبشي بلال إلى مصر مع تقرير مفصل عن الأحداث الأخيرة في مكة وطالب بتثبيت تعيينه حاكماً. ونقلت القاهرة طلب سعد إلى الأستانة، وفي غضون ذلك أرسل كل من منافسيه حمود ابن عبد الله ومحمد يحيى، وعلى نحو مستقل موفداً إلى القاهرة، لكن موفد حمود وجد مقتولاً بعد يومين من وصوله إلى القاهرة والرسالة ما زالت في جيبه. أما محمد يحيى ابن زيد فكان يعتمد على أتباعه في المدينة حيث وقّع عدد من الأشراف عريضة لصالحه وأرسلوها إلى والي مصر مع أربعين ألف دينار.
    لكن سعداً هو الذي تلقى في النهاية فرماناً سلطانياً بتعيينه حاكماً على مكة. وعندما سمع حمود بذلك غادر مكة إلى وادي المر وبدأ من هناك بشن الغارات عليها ليلاً لترويع سكانها وذلك لإيجاد حالة من الفوضى يظهر معها سعد بمظهر العاجز عن توطيد الأمن، وأن المكيين لا يريدونه.
    وفي نفس الوقت ادعى حمود بأن سعداً وعده بمبلغ كبير إذا عُين حاكماً لمكة وقابل أوزبك بك أمير الحجيج المصري وهو في طريقه إلى مكة، وأنذره بأنه سيهاجم الحجيج المصري إذا لم يقم بفض الخلاف بينه وبين سعد، وأن سعداً وعده بمائة ألف ليرة ذهبية أشرفية لكنه لم يدفعها بل إنه يسيء معاملته. وتعهد الأمير أوزبك بك بأنه سيقنع سعداً بدفع (50) ألف ليرة أشرفية وبذلك سمح حمود لقافلة الحجيج المصري بمواصلة سيرها إلى مكة حيث دفع سعد المبلغ الذي تعهد به الأمير أوزبك بك، وحاول أمير الحجيج الشامي بعد ذلك عقد الصلح بين سعد وبين حمود الذي قبل الحضور إلى مكة لعرض قضيته أمام سعد وأمراء الحج. ورغم تيقن الحضور بأنه كان وراء الفوضى وعمليات السطور والسلب التي تعرضت لها مكة غير أن أحداً لم يجرؤ على إصدار الحكم سواء لمصلحته أو لمصلحة سعد.
    وقرر حمود عند ذلك رفع قضيته أمام السلطان وأرسل لهذه الغاية مبعوثين مع الكثير من الهدايا إلى عمر باشا والي مصر، وفي منتصف الطريق قابل المبعوثون وفداً من إبراهيم باشا الذي خلف عمر باشا يحمل رسالة من إبراهيم باشا إلى الشريف سعد تحثه على التوصل إلى تسوية سلمية مع حمود، ومع ذلك واصل مبعوثو حمود طريقهم إلى مصر حيث تم استقبالهم بترحاب في البداية، لكن لأن الوفد المصري الذي أرسله إبراهيم باشا لم يرجع من الحجاز فقد أصبحوا موضع شك وريبة لدرجة أن إبراهيم باشا شكل قوة عسكرية لمهاجمة حمود الذي حامت الشكوك حوله لأنه قتل أفراد الوفد المصري واستولى على رسالة الباشا، ولدى سماع حمود بذلك سارع إلى حشد قبيلة جهينة قرب ينبع لدعمه… وانطلق الجيش المصري وكانت التعلميات هي السير مباشرة إلى مكة والانضمام فيها إلى قوات الشريف سعد قبل دخول المعركة مع قوات حمود، وقد نفذ قائد الحملة المصري يوسف بك هذه التعليمات بحذافيرها، فسلك الطريق المباشر إلى مكة رغم تحذيرات التجار الذين رافقوا قواته لحماية بضائعهم، وكان من شأن سلوكه طريقاً مفتوحاً أن انقض حمود بقواته على الجنود المصريين وألحق بهم هزيمة كبرى وأسر يوسف بك ونسائه ومات القائد يوسف بك بعد أسابيع في السجن. وعندما وصلت هذه الأخبار إلى القاهرة تم إعدام كافة موفدي وأنصار الأشراف فيها، لكن علماء القاهرة رفضوا المصادقة على إعدام الأشراف الأربعة الذين كانوا فيها فظلوا في السجن إلى أن عزل إبراهيم باشا وتم تعيين والٍ آخر.
    وهكذا استمر حمود في تمرده كنسخة عربية عن روبن هود. وشن حملات ناجحة في الصحراء بعيداً عن الحجاز ضد قبائل عنيزة والعوازم ومطير والظفير في نجد شرقي الجزيرة العربية ولم يوقف حمود تمرده إلا في عام 1670 بعد معركة النصر حيث حضر إلى الطائف وأقسم على الصداقة الأبدية مع سعد عند قبر عبد الله ابن العباس.
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل التاسع

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي السبت 30 مايو - 19:26

    وفي غضون ذلك كابدت مكة عام 1667 أسوأ مجاعة في تاريخها واضطر الناس لالتهما القطط والكلاب وحتى الخفافيش والجرذان. وتحت وطأة الجوع باع الكثير من الناس كل ما يملكون في سبيل الحصول على الطعام وهاجم الفقراء الأغنياء بحثاً عن ما يسدون بهم رمقهم. وكان الناس يتساقطون في الشوارع موتى من شدة الجوع والإرهاق، وإذا جلس أحدهم من التعب فإنه لا يستطيع القيام ويبقى في مكانه حتى يموت. ولم تكن الأوضاع أفضل حالاً في جدة. وهكذا توجه حشد من الجياع إلى بيت الشريف وطالبوا بإنزال العقوبة في كل من الناظر (أي محافظ مكة) والمحتسب (المسؤول عن الأسواق) وقد أمر الشريف بجلدهما ومن ثم طردهما من الخدمة… كان الناس يطحنون الحمص وأية حبوب أخرى ليصنعوا من دقيقها الخبز حتى لم يبق شيء من الحبوب. وامتدت المجاعة وعضت بأنيابها القبائل وخاصة قبائل عتيبة في هضبة نجد وقبائل هذيل واللحيان قرب مكة، فأخذت تغزو الحواضر بوحشية وقسوة وتنهب وتسلب في سبيل تأمين الطعام. كان عشرات المئات من الرجال يمتطون الخيول والجمال ويهاجمون القرى والبلدات بينما يحاول الشريف منع هذه الغزوات قدر استطاعته. وأخيراً وقبل موسم الحج رست عشر سفن في ميناء جدة آتية من مصر محملة بما يكفي من المواد التموينية فتوقفت المجاعة.
    وفي حزيران 1668 ظهر مذنّب في سماء مكة بشكل واضح وفي نفس ذلك الوقت نصب الشيخ محمد ابن سليمان المغربي مزولة (ساعة) شمسية في ساحة الجامع فعزا الجهلاء ما حدث في السماء (أي ظهور المذنّب) إلى ما فعله الشيخ المغربي في الأرض، وعرض الموضوع على الشريف فأمر بالاتفاق مع القاضي بإزالة المزولة. واستأنف الشيخ المغربي القرار المذكور إلى شيخ الإسلام (أي كبير العلماء والقضاة) في الأستانة، فأصدر هذا قراره بإعادة المزولة إلى ساحة الجامع (لأنها تفيد المسلمين في معرفة أوقات الصلاة)(5).
    وفي نفس ذلك العام وردت إلى الشريف سعد في موسم الحج خلعتان أحدهما من السلطان محمد الثاني في الأستانة والثانية من والي السلطان في مصر. لكن عدد الحجاج كان قليلاً نسبياً وذلك بسبب الخشية من تجدد القتال بين الجنود وبين قوات الشريف حمود. وبعد انتهاء مناسك الحج قرر الشريف والقوات المصرية شن حملة تأديبية ضد الشريف حمود فهاجمت قواتهما ينبع غير أن حمود تمكن من الانسحاب منها.
    وحدثت بعض المتاعب في العام التالي لدى وصول حسن باشا مع الحجيج الشامي حيث انتشرت شائعة مفادها أنه يحمل فرماناً من السلطان بأن يحكم بنفسه مكة بعد أن يطرد كافة الأشراف منها. انتشرت الشائعة في البداية في المدينة فاستاء أشراف المدينة منها، ثم انتقلت الشائعة إلى مكة وهو ما دفع الأشراف لاتخاذ قرار موحد وهو عدم مغادرة مكة إلى جبل عرفات، بل إنهم رفضوا حتى مجاملته بالزيارات وأغلق التجار متاجرهم ومخازنهم ولم يكن ثمة مكي على استعداد لخدمة رجال حسن باشا.
    وسرعان ما أدرك الباشا سبب استياء المكيين والأشراف فدعا إلى عقد اجتماع لتبديد الشكوك التي أوجدتها الشائعات وعند ذلك اطمأن الأشراف والمكيون وأحسنوا معاملته ومعاملة رجاله، وبعد بضعة أيام وصلت قافلة الشاه الفارسي (شاه إيران) تحمل كمية هائلة من التحف والهدايا والأموال إلى الحرم وإلى سكان مكة وهو ما جعلهم ينسون حسن باشا. واستمرت مناسك الحج هادئة على طبيعتها إلى حين رمي الجمرات حيث وقع اضطراب في الحرم، فتوجه حسن باشا على صهوة جواده لاستعادة الهدوء والنظام في الحرم وأصيب بثلاث طلقات وتم نقله محمولاً إلى مكان إقامته بينما هاجم رجاله كافة الحاضرين وأعملوا السيوف والرماح فيهم، ففر السكان إلى منى والوديان بينما عاد الشريف بسرعة إلى مكة مع حراسة ووصل إليها بعد المغرب بقليل.
    أصدر الشريف على الفور أوامره بالاستعداد للحرب. وكان الضوء المنبعث من توهج البروق التي قتلت رجلاً قبل بضعة أيام قرب الحرم، تضيء من حين لآخر شوارع مكة التي غادرها الكثيرون من السكان، وعقد الأشراف والوجهاء مجلساً للتشاور، ووقف سعد في النهاية مع الجانب الذي يؤيد السلام ولا يحبذ الحرب ففتح خزانته بسخاء ووزع مبالغ طائلة سبق أن تلقاها من الشاه الفارسي على الأشراف وضباطهم الزنوج وغادر مكة إلى ينبع وغايته حماية مكة.
    وعندما سمع حسن باشا بانسحاب الشريف سعد وقواته من مكة تبددت نوازع الانتقام في نفسه وأمر بتولية الشريف أحمد الحارث مكان الشريف سعد ثم غادر مع قواته نحو سورية حيث توفي متأثراً بجراحه في غزة.
    وعاد سعد إلى مكة قبل موسم الحج التالي لكنه شعر بالقلق لدى سماعه أن قوة تركية كبيرة بقيادة حسين باشا ترافق الحجيج الشامي.
    وقد سجل انطباعاته عن تلك الأيام الرحالة التركي الشهير أوليا جلبي (أو شلبي) الذي حج عام 1671 على النحو التالي:
    "انطلق حسين باشا إلى مكة للحج على رأس قوة كبيرة وكانت معاملته حسنة للحجاج من مختلف أنحاء العالم الإسلامي. وتأثر الشريف سعد كثيراً بما سمعه عن كرمه فأهداه حصانين أصيلين وستة عبيد أحباش من الذكور والإناث في مقتبل العمر وعدة أحجار كريمة وملابس مختلفة وعقاقير طبية نادرة وكمية من العنبر والأكواب الزجاجية المزخرفة وأكواب الكريستال (البلور) وحمولة خمسين جملاً من المواد الغذائية والأشربة (أي أنواع المشروبات غير الكحولية) وقد أحضر هذه الهدايا وكيل الشريف فقبّل يد حسن باشا وظل واقفاً إلى أن سمح له بالجلوس، كان الباشا حينئذ مخيماً في وادي الفاه على بعد مرحلتين من مكة حيث ضحى بأربعين جملاً وشاة شكراً لله على سلامة الوصول. وتجمع الأشراف والعلماء والوجهاء ورجال الدين في مكة وانطلقوا لمقابلة الباشا والترحيب به وفقاً لترتيب معين فالأشراف في المقدمة يليهم العلماء إلخ. وبعد ذلك حضر للترحيب بحسين باشا كل من أوزبك بك أمير الحج المصري ومحمد البكلجي حاكم جدة وسبعة أغوات وهم قادة القوافل المصرية والضباط المساعدون والرقباء ورؤساء الطهاة وقدم لهم الباشا الشربات (أو الأشربة غير الكحولية) والعطور. وسأل الباشا وكيل الشريف عن سبب عدم حضور الشريف سعد بنفسه وأعرب عن تمنياته في أن يكون في حالة جيدة، وبرر الوكيل غياب الشريف بأسلوب دبلوماسي، وعند ذلك قال الباشا "إذا كان الجبل لا يستطيع التحرك لمقابلة رجل فيتعين على الرجل أن يذهب إليه بنفسه!" وتقبل الهدايا التي أرسلها الشريف وطلب من الوكيل أن ينقل شكره إليه، ثم أمر بمواصلة السير حتى وصل إلى الضاحية الشمالية من مكة فقام ببعض المناسك الأولية ثم توجه على نحو مفاجئ إلى منزل الشريف الذي شعر بإحراج كبير إزاء تواضع حسين باشا ومحاولته استرضائه. ووجه الباشا دعوة إلى الشريف سعد للتكرم بزيارته في مقره في صباح اليوم التالي لاستلام خلعة وفرمان جلالة السلطان. وأضاف حسين باشا أن بالإمكان إذا شاء الشريف أن يدخلا سورية مع الحجاج والجيش إلى مكة. وانفرجت أسارير الشريف للكلام المعسول الذي سمعه من الباشا وقدم لمرافقيه الشربات والعطور والبخور كما قدم للباشا عشرة طرود من العنبر وثلاث قلائد من اللؤلؤ وصندوقاً مليئاً بالأحجار الكريمة وعشر حقائب مليئة بالملابس الفاخرة وثلاثة عبيد أحباش، وعند ذلك استل الباشا خنجره المطعم بالماس من وسطه ووضعه في حزام الشريف سعد الذي كان متوسط الطول أسمر البشرة دقيق الأنف ذا ملامح هادئة غير أنه مثل حاتم الطائي في كرمه. وعاد الباشا إلى مقر إقامته وأمر ضباط جيشه بتحذير القوات وضرورة أخذ جوانب الحذر والاحتياط تلك الليلة وانتظار الأوامر التالية". انتهى الاقتباس.
    ويوضح أوليا شلبي سبب إرسال حسين باشا إلى الأراضي المقدسة على رأس ثلاثة آلاف جندي مصري قدمهم إبراهيم باشا والي مصر وثلاثة آلاف جندي سوري قدمهم والي سورية بالإضافة إلى ألفي جندي رافقوا حسين باشا من الأستانة وبذلك يكون مجموع جيشه ثمانية آلاف جندي. ويضيف أوليا شلبي قبل عام من حجته أصدر أحمد باشا العنكبوت أوامره إلى مندوبه حسن باشا حاكم جدة للاضطلاع بمهمة إصلاح وتنظيم الحرم وأن يزعم الأشراف والوجهاء على تحمل تكاليف الإصلاح على نفقتهم الخاصة. وكان من الواضح أن الأشراف سيرفضون هذا الابتزاز أو أي تدخل آخر في شؤونهم. وبينما كان آلاف الحجاج وقوات حسين باشا داخل الحرم لإقامة شعائر الحج أغلقت أبواب الحرم وحوصرت قوات حسن باشا والحجاج في داخله وتحركت مفارز حسن باشا العشر وعبروا من بوابة عمر (ر) وتسلقوا أسطح الحرم على أمل الدفاع عن أنفسهم وعن الحجاج.
    ويصف الرحالة الشلبي ما حدث على النحو التالي:
    "وفي غضون ذلك صعد رجال الشريف سعد إلى جبل أبي قبيس بينما قام رجال آخرون باحتلال مآذن مكة السبع ووضعوا فيها عدداً من القناصة سرعان ما بدؤوا في إطلاق النار على قوات حسن باشا من المآذن والمباني الأخرى وقتل من جراء هذا الاشتباك في داخل الحرم زهاء مائتي شخص وجرح زهاء سبعمائة آخرين سواء من الحجاج أو قوات حسن باشا، ولم يسبق أن حدثت هكذا مذبحة داخل الحرم، وفي جواره من قبل حتى عندما هاجم الحجاج ابن يوسف الثقفي عبد الله بن الزبير في مكة واستمر القتال يوماً وليلة رغم النهي القرآني المشدد عن ذلك وتحريم القتال في الحرم بشكل عام وفي موسم الحج بشكل خاص.. وامتلأت ساحات الحرم بأكوام الجثث وأصيب حسن باشا نفسه بعدة طلقات ونهبت ممتلكات الحجاج والقوات المرافقة للباشا. وعند انسحاب القوات المصرية في طريق عودتها إلى مصر تعرضت لهجوم من قبل قوات الشريف حمود في وادي النار وقتل الكثيرون منهم. وهكذا عندما وصلت هذه الأبناء المروعة إلى الأستانة أمر السلطان بتجهيز جيش من ثمانية آلاف جندي مصري وسوري تحت قيادة حسين باشا كما أسلفنا… ولدى وصول هذا الجيش إلى وادي الأبطح والمعلى حيث يمكن مشاهدة مكة اصطف آلاف الحجاج والسكان على جانبي الطريق للترحيب بحسين باشا وجيشه العرمرم وهم يهتفون (الله يحميك أيها الوزير) و (الله ينصرك يا جيش السلطان) ولذلك وصلنا في هذا العام 1671 بسلام إلى مكة في العاشر من ذي الحجة".

    ويواصل أوليا شلبي قصته:
    "أقام حسين باشا معسكره في وادي المعلى ونصبت حوله خيام الجنود والحجاج. وأمر بتضحية مائة شاة وتوزيعها على الفقراء. وبعد ذلك التقت القوات المصرية والسورية والمكية وتجمع الوجهاء وضباط الباشا في ديوان الباشا. لكن الشريف سعداً لم يحضر. ومنح الباشا كل شخص من الحاضرين خلعة فتصافحوا جميعاً ورافقوا الباشا. وعندما كانوا في المعلى أصدر ممثلو المذاهب الإسلامية السنية الأربعة فتوى بأنه يجوز للقوات المسلحة المشاركة في المناسك شريطة أن يرتدوا سراويلهم ومعاطفهم مقلوبة. فقام الجنود بالطواف وهم على تلك الحالة. ثم اجتمع القادة للتشاور بناء على رغبة الباشا لبحث قضية الشريف سعد، فاتفقوا على أن الشريف سعداً وشعب مكة يخططون للقيام بثورة ولذلك قرروا عزل الشريف من منصبه وتعيين أحمد عوضاً عنه بعد أن يؤدي قسم الولاء للسلطان. وبعد أن توصلوا لهذا القرار انطلقوا جميعاً إلى جبل عرفات حيث انضموا إلى بقية الحجاج. وعندما عرف الباشا إبراهيم أرسل يسألهم: "هل لديكم أية رسالة رسمية أو فرمان من السلطان بهذا القرار؟ وحتى لو كان لديكم مثل هذا الفرمان الملكي فهل تنفذه في هذه المرحلة من مناسك الحج؟ وفي هكذا حالة ماذا سيحدث لهؤلاء المئتي ألف حاج؟ إذا نفذت قراركم فإن هؤلاء المؤمنين سيتعرضون للأذى" عندما سمع الضباط السوريون والمصريون والأتراك تساؤلات الباشا قالوا له: "فلتفعل ما تشاء ولتكن رغبة الباشا" وهكذا أخذ الباشا خلعة من فراء الثعالب والفرمان وذهب على رأس ثمانين فارساً إلى منزل الشريف سعد حيث دعا كافة الأشراف والوجهاء وبعد أن حضروا قرأ المرسوم السلطاني ورسالة من الصدر الأعظم وقام الشريف بنفسه بتقبيل الفرمان والرسالة. ثم إن حسين باشا ألبس الشريف بنفسه معطف الفراء وهو الهدية السلطانية وأقسم سعد يمين الولاء للسلطان أمام الباشا كما أقسم بعده كافة الأشراف والوجهاء. عند ذلك استدار الباشا ونظر إلى الشريف قائلاً: "أرجو أن تقبل دعوتي للالتقاء في سوق منى" وترجمت كلمات الباشا إلى الشريف فقبل الدعوة قائلاً: "أقبل الدعوة من صميم قلبي" وذهب الشريف إلى مكان الدعوة حيث قدم إلى الباشا كمية من القهوة وماء الورد والأشربة والبخور والعطور وكمية من الأحجار الكريمة في حقائب جلدية وحصانين أصيلين وجملين أشهبين وعدداً من العبيد الأحباش. وانطلقوا جميعاً بعد ذلك إلى منى وعرفات ترافقهم جمال تعلوها الهوادج المخصصة للنساء بينما قرعت الطبول وصدحت الموسيقى، واستمر الاحتفال أربعة أيام… ولأن حسين باشا ثبّت الشريف سعداً في منصبه فقد صعدت مكة بأسرها إلى عرفات بابتهاج غير مألوف، حتى قال الطاعنون في السن من رجال القبائل حول مكة: إنهم لم يشاهدوا في حياتهم مثل ذلك الحشد وتلك الاحتفالات بالعيد.
    وفي اليوم الثاني من عيد الأضحى أرسل حسين باشا خمسمائة فارس مصري وكتيبة أخرى من ألفي فارس إلى عرفات لاحتلال رأس النبع كما أرسل سبع سرايا أخرى لحراسة الطريق إلى مكة ومنى وتم تنفيذ ذلك دون أية معارضة. ثم أمر الحجاج بالتحرك إلى مكة على أن تبقى القوات المسلحة في أماكنها. وفي وقت لاحق اجتمع كافة موظفي الديوان الرسمي والأشراف الهاشميين والوجهاء وقادة الجيش في مقر قيادة الباشا. وفي تلك اللحظة حضر حسن آغا الذي أوفده حسين باشا لدعوة الشريف سعدا قائلاً أن الشريف سعداً غادر مكة وترك وراءه كل شيء.
    وأصدر الباشا أوامره إلى قواته باحتلال وإغلاق كافة المكاتب الحكومية في مكة ومنى وختمها بالشمع، أما ما حدث مع الشريف سعد فعندما رأي مفارز فرسان الباشا يحتلون رأس النبع في عرفات أدرك أنه سيواجه المتاعب وبعد مناوشات جرح خلالها زهاء أربعين شخصاً وقتلت عدة خيول استطاع مغادرة مكة إلى الطائف مع أسرته وبعض أتباعه.
    منح الباشا عشرين ليرة ذهبية إلى حسن آغا الذي كان أول من بلّغ عن فرار الشريف سعد. ثم التفت إلى الأشراف والوجهاء والقواد وشرح لهم أسبابه في رفض قرارهم بتنحية سعد وهو القرار الذي اتخذوه بعد التشاور فيما بينهم في المعلى. فلو أنه نفذ قرارهم آنذاك لما انتهت مناسك الحج بسلام وبعد أن أوضح موقفه هذا سألهم حول من هو الأجدر بتعيينه خلفاً للشريف سعد. فنصحوه بتعيين الشريف أحمد. وأشار الباشا إلى حقيقة أن أحمد ينتمي إلى فرع الشريف سعد وإذا تم تعيينه فلن تتوقف الثورات والفوضى في مكة. لأن ذلك الفرع من الأشراف هم الذين قتلوا حسن باشا ولذلك فمن المحتمل أن يقتلوا غيره مستقبلاً. واقترح حسين باشا الذي لا يشك أحد في حنكته تعيين الشريف بركات حاكماً على مكة بدل الشريف سعد.
    ووافق الجميع على اقتراحه وبذلك أصبح بركات شريفاً على مكة وتلي مرسوم ملكي وقام حسين باشا بنفسه بإلباس الشريف الجديد معطف الفراء كما قدم له خلعة ملكية وأقسم الشريف بركات يمين الولاء والإخلاص للسلطان ثم تليت سورة الفاتحة وقام بتقبيل يد الشريف كل من شيخ الإسلام محمد أفندي (عرموش باشا) وأمير الحج المصري (أوزبك بك) وممثل الطريقة المولوية (إحدى الطرق الصوفية التي ظهرت في الأناضول) وقائد جدة (الأميرال محمد بك) و (محمد البكلجي) وأحمد آغا المجدوع (المقطوع الأنف) وإبراهيم باشا المسؤول عن الخزينة ومحمد آغا وعجم زادة وسيواش آغا والخوجة بيكوش زادة حسن وقادة الجيش ووجهاء مكة. وتلا ذلك إطلاق الرصاص في الهواء كما أطلقت المدفعية عدة طلقات احتفالاً بالمناسبة. ثم ركب الشريف بركات حصانه وسار إلى جانب الباشا في مقدمة الأشراف والوجهاء والضباط بينما اصطفت القوات السورية والمصرية وأدت التحية الرسمية حتى وصلا مع حشد الأشراف والوجهاء والضباط إلى مسجد عرفات فأدوا الصلاة فيه ودعا الشريف بركات للجميع كما أقسم الجميع يمين الولاء للسلطان. وفي طريق العودة اجتاز حسين باشا والشريف بركات جبل النور حيث حضر الآغا هيكل زادة وهو أحد مساعدي الباشا، مع عدد من الجنود ورافق الشريف إلى مكان إقامته في مكة وهناك عاد الجنود لإطلاق النار في الهواء. ثم توجه الشريف إلى الحرم وطاف به سبع مرات كما جرت العادة. أما الباشا فقد عاد إلى مقر قيادته في المعلى وفي وقت لاحق توجه مع حرسه الشخصي وعددهم زهاء ثمانين فارساً إلى الكعبة.
    بعد أن أصبح الشريف بركات حاكماً على مكة توجه إلى الحرم وجلس على الدرجة الثالثة من منبر النبي (ص) فحضر كافة الأشراف والشيوخ والأئمة ورجال الدين والعلماء والوجهاء والضباط وحشد هائل من الناس لحلف يمين الولاء أمامه. وأعلن الشريف بعد هذه المراسم الاحتفال ثلاثة أيام وتزيين البيوت والمتاجر قدر المستطاع، بينما تم تنظيف كافة الشوارع بهذه المناسبة. وهكذا عاد السلام والطمأنينة إلى مكة وإذا شعر أي مواطن فيها بالقلق يدخل إلى بيت الله فيتبدد قلقه وإذا كانت لديه شكوى تقدم بها إلى الشريف بركات وهذا هو سبب احتفال الناس طيلة أيام ثلاثة". انتهى الاقتباس من أوليا الشلبي.
    حال تسلم الشريف بركات مقاليد الحكم قام بنفي أقارب الشريف سعد (ذوي زيد) كما أرسل مفرزة من الفرسان للقبض عليه لكن الشريف سعداً غادر الطائف إلى تربة والبيشة ومن هناك إلى تركيا عن طريق قبيلة حرب. وفي عام 1676 زار السلطان محمد الرابع الذي كان في أدريانوبل وعاد برفقته إلى الأستانة حيث عرضت عليه عدة وظائف مريحة في تركيا وقدمت له الهدايا بما في ذلك حمولة ثلاثمائة حمار من المواد التموينية سنوياً. وعن طريق صداقته الوثيقة مع رئيس الخصيان (الطواشي) استطاع مقابلة والدة السلطان التي أجزلت له العطاء ووعدته بتحقيق رغبته بعد أن يمضي فترة في البلقان.
    لقد كان تعيين الشريف بركات في الحقيقة نتيجة الدعم الذي وفره له الرحالة محمد بن سليمان المغربي وهو الفلكي الذي صنع مزولة ووضعها في الحرم فتسبب ببعض المشاكل، وكان الرحالة المغربي قد عاد مع حسين باشا، وبصفته صديق شقيق الصدر الأعظم (أي رئيس الوزراء) الذي يتمتع بنفوذ واسع وكان الرحالة المغربي قد أعطاه دروساً في الفلك أثناء زيارته مكة حاجاً، وعن طريق صداقته استطاع أن يزور السلطان فيما بعد ويكسب ثقته والتمس الرحالة المغربي من السلطان إجراء عدة إصلاحات في مكة وافق عليها السلطان. ومن ضمن هذه الإصلاحات تخصيص أموال الأوقاف التي يرسلها السلطان بواسطة الجقمق (موظف مالي) إلى الفقراء على شكل حساء وخبز كما كانت العادة في الماضي وزعم الرحالة المغربي أن الأشراف يسيئون توزيع أموال الأوقاف بل إن بعضهم يحتفظ بها لنفسه، ووقف قرع الطبول والرقص في زوايا الدراويش (أتباع الطرق الصوفية) ومنع خروج النساء من منازلهن في ليلة ميلاد الرسول (ص) ووقف المواكب والمسيرات التي كان المكيون يقومون بها احتفالاً بذكرى بعض الصحابة والأولياء، لأن تلك المواكب والمسيرات أصبحت ذات صبغة ماجنة، واستخدام طريقة محاسبية في مكتب الأوقاف في مكة.
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل التاسع

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي السبت 30 مايو - 19:30

    كانت أول حملات بركات موجهة إلى قبيلة حرب التي سبق أن هاجمت قوافل الحجاج غير مرة إلى الشمال من مكة كما ظلت طيلة قرون تهدد قوافل الحج، ونجح في حملاته واستعاد النظام والأمن في الحجاز. أما الحادثة الوحيدة غير اللائقة التي حدثت في مكة في أثناء حكمه فهي تدنيس الكعبة من قبل شخص فارسي، وقد غضب المكيون كثيراً (وهو ما أثلج صدور العثمانيين) وكادوا أن يهاجموا كافة الفرس الموجودين في مكة. وكان الشريف حازماً فطلب من الفرس استنكار الحادث فاستنكروا الحادث علناً واعتذروا وهو ما هدأ النفوس وبدد الغضب.
    وفي المدينة قامت القوات التركية بقتل وكيل الشريف بركات بتهمة شتم السلطان، غير أن الشريف لم يشأ القيام بعمل مباشر بل إنه كتب رسالة إلى السلطان أوضح له ما حدث وطلب الصفح عنه.
    في العام التالي قام (35) شريفاً بزعامة الشريف أحمد ابن غالب – الذي تسبب بعد ذلك بالكثير من المتاعب – بالتوجه إلى دمشق في الطريق لزيارة الأستانة وتذمروا من بركات وشكوه لوالي دمشق. لكن الوالي أوقفهم ومنعهم من مواصلة الرحلة وطلب منهم كتابة شكاواهم حتى ينقلها إلى الأستانة اثنان منهم فقط. وكان مطلبهم الرئيسي كما يبدو زيادة مخصصاتهم والإيعاز للفلكي محمد ابن سليمان المغربي بمغادرة مكة.
    وتوفي الشريف بركات في نفس ذلك العام 1682 وخلفه ابنه سعيد حيث تلقى من السلطان خلعة وفرماناً وفي نفس الوقت أمر السلطان بانتقال الفلكي المغربي من مكة إلى القدس، وأن يقسّم دخل الحجاز إلى أربعة أقسام متساوية يحتفظ الشريف لنفسه بجزء منها وتوزع الأجزاء الثلاثة الباقية على بقية أسر الأشراف.
    فكر الشريف سعيد بتأجيل تنفيذ أمر السلطان فيما يتعلق بتقسيم الدخل إلى أربعة أقسام، وكان والده بركات هو الذي تقدم بهذا الاقتراح عندما كان خارج الحكم ويقيم في الأستانة. وربما كان للفلكي محمد ابن سليمان المغربي أثر في ذلك الاقتراح. لكن لأن الأشراف عرفوا بمضمون رسالة السلطان وأوامره (السنية) فقد اضطر لتنفيذها.
    وما إن نفّذ سعيد تعليمات السلطان حتى استخدم أحمد ابن غالب ومؤيدوه الموارد التي وزعت عليهم لتجنيد أعداد كبيرة من الجند والحرس فتذمر الشريف سعيد – الذي كان يسير على هدي سياسة والده المعتدلة والمتسمة بالرأفة – إلى ممثل السلطان، كما طلب من محصلي الضرائب توفير أموال إضافية لتجنيد المزيد من الحراس والعسس (الخفر) الذين يحرسون مكة ليلاً. وقرر القادة والباشوات والوجهاء الأتراك عقد اجتماع في منزل الشريف وطلبوا من الشريف أحمد الحضور إلى منزل الشريف سعيد للدفاع عن نفسه، لكنه رفض الحضور ووافق على الاجتماع بهم في الحرم وفسر استخدامه لعدد كبير من الحرس الشخصي بأنها عادة قديمة في أوساط الأشراف. وفي غضون ذلك أسرج أتباعه خيولهم وأعدوا أسلحتهم واستعدوا للقتال. كان صلاح باشا أمير الحج الشامي هو أكبر مسؤول تركي في الحجاز آنذاك. فبعث برسالة إلى أحمد بأنه سيفرض الهدوء والسلام بالقوة إذا لم يقبل أحمد بالسلام. وقرعت الطبول في مخيم الانكشارية فانسحب الناس مذعورين إلى منازلهم. ورد أحمد على رسالة الباشا بما يلي: "السيف لنا وليس لأيادي الفلاحين الدمشقيين" لم يكن الأتراك مستعدين للقتال حتى تلك اللحظة فأرسل صلاح باشا رسالة أخرى إلى أحمد وبعد يومين لم يأت أي جواب منه، ولأن الباشا كان راغباً في مغادرة مكة فقد غير تكتيكه وقام بزيارة الشريف أحمد وقبل يديه وطلب منه الصفح.
    أما الشريف سعيد فقد تلقى رداً على رسالته إلى ممثل السلطان في مصر (وهي الرسالة التي شكا فيها بعض أفراد أسرته) خلعة وجواباً مطمئناً، فبعث برسالة أخرى شدّد فيها على ضرورة إرسال قوات عسكرية لأن الاضطرابات في حالة تصاعد وقال في رسالته أن المتاجر تكسر أبوابها وتنهب. والناس يقتلون في الشوارع على أيدي اللصوص وأن عبيد وجنود الأشراف يمارسون كافة أنواع الشرور بما في ذلك اغتصاب النساء في محاولة لإظهاره بمظهر العاجز عن فرض الأمن والسلام.
    بعد انتهاء مناسك الحج عام 1683 زادت عمليات الإخلال بالأمن لدرجة أن الشريف سعداً فقد السيطرة على الوضع تماماً فعين الشريف أحمد ابن غالب نائباً عنه وامتطى حصانه مع بعض حراسه وانطلق للحاق بقافلة الحجيج الشامي.
    عند ذلك جمع أحمد ابن غالب الأشراف واقترح تعيين مسعود ابن سعد حاكماً في مكة. وفي غضون ذلك وصلت تقارير سعيد عن حالة الفوضى في مكة ونجد وغطرسة الزنوج فيها إلى السلطان في الأستانة فانزعج كثيراً وأرسل فوراً يستدعي الشريف أحمد ابن زيد الذي كان مقيماً في (كير كانيسا) في تركيا الآسيوية وطلب منه قبول منصب حاكم الحجاز.
    انطلق الشريف أحمد ابن زيد ولحق قافلة الحجيج في العلا شمال الحجاز، ثم دخل المدينة حيث ارتدى فيها الخلعة وفي عام 1684 دخل إلى مكة حيث عين الوزير اليمني الذي سبق أن عمل وزيراً لدى سعد، وزيراً له، كما تم استدعاء الشيخ سلمان ابن مرشد ابن الصويت زعيم قبيلة الضفير في العراق للتحكيم بين الأشراف وتحقيق السلام.
    وما إن استتب الأمن والسلام في مكة حتى انطلق أحمد ابن زيد في حملة لتأديب قبيلة عنيزة (أو عنزة بتسكين العين وكسر النون وفتح الزين) في نجد لأنها استغلت فرصة الاضطرابات في مكة وأعلنت تمردها وقامت بغزوات كثيرة. ونجح أحمد في إلحاق هزيمة حاسمة بها.
    وبعث السلطان في خريف عام 1868 برسالة إلى الشريف أحمد يبلغه فيها بانتصاره الكبير على الكفار (في شرق ووسط أوروبا) وأن الجيوش الإسلامية أسرت (70) ألف أسير منهم واستعادوا كافة المناطق والأراضي التي خسرتها العاهلية في أوروبا قبل فترة. كان ذلك العام في الواقع هو الذي خسرت فيه العاهلية(6) هنغاريا كما فشلت الحملات العثمانية ضد فينا وهي الحملات التي بدأت عام 1664 وانتهت باتفاقية (باساروفيتز) عام 1718، ولذلك يمكن القول إن رسالة السلطان كانت مجرد محاولة للحفاظ على الثقة بالقوة العثماني ومجابهة الإشاعات المضادة رغم صدقها.
    وتوفي أحمد ابن زيد عام 1687 وحاول أحمد ابن غالب على الفور أن يفرض نفسه حاكماً على مكة مكانه، وكان أحمد ابن غالب قبل ذلك هو سبب الاضطرابات في مكة وهو الذي كان يحرض العبيد على الإخلال بالأمن كما سلف. وفي غضون ذلك تعهد والي السلطان في مصر للشريف سعيد ابن سعد ابن زيد بتعيينه حاكماً على مكة. وتشجع سعيد بذلك وأمر بإقامة المتاريس في شوارع مكة واستعد لمقاومة أحمد ابن غالب ثم حشد قواته في وادي المر وأرسل وفداً إلى أحمد ابن غالب وقابل الوفد الشريف أحمد وطلبوا منه أن يظهر لهم الفرمان الملكي بتعيينه.
    واستاء الضباط الأتراك في الحجاز كثيراً من هذه المشاكل التي بدأت تختمر، فتقدمت القوات التركية إلى مكة التي أخلاها سعيد وظل في الطائف طيلة شهرين إلى أن أرسل العثمانيون له خلعة والده مع رسالة من والده بتعيينه نائباً عنه كما صدر مرسوم بنفي أحمد ابن غالب إلى اليمن.
    وفي اليمن اتصل أحمد بالناصر لدين الإله محمد (ابن إمام اليمن) الذي أصبح إمام اليمن بعد ذلك ، وأبلغه بأن الحجاز وحتى مصر وسورية على درجة من الضعف وأن بالإمكان احتلالهم فبعث الناصر لدين الإله محمد معه جيشاً من أربعة آلاف مقاتل وزوده بمبلغ من المال كما عيّن ثلاثة من الأسرة الحاكمة في اليمن مساعدين له وهم: قاسم ابن المؤيد وحسن ابن المتوكل وعلي ابن أحمد ولم تكن هذه الخطوة مؤشراً على محاولة تفويض الإمبراطورية العثمانية بل بداية سلسلة من الاشتباكات المحلية ومن ثم شجور خلافات بين ابن الإمام وبين أحمد من جهة وبين الإمام وبقية أبنائه من جهة أخرى وأخيراً استطاع أحمد ابن غالب فرض حكمه على مدينة جيزان على ساحل البحر الأحمر إلى أن سافر إلى دمشق عن طريق صحراء الدهناء وسط الجزيرة العربية وتوفي في دمشق عام 1693 أو العام الذي يليه.
    في غضون ذلك كان محسن ابن حسين ابن زيد قد خلف أحمد ابن غالب في مكة لفترة قصيرة كمدع بحق الحكم بينما ظلت المدينة (المنورة) مخلصة له حتى توفي عام 1691, وفي ذلك العام حضر إلى مكة يحيى ابن بركات كأمير للحجيج الشامي، ويقول الحسيني(7): "لم يسبق ذلك أن عين شريف لإمارة الحجيج الشامي ولم يعين شريف في هذا المنصب بعد ذلك أيضاً".
    في تلك الفترة كانت شركة الهند الشرقية تجمع المعلومات عن الموانئ التي يتعامل معها تجارها. وقد ألف واعظ الشركة القس جون أوفينغتون كتاباً عام 1696 عن انطباعاته عن موانئ البحر الأحمر آنذاك بعنوان (رحلة إلى سورات)(Cool وفيما يلي انطباعاته عن ميناء جدة:
    "يعود الميناء الرئيس في هذا البحر إلى السنيور (السيد) العظيم (أو الأعظم ويعني به والي مصر) وهو الميناء الذي يوصل براً إلى مكة. والأراضي هنا وعرة وغير ملائمة ولا تصلح لإجراء تحسينات ويبدو أن السماء لعنتها كما لعنتها الطبيعة… فالأراضي هنا تعاني ندرة في كل شيء ويستورد الناس حاجاتهم من الممالك المجاورة. ولذلك يضطر السنيور (السيد) العظيم إلى إنفاق مبالغ طائلة لدعم هذا الميناء والأراضي والمناطق المحيطة به فيرسل سنوياً (25) سفينة كبيرة محملة بالمواد التموينية. والأموال لسكان هذه المناطق. ومع ذلك فإن ميناء جدة ينتعش عندما ترسو فيه السفن القادمة من الهند وبلاد فارس والحبشة وأجزاء أخرى من البلاد العثمانية. فالعرب يحضرون البن الذي يشتريه الأتراك ويشحنونه إلى السويس… كذلك يحضر الهوغيز (يقصد الحجاج) سنوياً بأعداد غفيرة وحالما يصون إلى جدة يتجردون من ملابسهم ويضعون على أجسامهم خرقاً من الكتان ويتوجهون إلى مكة".
    وحول هذا الوقت أي 1685 أو 1686(9) وصل مع قافلة حجيج إلى مكة رجل إنكليزي بسيط يدعى (جوزيف بيتس) من أكسفورد كان المسلمون قد أسروه وهو في الخامسة عشرة من عمره ويقول في معرض وصفه الحجيج:
    "إن السلطان (يعني حاكم) مكة وهو من ذرية ماهوميت (يعني محمد (ص)) لا يعتقد بأنه يصلح لتنظيف البيت (يعين بيت الله –الكعبة-) ولذلك يقوم مع أتباعه أولاً بغسلها بماء زمزم المقدس ثم يغسلونها بمياه معطرة. ويزال الدرج المخصص للدخول إليها فيتجمع الناس تحت الباب الذي أزيل من تحته الدرج، وذلك حتى تنزل المياه التي غسلت الكعبة بها عليهم. ثم يقوم المشرفون على غسيل البيت (أي الكعبة) بتحطيم المكانس والمقشات(10) إلى قطع صغيرة ويقذفون بتلك القطع وسط حشود الحجاج وكل من يحصل على قطعة منها مهما كانت صغيرة يبتهج بها ويعتبرها تحفة مقدسة. وفي كل عام يتم تجديد غطاء (كسوة) البيت، حيث يرسل السينور الأعظم في القاهرة غطاءً جديداً. وعندما تنطلق قافلة الحجيج إلى مكة يحمل الغطاء (الكسوة) على جملين لا يجوز أن يضطلعا بعد ذلك بأي عمل آخر طيلة السنة… وحال وصول الجملين إلى مكة يستقبلان بترحيب وابتهاج لدرجة أن الحجاج يقبّلون الجملين… ويتم إنزال الغطاء القديم ويشرف السلطان (حاكم) مكة على وضع الغطاء الجديد فوق البيت. أما الغطاء القديم فيقص إلى قطع صغيرة وتباع تلك القطع بأثمان باهظة للهوغيز (الحجاج)(11).
    وفي مكة آلاف الحمائم الزرقاء لا يحاول أحد إلحاق الأذى بها أو تنفيرها. وهذه الحمائم أليفة لدرجة أنها تأكل الحب وقطع اللحم الصغيرة من أيادي الحجاج… وتسمى حمائم النبي وتحلق وتهبط حول وفي الحرم أسراب غفيرة منها وعادة ما يطعمها الحجاج بأيديهم. وبعد أن يقوم الحجاج ببعض الشعائر ينطلقون إلى جبل أورفات (جبل عرفات) الذي يلتقي فوقه مالا يقل عن (70) ألف حاج سنوياً.
    … وبعد انقضاء ثلاثة أيام يعود الجميع إلى مكة ويمضون زهاء عشرة أو اثني عشر يوماً يعقد خلالها سوق كبير تباع فيه كافة أنواع البضائع القادمة من الهند ويشتري البعض أكفاناً من الكتان يبللونها بمياه زمزم حتى يتم تكفينهم بها عند وفاتهم، وغالباً ما يحملون هذه الأكفان معهم أينما ذهبوا. وقبل مغادرة الحجاج مكة يتوجهون إلى البيت (الحرم) ويرفعون أياديهم باتجاهه ويضرعون إلى الله وهم يبكون" انتهت انطباعات الإنكليزي جوزيف يتس.
    لقد بدأ حكم الشريف سعيد عام 1667 لكنه حفل بفترات من الفراغ السياسي.
    ويروي السير ويليام فوستر في كتابه(12) ما ذكره رحالان أجنبيان كانا في جدة خريف عام 1700 وهما الإنكليزي ويليام دانيال والفرنسي شارل جاك بوسيه، عن زيارتهما وتعنت الشريف سعيد، فقد شاهد ويليام دانيال بعينيه كيف أن "الشريف الأعظم (أي حاكم مكة) استهان بالباشا الذي أرسله السنيور الأعظم (لعله والي مصر –المترجم) وحضر الشريف بنفسه يرافقه ألفا فارس وطلب من الباشا (وهو صديقي الوحيد في القافلة) مائة ألف شيكين (ربما عملة ذهبية) وقال له: إن سيده ومولاه هو ابن داعرة مسيحية وليس جديراً بحماية دين محمد (ص) (لأنه عقد صلحاً مع المسيحيين الكفار) وأنه كان سيزوج ابنته من ملك مراكش… وذعر الباشا من هذا التهديد واضطر أن يرسل له المائة ألف شيكين لإنقاذ رأسه وقد شعرت بحزن وغضب شديدين وعدت إلى مكان إقامتي".
    أما الفرنسي شارل جاك موسيه فقد وصل إلى جدة في الخامس من كانون أول (ديسمبر) بعد بضعة أيام على الحادثة المذكورة(13) وفيما يلي وصفه لزيارة الشريف الذي كان ما يزال مخيماً خارج الأسوار:
    "يبلغ الشريف زهاء ستين سنة من العمر، صارم الملامح ذو هيبة ووقار وثمة جرح في الجهة اليمنى من شفته السفلى. ويعرف رعاياه وجيرانه مدى حزمه، وقد أرغم الباشا الذي يحكم جدة باسم السنيور الأعظم على دفع (15) ألف كراون من الذهب (يعني 15 ألف قطعة ذهبية وأغلب الظن أنها الليرة العثمانية الذهبية) وهدده بإجراء عسكري إذا لم يدفع المبلغ".
    ثم يصف بوسيه كيف يأخذ الشريف الضرائب من التجار ويقول: "أن الشريف حازم وعنيف ويرفض الاعتراف بالتبعية للسنيور الأعظم (والي مصر) ويدعوه بازدراء (ابن المملوك) ويعني بها (ابن الخادم)"(14).
    ومنذ عام 1705 حكم الشريف عبد الكريم ابن محمد حتى عزل عام 1711 وعاد للحكم فترة قصيرة عام 1715 إلى أن تقاعد وقرر العيش مع قبيلة حرب وذهب إلى مصر بعد ذلك وتوفي فيها بمرض الطاعون عام 1718.
    وأرسل شاه الفرس عام 1706 هدية إلى الحرم وهي عبارة عن زبدية (سلطانية) ذهبية ملأى بالعنبر ومزخرفة بالأحجار الكريمة وتم تسليمها إلى القائمين على الحرم إلى أن ورد الإذن من الشريف والسلطان بتعليقها في الحرم، لكن الزبدية الذهبية اختفت عندما بحثوا عنها وتركزت الشكوك على الخصيان (الطواشي) في الحرم والقائمين على خدمته، واعترف أحد هؤلاء تحت التعذيب
    الذي قام به محقق حضر من الأستانة لهذه الغاية. ووجد بعض الذهب والعنبر وأعاده معه إلى الأستانة لإعادة صهره وصياغته. لكن الذهب والعنبر لم يرجعا إلى الحجاز.
    توفي الشريف عام 1716 وخلفه لمدة عام وبضعة أشهر ابنه عبيد الله(15) الذي اتسم بالبخل فقد أوقف الإنفاق على أفراد الأسرة والجنود وثمة قصص كثيرة عن مدى تقتيره في الشؤون المالية وهو الأمر الذي جعل الجميع تقريباً ينفرون منه ويرغمونه في النهاية على التنازل إلى شقيقه علي. غير أن عبد الإله قتل علياً فتفجرت المشاكل والمنازعات في مكة إلى حين بدأ وصول قوافل الحجاج والقوات العسكرية التي ترافقها عادة.
    كان الباشا أمير الحجيج الشامي هو الأعلى مقاماً ومنصباً بين أمراء الحجيج. وبما له من صلاحيات بصفته من كبار موظفي الدولة أعلن تعيين يحيى ابن بركات ابن محمد ابن بركات الذي سبق أن حكم منطقة قرب دمشق في سورية كما سبق أن عين أميراً للحجيج الشامي –كما أسلفنا- وبالتالي اعتقد الباشا أن الشريف يحيى قد اعتاد على طريقة الحياة التركية لأنه عاش فترة طويلة في سورية ثم تبين بعد ذلك أن الباشا أخطأ في افتراضاته إذ أن حكم يحيى المتأرجح لم يستغرق سوى سنة ونصف وخلفه مبارك ابن أحمد.
    كان أحمد قد جمع الأنصار والمقاتلين من قبيلة عتيبة في نجد وقبيلة ثقيف حول الطائف، وقرر التقدم نحو مكة في ثلاث كتائب للالتقاء في عرفات، فخرج يحيى مع قواته لمجابهته لكنه مني بالهزيمة، واستمر القتال والمطاردات طيلة الليل وحتى ظهيرة اليوم التالي.
    واستطاع أحمد دخول مكة وتوطيد الأمن والنظام فيها حتى عام 1720 عندما اندلع حريق هائل في جدة دمّر ثلثها تقريباً بما في ذلك عدد من أقدم المساجد والزوايا والتكايا. وتبرع الشريف أحمد من أمواله الخاصة بمبالغ كبيرة لإغاثة أهالي جدة حتى اضطر لتخفيض حجم الإعانات إلى الأشراف كما أنه باع معظم ممتلكاته، وكان من شأن ذلك أن عجز عن الحفاظ على الأمن والنظام في المدينة وفي أوساط القبائل ولم يجد ما يكفي من المال لدفع مخصصات الجنود فتنحى عن الحكم لمصلحة يحيى ابن بركات الذي عاد من تركيا مع ركب الحجيج الشامي.
    وتبنى يحيى ابن بركات سياسة عدائية نحو الأشراف من ذوي زيد سيما وأن القوات التركية بقيادة علي باشا كانت تدعمه بشكل جيد. وهكذا اضطر الأشراف من ذوي زيد أن يطلبوا الدعم من قبيلة ثقيف قرب الطائف. لكن يحيى استطاع تجنيد بعض شيوخ ثقيف واكتشف بواسطتهم وجود مراسلات بين زيد وبين أشراف ووجهاء مكة. فأبلغ علي باشا بذلك فقاد الباشا التركي قواته وهاجم بيوت المتآمرين ونهبها ودمرها.
    ثم قامت القوات التركية بقيادة علي باشا وبالتعاون مع قوات الشريف يحيى بمهاجمة قوات مبارك وامتد القتال حتى جبل الخاتون حيث جرح علي باشا في وركه وفخذه فتوقف الفرسان الأتراك الذين قتل عدد منهم على أيدي البدو أنصار مبارك… وتراجع الفريقان المتحاربان بعد ذلك حيث عاد يحيى مع علي باشا إلى مكة بينما تراجع مبارك إلى الطائف. وحشد علي باشا والشريف يحيى قوة جديدة قادها يحيى وهزم قوات مبارك، وبعد بضعة أيام دفعت رواتب ومخصصات الجند وعاد علي باشا إلى جدة حيث توفي متأثراً بجراحه.

    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل التاسع

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي السبت 30 مايو - 19:33

    لم يقبل مبارك الهزيمة بل بدأ بحشد قوات جديدة فاجتمع الباشا إسماعيل الذي عين مكان علي باشا مع أشراف ووجهاء مكة وقرروا الطلب من يحيى أن يستقيل لمصلحة ابنه بركات الذي لم يتمكنوا من تثبيته في المنصب سوى (18) يوماً حيث دخل مبارك إلى مكة في النهاية وحكمها خمسة أشهر وفي الأيام الأخيرة من حكمه كان على خلاف ونزاع دائم مع مؤيده سابقاً الشريف عبد الإله ابن سعيد من جهة ومع الشريف محسن ابن عبد الإله من جهة أخرى.
    وكان عبد الإله ابن سعيد قد كتب إلى السلطان يبلغه بأن مباركاً هو الذي قتل الجنود الأتراك بينما قام هو بحماية الجنود الأتراك الذين لاذوا به، وأنه وعد مبارك في البداية بإقناع خصمه محسن بمغادرة مكة لكنه غير رأيه بعد ذلك. وعندما وصلت رسالة باليد من عثمان باشا الذي وصل إلى المدينة يعين بمقتضاها الشريف عبد الإله حاكماً على مكة، رفض القاضي في البداية تسجيل وتثبيت ما ورد في الأمر المذكور على أساس أنه يفتقد الشرعية وأنه لا يقبل إلا الفرمان الأصلي الحقيقي، غير أن الضباط الأتراك والشريف محسن ضغطوا على القاضي للقبول بالأمر لمصلحة الأمن والاستقرار سيما وأن محسناً كان على استعداد للقتال. وهكذا اضطر مبارك إلى مغادرة مكة إلى اليمن حيث توفي بها عام 1727 وأصبح عبد الإله ابن سعيد حاكماً على مكة وظل في منصبه حتى وفاته.



    (1) تنضيد العقود.

    (2) الحسيني كتاب تنضيد العقود. وانظر أيضاً س. سنوك هورجونجي (مكة) الجزء الأول.

    (3) المصدر السابق.

    (4) هكذا وردت في الأصل، ومن الواضح أنه خطأ مطبعي لأن زيداً توفي عام 1666 والأرجح أن التاريخ الحقيقي لتعيين غطاس أميراً للحج المصري هو عام (1650) وليس 1600 –المترجم-.

    (5) يصف الحسيني في (كتاب تنضيد العقود) تلك الظاهرة الفلكية التي شاهدها المكيون على النحو التالي: "في الثالث والعشرين من رمضان عام 1078 للهجرة (الذي يوافق 13/ 3/ 1668) ميلادية ظهر شعاع ملتهب وطويل في الغرب ثم استطال الشعاع حتى غطى ثلث السماء، ثم بدأ يتقلص بالتدريج حتى اختفى تماماً في الثامن من شوال (أي بعد 15) يوماً من بدأ ظهوره في السماء… وفي الحادي عشر من محرم 1079 (21 من حزيران 1668) بعد ساعتين من شروق الشمس ظهر شعاع قوي آتياً من الشمس أو قريباً منها ثم امتد إلى الغرب وكان من الصعب النظر إليه مباشرة لشدة توهجه، وألوان الشعاع تتراوح بين الأزرق والأصفر والأحمر، وبعد فترة اختفى طرفاه وانتفخ في وسطه وزاد انتفاخه إلى أن انفجر بصوت مدوٍ كالرعد وبعد الانفجار تحول الضوء إلى دخان ثم اختفى الدخان بالتدريج.

    (6) العاهلية: أي الإمبراطورية العثمانية.

    (7) كتاب تنضيد العقود.

    (Cool أعادت جامعة أكسفورد طباعته عام 1929.

    (9) السير وليام فوستر (البحر الأحمر عند نهاية القرن السابع عشر) المقدمة. ص2.

    (10) المقشة: مكنسة صغيرة من نبات طري تستعمل لإزالة الغبار.

    (11) ما زالت هذه العادة حتى يومنا ويقول المؤلف أنه استلم قطعة من الكسوة عليها آية قرآنية مطرزة بالذهب.

    (12) البحر الأحمر عند نهاية القرن السابع عشر.

    (13) المصدر السابق. الصفحات 104 – 158.

    (14) المصدر السابق. الصفحات 104 – 158.

    (15) والصحيح عبد الإله فقد كان الأتراك ينطقون عبد الإله أبيد الله أي عبد الإله.



    أنتهى الفصل التاسع
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty الفصل العاشر

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي السبت 30 مايو - 19:37

    الفصل العاشر: عبد الإله ابن سعيد وآخرون من أحفاد زيد 1716 – 1771

    توجه الأشراف المعارضون تولية عبد الإله، لمقابلة عثمان باشا أمير الحجيج الشامي وهو في طريقه من المدينة إلى مكة حتى يعربوا عن تذمرهم من تعيين الشريف الجديد، وأن يؤكدوا له على نحو خاص بأن عبد الإله لم يدفع لهم مخصصاتهم، فقام عثمان باشا بإبلاغ الشريف الجديد أنه (أي الباشا) يستطيع أن يزود الأسر الشريفة بكمية من النقود. وسجل عشرة أشراف من الذين تذمروا له وطلب من عبد الإله تسليمهم مخصصاتهم.
    ورغم تزايد المؤامرات ضده لدى محاولاته فرض ضرائب جديدة على التجار فقد واصل عبد الإله الحكم بنجاح، وتعززت سيطرته على القبائل بعد انتصاراته في اليمامة وسط الجزيرة العربية عام 1717 حيث ألحق هزيمة كاملة بقبيلة ظفير وقضى على معظم المحاربين في هذه القبيلة.
    ويقول الحسيني: أن وزير خارجية أجنبياً (يقصد مفوضاً أجنبياً) وصل إلى جدة في تموز عام 1727 مع عدد من المرافقين ولم يشعر الأتراك نحو أولئك الغرباء بأي ود أو احترام وسرعان ما أعرب الأجانب عن عدم رضاهم عن الخدام المسلمين الذين استخدموهم ورغبوا بالتخلص منهم، فاتصلوا مع أبي بكر باشا حاكم جدة لهذا الغرض، غير أنه لم يتخذ أي إجراء وأعاد الخدم لهم. وانتشرت آنذاك شائعة بأن الأجانب قتلوا خدامهم المسلمين، فاجتمعت حشود غاضبة واقتحموا المبنى الذي يقيم فيه الأجانب وقتلوا ثمانية منهم ونهبوا ممتلكاتهم. وخشي الحاكم نتائج ذلك العمل الأرعن، فأمر رجاله باستعادة الممتلكات التي نهبها الناس وأعاد معظمها لمن تبقى من أولئك الأجانب بل أنه اعتقل وأعدم زعماء الغوغاء، ثم وصل شريف مكة والقاضي وشيخ الإسلام واستطاعوا تهدئة الجماهير الغاضبة.
    عندما توفي عبد الإله عام 1730 كان ابنه محمد في العشرين من عمره على رأس حملة عسكرية في اليمن، غير أن أعمامه وشقيقه استطاعوا إقناع القاضي بتعيينه خليفة لوالده، وتطوع عمه مسعود ابن سعيد بأن يكون وزيره، وهكذا كانت بداية هذا العهد مبشرة بالخير، لكن الشريف محمد ابن عبد الإله سرعان ما اصطدم مع (وزيره) عمه، فشجرت المتاعب والمشاكل وسط فرع ذوي بركات. وفي ذلك الوقت ارتكب أحد أشراف هذا الفرع خطأ فأمره الشريف محمد بمغادرة مكة، لكنه بدل أن يمتثل للأمر لجأ إلى منزل أحد أشراف العبادلة(1) وهو عبد العزيز ابن زين العابدين في مكة. واستشاط الشريف محمد غضباً وقاد رجاله وطوق منزل الشريف عبد العزيز. وسرعان ما أطلق رجال الشريف محمد النار على حراس المنزل فخرج الأشراف من أقارب الشريف عبد العزيز وردوا على النار بالمثل وتدخل الوسطاء للصلح وطالب العبادلة بأن يمتطي الشريف محمد حصانه ويذهب إلى منزل عبد العزيز للاعتذار وأن يقدم للعبادلة فضلاً عن ذلك (25) حصاناً و (25) عبداً و (60) جملاً. وجرى الصلح على ذلك.
    بعد بضعة أيام وقعت حادثة مشابهة. إذ أن عبداً من عبيد الشريف عبد المعين كان مطلوباً بجريمة قتل طالب حنبلي. وذات يوم مرّ عبيد الشريف محمد بالقرب من منزل الشريف عبد المعين وشاهدوا العبد الذي قتل الطالب يتجاذب الحديث مع عبيد عبد المعين. فقرروا اعتقاله، لكنه استطاع الفرار والدخول إلى بيت عبد المعين. ولدى سماع الأشراف داخل المنزل بالضجة والصراخ في الخارج هرعوا يستطلعون جلية الأمر، وبعد أن عرفوا ما حدث طردوا عبيد الشريف محمد حاكم مكة. وكان من الطبيعي أن يرد الشريف محمد على ذلك فقاد رجاله بنفسه وبدأ الهجوم على بيت الشريف عبد المعين. لكن أعيان وأشراف مكة لم يقفوا مكتوفي الأيدي بل إنهم قادوا رجالهم المسلحين وهرعوا إلى مكان الاشتباك للتدخل. وهكذا بدأت أسرة الشريف محمد تشعر بالمرارة منه ومن تصرفاته وساد الاعتقاد بأن وزيره مسعوداً (وهو عمه) أجدر منه بالحكم وقد غادر الكثيرون من الأشراف مكة إلى الطائف وتبعهم مسعود حيث طردوا الحامية وأعلنوا مسعوداً شريفاً على مكة واستعانوا برجال القبائل وتقدموا نحو مكة ونشب القتال بينهم وبين الشريف محمد في عرفات وانتصروا على قواته رغم أن بعض الأشراف المخلصين له قاتلوا إلى جانبه ببسالة وسقط عدد منهم دفاعاً عن قضيته. ولم يستغرق حكم محمد سوى سنة ونصف رغم أنه كان محبوباً من قبل الكثيرين.
    خلال هذه الفترة الأولى من حكم الشريف محمد، وقعت حادثة نادرة وهي أن فارسياً مجهولاً قام بتدنيس الحرم. واتفق الأشراف بأن الحادث مدبر وأن الأتراك هم الذين استأجروا عملاء للقيام بذلك العمل المشين. وقد رفض المفتي قبول تهمة ضد رجل أو رجال مجهولين. أما الشريف محمد فقد بقي في بتيه ورفض الانصياع لهياج الغوغاء الذين لم ينتظروا موافقة المفتي بل إنهم مضوا إلى الوزير وطالبوه بطرد كافة الفرس من مكة (المكرمة). وسرعان ما انطلق المنادون بأصواتهم المرتفعة يكررون أمر الوزير القاضي بمغادرة كافة الحجاج الفرس من مكة فغادروها غير أنهم عادوا إلى مكة جميعاً بعد بضعة أيام بمرافقة الحجيج العراقي.
    أصبح الوزير مسعود حاكماً على مكة لكن قبيلة ثقيف حشدت قواتها ضده وخلال ثلاثة اشهر هزمته في التلال المجاورة للطائف فعاد محمد للحكم مرة ثانية.
    في ذلك الوقت عام 1733 فكر حسين آغا (وهو رجل لا يطاق) سردار الجنود الانكشارية في مكة القيام بنزهة مع عائلته، فتعرض لهجوم لأن جنوده سبق أن انهالوا ضرباً على أعرابي ورفض معاقبة جنوده أو الاعتذار عن الحادث أو جبر خاطر الأعرابي. وعندما تعرض للهجوم التجأ إلى منزل في طريق نزهته التي لم تتم. وما إن سمع الشريف محمد بذلك حتى هرع إلى مكان الحادث. كان السردار قد أخرج رأسه من النافذة حتى يتحدث مع الشريف فأصابته رصاصة قتلته على الفور وتفجر غضب الانكشارية كما أن كبار ضباط السردار القتيل حسن آغا أرسلوا تقارير غاضبة إلى مصر وانتقدوا الشريف الذي ظل في قصره محافظاً على هدوئه. ولحسن الحظ وصل إلى مكة في ذلك الوقت الوزير التركي المشير أبو بكر باشا وبعد أن تحدث مع الانكشارية والضباط الأتراك أخلدوا إلى الهدوء والسكينة.
    كان من شأن ذلك أن المسؤولين الأتراك في الحجاز أخذوا يؤيدون ويدعمون الشريف مسعود الذي كان ما يزال مخيماً في وادي المر. وقدموا له أموالاً حتى يحشد المزيد من الأنصار والأتباع سواء من قبيلة ثقيف أو غيرها. بينما كان الشريف محمد لا يعتمد إلا على حرسه الشخصي وعبيده وعدد من اليمانيين.
    وحاول كل من الشريفين محمد ومسعود كسب تأييد أبي بكر باشا لكنه رفض اتخاذ أي قرار بدون أوامر محددة من الأستانة. وعندئذ استعد مسعود للحرب بينما قام محمد بزيارة الباشا في جدة في محاولة أخيره لحمله على التدخل. غير أنه فشل في مسعاه فعاد إلى مكة حيث واجهت قواته قوات عمه مسعود خارج مكة. فهزمتها في البداية لكن قوات مسعود قامت بهجوم معاكس واقتحمت مكة وألحقت الهزيمة بقوات محمد فعاد مسعود حاكماً على مكة.
    وفي ذلك الوقت قرر مجلس الأشراف ترحيل كافة الأجانب من مكة لأنهم كانوا يشغلون الوظائف التي ينبغي أن تكون من نصيب المكيين. ذلك أن مسؤولي الحكومة كانوا يستخدمون كثيراً من الأجانب والغرباء ككتبة ومحاسبين. وهكذا اضطر معظم المغاربة والأتراك والمصريين مغادرة مكة مع القوافل العائدة إلى بلادهم. أما الهنود والكشميريون والأوزبكيون والفرس فقد ظلوا في مكة فترة وجيزة إلى أن قرر الأشراف ترحيلهم أيضاً فارتحلوا إلى مواطنهم الأصيلة. ويقول الحسيني بهذا الصدد: "أصبحت مكة شبه فارغة ورخصت الأسعار"(2).
    وأصدر الشريف مسعود أوامره بخطر التدخين في الأماكن العامة بعد أن أصبح التبغ شائعاً ومألوفاً لدى الرجال والنساء ومن كافة الطبقات الذين كانوا يدخنون حتى خارج أبواب منازلهم. ووافق العلماء الشريف مسعوداً على قراره وسرعان ما أصدر أمراً آخر أغلق بموجبه كافة المقاهي والمتاجر التي تبيع التبغ. ولم يكن الشريف محمد في غضون ذلك خاملاً بل إنه استطاع إقناع قبيلة عتيبة بأن تقف إلى جانبه وتدعمه.
    كان مسعود يخشى بأس القبائل، وأصبحت خزينته خاوية، بينما كان الأشراف من فرعي آل بركات وآل الحسن بالإضافة إلى عدد من الضباط الأتراك مستائين منه ومن حكمه. وحاول مسعود استرضاء الأشراف الذين استمر الكثير منهم في دعم الشريف محمد سراً بل أرسلوا له الرسائل يرحبون به لدى وصوله قرب مكة. واضطر الشريف مسعود إلى إنفاق ما تبقى لديه من أموال لحشد قوة تكفي لقطع طريق جدة عن محمد وذلك للحيلولة دون وصول الإمدادات إليه بحيث يستطيع الوزير التركي سليمان باشا التوسط وحل النزاع فيما بينهما.
    واضطر الشريف مسعود بعد ذلك بقليل إرسال حملة لإخضاع الأشراف من فرع آل الحسن الذين ينحدرون من الحسن الأغن إذ أنهم أعلنوا على نحو غير متوقع بأنهم أحق من غيرهم بحكم مكة وبدأوا يضايقون الحجاج اليمنيين. وحدث اشتباك مع مفرزة متقدمة من قوات آل الحسن على مسيرة خمسة أيام من مكة بينما اتجهت قوتهم الرئيسية إلى تلال جبل بني سليم حيث استطاعت قوات الشريف مسعود تطويقهم هناك فاستسلم قائدهم الشيخ عساف ونقل مقيداً بالسلاسل إلى مكة حيث توفي مع أفراد أسرته بالجدري بعد بضع سنوات.
    قام مسعود بتوسعة وتحسين القصر الشريفي (دار السعادة) الذي سبق أن بناه الشريف (حسن ابن الحسين ابن أبي نميّ) وأضاف إليه برجين شحنهما بالمدافع.
    بدأت المدينة (المنورة) تجذب اهتمام الشريف مسعود، فقد حدث صدام بين شيخ الحرم (المصري) وضباط الحامية التركية وأدى ذلك إلى تشكل معسكرين: الأول هو سكان المدينة (المنورة) والثاني رجال قبيلة حرب. فأرسل الشريف مسعود عدداً من فرسانه العبيد لاسترداد النظام لكنهم فشلوا في المهمة فاستشاط غضباً وأغلق موانئ البحر الأحمر أمامهم في محاولة لمنع انسحابهم (عودتهم) إلى مكة وأمرهم بالتوجه مرة أخرى واسترداد النظام والأمن في المدينة (المنورة) واستطاعت مفارز حراسات قوافل الحجيج في النهاية استعادة النظام وتم طرد شيخ الحرم (المصري) وخضعت المدينة مرة أخرى لسيطرة الشريف حيث ترك فيها حامية من قواته.
    في عام 1744 وصل إلى الشريف مبعوث خاص وهو سيد نصر الله ابن الحسين الجعفري موفداً من قبل نادر شاه (الفارسي) يبلغه أنه احتل البصرة وأربيل وكركوك والنجف. وأنه لم يحتل بغداد "لأنها مسوّرة ولأن واليها صديق" وأنه فضلاً عن ذلك حاصر الموصل وأن علماء السنة في بغداد اعترفوا بالمذهب الجعفري (الشيعي) كمذهب خامس في الإسلام إلى جانب مذاهب السنة الأربعة.
    ولم يتردد الشريف بإرسال رسالة نادر شاه إلى الباب العالي. ووصل جواب السلطان العثماني مع قافلة الحجيج الشامي التالية يطلب فيها من الشريف إرسال المبعوث الفارسي إلى الأستانة. وفي غضون ذلك اتصل أبو بكر باشا حاكم جدة مع الشريف وأبلغه أنه سمع خاله أحمد باشا قائد القوات العثمانية في أرضروم بأن السلام لم يتحقق بين نادر شاه والعثمانيين ولم يتم التوقيع على اتفاقية سلام. بل على العكس من ذلك فقد مني نادر شاه بهزيمة كبرى وأن الولايات العثمانية كافة تحتفل بذلك الانتصار وبالتالي يتعين على الحجاز أن يحتفل بالانتصار العثماني أيضاً… وتردد الشريف في البداية ثم أمر بالاحتفالات وطلب الباشا بعد ذلك من الشريف تسليم المبعوث الفارسي لقتله ورفض الشريف ذلك لكنه أمر بإقامة شعائر لاستنكار المذهب الشيعي حتى يعلن للجميع أنه لا يؤيد الشيعة. ولم يسلم مبعوث الشاه إلا بعد أن تلقى وعداً بالمحافظة على حياته. لكن المسؤولين في اسلامبول أعدموا المبعوث الشيعي حال وصوله.
    وفي مكة استمر وصول الشائعات المتضاربة حول هزيمة الشاه أو العثمانيين وما إذا تم التوصل إلى سلام بينهما أم أن الحرب قائمة.
    وفي عام 1746 وردت إلى مكة أنباء عن قتال بين: "الإنكليز والفرنسيين في البنغال وأن الإنكليز هم الذين كانوا بادئين بالعدوان حتى أرسل الملك الفرنسي (40) سفينة، فانسحب الإنكليز ودمروا ميناء مدراس ووجد الفرنسيون كنوزاً وذخائر جمة تركها الإنكليز خلفهم في القلعة(3).
    في العام التالي وردت الأخبار بأن نادر شاه (وهو أحد عبيد طهماسب) قد اغتيل من قبل حراسه كما وردت رسالة من أحمد باشا والي بغداد يبلغ الشريف فيها بأن السلام استتب مع بلاد فارس (إيران) وكان عدد من الفرس هم الذين اغتالوا نادر شاه بعد أن تغلبوا على حرسه الشخصي من الأفغان في 19 من حزيران 1747.
    وتمرد جنود الشريف اليمنيون في قنفذة ضد قائدهم وضد وكيله على أساس أنهم لم يتلقوا مخصصاتهم واستطاعوا أن يستولوا بالقوة على استحقاقاتهم ويعودوا إلى اليمن وحاولت قوات الشريف مطاردتهم لكنهم تمكنوا من دخول الأراضي اليمنية. واستعان الشريف بالإمام وأكّد له أن الجنود اليمنيين استولوا على أكثر من مستحقاتهم فأمرهم الإمام بإعادة (2.200) ريال كما وعد الشريف بإعادة الجنود إلى قنفذة (عندما تهدأ الأحوال) وكافأ الشريف الإمام على موقفه وأرسل له عدة هدايا من بينها الخيول وجارية بيضاء فائقة الجمال.
    وتوفي الشريف مسعود في 18 من شباط 1752 وخلفه شقيقه مسعد. وكان ذوو بركات ضد الشريف الجديد وأرسلوا رسائل تأييد وتعاطف إلى الشريف محمد ابن عبد الإله. وتوجه كثيرون منهم إلى وادي المر. فبعث إليهم مسعد عدة رسائل تحثهم على العودة إلى مكة (المكرمة) لكنهم رفضوا طلبه بعناد وتصميم.
    كان مسعد يجهل رغبة الشريف محمد بالإطاحة به، وعندما سمع بذلك في وقت لاحق أرسل شقيقه لحشد قبائل الطائف فاكتشف شقيقه أن محمداً حشد قبيلة عتيبة وخيّم معها في منطقة السيل في منتصف طريق المنحدرات الجبلية التي سار خلالها نحو الطائف فاضطر للعودة. أما الشريف محمد فقد أعلن نفسه حاكماً على مكة وتقدم بقواته نحوها وحدث الصدام في (دقم الوبر) حيث هزم محمد وسلبت أمتعته. وبعد بضعة أسابيع تقدم من الطائف نحو مكة مرة أخرى وخيم الجيشان أمام بعضهما طيلة الليل. وفي صباح اليوم التالي تبين أن الشريف محمد ضلل مسعداً حيث ترك نيران مخيمه مشتعلة بينما سار تحت جنح الظلام إلى مكة. وأرسل مسعد أسرع فرسانه لمطاردته فلحقوا به عند (وادي المنحنى) وأنزلوا في قواته الهزيمة مرة أخرى.
    وتدخل في النزاع السيد عبد الله الفعر كوسيط بين الطرفين واستطاع تحقيق الصلح بينهما شريطة أن يمنح الشريف مساعدات إلى الأشراف المتضررين. في تلك الأثناء كان أميرا الحجيجين الشامي والمصري يؤيدان تنصيب الشريف (مبارك ابن محمد ابن عبد الإله) شريفاً على مكة وذلك بموافقة ومباركة عدد من الأشراف دون علم مسعد وهكذا تمت محاصرة منزل مسعد وقرئ بيان بتنصيب مبارك حاكماً على مكة، دون حاجة لفرمان سلطاني. غير أن أحمد شقيق مسعد قاد قواته إلى وسط مكة بينما قام مسعد بشن هجوم معاكس واستطاعا طرد القوات المعادية التي حاولت تنصيب مبارك بالقوة.
    وسارع مبارك إلى إرسال التماس بالعفو قبل فراره إلى وادي المر غير أن مسعداً أرسل رجاله لمطاردته وتمّ إلقاء القبض عليه وسجنه حتى توفي بعد بضع سنوات. وقام مسعد كذلك بنفي عبد الله الفعر إلى اليمن حيث رحب به الامام الذي بذل مساعيه الحميدة مع الشريف مسعد ونجح في وساطته فعاد عبد الله الفعر إلى مكة لكنه ما إن وصل إلى مكة حتى عاد للتآمر مرة أخرى ضد مسعد بمساعدة نفس أمير الحج الشامي.
    ونتيجة لدسائس عبد الله الفعر. دعا (عبد الله باشا الشارشي)(4) إلى عقد مجلس بحجة بحث مشاريع تحسين إمدادات المياه إلى مكة. وخلال الاجتماع وجه الباشا اتهامات إلى الشريف مسعد بأنه حوّل المياه المخصصة للحجاج إلى استهلاكه ومصالحه الخاصة، وأمر باعتقاله فوراً وأعلن تنحيه عن منصبه وتعيين شقيقه جعفر خلفاً له. وكان جعفر رجلاً دمثاً لين الجانب لا يطمع في الحكم وقد أطلق سراح شقيقه بعد أن غادرت قوافل الحجيج مكة مباشرة وتنازل عن منصبه لشقيقه مسعد ثم اشترى بضعة بساتين في الطائف وانتقل إليها وظل يعمل في الزراعة حتى توفي عام 1764.
    في ذلك الوقت بدأ تجار الحجاز يتذمرون من المضايقات التي تتعرض لها سفنهم والرسوم والضرائب التي تفرض عليها في موانئ الهند فتقدموا بشكوى جماعية بهذا الصدد إلى الشريف وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 1766 وصلت إلى لندن الرسالة التالية من السيد جون موراي من الأستانة (استنبول) معنونة إلى الأيرل شيلبورن.


    القسطنطينية
    16 أكتوبر 1766
    سيدي.
    ….. أرفق لكم نسخة عن ورقة أرسلها إليَّ الرّيس أفندي يطلب فيها مني أن أبعث رسالة إلى حاكم بندر ميناي وبندر سورات في الهند لوقف المضايقات التي يتعرض لها التجار الأتراك(5) في تلك الموانئ. وقد وعدته أن أرسلها إلى فخامتكم. لكني بحثت في كافة الكتب والخرائط الجغرافية ولم أعثر فيها على بندر ميناي كما لا أعرف ما إذا كان هذان الميناءان خاضعين للسيطرة التركية إذا كان سكانهما من الماهو ميتان (المحمديين – أي المسلمين).
    ولا أستطيع أن أصف شريف مكة الذي بعث شكواه هذه إلى الباب العالي إلا بأنه بمثابة بابا المحمديين.
    مع فائق الاحترام والتقدير


    خادمكم المتواضع والمطيع
    جون موراي


    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل العاشر

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي السبت 30 مايو - 19:40

    وأجاب اللورد شيلبورون في كانون الأول (ديسمبر) 1766 وحوّل القضية إلى شركة الهند الشرقية حيث طلب منها أن (تصدر أوامر مشددة لمنع أي مضايقة أو تدخل في تجارة الأتراك الذين يترددون على تلك الموانئ).
    وقرر الشريف أحمد عبد الكريم ابن محمد يعلى بدعم من ذوي بركات تعيين الشريف عبد الله ابن الحسين ابن يحيى ابن بركات حاكماً (شريفاً) على مكة فجمعوا قواتهم واستقر رأيهم على احتلال جدة أولاً للاستعانة بوارداتها من الضرائب والمكوس لحشد المزيد من المقاتلين لتحقيق الهدف النهائي وهو احتلال مكة. لكن أهالي جدة قاوموا المهاجمين وأغلقوا أبواب مدينتهم وفتحوا النار على القوة المهاجمة. فتراجع ذوو بركات ومن والاهم إلى أكواخ مجاورة من القش. فما كان من المدافعين عن جدة إلا أن استعملوا الأقواس والنبال المشتعلة، وأمطروا الأكواخ المصنوعة من القش بعشرات النبال المشتعلة فأضرموا فيها النار، فتراجعوا بعد هذه الهزيمة إلى وادي المر بقيادة عبد الله بن الحسين ابن يحيى المطالب بالحكم. وسرعان ما غادر عبد الله الحجاز إلى مصر بهدف الحصول على دعم واليها فلعل الوالي بعيده إلى مكة على رأس قافلة الحجيج المصري ويأمر بتعيينه شريفاً على مكة.
    وعلم مسعد بذلك فرتب الأمور مع صديقه أمير الحج الشامي بأن يظل الركب الشامي في الحجاز إلى ما بعد مغادرة الحجيج المصري، وهكذا فشلت خطة عبد الله بن الحسين فاضطر لإنفاق أمواله على حشد وتجنيد المزيد من الرجال للقتال إلى جانبه بعد مغادرة الحجيج الشامي. ووقعت المعركة على تلال المعلى والموبذة في ضواحي مكة. وكان سلحدار (المشرف على مخازن الأسلحة) الشريف مسعد البطل الذي لم يشق له غبار في تلك المعركة إذ أنه هاجم (السيد رضا) المدجج بالسلاح والدروع وهو أقوى وأشرس فرسان عبد الله بن الحسين وأسقطه عن حصانه وانهال عليه ضرباً بقضيب حديدي له نتوءات مدببة حتى قتله. وتراجع عبد الله إلى وادي المر وأرسل مبعوثاً إلى مسعد يطلب منه الصفح فعفا عنه. ومع ذلك لم يهدأ عبد الله بل سافر إلى مصر للمرة الثانية وتظلم أمام واليها (علي بك) فزوده هذا بثلاثة آلاف رجل وثلاثين مدفعاً وإمدادات كافية في ثلاث سفن. ووجه علي بك أوامر مشددة إلى قائد الحملة الذي رافق عبد الله بعزل الشريف مسعد وتنصيب عبد الله خلفاً له. وفي اليوم الذي أبحرت فيه الحملة وقع مسعد مريضاً وتوفي في 29 من نيسان (إبريل) 1770 قبل أن تصل القوات المصرية التي يرافقها عبد الله إلى شواطئ الجزيرة العربية.
    في عهد مسعود ومرة أخرى في عهد مسعد طلب الوهابيون وسط الجزيرة العربية من الأشراف السماح لهم بالحج ورفض الأشراف الطلب كما رفضه خلفاؤهم الشريفان أحمد وسرور رغم ما عرضه الوهابيون أن يرسلوا عدداً من فقهائهم لشرح مبادئهم.
    وفي عام 1770 – والتاريخ غير محدد بدقة – ظهر في سماء الحجاز (نجم له ذنب طويل منذ الغروب وحتى الفجر وخاف الناس وتشاءموا منه واعتقدوا أنه نذير شؤم بمجيء الوهابيين وذلك اعتماداً على قصيدة للفلكي المعروف الفارسي)(6).
    وقبل أن يتوفى مسعد عقد مجلس الأشراف واتفق معهم على تعيين شقيقه عبد الله ابن سعيد خليفة له وتمّ الإعلان عن ذلك رسمياً. غير أن شقيقه أحمد رفض هذا التعيين وهدد باستعمال القوة لعزل شقيقه فتنازل عبد الله وأصبح أحمد شريفاً على مكة.
    ووصلت الحملة المصرية التي تهدف إلى تعيين عبد الله ابن الحسين إلى المدينة (المنورة) التي حاول حاكمها الموالي للشريف أحمد الدفاع عنها. لكن قواته هزمت وألقي القبض عليه وأعدم. وتوجه عبد الله ابن حسين المطالب بالحكم إلى وادي المر وأخذ يحشد الأنصار والأتباع من رجال القبائل استعداداً لمهاجمة مكة بدعم ومؤازرة الحملة المصرية. أما الشريف أحمد الذي كان أمله ضعيفاً بالانتصار فقد أرسل النساء والأطفال من ذوي زيد إلى الطائف حرصاً على سلامتهم وجمع جنوده ورجال القبائل الموالين له في مكة. وعندما وصلت القوات المشتركة التابعة لعبد اله ابن حسين والحملة المصرية إلى ضواحي مكة ونصبت المدافع ووجهت فوهاتها إليها في الثاني عشر من تموز 1770 اضطر الشريف أحمد للاستسلام حقناً للدماء وتراجع إلى الطائف وهكذا نودي بعبد الله ابن حسين (من ذوي بركات) شريفاً على مكة.
    بعد تنصيب عبد الله ببضعة أيام هاجمه أحد الدراويش في الحرم وطعنه في أعلى فخذه وهو ممتطٍ حصانه يتفقد أحياء مكة، وتبين بعد ذلك أن الدرويش مختل العقل فأطلق سراحه وعفا عنه.
    وقرر عبد الله جمع قوة لإخراج الشريف أحمد من الطائف فانسحب هذا إلى مضارب قبيلة ثقيف وحشد فيها عدداً كافياً من المقاتلين قادهم نحو عرفات تمهيداً لمهاجمة مكة لكنه مني بالهزيمة فاضطر لطلب الصفح مع تعهد بعدم مضايقة عبد الله مرة أخرى فتم الصلح وتبودلت الهدايا بينهما وزوده عبد الله بما يكفي من الإمدادات – مقابل عدد من الخيول – لوصوله إلى بلده ليث على البحر الأحمر إلى الجنوب من جدة حيث بقي فيها إلى أن عادت الحملة المصرية إلى مصر وعند ذلك تقدم مرة أخرى نحو مكة بدعم من مقاتلي قبيلة ثقيف بقيادة شيخهم (ربيعة) وبدأ القتال خارج مكة وتقهقر رجال ثقيف في البداية لكنهم عندما علموا بمقتل شيخهم ربيعة قرروا الانتقام له فشنوا هجمة صادقة على قوات عبد الله ودحروها واقتحموا مكة.
    ومن الطبيعي أن تكون مشاعر الشريف أحمد مزيجاً من الغضب والحقد ليس على الشريف عبد الله فقط بل وعلى (ذوي بركات) بشكل عام. ولذلك ما إن دخل مكة حتى أمر بإحراق ونهب منازل ذوي بركات. ولجأ بعضهم إلى جدة وقرروا مع السنجق التركي فيها مقاومة قوات أحمد التي تقدمت لاحتلالها. وتوجه أحمد بنفسه ليشرف على حصار جدة، واستطاع الاتصال بأحد ضباط الأتراك فيها ووعده بمكافأة مجزية إذا هو ثبط عزائم المدافعين عنها. وقبل الضابط العرض وطلب منه أن يركز هجومه على (باب اليمن) لأنه سيعمل على إخلاء الحراس من ذلك الباب بحيث تقتحم قوات أحمد ميناء جدة وداخل المدينة بأسرع ما يمكن.
    ونجحت المؤامرة وتدفقت القوات المهاجمة من باب اليمن وتراجعت القوات المدافعة بما في ذلك السنجق إلى القلعة. واستطاع السنجق (أي حاكم جدة) بعد ذلك أن يفر مع بعض جنوده من إحدى بوابات القلعة القريبة من الميناء وخاضوا في المياه الضحلة وتوجهوا خلسة إلى رابغ إلى الشمال من جدة. وعندما سمع عبد الله ابن حسين بفرار السنجق لحق به بنفس الطريقة حتى إلتقاه في رابغ ومن هناك واصلا السير إلى ميناء ينبع حيث أبحر الشريف عبد الله إلى مصر وبقي فيها حتى وافاه الأجل.
    قام رجال الشريف أحمد بنهب جدة بحجة وجود مجاعة في مكة وقد استمرت المجاعة فعلاً إلى أن وصلت إمدادات جديدة في نهاية ذلك العام.
    وفي نفس الوقت أوقف إمام اليمن إمدادات القهوة عن الحجاز نتيجة الخلاف على نسبة الضرائب المفروضة عليها. فاضطر الشريف لإرسال عبد الله الفعر للتفاهم مع الإمام وتسوية الخلاف. ولأن أحمد لم يستطع فرض الأمن والنظام في أنحاء الحجاز استاء الأهالي من حكمه. ورغم إعجاب أفراد أسرته بشجاعته في ساحات القتال لكنهم لم يكونوا راضين عن أسلوبه في الإدارة والحكم.
    في عام 1771 حاول الشريف أحمد بأسلوب لا يخلو من القسوة إصلاح الأمور كما يبدو، فقرر استبدال وزيره في جدة المدعو يوسف القابل. وأرسل مفرزة من الجنود وأمرها بإلقاء القبض عليه وإحضاره مكبلاً بالقيود إلى مكة. ولم يكن هذا القرار سراً بل عرف به معظم الناس. وكان الشريف سرور ابن شقيق الشريف أحمد في السابعة عشرة من عمره آنذاك وسمع بقرار عمه اعتقال يوسف القابل فاستشاط غضباً من هذه الأساليب وهرع إلى أسرع ناقة لديه فامتطاها وتوجه إلى جدة على الفور لتحذير الوزير يوسف القابل.
    عندما وصل جنود الشريف إلى جدة أوقفهم سرور وأبلغهم أن يوسف القابل في حمايته وبعد محادثات طويلة وافق على تسليمهم الوزير شريطة أن يرافقه وألا يحاول أحد الاعتداء عليه حتى وصولهم جميعاً إلى مكة.
    وفي الطريق إلى مكة استطاع سرور والوزير مراوغة الجنود والفرار منهم إلى وادي المر. ومن هناك كتب سرور إلى عمه وأبلغه أنه سيقاتله. وحاول الشريف أحمد استرضاء سرور بواسطة الرسائل الودية غير أن سروراً واصل حشد رجال القبائل وأرسل موفدين إلى قبيلة عتيبة طلب من شيوخها ورجالها موافاته في منطقة السيل. وبعد أن حشد ثلاثمائة فارس وعدداً من المشاة قاد رجال القبائل إلى وادي المنحنى وبعد معركة مع قوات أحمد لم تستغرق أكثر من ساعتين تغلب عليها ودخل إلى مكة منتصراً في الخامس من شباط (فبراير) 1773 وكان في الثامنة عشرة من عمره.


    (ح) تعني حكم مكة المكرمة والحجاز.



    (1) تزوج فتاة سكوتلندية أسلمت اسمها الأميرة صبيحة وأنجب منها بنتين الشريفة مصباح والشريفة صفينة انظر تفاصيل حياته(أمير عرب لمؤلفه: ج.سميث


    (1) العبادلة: فرع من الأشراف الحسنيين (أحفاد الحسن بن علي – ك -).

    (2) كتاب تنضيد العقود.

    (3) ابن زيني دحلان: الجداول المرضية.

    (4) أمير الحج الشامي.

    (5) واضح أنه يقصد الحجازيين.

    (6) ابن زيني دحلان: خلاصة الكلام.


    أنتهى الفصل العاشر
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty الفصل الحادي عشر

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي السبت 30 مايو - 20:23

    الفصل الحادي عشر: ســرور وشقيقه غــالب 1771 – 1810

    كانت بدايات حكم الشريف الشاب الجديد (سرور) بعيدة عن الاستقرار ذلك أن عمه أحمد ظل ينازعه السلطة ويحشد الأتباع للهجوم على مكة. وحدث الاشتباك الأول عند بركة سلمان بعد عشرين يوماً فقط من دخول سرور إلى مكة.
    وكان الجنود في مكة قد رفضوا مرافقة الشريف سرور إلا بعد استلام مستحقاتهم على عمه. فاضطر للذهاب مع حرسه الشخصي إلى مناسك الحج في عرفات.
    وحتى ذلك الوقت كان ثمة حزب قوي بين الأشراف يفضلون أحمد وتردد عدد منهم على زيارة الممثل التركي طمعاً بمساعدته للإطاحة بالشريف سرور. ولحسن حظ الشريف الشاب كان الباشا التركي مستاء من أحمد ولذلك رفض التحرك ضد سرور بدون أوامر واضحة من الأستانة. وبعد مناسك الحج تمرد الجنود الذين لم يقبضوا استحقاقاتهم وشجعهم أحمد ووعدهم بدفع كافة رواتبهم ومستحقاتهم وأكثر منها إذا عاد للحكم في مكة. فتشجع الجنود وأطلقوا النار على بيت الشريف. واستدعى سرور البدو الذين بقوا في مكة وطلب منهم المؤازرة كما أرسل عبد والده (مثقال آغا) إلى أمير الحج المصري لطلب الذخيرة والعتاد واستطاع بذلك إلحاق الهزيمة مرة أخرى بأحمد وأسره ونفاه مع أتباعه من مكة. غير أن أحمد لم يتوقف عن محاولاته فقد اشتبك مع قوات سرور في زهاء (15) معركة خلال السنوات الخمس الأولى من حكم سرور وكان أحمد يستعمل الطائف كقاعدة لشن الحملات ضد مكة. وبقي عبد الله الفاعور مشغولاً طيلة الوقت في دعم أحمد… يتصل مع أمراء الحجيج الأتراك لدى قدومهم إلى مكة ويحاول ضمهم إلى جانب قضية أحمد، لكن أولئك الأمراء ظلوا ثابتين على مواقفهم الرافضة لعودة أحمد. وأخيراً استطاع سرور اعتقال عبد الله الفاعور ونفيه إلى قنفذة حيث حمله ملاحو سفينة يمنية ونقلوه إلى اليمن فاستشاط سرور غضباً وبعث الرسائل التي تنطوي على استياء شديد إلى إمام اليمن الذي أمر في النهاية بإعادة الفاعور وتسليمه إلى الشريف الذي قام بسجنه في معتقل جيد الحراسة في قنفذة حتى توفي في سجنه (ويقول البعض أن رجال سرور شنقوه في السجن)(1).
    وفي عام 1779 قام سرور بسجن عمه أحمد مع ولديه في ينبع وبعد أن مرض فيها نقل إلى جدة ومات فيها عام 1780.
    عند ذلك تفرّغ سرور لمعاقبة اللصوص وقطاع الطرق من البدو، واعتاد على قيادة مفارز من الفرسان والتوجه بسرعة إلى مناطق قطاع الطرق لمفاجأتهم. ورأى بعض خصومه في مكة أن حملاته الدورية تلك على البدو فرصة مناسبة لنصب كمين له وقتله. غير أن أحد الأشراف أبلغه بالمؤامرة فقرر سرور التأكد من ذلك وانطلق بنفسه مع عدد من الفرسان فوجد جماعة كامنة بانتظاره فأمر رجاله باعتقالهم واستطاع بعضهم الفرار لكنه اعتقل الشريف مسعداً وابنه وعشرين من عبيدهم الزنوج، وقد أعدم أربعة منهم وقطع يد مسعد ونفاهم جميعاً إلى الهند.
    وأرسل سلطان مراكش في العام نفسه ابنته برفقة عدد من أشقائها يحملون هدايا الزنوج لزفافها على الشريف الشاب سرور فازداد وجاهة ومهابة بعد زواجه من ابنة سلطان مراكش.
    بعد مناسك الحج انطلق مراد بك أمير الحج المصري الذي لم يكن متعاطفاً كما يبدو مع الشريف سرور، في طريق العودة إلى مصر فاعتقلته قبيلة حرب. وكان عدد من رجال القبيلة قد وصلوا إلى مكة ليطلبوا من الشريف الإعانة السنوية مقابل سماحهم (أي سماح قبيلة حرب) بمرور آمن لقوافل الحجاج في أراضيهم، فاعتقلهم سرور فوراً وأرغمهم على الجلوس فوق أوتار حديدية ورفض أن يدفع المعونة.
    كان شيوخ قبيلة حرب على اقتناع بأن المعونات المخصصة لهم قد دفعت إلى الشريف سرور. وعندما قام سرور بعد بضعة أشهر بزيارة المدينة (ورغم حجم القوة التي رافقته وهي: خمسمائة بدوي وخمسة آلاف جندي من رجاله وخمسمائة شريف وحراسهم) فقد اعترضه في الطريق مقاتلو قبيلة حرب، واستمر التفاوض طيلة أيام ثلاثة دون اتفاق حتى اضطر لمقاتلتهم، وتدخل بعض شيوخ البدو المحايدين وتمّ التوصل إلى تسوية يدفع بمقتضاها (14) ألف قرش على أن تقدم القبيلة مقابل ذلك أربعين رجلاً منها كرهائن عند سرور. غير أن القبيلة حاولت التملّص من إرسال الرهائن كما أن أحد الشيوخ الذي كان ينبغي أن يحضر كرهينة لم يحضر، حتى أرسل سرور مفرزة من الفرسان أحضرته بالقوة… وعندما اكتمل عدد الرهائن أمر بتقييدهم بالسلاسل. وما إن سمع شيوخ القبيلة بذلك بعد دخوله إلى المدينة حتى تحركوا مرة أخرى وقطعوا طريق عودته إلى مكة كما أعادوا إليها قوافل الحجاج الذين كانوا عائدين إلى أوطانهم.
    وازداد الوضع سوءاً عندما تبين أن بعض أشراف ووجهاء المدينة متعاطفون لدرجة التحالف مع قبيلة حرب ويشجعون شيوخها على العصيان. وبدأ القتال داخل المدينة حيث حاول سرور اجتياح القلعة فأرسل عبيده الزنوج مع السلالم لتسلقها لكن المحاولة فشلت واستمر القتال أسبوعاً. وأخيراً أطلق سراح الرهائن بينما أرسل معظم الأسرى الذين أسرهم حول القلعة إلى مكة.
    وأعلن سرور كنوع من الحيلة بأنه سيعود من المدينة إلى مكة عبر الطريق الذي يمر بأراضي قبيلة حرب، لكنه سلك في الواقع طريقاً أبعد من ذلك وقام بحركة التفاف واسعة إلى الشرق حتى لا يمر في أراضي القبيلة، ونفد منه الماء ولم ينجح مع رجاله إلا على أيدي الأعراب المخلصين له إذ أرشدوه إلى آبار يعرفونها. وبعد مشقة وصعوبات جمة وصل إلى الطائف وقد وردت الأنباء بأن وزيره في المدينة تعرض للهجوم فاضطر للاستسلام. وفي نفس الوقت استولت قبيلة حرب على ينبع وأسرت وزيره فيها. فقرر سرور تنظيم حملة كبرى ضد قبيلة حرب. فجند ستة آلاف مقاتل من قبيلة عتيبة وثلاثة آلاف مقاتل من قبيلتي هديل وثقيف وألف مقاتل من حرسه الشخصين وبلغ عدد حجم القوة بما في ذلك الأشراف وحراسهم وعبيدهم زهاء (12) ألف مقاتل كما اصطحب معه مائة وخمسين فنياً ومهنياً ومهندساً وسبعة آلاف جمل خصصت لنقل الأمتعة والذخائر والمؤن غير الجمال الأخرى التي يمتطيها المحاربون.
    ورفض بعض رجال قبيلة هديل مواصلة السير إلى ما وراء موقع الخالص وخلال المشاجرة التي جرت بين رجال الشريف وبين أولئك الرافضين مواصلة السير أطلقت رصاصة على الشريف لكنها أخطأته، وخشي رجال قبيلة هديل من مغبة هذا الحادث فانسحبوا جميعاً من المخيم. وعندما أرسل لهم أحد أقاربه الأشراف حتى يقنعهم بالعودة قالوا له: "إذا كنت راغباً أن تصبح حاكم مكة فتعال معنا لأننا في طريقنا إليها" وهكذا اضطر سرور إلى العودة ومطاردة قبيلة هديل وإلحاق الهزيمة بهم حتى طلبوا العفو فعفا عنهم لكنه لم يستطع بعد ذلك مواصلة حملته.
    في عام 1785 كان أمير الحج الشامي هو أحمد باشا الجزار الذي كان والياً على عكا وهو الذي صد حملة نابليون عن أسوار عكا فيما بعد. وكان الجزار يدّعي بأنه من نسل الأشراف من الأب والأم معاً وكان يعلن أحياناً بأنه المهدي المنتظر(2)، وفي طريق عودة الجزار من مكة تعرض لهجوم عنيف من رجال قبيلة حرب واستطاع ردهم على أعقابهم بل أنه أسر بعض فرسانهم. فحضر شيوخ القبيلة وقابلوا الجزار باشا والتمسوا منه العفو عن الأسرى فوافق على ذلك شريطة أن يسمهم على وجوههم (أي يجرح وجناتهم بآلة حادة يبقى الجرح علامة على الوجه للأبد) ولم يكن الجزار يدرك أن البدو يعتبرون القتل والموت أفضل من وسم الرجال، وما إن سمع شيوخ القبيلة بهذا الشرط المذل حتى عادوا واستنفروا كافة المقاتلين وهاجموا القافلة بعزيمة صادقة وفتكوا بحراسها واستولوا عليها بينما استطاع أحمد باشا الجزار وعدد من رجاله الفرار والعودة إلى المدينة وهم في حالة من الرعب.
    وحشد الشريف سرور قوة ضاربة أضخم من القوة التي حشدها في العام السابق وزحف على رأس قواته لمهاجمة قبيلة حرب… كانت قواته تتقدم ببطء وهو ما دعا شيوخ حرب إلى الاعتقاد بأنه يخشى الدخول في المعركة وبالتالي شرع مقاتلو القبيلة بالهجوم خاصة على طليعة قوة الشريف، وكانت الطليعة من رجال قبيلة عتيبة. وأرسل الشريف المنادين ليعلنوا بأصواتهم العالية بأنه سيدفع مبلغاً من النقود الذهبية مقابل كل رأس من رؤوس مقاتلي حرب، وسرعان ما بدأت رؤوس رجال حرب تتراكم فوق بعضها أمام خيمته. ثم أعلن بأنه سيدفع نفس المبلغ عن كل أسير وسرعان ما أسرت قواته أكثر من خمسمائة رجل من قبيلة حرب… وعاد الشريف إلى مكة منتصراً ليجد أن كمية كبيرة من الصدقات قد وصلت من الهند ومراكش ومصر.
    بعد بضعة أسابيع أقام حفلة كبرى لختان أولاده وأولاد عدد من الأشراف وتصدق بأموال كثيرة على فقراء مكة، ولم يمض زهاء شهرين على انتصاره الكاسح على قبيلة حرب حتى وقع مريضاً. كان يفقد الوعي ساعات ثم يصحو حتى توفي في العشرين من أيلول 1788 وهو في الرابعة والثلاثين من عمره. كان الشريف سرور بهي الطلعة حازماً وموضع مهابة وإعجاب وقد حقق شهرة واسعة، وحتى بعد سبعين سنة على وفاته كانت شهرته ذائعة لدرجة أن (شارل ديدييه) الذي زار الحجاز مع (ريتشارد بيرتون) عام 1854 أطلق على سرور لقب (لويس الحادي عشر الحجازي)(3) وأضاف: أنه كان مضرب المثل في الكرم والإقدام والحلم وهو الذي وضع حداً للضرائب الاعتباطية كما أدخل إصلاحات كثيرة على الإدارة.
    بعد وفاة سرور تسلم مقاليد الحكم شقيقه الأصغر (غالب) الذي كان ضخم الجثة بارعاً في استعمال السلاح منذ صغره، دمث الأخلاق، يقول عنه ديدييه: "لطيف المعشر يمتاز بالحذر وتمتع بصلاحيات شبه مطلقة إلى أن ظهر الوهابيون".
    أما الرحالة اليهودي الذي تنكر باسم مستعار وهو (علي بك العباسي) واسمه الحقيقي (دومنغو باديا ليبليتش) وكان يعمل لمصلحة الحكومة الفرنسية(4) فيقول عنه: أنه غير مثقف وأناني وأن الإنكليز كانوا يعتبرونه أفضل صديق لهم وذلك انطلاقاً من مصلحتهم في التجارة مع الهند بواسطته. واعتاد الشريف غالب إرسال السفن للتجارة مع المُخا ومسقط وسورات وادعى ملكية جزيرتي سواكن ومصوع رغم أنهما من أملاك السلطان العثماني(5).
    حفلت الأيام الأولى من حكمه بالمؤامرات التي حيكت ضده من قبل بعض أشقائه وأقاربه الآخرين فأجلاهم عن مكة حيث توجه معظمهم إلى الطائف. حتى ابن شقيقه الصغير عبد الله ابن سرور الذي لم يتجاوز الثانية عشرة م نعمره انضم إلى الحزب المعارض ووفر الملاذ لسجين هرب بواسطة قناة تصل إلى بيت عبد الله ابن سرور وتم اعتقال السجين ثم أخلي سبيله بعد بضعة أيام. وكان السجين شاباً من الأشراف، وعرفاناً منه بفضل وشهامة عبد الله انطلق إلى الأستانة وقابل السلطان الذي تأثر كثيراً بوفاء هذا الشريف الشاب لعبد الله وكان الشريف الشاب قد التمس من السلطان تعيين عبد الله حاكماً على مكة بدلاً من غالب.
    كان ثمة شيء أشد خطورة من هذه الخلافات والمنازعات العائلية وهو التهديد المتصاعد من وسط الجزيرة العربية. فمنذ عهد الشريف مسعود كان الوهابيون وسط الجزيرة يعتبرون سكان مكة غير مسلمين وقد طلبوا آنذاك السماح لهم بالحج ورفض مسعود طلبهم، وعندما أرسلوا ثلاثين شيخاً وفقيهاً منهم لمجادلة أهل مكة ونشر دعوتهم، فقد رُدّوا على أعقابهم بينما أعلن قاضي مكة غير مرة من على المنبر أنهم كفار. وبعد أن استلم مسعد الحكم جدد الوهابيون طلبهم ورفض الطلب كذلك. فأرسلوا وفداً من الشيوخ في عهد الشريف أحمد وأبدى الوفد رغبة الوهابيين بالحج كما حاول أن يشرح مبادئهم وأجابهم الشريف أحمد بأنه يوافق على قدوم الوهابيين للحج شريطة أن يدفعوا ما يدفعه الحجاج الفرس بالإضافة إلى مائة حصان أصيل. ورفض الوهابيون هذا الشرط. والآن بعد وصول غالب إلى الحكم جددوا طلبهم غير أن الشريف غالب لم يكتف برفض الطلب بل إنه سفه معتقداتهم وهدد بغزوهم، وقد بدأ غزواته ضدهم بالفعل عام 1790 واستمر كذلك طيلة الخمس عشرة سنة التالية خاض خلالها العديد من المعارك ضدهم. لقد استغرقت حملته الأولى ستة أشهر وقادها عبد العزيز ابن مسعود (شقيق غالب) ووصلت الحملة إلى عنيزة في منطقة القصيم وسط الجزيرة العربية. وقاد غالب نفسه الحملة الثانية وحقق نجاحاً يوازي نجاح الحملة الأولى فقد احتل الشعرة في القصيم واستخدم المدفعية في معاركه. وقام بعد ذلك عبد العزيز ابن مسعود بحملات أخرى إلى تربة ورانيا والبيشة لاستعادة الأمن والنظام في هذه المناطق التي انتشرت فيها الوهابية وتمتعت بنفوذ كبير فيها.
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل الحادي عشر

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي السبت 30 مايو - 20:26

    وأخذ الحجاج يتذمرون من الضرائب المتصاعدة التي يفرضها عليهم الوهابيون وسرعان ما توقفت قوافلهم عن المجيء إلى مكة. واضطر الشريف أخيرا إلى إرسال الرسائل إلى الأستانة عام 1973 ومرة أخرى عام 1798 يطلب العدة والعتاد والدعم المالي لمعالجة ما أسماه (الخطر الوهابي) لكن الباب العالي التزم الصمت.
    كان عدد المقاتلين الوهابيين في ازدياد على نحو درامي. وفي عام 1797 كتب الشريف لؤي وكان على رأس حملة في نجد، إلى الشريف غالب في مكة يقول: "يهجم الوهابيون علينا كالجراد أو السيول التي تتدفق من التلال بعد مطر غزير" وشكك غالب بذلك لكنه تأكد بنفسه بعد يومين عندما خاض قتالاً عنيفاً ضدهم أسفر عن أكثر من ألفي إصابة من الطرفين، وسقط في تلك المعركة أكثر من أربعين شريفاً واضطر غالب في النهاية للانسحاب والتراجع إلى مكة. وأرسل والي بغداد بناء على أوامر الباب العالي حملة ضد الدرعية عاصمة الوهابيين. وتحركت الحملة عن طريق الأحساء وكانت تتألف من مقاتلي قبائل شمر وظفير والمنتفق لكنها عادت أدراجها بعد حصار قصير ولم تتمكن من احتلال الدرعية.
    كان الباب العالي في الواقع يواجه متاعب أكثر أهمية من التهديد الوهابي لمكة ففي أواخر عام 1798 وصل فرمان همايوني إلى مكة يأمر ببناء تحصينات حول مدن الحجاز وذلك على ضوء الغزو الفرنسي لمصر، فتم إصلاح سور ميناء جدة وبدأ الناس يتدربون على السلاح واستعد الجميع لصد نابليون بونابرت(6) وفي تشرين الثاني 1799 كتب (الآغا سعيد حميد) الوزير العثماني في جدة إلى القائد الإنكليزي في عدن يطلب منه إرسال قوة بالسرعة الممكنة: "تعال بسرعة الحصان" وذلك لمنع تقدم الفرنسيين جنوباً نحو الحجاز واليمن. وكان القائد البريطاني في عدن هو العقيد (مواري) فأرسل رسالة الوزير العثماني إلى قائد القوة البحرية البريطانية في البحر الأحمر مع ملاحظاته الخاصة وهي أن شريف مكة سبق أن عرض تقديم قوة إلى الأميرال بلانكيت وأن ثمة تقارير بأن الفرنسيين يجمعون السفن في السويس. وهكذا أصبح من مصلحة العسكرية البريطانية بناء مستودعات وجمع مطايا النقل من جمال وخيول على ساحل البحر الأحمر. وفي شهر أيار (مايو) عام 1801 أرسلت حكومة بومبي في الهند أحد وكلائها (أو مفوضيها) السياسيين يدعى (ميرزا محمد أفندي خان) من مقر إقامته في الخليج إلى جدة كما أن اللجنة السرية في المكتب الهندي (البريطاني) عيّنت كلاً من الجنرال بيرد والسير هوم بوفام للقيام بزيارة شريف مكة والأمراء العرب. وقد حضر الشريف لمقابلتهم في جدة بعد أن تلقى الرسالة التالية من السير هوم بوفام(7).

    "الموقع أدناه هوم بوفام يحمل رتبة فارس في منظمة القديس جون وقبطان سفينة صاحب الجلالة (رومني) يتشرف بإبلاغ قداسة شريف مكة عن وصولنا إلى جدة هذا اليوم ومعنا صلاحيات من شركة الهند الشرقية في بريطانيا بناء على تعليمات صاحب المعالي والفخامة هنري دانداس، أحد وزراء صاحب الجلالة لبناء علاقات صداقة وتحالف مع قداسة شريف مكة. ونأمل من قداسته الموافقة على ذلك سيما وأن هذه العلاقات ستكون مفيدة له من الناحية التجارية والسياسية. وينبغي أن يكون قداسته على قناعة بأن هدف صاحب الجلالة البريطاني وصديقه وحليفه القوي السنيور الأعظم (يعني والي مصر) هو طرد الفرنسيين من مصر. ولا شك أن كلاً من ملك بريطانيا العظمى والباب العالي العثماني سيكونان راضيين إذا وجدا التعاون من قبل قداسته لإلحاق الهزيمة باللصوص وقتلة الملوك (يعني الفرنسيين) الذين شنوا الحرب ضد الدين ويعملون لقلب كافة الأنظمة وكافة الحكومات الضعيفة التي تخدعها وعود عملائهم السريين. وأن السير هوم بوفام الموقع أدناه يملك الصلاحيات الكاملة للاتفاق مع قداسته إذا تكرم بمقابلته.
    كتبت الرسالة بإشرافي على ظهر سفينة صاحب الجلالة (رومني) في ميناء جدة هذا اليوم الحادي والعشرين من مايو (أيار) 1801.


    توقيع
    هوم بوفام


    كان الشريف على أي حال قد اكتسب شهرة بينهم قبل نزولهم في ميناء جدة بسبب (الالتباس والغموض في تصرفاته)(Cool.
    وتم الترحيب بالوفد البريطاني بإطلاق المدفعية وقُدّمت لهم مجموعة من الهدايا تتألف من فراء السمور وفراء القاقم (حيوان من فصيلة ابن عرس ذو فرو ثمين) والمعاطف الطويلة والشالات (جمع شال) الصوفية الملونة وحتى بعض الأسلحة. وأظهر الشريف ولاءه المطلق للباب العالي وطلب أن تكتب الحكومة البريطانية بهذا الصدد إلى السلطان مؤكداً ولاءه له لكنه لم يقابل بوفام.
    وقبل ذلك عقدت هدنة مع الوهابيين عام 1799 كان من شأنها أن حضرت قافلة حجيج ضخمة عبر نجد رافقها بعض الطريق سعود بنفسه(9). وفي عام 1800 قام سعود مع عدد كبير من رجاله بالحج. وانتهت اتفاقية الهدنة الأولى في العام التالي 1801 نتيجة احتلال الوهابيين لحائل على شاطئ البحر الأحمر ومهاجمتهم لكربلاء في العراق وللحجيج الإيراني. ورغم اتفاق سعود مع الشريف فقد كان يرسل رجاله إلى مناطق خاضعة وبشكل حصري لنفوذ الشريف(10) حسب الاتفاق المبرم بينهما.
    وفي غضون ذلك لاحظ البريطانيون في الهند النفوذ العثماني في الحجاز وبدؤوا مساعيهم لتعزيز علاقاتهم مع كل من الشريف وإمام اليمن في صنعاء. وكان ويلنغتون آنذاك يحمل لقب ماركيز ويليزلي، وهو الحاكم والقبطان العام على كافة الممتلكات البريطانية في الشرق إلخ… وقد كتب تعليمات جديدة في تشرين الأول (أكتوبر) 1801 إلى هوم بوفام الذي زوده باثني عشر حارساً من حراسه الشخصيين ومجموعة من الجنود السباهية (أي من المجندين الهنود) وجاء في رساله ويلنغتون:

    " …. وبناء على المعلومات التي تردني أميل للاعتقاد بأن هذه القوى وعلى نحو خاص شريف مكة وإمام صنعاء مستقلة تقريباً عن الباب العالي"

    ويستطرد محذراً بوفام:

    "إن الوضع الراهن لقوة الشريف تستدعي درجة أكبر من الحرص والحذر فيما يتعلق بالتدخل بالشؤون الداخلية للحجاز…"
    لكن عندما وصل بوفام إلى جدة كان الشريف في الطائف فرد على طلب المقابلة أن باستطاعة بوفام أن يكتب له ما يريده. ويقول بوفام في نفس تقريره الذي أرسله من جدة إلى الهند في الثلاثين من حزيران 1802: "إن الشريف هو الذي سمم الباشا التركي في مكة" وكان بوفام قد أثار سخط ويلنغتون لأنه أجرى مفاوضات في مصر بخصوص العلاقات مع مصر والحجاز دون أن يكون مفوضاً بذلك. والذي حدث أن الوالي العثماني في مصر مثل شريف مكة قد طلب من بوفام الاتصال مع الأستانة مباشرة رغم أن هناك سفارة بريطانية في الأستانة وبالتالي فشلت مهمته.
    في غضون ذلك نجح الشريف غالب باستعادة حائل وأبقى فيها حامية صغيرة، لكن الوهابيين احتلوها مرة أخرى عام 1802 فأرسل عثمان المضيفي (وهو شقيق) زوجته مع عدد من الأشراف للتفاوض على تجديد الهدنة التي انتهكها الوهابيون. وسمح سعود لعثمان بمقابلته واستطاع سعود إقناع عثمان بخيانة الشريف غالب وتعهد سعود في حالة انتصاره بتعيين عثمان أميراً على قبائل الطائف ومكة. ولم يعرف الأشراف الذين لم يستطيعوا مقابلة سعود إلا في اليوم الأخير من إقامتهم، شيئاً عن هذا الاتفاق السري، لكنهم لاحظوا في رحلة العودة تحولاً في سلوك وموقف عثمان. فعندما كانوا على مسيرة يوم من الطائف طلب منهم أن يسبقوه وبقي مع قبائل المنطقة التي سبق أن عاش فيها، ودعا شيوخ القبائل للانضمام إليه في مهاجمة الطائف، فانضموا إليه وقاموا بالهجوم غير أن حاكم الطائف عبد المعين (شقيق الشريف غالب) صد الهجوم. فتراجع عثمان المضيفي إلى قلعته لحشد وتجنيد المزيد من المقاتلين. ووصل الشريف بنفسه من مكة إلى الطائف وبرفقته تعزيزات عسكرية وقام مع عبد المعين بهجوم مشترك على (الأبلق) قلعة عثمان. وأرسل الوهابيون نجدات إلى عثمان من البيشة والجنوب فخشي الشريف أن تقوم القوات الوهابية بمهاجمة مكة فاضطر للعودة إليها وسحب عدداً من جنود حامية الطائف معه. عندما سمع عثمان بذلك هاجم الطائف فاستسلمت القلاع والحصون الخارجية وسرعان ما احتل الطائف وأعمل السيف في سكانها رجالاً وكهولاً ونساء وأطفالاً بما في ذلك الذين حاولوا الاحتماء داخل المسجد الكبير، وبعد بضعة أيام قام عثمان بمهاجمة قنفذة على الساحل واحتلها وقتل كل من فيها ولم ينج من سكانها أكثر من مائتي نسمة ونهبت المدينة بالكامل. ولدى سماع سعود بهذه الانتصارات تقدم على رأس قواته نحو مكة في حرب مكشوفة ضد الشريف والأتراك. وانطق المنادون في مكة والقرى المجاورة لها يعلنون (الجهاد) ضد الوهابيين الملحدين ودعوا المتطوعين للالتحاق بقوات الشريف عل الفور. كانت هذه في العام 1802 وهي المحاولة الجادة الأولى التي يقوم بها رجال من خارج الحجاز لاحتلال مكة منذ عام الفيل (عام ولادة الرسول (صلعم)) ومحاولة أبرهة الحبشي احتلال مكة.
    وكان الشريف غالب في موسم الحج الأخير قبل الغزو الوهابي قد حاول إقناع أمراء الحج الشامي والمصري بدعمه بشكل فعّال غير أنهم كانوا معنيين بالدرجة الأولى بمغادرة الحجاز في أمن وسلام.
    واتخذ سعود وعثمان مقر قيادتهما في الحسينية التي يملك فيها الكثير من المكيين الأثرياء قصوراً، وتبعد عن مكة مسيرة ساعة ونصف إلى الجنوب. وسرعان ما قامت قوة من الفرسان الوهابيين بمهاجمة الضواحي الشرقية من مكة واحتلت حي الموبذة بما في ذلك قصر الشريف هناك ثم بدأت الهجمات تتوالى على مكة… قاوم الشريف تلك الهجمات بكل جرأة وإقدام وزرع الألغام في طريق المهاجمين غير أن الوهابيين قطعوا المياه العذبة التي تصل إلى مكة من عرفات وبذلك اضطر المكيون لاستعمال مياه الآبار المالحة نسبياً وبدأ التقنين في استهلاك المياه.
    بعد شهرين من القتال والهجمات المتبادلة بدأ سكان مكة يعانون بشدة من النقص في الإمدادات والمياه الصالحة للشرب. كان بعضهم يغامر ويخرج في الليل لجمع ما يستطيع جمعه، وتلقى بعضهم القمح من الشريف مقابل الحشائش التي كانوا يحضروها لخيول الشريف في مقره… وشحت المواد التموينية حتى اضطروا لالتهام القطط والكلاب، والأدهى من ذلك أن المواد التموينية التي كان يحتفظ بها الشريف غالب لجنوده كادت أن تنضب بحيث لم يعد أمامه بديل عن مغادرة مكة، فأحرق كل ممتلكاته التي لم يستطع حملها معه وغادر مكة مع عائلته وجنوده إلى جدة. وفي أوائل أيار (مايو) 1803 دخل الوهابيون مكة، وكانت دهشة السكان كبيرة من انضباط الوهابيين وعدم قيامهم بالقتل والسلب كما أشيع عنهم لدى افتتاح أي مدينة. وأصدر سعود أوامره إلى التجار بفتح حوانيتهم وأن تستأنف الحياة بشكل طبيعي، وأبلغ علماء مكة بأنه شاهد الرسول (صلعم) في المنام وأن الرسول هدده بالموت خلال ثلاثة أيام إذا سلبت حبة قمح واحدة من المكيين ومن ناحية أخرى تعهد بإنزال أقسى العقوبات بكل من لا يلتزم بالتعاليم الوهابية وهكذا اضطر المكيون إلى التقيّد بعادات وتعاليم الوهابيين ومن ذلك عدم التدخين وعدم ارتداء الملابس الحريرية والصلاة بشكل منتظم، وتمّ جمع أكوام من الغلايين الفارسية ثم أحرقت أمام مقر سعود وحظر بيع التبغ.
    وأمر سعود بوقف الدعاء للسلطان العثماني، وبعد أن ارتاح الجنود وجه قواته إلى جدة التي لجأ إليها الشريف غالب وحاصرها أحد عشر يوماً لكن جنود غالب قاتلوا تحت قيادته ببسالة من وراء الأسوار وكانت تصل إليهم الإمدادات عن طريق البحر الأحمر حتى قنط سعود من احتلالها فانسحب عنها إلى نجد.
    بعد زهاء شهرين أي في تموز (يوليو) 1803 عاد الشريف غالب واحتل مكة بعد استسلام الحاميات الوهابية الصغيرة فيها. وحضر عبد المعين شقيق الشريف غالب الذي كان يحكم مكة بالوكالة وقدم ولاءه لشقيقه. وتمت تسوية تنازل بمقتضاها الشريف عن كافة الضرائب والرسوم المفروضة في ميناء جدة على بضائع الوهابيين وأن يظل الشريف مقابل ذلك حاكماً على مكة والحجاز. لكن سعوداً نقض الاتفاق وهاجم بعض القبائل التابعة للشريف وخاصة قبيلة حرب التي قاومت ببسالة وهو ما أثار سخط الوهابيين فعاملوا قبيلة حرب على نحو أسوأ من معاملتهم لكافة القبائل الأخرى. واستطاع بنو صبح من قبيلة حرب إلحاق الهزيمة بفرسان الوهابيين ومن ثم الانسحاب إلى الجبال، لكن القبائل الأخرى استسلمت كما استسلمت المدينة في ربيع 1804 وقام الوهابيون بتجريد قبر الرسول (صلعم) من كنوزه وتم فرض نفس الإجراءات والتعليمات التي طبقت قبل ذلك في مكة بما في ذلك الصلاة على نحو منتظم خمس مرات في اليوم وكل من يتغيب عن الصلاة يجلد أمام الناس. ولم يعش الزعيم الوهابي عبد العزيز لمشاهدة دخول قواته إلى المدينة حيث اغتاله رجل فارسي ثأراً لأقاربه الذين قتلهم الوهابيون.
    بعد عام 1803 توقفت قوافل الحجيج المنتظمة عن الحضور إلى مكة. أما المحمل المصري فقد أرسل تلك السنة من القاهرة برفقة أربعمائة جندي فقط بقيادة (شريف باشا) الذي عينه الباب العالي في نفس الوقت والياً على جدة.
    واختل حبل النظام والأمن في كل مكان خارج مكة باستثناء المناطق القريبة من الحاميات والجنود. وفي أواخر عام 1804 انطلق العسيريون (نسبة إلى عسير) فجأة من جبالهم بقيادة زعيمهم (أبو نقطة) وهاجموا السهول الساحلية من الحديدة وحتى قنفذة في الشمال وسلبوا ونهبوا كافة القرى والبلدات في طريقهم. ومع ذلك كان الشريف غالب يملك آنذاك قوة معتبرة فضلاً عما يضفيه عليه لقبه ومنصبه من مهابة وكان له نفوذ واسع في أوساط الكثير من القبائل. وحاميته في جدة قوية في العدد والعدة والمعنويات سيما وأن الوهابيين فشلوا في اقتحامها… وأكثر من ذلك كان كرم الشريف غالب مضرب المثل وكثيراً ما ردّد سعود بأنه يشعر بالخجل عندما يتلقى الهدايا منه. وبالتالي كانت قوة الشريف غالب في مكة توازي قوة سعود في نجد.
    خلال عام 1805 حاول عثمان المضيفي غير مرة اقتحام جدة بشكل مفاجئ دون تفويض بذلك من مسعود لكن سكان جدة بما في ذلك الأجانب قاتلوه ببسالة وأحبطوا محاولاته. ورغم أن الحجاز تمتع بالهدوء نسبياً باستثناء الغارات التي كان يشنها من حين لآخر عثمان المضيفي لكنه فقد أهم موارد دخله وهو قوافل الحجيج وذلك لأن الحجاج توقفوا عن الحضور إلى مكة خشية من الوهابيين.
    كان من شأن ذلك أن قوة الشريف غالب بدأت تضعف في الفترة الممتدة من عام 1806 وحتى 1810 بينما ظل الباب العالي وكأنه غير معني بالاضطرابات في الجزيرة العربية رغم هجمات الوهابيين على القبائل العربية المقيمة فيما بين النهرين بل أن الوهابيين هاجموا دمشق نفسها عام 1810 وانتشر الذعر بين الشعوب المحيطة بالجزيرة العربية من هؤلاء المقاتلين الصحراويين الذين يظهرون كما يختفون فجأة ويدمرون في طريقهم كل شيء.
    وفي عام 1807 كان علي بك العباسي الحاج (اليهودي) الأسباني في مكة وقد شاهد الوهابيين يدخلونها لأداء فريضة الحج ووصفهم على النحو التالي:
    "حشد هائل من الرجال عراة باستثناء قطعة من الكتان تستر الجزء الأسفل من أجسادهم وبعضهم يسترون أيضاً قسماً من الجزء الأعلى من الجسد بقطعة كتان أخرى والآخرون عراة تماماً وكلهم مسلحون بالبنادق أو الخناجر. ولدى مشاهدة هذا الحشد البشري العاري أو نصف العاري هرب الجميع واختبأوا. وكان ثمة بضعة فرسان عراة يحملون الرماح ويؤذنون ويدعون للصلاة بأصوات مختلفة، وباستثناء الأطفال لم أشاهد رجلاً مكياً بالغاً… وبدأ الحشد بعد ذلك بدخول الحرم وتقبيل الحجر الأسود بحيث أصبحت الكعبة وكأنها خلية نحل"(11).
    وأضاف هذا الرحالة اليهودي الذي كان يعمل لمصلحة الحكومة الفرنسية أن بين الوهابيين (رجالاً يضاهون في تناسق تقاطيعهم وأجسادهم كلاً من أبوللو وأنطونيوس والمصارعين الرومان).
    كان الشريف غالب يراقب من قلعته على جانب التل ذلك المشهد أو الحشد الذكوري الصحراوي يدخل إلى مكة ويخرج منها بينما منع جنوده من الزنوج والأتراك من مغادرة ثكناتهم، لكن الوهابيين على أي حال أنهوا مناسك الحج ولم يقع أي حادث يعكر الأمن والنظام. وواصل غالب إرسال المبعوثين إلى السلطان في الأستانة دون أن ينجح في مساعيه الرامية إلى لفت انتباهه للخطر الوهابي. فقد كان السلطان مشغولاً بحروبه في أوروبا بعد أن وصلت الحرب إلى الأراضي التركية فضلاً عن تمرد الجنود الإنكشارية. أما جيشه النظامي الذي شكله حديثاً فلم يجرب حتى ذلك الوقت. ولذلك اضطر السلطان العثماني للالتفات إلى نائبه العسكري الطموح في مصر وهو محمد علي باشا الألباني الأصل الذي كان يخشاه أكثر مما يميل إليه، لتحرير الأراضي المقدسة وهي مهمة تناسب محمد علي لأنه يسعى للشهرة. أما المسألة الأخرى الأقل شراً وهي غطرسة محمد علي ومحاولته التعاظم فيمكن معالجتها في وقت لاحق.
    وكان السلطان قد أمر محمد علي بغزو الحجاز عم 1804 ووعده بمنح ابنه باشوية دمشق إذا نجح في المهمة لكن محمد علي كان مشغولاً آنذاك بتصفية المماليك في مصر. أما عندما وردت الرغبة السلطانية هذه المرة عام 1810 فقد قرر الاضطلاع بالمهمة والقضاء على الوهابيين.

    (1) ابن زيني دحلان (الجداول المرضية).

    (2) لم يثبت هذا الكلام أحد من المؤرخين ولا أعرف ما المصدر الذي اعتمده المؤلف بهذا الصدد.

    (3) شارل ديدييه (الشريف الأعظم في مكة) ص171.

    (4) رحلات في إفريقيا وآسيا 1803-1807 تأليف دومنغو باديا ليبليتش المجلد الثاني صفحة 421.

    (5) المصدر السابق. المجلد الثالث ص (5).

    (6) من سنوك هورغرونجي (مكة) المجلد الثالث ص 145.

    (7) مكتب الهند، سجلات المصنع مصر والبحر الأحمر المجلد السادس ص 83 وما بعدها.

    (Cool سجلات مكتب الهند، متفرقة الرقم 477 الوثيقة رقم 55 ومن مطالعة رسائل وتقارير الوكيل السياسي يبدو أنه كان متحفظاً من الشريف غالب لدرجة أنه اقترح العمل على الإطاحة به لمصلحة الشريف عبد الله ابن سور وهو الاقتراح الذي أذهل السلطات البريطانية فعزلت الوكيل (المعتمد البريطاني) بعد أن ساءت علاقته بالشريف في الأسبوع الأول من شهر آب (أغسطس) 1801.

    (9) سعود ابن عبد العزيز محمد ابن سعود (ابن زعيم الوهابيين).

    (10) انظر: ج.ل. بير كهارت (ملاحظات على البدو والوهابيين) صفحة 326 وما يليها.

    (11) علي بك العباسي (رحلات في إفريقيا وآسيا 1803 – 1807).


    أنتهى الفصل الحادي عشر
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty الفصل الثاني عشر

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي السبت 30 مايو - 20:40

    الفصل الثاني عشر: غالب والوهابيون والأتراك والمصريون 1810 – 1813

    لدى سماع الشريف غالب أن محمد علي يعد العدة لغزو الحجاز وأنه يحشد قوة هائلة لم يسبق أن وصل مثلها إلى الحجاز، وجد ضرورة للمباشرة في مراسلات سرية معه والتأكيد له أنه رغم الظروف القاهرة التي أرغمته على ممالأة الوهابيين فإنه على استعداد للانقضاض عليهم لدى وصول أول جيش تركي كبير إلى شواطئ الحجاز. وقد زوّد الباشا من خلال مراسلاته بالكثير من المعلومات المهمة عن مواقع البدو في الحجاز وأفضل طريقة لمهاجمة الوهابيين(1).
    كان ثمة تاجر مصري كبير في القاهرة يدعى السيد محمد المحروقي سبق أن زار الحجاز غير مرة وتركزت تجارته الواسعة في البحر الأحمر. وقد أناط به محمد علي باشا الجانب السياسي في الحملة وكلفه بالتوصل إلى الترتيبات الضرورية مع البدو الذين يقيمون قرب سواحل البحر الأحمر. ومن الواضح أن محمد علي كان كثير الظنون والريبة ولم يشأ أن يضع ثقته كلها بالشريف غالب الذي كانت مواهبه ومناوراته السياسية معروفة للجميع لكنه (أي محمد علي) لم يشأ في نفس الوقت أن يثير شكوك الشريف بأن الحملة المصرية ليست غزواً للحجاز بالمعنى الاصطلاحي، وبالتالي تعهد محمد علي باحترام سلطات وصلاحيات الشريف غالب في الحجاز وأن يترك له دخل الضرائب في ميناء جدة وهي مورده الرئيس. بينما تشجع الجنود المصريون والأتراك بعد الأخبار التي انتشرت بينهم سراً بأن الشريف غالب وكافة قواته سينضمون إلى حملة الباشا محمد علي لدى وصولها إلى الحجاز.
    لم يكن الوضع في مصر هادئاً بما يكفي لغياب محمد علي، لأن المماليك في الأجزاء الجنوبية من مصر كانوا ما يزالون يشنون حرب عصابات على قوات الباشا ولذلك لم يستطع قيادة الحملة بنفسه بل عين ابنه الثاني طوسون بك قائداً لهذه الحملة الأولى ضد الوهابيين، التي أصبحت جاهزة للتحرك أواخر شهر آب (أغسطس) 1811 ورغم أن طوسون بك في السابعة عشرة من عمره آنذاك فقد أظهر بسالة منقطعة النظير في المعارك التي خاضها ضد المماليك وكان أصدقاؤه على اقتناع بقدراته القيادية. وأرسل الباشا المدعو أحمد آغا الخازندار (أي المشرف على خزينة الباشا) برفقة ابنه طوسون وكان أحمد آغا يضاهي طوسون شجاعة وإقداماً وقد هزم المماليك والعرب في شمال السودان في غير معركة ولا يتردد في مهاجمة عشرة فرسان بمفرده، الأمر الذي رفع من منزلته في مصر حتى لقب باسم (بونابرت) فقبل اللقب بفخر وأصبح اسمه (أحمد بونابرت).
    ويقول بير كهارت أن أحمد بونابرت كان جندياً شجاعاً لكنه (كان مدمناً على الخمر والفجور) وانضم إلى هذين القائدين التاجر محمد المحروقي الذي سيضطلع بمهمة الوكيل السياسي مع الشريف وقبائل البدو… كما انضم إلى الحملة عالمان وهما الشيخ المهدي والشيخ الطهطاوي وذلك حتى يقنعا الوهابيين بالحجج الفقهية بأنهم مخطؤون في مذهبهم.
    تشكلت الحملة من جزءين: الجزء الأول من المشاة ومعظمهم من الجنود الأرناؤوط(2) وبلغ عددهم زهاء ألفي مقاتل بقيادة صلاح آغا وعمر آغا وقد أبحرت هذه القوات من السويس إلى ينبع على سفن بنيت خصيصاً للحملة وشحنت بالمواد التموينية والإمدادات الأخرى، أما الجزء الثاني فهم الفرسان بقيادة طوسون بك وأحمد بونابرت وعددهم زهاء ثمانمائة فارس من الأتراك وعدد آخر من فرسان قبيلة الحويطات(3) بقيادة شيخهم (شديد) وقد انطلقت قوة الفرسان هذه إلى الحجاز براً.
    رست سفن الجزء الأول في ينبع في تشرين الأول (أوكتوبر) 1811 واستولت عليه بعد اشتباكات بسيطة استمرت يومين وبعد أسبوعين وصلت قوة الفرسان براً دون أن تجد أي اعتراض أو معارضة من القبائل في طريقها سيما وأن محمد على علي باشا سبق أن أرسل كميات من المال لهذه القبائل. واعتبر طوسون احتلال ينبع انتصاراً على الوهابيين وفالاً حسناً على نجاح الحملة مستقبلاً. لكن قوات الحملة بقيت في ميناء ينبع دون أي نشاط عسكري بضعة أشهر. وأقامت قوة المشاة في ميناء ينبع بينما أقامت قوة الفرسان مع بدو الحويطات في ينبع النخل مقر قبيلة جهينة على بعد ست ساعات من ميناء ينبع. انقضت فترة التأخير هذه في المفاوضات لأن طوسون بك لم يجد الوضع في الحجاز كما توقعه أو كما وصفه له ممثلو الشريف غالب واكتشف طوسون أن البدو وعلى نحو خاص القبيلتين الكبيرتين حرب وجهينة ورغم كراهيتهم للوهابيين ورغبتهم في الحصول على الفوائد والأرباح التي كانوا يكسبونها من قوافل الحجيج التي تجتاز أراضيهم فقد كانوا مذعورين وفي رعب شديد من قوة الزعيم الوهابي سعود المتعاظم وأنهم لن يتحركوا ضد الوهابيين إلا بعد التأكد من رجحان كفة القوة المصرية (التركية) لأن احتلال ميناء ينبع وحده لا يعتبر انتصاراً يعتمد عليه في الحرب ضد الوهابيين في نجد.
    عندما وصلت الحملة التركية(4) لم يكن في ينبع حامية وهابية بل كان للشريف غالب حاكم فيها بالإضافة إلى زهاء مائة جندي أظهروا بعض المقاومة إلى أن أرغمهم السكان أنفسهم على الانسحاب خشية أن تقوم القوات المصرية بتدمير المدينة. وظل الشريف مجرد مراقب لهذه البدايات من الحرب، وكتب رسالة إلى طوسون بك اعتذر له فيها عن عدم الانضمام إليه وبرر ذلك بقلة عدد جنوده من جهة وخشية من انتقام الوهابيين من جهة أخرى وأكد بأنه سيقف إلى جانب طوسون ويهاجم الوهابيين علناً عندما يحقق القادة الأتراك تقدماً أو يحرزون انتصاراً ملحوظاً، وفي غضون ذلك أرسل تعزيزات إلى حاميتي كل من جدة ومكة، وعندما طلب منه سعود الانضمام إليه لمقاتلة الغزاة الأتراك اعتذر له بحجة خشيته من هجوم تركي بحري مفاجئ على جدة قد يؤدي إلى احتلال مكة نفسها. كان من الواضح أن خطة الشريف هي مهادنة الطرفين وعدم التورط في القتال حتى يتعرض أحد الطرفين إلى هزيمة وعند ذلك يدفع بقواته إلى جانب المنتصر. وإذا لم يتعرض أحد الطرفين لهزيمة ساحقة فإن الحرب ستطول بينهما بحيث تضعفهما معاً وعند ذلك يستطيع طردهما معاً من ممتلكاته أي من الحجاز.
    كان البدو الوحيدون في الحجاز الذين استطاع طوسون بك تجنيدهم وفصلهم عن الوهابيين هم بضعة أفخاذ من قبيلة جهينة المجاورة لينبع، أما القسم الأكبر من جهينة وكافة أفخاذ قبيلة حرب فلم يتجاوبوا مع دبلوماسية طوسون بك خشية من بطش الوهابيين.
    لقد أصبح من الضروري على أي حال الشروع في الحملة خشية أن يظن الشعب الحجازي وحتى الوهابيون أنفسهم بأن عدم التحرك هو نتيجة الخوف، وأن اللجوء إلى التفاوض هو دليل الضعف. ولا شك أن توجيه الحملة إلى جدة أو مكة سيرغم الشريف على تحديد موقفه بشكل حاسم مع أو ضد طوسون وهو قرار كان يخشاه طوسون أكثر من الوهابيين لأن الشريف سيقف مع مصلحة شعبه أولاً وآخراً. ولذلك اختار طوسون كبداية أن يحتل المدينة على مسيرة ستة أيام من ينبع. وكانت المدينة (المنورة) أفضل مدن الحجاز تحصيناً وتقع على مشارف نجد ولا شك أن احتلالها سيفتح طريق الحجيج السوري. وحالما عرف الشريف غالب بخطة طوسون هذه أعلن أنه سينضم إلى طوسون في حال نجاحه في احتلال المدينة.
    ترك طوسون حامية في ينبع وبدأ التقدم نحو المدينة في كانون الثاني (يناير) 1812 وبعد اشتباكات خفيفة دخل إلى قرية بدر على مسيرة يومين من ينبع وطرد منها مقاتلي قبيلة حرب. وتقع بدر في مدخل سلسلة الجبال التي لا بد من اجتيازها في الطريق إلى المدينة. وتوقع طوسون مجابهة مقاومة من قبيلة حرب التي تسيطر على ممرات تلك السلاسل الجبلية ولم يكن ثمة أي مؤشر على وجود قوات وهابية في المنطقة. وترك طوسون حامية صغيرة في بدر ومضى مع جيشه نحو الصفراء التي تعتبر سوق قبيلة حرب على مسيرة ثماني ساعات من بدر. وفي الصفراء واجه مقاومة شديدة لكنه شق طريقه عبرها بعد انسحاب مقاتلي حرب منها. وعلى مسيرة أربع ساعات من الصفراء تمتد الطريق عبر واد ضيق يتراوح عرضه بين الأربعين والستين ياردة وعلى جانبيه جبال شديدة الانحدار وفي مدخل الوادي تقع قرية الُجديدة وسط أشجار النخيل وهي من المستوطنات الرئيسية لقبيلة حرب. وكانت قوافل الحجيج الشامي في الماضي تضطر للتوقف في الجديدة ودفع مبلغ من المال إلى القبيلة مقابل السماح لها بالمرور دون أن يلاحقها أي أذى.
    وفي هذا الوادي الذي تستغرق القوافل في اجتيازه زهاء ساعة تعرض الجيش التركي لهجوم مفاجئ من قبل قبيلة حرب بعد تبادل كثيف في إطلاق النار اعتقد الأتراك أنهم انتصروا وبدأوا في مطاردة مقاتلي حرب عبر الوادي عندما غصت التلال على جانبي الوادي بأعداد هائلة من الوهابيين الذين وصلوا من نجد قبل يوم واحد دون أن يعرف الأتراك بذلك. كانت القوة الوهابية بقيادة كل من عبد الله وفيصل ابني سعود وتتألف من زهاء عشرة آلاف رجل وهجّان وزهاء ثمانمائة فارس. ولو أن طوسون تراجع إلى قرية الجديدة وحصنها لكان بإمكانه الصمود أمام الهجوم والحصول على شروط مشرفة للاستسلام سيما وأن قوة الخصم هائلة في العدد والعدة وبالتالي يستحيل البقاء في نفس ذلك الموقع. لكن مع أول صرخة حرب تراجع المشاة الأتراك وأمر طوسون الفرسان بحماية تراجع المشاة وسرعان ما احتدم القتال وهبط الوهابيين من جنبات الوادي كالنمل وقاتل طوسون ببسالة منقطعة النظير بينما كان يحاول بمساعدة اثنين من مرافقيه إعادة حشد قواته وتنظيمها… وقام بعدة هجمات بمفرده على فرسان الوهابيين الذين أذهلتهم شجاعته.
    يقول بير كهارت: "لقد أكد لي الأشخاص الذين حضروا تلك المعركة أن طوسون كان يصرخ في جنوده "ألا يوجد أحد منكم يقف إلى جانبي؟" فانضم إليه زهاء عشرين فارساً وفي نفس الوقت لحسن الحظ بدأ الوهابيون ينهبون حمولة قافلته فضعف زخم هجومهم، وعندما تمكن الأتراك من التراجع إلى مدخل الوادي وهي منطقة فسيحة أعادوا تنظيم أنفسهم وقام الفرسان بحماية المشاة. ومع ذلك لو أن الوهابيين واصلوا هجومهم بنفس الزخم لاستطاعوا إبادة الحملة التركية بأسرها، لكنهم اكتفوا بالاستيلاء على قافلة الحملة والبغال المرافقة للحملة وأربعة مدافع… وكان في القافلة الكثير من الذخائر التي سبق للأرناؤوط نهبها من المماليك في مصر. وسقط في ذلك اليوم زهاء ألف ومائتي قتيل من جنود طوسون فاضطر للتراجع إلى بدر حيث أحرق معسكره فيها لعدم وجود وسيلة لنقله بعد أن استولى الوهابيون على كافة جماله. وعاد من بدر إلى خليج البريقة إلى الغرب من بدر حيث ترسو بعض سفنه. ومن هناك انطلق بحراً مع عدد من قادته إلى ينبع بينما لحقت به بقية قواته بعد بضعة أيام عانت خلالها مشقات جمّة. ولحسن الحظ بالنسبة للأتراك، اعتقد الوهابيون أن ثمة قوة تركية كبرى في بدر ولذلك لم يلحقوا بهم فوراً بعد انتصارهم الأول".
    بعد أن اكتشف الوهابيون حقيقة أن أعداءهم يقيمون في ينبع أرسلوا تلك المفارز لترويع المنطقة ونهبها ووصلت تلك المفارز في هجماتها حتى أسوار ينبع. وعندما سمع الشريف بالهزيمة التي مني بها طوسون انضم شخصياً إلى الوهابيين في بدر. وطرحت في البداية فكرة اجتياح ينبع واقتحامها ثم أسقطت هذه الفكرة وذلك خشية من السكان العرب الذين سيضطرون للقتال إلى جانب الأتراك الذين سبق أن استقبلوهم بود وترحيب. وهكذا وجد الوهابيون أن لا جدوى من حصار ينبع فتراجعوا إلى نجد وظلوا مستعدين للتجمع مرة أخرى خلال فترة زمنية قصيرة فيما إذا فكر الأتراك مرة أخرى بالتقدم نحو المدينة (المنورة) وفي طريق عودتهم إلى داخل نجد طلبوا من قبيلة حرب مواصلة إرباك ومضايقة الأتراك وقطع الإمدادات البرية عن ميناء ينبع.
    ولنرجع الآن إلى معركة وادي الجديدة التي تعرض فيها طوسون للإبادة فقد استطاع بمساعدة فارسين من فرسانه الصمود وإعادة تنظيم قواته. وكان الرحالة بيركهارت قد قابل كثيرين ممن حضروا المعركة ويقول بهذا الصدد أن أحد أولئك الفارسين يدعى إبراهيم آغا وكان يشغل منصب رئيس مماليك طوسون(5) وهو شابٌ في العشرين من عمره وأصله أسكوتلندي من أدنبرة واسمه الحقيقي (توماس كيث) وقد تم أسره في أثناء الحملة الإنكليزية الأخيرة على مصر، وأسر معه عدد آخر من سريته التابعة للكتيبة (الجبليون) الثانية والسبعين التي كان يخدم فيها فني مدفعية. واضطر لاعتناق الإسلام حفاظاً على حياته وباعه الجندي المصري (المملوك) الذي أسره في سوق العبيد، وشاءت الصدفة أن يشتريه أحمد آغا بونابرت الفارس الشجاع والشرير في نفس الوقت. وكان لدى أحمد بونابرت عبد آخر صقليّ الأصل (أي من صقلية) وهو المفضل عنده من عبيده ومماليكه. وتشاجر إبراهيم آغا (توماس كيث) السكوتلندي مع المملوك الصقلي وتلاكما ثم شهرا سيفيهما وتبارزا فأصيب المملوك الصقلي بجراح بالغة، ولأنه من العبيد المفضلين لدى سيده أحمد آغا بونابرت فقد فرّ إبراهيم آغا ولجأ إلى زوجة محمد علي وطلب منها الحماية. وبعد أن عرفت قصته أشفقت عليه وطلبت من ابنها طوسون بك أن يوظفه في خدمته فاشتراه من أحمد بونابرت. وذات يوم ارتكب السكوتلندي إبراهيم آغا خطأ وكان طوسون بك في حالة من الغضب فأمر بقتله غير أن إبراهيم آغا استل سيفه وقاوم الجنود والمماليك الذين حضروا لاعتقاله زهاء نصف ساعة ثم قفز من نافذة الغرفة التي حوصر فيها، وتوجه على الفور إلى حاميته (زوجة محمد علي باشا) التي أنقذته من العقاب أول مرة. فتوسطت لدى ابنها طوسون وسوت الأمر. وكان طوسون قد أعجب بشجاعة إبراهيم آغا الذي صمد أمام عدة فرسان ودافع عن نفسه ببسالة ومهارة زهاء نصف ساعة لم يستطع المهاجمون خلالها ولا حتى خدشه، ولذلك عينه بناء على واسطة والدته رئيساً لعبيده ومماليكه. وبعد الشجاعة التي أظهرها إبراهيم آغا دفاعاً عن سيده طوسون في معركة وادي الجديدة، عينه خازنداراً (مسؤولاً عن الخزينة) وهي رتبة تضاهي رتبة الباشا. وقد حارب إبراهيم آغا ببسالة فيما بعد في المدينة (المنورة) وفي تربة وعينه طوسون حاكماً على المدينة (المنورة) في شهر نيسان (إبريل) عام 1815 وبعد شهرين على تعيينه أي في الأسبوع الذي وقعت فيه معركة واترلو، انطلق إبراهيم آغا مع مائتين وخمسين فارساً لنجدة طوسون بك الذي كان يخيّم آنذاك في القصيم وسط الجزيرة العربية. فتعرض في الطريق مع قوته الصغيرة إلى هجوم وهابي شارك فيه أكثر من ألفي فارس وراجل فقتل مع كافة فرسانه. لكنه قبل أن يقتل استطاع أن يقتل عدداً من الوهابيين بل أن شاهد عيان أكد أنه قتل بيديه أربعة وهابيين لدرجة أن عبد الله ابن سعود اعترف بأن طوسون بك وخازنداره إبراهيم آغا السكوتلندي هما أشجع فارسين في الجيش التركي(6).
    كان من شأن الخسائر التي منيت بها الحملة المصرية أن هبطت معنويات الجنود وأصيبوا باليأس والقنوط لدرجة أن صلاح آغا وعمر آغا وهما قائدا المشاة أعلنا لأنهما لا يستطيعان القتال أكثر من ذلك في الحجاز، فقرر طوسون بك إعادتهما إلى مصر. لكنهما في طريق عودتهما إلى القاهرة جندّا معهما عدداً كبيراً من الجنود المصريين المستائين من طوسون وحال وصولهم إلى القاهرة شرعا في الاعتداء على الناس والتشنيع على محمد علي وابنه طوسون فاضطر محمد علي لإرضائهم بالوعيد حيناً وبالهدايا حيناً آخر ثم طلب مغادرة مصر فقاموا بسرقة عدد من المتاجر وتوجهوا إلى الإسكندرية.
    .
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل الثاني عشر

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي السبت 30 مايو - 20:43

    في تلك الفترة عانت قوات طوسون بك من نقص حاد في الخيول بسبب الطبوغرافية الصعبة للحجاز.. كانت الخيول تنفق من الإجهاد حتى قبل أن تصل قوات طوسون إلى ينبع هذا فضلاً عن مقتل زهاء مائتي حصان في معركة وادي الجديدة. ولدى العودة إلى ينبع اشترى طوسون من الأعراب بعض الخيول لكنه لم يستطع تعويض خسائره منها، ونتيجة للنقص الكبير في الأعلاف اضطر أصحاب ما تبقى من الخيول لبيعها وهو ما دفع طوسون لإعادة الفرسان إلى مصر حتى يعودوا إلى الحجاز بخيول جديدة ونشيطة.
    عندما عرف محمد علي بفشل حملة ابنه طوسون بدأ الإعداد لحملة جديدة بينما أرسل لابنه كمية كبيرة من المال لتوزيعها على شيوخ البدو المجاورين على أمل إغرائهم للتخلي عن الوهابيين. واستمرت هذه المحاولات طيلة فصلي الربيع والصيف عام 1812 بينما كانت تعزيزات جديدة تصل إلى ينبع يومياً. ونجح الدبلوماسي التاجر (المحروقي) أخيراً بواسطة كميات كبيرة من الذهب في استمالة عدد كبير من شيوخ قبيلة حرب بما في ذلك أهم أفخاذ هذه القبيلة مثل بني سليم وبني صبح وهما الفخذان اللذان يقيمان حول معبري (أو ممري) الصفراء والجديدة. وحتى الشريف غالب عندما أدرك أن محمد علي سيطيل أمد الحرب عاد لاسترضاء طوسون وأرسل إليه رسالة أكد له فيها كراهيته للوهابيين وأنه لم ينضم إليهم في بدر إلا خشية من اجتياحهم لمكة. وجدد عرضه الأول بأنه سيفتح أبواب جدة ومكة للقوات المصرية عندما تنجح هذه القوات باحتلال المدينة (المنورة).
    في تشرين الأول 1812 اعتقد طوسون أنه يملك ما يكفي من القوة للقيام بمحاولة ثانية لاحتلال المدينة، سيما وأن البدو على طريق المدينة أصبحوا حلفاءه كما أن عدداً من فرسان قبيلة جهينة انضووا تحت لوائه بينما وردت الأخبار بأن الوهابيين في نجد أخلدوا إلى الراحة والكسل وهو ما أنعش آمال طوسون بالنجاح، فنقل مقر قيادته إلى بدر واستلم أحمد آغا بونابرت قيادة القوة المتقدمة عبر وادي الجديدة الذي شهد هزيمة طوسون سابقاً. وترك حامية في الجديدة ووصل إلى أسوار المدينة (المنورة) دون أي اشتباك مع قوات العدو. وكان الوهابيون قد احتلوا المدينة في العام السابق وأبقوا فيها حامية قوية وزودوها بالمواد التموينية والإمدادات الأخرى الضرورية للصمود أمام أي حصار مهما طال أمده.
    لقد ظل زعيم الوهابيين مرتاحاً، لكن بعد انتصاره في الجديدة على طوسون امتد نفوذه وساد حتى بين القبائل إلى الشمال من الجزيرة العربية. وفي عام 1812 جمع الأتاوات من القبائل المجاورة لبغداد وحلب وحتى دمشق. وكان قد باع الغنائم والأسلاب التي حصل عليها من قافلة طوسون في الجديدة وجمع ثروة منها فعاد إلى مقره في الدرعية وكان جنوده مبتهجين بانتصارهم ويسخرون من المصريين الذين فروا من أرض المعركة (في وادي الجديدة) وعلى اقتناع بأنهم قادرون على إلحاق الهزيمة في أي حملة مصرية أخرى وفي أي وقت. وهكذا ربما توقع سعود أن تقاوم المدينة فترة طويلة وأن القوات المصرية بسبب حاجتها إلى الإمدادات ستضطر في النهاية إلى فك الحصار والتراجع وفي هذه الحالة فإن قبيلة حرب ستتخلى عن تحالفها مع قوة أجنبية وربما تهاجمها وتبيدها طمعاً في الغنائم.
    بعد اشتباكات طفيفة ومتقطعة مع الحامية الوهابية دخل أحمد بونابرت وقواته إلى ضواحي المدينة فتراجع الوهابيون إلى داخلها بعد أن طردوا السكان في أثناء تقهقرهم. وكان ثمة سور قوي وعالٍ يحيط بوسط المدينة بالإضافة إلى قلعة حصينة، ولم يكن لدى القوة المصرية سوى مدافع ميدانية خفيفة لا تستطيع دك السور أو القلعة. وخلال الحصار الذي استمر (15) يوماً قامت الحامية الوهابية بعدة هجمات مضادة ووضع المصريون لغماً ولكنهم فعلوا ذلك بطريقة مكشوفة مكن الوهابيين من تلافي انفجاره. ثم أن المصريين نجحوا في وضع لغم آخر في جنح الليل. وفي أواسط تشرين الثاني (نوفمبر) 1812 وبينما انشغل الوهابيون في أداء صلاة الظهر انفجر اللغم ودمر جزءاً من السور وسرعان ما اقتحم الفرسان الأرناؤوط السور وأعملوا السيف في الوهابيين الذين أذهلتهم المفاجأة فتراجعوا مذعورين نحو القلعة وذبح منهم في الشوارع زهاء ألف شخص بينما بدأ الأرناؤوط(7) في نهب المدينة ولم يسقط من القوة المصرية سوى زهاء خمسين جندياً. وكان إبراهيم آغا السكوتلندي (توماس كيث) هو أول فارس يقتحم الثغرة التي أحدثها الانفجار، وقد أظهر شجاعة فائقة في مطاردة الوهابيين. ومهما كان الأمر فقد تراجع الوهابيون أو من ظل منهم (وعددهم زهاء ألف وخمسمائة مقاتل) إلى القلعة وتحصنوا فيها. ولم يكن لدى المصريين مدفعية ثقيلة فضلاً عن صعوبة تدمير القلعة بالألغام لأنها مبنية فوق صخرة هائلة. لكن بعد ثلاثة أسابيع نفدت مواد الوهابيين التموينية فبدأوا التفاوض مع أحمد بونابرت الذي أمنهّم على حياتهم وتعهد بأن يسمح لهم بالعودة إلى نجد مع كافة ممتلكاتهم وأن يزودهم بالجمال لهذه الغاية.
    خرج الوهابيون من القلعة مستسلمين ليجدوا أن ثمة خمسين جملاً فقط بدل ثلاثمائة جمل التي وعدهم بها أحمد آغا بونابرت، ولذلك اضطروا أن يتركوا خلفهم جزءاً كبيراً من ممتلكاتهم، وحملوا على ظهورهم ما غلا ثمنه وخفّ وزنه. وما إن غادروا المدينة حتى لحق بهم الجنود الأتراك (يعني المصريين والأرناؤوط في آن) وجرّدوهم من حمولاتهم وقتلوا عدداً كبيراً منهم ولم ينجح سوى أولئك الذين يمتطون الجمال وقد فروا إلى نجد لا يلوون على شيء خلفهم.
    لم يكن سلوك الأتراك هذا يتسم بالحكمة سيما وأنهم في حرب مع عدو عرف بالشجاعة والإقدام فضلاً عن تقيّد الوهابيين بالدين والوعود التي يقطعونها على أنفسهم. فإذا تعهد الوهابيون لشخص أو أشخاص بالأمان فإنهم لا ينقضون هذا العهد ولا يغدرون.
    قام أحمد بونابرت بجمع رؤوس الوهابيين الذين قتلوا في المدينة وبنى منها برجاً في الطريق المؤدي إلى ينبغ ووضع حارساً على برج الجماجم لكن الأعراب وحتى سكان المدينة نجحوا في إزالة ذلك البرج الرهيب رأساً وراء راس حتى اختفى البرج بعد فترة.
    بعد احتلال المدينة انطلقت حملة من ألف فارس وخمسمائة راجل من ينبع إلى جدة ومكة بقيادة مصطفى بك شقيق زوجة محمد علي. وكان مصطفى بك هذا مثل أحمد بونابرت قد امتاز بالصرامة والقسوة في قتاله ضد المماليك في مصر.
    ومن الطبيعي أن يبتهج الشريف غالب بسقوط المدينة ولذلك أرسل رسولاً إلى القائد التركي (يعني طوسون بك) يدعوه فيها إلى دخول مكة وجدة… وانطلق بضع مئات من القوة المصرية إلى جدة بينما واصلت القوة الرئيسية طريقها نحو مكة وكان عثمان المضيفي آنذاك قائد قوة الوهابيين في مكة، ولأنه لا يملك ما يكفي من القوات لمجابهة القوة المصرية المتقدمة نحو مكة انسحب منها إلى الطائف قبل ساعات من وصول القوة المصرية وذلك في كانون الثاني (يناير) 1813. واحترم المصريون ممتلكات وأملاك المكيين كما سبق أن احترمها الوهابيون. وانضم الشريف غالب إلى المصريين ومعه زهاء ألف جندي من البدو والزنوج. وبعد أسبوعين من دخول الحملة المصرية إلى مكة بدأ الهجوم ضد الوهابيين في الطائف وحدثت اشتباكات طفيفة أمام الطائف اضطر بعدها عثمان المضيفي للفرار، فدخلها الشريف غالب مع مصطفى بك ليجدا أن الوهابيين قد دمروها خلال احتلالهم لها الذي استمر عشر سنوات، ذلك أن الطائف كابدت على أيدي الوهابيين أكثر من أي مدينة أخرى في الحجاز.
    انتشى القائد الجديد مصطفى بك بالنصر وزاد في نشوته كما يبدو نبيذ الطائف(Cool فاعتقدوا أن باستطاعته إخضاع الوهابيين. وكانت بلدة تربة التي تبعد عن الطائف زهاء سبعين ميلاً باتجاه الشرق إحدى معاقلهم الحصينة التي تربط بين الوهابيين في نجد وبين الوهابيين في عسير وجبال اليمن. وتقيم في بلدة تربة قبيلة البقوم الذين حصّنوا بلدتهم (منذ حروب الوهابيين مع الشريف غالب) بسور قوي وخندق. وكانت البساتين المكتظة بأشجار النخيل بمثابة ستار أو وسيلة دفاعية إضافية. وتحرك مصطفى بك على رأس قواته نحو تربة لكنه جوبه بدفاع عنيد فاضطر للعودة إلى الطائف بعد أن خسر عدداً من جنوده يتراوح بين الأربعمائة إلى الخمسمائة قتيل. وفي غضون ذلك لم يكن عثمان المضيفي خاملاً بل إنه شكل وحدات من الفرسان أخذت تشن حرب العصابات وتقطع الطريق بين مكة والطائف بل إنه هاجم حامية الطائف غير مرة في صيف 1812. وحتى يؤكد الشريف غالب موالاته لقادة الحملة المصرية عرض خمسة آلاف دينار كجائزة لمن يأسر عثمان المضيفي.
    خلال إحدى غاراته في أيلول (سبتمبر) 1812 توقف عثمان المضيفي في قلعة صغيرة سبق أن بناها في الجبال على مسيرة أربع أو خمس ساعات إلى الشرق من الطائف. وعرف الشريف ذلك بواسطة أعوانه فأرسل على الفور مفرزة كبيرة من خيرة فرسانه أحاطوا بالقلعة وأضرموا فيها النار. واستطاع عثمان المضيفي مع زهاء ثلاثين شخصاً من أتباعه بعد أن غيروا ملابسهم وارتدوا ملابس البدو البسيطة اقتحام القوة المحاصرة والفرار. غير أن حصان المضيفي جرح جرحاً بليغاً ولم يعد قادراً على حمله فترجل المضيفي وواصل طريقه راجلاً يعدو. واستمر كذلك طيلة الليلة وفي اليوم التالي شاهد خيمة فدخلها وطلب من صاحبها أن يؤويه. وكان صاحب الخيمة من قبيلة عتيبة فعرف شخصيته وقام بتقييده وحمله إلى مكة وتسليمه للشريف غالب الذي وفى بوعده وسلمه المكافأة. ثم نقل المضيفي مقيداً بالسلاسل إلى جدة ومنها إلى القاهرة وبعدها إلى الأستانة حيث قدّمه أصغر أبناء محمد علي هدية إلى السلطان مع مفاتيح المدن المقدسة وهدايا أخرى وافرة. وأمر السلطان بقطع رأس المضيفي وبذلك خسر الوهابيون أحد أشجع فرسانهم وقادتهم في الحجاز.
    وهكذا خضع الحجاز بأسره ووصلت قافلة الحجيج المصري إلى مكة في تشرين الثاني 1812 وفقاً للمراسيم التقليدية السابقة. أما قافلة الحجيج الشامي فلم يكن باستطاعتها اختراق الصحارى لأن القلاع وآبار المياه المرتبطة بها على طريق الحجيج الشامي كانت قيد الإصلاح بعد أن خربها الوهابيون.
    عاد أحمد بونابرت إلى القاهرة بينما تم تعيين طوسون بك حاكماً على جدة برتبة باشا فحضر إلى مكة للحج في شتاء عام 1812 وعيّن (ديفان) أفندي أحد ضباط بلاط محمد علي حاكماً على المدينة (المنورة).
    ورغم أن مدن الحجاز الخمس وهي مكة والمدينة والطائف وجدة وينبع أصبحت في أيدي الأتراك (يعني العثمانيين) فإن قوة الوهابيين لم تدمر. فقبائل نجد كانت تعترف بحكم سعود. وكان الأتراك يمنون بالهزيمة في كل مرة يجابهون فيها البدو في أرض مكشوفة. ولذلك قرر محمد علي باشا أن يزور ميدان العمليات العسكرية بنفسه ويوجه ضربة حاسمة للوهابيين بحيث يفرض سلطته على نحو دائم في الجزيرة العربية ويعزو لنفسه فضيلة القضاء على الوهابيين. كما قرر أن يقود قواته بنفسه خاصة بعد أن خضعت مصر بأسرها له وتوقفت مقاومة المماليك عام 1811 وبذلك لم يعد لديه حجة لتأخير القضاء على الوهابيين أمام الباب العالي. فأبحر من السويس برفقة ألفي جندي مشاة بينما انطلق عدد مساوٍ من الفرسان وثمانية آلاف جمل يحملون الإمدادات نحو الحجاز براً. كان طوسون باشا مشغولاً بجمع قواته في مكة عندما وصل والده إلى جدة في أيلول (سبتمبر) 1813 حيث كان الشريف غالب موجوداً بالصدفة فامتطى زورقاً وصعد إلى سفينة محمد علي للترحيب به بحرارة وبهذه المناسبة وضع محمد علي مصحفاً على المائدة بينهما وأقسما عليه معاً بأن أحدهما لن يحاول الإضرار بمصالح الآخر أو سلامته أو أمنه الشخصي أو حياته. وهو القسم الذي كرراه على القرآن (الكريم) بعد ذلك ببضعة أسابيع في الحرم المكي وعلى نحو علني بناء على رغبة الشريف غالب الذي سوى مع محمد علي بعض المشاكل التي حدثت بينه وبين الحاكم التركي في جدة. ورغم العرف المتبع منذ القرن السادس عشر باقتسام واردات ميناء جدة على التساوي بين حاكم جدة وحاكم مكة فقد طالب غالب بأن تكون له هذه الواردات حصراً، ووعد محمد علي بتنفيذ هذه الرغبة وبذلك حقق الشريف غالب لنفسه ولشعبه فوائد جمة كما أصبح يتمتع بدرجة أكبر من الحرية.
    وفي مكة وزّع محمد علي الكثير من الهدايا على العلماء، والصدقات على الفقراء وبدأ إصلاحات جديدة في الحرم وخصص مبلغاً كبيراً لخدمته وزخرفته. لكن أكثر ما كان يشغله آنذاك هو نقل إمداداته من جدة إلى مكة والطائف بعد أن أصبحت جدة أكبر مخزن للإمدادات وذخائر الجيش وعتادهن لدرجة أن كافة نشاطات الملاحة في ذلك الميناء انحصرت في مهمات النقل والشحن ومع ذلك لم تكن الإمدادات كافية، فتعاقد مع إمام مسقط (سلطنة عمان راهناً) لاستئجار عشرين سفينة منه لمدة سنة كاملة.
    كان محمد علي يملك فرقاطة صغيرة في ميناء الإسكندرية. وفكّر في نقلها إلى البحر الأحمر عن طريق مضيق طارق والالتفاف حول إفريقيا عبر رأس الرجاء الصالح. لكن الحكومة البريطانية لم تأذن أو لم تسمح له بذلك لأن الفرقاطة صغيرة وملاحيها دون المستوى وربما تضيع أو تغرق في بحار يجهلها الملاحون الأتراك، وفي هكذا حالة فإن محمد علي سيعزو غرقها إلى الإنكليز. ثم اقترح مهندس إنكليزي يقيم في القاهرة الفرقاطة من الإسكندرية إلى القاهرة عبر النيل ثم نقلها من هناك إلى البحر الأحمر عبر الصحراء على دواليب وركائز ورافعات وبكرات وكان المهندس الإنكليزي واثقاً من نفسه. لكن المهندسين المصريين والأتراك أثبتوا استحالة ذلك.
    ثم تبيّن بعد ذلك أن نقل الإمدادات من جدة إلى مكة أشد صعوبة من نقلها من مصر إلى جدة، إذ أن معظم الجمال التي استخدمتها الحملة في الوصول إلى الحجاز نفقت حال وصولها، ومع استمرار قوافل الإمدادات من جدة إلى مكة استهلكت الأعشاب على جانبي الطريق وهي الأعشاب التي كانت بمثابة التموين الرئيسي للجمال وبالتالي لم يعد ثمة ما تعلف به الجمال باستثناء كمية قليلة من الحبوب تقدم للجمال مرة واحدة في اليوم، بل إن الجمالين الذي كانوا في معظمهم من الفلاحين المصريين الذين سخرهم محمد علي في حملته، كانوا يشاركون الجمال في طعامها أحياناً أو يبيعون الأعلاف سراً إلى بدو الحجاز. وهكذا لم يبق من الثمانية آلاف جمل التي أرسلها محمد علي في حملته إلى الحجاز سوى خمسمائة جمل رغم أنه لم يمض على الحملة أكثر من ثلاثة أشهر. ولم تكن هذه الجمال المتبقية قادرة على نقل الإمدادات من جدة إلى مكة والطائف، وعرض الباشا على البدو استئجار جمالهم غير أن ما دفعه لهم لم يرضهم.
    لدى وصوله إلى مكة واكتشافه حراجة الموقف طلب من الشريف أن يستخدم نفوذه مع الأعراب المجاورين لتزويده بأكبر عدد ممكن من الجمال ودفع مبلغاً كبيراً لهذه الغاية كدفعة أولى لتوزيعها على شيوخ البدو. لكن شيخ القبيلة إذا لم يكن من النوع الطاغي المستبد فإنه لا يستطيع أن يأخذ عنوة جمل أي فرد من أفراد القبيلة. ورغم أن الباشا دفع مبلغاً آخر من المال فإن أحداً لم يقدم جمله.
    واختلفت المشاعر بين الباشا والشريف ففي الزيارة الأولى كانت العلاقات ودية بينهما أما الآن فقد اعتراها البرود. وتذمّر الشريف لأن ضرائب وجمارك ميناء جدة التي وعد الباشا بها لم يقبضها موظفوه وصار كل طريف يتهم الآخر بالتآمر عليه. ونتيجة العلاقات الودية الواضحة بين الشريف وبين البدو الذين أصبحوا يعتبرونه منذ أسره لعثمان المضيفي، حامياً لهم من الوهابيين والأتراك على السواء، فقد ازدادت شكوك الباشا محمد علي حتى تشكلت لديه قناعة راسخة أنه طالما ظل الشريف يمارس سلطاته فإنه (أي محمد علي) بأنه يعطيه الصلاحيات الكاملة للتصرف نحو الشريف بالشكل الذي يراه، وحسب مقتضيات الموقف. وأن له الحق في تثبيته في منصبه كحاكم أو عزله وحتى سجنه.
    أصبح هدف محمد علي بعد انقلاب المشاعر على هذا النحو، اعتقال وسجن الشريف. لكنها ليست بالمهمة السهلة. فقد كان مع غالب ألف وخمسمائة مقاتل ولديه قوات أخرى في الطائف وجدة، هذا فضلاً عن أن قبائل البدو المجاورة كانت تفضل الشريف علي الباشا ولا تتردد في حمل السلاح دعماً له وكان الشريف في مكة يسكن قصراً قوي البنيان على منحدر تعلوه قلعة. وثمة طريق تحت الأرض يربط القصر بالقلعة التي سبق أن بناها شقيقه الأكبر سرور وقام غالب بنفسه بتحصينها عندما سمع باستعدادات محمد علي لغزوه الجزيرة العربية. ثم إنه زوّد القصر بالإمدادات اللازمة فضلاً عن توفر الماء في آباره. وكان ثمانمائة جندي وفارس وزهاء عشرة مدافع يحرسون القصر على مدار الساعة بينما تطل القلعة على مكة بأسرها، أي أن دفاعات الشريف كانت عصية على الاختراق. فإذا وضعنا بالاعتبار أن غالب كان يملك قوة أخرى تتمثل بالأشراف وحراسهم الشخصيين وعبيدهم والجنود اليمنيين المرتزقة الذين كان الأشراف يستعينون بهم، وإن هذه القوة تقيم في مكة على نحو دائم تقريباً وغالباً ما ترافق الشريف غالب في تنقلاته، أدركنا ورطة محمد علي باشا.
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل الثاني عشر

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي السبت 30 مايو - 20:45

    ولو أن الشريف غالب انتهك اليمين الذي أقسمه، وهاجم الباشا الذي كان لا يملك حينئد أكثر من اثني عشر ألف جندي في مكة، لربما استطاع الباشا بمساعدة البدو بعد أن يدفع لهم مبالغ مغرية، أن يهاجم الشريف ويرغمه على مغادرة مكة. لكن الشريف لم يبخل بوعده للباشا وبالتالي ما هي حجة الباشا لمهاجمة الشريف؟ وماذا سيقول الناس؟؟
    أما الشريف غالب فلم يعد يزور الباشا على النحو الودي السابق. وإذا فكر بزيارة الباشا الذي كان يقيم في مدرسة كبيرة قرب الحرم، فقد اعتاد بعد ذلك على اصطحاب بضع مئات من الجنود المسلحين ثم إنه كف عن تلك الزيارات وأقام في قصره لا يغادره إلا للصلاة يوم الجمعة.
    وحاول محمد علي عبثاً إقناعه بشكل لا مباشر بالتخلي عن حرسه، وقام لهذه الغاية بزيارة الشريف غير مرة برفقة بضعة ضباط فقط على أمل أن يرد له الشريف الزيارة بنفس الشكل. بل إن الباشا فكر باعتقال الشريف في الحرم ثم طرد هذه الفكرة من رأسه بعد وصول القاضي من الأستانة، ولا شك أن القاضي كان سيعتبر مثل هذا العمل انتهاكاً لحرمة الحرم.
    مضى زهاء أسبوعين لم يتوقف خلالهما محمد علي عن محاولاته لاعتقال الشريف. وتوصل أخيراً إلى خطة مناسبة. إذ أمر ابنه طوسون باشا الذي كان في جدة بالمجيء إلى مكة في ساعة متأخرة من الليل. ولا شك أن الأتيكيت وأصول المراسم يستدعي من الشريف زيارة طوسون لدى وصوله للترحيب به. وكان الأتراك يعتبرون أن الإخلال بهذه المراسم عن قصد بمثابة إعلان الحرب. وفكر الشريف غالب أن يقوم بزيارة المجاملة قبل أن يتمكن محمد علي من وضع خطط جديدة. ولذلك قرر زيارة طوسون في ساعة مبكرة من صباح اليوم التالي لوصوله. فانطلق مع قوة صغيرة من الحراسة نحو مقر إقامة طوسون. ولأن محمد علي كان يتوقع ذلك، فقد أحضر مائة جندي وطلب منهم الاختباء تماماً في الغرف المحيطة بساحة مقر إقامة طوسون. واختفى الجنود كما أمروا دون أن يثيروا ريبة أحد من الناس.
    عندما وصل غالب اصطحبه عدد من المرافقين إلى الطابق الثاني بحجة أن طوسون متعب ويشعر بالإرهاق من رحلته الطويلة، كما طلب المرافقون من حراس الشريف الانتظار في ركن من الساحة أمام الطابق الأول… ودخل الشريف إلى غرفة طوسون وتبادل الحديث معه فترة من الوقت وعندما نهض استعداداً لوداعه أبلغه عابدين بك قائد الجنود والفرسان الأرناؤوط بأنه قيد الاعتقال، وسرعان ما خرج الجنود الأرناؤوط من مخابئهم. وطلب عابدين بك وطوسون باشا من الشريف أن يطل على حرسه من النافذة ويأمرهم بالعودة إلى قصره لعدم وجود ما يستدعي بقاءهم.
    وشاع خبر اعتقال الشريف غالب فلجأ ابناه مع قواتهما إلى القلعة واستعدوا للدفاع. أما الشريف فقد احتفظ برباطة جأشه وسأل طوسون أمام الأرناؤوط:
    "وهل ارتكبت خيانة ضدكم؟" فأخرج طوسون فرماناً سلطانياً يطلب منه التوجه إلى الأستانة، فرد الشريف: "لتكن مشيئة الله… لقد أمضيت عمري في حروب مع أعداء السلطان ولذلك لا أخشى المثول أمامه" لكن طالما بقيت القلعة تحت سيطرة ابني غالب فلا يمكن اعتبار المهمة منتهية. ولذلك تم إكراه الشريف على كتابة رسالة إلى ولديه يأمرهما فيها بتسليم القلعة إلى محمد علي، لكنه لم يوقع الرسالة إلا بعد تهديده بالموت المؤكد.
    في اليوم التالي دخل الأتراك إلى القلعة وانسحب أفراد حاميتها واختفوا بين البدو المجاورين بينما لحق بعضهم بالوهابيين وانضموا إليهم. وتشكلت لجنة من القاضي وأحد ضباط محمد علي وأحد الأشراف لجرد ممتلكات الشريف غالب المنقولة في كافة قصوره وعقاراته. وقدرت الممتلكات المنقولة بعد حصرها بست عشرة محفظة(9) تساوي ربع مليون جنيه إسترليني ذهبي(10).
    بعد بضعة أيام من الأسر في مكة تم إرسال الشريف في تشرين الثاني (نوفمبر) إلى جدة حيث اعتقل على ظهر سفينة في الميناء أبحرت بعد ذلك إلى القصير ووصلت إلى مصر في الأول من كانون الثاني (يناير) 1814.
    ويقول بير كهارت الذي قابله هناك لدى وصوله: "أن روحه لم تضعف… كان يتحدث بصوت مرتفع وكبرياء واضح لكنه لم يذكر على الإطلاق اسم محمد علي أو طوسون… وكان برفقته زهاء عشرة خصيان وعدد من الخدم والحشم العرب واثنان من أبنائه انضموا إليه طوعاً في جدة. وكان من ضمن متاعه رقعة شطرنج جميلة ومزخرفة وثمينة ويمضي بضع ساعات يومياً يلعب الشطرنج مع رئيس الخصيان".
    ولدى وصوله إلى القاهرة لحقت به نسائه عن طريق السويس كما أرسل له محمد علي كافة ممتلكاته التي عثر عليها في قصوره وذلك بعد أن تلقى محمد علي أمراً بعدم مصادرة أي شيء من تلك الممتلكات. وتوفي أحد أبناء الشريف في الإسكندرية بينما رافقه ابنه الآخر إلى سالونيكا (في اليونان) التي أمر الباب العالي أن تكون مقر إقامته (نفيه) فيها حيث كان يتلقى معونة شهرية من الأستانة. ولم يبق من أسرته في مكة سوى بعض الجواري وابنه الأصغر وإحدى شقيقاته. وقد توفي الشريف غالب وكافة مرافقيه بمرض الطاعون (الذي انتشر في كافة أرجاء الشرق الأوسط آنذاك) في سالونيكا في صيف عام 1816(11).
    كان محمد علي قد تمكن أيضاً من اعتقال الشريف عبد الله بن سرور بعد يوم واحد من اعتقال الشريف غالب. وأرسله إلى القاهرة. وتمكن عبد الله ابن سرور من الهرب لكن البدو في منطقة السويس أعادوا اعتقاله. ولأنه كان على عداء دائم مع الشريف غالب فلم يكن ثمة ما يدعو إلى اعتقاله باستثناء وجود أنصار أقوياء له في مكة. ولذلك أطلق سراحه بناء على أوامر الباب العالي.
    لقد أظهر الشريف غالب في أثناء حكمه في مكة عزيمة ملحوظة في مقاتلة الوهابيين ومقاتلة أقاربه المعارضين وكان من شأن إلمامه بأساليب البدو وسياساتهم وشخصيته المهابة القوية أنه تمكن من حكم مكة باقتدار، لكن لجوءه إلى فرض غرامات كبيرة حتى على المخالفات الصغرى في أيام حكمه الأخيرة دفعت الناس للاستياء منه. وشاع اعتقاد في أوساط الكثيرين بأنه كان يحول مبالغ طائلة إلى الهند وخاصة ميناء (بومبي) الذي كان له علاقات تجارية معه بل إن محمد علي باشا نفسه اعتقد لوهلة باحتمال لجوء الشريف إلى بومبي. لكن تحصينه للقلعة على ذلك النحو وتخزينه للمواد التموينية وغيرها في قصره وقلعته يثبت أنه كان عازماً على المقاومة وحتى مقاتلة الأتراك وإجلائهم عن مكة.



    (1) لمزيد من المعلومات عن حملة محمد علي باشا انظر ج. ل. بير كهارت (ملاحظات عن البدو والوهابيين) الذي اعتمدته بشكل مكثف لأنه من أفضل المصادر عن الوهابيين.

    (2) كان العثمانيون يطلقون على الجنود الألبانيين (نسبة إلى ألبانيا أرناؤوط).

    (3) قبيلة الحويطات من القبائل العربية في جنوب الأردن.

    (4) تداركاً لأي التباس فإن الحملة التركية هي الحملة المصرية التي وجهها محمد علي، وبالتالي فالحملة التركية والحملة المصرية هما مسميان يستعملهما المؤلف ويقصد بهما حملة محمد علي باشا.

    (5) انظر: ج. ل. بيركهارت (ملاحظات عن البدو والوهابيين) الصفحة 351.

    (6) المرجع السابق.

    (7) ذكرنا سابقاً أن المؤلف لم يستقر على اصطلاح لتسمية جنود الحملة إذ أنه يسميهم الأتراك مرة والمصريين مرة أخرى والأرناؤوط مرة ثالثة وهكذا.

    (Cool سؤال يفرض نفسه هنا هل كان في الطائف نبيذ في أثناء احتلال الوهابيين لها طيلة عشر سنوات، أغلب الظن أن المؤلف يحاول السخرية من مصطفى بك.

    (9) الكلمة الإنجليزية تعني (محفظة) أما الكلمة الأصلية المتداولة في العصر العثماني فهي (صرة) أو (بقجة) والبقجة أكبر من الصرة، وهي لفة كبيرة من القماش المتين أو الجلد تحتوي على مبلغ كبير من المال.

    (10) وهذا يعني أن البقجة تساوي زهاء (160) ألف جنيه إسترليني ذهبي آنذاك.

    (11) لقد أقام ابنه عبد المطلب قبة فوق قبره شاهدها حفيده الشريف الأمير عبد المجيد بن علي حيدر بن جابر عام 1912 لكنها هدمت بعد ذلك أي في عام 1922 وبني مكان قبره عمارات حديثة.



    أنتهى الفصل الثاني عشر

    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty الفصل الثالث عشر

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي السبت 30 مايو - 20:51

    الفصل الثالث عشر: الحرب ضد الوهابيين وسط الجزيرة العربية 1813-1814

    أدى اعتقال الشريف غالب إلى ترويع كل من المكيين والبدو على السواء لدرجة أن عدداً من شيوخ القبائل الذين سبق للشريف أن قدمهم وعرفهم على محمد علي وبدأت المفاوضات معهم، هربوا من مكة وعادوا إلى تربة، كما أن كافة أصدقاء غالب في مكة وعدة عائلات قوية من أتباعها قد غادروا مكة ولجئوا إلى خيام البدو المجاورين. وكان من ضمن هؤلاء الشريف راجح أحد أقرباء غالب. وكان محمد علي قد أناط به قيادة بضع مئات من البدو وطلب منه تجنيد آخرين في خدمته. لكن في اليوم الذي اعتقل فيه غالب غادر راجح مكة وانطلق مع أسرته وكافة جنوده إلى الدرعية عاصمة سعود الذي كان سروره عظيماً بهكذا حليف فأعطاه مبلغاً من المال وعينه مكان عثمان المضيفي في منصب أمير أمراء بدو الحجاز.
    بعد اعتقال غالب حدث ما يشبه الجمود في الشؤون السياسية في الحجاز، ذلك أن غدر محمد علي وعدم وفائه بالعهود والأسلوب الماكر الذي اعتقل بواسطته غالب دفع معظم المكيين والبدو إلى النفور منه، بما في ذلك أولئك الذين كانوا يناهضون الوهابيين. وبالتالي أصبح موقف الباشا حرجاً. كان العقلاء يعتقدون أنه حتى لو تلقى محمد علي أمراً باعتقال غالب فيتعين عليه أن ينتظر حتى ينضم البدو الأقوياء إلى قضيته ويقوموا بهجمات على الوهابيين بحيث لا يستطيعون بعد ذلك التخلي عن قضية الباشا أو الاعتداء عليه لأنهم سيقعون بذلك بين نارين: نار الوهابيين ونار الباشا. الذي لا شك أنه حكم بنفسه على نيات الشريف اعتماداً على فرضيات غير مؤكدة وخشي أن يصبح ضحية للشريف إذا ما أتاح له وقتاً كافياً لتنفيذ مخططاته (المفترضة) ولذلك قرر المبادرة في العمل قبله.
    لكنه أخطأ في فرضياته كلها… صحيح أن غالباً لم يكن شديد الولاء للعثمانيين لكنه في نفس الوقت كان يكره الوهابيين ويقاوم محاولاتهم للسيطرة على الحجاز، ويستغل الفرص لمقاتلتهم وإضعافهم وكانت سياسته أن يترك الطرفين يتقاتلان حتى يضعفا بعضهما البعض دون أن يفكر بخيانة الباشا سيما وأنه أقسم على ذلك مرتين.
    وسارع محمد علي إلى تعيين يحيى ابن سرور الخصم السابق للشريف غالب حاكماً على مكة، وكان محمد علي يعرف أن يحيى ابن سرور لا يتمتع بالمزايا القيادية وكل ما أراده الباشا حاكماً صورياً لا أكثر بينما استولى على دخل الشريف غالب من ميناء جدة ومن مكة أيضاً وخصص ليحيى ابن سرور راتباً شهرياً بحيث أصبح يحيى في الواقع مجرد موظف عند الباشا.
    لم يكن لدى محمد علي حينئذ ما يشغله أكثر من نقل الإمدادات من جدة إلى مكة والطائف. وبعد أن نقل كمية قليلة من الإمدادات إلى مكة والطائف قرر أن يوجه ضربة حاسمة إلى أعدائه الذين تشجعوا نتيجة جمود قواته في مواقعها وعدم قيامها بأي عمل عسكري، فأخذوا يهاجمون ضواحي الطائف ومكة ويسلبون الجمال بينما أظهر البدو قنوطهم واستيائهم من غدر الباشا.
    وبين أعداء الأتراك قبيلة البقوم المجاورة لمكة، وكانت هذه القبيلة من أشد أعداء الأتراك وسبق لها أن هزمت قوات مصطفى بك كما أسلفنا. وقد لجأ معظم ضباط وجنود الشريف غالب إلى تربة بعد اعتقاله، كما أن الشريف راجحاً اتخذ تربة مقراً لقيادته حيث انضم إليه فيها (علي المضيفي) شقيق عثمان المضيفي وهو رجل ذو نفوذ واسع في المنطقة. وهكذا أصبحت تربة قاعدة تجمع وتوحيد الوهابيين في الجنوب كما كانت الدرعية عاصمة الوهابيين في الشمال.
    وعرب البقوم رعاة ومزارعون تتزعمهم أرملة تدعى (غالية) كان زوجها قبل وفاته أحد شيوخ تربة. وكانت غالية تملك ثروة أكثر من أي أسرة في المنطقة. وهو ما أتاح لها توزيع الأموال والإمدادات على فقراء قبيلتها الذين أعلنوا استعدادهم لمقاتلة الأتراك. ولأن غالية كانت تعرف كل شيء عن القبائل المجاورة ومصالحها وسياساتها فقد كان حكمها دقيقاً وصوتها مسموعاً في مجلس القبيلة، بل أنها كانت في الواقع الحاكمة الفعلية في قبيلتها رغم وجود شيخ صوري للقبيلة يدعى (ابن خرشان) ومنذ الهزيمة التي مني بها مصطفى بك قرب تربة شاعت شهرة وحنكة وذكاء غالية في المنطقة بأسرها كما أن مخاوف الجنود الأتراك من غالية زادت في تأثيرها ونفوذها لدرجة أن اعتبروها زعيمة الوهابيين وكانوا يرددون قصصاً خيالية عن مدى قوتها وأنها تشتغل في السحر وتصنع الحجب وتمنح بركاتها للمقاتلين الوهابيين بحيث يستحيل إلحاق الهزيمة بهم في المعركة. ومن الطبيعي أن تؤدي هذه التقارير والإشاعات والقصص المبالغ فيها إلى تثبيط عزائم الأتراك من جهة وشحن المقاتلين البدو بالثقة والإقدام من جهة أخرى. وهو ما أدى إلى فشل حملة طوسون باشا كما أسلفنا.
    صمم محمد علي القيام بهجوم ثان أواخر تشرين الأول (أكتوبر) وبداية تشرين الثاني (نوفمبر) 1813 فأرسل ألفي جندي لاحتلال تربة كانت المنطقة بين الطائف وتربة في أيدي قبائل معادية وهم: بنو سعد والنسارى وخاصة عتيبة. وكانت هذه القبائل تلتزم الحياد عندما كان الشريف غالب حاكماً على مكة. بل إن عدداً من شيوخ هذه القبائل سبق أن حضروا إلى مكة للتفاوض مع الباشا، لكنه عندما اعتقل الشريف وغدر به عاد أولئك الشيوخ إلى قبائلهم وبدؤوا يشنون الغارات على الطائف والقوات التركية.
    وبناء على أوامر محمد علي انطلق طوسون من الطائف على رأس قوة وإمدادات تكفيه زهاء شهر لكنه استهلكها تقريباً في المعارك التي خاضها ضد قبيلة عتيبة في الصحراء، واستطاع إخضاع بعض أفخاذ هذه القبيلة القوية. وعندما وصل إمام تربة لم يكن معه من الإمدادات ما يكفي أكثر من ثلاثة أيام، ولذلك أصدر أمره بالهجوم فوراً، لكن العرب دافعوا من خلف الأسوار ببسالة ومعنويات عالية بينما كان الجند الأتراك مسكونين بالقوى الخارقة (المزعومة) التي تملكها غالية ومرهقين من السير الطويل الذي كابدوه فضلاً عن اقتناعهم بعدم وجود غنائم مغرية في تربة فإذا أضفنا إلى ذلك كله التعاويذ والتعازيم الغريبة التي كان المدافعون عن تربة ينشدونها بأصوات مرتفعة أدركنا سبب فشل الهجوم.
    غضب طوسون من جنوده وضباطه وأمر بشن هجوم ثان في اليوم الثاني غير أن جنوده أعلنوا بصراحة أنهم لا يستطيعون مقاتلة غالية كما أن ضباطه شرحوا له حالة الإرهاق التي يعاني منها الجيش والنقص في التموين والإمدادات وأكدوا له أن فشل الهجوم الثاني يعني انهيار المعنويات وتفشي الجوع وبالتالي فإن الوضع يتطلب التقهقر والعودة إلى الطائف حتى يأخذ الجيش قسطاً من الراحة، ويتم التزود بإمدادات جديدة ثم العودة بقوات نشيطة لمهاجمة تربة. فوافق طوسون على ذلك مضضاً. ولأن البدو كانوا يعرفون حقيقة وضع طوسون وقواته فقد لحقوا به في أثناء تراجعه واحتلوا بعض الممرات التي لا بد أن يجتازها في طريق عودته وبدأوا يشنون الغارات على قواته لدرجة أن الكثيرين من جنوده تركوا خيامهم ومهماتهم وحتى مدافعهم ولاذوا بالفرار.
    وبلغت حصيلة خسائر تراجعه أكثر من سبعمائة قتيل كما مات الكثيرون جوعاً وعطشاً ولم ينقذ الجيش من الإبادة المحققة سوى طوسون وزهاء مائة فارس أرنؤوطي، إذ أن مشاة البدو لم يستطيعوا الصمود أمام هجمات الفرسان الأتراك المدججين بالسلاح والماهرين باستعماله، لكن أولئك الفرسان في نفس الوقت لم يستطيعوا إلحاق هزيمة حاسمة بمقاتلي البدو في تلال صخرية وعرة المسالك.
    بعد أربعة أيام من مكابدة مشقات جمة وفرار العديد من الجنود الأتراك وصل طوسون باشا إلى الطائف مع بقايا جيشه. ويمكن عزو سبب فشل حملته إلى قلة الجمال اللازمة لنقل قواته وإمداداته ولم يبق في الطائف أي جمل لتزويده بإمدادات جديدة. ولعدم وجود بديل آخر وبناء على الخبرة التي اكتسبها من أخطائه، اضطر محمد علي بعد هزيمة ابنه إلى استئناف ما بدأه سابقاً وهو إرسال القوافل لنقل الإمدادات من جدة إلى مكة والطائف وأصبح على قناعة بأن أي عملية ضد أعدائه ينبغي أن تنطلق من الطائف.
    بعد أن طارد الوهابيون قوات طوسون إلى مسيرة يوم عن الطائف عادوا إلى تربة وبدأوا ينظمون الغارات المفاجئة على قوافل الباشا ولم يكن باستطاعة تلك القوافل اجتياز الطريق من جدة إلى كل من مكة والطائف بدون حراسة قوية. وكانت مفارز الحراسة تستهلك في الطريق ثلث الإمدادات التي تحملها القافلة بحيث لا يصل من الإمدادات سوى الثلثين.
    في تشرين الثاني (نوفمبر) 1813 جرت مناسك الحج بأبهة وفخامة وكان سليمان باشا والي دمشق قد قاد الحجيج الشامي(1) بنفسه عبر الصحراء دون أية مضايقات بعد أن أرغمه البدو المقيمون في طريق الحج على دفع الأتاوة عن عشر سنوات سابقة توقف خلالها حضور ركب الحجيج الشامي. وكان عدد كبير من الحجاج الأتراك وحجاج شعوب البلقان قد وصلوا إلى مصر بحراً ثم انطلقوا من السويس إلى جدة ومنها إلى مكة، وهو ما أبهج سكان مكة والمدينة لعودة مصدر الدخل التقليدي من الحجاج… المصدر الذي حرموا منه تقريباً في أثناء سيطرة الوهابيين. وتلقى محمد علي عدة آلاف من الجمال وقوة كبيرة من الجنود أرسلها نائبه في مصر ولم يكتفي الباشا بذلك بل أمر مصطفى بك بالعودة إلى القاهرة وشراء أكبر عدد ممكن من الخيول وإرسالها لها لتعويض ما فقده من الخيول. وظل الجيش التركي على أي حال في شتاء عام 1813-1814 دون أي نشاط يذكر باستثناء تجنيد المزيد من المقاتلين وتزويد المخازن بالإمدادات.
    بعد فشل الحملات ضد العدو باستثناء الحملة التي احتل بعدها المدينة (المنورة) فكر محمد علي أن ثمة ضرورة لتبني خطة جديدة قد يؤدي نجاحها إلى رفع المعنويات وتشجيع قواته من جهة وصرف نظر الوهابيين عن المحور أو المركز الرئيسي للهجوم من جهة أخرى. وهكذا انطلقت حملة بحرية من جدة وعلى متنها ألف وخمسمائة جندي مع إمدادات كافية وقاد هذه الحملة كل من حسين آغا وصايم أوغلو، وأبحرت السفينة إلى قنفذة على مسيرة سبعة أشواط إلى الجنوب من جدة. وكانت قنفذة في السابق تابعة إلى الشريف غالب. لكن ملكيتها انتقلت في الخمس سنوات الأخيرة إلى الشيخ طامي شيخ قبائل عسير وهي أقوى القبائل إلى الجنوب من مكة وأشدها حماساً، والتزاماً بالتعاليم الوهابية… وقنفذة مكان ممتاز لتوجيه الهجمات ضد العسيريين الذين يقيمون في الجبال وذلك بالتعاون والتنسيق مع حاميات الطائف. ولسهولة تزويد قنفذة بالإمدادات بواسطة البحر فقد تكون خطوة أولى لاحتلال اليمن الذي يطمع محمد علي بثرواته بكل تأكيد. ولم تكن هذه الخطة سخيفة على أي حال. ولأن حامية الشيخ طامي في قنفذة صغيرة، فقد احتلتها القوة التركية ببساطة في آذار عام 1814 ودون إهراق نقطة دم واحدة، ولكن معظم السكان هربوا منها. وحال انتشار نبأ سقوط قنفذة بيد الأتراك انطلق زهاء أربعمائة فارس تركي من جدة على الطريق الساحلي ووصلوا إلى قنفذة لتعزيز القوات فيها. ويحيط سور بهذا الميناء الصغير للدفاع عنها ضد عدو كالوهابيين أي ضد عدو لا يملك مدفعية تدك الأسوار لكن مشكلتها الأساسية هي عدم وجود آبار ماء فيها، وأقرب آبار إليها تبعد مسافة ثلاث ساعات قرب الجبال، وبالتالي لا بد من إنشاء تحصينات حول تلك الآبار وإنشاء أبراج وحصون رقابة وحماية على طول الطريق منها إلى قنفذة أو على الأقل وضع بطاريات مدفعية في أماكن معينة من الطريق سيما وأن الأتراك يملكون كمية وافرة من المدافع لكنهم تجاهلوا هذه المحاذير ولم يأخذوا الاحتياطات الكافية.




    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل الثالث عشر

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي السبت 30 مايو - 21:03

    وضع القائد التركي مائة وخمسين أرناؤوطياً قرب آبار قنفذة ليس لحمايتها بل لمنع البدو من سقاية مواشيهم. وبعد أن أقام الأتراك في قنفذة زهاء شهر دون نشاط يذكر فوجئوا ذات يوم في أوائل أيار (مايو) بقوة وهابية تتراوح بين الثمانية والعشرة آلاف مقاتل بقيادة الشيخ طامي نفسه. وهجم الوهابيون أولاً على الأرناؤوط الذين يحرسون الآبار وقاتل بعض الأرناؤوط ببسالة حتى المساء، أما الآخرون فقد لاذوا بالفرار إلى قنفذة في حالة من الذعر وقد بالغوا كثيراً في قوة الوهابيين وهو ما أشاع حالة من الذعر في أوساط الجنود الآخرين. ودون أن يحاول القائد التركي المقاومة من داخل الأسوار، انطلق مع معظم قواته إلى السفن في الميناء بينما دخل الوهابيون إلى البلدة وأعملوا سيوفهم ورماحهم في عدد كبير من الجنود الأتراك الذين لم يستطيعوا الانسحاب في الوقت المناسب إلى الميناء أو أنهم لم يجدوا زوارق تحملهم إلى السفن أو لا يجيدون السابحة وقام الوهابيون بمطاردة الأتراك حتى الشاطئ وترجلوا عن خيولهم وجمالهم ولحقوا بالأتراك داخل مياه البحر الأحمر، وقتلوا عدداً منهم بل أن بعض الوهابيين الذين يجيدون السباحة كانوا يشدون على سيوفهم بالنواجذ ويسبحون ويقتربون من السفن لتسلقها وقتل من فيها. لكن ما إن ارتقى القائد التركي سفينته حتى أمر بنشر الأشرعة والإبحار فوراً إلى الشمال متخلياً عن بقية جنوده الذين لم يستطيعوا تسلق السفن في الوقت المناسب فذبحهم الوهابيون ذبح الشياه.
    ولم يجد الوهابيون بعد ذلك غنائم وأسلاباً كالغنائم والأسلاب التي حصلوا عليها في قنفذة… مخازن غاصة بالإمدادات والبنادق والمدافع والذخائر إذ أن الأتراك انسحبوا نتيجة الذعر بملابسهم ودون أن يفكر أحدهم بإحراق المستودعات، ولعل أهم شيء بين تلك الأسلاب بضع مئات من الخيول ومئات أخرى من الجمال. ولأن السفن لم تكن مزودة بالغذاء أو الماء فقد توفي عدد كبير من الجنود الأتراك جوعاً وعطشاً في رحلة العودة القصيرة إلى جدة. أما من تبقى من الجنود فقد قتل معظمهم بينما استطاع (12) جندياً منهم الفرار من قنفذة تحت جنح الظلام ووصلوا إلى مكة حيث كافأهم محمد علي وأمرهم بالانضمام إلى كتيبة أخرى وكانوا قد أقسموا أغلظ الإيمان بأنهم لن يخدموا مرة أخرى تحت إمرة صايم أوغلو.
    بعد الكارثة التي تعرضت لها حملة قنفذة توجه محمد علي إلى الطائف لأن مناخها أفضل في الصيف من جهة وحتى يكون قريباً من مسرح العمليات ومن البدو الذين أخذ يبذل مساعيه مرة أخرى للتودد إليهم من جهة ثانية. وفي حزيران 1814 وصل ألف وخمسمائة جندي مشاة وهم من أفضل جنود المشاة في مصر بقيادة حسن باشا القائد الأرناؤوطي الشهير المعروف بشدة وفائه وإخلاصه لرئيسه محمد علي حتى قبل أن يصبح الأمير والياً على مصر، وقد أظهر أخيراً إخلاصه في أثناء غياب محمد علي عندما أخمد ثورة قام بها لطيف باشا. وكان حسن باشا مملوكاً لدى محمد علي غير أن هذا اعتقله وضمه إلى خدمته في الجيش ولثقة محمد علي به أوفده إلى السلطان في الأستانة ليقدم إلى العتبات السنية مفاتيح مكة والمدينة التي استلمها محمد علي وقرر إهداءها إلى السلطان الذي ابتهج بذلك ومنح حسناً لقب باشا بطوخين (مفردها طوخ)(2) وفقاً لرغبة محمد علي الذي انتشرت شائعة في أثناء غيابه بأنه قتل في الحرب مع الوهابيين فبدأ لطيف باشا يعد العدة للاستيلاء على الحكم في مصر وسرعان ما انتشرت شائعة أخرى بأن لطيف باشا تلقى فرماناً همايونياً يخوله الاستيلاء على السلطة في القاهرة في حالة وفاة محمد علي. فقرر نائب محمد علي بالتعاون مع حسين باشا الأرناؤوطي العمل بسرعة وأخمدا التمرد في مهده وطوقت قواتهما قصر لطيف باشا الذي حاول التنكر بملابس فلاح مصري غير أنهما اكتشفاه وقام حسين باشا بقطع رأسه.
    لدى وصول حسن باشا إلى الحجاز مع قواته أرسله محمد علي لإنشاء مقر قيادة له في قرية تحتوي على عدة آبار على بعد ثمانية أو تسعة أميال إلى الشرق من الطائف، على الطريق إلى تربة خلف قمم السلسلة الجبلية. أما طوسون باشا الذي امتعض منه والده بسبب فشل هجومه على تربة فقد بقي في مكة.
    وعم الاستياء بين الجنود الأتراك الذين أنفقوا مدخراتهم على ضروريات الحياة ذلك أنهم كانوا يتلقون رواتبهم بالقروش المصرية وقيمتها التبادلية (أو قوتها الشرائية) في الحجاز أقل بكثير من قيمتها في مصر. وكن الفرق في السعر التبادلي للقوات المصرية يساوي زهاء ثلث قيمتها في مصر. ولذلك اضطر الكثير من الجنود لبيع ملابسهم وحتى أسلحتهم لتأمين طعامهم ومستلزماتهم وكان الاستياء عاماً وشديداً لدرجة أن الكثيرين من الهجانة والجنود المشاة والموظفين والمهنيين الذين رافقوا الحملة باعوا ممتلكاتهم وتوجهوا نحو ينبع وجدة للعودة من هناك إلى القاهرة. وعندما علم محمد علي بذلك أصدر أوامره بإنزال أشد العقوبات بكل من يحاول العودة إلى مصر، ونتيجة هذه الأوامر ازداد استيائهم لأن معظم الجنود آن ذاك كانوا متطوعين وبالتالي يحق لهم الانسحاب متى شاءوا. وغادر الكثيرون منهم مكة ووصلوا إلى جدة على أمل أن يستطيعوا الفرار إلى مصر على ظهر إحدى السفن، وقد تم إلقاء القبض عليهم وأعيدوا إلى سراياهم مكبلين بالسلاسل الحديدية. وبالإضافة إلى أسباب التذمر والاستياء هذه فقد أثر الطقس الحجازي الجاف على الجنود كما أنهم لم يستسيغوا مذاق المياه شبه المالحة. وانتشرت الأمراض بين الجنود بينما لم يقم محمد علي بأي عمل لتشجيع جنوده ورفع معنوياتهم وذلك كزيادة رواتبهم مثلاً أو توزيع الجوائز والمكافآت على الجنود الذين أظهروا شجاعة وإقداماً في المعارك ضد الوهابيين.
    كان محمد علي هو الشخص الوحيد بين مرافقيه وضباطه وجنوده الذي لم يقنط من تحقيق انتصار على الوهابيين. وكان يدرك بأن سقوطه وعزله عن ولاية مصر سيكون حتمياً إذا لم يحرز انتصاراً ضدهم.
    ومنذ وصوله إلى الطائف بدأ مساعيه لتحسين علاقاته مع البدو وقد أحرز نجاحاً جزئياً بهذا الصدد لما تحلى به من صبر ودبلوماسية من جهة وما قدمه للبدو من مال وهدايا من جهة أخرى. ففي شهر آب (أغسطس) 1814 قررت قبائل هذيل وثقيف وبني سعد وجزء من قبيلة عتيبة الدخول في تحالف جديد معه. والمعروف أن القبائل الثلاث الأولى تقيم بين مكة والطائف، بينما تقيم أفخاذ قبائل عتيبة إلى الشرق من تلك القبائل… وحضر شيوخ البدو إلى مقر قيادة علي في الطائف برفقة خمسمائة فارس وهجان وانضووا تحت لوائه بعد تعهده بأن يدفع لهم ضعف الراتب الذي يدفعه لجنوده تقريباً. وفي شهر آب كان شيوخ القبائل يترددون على مقر قيادته يومياً حيث يتلقون الهدايا على شكل ملابس أو كمية من النقود. ومن الطبيعي أن بعض شيوخ البدو كانوا يتلقون تلك الهدايا ويعربون للباشا عن دعمهم وتأييدهم ثم يعودون إلى مضاربهم ويتصلون بالوهابيين لإبلاغهم بكل ما شاهدوه في الطائف، بينما ظل الشيوخ محايدين. أما محمد علي باشا فقد كان يتودد لكافة الشيوخ في سبيل أن يكسب بعضهم وبالتالي يستمع إلى شكاويهم ومطالبهم بتواضع جم ويبتسم في وجوههم ويتعهد بحل كافة مشاكلهم بعد انتصاره على الوهابيين.
    لم يتعود أبناء الصحراء على الألقاب والتكلف في المعاملة ولذلك كان البدو يخاطبونه دون مجاملة وبأسلوب ديمقراطي كما هو شأنهم في التعامل مع بعضهم وينادونه باسمه (محمد علي) مجرداً من أي لقب لدرجة أن بدوياً من قبيلة عتيبة قال للباشا بعد أن صافحه وقبل لحيته: "لقد نبذت دين المؤمنين الحقيقيين (كما كان الوهابيون يسمون أنفسهم) واعتنقت دين المشركين (وكان الوهابيون يطلقون على كل من سواهم لقب مشرك) دين محمد علي" وضج مجلس الباشا بالضحك، ورد الباشا على البدوي العتيبي بواسطة المترجم – لأن لغته العربية كانت حتى ذلك الوقت ثقيلة – "آمل أن تظل على الدوام مشركاً صلباً".
    حتى الشريف راجح الذي كان يعتبر من أعداء الباشا الرئيسيين وقد اضطلع بدور مهم في الهجوم الوهابي على طوسون باشا في تربة، بدأ يراسل محمد علي ويقترح عليه العودة إليه. رغم أن الباشا كان يعتبره عدوه اللدود ويعرب عن كراهيته له علناً. لكن راجح برر فعلته بأنه كان يخشى أن يفعل الباشا ما سبق أن فعله مع الشريف غالب. وفي أيلول (سبتمبر) حضر إلى الطائف فاستقبله محمد علي بترحيب وعينه قائداً على الجنود البدو الذين انضموا إليه من القبائل كما أسلفنا.
    إلى جانب سياسة الاسترضاء والتودد التي تبناها في تعامله مع البدو، فعل محمد علي كل ما بوسعه لاسترضاء سكان الحجاز نفسه، فأوقف تحصيل الكثير من الضرائب والرسوم التي فرضها الشريف غالب وأسلافه، كما أنه قلّص الجمارك المفروضة على مختلف البضائع في ميناء جدة بما في ذلك القهوة التي لا يستغني عنها العرب. هذا فضلاً عن المبالغ النقدية وكميات القمح التي وزعها على الفقراء والمحتاجين. ولم ينس في غضون ذلك استرضاء العلماء والشيوخ وغيرهم من الموظفين في الحرمين والمدارس والتكايا حيث وزّع عليهم هبات نقدية وخصص مبلغاً آخر لإجراء الإصلاحات اللازمة في الحرمين. ورغم ما عرف عنه في القاهرة بأنه ليس من النوع الورع الذي يتمسك بواجباته الدينية فقد كان في أثناء إقامته في الحجاز لا يقطع فرضاً ويكثر من الطواف حول الكعبة ويتحبب إلى الشيوخ والعلماء بالعطايا، بعد أن أصدر أوامره الحازمة إلى جنوده بالتحبب إلى السكان وعدم إهانتهم تحت أي ظرف تحت طائلة العقوبات الصارمة وذلك لردع جنوده عن الممارسات الشريرة التي اعتادوها في مصر. وهكذا لم يكن ثمة جندي تركي يجرؤ على أخذ أي شيء بالقوة أو بنصف الثمن من السوق. وإذا ما تذمر حجازي للباشا أو إلى كبار ضباطه من أن جندياً تركياً ظلمه، كان الباشا وضباطه يزيلون الظلم وينصفون الحجازي من غريمه بالشكل الذي يرضيه، وبهذه الوسائل الدبلوماسية والإدارية كسب الباشا حب السكان لعدله من جهة ووفرة صدقاته وعطاياه من جهة أخرى.
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل الثالث عشر

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي السبت 30 مايو - 21:06

    في شهر أيار (مايو) 1814 توفي سعود بالحمى وخسر الوهابيون بذلك قائداً محنكاً، وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة خاطب ابنه عبد الله ونصحه بقوة: "إياك والاشتباك مع الأتراك في السهول أو الأراضي المكشوفة" وهي استراتيجية لو تمسك بها الوهابيون لاستردوا سيطرتهم على الحجاز. وهكذا خلف عبد الله والده سعوداً، غير أن عدداً من أشقائه نازعوه الخلافة وطالبوا بحصصهم من ثروة الوالد وحدثت انشقاقات بين علماء الدرعية عاصمة الوهابيين تلتها اشتباكات وسقوط قتلى من الجانبين لكن عبد الله تمكن في النهاية من بسط سيطرته. وقد أظهر شجاعة وإقداماً أكثر من والده. لكنه بعكس والده لم يعرف كيف يطوع القبائل المنضوية تحت لوائه أو كبار الشيوخ الذين بدأ بعضهم يظهرون مشاعر وإشارات استقلالية عنه. فالوهابيون في الجنوب وهم الأشد تعرضاً للهجمات في تلك الفترة لم يتلقوا أي دعم من القبائل الوهابية الشمالية التي كان باستطاعتها أن ترسل أعداداً من فرسانها لتقوية موقف الجنوبيين. والأدهى من ذلك أن شيوخ القبائل الوهابية الجنوبية لم يكونوا على وفاق فيما بينهم وبالتالي سنحت الفرصة للباشا لمهاجمة الجنوبيين قبيلة وراء أخرى، دون أن تفكر تلك القبائل بتوحيد صفوفها في مواجهة قوات الباشا. وربما يعود السبب في ذلك إلى أن شيوخ القبائل الجنوبية كانوا يستهينون بأعدائهم.
    في أيلول (سبتمبر) 1814 كانت قوات الباشا موزعة على النحو التالي: زهاء مائتي جندي مع إبراهيم آغا حامل أختام محمد علي في مكة التي كان يرابط فيها أيضاً مائة وخمسين فارساً وهجاناً بقيادة الشريف يحيى. وزهاء ثلاثمائة وخمسين جندياً بقيادة ديفان أفندي في المدينة المنورة ومائة جندي يشكلون حامية ميناء ينبع، وزهاء مائتي جندي في جدة. بينما كان طوسون باشا يخيّم مع ثلاثمائة وخمسين جندياً بين ينبع والمدينة وكان محمد علي في الطائف ثلاثمائة جندي منهم مائة فارس. أما حسن باشا الذي يقود القوات في الداخل فكان يقود ألف أرناؤوطي بينما كان شقيقه عابدين بك يقود المراكز المتقدمة للجيش وبرفقته زهاء ألف ومائتي أرناؤوطي بالإضافة إلى أربعمائة فارس وصلوا حديثاً من القاهرة. وقد تمكنت تلك القوات المتقدمة أن تشق طريقها إلى مسيرة ثلاثة أو أربعة أيام من الجنوب إلى الطائف في أراضي قبيلة نسارى وباتجاه قبيلة زهران حيث كان شيخ عرب غامد الخصم الرئيسي للأتراك. واستفادت قوات عابدين بك من خصوبة المنطقة فتزودت بكافة حاجاتها من القمح والشعير بحيث أصبحت هذه القوات مستقلة في تموينها ولا تحتاج إلى إمدادات من مخازن ومستودعات الطائف.
    في غضون ذلك توالى وصول التعزيزات وعلى نحو يومي من مصر ولكنها مع ذلك لم تكن كافية نتيجة للخسائر التي مني بها في المعارك مع الوهابيين، بينما كان عدد قواته في مصر ضئيلاً بالمقارنة ولا يستطيع إضعاف قواته هناك خشية أن تتعرض مصر في حالة ضعف قواته فيها لهجمات من الأستانة (بهدف عزله) أو من المماليك الذين لم يتوقف بعضهم عن شنّ حرب عصابات ضده من الصعيد، كما كان يخشى أن يقوم الأسطول البريطاني بمهاجمة مصر.
    وعندما شاعت الأخبار في الأقطار التي كانت تزود الباشا والأتراك بالعدد الأكبر من المجندين والمتطوعين، وخاصة ألبانيا والروملي (رومانيا وبلغاريا) وساحل آسيا الصغرى والبوسنة الخ… بأن حملة الحجاز بقيادة محمد علي باشا تعاني صعوبات ومشقات كثيرة تقلص عدد المجندين والمتطوعين الذين يحضرون إلى مصر. واضطر محمد علي أن يبقي ضباطه الذين كانوا يحشرون المجندين والمتطوعين في تلك البلاد لمواصلة مهماتهم غير أنهم لم يتمكنوا من إرسال المزيد من الجند والمتطوعين الا بعد إنفاق مبالغ هائلة. وكان جيش الباشا آنذاك يتألف من زهاء (35) ألف جندي منهم (20) ألف في الحجاز و (15) ألفاً في مصر.
    إن الدفاع عن المدن المقدسة والسيطرة على المناطق المجاورة لا يتطلب أكثر من أربعة أو خمسة آلاف جندي بمساعدة أربعمائة بدوي تم تجنيدهم من القبائل المختلفة. وكان راتب الواحد منهم ضعف راتب الجندي أو المتطوع التركي. لكن الباشا لا يستطيع دحر الوهابيين والقضاء عليهم بمثل هذه القوة المتواضعة نسبياً مقارنة بقوات الوهابيين، رغم أنه تعهد بذلك إلى السلطان عندما انطلق من القاهرة إلى الحجاز. كما أنه فشل في الحصول على جمال عديدة… كانت الطريق من الطائف إلى مكة ومنها إلى جدة غاصة بجيف الجمال وتشير تلك الجيف المتناثرة على جنبات الطريق إلى حاجة الباشا الملحة إلى جمال جديدة لنقل الإمدادات من جدة. وفي الموبدة وهي من ضواحي مكة التي كانت تتوقف فيها القوافل القادمة من جدة والطائف كانت الروائح الكريهة من مئات فطائس الجمال تزكم الأنوف وهو ما دفع سكان الموبدة للشكوى والتذمر. فتم استخدام عدد من الحجاج الزنوج الفقراء لجمع الأعشاب الجافة من الجبال المجاورة… كانوا يضعون كمية من الأعشاب والأغصان الجافة فوق الجمال الميتة ويشعلون فيها النار حتى تتفحم وتختفي تلك الروائح المنتنة. لقد خسر محمد علي باشا منذ بداية حملاته عام 1811 حتى أواخر 1814 مالا يقل عن ثلاثين ألف جمل في الحجاز ولم يبق في مصر سوى بضعة آلاف منها. ولذلك توجه موفدوه وضباطه إلى أقطار إفريقية السوداء بحثاً عن جمال جديدة. لكن نقل الإمدادات من إفريقية السوداء إلى القصير ومن القاهرة إلى الحجاز عبر السويس لا يبقي الكثير من الجمال المشتراة وذلك لوعورة الطرق والمسالك ولأن الجمال الإفريقية لا تحتمل المشاق كالجمال العربية الصحراوية. وهكذا أرسل الباشا أحد ضباطه إلى دمشق لشراء الجمال من البدو في سورية وكان من المتوقع وصول الجمال السورية إلى مكة في قافلة الحجيج الشامي. أما إبراهيم باشا (ابن محمد علي) في مصر فقد بذل كل ما بوسعه لشراء الجمال من القبائل البدوية في ليبيا وكان سيرسلها أيضاً مع قافلة الحجيج المصري وبالتالي اضطر محمد علي لاتخاذ إجراءات دفاعية كلما استدعى الأمر ذلك إلى حين وصول الجمال الموعودة.
    في غضون ذلك شهد الوهابيون عدة هجمات على ضواحي الطائف وضد القبائل التي تحالفت مع الباشا الذي قام في نفس الوقت رداً على تلك الهجمات بتنظيم مفارز من الفرسان لمهاجمة الوهابيين في غير موقع وعلى نحو مفاجئ. وفي شهر آب (أغسطس) 1814 قاد الشريف يحيى قواته من البدو وسلك طريقاً جبلياً وهاجم قنفذة وعاد بغنائم وافرة من الجمال والمواشي، لكنه ما إن عاد إلى مكة منتصراً حتى ثار الشيخ طامي وأرسل قوة من ستمائة هجان من قبيلة قحطان وهاجمت جدة.
    نتيجة لذلك انقطع الطريق بين جدة ومكة لبعض الوقت. لكن الوهابيين بعد أن أنجزوا مهمتهم وهي مضايقة جدة عادوا إلى قواعدهم. وكانوا قد حضروا من مسافة مسيرة خمسة عشر يوماً لسلب ونهب كل ما يتحرك على طريق مكة – جدة ولمعرفتهم الجيدة بالمنطقة فقد سلكوا طرقاً وعرة مكنتهم من القيام بهجمات مباغتة على ضحاياهم.
    ومنذ أن احتلت القوات التركية المدينة المنورة ظلت هناك بلا نشاط فعلي سيما وأن الإمدادات التي كانت تصل إليهم من ينبع لا تكاد أن تكفيهم وتكفي السكان. وظلت قبائل حرب المجاورة موالية للأتراك. وفي شهر حزيران (يونيو) 1814 ذهب الشيخ جازي زعيم قبائل حرب إلى المدينة لمقابلة ديفان أفندي قائد القوات التركية فيها. وبعد أن أمضى معه يوماً كاملاً لم يعد يحتمل عنجهية الأتراك وصلفهم فصرخ به أمام الحضور: "اخرس يا ديفان أفندي… الجميع يعرفون أنني أنا الذي مهدت لكم دخول المدينة ولولا سيفي وسيوف رجالي لما دخلتم إليها" عندما سمع القائد التركي هذه اللهجة استشاط غضباً وأهان الشيخ جازي وضربه بعصاته وأمر باعتقاله وتقييده بالسلاسل. وزعم الأتراك في اليوم التالي أن الشيخ جازي انتحر في السجن. أما الحقيقة فهي أن ديفان أفندي اكتشف وجود مراسلات بين الشيخ جازي والوهابيين فأمر بخنقه في السجن بتهمة الخيانة. وما إن سمعت قبائل حرب بمقتل شيخهم في السجن داخل المدينة حتى بادروا إلى قطع الطريق في جبالهم أمام القوافل الواردة أو الصادرة من وادي ينبع ودون أن ينضموا رسمياً إلى الوهابيين بدؤوا يشنون الغارات على مراكز الأتراك المتقدمة.
    أمر محمد علي ابنه طوسون باشا – على أمل تسوية هذه المشاكل – بالانطلاق فوراً إلى المدينة فوصل إلى بدر في أيلول (سبتمبر) ليجد أن قبائل حرب وضعت حاميات قوية في الممر المؤدي إلى الجديدة وأنها مصممة على منعه بالقوة من العبور بقواته. وطالب شيوخ حرب برأس ديفان أفندي عقاباً له على غدره بشيخهم. ولحسن الحظ توفي ديفان في ذلك الوقت (وثمة من يشك بأنه مات مسموماً). وتلقى شيوخ حرب وعمداؤهم وعقداؤهم هدايا ثمينة ومبالغ نقدية كما تلقى أولاده وأولاد عمومته مبالغ نقدية على سبيل الدية وفقاً للتقاليد البدوية وبذلك سويت الأزمة وتم الصلح.
    بعد أن اجتاز طوسون الممر وصل إلى المدينة في تشرين الأول (أكتوبر) 1814 وبرفقته ثلاثمائة جندي مشاة وخمسمائة فارس معظمهم حضروا من القاهرة حديثاً.
    في تلك الفترة تحسنت أوضاع الأتراك في الحجاز وانتعشت الآمال باحتمال قيام الباشا محمد علي بحملة كبيرة ضد العدو، عندما مني بهزيمة أخرى. فقد كان عابدين بك مع جنوده الأرناؤوط يحتلون عدة مواقع في منطقة زهران إلى الجنوب من الطائف. وفي سبيل منع الوهابيين من مهاجمته فقد دمر وأحرق المنطقة في نطاق أربعين ميلاً ولم يترك فيها أي شيء يمكن أن يستفيد منه الوهابيون… أقام عابدين معسكره على طرف هذه الصحراء الاصطناعية التي أحرق كل ما فيها بينما نصب خصمه الشيخ البخروجي أحد زعماء الوهابيين، خيامه في الطرف الجنوبي فيها. وفي فجر يوم من أيلول (سبتمبر) انقض البخروجي وقواته على الأرناؤوط النائمين الذين أذهلتهم المفاجأة بحيث لم يستطع أحد منهم إطلاق النار بل سارعوا إلى الفرار مخلفين وراءهم المعسكر وكافة محتوياته. غير أن عدداً من جنود رومليا (أي الروملي) بقيادة (محيو بك) أحد أنشط ضباط الباشا في الحجاز قاوموا الهجوم الوهابي لكنهم لم يستطيعوا الصمود طويلاً أمام زخم الهجوم والحقيقة أن الفضل في انسحاب القوات التركية من المعسكر يعود إلى كتيبة من الفرسان بقيادة ضابط سوري يدعى (حسين بك) استطاع ببسالته وبسالة فرسانه تغطية انسحاب الأرناؤوط والروملي وحماية مؤخرة القوات المنسحبة التي لم يكف الوهابيون عن مطاردتها طيلة يومين. ولم يتوقف الأتراك المنسحبون على بعد أربع ساعات من الطائف إلا بعد أن وصلت بقايا فلولهم فتوقفوا للراحة حيث تلقى عابدين بك تعزيزات جديدة من الطارف. وعندما عرف أن الوهابيين عادوا إلى مواقعهم تقدم للمرة الثانية بناء على أوامر الباشا نحو زهران غير أن قواته كانت مذعورة لدرجة أن نصف جنوده تقريباً تسللوا تحت جنح الظلام وهربوا خشية من مواجهة الوهابيين فاضطر عابدين بك إلى التوقف بانتظار تعزيزات جديدة.
    كان لهذه الهزيمة الأخيرة آثار محبطة على معنويات الجنود الأتراك سيما وأن عابدين بك يتمتع بشهرة واسعة لشجاعته ومهارته الحربية فضلاً عن أن مشاته وفرسانه هم الأفضل في القوات التركية. ومن الطبيعي أن تؤدي هزيمته إلى انتشار قناعة بين الجنود الأتراك بأن المقاومة ضد عدو هائل العدد والعدة كالوهابيين هي مقاومة عابثة، ولم يكن ثمة أي جندي في القوات التركية لا يحن إلى أيام الرخاء والراحة في مصر. ولأن الأتراك يدركون أكثر من سواهم من الشعوب الحاجة إلى الصمود والشجاعة في الأوقات العصيبة، فقد وصفوا الهزيمة بأنها نصر مبين لأن فرسان عابدين بك أحضروا معهم زهاء ستين رأس وهابي إلى الطائف… وبينما كان جنود الأتراك يرتجفون ذعراً داخل أسوار الطائف أطلقت المدافع في جدة ابتهاجاً بانتصار مزعوم كما أضيئت شوارع القاهرة طيلة ثلاثة أيام احتفالاً بانتصار عابدين بك(3).


    (1) الحجيج الشامي يشمل عادة الحجاج الأتراك والحجاج الأوروبيين الذين أسلموا في أقطار البلقان كما يشمل حجاج شعوب القفقاس وبعض الحجاج من وسط آسيا فضلاً عن حجاج سورية الطبيعية.

    (2) الطوخ أو التوغ باللغة التركية هو ذيل الحصان وكانت الباشوية في العاهلية العثمانية ثلاث درجات: باشا وباشا طوخين وباشا بثلاثة أطواخ وهي أعلى رتبة. وتعلق ذيول الخيل على خشبة مخصصة لذلك يحملها جندي ويمشي أمام الباشا للدلالة على رتبته خاصة في المناسبات الرسمية.

    (3) من غير المعقول أن يملك محمد علي ناصية الفن الدعاوي والإعلامي والعلاقات العامة على هذا النحو في مطلع القرن التاسع عشر.


    أنتهى الفصل الثالث عشر
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty الفصل الرابع عشر

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي السبت 30 مايو - 21:22

    الفصل الرابع عشر: تتمة الحرب ضد الوهابيين وسط الجزيرة العربية 1814-1840

    بعد الهزيمة التي مني بها عابدين بك وصلت تعزيزات جديدة من الفرسان من القاهرة بعد أن تم تجنيد عدد من الفرسان من القبائل البدوية في ليبيا التي تضرب خيامها في فصل الصيف في وادي النيل. وقد جند إبراهيم باشا (ابن محمد علي) ثمانمائة فارس منهم وأرسلهم إلى الحجاز. ولأن أولئك الفرسان من البدو فقد كانوا معتادين على طريقة الحرب المألوفة لدى الوهابيين. وكانت خيولهم مدربة مثلهم على المشاق، واصطحب كل فارس منهم معه جملاً يحمل إمداداته الشخصية في الرحلة الطويلة إلى الحجاز. وانضم نصف أولئك الفرسان الليبيين إلى طوسون باشا في طريقه إلى المدينة بينما واصل نصفهم الآخر الطريق إلى الطائف. وما إن وصلوا إليها حتى شرعوا بالغارات ضد القبائل الموالية للوهابيين إلى الشرق من تربة وبإرشاد أدلاء من بدو الحجاز. وكان الفرسان الليبيون مسلحين جيداً وشاعت شهرتهم بدقة الرماية. وفي إحدى غاراتهم أحضروا معهم غنيمة كبرى وهي ثمانية آلاف شاة من معسكر وهابي.
    وصلت قوافل الحجيج في تشرين الثاني (نوفمبر) من سورية ومصر. ومع قافلة الحجيج الشامي وصل ثلاثة آلاف جمل اشتراها وكلاء محمد علي من بدو سورية. وألف جمل آخر استولى عليها طوسون أو اشتراها من القوافل العابرة. وأحضرت قافلة الحجيج المصري معها كذلك (2.500) جمل بالإضافة إلى تعزيزات عسكرية جديدة قوامها ألف فارس تركي. ولحاجة الباشا إلى الجمال للأهداف العسكرية أبقى الجمال كلها في مكة وأعاد المحمل بعد انتهاء الحج إلى السويس بحراً.
    وحضر الباشا من الطائف للمشاركة في مناسك الحج ومقابلة (سليمان باشا) أمير الحجيج الشامي للمرة الثانية على التوالي. وكانت زوجة محمد علي (والدة طوسون) وهي المفضلة لديه قد حضرت للحج. وكان ركبها وحاشيتها في غاية الروعة فقد حمل متاعها من جدة إلى مكة أربعمائة جمل وكانت خيمتها التي نصبت عند سفح جبل عرفات مهيبة ومبهجة المنظر سواء في شكلها أو حجمها وكأنها ترمز إلى ثروات مصر. وحضر إلى الحج ذلك العام أيضاً عدد من كبار الشخصيات والمسؤولين في الأستانة، وشارك في مناسك الحج زهاء ثمانين ألف شخص من كافة المنابت والأصول. بعد انتهاء المناسك بقيت القافلة الشامية بضعة أيام في مكة لكن محمد علي أخر عودتها عشرة أيام إضافة لاستخدام جمال القافلة في نقل الإمدادات بين جدة ومكة.
    بعد أن جمع قواته بين مكة والطائف وأصبحت حالة مخازنه وعدد جماله تدعو للتفاؤل أعلن أنه سيقود الجيش بنفسه هذه المرة، فارتفعت معنويات الجند إلى درجة ما.
    وفكر الباشا بمهاجمة تربة كهدف أول وقد جهّز (12) مدفعاً لهذه الغاية وهو ما طمأن الجنود ودفعهم للاعتقاد بأن أسوار تربة لن تصمد طويلاً أمام قذائف المدفعية وأن أحداً منهم لن يضطر لتسلق الأسوار تحت وابل النيران كما حدث عندما قام طوسون بهجومه على تربة. ووزع الباشا خمسمائة فأس لاستخدامها في قطع أشجار النخيل التي تعيق القوات التركية في تقدمها نحو تربة. كما التحق بالحملة عشرون بناءً معمارياً وعدد كبير من النجارين والفنيين لزرع الألغام التي ستفجر العدو وتحصيناته. وفي سبيل طمأنة الجنود بنجاح الحملة ورفع معنوياتهم أكثر، تم إحضار عدة أكياس من بذور البطيخ من وادي فاطمة(1) واستعرضت تلك الأكياس في شوارع مكة بحماس وأبهة. وكان الباشا قد أعلن أنه سيزرع بذور البطيخ في تربة بعد تدميرها. غير أن هذه الاستعدادات الباهظة جعلت الجنود يدركون أن احتلال تربة لن يكون بمثابة نزهة، ولو كان الأمر كذلك لما قام الباشا بكل تلك الاستعدادات.
    وفي محاولة إضافية لتشجيع الجنود تم اعتقال (13) بدوياً في الطريق بين مكة وجدة واتهموا بأنهم لصوص وهابيون (رغم ما ثبت بعد ذلك أنهم ذهبوا إلى جدة لشراء ما يلزمهم) وتمّ إعدامهم بقطع الرأس في ساحة خارج مكة أمام حشد غفير من الناس.
    بعد هذه التضحية البشرية الظالمة وبعد الانتهاء من الاستعدادات والتجهيزات للهجوم على تربة الذي سيقرر مصير الحملة المصرية في الحجاز بأسرها، انطلق أحمد بونابرت من مكة وبرفقته القسم الأكبر من المشاة، واتسم تحرك قواته بالفخامة والهيبة في الخامس عشر من كانون الأول (ديسمبر) 1814. وكان الباشا سيلحق به مع ألف ومائتي فارس في الرابع والعشرين من الشهر المذكور عندما وصلت معلومات تفيد أن ثمة قوة وهابية ضخمة قد شوهدت قرب قنفذة باتجاه جدّة. وأثارت هذه المعلومات ذعراً كبيراً فأمر الباشا بإرسال كشافة من البدو للحصول على معلومات إضافية بينما ساد الاضطراب في جدة لأن الوهابيين حتى ولو لم يستطيعوا احتلالها فإنهم سيقطعون الطريق والاتصالات بينها وبني مكة. وشحت المياه لبعض الوقت في جدة لأن القوات التركية سارعت إلى ردم الآبار القريبة بحيث اضطر السكان لإحضار حاجاتهم من الماء من آبار تبعد زهاء ثلاث ساعات، وارتفعت الأسعار في جدة بنسبة 30% ثم اطمأنت النفوس وتبددت المخاوف بعد أن تكشفت الحقيقة وهي أن طامي مع مفرزة من جنوده قد نصبوا خيامهم قرب قنفذة وهذا كلّ ما في الأمر.
    بعد بضعة أيام وصلت أخبار جديدة وهي أن قبائل زهران الوهابية قد هاجمت القبائل البدوية المتحالفة مع الباشا ودمرت وسلبت محصنة توجد فيها حامية من الأرناؤوط، وأن تربة في حالة استعداد كامل والتعزيزات تصل إليها من كل الجهات للدفاع عنها ضد الهجوم التركي المتوقع.
    وفي السابع من كانون الأول (يناير) 1815 انطلق محمد علي من مكة على رأس قواته وجماله للالتقاء بقوات كل من حسن باشا وعابدين بك ومحيو بك وأحمد بونابرت وطوبوس أوغلو والشريف راجح ورؤساء الجيش الآخرين في نقطة تجمع اتفق عليها وتم شحنها بإمدادات تكفي خمسين يوماً على الأقل. وعندما وصل إلى زيما وهي المحطة التالية على الطريق من مكة إلى الطائف تلقى معلومات مستعجلة، وهي أن قوة كبيرة من الوهابيين تتقدم نحو قبيلة عتيبة المتحالف معه. فأسرع محمد علي في سيره وأرسل الشريف راجحاً مع جنوده البدو والفرسان الليبيين لدعم ومساندة قبيلة عتيبة. واكتشف الباشا أن الوهابيين يملكون عدة أبار مياه أحسنوا إخفاءها وتمويهها بينما كان الجنود الأتراك يحملون حاجتهم من المياه معهم على ظهور الجمال. وكان التقدير المبدئي أن القوة الوهابية تتألف من (25) ألف مقاتل وخمسة آلاف جمل لكنها تفتقر إلى سلاح المدفعية، وكان كافة الشيوخ والزعماء في جبال اليمن والسهول الجنوبية الشرقية مع الجيش الوهابي الذي يقوده فيصل ابن سعود. وقد ظن الوهابيون أن القيام بغارة على قنفذة سيربك الباشا ويصرف نظره عن المصدر أو الوجهة الرئيسية للهجوم، مما يتيح للوهابيين مهاجمة الأتراك من الخلف وإرباك خطوطهم. وهكذا عندما تقدم فرسان الباشا ظل الوهابيون في مواقعهم فوق الجبال وحاولوا صد تقدم الأتراك عبر واد كان الباشا يريد وضع مدفع فيه. ومضى اليوم التالي بأسره في اشتباكات متقطعة بينما يحاول الأتراك تثبيت المدفع في الموقع المناسب.
    ورغم أن الاشتباكات لم تسفر إلا عن عدد قليل من القتلى، بدأ الأتراك يقنطون من النجاح بينما كان الوهابيون يأملون بإضعاف الأتراك تدريجياً ثم تدمير القوة التركية وإبادتها. وخشية من هكذا نتيجة فقد فر عدد من الجنود الأتراك والبدو المنضوين تحت لواء الباشا وعادوا إلى مكة. وتبريراً لفرارهم زعموا أن الباشا مني بالهزيمة وأنه سقط في المعركة. ويقول بير كهارت الذي صدف أن كان في مكة آنذاك:
    "من الصعب وصف الذعر الذي انتشر في مكة نتيجة ما أشاعه أولئك الجنود والبدو الذين فروا من قوات الباشا خشية من الوهابيين. فالكثير من الحجاج الأتراك والمصريين وحتى التجار كانوا على قناعة بأن مصيرهم الموت إذا وصل الوهابيون إلى مكة، فارتفعت الأسعار حتى بلغت أجرة الجمال لنقل شخص من مكة إلى جدة أربعمائة قرش لكن البدو الذين يملكون الجمال انتقلوا بها إلى الجبال حال سماعهم بهزيمة الباشا، كما أن الكثيرين غادروا مكة سيراً على الأقدام في ذلك المساء ووجهتهم جدة رغم طول المسافة ووعورة الطريق. بينما احتمى بعض الناس في القلعة مع الحامية التركية بعد أن ارتدوا ملابس رثة كالبدو حتى لا يظهروا بمظهر الغرباء. والعجيب أن أحداً لم يفكر في الاستعداد للدفاع، بل أن الشريف يحيى نفسه ورغم أنه لم يتلق أي تقرير رسمي من الباشا فقد هيأ نفسه للانسحاب إلى جدة. أما بالنسبة لي فكنت على قناعة بأنه في حالة هزيمة الباشا فإن قوات الوهابيين الخفيفة (أي الفرسان والهجانة) ستقطع طريق جدة بكل تأكيد وتقضي على كافة الهاربين إليها من مكة إذا صادفتهم. ولذلك قررت أن أكثر الأمكنة أماناً هو الحرم الذي يحترمه الوهابيون. فوضعت في حقيبة صغيرة حاجياتي وبعض البسكوت وذهبت إلى الحرم بمرافقة عبدي، حيث وجدت الكثير من الحجاج الفقراء قد سبقوني وأقاموا هناك لنفس الهدف وهو الاحتماء ببيت الله… كان باستطاعتي الاكتفاء بالبسكوت وبعض الماء من زمزم بضعة أسابيع. بينما لاحظت أن الأتراك لم يحضروا معهم شيئاً للطعام وذلك ربما لاعتقادهم بأن الوهابيون إذا دخلوا مكة منتصرين فإنهم لن يقيموا وزناً لقدسية الحرم… وفي اليوم التالي تبين أن توقعاتنا ومخاوفنا لم يكن لها أساس فعند الظهيرة أتت البشائر المؤكدة بأن الباشا أوقع هزيمة ساحقة بالوهابيين"(2).
    لقد أدرك محمد علي أن حملته لم تنجح طالما ظل الوهابيون فوق الجبال وكان يدرك في نفس الوقت أنه إذا لم يحرز انتصاراً حاسماً عليهم فإنه لن يخسر مركزه ومنصبه في الحجاز فقط وبل في مصر أيضاً. ولذلك أرسل مبعوثين خلال الليل لاستدعاء التعزيزات من عدة أماكن. وأمر ألفي جندي مشاة معززين بالمدفعية لاتخاذ مواقعهم على جناح الوهابيين. وفي ساعة مبكرة من صباح اليوم التالي جدد الهجوم بمفارز الفرسان لكن الوهابيين صدوا الهجوم. وعند ذلك اجتمع بضباطه وأمرهم أن يتقدموا بقواتهم إلى أقرب نقطة من الوهابيين وبعد إطلاق البنادق والمدافع أن يتراجعوا على غير انتظام وكأنهم هاربون من هزيمة محققة. وقام الضباط بتنفيذ الخطة بكل دقة وعندما رأى الوهابيون انسحاب القوات التركية على غير انتظام، اعتقدوا أن الفرصة أصبحت سانحة لتدمير القوات التركية، فتركوا معاقلهم الجبلية وبدأوا في مطاردة الأتراك في السهل. وكان الباشا يتوقع ذلك وينتظره وعندما أصبحت المسافة بين الوهابيين والجبال بعيدة نسبياً قاد فرسانه هجوماً معاكساً وسرعان ما حسمت المعركة لصالحهم.
    قام المشاة الأتراك بتطويق الوهابيين. عندما وصل الشريف راجح مع قواته بعد أن صد هجوم العدو البسيط على عتيبة طلب منه محمد علي إغلاق الوادي الذي سينسحب منه الوهابيون فتحرك مع قواته فوراً وأرغمهم على التراجع من الوادي على غير انتظام. وأعلن محمد علي لقواته أنه سيدفع ستة دنانير لرأس كل وهابي، وخلال بضع ساعات تكدس أمامه خمسة آلاف رأس وهابي. وفي واد ضيق طوق الأتراك زهاء خمسمائة وهابي وأعملوا فيهم السيف وغنم الباشا معسكر الوهابيين وكل ما فيه وخاصة الجمال.
    أسر الأتراك في المعركة زهاء ثلاثمائة وهابي أعطاهم محمد علي الأمان. بينما واصل الشريف راجح مع قواته مطاردة فلول العدو وانضم إلى قوات الشريف راجح الكثير من البدو في المنطقة.
    لقد قاد الباشا بنفسه المعركة وكان من شأن ذلك أن ارتفعت معنويات جنوده كثيراً. وكان في ملابسه العسكرية يصعب تمييزه عن جنوده وضباطه بعكس الشريف راجح الذي كان يرتدي ملابس أنيقة ويمتطي جواداً أدهم وبيده رمح طويل ويسير في مقدمة الجيش أي في مقدمة الأتراك، ويقتحم صفوف العدو رابط الجأش لدرجة أن وصل إلى خيمة فيصل قائد الوهابيين لكنه لم يجده فيها عند ذلك هجم عدد من الوهابيين على الشريف راجح فاستل سيفه ودافع عن نفسه بإقدام منقطع النظير إلى أن أنقذه عدد من فرسان الأتراك.. وإذا استثنينا الجمال فلم تكن الغنيمة ثمينة. ووجد الشريف راجح في خيمة فيصل زهاء ألفي دينار.. وحدثت مشاجرات بين جنود الأتراك وبين حلفائهم البدو الذين كانوا يرافقون راجحاً فيما يتعلق بقسمة الغنائم وكان الباشا يميل إلى جانب البدو ويفضلهم على جنوده ولذلك استأثر البدو بمعظم الجمال. وكانت خسائر الباشا تتراوح بين الأربعمئة والخمسمئة قتيل.
    ولا شك أن السبب الرئيسي في هزيمة الوهابيين في تلك المعركة هو هبوطها من معاقلهم في الجبال والقتال في السهل حيث لا يملكون وسيلة لمقاومة الفرسان الأتراك المدججين بالدروع والسلاح، والماهرين في القتال، وكان سعود قد نصح أولاده قبل وفاته بعدم الدخول في معركة مع الأتراك في أراضٍ مكشوفة لكن رغبة الوهابيين في تدمير الحملة التركية والخدعة التي تعرضوا لها ورغبتهم في أسر أو قتل محمد علي نفسه جعلتهم ينسون طريقة القتال التي ألفوها واعتادوها. ولا شك أنهم فوجئوا لدى تخليهم عن مواقعهم في الجبال بقوة فرسان محمد علي وسرعة قواته في إعادة تنظيم نفسها وأسقط في روعهم ولم يعودوا قادرين حتى على الدفاع عن أنفسهم.
    انطلق المبعوثون فوراً إلى الأستانة والقاهرة يحملون بشائر النصر، وابتهج الأتراك في كل مكان. وفي غضون ذلك ورغم أن الحجازيين لأنهم لن يتعرضوا بعد الآن للتهديد الوهابي لكنهم حزنوا على آلاف العرب الوهابيين الذين قتلهم الأتراك كما استاؤوا من القساوة والصرامة التي أظهرها الأتراك(3) خلال وبعد المعركة. وأرسل محمد علي الثلاثمائة أسير الذين أعطاهم الأمان إلى مكة، واحتفل بانتصاره بأن ثبت خمسين أسيراً منهم على خوازيق خشبية أمام أبواب مكة (تجدر الإشارة إلى أن التثبيت على الخازوق هو أشد أنواع الإعدام قساوة ووحشية عند العثمانيين. وكان ثمة جلادون متخّصصون في ذلك، حيث يتم إدخال خازوق خشبي طوله ثلاثة أمتار في مؤخرة المحكوم، ويقوم الجلاد بدق الخازوق بمطرقة خاصة حتى يبرز طرفه من كتف المحكوم، وبعد ذلك يعلّق المحكوم بهذا الشكل إما أفقيا أو عموديا وغالباً ما يكون على قيد الحياة. ويكابد آلاماً فظيعة حتى يلفظ أنفاسه بعد يوم أو يومين – المترجم -) كما تم تثبيت (12) أسيراً آخر على خوازيق نصبت أمام المقاهي وأماكن الاستراحة على الطريق بين مكة وجدة، التهمت جثثهم بعد ذلك الكلاب والطيور الجارحة.
    بعد أربعة أيام على المعركة وصل محمد علي إلى تربا، التي غادرها فيصل حال سماعه باقتراب الباشا، واستسلم سكان تربا نتيجة انسحاب الوهابيين أمام القوات التركية فأقام الباشا مركز قيادته في تربا بينما بدأ الجنود الأتراك ينهبون الأهالي ويخطفون النساء لكن الباشا أمر بإعادة الفتيات إلى ذويهن حالما سمع بذلك. أما (غالية) الساحرة الشهيرة التي كانت مصدر رعب الجنود الأتراك فقد فرّت من تربا وأقامت بين البدو لقناعتها بأن محمد علي في حالة القبض عليها سيرسلها إلى الأستانة كتحفة يرضي بها الباب العالي رغم ما أرسله الباشا لها من وعود بأنه سيعفو عنها في حالة عودتها.
    ولأن الباشا ليس من النوع الذي يسكره الانتصار، فقد أرسل الشريف يحيى ليسبقه مع جنوده البدو إلى قنفذة بينما انضمت إليه تعزيزات جديدة وهي قوات محيو. وأرسل الباشا أوامره إلى جدة وطلب من المسؤولين فيها إرسال شحنات من الإمدادات إلى قنفذة. ولأن قوة الوهابيين آنذاك أصبحت تتركز في المناطق الجنوبية فقد قرر نقل الحرب إلى تلك المناطق والقضاء على الوهابيين والوهابية نهائياً. وتم إرسال إمدادات على ظهور خمسة آلاف جمل.
    وتقدم الجيش الرئيسي أيضاً من تربا باتجاه الجنوب نحو رانيا وبعد مسيرة أربعة أشواط من هناك وصلت القوات المدججة بالسلاح والمدافع إلى منطقة البيشا وهي عبارة عن واد خاص يعود لقبيلة بني سليم التي يعتبر زعيمها (ابن شقبان) أحد كبار قادة الوهابيين. ويوجد في تلك المنطقة قلعتان صغيرتان سبق أن بنيتا بناء على أوامر سعود.
    أقام الجيش زهاء أسبوعين في البيشة وهي من أهم المواقع إلى الشرق من جبال اليمن ولذلك اعتاد بدو الشمال على تسميتها (مفتاح اليمن) وفي غضون الأسبوعين التحق بجيش الباشا الكثيرون من البدو وخاصة أولئك الذين كانوا يشعرون بالاستياء من الوهابيين والشيوخ الذين عزلهم الوهابيون عن زعامة (مشيخة) قبائلهم. وبدأ محمد علي باشا يقلد أسلوب سعود وذلك بتغيير شيوخ وزعامات القبائل بشيوخ وزعماء جدد من نفس تلك القبائل بحيث أوجد حزباً قوياً ومؤيداً له بين صفوف القبائل. وفي أثناء إقامته في البيشة بلغته الأخبار بأن طامي أعاد تجميع وحشد قوة معتبرة في الجبال وأنه سوف يخوض القتال مرة ثانية في الوقت المناسب. فقرر محمد علي توجيه سير قواته نحو الغرب باتجاه معاقل طامي وقواته.
    وفي الطريق لمقاتلة طامي وقواته، عانى جيش الباشا كثيراً من الجوع والإرهاق، وكان نصف الجمال قد نفقت قبل وصولها إلى البيشة كما نفق الكثير من الخيول وقامت طليعة القوات التركية بمهمة تنظيف الطريق من الحشائش أو أية مواد تصلح علفاً للمطايا بحيث لا تجد أية قوة معادية تتبع القوات التركية، شيئاً سوى صحراء بلقع. ولدى اقتراب الأتراك، هرب البدو في كل الاتجاهات حاملين مواشيهم ومؤونتهم، بينما قام البدو المنضوون تحت لواء الباشا باستغلال الفرصة وسل القرى والبلدات المجاورة.. وفي كل توقف للراحة يأمر الباشا بذبح الجمال الموشكة على الموت فتطبخ لحومها ويأكلها الجنود بنهم. أما الإمدادات من الخبز فقد انتهت في البيشة وطلب القادة من الجنود تدبر شؤون مؤونتهم بأنفسهم ووجد الباشا آنذاك أن ثمة ضرورة تستدعي زيادة رواتب الجنود قرشاً واحداً كل يوم غير أن تلك القروش لم يكن لها أي فائدة في تلك المنطقة لارتفاع ثمن القمح فيها.
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل الرابع عشر

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي السبت 30 مايو - 21:28

    بعد مسيرة يومين من البيشة، دخلت القوات التركية إلى المنطقة الجبلية التي هجرها كافة سكانها تقريبا. واستمتع الأتراك ببضعة أيام من الراحة. لكن الخيول كانت تتساقط أعياء لدرجة أن مائة حصان نفقت في يوم واحد، وانتشرت مشاعر الاستياء في أواسط الجند، غير أنه كان من الواضح أن تراجعهم يعني فناؤهم وتدميرهم ولذلك واصلوا التقدم. وأصدر الباشا أوامره لقادة الجيش بالترجل عن صهوات خيولهم والسير على أقدامهم كل واحد منهم في مقدمة الفرقة التي يقودها. بينما وعد الجنود بغنائم كثيرة من أسلاب البلدات اليمنية وذلك حتى يحافظ على معنوياتهم في أحسن حالاتها. وفي كل مرة تتوقف فيها القوات للراحة كان يعقد سوقاً أمام خيمته حيث يبيع فيها البدو المتحالفون معهم كل ما حملوه معهم عبر الطريق إلى جنوده. وكان الباشا يشرف على عمليات البيع والشراء بنفسه.
    وبالقرب من منطقة عسير الجبلية شكلت المسالك الوعرة عائقاً أمام تقدم ونقل المدافع عبرها. وكانت القوات التركية قد غادرت البيشة قبل (14) يوماً فتوقفت هنا قرب قلعة اسمها (طور) تقوم على تل يحيط به سلاسل جبلية، سبق أن بناها المدعو (أبو نقطة) سلف طامي. والقلعة قوية البنيان والأساسات يصعب اقتحامها. وقد حشد طامي في القلعة ما بين ثمانية إلى عشرة آلاف مقاتل، وما إن اقتربت قوات الباشا حتى بدأ العسيريون (نسبة إلى عسير) بالرماية المكثفة فسقط ثلاثمائة قتيل من القوات التركية. وشوهد طامي يمتطي جواداً في مقدمة قواته وينشد أناشيد وأهازيج الحرب تشجيعاً لرجاله وبعد أن تمكن الباشا من نصب المدافع في اليوم التالي وقصف العسيريين (الوهابيين) بشدة، فروا من ميدان المعركة وكان طامي آخر من انسحب. ووجد الأتراك في القلعة كميات وافرة من الإمدادات والذخائر والمدافع التي سبق للوهابيين أن استولوا عليها في قنفذة وكمية وافرة من البنادق التي تعمل بواسطة الفتيل والتي كانت موضع إعجاب وتقدير المقاتلين البدو.
    بعد هذه الرحلة والمهمات الشاقة التي اضطلع بها الجيش أعلن القادة للباشا رغبتهم في العودة إلى مكة. ولم يجد محمد علي طريقة لتهدئة خواطر قواته إلا بتعهده لهم بأنه سوف يعيدهم إلى مصر بالسرعة الممكنة وبدل المضي في تقدمه جنوباً اتجه إلى قنفذة. وكان طامي بعد انسحابه من قلعة (طور) في المعركة الأخيرة قد لجأ إلى جوار بلدة العريش واستجار بأحد الوجهاء. وفكر ذلك الوجيه ثم حزم أمره وقيد طامي بالسلاسل وأرسل موفداً إلى محمد علي يبلغه أن طامي مقيد بالسلاسل في منزله. أما لماذا فعل الوجيه ذلك العمل المشين لدى العرب عامة فقد أراد تخليص بلدته وأسرته من شرور القوات التركية وإعلان خضوعه من جهة أخرى. كان الشريف راجح آنذاك يجوب بقواته الجبال بحثاً عن طامي، فتلقى أمراً من محمد علي بالتوجه لاستلام الأسير طامي والتوجه به إلى قنفذة التي عادة إليها الجيش التركي ليجد كميات وافرة من الإمدادات قد وصلت من جدة بحرا.
    بعث محمد علي بعدة كتائب من رانيا لغزو زهران من الشرق، بينما تسلق محيو بك بقوة أخرى الجبال من الشرق. وبمناورة بارعة وضع عرب البخروج بين نارين وألحق بهم هزيمة ساحقة وأسر البخروج نفسه وأرسله مقيدا بالسلاسل إلى قنفذة. وبقي الباشا في قنفذة عدة أيام بينما كان أسيراه في خيمتين مجاورتين لخيمته وقد فرض طامي بسلوكه المتميز بأخلاق الفروسية، احترامه على الجنود، وكان الباشا يتجاذب معه أحياناً أطراف الحديث للتسلية وذلك كما يلعب النمر مع فريسته قبل القضاء عليها. لكن تصرفات طامي المتميزة بالكبرياء والاعتداء بالنفس لم تتح للباشا أن يسخر منه أو يشتفي به بل إنه وعده بالشفاعة له لدى السلطان حتى يعيش بقية عمره منفياً في البلقان. وطامي يمتلك قوى طبيعية هائلة، قصير ممتلئ له لحية بيضاء طويلة وعينان تقدحان شراراً يميل للسخرية بشكل عام لكنه يتصنع الوقار أمام الباشا ويرد على أسئلته باقتضاب. أما البخروج فعل العكس من ذلك فقد كان على قناعة بأن الباشا لن يعفو عنه ولا يرغب حتى برؤيته. وذات ليلة نام حراسه فزحف بهدوء حتى أمسك خنجراً أدخله في إحدى حلقات السلسلة المقيد بها وفتحها وتخلص بذلك من القيود وولى هارباً من المخيم، واستيقظ الجنود وطاردوه حتى استطاعوا الإمساك به بعد أن قتل اثنين منهم وجرح آخر. وفي اليوم التالي سأله الباشا: "بأي حق تقتل جنودي؟" فأجاب: "عندما لا أكون مقيداً… أعمل ما أشاء" وأطرق الباشا برأسه ورمقه بنظرات فتأجج غضبا فقال: "وأنا سأعمل مثلك!" وحتى يتسلى ضباطه وحرسه الشخصي ويشبع غريزته في الانتقام في نفس الوقت طلب وضعه مقيداً وسط حرسه الشخصي وأمرهم بطعنه طعنات خفيفة في كافة أنحاء جسده حتى يطول عذابه قبل الموت. وبدأ الحراس يتناوشونه بسيوفهم ورماحهم وهو يتلوى من الألم دون أن ينطق حرفاً إلى أن فارق الحياة حيث قطع رأسه وأرسل إلى القاهرة والأستانة مع طامي الذي تم قطع رأسه لدى وصوله إلى الأستانة(4).
    ومن قنفذة تحرك الباشا إلى مكة ووصل إليها في الحادي والعشرين من آذار أي بعد زهاء (16) يوما من مغادرته لها. ومن أصل آلاف الجمال التي انطلقت مع الجيش آخر مرة لم يعد منها إلى مكة سوى ثلاثمائة جمل أما البقية فقد نفقت في أثناء الحملة وهو ما دفع الباشا لإتلاف وتدمير الكثير من الإمدادات لعدم وجود وسائط لنقلها، ولم يعد إلى مكة من الخيول أيضا سوى ثلاثمائة فرس وحصان. ومن أصل الأربعة آلاف فارس وجندي الذين رافقوا الباشا عندما غادر مكة لم يعد سوى ألف وخمسمائة فارس وجندي، كانوا ضباطاً وجنوداً على السواء في ملابس رثة وإعياء شديد.
    وبناء على ما وعدهم به في قنفذة، سمح لكافة قواته بالانطلاق إلى جدة باستثناء حسن باشا الذي أبقاه في الحجاز على رأس بضع مئات من الأرناؤوط، وسرعان ما وصلت تعزيزات جديدة من مصر.
    في تلك الفترة وهنت قوة الوهابيين كثيرا وخاصة في الجنوب. فقد عاد عبد الله ابن سعود من القصيم إلى الدرعية لدى سماعه بالهزيمة التي ألحقها محمد علي بالوهابيين، وتوقع هجوماً جديداً منهم. أما الباشا فقد جمع الأشراف والعلماء والشيوخ في مكة وقرأ أمامهم الرسالة التي سيبعث بها إلى عبد الله بن سعود يعرض عليه الخضوع والاستسلام وشروط السلام ومن ذلك أن يعيد عبد الله الكنوز والذخائر التي استولى عليها والده من قبر الرسول (صلعم) في المدينة المنورة، وفي حالة معاكسة فإن الباشا سيتقدم بقواته إلى الدرعية ويستأصل الوهابيين. وأرسل الباشا الرسالة المذكورة إلى الدرعية مع جندي تركي يرافقه دليل بدوي.
    بعد إقامة قصيرة في مكة عين خلالها حسن باشا حاكماً عليها وكان قد ترك حسين بك –مع قواته- حاكماً على تربة، والشريف راجحاً حاكماً وقائداً لحامية البيشة. انطلق الباشا نحو المدينة المنورة فوصل إليها على نحو مفاجئ في الرابع عشر من نيسان (إبريل) مع زهاء خمسة وثلاثين حارساً شخصياً على ظهور الجمال.
    وكانت انتصارات محمد علي قد شاعت بين القبائل الشمالية. فاقترح عدد من شيوخ تلك القبائل على طوسون باشا الذي كان في المدينة (المنورة) آنذاك أن ينضموا مع مقاتليهم إليه ضد الوهابيين الذين كانت لهم بعض السيطرة على القبائل الشمالية حتى ذلك الوقت. وفي شهر آذار حذر معظم شيوخ قبائل القصيم واحداً تلو الآخر إلى المدينة (المنورة) وأكدوا لطوسون باشا استعدادهم لمساعدته ونصرته. ووزع طوسون باشا الهدايا عليهم وأرسل معهم زهاء أربعمائة فارس لحماية بعض قرى القصيم. بينما بدأ يفكر بغزو نجد وبغض النظر عن شجاعته التي أثبتها في المعارك غير مرة فقد لازم النحس (أو سوء الطالع) كافة حملاته في الحجاز. وأصبح يفكر في تقليد والده وتحقيق شيء من الأمجاد، لكنه لم يحسب جيداً وسائل تحقيق رغبته. ذلك أن والده لم يكن يأتمنه على مبالغ كبيرة من المال لأنه يعرف مدى إسرافه وكرمه وربما كان محمد علي لا يريد أن تنفق الأموال أو توزع إلا عن طريقه. وهكذا كان طوسون باشا بحاجة ماسة للجمال والإمدادات، وقرر أن يجرب حظه فغادر المدينة أواخر شهر آذار وانطلق إلى الحناكية وهي قرية مدمرة لها أسوار تقيم فيها قبيلة عنيزة على مسيرة ثلاثة أيام من المدينة باتجاه القصيم. وكان برفقته زهاء أربعمائة جمل تحمل الإمدادات، ومائتين وخمسين فارساً وأربعمائة جندي مشاة. ولحق به بضع مئات من البدو المتطوعين وخاصة من قبيلتي حرب ومطير.
    أقام في الحناكية بعض الوقت وكان ما يزال فيها عندما وصل والده إلى المدينة (المنورة). وربما كان السبب الذي دفع محمد علي لزيارة المدينة رغبته في الحصول على معلومات عن الحجاز الشمالي من جهة وزيارة قبر الرسول من جهة أخرى. وسرعان ما أمر طوسون بالعودة من الحناكية لأنه يريد التشاور معه. لكن طوسون كان قد صمم على مواصلة الحملة وحالما تلقى أوامر والده انطلق إلى القصيم مع قواته بد العودة إلى المدينة حسب أوامر والده. وكان طوسون يحمل رتبة باشا (ثلاثة توغ) أي نفس رتبة والده، وربما ظن أنه ندّ لوالده ويحق له اتخاذ قراراته بنفسه. أما فيما يتعلق بالضرائب والرسوم في ميناء جدة وهي من حق الشريف لكن محمد علي أوقفها عن الأشراف وخصصها إلى ابنه طوسون فقد صدر فرمان همايوني من الباب العالي بتخصيص ضرائب ورسوم جدة لتغطية نفقات حرب محمد علي. وبالتالي أصبح طوسون يتلقى مبالغ ضئيلة من هذه الرسوم مثله في ذلك مثل بقية قادة الجيش وعلى نحو يومي. وعندما عين الباشا ابنه طوسون حاكماً أو قائداً عاماً في شمال الحجاز فقد بعث معه رجلاً يثق به وطلب من طوسون أن ينيط به كافة المهمات والمعاملات المالية وأن يشاوره بكل شيء وكان الباشا كان يعتقد بأن ابنه ليس جديراً برتبته ولا منصبه.
    وما إن وصل طوسون إلى المدينة برفقة المراقب الذي عينه والده حتى كثرت الخلافات والملابسات بينهما وأمر طوسون في فورة غضب بقطع رأس المراقب. وسادت الفوضى والارتباك في الإدارة والدوائر بعد ذلك. ولم يكن ثمة من يستطيع إدارة شؤون الأتراك مع العرب المجاورين بشكل رديء بل أن بعض الجنود لجأوا إلى السلب والنهب. ولحاجة طوسون إلى الجمال فقد استولى على كافة الجمال التي وجدها مع البدو. ولدى وصول محمد علي إلى المدينة (المنورة) وسماعه بما حدث بدأ في إصلاح أخطاء ابنه وترضية الخواطر، لكنه في نفس الوقت أرسل مائتين وخمسين فارساً بقيادة توماس كيث (أو إبراهيم آغا) للحاق بطوسون كما أرسل وراءه كتيبة من المشاة وصلت من ينبع بقيادة أحمد بونابرت وكانت هذه الكتيبة قد وصلت من القاهرة قبل بضعة أيام… وفي أوائل أيار (مايو) وبعد مسيرة عشرة أيام من المدينة وصل طوسون باشا أخيراً إلى منطقة القصيم. وخلال مسيرته هذه هاجم بدو الحطيم واستولى على خمسمائة جمل منهم أرسلها إلى المدينة حتى تحضر الإمدادات له من ينبع. وعندما وصل إلى (الرّس) إحدى البلدات الرئيسية في القصيم ويحيط به سور قوي انضم إليه الفرسان الذين كانوا قد سبقوه كما انضم إليه عدد من شيوخ قبائل القصيم.
    في غضون ذلك وصل عبد الله ابن مسعود مع جيشه الذي يتألف من بدو وفلاحي نجد، إلى القصيم. وأقام مقر قيادته على بعد خمس ساعات فقط من (الخبرا) حيث أقام طوسون باشا مخيمه. وهكذا وجد طوسون نفسه في وضع غير مستقر.
    سمع طوسون بالأخبار المؤسفة وهي أن الوهابيين حاصروا توماس كيث (أو إبراهيم آغا) مع فرسانه وهو في الطريق إليه ورغم المقاومة الباسلة التي أبداها الفرسان الأتراك وقائدهم السكوتلندي فقد قتلوا عن بكرة أبيهم. ولا شك أن منطقة القصيم الخصبة توفر الإمدادات لجيش أكبر من جيشه، غير أن وحدات الوهابيين الخفيفة من الفرسان كانت تحيط بالقوات التركية التي تعتمد في إمداداتها على ثلاث قوى متباعدة، وهذا يعني أن الإمدادات ستتقلص بالتدريج، بينما احتل الوهابيون الطريق إلى المدينة وبالتالي لم يعد في وسع طوسون تلقي أية معلومات فيما يتعلق بخطط والده إزاء هذا الوضع. ولم يكن يثق بحلفائه من البدو لقناعته بأنهم سينضمون إلى الجانب الآخر بعد أول هزيمة يمنى بها. وفكر بأن يضع حداً لذلك الوضع المتوتر وذلك بالدخول في معركة، غير أن ضباطه وجنوده لم يكونوا على استعداد لخوض معركة يعرفون نتائجها سلفاً هذا فضلاً عن أن الأعداد الغفيرة للوهابيين أفزعتهم وروعتهم لدرجة آمنوا معها بأن أحداً منهم لن يسلم أو يستطيع الهرب في حالة الهزيمة. وبالتالي فإن الأفضل التفاوض مع العدو سيما وأن محمد علي باشا قد فوض ابنه بالتفاوض مع الوهابيين عند الضرورة بشروط مشرفة. واستعان عبد الله بن سعود ببدوي يدعى (حباب) أرسله مبعوثاً إلى طوسون حتى يعرفه خططه وموقفه.
    وصل حباب إلى مخيم طوسون فاستقبله هذا بالترحيب ثم أرسل يحيى أفندي وهو سوري يعمل طبيباً خاصاً لطوسون ويتحدث العربية أفضل من أي تركي، للتفاوض مع عبد الله. وحمل يحيى أفندي معه بعض الهدايا وبقي في مخيم الوهابيين ثلاثة أيام. ولأن الطرفين راغبان في السلام نجحت المفاوضات وحضر أحد مرافقي عبد الله حتى يأخذ توقيع طوسون على اتفاقية خلاصتها: تنازل عبد الله عن كافة دعاويه بامتلاك المدن المقدسة وأنه يعترف بالسلطان العثماني في الأستانة ويقدم الخضوع له. ويحق له وللوهابيين المرور في المناطق الخاضعة لسيطرة الأتراك بما في ذلك حقهم في الحج والوصول إلى مكة والمدينة. بينما تنازل طوسون باشا عن بلدات القصيم التي احتلها وتعهد بأن يطرد كافة شيوخ بدو القصيم الذين انضموا إليه كما تنازل عن القبائل التي تقع مراعيهم وحقولهم وراء الحناكية، واحتفظ لنفسه فقط بالقبائل المقيمة بين الحناكية والمدينة المنورة والقبائل المجاورة للمدينتين المقدستين مكة والمدينة. ولم تتطرق الاتفاقية بشيء عن الوهابيين الجنوبيين، ونتيجة هذه الاتفاقية، قام عبد الله حال انسحاب طوسون بمعاقبة قبائل البدو التي انضمت إلى طوسون وعلى نحو خاص قبيلة مطير. ولأن الطرفين كانا يتوقعان الغدر من بعضهما البعض نشأت صعوبات بعد الاتفاقية بخصوص من يتعين عليه الانسحاب أولاً. وأخيراً وافق عبد الله ابن سعود أن يفكك مخيمه وينسحب أولاً شريطة أن يرسل له طوسون أربعة من كبار ضباطه يحتفظ بهم كرهائن إلى حين وصوله آمناً مع قواته إلى غايته، على أن يعيد الضباط بعد ذلك آمنين. غير أن طوسون في محاولة لإخفاء ضعفه رفض هذا الشرط وتراجع من الخبرا إلى الرس في نفس الوقت الذي بدأ فيه عبد الله تفكيك مخيمه… وبعد غيابه في القصيم (28) يوماً، عاد إلى المدينة في أواخر شهر حزيران (يونيو) 1815 وبرفقته وهابيان أرسلهما عبد الله لمقابلة محمد علي باشا، معهما بعض الهدايا ورسالة شخصية له وأخرى للسلطان العثماني في الأستانة.
    لكن طوسون لم يجد والده في المدينة. فبعد أن اقتنع محمد علي بأن مصادر ووسائل وإمدادات الحرب في هذه المناطق الشمالية من الحجاز لا تكفي لإنعاش آماله بانتصارات حاسمة، قرر أن يترك المهمة لابنه حتى لا يغامر بالسمعة والشهرة التي حققها بعد انتصاراته على الوهابيين في الجنوب.

    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل الرابع عشر

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي السبت 30 مايو - 21:47

    في أثناء غياب طوسون، لم يرسل له والده أي رسالة باستثناء أمره بالعودة، ولذلك كان يجهل ما يجري في المدينة والأماكن الأخرى. وفضلاً عن ذلك فإن محمد علي لم يترك ولا حتى قرش واحد، وهو ما اضطر طوسون لدى وصوله إلى المدينة للاقتراض من التجار حتى ينفق على نفسه وقواته. وربما كان ثمة سبب أكثر وجاهة هو الذي دفع محمد علي لمغادرة المدينة والحجاز بعد ذلك. ففي شهري شباط وآذار (فبراير ومارس) 1815 انتشرت شائعات في مصر بأن الأسطول العثماني سيرسو في ميناءي الإسكندرية ورشيد (روزيتا) وأن الأسطول أبحر من بحر مرمرة نحو الأرخبيل اليوناني (بحر إيجة) وقام نائب محمد علي في مصر بإرسال تعزيزات إلى الميناءين المذكورين وأرسل الموفدين بحراً وبراً لإبلاغ محمد علي في الحجاز بتلك التطورات.
    وفي التاسع عشر من أيار (مايو) تلقى (سالم آغا) حاكم ينبع رسالة مستعجلة من المدينة (المنورة) تتضمن أمر الباشا بإعداد سفينة على جناح السرعة للإبحار ذلك المساء. وفي صباح اليوم التالي وصل محمد علي وعدد من مرافقيه على ظهور الجمال إلى ينبع، ولم ينتظر مراسم الاستقبال ولم يفكر بالراحة بل صعد مع مرافقيه إلى ظهر السفينة وأمر القبطان بالإبحار فوراً… وقاد القبطان السفينة بمحاذاة الساحل كما هي العادة لكن الباشا أمره بالإبحار وسط البحر باتجاه ميناء القصير المصري رغم علمه بأن المياه العذبة في السفينة غير كافية.
    نزل الباشا في القصير ولم يجد فيها حصاناً أو جملاً فاضطر لامتطاء حمار عبر بواسطته الصحراء إلى الغرب باتجاه النيل وفي غضون ذلك تبددت احتمالات رسو الأسطول العاهلي (العثماني) في الإسكندرية فشعر الباشا بشيء من الراحة وواصل رحلته بتمهل نحو القاهرة التي وصلها في حزيران 1815 بعد غياب استغرق زهاء سنتين تأثرت خلالهما صحته كثيراً بسبب الطقس غير المناسب في صحاري الجزيرة العربية. ولم يكن يعرف بأن ابنه طوسون قد عقد صلحاً مع الوهابيين، لكنه في سبيل إشاعة الاطمئنان وحمل المواطنين على الاحتفال بعودته أشاع بأن طوسون احتل الدرعية وأباد الوهابيين.
    في شهر آب (أغسطس) بعد عودة محمد علي إلى مصر، ظهرت أعراض التمرد على معظم القوات التي رافقته في حملته إلى الجزيرة العربية. إذ أن قوات محيو وغيره من القادة بدأت تنهب القاهرة حتى اضطر الباشا للإقامة في القلعة. فالقوات التي سبق أن وعدهم وهم في الحجاز وعوداً براقة لدى عودتهم إلى القاهرة اكتشفوا أن ثمة تنظيمات جديدة ستصدر من شأنها تخفيض رواتبهم وزيادة مكابداتهم. كان الباشا يرغب في تطبيق النظام الجديد (يعني النظام العسكري الأوروبي) وهو النظام العسكري الذي طبقه السلطان فتعرض لمتاعب جمة بسببه. وعندما أوقف الجنود تمردهم لم يحاول محمد علي معاقبة زعمائهم. ويبدو أن الشهرة التي حققها في الحجاز قد غيرت تصرفاته. فالبشاشة والتودد للآخرين وهو ما كان يميزه عن الباشاوات الآخرين تحولت إلى عجرفة وتعالٍ على الآخرين. وبدل المؤسسة العسكرية البسيطة التي كان يرأسها بدأ يأخذ بأسباب الفخامة والأبهة كما احتكر كافة الصادرات والمستوردات لمصلحته وهو وما ألحق الضرر بالعمال والصناعيين.
    أما المبعوثان اللذان أرسلهما عبد الله ابن سعود مع طوسون باشا إلى المدينة المنورة فقد وصلا إلى القاهرة في شهر آب (أغسطس) خلال تمرد الجند. أحدهما يدعى عبد العزيز وهو قريب مؤسس المذهب الوهابي (محمد بن عبد الوهاب) والثاني ضابط في جيش سعود. وعرضا على محمد علي الاتفاقية التي وقعها سعود وطوسون. ولدى مغادرتهما القاهرة سلمهما الباشا رسالة إلى عبد الله تنطوي على غموض وإبهام سواء فيما يتعلق بالسلام أو بالحرب وقد عرض الباشا في رسالته استعداده للموافقة على الاتفاقية التي أبرمها ابنه شريطة أن يتنازل الوهابيون عن منطقة الاحساء وهي إحدى أكثر المناطق خصباً وأهمية في ممتلكاتهم.
    وهكذا أصبح من الواضح أن طوسون باشا قد خدع الوهابيين في القصيم أو أن محمد علي لا يحترم تعهدات ابنه ولا حتى تعهداته هو نفسه. ومن الطبيعي أن طوسون مثل والده، إذ أنه عقد اتفاقية تلزمه وتلزم قواته، واستفاد من الاتفاقية كثيراً لأنه أنقذ نفسه وقواته بواسطتها من هزيمة ودمار مؤكدين.
    كان محمد علي قلقاً ويسعى لتصوير المسألة للأستانة على نحو مختلف ذلك أنه تعهد للباب العالي بإبادة الوهابيين واحتلال الدرعية وبالتالي أصبح من الضروري إقناع السلطان بأنه لم يتخل عن هذا الحق وأن الاتفاقية التي عقدها ابنه مجرد هدنة مؤقتة أملتها الضرورات الحربية.
    في السابع من تشرين الثاني (نوفمبر) 1815 وصل طوسون باشا إلى القاهرة برفقة بضع مئات من الجنود. فبعد عودته إلى المدينة من القصيم عادت الاتصالات بين كافة أرجاء الحجاز وبين الوهابيين بحيث أصبحت القوافل تأتي من نجد إلى المدينة (المنورة) وإلى مكة. وفي الشهر التالي كانون الأول (ديسمبر) حضر الكثير من الوهابيين لأداء مناسك الحج، والحقيقة أن أحداً من قادة الأتراك لم يجهد نفسه ويظهر ذلك القدر من البسالة والإقدام مثل طوسون باشا خلال تلك الحرب، غير أن جهوده كانت فاشلة على الدوام أو في أحسن الحالات لم تكن ناجحة كما ينبغي. ومع ذلك تم استقباله في القاهرة باحتفالات كبيرة سواء لرتبته الرفيعة أو لشجاعته الذائعة الصيت، لكن عندما توجه لمقابلة والده في الإسكندرية استقبله والده بفتور(5).
    في أواخر عام 1815 حضر إلى القاهرة عدد من شيوخ القبائل في الحجاز وطلبوا حماية الباشا. وأولئك الشيوخ هم أقارب الشيخ الذي عينه محمد علي قائداً لبدو منطقة عسير بدلاً من الشيخ طامي. لكن عندما عاد الباشا إلى القاهرة قام أنصار الشيخ طامي بإرغام أولئك الشيوخ على الفرار ولم يكن باستطاعة حسن باشا مساعدتهم أو دعمهم ضد حزب الشيخ طامي الذي سبق أن أعدم في الأستانة كما أسلفنا. واستقبلهم محمد علي في القاهرة باحترام وترحيب ووزع عليهم بعض الهدايا وأعادهم إلى مكة. ولم يكن وضعه العسكري في ذلك الوقت يسمح له بإرسال أية قوات إضافية إلى الحجاز لانشغاله بالاستعدادات للدفاع عن الساحل المصري ضد هجوم إنكليزي محتمل. فقد سمع وهو في الحجاز عن اتفاقية السلام التي عقدت في باريس وسقوط نابليون بونابرت، وتشكلت لديه القناعة بأن إنكلترا سترسل جيشاً كبيراً من جنوب فرنسا إلى مصر وكان الباشا يعتقد بأن مصر هي مركز تفكير كافة القوى الأوروبية وفي طليعتها إنكلترا(6).
    وتجددت مخاوف الباشا من بريطانيا بعد اتفاقية باريس الثانية… وبعد بضعة أشهر تبددت مخاوفه فوجه أنظاره مرة أخرى إلى الحجاز فقرر إرسال حملة كبرى إلى الحجاز بقيادة ابنه إبراهيم باشا. وفي شهر كانون الثاني (يناير) 1816 بعث عدة رسائل إلى كافة شيوخ القبائل في الحجاز يخبرهم فيها بتحرك ابنه إبراهيم ويطالبهم بمساعدته ويؤكد لهم بأنه سيعود لزيارة مناطقهم بنفسه في أقرب فرصة لتتويج انتصاراته السابقة باحتلال الدرعية. ولم يتطرق في رسائله إلى الاتفاقية التي عقدها ابنه طوسون مع عبد الله ابن سعود سيما وأنه لم يتلق حتى ذلك الوقت رداً من عبد الله فيما يتعلق بمطالبته بمنطقة الأحساء.
    وفي شهر آذار (مارس) وصلت أخبار مزعجة من مكة بأن الاضطرابات اندلعت في الجنوب. وكانت مفارز الفرسان الأتراك في البيشة ورانيا وتربة قد انسحبت ولم يبق في تلك البلدات سوى البدو العاملين تحت إمرة الباشا واقتصرت حامية تربة على أولئك البدو بينما كان الوهابيون يزدادون قوة وعلى نحو يومي في تلك المناطق.
    انطلق إبراهيم باشا من القاهرة إلى الحجاز في شهر آب (أغسطس) 1816 وهدفه الرئيسي مهاجمة الدرعية بعد أن يصل إلى المدينة (المنورة) ومنها إلى القصيم. ورافقه زهاء ألفي جندي مشاة تم نقلهم من القصير إلى ينبع بحراً، وألف وخمسمائة فارس بدوي من ليبيا توجهوا إلى الحجاز براً. وكان إبراهيم باشا قد اختار أولئك الفرسان بنفسه من بين القبائل العربية شمال غرب النيل. ورافقه كذلك ضابطان فرنسيان أحدهما حارب مع نابليون في أوروبا وبعد سقوط نابليون هرب إلى مصر حيث استقبله محمد علي بترحيب كبير، وكان مع الضابطين الفرنسيين عدد من المهاجرين الفرنسيين الذين هربوا من فرنسا عام 1815 ونزلوا في مصر.
    لا شك أن الباشا تعلم كثيراً من حملات ابنه طوسون الفاشلة، ولذلك أمر ابنه إبراهيم بالامتناع عن القيام بأي عمل عسكري حتى يضمن حياد قبائل نجد ولم يتمكن من ذلك إلا في عام 1817 وعندئذ فقط أمر ابنه إبراهيم بالتحرك شرقاً. فحاصر الرس واستولى عليها بعد بضعة أشهر، وقبل أن يتجه إلى الدرعية عاصمة الوهابيين طلب من والده المزيد من التعزيزات فأرسل له سرايا من الفرسان والمشاة كما أرسل له مدافع جديدة وعند ذلك شن إبراهيم باشا هجومه الرئيسي فاحتل الدرعية ودمرها وأحرقها وحولها إلى أنقاض وأسر زعيم الوهابيين وبعث به إلى والده الذي بعثه بدوره إلى الأستانة وأمر السلطان محمود بإعدامه بالسيف. وواصل إبراهيم باشا تقدمه فاحتل الأحساء (المنطقة الشرقية) وفرض سيطرته الكاملة على نجد وأقام مقر قيادته في (بريدة) في القصيم. وهكذا خضعت نجد والحجاز أخيراً إلى السيطرة العسكرية المصرية. لكن محمد علي لم يشأ استنزاف موارده على ممتلكات صحراوية قاحلة، فأمر إبراهيم بالعودة إلى المدينة (المنورة) وحماية الحجاز. أما منطقة تهامة في اليمن التي احتلها الأتراك منذ عام 1813 وأعادوها إلى إمام اليمن فقد عادوا لاحتلالها وفرض سيطرتهم عليها عام 1832.
    بعد احتلال الحجاز ونجد على ذلك النحو صار المصريون يعينون محافظاً في مكة بينما كان العثمانيون(7) وفقاً للتقاليد القديمة يعينون والياً على جدة. وهكذا أصبح الشريف يحيى ابن سرور لا يملك حولاً ولا طولاً ولا يشارك في الإدارة الموزعة بين المحافظ في مكة والوالي في جدة وتقلص نفوذه كثيراً كما كان عليه الوضع قبل الحملات المصرية. بل إن المكيين أنفسهم أصبحوا يعتبرون الباشا المصري مصدر رزقهم وعماد النظام والقانون في الحجاز.
    وكان محمد علي قبل مغادرته أرض الحجاز قد أمر محافظ مكة الذي عينه، بالاعتماد على نصائح (أحمد ابن تركي) المكي وهو رجل مخادع وشديد المكر استخدمه الشريف غالب غير مرة في المهمات الخاصة. وبالتالي أصبح المحافظ المصري يستشير أحمد ابن تركي أكثر مما يستشير الشريف يحيى ابن سرور.
    حتى بعد وفاة أحمد ابن تركي عام 1820 ظل الباشا يستثني الشريف يحيى من الإدارة، وأخذ يستعين بالشريف شمبر من فرع أشراف العبادلة الذي وحد بنو زيد صفوفهم ضده. وفي أوائل عام 1827(Cool استطاع يحيى أن يغتال شمبر، وعاد إلى بيته مسرعاً حتى يستعد للدفاع عن نفسه ضد الباشا، لكنه عندما شاهد المدافع استسلم وتعهد بالسفر إلى مصر براً لكنه في الواقع لم يتجاوز صحراء قبيلة حرب.
    وقرر الباشا تعيين عبد المطلب ابن الشريف غالب الذي نفاه الأتراك إلى سالونيك عام 1815 وقد رحب المكيون بهذا القرار ولان يحيى كان مع قبيلة حرب وثمة احتمال في أن يهاجم مكة فقد حرص عبد المطلب على كسب تأييد ودعم القبائل قرب الطائف فأصبح الصدام شبه مؤكد إلى أن وصلت الأخبار بأن محمد علي باشا في مصر قد أمر بتعيين أحد أصدقائه شريفاً على مكة. وهو الشريف (محمد ابن عبد المعين ابن عون) الذي سبق أن ساعد القوات المصرية(9) قبل سنتين على تحرير عسير من الوهابيين، ويصفه ديدييه على النحو التالي: "الشريف محمد ابن عبد المعين رجل حكيم ومعتدل في كل شيء… دبلوماسي بطبيعته وسيم الطلعة يبلغ طوله خمسة أقدام وسبع بوصات… ذقنه بارز وأسنانه لامعة وجميلة وأكثر ما يميزه شعره المضفور في عدة جدائل طويلة" وعندما رآه ديدييه كان يرتدي عباءة متعددة الألوان وعمامة بيضاء وملابس أنيقة مزخرفة ويضع في وسطه خنجراً ذهبياً ويتدلى من خاصرته سيف فارسي على طريقة العثمانيين في تقلد السيوف وفي يده على الدوام عصا دقيقة معقوفة في طرفها وهي من النوع الذي يستعمله الهجانة لتسيير وتوجيه جمالهم. أما السيد بولتا الذي شاهده عام 1837 فيقول عنه:
    "لا يستطيع المرء إلا الاندهاش من اعتداد هذا الشريف بنفسه ووقاره ورغم أنه بدوي بطبيعته لكنه يتصرف بنبل أكثر من كافة الأتراك المحيطين به".
    ومن الواضح أن بولتا لا يعرف تاريخ هذه الأسر الشريفة. ولو عرف شيئاً عن تاريخ الأشراف لقلت دهشته. المهم أن الشريفين المتنافسين يحيى ابن سرور وعبد المطلب استاءا من التدخل المصري وقررا توحيد قواتهما. لكن مفرزة من الفرسان المصريين استطاعت أن تأسر يحيى عندما غادر الطائف. وتم إرساله إلى القاهرة حيث توفي فيها عام 1838.
    واستطاع الشريف الجديد محمد حشد القبائل حوله بواسطة الأموال التي وزّعها عليهم والتي زوده بها محمد علي عندما أرسله إلى الحجاز. وفي غضون ذلك بذل عبد المطلب جهده لجمع الأنصار والمؤيدين من رجال القبائل وبعض الأشراف وأتباعهم لكنه لم يوفق في مساعيه فرافق قافلة متجهة إلى دمشق عام 1831 ومن دمشق سافر إلى الأستانة.
    ما أن رسخ حكم محمد ابن عون حتى اتضح بأنه يسعى لتقوية مركزه في سبيل استقلال أوسع عن القاهرة. وقد ساعدته الظروف في ذلك. ففي عام 1841 قضت الكوليرا على الباشا المصري في الحجاز وتم تعيين خلف له ليجد نفسه في متاعب ومشاكل مع قواته غير النظامية الذين طالبوا برواتبهم ومستحقاتهم عن أشهر سابقة لم يدفعها سلفه.
    وفشل الباشا الجديد في السيطرة على الموقف وما إن اندلعت الاضطرابات حتى سافر إلى مصر، وعند ذلك نظم الشريف محمد قواته وهاجم الجنود الأتراك المتمردين وأرغمهم على العودة إلى جدة فقاموا بسلب المدينة وطاردتهم قوات الشريف داخل مدينة جدة فهربوا في كل الاتجاهات واستقروا بين القبائل بينما هرب بعضهم إلى الأقطار المجاورة.
    وفي عام 1833 قرر الشريف إخضاع البيشة وزهران وغامد وفرض سيطرته عليها لأنها كانت تتعرض لغارات متقطعة من العسيريين، ووصل مع قواته حتى حدود عسير لكنه لم يتلق الإمدادات والتعزيزات التي وعده بها أحمد باشا الممثل المصري في الحجاز. فعاد مع قواته غاضباً. وأرسل رسالة إلى محمد علي انتقد فيها سلوك أحمد باشا وحمله مسؤولية فشل حملته، بينما كتب أحمد باشا رسالة مماثلة انتقد فيها سلوك الشريف. فأصدر محمد علي أوامره إليهما بالمثول إلى القاهرة.
    بعد الاجتماع بهما وافق محمد علي على اقتراح أحمد باشا وهو أن يعود وحده بدون الشريف إلى الحجاز على أن يخضع العسيريين خلال ثلاثة أشهر ويفرض النظام والقانون وفي غضون ذلك يبقى الشريف في القاهرة ضيفاً على محمد علي. وفشل أحمد باشا في مهمته أو أنه لم يحققها بشكل حاسم. ومهما كان الأمر فقد انتهى التهديد الوهابي من نجد منذ فترة كما أن الأوضاع استقرت في الحجاز وعادت سيطرة الباب العالي على الجزيرة العربية ولذلك رغب محمد علي بإعادة قواته. وفي عام 1840 أرسل الشريف محمد ابن عون إلى الحجاز وقد تعهد الشريف بإعادة كافة القوات المصرية إلى مصر. ووفى بوعده وبذلك أثبت حقه في الحكم والسيطرة.

    (1) اسمه في السابق وادي المر.

    (2) (ملاحظات على البدو والوهابيين) – بيركهارت.

    (3) ذكرنا سابق أن المؤلف يخلط بين الأتراك وبين المصريين وبين الأرناؤوط وغيرهم ولا شك أن القوات العثمانية بقيادة محمد علي كانت خليطاً من المصريين والليبيين والسوريين والأتراك والأرناؤوط وحتى بعض المماليك والأكراد إلخ.

    (4) عندما وصل طامي إلى القاهرة تم تقييده بكمية كبيرة من السلاسل ووضعت سلاسل أخرى على رقبته. ثم وضع رأس البخروج في كيس وربط الكيس إلى كتف طامي وبعد ذلك حمل طامي وهو على ذلك النحو من المذلة فوق جمل طاف شوارع القاهرة، ثم أرسل مع رأس البخروج إلى الأستانة.

    (5) توفي طوسون باشا في أيلول (سبتمبر) 1816 بالطاعون في مدينة رشيد (روزيتا) حيث كان يخيم مع عدة كتائب من الجند لحماية الساحل المصري. وفي نفس ذلك الصيف أي في حزيران 1816 توفي الشريف غالب وكافة أفراد أسرته بالطاعون أيضاً في مدينة سالونيك اليونانية التي كانت خاضعة آنذاك للعثمانيين.

    (6) لقد تبين بعد ذلك أن الباشا لم يجانب الحقيقة في فرضياته تلك، فقد كانت بريطانيا تفكر باحتلال مصر منذ أوائل القرن التاسع عشر.

    (7) واضح هنا أن المؤلف يخلط بين المصريين وبين الأتراك وبين العثمانيين – المترجم -.

    (Cool س. سنوك هورغرونجي (مكة) المجلد الأول صفحة 159.

    (9) لا شك أن القارئ يلاحظ الاختلاط في التسميات فقد كان المؤلف في الصفحات السابقة يسمي القوات المرافقة لمحمد علي في الحجاز (الأتراك) وها هو الآن يسميهم: المصريون.



    أنتهى الفصل الرابع عشر
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty الفصل الخامس عشر

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي السبت 30 مايو - 21:53

    الفصل الخامس عشر: محمد ابن عون ومنافسه عبد المطلب ابن غالب (من ذوي زيد) 1840 – 1881

    فضلاً عن احتمالات إعادة تجمع الوهابيين في نجد، كان يتعين على الشريف غالب أن يناضل حتى يبعد عن الحجاز آثار ومخاطر الحرب الدائرة في البحر الأحمر بين القوى الغربية فإذا أرسل إمبراطور غربي عيونه وجواسيسه ومندوبيه إلى الشريف يسارع إمبراطور آخر بإرسال موفد خاص وعدد من الضباط، وهكذا.
    وأخيراً فشلت دبلوماسيته وخذلته قدراته على المناورة والترضية وأصبحت شكوك العثمانيين الذين استطاعوا اختطافه بطريقة انطوت على الاحتيال والخديعة ونفوه إلى الأستانة على مرأى من مواطنيه الذين لا يملكون حولاً ولا طولاً حيث كان القادة العثمانيون في الحجاز واثقين من قوتهم. وشهد عام 1840 موجات ثورية أسقطت عدة سلالات حاكمة في أوروبا، وفي الجزيرة العربية ضعف الوهابيون كثيراً وخضعوا للسلطان وانزووا في صحاريهم لبعض الوقت. واعتقد الناس أنها مرحلة سلام وأمن وازدهار التجارة وعودة قوافل الحجاج كما كانت في الماضي، وبدأت الأرباح تتدفق على الجميع في عودة التقاليد القديمة.. ونسي الناس الوهابيين، وتقلص عدد رجال السلطة العثمانية في الحجاز. وكانت السلطة العثمانية تفرض سيطرتها على الجزيرة العربية بواسطة باشا وسرية من حراسه الشخصيين فضلاً عن المفارز العسكرية النظامية التي اعتادت على مرافقة الحجيجين المصري والشامي.
    وفي عام 1835 عين يعقوب يوسف من جدة نائباً للقنصل البريطاني فيها، ومر الحادث دون أن يثير انتباه المسلمين تعصباً. كما أن أحداً لم يعترض على قبول السيد (أوغيليفي) كنائب للقنصل في جدة في الرابع من آب (أغسطس) 1838 واعتبر الناس الأمر مجرد وسيلة لتسهيل المبادلات التجارية… فلم يكن أحد في تلك الأيام التي نعم الناس فيها بالسلام حتى وسط شهر آب الحار جداً ليفكر بأهمية ذلك الحدث الذي كان بداية دخول الأوربيين إلى الجزيرة العربية.
    ففي أقل من مائة عام تفجرت الثورة الصناعية في أوروبا واستطاع الإنكليز وغيرهم من الشعوب الأوروبية استغلال مواردهم ومن ثم الانطلاق إلى أقطار العالم القديم لاستغلال مصادره الدفينة. وفي الجزيرة العربية استطاع الأنكلوساكسون (بريطانيا وأمريكا) استخراج وتكرير النفط فسيروا بواسطته الماكينات والسيارات وحلقوا في المساء (يعني الطائرات) وعلى نحو أسرع وأكثر سهولة من أي مطية سواء كانت حصاناً أو جملاً.
    في البداية لم يتوقع أي حجازي الآثار المترتبة على تعيين القناصل الأجانب في جدة وبالتالي لم يكن ثمة شكوى أو تذمر.
    كان الشريف يدرك أن السلطان في الأستانة يحتفظ بعبد المطلب ابن غالب (ابن الشريف السابق) كضيف لديه وإن كان في الواقع بمثابة الأسير. وكان يدرك كذلك أن العثمانيين قد يناورون ويقررون عزله إذا قصر في ولائه وإخلاصه للباب العالي. وعبد المطلب هو مرشح الفرع المنافس (ذوي زيد) فإذا دعم بنو زيد (أو ذوو زيد) قريبهم عبد المطلب في مكة فيمكن إجراء التغيير بسهولة وذلك بفرمان سلطاني. لكن الشريف محمد ابن عون ورغم إدراكه لهذه الحقائق كان يتمتع بدعم القوة العظمى في الحجاز، المتمثلة في والي مصر وإن كان والي مصر أقل قيمة وشأناً من السلطان العثماني.
    وفي عام 1844 بدأت أسهم الشريف في الانخفاض لدى عثمان باشا ممثل السلطان رغم دبلوماسية الشريف. كان عثمان باشا يدير مسجد المدينة (المنورة) ولا شك أن خبرته الطويلة نسبياً في الحجاز تضفي على آرائه أهمية إضافية في الأستانة. وكان السبب المباشر لفتور العلاقات بين الشريف وبين عثمان باشا المشاكل التي حدثت في منطقة قبيلة حرب. ذلك أن أحد شيوخ تلك القبيلة ويدعى (ابن رومي) أعلن العصيان لأن الباشا لم يدفع له مباشرة المبلغ الذي اعتاد أن يتسلمه سنوياً مقابل مرور قوافل الحجيج بسلام في منطقته. وأعرب عن استيائه بأن هاجم الحامية التركية الصغيرة في ميناء رابغ الذي يعتبر ميناء المدينة (المنورة) واستسلمت الحامية مقابل أن يواصلها ابن الرومي وقواته إلى خارج منطقته بسلام.
    أرسل الباشا يستدعي ابن رومي للتفاوض معه بعد أن أعطاه الأمان، فحضر الشيخ ابن رومي ووافق أن يقوم بحماية قلعة كانت بمثابة محطة إمدادات على الطريق بين المدينة وميناء رابغ، وذلك مقابل معونة سنوية. وبعد بضعة أيام أرسل الباشا أحد ضباطه المدعو (عثمان الكردي) مع مفرزة من الفرسان للقيام بمهمة حراسة القلعة بدلاً من جنود ابن رومي، وحال وصول عثمان الكردي أرسل يدعوه على وليمة… وبعد الغداء قام مهرج مصري وأخذ في إضحاك الضيوف البدو وفي مقدمتهم شيخهم (ابن رومي) وفي أثناء قيام المهرج بحركاته المضحكة استأذن عثمان الكردي بمغادرة الخيمة لشأن من شؤونه وأصدر أوامره إلى جنوده بإلقاء القبض على الضيوف أحياء أو أمواتاً. فما كان من جنوده إلا أن قطعوا حبال الخيمة وأمسكوا بالضيوف كما يمسك الصياد السمك في الشباك، ثم أعملوا السيوف فيهم وكان بين الضيوف مراهق في الثانية عشرة من عمره وهو شقيق ابن رومي فاختبأ تحت مائدة لكنه عندما قفز محاولاً الفرار أمسكه جنود عثمان الكردي وقطعوا رأسه كالآخرين. وأمسك الكردي كذلك بطفل في السابعة من عمره وهو ابن الشيخ (ابن رومي) فاحتفظ به ولم يقتله. وبلغ عدد قتلى قبيلة حرب في تلك الخدعة المدبرة (25) قتيلاً. منهم خمسة شيوخ وقد أرسل عثمان الكردي رؤوسهم إلى مكة حيث رفعت على الرماح بعد أن قطعت آذانهم وأنوفهم وصنعت منها قلادة لتزيين رقبة الجمل الذي حمل بشرى النصر إلى مكة.
    ولأن العلاقات بين الشريف ابن عون وقبيلة حرب تميزت بالثقة والاحترام المتبادل فقد كانت تلك الخديعة الغادرة من الأتراك بمثابة ضربة لكبريائه ومركزه ولسياسته الهادفة إلى تعزيز علاقاته معها ومع شيوخها. ولم تسفر حادثة الغدر تلك عن خنوع ورضوخ القبيلة كما توقع الأتراك بل على العكس أصبحت من أشد خصومهم. ففي العقود التالية تعرضت قوافل الحجيج الشامي التي يسافر فيها الحجاج الأتراك إلى عدة هجمات وما كان رجال قبيلة حرب ليسمحوا للقافلة بالمرور إلا بعد أن تدفع إتاوات ضخمة. وفي خمسينيات وستينيات القرن التاسع عشر تعرض الأتراك لهجمات وكمائن كثيرة في مناطق حرب وفي ميناء رابغ. وفي عام 1861 اضطر الأتراك لزيادة الإتاوة التي يدفعونا إلى الضعف. وهكذا تصاعدت مشاعر البغض والكراهية والعداء بين رجال قبيلة حرب وبين الأتراك، وذلك كله بسبب مقتل ابن رومي. وكان من شأن هذا العداء وافتقاد الثقة بين القبائل العربية وبين الأتراك نتيجة غدرهم غير مرة أن ساعد أحفاد محمد ابن عون في حشد القبائل العربية ضد العثمانيين في الثورة العربية الكبرى.
    وباستثناء ذلك الحادث الذي ذهب ضحيته الشيخ ابن رومي فقد حقق الشريف نجاحات كثيرة، إذ أنه قاد قواته في القصيم واتجه نحو الواحة التي بنيت فيها (الرياض) عاصمة الوهابيين الجديدة بعد أن دمر المصريون عاصمتهم الأولى (الدرعية) وألحق الهزيمة بقوات فيصل ابن سعود الأمير الوهابي الجديد الذي كان يعزز مركزه وسمح له باحتلال الرياض شريطة أن يواصل مضايقته للوهابيين. واعتماداً على دعم وتأييد الشريف، وبحجة إدارة شؤون القصيم، عزّز الشيخ الشمري مركزه واستقلاله وأصبح مؤسس إمارة جبل شمر وعاصمتها (حائل) اشتهرت بعد ذلك في أوروبا بأصالة خيولها.
    وفي غضون ذلك قرر الأتراك إخضاع اليمن والقبائل الجنوبية، ولهذه الغاية وصل أشرف بك إلى جدة عام 1842 بصفته مفوضاً في طريقه إلى اليمن لإعادة تنظيم الإدارة هناك. وفي العام التالي تلقى حسين حاكم (المُخا) فرماً سلطانياً بمنحه لقب باشا على أن يكون نائباً لشريف مكة. لكن إمام صنعاء هاجم المخا عام 1848 وهزم الشريف حسين. فقرر الباب العالي إرسال حملة عسكرية عن طريق جدة على أن يرافقها الشريف محمد ابن عون الذي تعهد بأن يستعمل نفوذه لتحييد قبائل عسير التي لا بد للحملة من اجتياز أراضيهم في طريقها إلى اليمن…. ووصلت الحملة بنجاح إلى الحديدة حيث اضطر إمام صنعاء للحضور وتوقيع اتفاقية مع قائد الحملة والشريف ابن عون تعهد بمقتضاها عام 1849 بالسماح لحامية تركية بالإقامة في صنعاء وأن يدفع نسبة من وارداته إلى الباب العالي. وهكذا دخل إلى صنعاء معاً كل من قائد الحملة توفيق باشا والشريف محمد ابن عون والإمام. وفي صلاة الجمعة ظهيرة اليوم التالي ألقيت الخطبة باسم السلطان العثماني بدل الإمام، غير أن جندياً تركياً تشاجر مع يمني في السوق فأطلق التركي النار على اليمني وقتله على الفور، مما أدى إلى ثورة مشاعر اليمنيين فحملوا السلاح وهاجموا الأتراك وقتلوا عدداً كبيراً منهم وجرح توفيق باشا نفسه ولذلك عزل الإمام وعين إماماً غيره واتفق معه على أن يحمي انسحابه وما تبقى من قواته مقابل مبلغ محترم(1). وهكذا تعززت سمعة الشريف ومكانته بعكس الأتراك بعد ذلك الحادث. وكان العسيريون ما زالوا يحترمون تحالفهم معه ولم يكن الأتراك بدونه قادرين على الوصول إلى اليمن أو العودة منه. وكما سبق أن ذكرنا فقد حقق الشريف نجاحاً في نجد واكتسب هناك حلفاً جديداً وهو أمير شمر، أما إذا تأثر نفوذه سلباً في أوساط قبيلة حرب فيعود السبب في ذلك إلى الأتراك أنفسهم لكنه كان على أي حال قادراً على استعادة نفوذه في أوساط تلك القبيلة العصية على الإخضاع (حرب) ولعل الأهم من ذلك كله أن علاقاته كانت وطيدة وراسخة مع والي مصر عباس باشا.
    ورغم هذا النفوذ وربما بسببه ونتيجة الأقاويل والشائعات التي كان يطلقها عبد المطلب ابن غالب في البلاط السلطاني في الأستانة، تلقى الباشا التركي في جدة تعليمات حازمة من الباب العالي في شهر آب (أغسطس) 1852 بإرسال الشريف محمد ابن عون وولديه الأكبرين إلى الأستانة. وهكذا تمّ إغراء الولدين الكبيرين للشريف بزيارة جدة لمشاهدة تجهيزات عسكرية جديدة. فانطلقا إلى جدة لهذه الغاية. وفي نفس اليوم أحاط رجال الباشا بقصر الشريف ونصبوا المدافع… وكان باستطاعة الشريف خلال ساعة واحدة حشد القبائل والأنصار والحراس، ولم يدر بخلده أن يلجأ الأتراك إلى وسائل تنطوي على الاحتيال والغدر على ذلك النحو…. وبعد أن شاهد المدافع مصوبة على قصره اضطر للاستسلام، وتمّ تعيين الشريف منصور ابن يحيى خلفاً مؤقتاً إلى حين وصول عبد المطلب ابن غالب من ذوي زيد من البلاط السلطاني.
    وصل الشريف الجديد عبد المطلب إلى جدة ووجد بانتظاره الحاكم المؤقت (منصوراً) من جهة والشريف عبد الله ابن ناصر الذي اختاره مساعداً له من جهة أخرى. وكان هذان الشريفان قد غادرا مكة إلى جدة تخلصاً من مسؤولية معالجة المشاكل التي تسبب فيها الأتراك بإصرارهم على رفض قانون حظر الرق والعبودية…. وحدثت أعمال شغب في شوارع مكة لدرجة أن الأتراك لم يعودوا قادرين على التحرك بأمان في أي بلدة من الحجاز. وكان الباشا التركي الدائم الشكوى والتذمر من جهة بينما تزداد مطالب الحجازيين من جهة أخرى. وكان كل من السير ريتشارد بيرثون والسير ديدييه وسنوك هورغرونجي قد شاهدوا الشريف عبد المطلب واتفقوا على أنه شديد السمرة إلى حد السواد. ويصفه السيد ديدييه على النحو التالي: "رجل وقور في الستين من عمره طويل نحيف متميز في سلوكه وتصرفاته بصفته من الأشراف ولونه أسمر داكن لدرجة السواد لكن بشرته رقيقة، يرتدي قفطاناً أزرق ويعتمر عمامة كشميرية في وسطه خنجر مطعم بالذهب".
    ويضيف ديدييه بأن سلوك الشريف عبد المطلب سلوك متمدن ولا عجب في ذلك لأنه عاش (25) عاماً في البلاط السلطاني. ومهما كان الأمر فقد تراكمت الأحداث والمشاكل قبل أن يتمكن من التكيف والانسجام مع الشعب الذي غاب عنه فترة طويلة. وعندما حاول اتخاذ إجراءات لفرض الأمن والنظام ظن الأتراك أنه ينوي القيام بعمل عسكري ضدهم. وذات يوم رشق أحد الحجازيين رأس الباشا التركي بحجر وولى هارباً. ولم يكن الباشا يتوقع أية مساعدة أو دعم من العاهلية لانشغالها آنذاك في حرب القرم. ووردت الأوامر من الباب العالي بعودة الباشا إلى الأستانة وفي نفس الوقت انتشرت الشائعات بأن الباشا قبل مغادرته سيعزل عبد المطلب وعندما سمع الشريف بذلك امتطى حصانه وتوجه مع حراسه إلى قصره الصيفي في الطائف. وانتشرت الفوضى في مكة، وتوقف الدعاء للسلطان من على المنابر. واضطر الأتراك لشن هجوم على الطائف لكنهم فشلوا. ووسط كل هذه المتاعب والمشاكل المتصاعدة التي لم يكن للشريف عبد المطلب يد فيها أعلن السلطان عزل عبد المطلب وإعادة تعيين الشريف محمد ابن عون الذي وصل إلى الحجاز في السابع عشر من نيسان (إبريل) 1856 وبعد بضعة أيام اعتقل عبد المطلب وتمّ إرساله إلى سالونيك التي سبق أن توفي فيها والده الشريف غالب بالطاعون. والذي حدث أن عبد المطلب لم يشأ المقاومة حفاظاً على أرواح أنصاره وقد استسلم قرب البحرة على الطريق من مكة إلى جدة بعد مناوشات بسيطة.
    في عام 1851 تعرض القنصل الفرنسي (فريسنيل) في جدة لاعتداء ولم تتمكن السلطات من تحديد هوية الجاني. وفي آذار من نفس العام أرسل الفرنسيون السفينة الحربية (ايريديس) إلى جدة بقيادة القبطان (دي فيسيو غويرن) الذي نزل إلى الميناء وقابل المسؤولين وطالب بالتعويض. لكنه لم ينجح في ذلك سواء ذلك العام أو الذي تلاه عندما زار الميناء مرة ثانية. وفي عام 1853 وصل الأميرال الفرنسي (لاغوير) على متن الطراد (جان دارك) ترافقه السفينة الحربية (كيمان) وتكررت هذه الزيارات البحرية بعد ذلك لكنها لم تجد في تحصيل التعويض وذلك لاضطراب الأوضاع في مكة كما كان الشأن في عهد عبد المطلب ابن غالب. ولا شك أن محمد ابن عون كان مشغولاً في استعادة النظام والأمن.
    وفي آذار 1858 توفي الشريف محمد ابن عون بعد أن ناهز التسعين من عمره وخلفه ابنه عبد الله الذي كان يقيم آنذاك في البلاط الهمايوني (السلطاني) كعضو في مجلس الدولة. ويقول سنوك هورغرونجي أن الشريف عبد الله (رجل مثقف وبالغ الذكاء يثير إعجاب الأجانب كإعجاب الأتراك وينطوي سلوكه على نبل الأصل والنسب)(2).
    وقبل أن يصل إلى الحجاز وقعت حادثة كان من شأنها تأخير المراسم والشعائر الاحتفالية بدخوله إلى مكة حتى الخريف. فقد وصلت أخبار من طراز آخر إلى جدة وهي أن شركة سفن بخارية قد تشكلت لشحن البضائع ونقل المسافرين في البحر الأحمر. ومن الطبيعي أن تؤثر هكذا شركة على السفن الشراعية العربية وأصحابها وملاحيها. وكان معظم الملاحين العرب من حضرموت أو اليمن. يكرهون بطبعهم الأجانب وآلاتهم وماكيناتهم.
    أن التّجار العرب أو غير العرب يعتزون عادة بمهنتهم ويحبون البحار ويخاطرون بأرواحهم وأرواح الركاب الآخرين وسط تقلبات البحر وأعاصيره وغالباً ما تكون سفنهم من الأخشاب المثبتة إلى بعضها بطرق أقرب إلى البدائية. وبالتالي فإن نظرة البحارة إلى الموت تختلف عن نظرة الناس الذين اعتادوا الحياة على اليابسة ولم يركبوا البحر في حياتهم. وقد سمع البحارة العرب في دواوين ومقاهي جدة المزيد من الأخبار المزعجة عن شركة السفن البخارية المقترحة التي ستقضي على مصدر أرزاقهم في حالة تشكيلها…. كان البحارة يعودون إلى الشاطئ لإصلاح وصيانة أشرعتهم وسفنهم ويتبادلون الحديث وهم يدركون في أعماقهم أنهم أصبحوا معرضين للبطالة، ولم يقتصر الاستياء على البحارة بل إنه شمل التجار والمسلمين المتعصبين بعد أن لاحظوا تغلغل الأجانب في جدة. فبالإضافة إلى القنصل البريطاني كان ثمة قنصل فرنسي وكان الأجانب بملابسهم الأوروبية يذرعون شوارع جدة بشيء من الغطرسة ويخططون لتغيير بنية الاقتصاد الحجازي حتى دون استشارة الحجازيين.
    وفي الخامس عشر من حزيران 1858 أصدرت محكمة بريطانية قنصلية في جدة قراراً بإنزال العلم العثماني عن سفينة شراعية اسمها (إيراني) يملكها مواطنان بريطانيان، ورفع العلم البريطاني على ساريتها بدل العلم العثماني الأحمر الذي يتوسطه هلال وثلاث نجوم. وقام بحارة الفرقاطة البريطانية البخارية (سايكلوبس) بتنفيذ القرار حيث كانت سفينة (إيراني) راسية قرب ميناء جدة، وشاهد المواطنون عملية إنزال العلم العثماني ورفع العلم البريطاني فثارت ثائرتهم دون أن يدركوا أن تلك العملية كانت نتيجة قرار قضائي لي الهدف منه الإساءة إلى العلم العثماني.
    في نفس ذلك المساء وحوالي الساعة السادسة قام مجهولون بمهاجمة السيد (بيج) نائب القنصل البريطاني وقتلوه وسلبوا كافة محتويات منزله… ثم توجه عدد آخر من المواطنين إلى القنصلية الفرنسية. لكن القنصل (أيميرات) استطاع أن يمنعهم من الدخول. وتم إبلاغ العقيد التركي المسؤول عن الحامية، بما حدث، لكنه رفض أن يرسل أي واحد من جنوده الذين يزيد عددهم على المائة جندي إلا إذا تلقى تعليمات بذلك من رئيسه (نامق باشا) الذي يقيم في مكة على بعد خمسين ميلاً إلى الشرق.
    وفي أثناء الاشتباك جرح القوّاص وهو رئيس الحمالين في القنصلية(3) كما جرح السيد أيميرات جرحاً بليغاً غير أن حاجاً جزائرياً يدعى الحاج محمد أنقذه وحمله بعيداً عن الاشتباك. وتمكن الثائرون الغاضبون من اقتحام البيت وأطلقوا النار على المدام (السيدة) ايفيلار زوجة القنصل، بينما تعرضت ابنتها لطعنة خنجر وهي تدافع عن والدها السيد ايفيلار الذي قتل بعد ذلك. وتمكنت زوجة أحد الجنود من إنقاذ السيدة ايفيلار وكانت تلك المرأة العربية قد تعرفت عليها قبل بضعة أشهر. وامتد نطاق العنف وانطلق الغاضبون إلى الشوارع يبحثون عن المسيحيين الأجانب في جدة ويقتلونهم فوراً. وأسفرت أعمال العنف في ذلك اليوم عن مقتل (14) أجنبياً ونهب بيوتهم وإحراقها، بينما استطاع عدد منهم السباحة والصعود إلى ظهر الفرقاطة البريطانية سايكلوبس.
    في أثناء دفن القتلى في اليوم التالي دهش المسلمون لأنهم لم يجدوا جثة السيد ايميرات بينهم، وكان الحكم بالموت قد صدر عليه في اليوم السابق لأنه قتل مسلمين في أثناء الاشتباك في القنصلية، فانطلق الجديون (نسبة إلى جدة) الغاضبون يبحثون عنه. وبعد ثلاثة أيام دخل نامق باشا على رأس قواته إلى جدة.
    avatar
    الشريف مجدي الصفتي

    المدير العام


    المدير العام


    علم الدولة : مصر
    عدد الرسائل : 2853
    البلد : مصر - الأسكندرية
    الهوايات : القراءة والبحث
    تقييم القراء : 42
    النشاط : 10125
    تاريخ التسجيل : 11/07/2008

    كتاب تاريخ مكة المكرمة وحكامها Empty تابع - الفصل الخامس عسر

    مُساهمة من طرف الشريف مجدي الصفتي السبت 30 مايو - 21:55

    في الأستانة تعهد وزير الخارجية العثماني للسفرين البريطاني والفرنسي بأن التحقيق سيجري فوراً لمعرفة تفاصيل ما حدث وأن السلطان أصدر أوامره إلى نامق باشا للتحقيق في الجرائم التي ارتكبت واعتقال المجرمين وإعدامهم ومصادرة ممتلكاتهم للتعويض على المتضررين. وتم الاتفاق بعد ذلك أن ترسل الحكومات الثلاث العثمانية والبريطانية والفرنسية ممثلين عنها إلى جدة للإشراف على تنفيذ أوامر السلطان. وهكذا أبحرت السفينة الفرنسية (دو شايلا) من ميناء مرسيليا إلى جدة لدعم مهمة المفوضين ووكيل الحكومة العثمانية. لكن الفرقاطة البريطانية (سايكلوبس) وصلت قبلها وطالب قبطانها فوراً بإعدام زعماء الجماعات التي اعتدت على القنصليتين وعلى الأجانب. ورد عليه نامق باشا أن المتهمين قيد الاعتقال بانتظار موافقة السلطان على إعدامهم، غير أن قبطان الفرقاطة لم يشأ الانتظار وبدأ يقصف ميناء جدة، وفي اليوم التالي وصل المفوض العثماني من الأستانة يحمل أمراً سلطانياً بإعدام المتهمين، فتوقف القصف حيث امتطى عدد من البحارة الإنكليز زورقاً صغيراً من الفرقاطة ونزلوا في جدة. وفي فجر اليوم التالي وهو الخامس من آب (أغسطس) تم إعدام (11) شخصاً بقطع الرأس من قبل جلادين محليين في نفس الساحة التي اجتمعوا فيها وتآمروا على مهاجمة القناصل والأجانب.
    أما مسألة التعويضات فقد عولجت بعد وصول المفوضين واستمر النظر فيها حتى نهاية العام. وكان التحقيق في الجرائم قد بدأ وفقاً للحظة التي وضعها السير (ايميرات) القنصل الفرنسي الذي أنقذه وأخفاه عن العيون الحاج محمد الجزائري. ودعا نامق باشا كافة كبار المسؤولين والوجهاء إلى وليمة غداء، وبعد الوليمة أعلن أنهم ضيوفه الدائمون وأبلغهم باعتقال كل من قائد الشرطة السابق وزعيم الحضرميين (أو الحضارمة نسبة إلى حضرموت) والقائمقام وأن أولئك الثلاثة هم السبب في أعمال العنف التي ذهب ضحيتها عدد من الأجانب. ثم تلا عليهم قرار السلطان بإعدامهم وقد قطعت رؤوسهم في اليوم التالي(4). ولم يتم الاعتراف رسمياً بالقناصل الأجانب في جدة إلا بعد تلك المذبحة حيث عينت لهم أماكن إقامة خاصة. ومع ذلك فقد تحدث القنصل البريطاني السيد (ج. ستانلي) في تقريره المؤرخ في 26 من نيسان (إبريل) 1862 عن الصعوبات التي يواجهها في الاحتفاظ بمركزه والتأكيد على المهمات والوظائف التي يقتضيها مركزه كقنصل، ذلك أن الحاكم العثماني في الحجاز (يرفض أن يكون للقنصل البريطاني أي حق على الرعايا البريطانيين (المسلمين) في مكة أو على ممتلكاتهم في حالة وفاتهم) إذ أن هذه المهمات تذهب إلى بيت المال. ويضيف ستانلي في تقريره المذكور: "أن بيت المال يرادف كل شيء حقير وشرير"(5) ولذلك يقترح ستانلي تعيين قنصل مسلم في المدن المقدسة.
    في عام 1861 انطلقت قوة عثمانية(6) من الحديدة لاحتلال جيزان حيث كان العسيريون متمردين على السلطة العثمانية منذ فترة. غير أن سفن الحملة غرقت وتوفي معظم أفراد القوة. وقرر الوالي في مصر إرسال تعزيزات كافية لاحتلال جيزان وبلدة العريش والبلدات المجاورة في عسير وعلى نحو دائم. لكن احتلال هذه البلدات لم ينجز فعلاً عام 1869 عندما قرر شريف مكة إنجاز ما لم يستطع الأتراك (يعني العثمانيين) إنجازه. وهكذا تجمعت قوات الحملة في قنفذة، ورافقت القوات البرية سفينتين بريطانيتين تحملان الإمدادات و (850) جندياً مصرياً. ولا شك أن الفضل يعود لمهارة الشريف في مناوراته العسكرية من جهة ودبلوماسيته من جهة أخرى، فقد وافق العسيريون بعد اشتباكات بسيطة على إخلاء جيزان والعريش ودفع إتاوة سنوية إلى الباب العالي شريطة أن يمنح زعيمهم لق "أمير الأمراء"(7).
    ومع ذلك فقد انخفضت أهمية مركز الشريف على نحو غير مسبوق في القرون السالفة. ذلك أن افتتاح قناة السويس التي ربطت الأستانة بالحجاز بواسطة طريق بحري مباشر غيرت وبدلت في طبيعة العلاقات السياسية سواء بين الشرق والغرب أو بين السلطان والشريف. ففي الماضي كانت القوات العسكرية التي تنطلق من تركيا تكابد مشقات جمة في الطرق الصحراوية ولا تصل في معظم الأحيان إلا بعد انتهاء الحادث الذي استدعى إرسالها، هذا فضلاً عن سقوط الكثير من الجنود إعياء في تلك المسالك الوعرة أو المتاهات الصحراوية الشحيحة بالماء وكل شيء حي. ومنذ عام 1870 أصبح بالإمكان إرسال القوات العسكرية بحراً وبسرعة فضلاً عن إرسال الإمدادات والتعزيزات دون صعوبة تذكر وبسرعة قياسية مقارنة بالماضي وذلك بعد شق وافتتاح قناة السويس. ولذلك استطاع العثمانيون عام 1872 إرسال حملة بحرية وإعادة احتلال اليمن بدون أي مساعدة تذكر من شريف مكة.
    في ذلك الوقت أي منذ 1871 وما بعده كفّت بريطانيا عن تعيين قنصل بريطاني في جدة. وأصبحت تعين قنصلاً بدون راتب. وفي عام 1873 عينت قنصلاً بدون راتب في جدة يرتبط مباشرة بالوكيل (أو المعتمد) البريطاني في القاهرة. وكانت التعليمات الموجهة إليه أن يركز على كتابة التقارير عن تجارة العبيد. وتظهر تقاريره أن تجارة العبيد كانت ما تزال مزدهرة. ويقول في أحد تقاريره عام 1875 أن مئات العبيد كانوا يعبرون في ميناء جدة في وضح النهار وأن الضريبة على الواحد منهم (أو منهن) هي عشرة قروش. وفي العشرين من حزيران على سبيل المثال يقول في تقريره: "لقد شاهدت وأحصيت (96) عبداً وعبدة من الأولاد والبنات عراة تماماً وقادهم النخاسون عبر البوابة إلى داخل المدينة وكأنهم قطيع من الماشية".
    واضطر الشريف عام 1869 للقبول بالأنظمة البلدية وبذلك تقلصت صلاحياته يوماً بعد آخر. وفي عام 1880 تعرض شقيقه وخليفته حسين (الليبرالي الرقيق) للاغتيال في جدّة. وتمّ إلقاء القبض على القاتل ورفض تبرير جريمته أو تفسير الحافز الذي دفعه لتلك الجريمة حتى ساعة إعدامه. وكان دوتي قد قابل حسين في الطائف ويصفه لنا على النحو التالي:
    "وسيم التقاطيع هادئ الملامح تشع عيناه ذكاء وفطنة ويتحدث بصوت لطيف وهو طويل القامة واسع الصدر قوي البنية أسمر اللون، وسبق للشريف حسين أن زار عدة مدن عثمانية ويرتدي جبة صوفية زرقاء واسعة الأكمام. كان جالساً في صدر ديوانه يدخن الغليون عندما دخلت عليه… وأسلوبه في تدخين الغليون لا يختلف عن أسلوب الأتراك الطاعنين في السن فساق الغليون طويل يبلغ طول الرمح وقد هش في وجهي واستقبلني بترحيب"(Cool.
    هذا الرجل اللطيف الشريف حسين تعرض للاغتيال في جدة بعد سنتين من مقابلة دوتي معه. وقد حاول الطبيب (وور تابيت) وهو الطبيب البريطاني المقيم لشؤون الصحة في البحر الأحمر، إنقاذه لكنه فشل وتوفي الشريف حسين بين ذراعيه وهو يحاول تضميد جراحه(9).
    وكان حرس الشريف في تلك الفترة يتألف من البيشة والبواردية. ويقول دوتي: إن البيشة يقفون على درج القصر "وقد حيونا باحترام عندما مررنا أمامهم" وكان كلا النوعين من الحراس أو الجنود يعتبرون حرساً شخصياً للشريف ويعيشون في القصر أو قريباً منه رغم أن البواردية كانوا يضطلعون أحياناً بمهمات أمنية داخل مكة. أما سبب تسمية البيشة بذلك فهو أنهم من منطقة البيشة. وكان بواردية الشريف والجنود الأتراك يسوقون المتهمين بجرائم إلى نفس السجن. وكان الوالي أو القضاة الأتراك هم الذين يحاكمون الأتراك بينما يقوم الشريف بمحاكمة رعاياه من العرب إلا إذا كانت القضية من اختصاص المحاكم الشرعية. أما التقليد غير المكتوب في أن الشريف هو الذي يحاكم الشرفاء والبدو والمكيين بالولادة فقد ظل العمل به جارياً طالما أن الظروف والشروط الشخصية تسمح بذلك. وهذا يعني وجود حالات استثنائية كثيرة. ومع ذلك كان جنود الشريف وجنود الوالي (أو السنجق) يستعملون نفس السجن. ويقول سنوك هورغرونجي(10) أنه عرف وشاهد بنفسه حالات عجيبة ومن ذلك أن الشريف أصدر أمراً بسجن رجل لكن الوالي أطلق سراحه، وأن هذه الحادثة تكررت. وربما يعتقل الوالي شخصاً ويطالب هذا الشخص بأن يحاكمه الشريف وليس الوالي أو القضاة الأتراك. كما أن حكام الوالي والشريف كانت تتبدل وتتغير وفقاً للحالات الشخصية وليس بناء على قواعد وقوانين ثابتة. واستطاع بعض الولاة الأقوياء الحصول على حق الإشراف على أعمال وتصرفات البواردية بالإضافة إلى إشرافهم العادي على جنودهم.
    كان الشريف الجديد الذي خلف الشريف حسيناً من ذوي زيد وهو عبد المطلب الذي سبق أن حكم مرتين وقد حضر من الأستانة حيث كان يقيم منفياً في البلاط الهمايوني (السلطاني) وقد رحب به الحجازيون كثيراً وكان قد تقدم في العمر واكتسب خبرات واسعة سواء بسبب إقامته في الأستانة في البلاط الهمايوني أو بسبب حكمه فترتين في السابق. وكان من شأن حدّته وصراحته (إذ أنه أعرب علناً عن احتقاره للتجار الحضارمة الأثرياء وأولئك المواطنين الذين يصادقون الأجانب ويوطدون علاقاتهم معهم أكثر مما ينبغي) أن زاد إعجاب واحترام الحجازيين له.
    كان الحجازيون ينظرون إلى قراراته وممارساته نظرة احترام ويفسرونها تفاسير مختلفة. ومن ذلك أنه أمر باعتقال ثلاثة وجهاء في منتصف الليل لا لسبب إلا لأنه يشكك في ولائهم له، ثم أمر بإثارة المشاعل وجلدهم أمام الناس حتى توفي اثنان منهم تحت الجلد، ولأن الوالي لم يتدخل في ذلك اعتقد الحجازيون أن الشريف الجديد عبد المطلب يتمتع بصلاحيات أكثر من الأشراف الذين سبقوه(11). وكان أحد أشراف العبادلة قد بنى قصراً مقابل بيوت عبد المطلب الذي أمر بهدم ذلك القصر وتم هدم القصر بالفعل لكنه لم يعوض الشريف العبدلي (من فرع أشراف العبادلة) سوى جزء من كلفة بناء القصر. وعندما حاول بعض البدو الاحتجاج لدى الوالي على معاملة الشريف السيئة لهم أمر حراسه بمهاجمتهم حيث قتلوا عدداً من أولئك البدو. فزاد احترامه بين الحجازيين. وألغى الشريف عبد المطلب معظم الرخص التي أصدرها أسلافه ثم باعها لآخرين.
    كان يعامل الأغنياء بقسوة أكثر من الفقراء واستخدم الكثير من السوريين والمسلمين الأجانب في إدارته. لكن معظم الأشراف والتجار المتنفذين والوجهاء في مكة بدأوا يمتعضون من طريقته في الحكم ويكتبون بهذا الصدد للوالي.
    وفي تشرين الثاني 1881 وصل قائد جديد أكثر نشاطاً وهو (عثمان نوري باشا) مع قوات جديدة. وحتى لا يثير شكوك الشريف فقد أعيد تعيين الوالي السابق عزت باشا والياً على الحجاز. وتلقى الوالي الجديد تعليمات من الأستانة باعتقال الشريف الطاعن في العمر (عبد المطلب) ومنعه من الفرار إلى القبائل البدوية أو الطائف لأن الكثير من الحجازيين يحترمونه وربما يدافعون عنه بقوة السلاح. وهكذا أمر الوالي الجديد بتطويق قصر الشريف الصيفي في المثناه الطائف ونصب المدافع على التلال المجاورة وفوهاتها نحو القصر. وعند الفجر قرأ الوالي له الفرمان الذي يتضمن عزله ثم نقله إلى الطائف ومن هناك توجه إلى منزله في (منى) حيث سمح له بالعيش هناك حتى وافاه الأجل في التاسع والعشرين من كانون الأول (يناير) 1886.
    ظل الحجازيون البسطاء يكنون له الولاء والاحترام حتى وفاته، لكنه كان يعترف أحياناً في مجالسه الخاصة بأن التلغراف والسفن البخارية والأسلحة الجديدة الفتاكة لم تترك له مكاناً في هذا العالم.
    لقد شارك عدد هائل من السكان في جنازته في مكة بل أن عدداً كبيراً من الناس كانوا يتدلون من سقوف المنازل بواسطة الجبال بسبب الحشود الكثيفة المشاركة في الجنازة وهدفهم لمس جثمانه للتبرك به. حتى أن الوالي والشريف الجديد جرفتهم هذه المشاعر الفياضة وإخلاص الحجازيين لشريفهم الحازم والطيب في نفس الوقت عبد المطلب الذي يجسد استقامة وشهامة وفروسية العصور الوسطى رغم تقدمه في العمر… كان يجسد روح وقوة شخصية أشراف من مستوى زيد وقتادة سواء في الهيبة أو الثقة بالنفس أو الشهامة والإقدام… وكانت جنازته في الواقع جنازة تقاليد العصور الوسطى في الجزيرة العربية.

    (1) يحدد المؤلف المبلغ بعشرين ألف (تالر) والتالر حسب دائرة معارف كاكستون (عملة ألمانية ذهبية قديمة).

    (2) سنوك هورغرونجي (مكة) الجزء الأول صفحة 170.

    (3) يخطئ المؤلف هنا في فهم معاني الكلمات والمصطلحات التركية وحتى العربية إذ أن كلمة (قواص) كانت في العهد العثماني تعني (حارس) وليس رئيس حمالين وكانت كل قنصلية تستخدم قواصاً على نفقتها الخاصة بالتنسيق مع حاكم المنطقة.

    (4) الثورة في جدة 1858 – 1859 (أوراق مكتب الخارجية كانون الأول 1859).

    (5) صورة أخرى عن التحامل.

    (6) يسميها المؤلف (تركية) مع أن القوات العثمانية كانت تتألف من أتراك وعرب وأكراد وقوقازيين وأرناؤوط وبشناق (مسلمون من البوسنة) الخ….

    (7) مكتب السجل العام: أرشيفات السفارات والقنصليات في تركيا. الوثائق أرقام 195 و 956 مؤرخة في 14/ 12/ 1870.

    (Cool س. م. دوتي (الصحراء العربية) المجلد الثاني صفحة 508.

    (9) د. ج. هوغارت (الجزيرة العربية) صفحة 114.

    (10) كتابه (مكة) الصفحة 182.

    (11) المصدر السابق.


    أنتهى الفصل الخامس عشر

      الوقت/التاريخ الآن هو الثلاثاء 7 مايو - 3:37